134.من الذي يوصف بالعالمظ .

من لم يفهم أو لا يستطيع أن يعرف الفرق بين الطلاق2هـ / والطلاق للعدة5هـ لا يستحق ان يقال له عالم بعد نزول سورة الطلاق

 أوسجد وشلاتر

====================================================

Translate فضل

بحث هذه المدونة الإلكترونية

5/09/2025

ج1 وج2 وج3 وج4. الكتاب : أصول السرخسي


ج1 وج2 وج3 وج4. الكتاب : أصول السرخسي
المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسىبسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء في يوم السبت سلخ شوال سنة تسع وسبعين وأربعمائة في زاوية من حصار أوزجند: الحمد لله الحميد المجيد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ذي البطش الشديد، والامر الحميد، والحكم الرشيد، والوعد والوعيد.
نحمده على ما أكرمنا به من ميراث النبوة، ونشكره على ما هدانا إليه بما هو أصل
في الدين والمروة، وهو العلم الذي هو أنفس الاعلاق، وأجل مكتسب في الآفاق.
فهو أعز عند الكريم من الكبريت الاحمر، والزمرد الاخضر، ونثارة الدر والعنبر، ونفيس الياقوت والجوهر، من جمعه فقد جمع العز والشرف، ومن عدمه فقد عدم مجامع الخير واللطف، يقوي الضعيف، ويزيد عز الشريف، يرفع الخامل الحقير، ويمول العائل الفقير، به يطلب رضا الرحمن، وتستفتح أبواب الجنان، وينال العز في الدين والدنيا، والمحمدة في البدء والعقبى، لاجله بعث الله النبيين، وختمهم بسيد المرسلين، وإمام المتقين: محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين.
وبعد فإن من أفضل الامور، وأشرفها عند الجمهور، بعد معرفة أصل الدين، الاقتداء بالائمة المتقدمين، في بذل المجهود لمعرفة الاحكام، فبها يتأتى الفصل بين الحلال والحرام، وقد سمي الله تعالى ذلك في محكم تنزيله الخير الكثير فقال: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) فسر ابن عباس رضي الله عنهما وغيره الحكمة بعلم الفقه، وهو المراد بقوله عزوجل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) أي ببيان الفقه ومحاسن الشريعة، فقال صلى الله عليه وسلم برواية ابن عباس رضي الله عنهما: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وقال عليه السلام: خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا تفقهوا وإلى ذلك دعا الله الصحابة الذين هم

أعلام الدين، وقدوة المتأخرين فقال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما عبد الله بشئ أفضل من الفقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد وقال صلى الله عليه وسلم قليل من الفقه خير من كثير من العمل.
غير أن تمام الفقه لا يكون إلا باجتماع ثلاثة أشياء: العلم بالمشروبات، والاتقان
في معرفة ذلك بالوقوف على النصوص بمعانيها وضبط الاصول بفروعها، ثم العمل بذلك.
فتمام المقصود لا يكون إلا بعد العمل بالعلم، ومن كان حافظا للمشروبات من غير إتقان في المعرفة فهو من جملة الرواة، وبعد الاتقان إذا لم يكن عاملا بما يعلم فهو فقيه من وجه دون وجه، فأما إذا كان عاملا بما يعلم فهو الفقيه المطلق الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هو أشد على الشيطان من ألف عابد وهو صفة المقدمين من أئمتنا: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنهم، ولا يخفى ذلك على من يتأمل في أقوالهم وأحوالهم عن إنصاف.
فذلك الذي دعاني إلى إملاء شرح في الكتب التي صنفها محمد بن الحسن رحمه الله، بآكد إشارة وأسهل عبارة.
ولما انتهى المقصود من ذلك رأيت من الصواب أن أبين للمقتسبين أصول ما بنيت عليها شرح الكتب، ليكون الوقوف على الاصول معينا لهم على فهم ما هو الحقيقة في الفروع، ومرشدا لهم إلى ما وقع الاخلال به في بيان الفروع.
فالاصول معدودة، والحوادث ممدودة، والمجموعات في هذا الباب كثيرة للمتقدمين والمتأخرين، وإنا فيما قصدته بهم من المقتدين، رجاء أن أكون من الاشباه فخير الامور الاتباع، وشرها الابتداع.

وما توفيقي إلا بالله عليه أتكل، وإليه أبتهل، وبه أعتصم، وله أستسلم، وبحوله أعتضد، وإياه أعتمد، فمن اعتصم به فاز بالخيرات سهمه، ولاح في الصعود نجمه.
فأحق ما يبدأ به في البيان الامر والنهى، لان معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الاحكام، ويتميز الحلال من الحرام.
باب الامر قال رضي الله عنه: اعلم أن الامر أحد أقسام الكلام بمنزلة الخبر والاستخبار،
وهو عند أهل اللسان قول المرء لغيره افعل، ولكن الفقهاء قالوا هذه الكلمة إذا خاطب المرء بها من هو مثله أو دونه فهو أمر، وإذا خاطب بها من هو فوقه لا يكون أمرا، لان الامر يتعلق بالمأمور.
فإن كان المخاطب ممن يجوز أن يكون مأمور المخاطب كان أمرا، وإن كان ممن لا يجوز أن يكون مأموره لا يكون أمرا، كقول الداعي: اللهم اغفر لي وارحمني، يكون سؤالا ودعاء لا أمرا.
ثم المراد بالامر يعرف بهذه الصيغة فقط ولا يعرف حقيقة الامر بدون هذه الصيغة في قول الجمهور من الفقهاء.
وقال بعض أصحاب مالك والشافعي يعرف حقيقة المراد بالامر بدون هذه الصيغة.
وعلى هذا يبتني الخلاف في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها موجبة أم لا ؟ واحتجوا في ذلك بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) : أي عن سمته وطريقته في أفعاله، وقال تعالى: (وما أمر فرعون برشيد) والمراد فعله وطريقته، وقال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) : أي أفعالهم، وقال تعالى: (وتنازعتم في الامر) : أي فيما تقدمون عليه من الفعل، وقال تعالى: (قل إن الامر كله لله)

المراد الشأن والفعل، والعرب تقول: أمر فلان سديد مستقيم: أي حاله وأفعاله، وإذا ثبت أن الامر يعبر به عن الفعل كان حقيقة فيه، يوضحه أن العرب تفرق بين جمع الامر الذي هو القول فقالوا فيه: أوامر، والامر الذي هو الفعل فقالوا في جمعه: أمور، ففي التفريق بين الجمعين دلالة على أن كل واحد منه حقيقة، ومن يقول إن استعمال الامر في الفعل بطريق المجاز والاتساع، فلا بد له من بيان الوجه الذي اتسع فيه لاجله، لان الاتساع والمجاز لا يكون إلا بطريق معلوم يستعار اللفظ بذلك الطريق لغير حقيقته مجازا.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي تنصيص على وجوب اتباعه في أفعاله.
وحجتنا في ذلك أن المراد بالامر من أعظم المقاصد فلا بد من أن يكون له لفظ موضوع هو حقيقة يعرف به اعتبارا بسائر المقاصد من الماضي والمستقبل والحال، وهذا لان العبارات لا تقصر عن المقاصد، ولا يتحقق انتفاء القصور إلا بعد أن يكون لكل مقصود عبارة هو مخصوص بها، ثم قد تستعمل تلك العبارة لغيره مجازا بمنزلة أسماء الاعيان، فكل عين مختص باسم هو موضوع له وقد يستعمل في غيره مجازا نحو أسد فهو في الحقيقة اسم لعين وإن كان يستعمل في غيره مجازا، يوضحه أن قولنا أمر مصدر والمصادر لا بد أن توجد عن فعل أو يوجد عنها فعل على حسب اختلاف أهل اللسان في ذلك، ثم لا تجد أحدا من أهل اللسان يسمي الفاعل للشئ آمرا، ألا ترى أنهم لا يقولون للآكل والشارب آمرا، فبهذا تبين أن اسم الامر لا يتناول الفعل حقيقة، ولا يقال الامر اسم عام يدخل تحته المشتق وغيره، لان الامر مشتق في الاصل، فإنه يقال: أمر يأمر أمرا فهو آمر، وما كان مشتقا في الاصل لا يقال إنه يتناول المشتق وغيره حقيقة، وإنما يقال ذلك فيما هو غير مشتق في الاصل

كاللسان ونحوه، وفي قول القائل: رأيت فلانا يأمر بكذا ويفعل بخلافه دليل ظاهر على أن الفعل غير الامر حقيقة.
فأما ما تلوا من الآيات فنحن لا ننكر استعمال الامر في غير ما هو حقيقة فيه، لان ذلك في القرآن على وجوه: منها القضاء قال الله تعالى: (يدبر الامر من السماء إلى الارض) وقال تعالى: (ألا له الخلق والامر) ومنها الدين قال الله تعالى: (حتى جاء الحق وظهر أمر الله) ومنها القول قال الله تعالى: (يتنازعون بينهم أمرهم) ومنها الوحي قال الله تعالى: (يتنزل الامر بينهن) ومنها القيامة قال تعالى: (أتى أمر الله) ومنها العذاب قال الله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) ومنها الذنب قال الله تعالى: (فذاقت
وبال أمرها) فإما أن نقول: كل ذلك يرجع إلى شئ واحد وهو أن تمام ذلك كله بالله تعالى كما قال تعالى: (قل إن الامر كله لله) ثم فهمنا ذلك بما هو صيغة الامر حقيقة فقال: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) وكما قال تعالى: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) أو نقول ما كان حقيقة لشئ لا يجوز نفيه عنه بحال، وما كان مستعملا بطريق المجاز لشئ يجوز نفيه عنه كاسم الاب فهو حقيقة للاب الادنى فلا يجوز نفيه عنه، ومجاز للجد فيجوز نفيه عنه بإثبات غيره، ثم يجوز نفي هذه العبارة عن الفعل وغيره مما لا يوجد فيه هذه الصيغة، فإن الانسان إذا قال ما أمرت اليوم بشئ كان صادقا وإن كان قد فعل أفعالا، فعرفنا أن الاستعمال فيه مجاز، وطريق هذا المجاز أنهم في قولهم: أمر فلان سديد مستقيم أجروا اسم المصدر على المفعول به كقولهم: هذا الدرهم ضرب الامير، وهذا الثوب نسج اليمن، وأيد ما قلنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة خلع الناس نعالهم، فلما فرغ قال عليه السلام: ما حملكم على ما صنعتم ؟ ولو كان فعله يوجب الاتباع مطلقا لم يكن لهذا السؤال منه معنى.
ولما واصل صلى الله عليه وسلم واصل أصحابه فأنكر عليهم وقال: إني لست

كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وفي استعمال صيغة الامر في قوله: خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي بيان أن نفس الفعل لا يوجب الاتباع لا محالة فقد كانوا مشاهدين لذلك، ولو ثبت به وجوب الاتباع خلا هذا اللفظ عن فائدة وذلك لا يجوز اعتقاده في كلام صاحب الشرع فيما يرجع إلى إحكام البيان.
فصل: في بيان موجب الامر الذي يذكر في مقدمة هذا الفصل اعلم أن صيغة الامر تستعمل على سبعة أوجه: على الالزام كما قال الله تعالى:
(آمنوا بالله ورسوله) وقال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وعلى الندب كقوله تعالى: (وافعلوا الخير) وقوله تعالى: (وأحسنوا) وعلى الاباحة كقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) وعلى الارشاد إلى ما هو الاوثق كقوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم) وعلى التقريع كقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) وعلى التوبيخ كقوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) وعلى السؤال كقوله تعالى: (ربنا تقبل منا) .
ولا خلاف أن السؤال والتوبيخ والتقريع لا يتناوله اسم الامر وإن كان في صورة الامر، ولا خلاف أن اسم الامر يتناول ما هو للالزام حقيقة، ويختلفون فيما هو للاباحة أو الارشاد أو الندب فذكر الكرخي والجصاص رحمهما الله أن هذا لا يسمى أمرا حقيقة وإن كان الاسم يتناوله مجازا، واختلف فيه أصحاب الشافعي فمنهم من يقول: اسم الامر يتناول ذلك كله حقيقة، ومنهم من يقول: ما كان للندب يتناوله اسم الامر حقيقة لانه يثاب على فعله ونيل الثواب يكون بالطاعة والطاعة في الائتمار بالامر، وهذا ليس بقوي فإن نيل الثواب بفعل النوافل من الصوم

والصلاة لانه عمل بخلاف هوى النفس الامارة بالسوء على قصد ابتغاء مرضاة الله تعالى كما قال تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) وليس من ضرورة هذا كون العمل مأمورا به.
والفريق الثاني يقولون: ما يفيد الاباحة والندب فموجبه بعض موجب ما هو الايجاب لان بالايجاب هذا وزيادة، فيكون هذا قاصرا لا مغايرا، والمجاز ما جاوز أصله وتعداه.
وبهذا يتبين أن الاسم فيه حقيقة، وهذا ضعيف أيضا، فإن موجب الامر حقيقة الايجاب وقطع التخيير، لان ذلك من ضرورة الايجاب وبالاباحة والندب لا ينقطع التخيير.
عرفنا أن موجبه غير موجب الامر حقيقة وإنما يتناوله اسم الامر مجازا.
والدليل عليه أن العرب تسمي
تارك الامر عاصيا وبه ورد الكتاب قال الله تعالى: (أفعصيت أمري ؟) وقال القائل: أمرتك أمرا جازما فعصيتني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم وقال دريد بن الصمة: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلما عصوني كنت فيهم وقد أرى غوايتهم في أنني غير مهتدي وتارك المباح والمندوب إليه لا يكون عاصبا، فعرفنا أن الاسم لا يتناوله حقيقة، ثم حد الحقيقة في الاسامي ما لا يجوز نفيه عما هو حقيقة فيه، ورأينا أن الانسان لو قال: ما أمرني الله بصوم ستة من شوال كان صادقا، ولو قال: ما أمرني الله بصوم رمضان كان كاذبا، ولو قال: ما أمرني الله بصلاة الضحى كان صادقا، ولو قال: ما أمرني الله بصلاة الظهر كان كاذبا.
ففي تجويز نفي صيغة الامر عن المندوب دليل ظاهر على أن الاسم يتناوله مجازا لا حقيقة.
فأما الكلام في موجب الامر، فالمذهب عند جمهور الفقهاء أن موجب مطلقه الالزام إلا بدليل.
وزعم ابن سريج من أصحاب الشافعي أن موجبه الوقف حتى يتبين المراد بالدليل وادعى أن هذا مذهب الشافعي، فقد ذكر في أحكام القرآن في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) أنه يحتمل أمرين.
وأنكر هذا أكثر أصحابه وقالوا مراده أنه يحتمل أن يكون بخلاف الاطلاق، وهكذا قال في العموم إنه يحتمل الخصوص بأن يرد دليل يخصه وإن كان الظاهر عنده العموم،

وزعموا أنه جزم على أن الامر للوجوب في سائر كتبه.
وقال بعض أصحاب مالك: إن موجب مطلقه الاباحة، وقال بعضهم: موجبه الندب.
أما الواقفون فيقولون قد صح استعمال هذه الصيغة لمعان مختلفة كما بينا فلا يتعين شئ منها إلا بدليل لتحقق المعارضة في الاحتمال، وهذا فاسد جدا فإن الصحابة امتثلوا أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما سمعوا منه صيغة الامر من غير أن اشتغلوا بطلب دليل آخر للعمل، ولو لم يكن موجب هذه الصيغة معلوما بها لاشتغلوا بطلب دليل آخر للعمل، ولا يقال إنما عرفوا ذلك بما شاهدوا من الاحوال لا بصيغة الامر لان من كان غائبا منهم عن مجلسه اشتغل به كما بلغه صيغة الامر حسب ما اشتغل به من كان حاضرا، ومشاهدة الحال لا توجد في حق من كان غائبا، وحين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه فأخر المجئ لكونه في الصلاة فقال له: أما سمعت الله يقول: (استجيبوا لله وللرسول) فاستدل عليه بصيغة الامر فقط، وعرف الناس كلهم دليل على ما قلنا، فإن من أمر من تلزمه طاعته بهذه الصيغة فامتنع كان ملاما معاتبا، ولو كان المقصود لا يصير معلوما بها للاحتمال لم يكن معاتبا.
ثم كما أن العبارات لا تقصر عن المعاني فكذلك كل عبارة تكون لمعنى خاص باعتبار أصل الوضع، ولا يثبت الاشتراك فيه إلا بعارض، وصيغة الامر أحد تصاريف الكلام، فلا بد من أن يكون لمعنى خاص في أصل الوضع، ولا يثبت الاشتراك فيه إلا بعارض مغير له بمنزلة دليل الخصوص في العام.
ومن يقول بأن موجب مطلق الامر الوقف لا يجد بدا من أن يقول موجب مطلق النهي الوقف أيضا للاحتمال، فيكون هذا قولا باتحاد موجبهما وهو باطل، وفي القول بأن موجب الامر الوقف إبطال حقائق الاشياء ولا وجه للمصير إليه، والاحتمال الذي ذكروه نعتبره في أن لا نجعله محكما بمجرد الصيغة لا في أن لا يثبت موجبه أصلا، ألا ترى أن من يقول لغيره: إن شئت فافعل كذا وإن شئت فافعل كذا كان موجب كلامه التخيير عند العقلاء، واحتمال غيره وهو الزجر قائم كما قال الله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) .

وأما الذين قالوا موجبه الاباحة اعتبروا الاحتمال لكنهم قالوا من ضرورة الامر
ثبوت صفة الحسن للمأمور به، فإن الحكيم لا يأمر بالقبيح فيثبت بمطلقه ما هو من ضرورة هذه الصيغة وهو التمكين من الاقدام عليه والاباحة، وهذا فاسد أيضا، فصفة الحسن بمجرده تثبت بالاذن والاباحة، وهذه الصيغة موضوعة لمعنى خاص، فلا بد أن تثبت بمطلقها حسنا بصفة، ويعتبر الامر بالنهي، فكما أن مطلق النهي يوجب قبح المنهي عنه على وجه يجب الانتهاء عنه فكذلك مطلق الامر يقتضي حسن المأمور به على وجه يجب الائتمار.
والذين قالوا بالندب ذهبوا إلى أن الامر لطلب المأمور به من المخاطب وذلك يرجح جانب الاقدام عليه ضرورة.
وهذا الترجيح قد يكون بالالزام وقد يكون بالندب فيثبت أقل الامرين لانه المتيقن به حتى يقوم الدليل على الزيادة، وهذا ضعيف فإن الامر لما كان لطلب المأمور به اقتضى مطلقه الكامل من الطلب، إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم، فإنه مفترض الطاعة بملك الالزام.
ثم إما أن يكون الامر حقيقة في الايجاب خاصة فعند الاطلاق يحمل على حقيقة، أو يكون حقيقة في الايجاب والندب جميعا فيثبت بمطلقه الايجاب لتضمنه الندب والزيادة، لا يجوز أن يقال: هو للندب حقيقة وللايجاب مجازا، لان هذا يؤدي إلى تصويب قول من قال: إن الله لم يأمر بالايمان ولا بالصلاة، وبطلان هذا لا يخفى على ذي لب.
وما قالوا يبطل بلفظ العام فإنه يتناول الثلاثة فما فوق ذلك، ثم عند الاطلاق لا يحمل على المتيقن وهو الاقل وإنما يحمل على الجنس لتكثير الفائدة به.
وكذا صيغة الامر، ولو لم يكن في القول بما قالوا إلا ترك الاخذ بالاحتياط لكان ذلك كافيا في وجوب المصير إلى ما قلنا، فإن المندوب بفعله يستحق الثواب ولا يستحق بتركه العقاب، والواجب يستحق بفعله الثواب ويستحق بتركه العقاب، فالقول بأن مقتضى مطلق الامر الايجاب وفيه معنى الاحتياط من كل وجه، أولى.

ثم الدليل على صحة قولنا من الكتاب قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) ففي نفي التخيير بيان أن موجب الامر الالزام، ثم قال تعالى: (ومن يعص الله ورسوله) ولا يكون عاصيا بترك الامتثال إلا أن يكون موجبه الالزام، وقال: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) : أي أن تسجد، فقد ذمه على الامتناع من الامتثال والذم بترك الواجب، وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة) وخوف العقوبة في ترك الواجب، ولا معنى لقول من يقول ترك الائتمار لا يكون خلافا فإن المأمور في الصوم هو الامساك ولا شك في أن ترك الائتمار بالفطر من غير عذر يكون خلافا فيما هو المأمور به.
ثم الامر يطلب المأمور بآكد الوجوه، يشهد به الكتاب والاجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره) فإضافة الوجود والقيام إلى الامر ظاهره يدل على أن الايجاد يتصل بالامر، وكذلك قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) فالمراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن التكوين كما زعم بعضهم فإنا نستدل به على أن كلام الله غير محدث ولا مخلوق، لانه سابق على المحدثات أجمع، وحرف الفاء للتعقيب.
فبهذا يتبين أن هذه الصيغة لطلب المأمور بآكد الوجوه، والاجماع دليل عليه، فإن من أراد أن يطلب عملا من غيره لا يجد لفظا موضوعا لاظهار مقصوده سوى قوله افعل، وبهذا يثبت أن هذه الصيغة موضوعة لهذا المعنى خاصة كما أن اللفظ الماضي موضوع للمضي، والمستقبل للاستقبال، وكذلك الحال.
ثم سائر المعاني التي وضعت

الالفاظ لها كانت لازمة لمطلقها إلا أن يقوم الدليل بخلافه، فكذلك معنى طلب المأمور بهذه الصيغة، ولان قولنا أمر فعل متعد لازمه ائتمر والمتعدي لا يتحقق
بدون اللازم، فهذا يقتضي أن لا يكون أمرا بدون الائتمار، كما لا يكون كسرا بدون الانكسار، وحقيقة الائتمار بوجود المأمور به إلا أن الوجود لو اتصل بالامر ولا صنع للمخاطب فيه سقط التكليف، وهذا لا وجه له، لان في الائتمار للمخاطب ضرب اختيار بقدر ما ينتفي به الجبر ويستحق الثواب بالاقدام على الائتمار، وذلك لا يتحقق إذا اتصل الوجود بصيغة الامر، فلم تثبت حقيقة الوجود بهذه الصيغة تحرزا عن القول بالجبر، فأثبتنا به آكد ما يكون من وجوه الطلب وهو الالزام، ألا ترى أن بمطلق النهي يثبت آكد ما يكون من طلب الاعدام وهو وجوب الانتهاء، ولا يثبت الانعدام بمطلق النهي، وكذلك بالامر، لان إحدى الصيغتين لطلب الايجاد والاخرى لطلب الاعدام.
ومن فروع هذا الفصل الامر بعد الحظر، فالصحيح عندنا أن مطلقه للايجاب أيضا لما قررنا أن الالزام مقتضى هذه الصيغة عند الامكان إلا أن يقوم دليل مانع.
وبعض أصحاب الشافعي يقولون: مقتضاه الاباحة لانه لازالة الحظر ومن ضرورته الاباحة فقط فكأن الآمر قال: كنت منعتك عن هذا فرفعت ذلك المنع وأذنت لك فيه.
فاستدلوا على هذا بقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله) .
وبقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) ولكنا نقول: إباحة الاصطياد للحلال بقوله: (أحل لكم الطيبات) الآية لا بصيغة الامر مقصودا به، وكذلك إباحة البيع بعد الفراغ من الجمعة بقوله: (وأحل الله البيع) لا بصيغة الامر، ثم صيغة الامر ليست لازالة الحظر ولا لرفع المنع، بل لطلب المأمور به، وارتفاع الحظر وزوال المنع من ضرورة هذا الطلب فإنما يعمل مطلق اللفظ فيما يكون موضوعا له حقيقة.

فصل في بيان مقتضى مطلق الامر في حكم التكرار
الصحيح من مذهب علمائنا أن صيغة الامر لا توجب التكرار ولا تحتمله، ولكن الامر بالفعل يقتضي أدنى ما يكون من جنسه على احتمال الكل ولا يكون موجبا للكل إلا بدليل.
وقال بعض مشايخنا هذا إذا لم يكن معلقا بشرط ولا مقيدا بوصف فإن كان فمقتضاه التكرار بتكرر ما قيد به.
وقال الشافعي مطلقه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله والعدد أيضا إذا اقترن به دليل.
وقال بعضهم مطلقه يوجب التكرار إلا أن يقوم دليل يمنع منه، ويحكى هذا عن المزني، واحتج صاحب هذا المذهب بحديث أقرع بن حابس رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج أفي كل عام أم مرة ؟ فقال: بل مرة ولو قلت في كل عام لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها فلو لم تكن صيغة الامر في قوله حجوا محتملا التكرار أو موجبا له لما أشكل عليه ذلك فقد كان من أهل اللسان ولكان ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤاله عما ليس من محتملات اللفظ، فحين اشتغل ببيان معنى دفع الحرج في الاكتفاء بمرة واحدة عرفنا أن موجب هذه الصيغة التكرار.
ثم المرة من التكرار بمنزلة الخاص من العام وموجب العام العموم حتى يقوم دليل الخصوص.
وبيان هذا أن قول القائل افعل طلب الفعل بما هو مختصر من المصدر الذي هو نسبة الاسم وهو الفعل، وحكم المختصر ما هو حكم المطول، والاسم يوجب إطلاقه العموم حتى يقوم دليل الخصوص فكذلك الفعل، لان للفعل كلا وبعضا كما للمفعول، فمطلقه يوجب الكل ويحتمله، ثم الكل لا يتحقق إلا بالتكرار.
واعتبروا الامر بالنهي فكما أن النهي يوجب إعدام المنهي عنه عاما فكذلك الامر يوجب إيجاده تماما حتى يقوم دليل الخصوص وذلك يوجب التكرار لا محالة.

وأما الشافعي رحمه الله فاحتج بنحو هذا أيضا ولكن على وجه يتبين به الفرق
بين الامر والنهي ويثبت به الاحتمال دون الايجاب، وذلك أن قوله افعل يقتضي مصدرا على سبيل التنكير أي افعل فعلا.
بيانه في قوله طلق: أي طلق طلاقا، وإنما أثبتناه على سبيل التنكير لان ثبوته بطريق الاقتضاء للحاجة إلى تصحيح الكلام وبالمنكر يحصل هذا المقصود فيكون الثابت بمقتضى هذه الصيغة ما هو نكرة في الاثبات والنكرة في الاثبات تخص كقوله تعالى: (فتحرير رقبة) ولكن احتمال التكرار والعدد فيه لا يشكل، لان ذلك المنكر متعدد في نفسه.
ألا ترى أنه يستقيم أن يقرن به على وجه التفسير، وتقول طلقها اثنتين أو مرتين أو ثلاثا ويكون ذلك نصبا على التفسير، ولو لم يكن اللفظ محتملا له لم يستقم تفسيره به بخلاف النهي فصيغة النهي عن الفعل تقتضي أيضا مصدرا على سبيل التنكير أي لا تفعل فعلا ولكن النكرة في النفي تعم.
قال الله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) ومن قال لغيره لا تتصدق من مالي يتناول النهي كل درهم من ماله، بخلاف قوله تصدق من مالي فإنه لا يتناول الامر إلا الاقل على احتمال أن يكون مراده كل ماله، ولهذا قال إن مطلق الصيغة لا توجب التكرار لان ثبوت المصدر فيه بطريق الاقتضاء ولا عموم للمقتضى، يوضحه أن هذه الصيغة أحد أقسام الكلام فتعتبر بسائر الاقسام.
وقول القائل: دخل فلان الدار إخبار عن دخوله على احتمال أن يكون دخل مرة أو مرتين أو مرارا، فكذلك قوله ادخل يكون طلب الدخول منه على احتمال أن يكون المراد مرة أو مرارا، ثم الموجب ما هو المتيقن به دون المحتمل.
وأما الذين قالوا في المعلق بالشرط أو المقيد بالوصف إنه يتكرر بتكرر الشرط والوصف، استدلوا بالعبادات التي أمر الشرع بها مقيدا بوقت أو حال وبالعقوبات التي أمر الشرع بإقامتها مقيدا بوصف أن ذلك يتكرر بتكرر ما قيد به.
قال رضي الله عنه: والصحيح عندي أن هذا ليس بمذهب علمائنا رحمهم الله، فإن من قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق بهذا اللفظ إلا مرة وإن تكرر منها الدخول

ولم تطلق إلا واحدة وإن نوى أكثر من ذلك، وهذا لان المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز، وهذه الصيغة لا تحتمل العدد والتكرار عند التنجيز فكذلك عند التعليق بالشرط إذا وجد الشرط، وإنما يحكى هذا الكلام عن الشافعي رحمه الله فإنه أوجب التيمم لكل صلاة واستدل عليه بقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة) إلى قوله: (فتيمموا) وقال ظاهر هذا الشرط يوجب الطهارة عند القيام إلى كل صلاة غير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلوات بوضوء واحد ترك هذا في الطهارة بالماء لقيام الدليل فبقي حكم التيمم على ما اقتضاه أصل الكلام.
وهذا سهو، فالمراد بقوله: (إذا قمتم إلى الصلاة) : أي وأنتم محدثون، عليه اتفق أهل التفسير، وباعتبار إضمار هذا السبب يستوي حكم الطهارة بالماء والتيمم، وهذا هو الجواب عما يستدلون به من العبادات والعقوبات، فإن تكررها ليس بصيغة مطلق الامر ولا بتكرر الشرط بل بتجدد السبب الذي جعله الشرع سببا موجبا له، ففي قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) أمر بالاداء وبيان للسبب الموجب وهو دلوك الشمس، فقد جعل الشرع ذلك الوقت سببا موجبا للصلاة إظهارا لفضيلة ذلك الوقت بمنزلة قول القائل: أد الثمن للشراء والنفقة للنكاح يفهم منه الامر بالاداء والاشارة إلى السبب الموجب لما طولب بأدائه.
ولما أشكل على الاقرع بن حابس رضي الله عنه حكم الحج حتى سأل فقد كان من المحتمل أن يكون وقت الحج هو السبب الموجب له بجعل الشرع إياه لذلك بمنزلة الصوم والصلاة، ومن المحتمل أن يكون السبب ما هو غير متكرر وهو البيت والوقت شرط الاداء والنبي عليه السلام بين له بقوله: بل مرة، أن السبب هو البيت وفي قوله عليه السلام: ولو قلت في كل عام لوجبت دليل على أن مطلق الامر لا يوجب التكرار، لانه لو كان موجبا له كان الوجوب في كل عام بصيغة الامر لا بهذا القول منه، وقد نص على أنها كانت تجب بقوله لو قلت
في كل عام...ثم الحجة لنا في أن هذه الصيغة لا توجب التكرار ولا تحتمله أن قوله افعل

لطلب فعل معلوم بحركات توجد منه وتنقضي، وتلك الحركات لا تبقى ولا يتصور عودها إنما المتصور تجدد مثلها، ولهذا يسمى تكرارا مجازا من غير أن يشكل على أحد أن الثاني غير الاول.
وبهذا تبين أنه ليس في هذه الصيغة احتمال العدد ولا احتمال التكرار، ألا ترى أن من يقول لغيره اشتر لي عبدا لا يتناول هذا أكثر من عبد واحد، ولا يحتمل الشراء مرة بعد مرة أيضا ؟ وكذلك قوله زوجني امرأة لا يحتمل إلا امرأة واحدة، ولا يحتمل تزويجا بعد تزويج إلا أن ما به يتم فعله عند الحركات التي توجد منه له كل وبعض فيثبت بالصيغة اليقين الذي هو الاقل للتيقن به، ويحتمل الكل حتى إذا نواه عملت نيته فيه، وليس فيه احتمال العدد أصلا فلا تعمل نيته في العدد، وعلى هذا قلنا إذا قال لامرأته طلقي نفسك أو لاجنبي طلقها إنه يتناول الواحد إلا أن ينوي الثلاث فتعمل نيته، لان ذلك كل فيما يتم به فعل الطلاق، ولو نوى اثنتين لم تعمل نيته لانه مجرد نية العدد إلا أن تكون المرأة أمة فتكون نيته الثنتين في حقها نية كل الطلاق، وكذلك لو قال لعبده تزوج يتناول امرأة واحدة إلا أن ينوي اثنتين فتعمل نيته لانه كل النكاح في حق العبد لا لانه نوى العدد، ولا معنى لما قالوا: إن صحة اقتران العدد والمرات بهذه الصيغة على سبيل التفسير لها دليل على أن الصيغة تحتمل ذلك، لان هذا القران عمله في تغيير مقتضى الصيغة لا في التفسير لما هو من محتملات تلك الصيغة بمنزلة اقتران الشرط والبدل بهذه الصيغة.
ألا ترى أن قول القائل لامرأته أنت طالق ثلاثا لا يحتمل وقوع الثنتين به مع قيام الثلاث في ملكه، ولا التأخير إلى مدة، ولو قرن به إلا واحدة إلى شهر أو اثنتين كان صحيحا وكان عاملا في تغيير مقتضى الصيغة لا أن يكون مفسرا
لها ؟ ولهذا قلنا إذا قرن بالصيغة ذكر العدد في الايقاع يكون الوقوع بلفظ العدد لا بأصل الصيغة حتى لو قال لامرأته طلقتك ثلاثا أو قال واحدة فماتت المرأة قبل ذكر العدد لم يقع شئ.

فبهذا تبين أن عمل هذا القران في التغيير والتفسير يكون مقررا للحكم المفسر لا مغيرا، يحقق ما ذكرناه أن قول القائل اضرب أي اكتسب ضربا، وقوله طلق أي أوقع طلاقا، وهذه صيغة فرد فلا تحتمل الجمع ولا توجبه، وفي التكرار والعدد جمع لا محالة والمغايرة بين الجمع والفرد على سبيل المضادة، فكما أن صيغة الجمع لا تحتمل الفرد حقيقة، فكذا صيغة الفرد لا تحتمل الجمع حقيقة بمنزلة الاسم الفرد نحو قولنا زيد لا يحتمل الجمع والعدد، فالبعض مما تتناوله هذه الصيغة فرد صورة ومعنى، وكل فرد من حيث الجنس معنى، فإنك إذا قابلت هذا الجنس بسائر الاجناس كان جنسا واحدا وهو جمع صورة فعند عدم النية لا يتناول إلا الفرد صورة ومعنى، ولكن فيه احتمال الكل لكون ذلك فردا معنى بمنزلة الانسان فإنه فرد له أجزاء وأبعاض، والطلاق أيضا فرد جنسا وله أجزاء وأبعاض فتعمل نية الكل في الايقاع ولا تعمل نية الثنتين أصلا، لانه ليس فيه معنى الفردية صورة ولا معنى فلم يكن من محتملات الكلام أصلا، وعلى هذا الاصل تخرج أسماء الاجناس ما يكون منها فردا صورة أو حكما.
أما الصورة فكالماء والطعام إذا حلف لا يشرب ماء أو لا يأكل طعاما يحنث بأدنى ما يتناوله الاسم على احتمال الكل حتى إذا نوى ذلك لم يحنث أصلا.
ولو نوى مقدارا من ذلك لم تعمل نيته لخلو المنوي عن صيغة الفردية صورة ومعنى، والفرد حكما كاسم النساء إذا حلف لا يتزوج النساء فهذه صيغة الجمع ولكن جعلت عبارة عن الجنس مجازا، لانا لو جعلناها جمعا لم يبق لحرف اللام الذي هو للمعهود فيه فائدة، ولو جعلناه جنسا كان حرف العهد فيه معتبرا فإنه يتناول المعهود من ذلك
الجنس ويبقى معنى الجمع معتبرا فيه أيضا باعتبار الجنس، فيتناول أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس على احتمال الكل حتى إذا نواه لم يحنث قط، وعلى هذا لو حلف لا يشتري العبيد، أو لا يكلم بني آدم، أو وكل وكيلا بأن يشتري له الثياب فإن التوكيل صحيح بخلاف ما لو وكله بأن يشتري له أثوابا على ما بيناه في الزيادات.

وحكي عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه كان يقول: صيغة مطلق الامر فيما له نهاية معلومة تحتمل التكرار وإن كان لا يوجه إلا بالدليل، وفيما ليست له نهاية معلومة لا تحتمل التكرار لان فيما لا نهاية له يعلم يقينا أن المخاطب لم يرد الكل فإن ذلك ليس في وسع المخاطب ولا طريق له إلى معرفته، وهذا نحو قوله: صم وصل، فليس لهذا الجنس من الفعل نهاية معلومة وإنما يعجز العبد عن إقامته بموته، فعرفنا يقينا أن المراد بهذا الخطاب الفرد منه خاصة، وأما فيما له نهاية معلومة كالطلاق والعدة فالكل من محتملات الخطاب، وذلك تارة يكون بتكرار التطليق، وتارة يكون بالجمع بين التطليقات في اللفظ فيكون صيغة الكلام محتملا له كله.
وخرج على هذا الاصل قول الرجل لامرأته: أنت طالق للسنة أو للعدة فإنه يحتمل نية الثلاث في الايقاع جملة واحدة، ونية التكرار في أن ينوي وقوع كل تطليقة في طهر على حدة.
وفيما قررناه من الكلام دليل على ضعف ما ذهب إليه إذا تأملت.
والكلام في مقتضى صيغة الفرد دون ما إذا قرن به ما يدل على التغيير من قوله للسنة أو للعدة.
واستدل الجصاص رحمه الله على بطلان قول من يقول إن مطلق صيغة الامر تقتضي التكرار فقال: بالامتثال مرة واحدة يستجيز كل أحد أن يقول إنه أتى بالمأمور به، وخرج عن موجب الامر وكان مصيبا في ذلك، فلو كان موجبه التكرار لكان آتيا ببعض المأمور به، ولا معنى لقول من يقول: فإذا أتى به ثانيا وثالثا يقال أيضا في العادة أتى بالمأمور به، لان قائل هذا لا يكون مصيبا في ذلك في الحقيقة، فإن
المخاطب في المرة الثانية متطوع من عنده بمثل ما كان مأمورا به لا أن يكون آتيا بالمأمور به، بمنزلة المصلي أربع ركعات في الوقت بعد صلاة الظهر يكون متطوعا بمثل ما كان مأمورا به إلا أن الذي يسميه آتيا بالمأمور به إنما يسميه بذلك توسعا ومجازا، فلهذا لا نسميه كاذبا، والله أعلم.

فصل: في بيان موجب الامر في حكم الوقت الامر نوعان: مطلق عن الوقت، ومقيد به، فنبدأ ببيان المطلق: قال رضي الله عنه: والذي يصح عندي فيه من مذهب علمائنا رحمهم الله أنه على التراخي فلا يثبت حكم وجوب الاداء على الفور بمطلق الامر، نص عليه في الجامع فقال فيمن نذر أن يعتكف شهرا: يعتكف أي شهر شاء، وكذلك لو نذر أن يصوم شهرا.
والوفاء بالنذر واجب بمطلق الامر.
وفي كتاب الصوم أشار في قضاء رمضان إلى أنه يقضي متى شاء، وفي الزكاة وصدقة الفطر والعشر المذهب معلوم في أنه لا يصير مفرطا بتأخير الاداء وأن له أن يبعث بها إلى فقراء قرابته في بلدة أخرى.
وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول مطلق الامر يوجب الاداء على الفور، وهو الظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله فقد ذكر في كتابه: إنا استدللنا بتأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج مع الامكان على أن وقته موسع، وهذا منه إشارة إلى أن موجب مطلق الامر على الفور حتى يقوم الدليل.
وبعض أصحاب الشافعي يقول هو موقوف على البيان لانه ليس في الصيغة ما ينبئ عن الوقت فيكون مجملا في حقه، وهذا فاسد جدا فإنهم يوافقونا على ثبوت أصل الواجب بمطلق الامر، وذلك يوجب الاداء عند الامكان ولا إمكان إلا بوقت فثبت بدليل الاشارة إلى الوقت بهذا الطريق.
ثم بهذا الكلام يستدل الكرخي فيقول: وقت الاداء ثابت بمقتضى الحال ومقتضى الحال دون مقتضى اللفظ، ولا عموم لمقتضى اللفظ فكذلك لا عموم لما ثبت بمقتضى الحال،
وأول أوقات إمكان الاداء مراد بالاتفاق حتى لو أدى فيه كان ممتثلا للامر فلا يثبت ما بعده مرادا إلا بدليل، يوضحه أن التخيير ينتفي بمطلق الامر بين الاداء والترك

فيثبت هذا الحكم وهو انتفاء التخيير في أول أوقات إمكان الاداء كما ثبت حكم الوجوب، والتفويت حرام بالاتفاق، وفي هذا التأخير تفويت لانه لا يدري أيقدر على الاداء في الوقت الثاني أو لا يقدر ؟ وبالاحتمال الثاني لا يثبت التمكن من الاداء على وجه يكون معارضا للمتيقن به فيكون تأخيره عن أول أوقات الامكان تفويتا، ولهذا استحسن ذمه على ذلك إذا عجز عن الاداء، ولان الامر بالاداء يفيدنا العلم بالمصلحة في الاداء، وتلك المصلحة تختلف باختلاف الاوقات، ولهذا جاز النسخ في الامر والنهي، وبمطلق الامر يثبت العلم بالمصلحة في الاداء في أول أوقات الامكان ولا يثبت المتيقن به فيما بعده.
ثم المتعلق بالامر اعتقاد الوجوب وأداء الواجب، وأحدهما وهو الاعتقاد يثبت بمطلق الامر للحال فكذلك الثاني، واعتبر الامر بالنهي، والانتهاء الواجب بالنهي يثبت على الفور فكذلك الائتمار الواجب بالامر.
وحجتنا في ذلك أن قول القائل لعبده افعل كذا الساعة يوجب الائتمار على الفور، وهذا أمر مقيد، وقوله افعل مطلق وبين المطلق والمقيد مغايرة على سبيل المنافاة فلا يجوز أن يكون حكم المطلق ما هو حكم المقيد فيما يثبت التقييد به، لان في ذلك إلغاء صفة الاطلاق وإثبات التقييد من غير دليل، فإنه ليس في الصيغة ما يدل على التقييد في وقت الاداء، فإثباته يكون زيادة وهو نظير تقييد المحل، فإن من قال لعبده تصدق بهذا الدرهم على أول فقير يدخل، يلزمه أن يتصدق على أول من يدخل إذا كان فقيرا، ولو قال تصدق بهذا الدرهم لم يلزمه أن يتصدق به على أول فقير يدخل وكان له أن يتصدق به على أي فقير شاء، لان الامر مطلق فتعيين المحل فيه يكون زيادة، والدليل عليه أنه يتحقق الامتثال بالاداء في أي جزء عينه من أوقات الامكان
في عمره، ولو تعين للاداء الجزء الاول لم يكن ممتثلا بالاداء بعده، وفي اتفاق الكل

على أنه مؤدي الواجب متى أداه إيضاح لما قلنا.
وبهذا تبين فساد ما قال إن المصلحة في الاداء غير معلوم إلا في أول أوقات الامكان فإن المطالبة بالاداء وامتثال الامر لا يحصل إلا به، ألا ترى أن بعد الانتساخ لا يبقى ذلك ؟ فعرفنا أن بمطلق الامر يصير معنى المصلحة في الاداء معلوما له في أي جزء أداه من عمره ما لم يظهر ناسخه، والتفويت حرام كما قال إلا أن الفوات لا يتحقق إلا بموته وليس في مجرد التأخير تفويت لانه متمكن من الاداء في كل جزء يدركه من الوقت بعد الجزء الاول حسب تمكنه في الجزء الاول، وموت الفجأة نادر، وبناء الاحكام على الظاهر دون النادر.
فإن قيل: فوقت الموت غير معلوم له وبالاجماع بعد التمكن من الاداء إذا لم يؤد حتى مات يكون مفرطا مفوتا آثما فيما صنع فبه يتبين أنه لا يسعه التأخير.
قلنا الوجوب ثابت بعد الامر، والتأخير في الاداء مباح له بشرط أن لا يكون تفويتا، وتقييد المباح بشرط فيه خطر مستقيم في الشرع كالرمي إلى الصيد مباح بشرط أن لا يصيب آدميا، وهذا لانه متمكن من ترك هذا الترخص بالتأخير ولا ينكر كونه مندوبا للمسارعة إلى الاداء.
قال الله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) فقلنا بأنه يتمكن من البناء على الظاهر من التأخير ما دام يرجو أن يبقى حيا عادة، وإن مات كان مفرطا لتمكنه من ترك الترخص بالتأخير.
ثم هذا الحكم إنما يثبت فيما لا يكون مستغرقا لجميع العمر فأما ما يكون مستغرقا له فلا يتحقق فيه هذا المعنى، واعتقاد الوجوب مستغرق جميع العمر، وكذلك الانتهاء الذي هو موجب النهي يستغرق جميع العمر.
فأما أداء الواجب فلا يستغرق جميع العمر فلا يتعين للاداء جزء من العمر إلا بدليل، فإن جميع العمر في أداء هذا الواجب كجميع وقت الصلاة لاداء الصلاة وهناك لا يتعين الجزء الاول من الوقت للاداء فيه على وجه لا يسعه التأخير عنه، فكذلك ههنا.
ومن أصحابنا من جعل هذا الفصل على الخلاف المشهور بين أصحابنا في الحج

أنه على الفور أم على التراخي ؟ قال رضي الله عنه: وعندي أن هذا غلط من قائله، فالامر بأداء الحج ليس بمطلق بل هو موقت بأشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وقد بينا أن المطلق غير المقيد بوقت، ولا خلاف أن وقت أداء الحج أشهر الحج.
ثم قال أبو يوسف رحمه الله: تتعين أشهر الحج من السنة الاولى للاداء إذا تمكن منه، وقال محمد رحمه الله لا تتعين ويسعه التأخير، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه روايتان: ف محمد يقول الحج فرض العمر ووقت أدائه أشهر الحج من سنة من سني العمر وهذا الوقت متكرر في عمر المخاطب فلا يجوز تعيين أشهر الحج من السنة الاولى إلا بدليل، والتأخير عنها لا يكون تفويتا بمنزلة تأخير قضاء رمضان.
وتأخير صوم الشهرين في الكفارة، فالايام والشهور تتكرر في العمر ولا يكون مجرد التأخير فيها تفويتا فكذلك الحج، ألا ترى أنه متى أدى كان مؤديا للمأمور.
وأبو يوسف يقول أشهر الحج من السنة الاولى بعد الامكان متعين الاداء لانه فرد في هذا الحكم لا مزاحم له، وإنما يتحقق التعارض وينعدم التعيين باعتبار المزاحمة، ولا يدري أنه هل يبقى إلى السنة الثانية ليكون أشهر الحج منها من جملة عمره أم لا ؟ ومعلوم أن المحتمل لا يعارض المتحقق، فإذا ثبت انتفاء المزاحمة كانت هذه الاشهر متعينة للاداء فالتأخير عنها يكون تفويتا كتأخيرة الصلاة عن الوقت، والصوم عن الشهر إلا أنه إذا بقي حيا إلى أشهر الحج من السنة الثانية فقد تحققت المزاحمة الآن وتبين أن الاولى لم تكن متعينة فلهذا كان مؤديا في السنة الثانية وقام أشهر الحج من هذه السنة مقام الاولى في التعيين، لانه لا يتصور الاداء في وقت ماض، ولا يدري أيبقى بعد هذا أم لا ؟ وهذا بخلاف الامر المطلق فبالتأخير عن أول أوقات الامكان لا يزول تمكنه من الاداء هناك، وههنا يزول تمكنه من الاداء بمضي يوم عرفة إلى أن يدرك هذا
اليوم من السنة الثانية ولا يدري أيدركه أم لا ؟ وبخلاف قضاء رمضان فتأخيره عن اليوم الاول لا يكون تفويتا أيضا لتمكنه منه في اليوم الثاني، ولا يقال بمجئ الليل يزول تمكنه، ثم لا يدري أيدرك اليوم الثاني أم لا ؟ لان الموت في ليلة واحدة قبل

ظهور علاماته يكون فجأة وهو نادر ولا يبنى الحكم عليه، وإنما يبنى على الظاهر، بمنزلة موت المفقود، فإنه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا يحكم بموته باعتبار الظاهر، لان بقاءه بعد موت أقرانه نادر، فأما موته في سنة لا يكون نادرا، فيثبت احتمال الموت والحياة في هذه المدة على السواء، فلهذا كان التأخير تفويتا، وعلى هذا صوم الكفارة، والتأخير هناك لا يكون تفويتا لان تمكنه من الاداء لا يزول بمضي بعض الشهور.
فأما النوع الثاني وهو الموقت فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام: فالاول ما يكون الوقت ظرفا للواجب بالامر ولا يكون معيارا، والثاني ما يكون الوقت معيارا له، والثالث ما هو مشكل مشتبه.
فنبدأ ببيان القسم الاول وذلك وقت الصلاة فإن الله تعالى قال: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) ثم الوقت يكون ظرفا للاداء وشرطا له وسببا للوجوب، وبيانه أنه ظرف للاداء لصحته في أي جزء من أجزاء الوقت أدى، وهذا لان الصلاة عبادة معلومة بأركانها، فإذا لم يطول أركانها يصير مؤديا في جزء قليل من الوقت، فإذا طول منها ركنا يخرج الوقت قبل أن يصير مؤديا لها، فعرفنا أن الوقت ليس بمعيار ولكنه ظرف للاداء وهو شرط أيضا.
فالاداء إنما يتحقق في الوقت والتأخير عنه يكون تفويتا، ومعلوم أن الاداء بأركان يتحقق من المؤدي قبل خروج الوقت، فعرفنا أن خروج الوقت مفوت باعتبار أنه يفوت به شرط الاداء.
وبيان أنه سبب للوجوب أنه لا يجوز تعجيلها قبله، وأن الواجب تختلف صفته باختلاف الاوقات،
فهذا علامة كون الوقت سببا لوجوبها، فأما ما هو الدليل على ذلك نذكره في بيان أسباب الشرائع في موضعه، ثم لا يمكن جعل جميع الوقت سببا للوجوب، لانه ظرف للاداء، فلو جعل جميع الوقت سببا لحصل الاداء قبل وجود السبب أولا يتحقق الاداء فيما هو ظرف للاداء، فإن شهود جميع الوقت لا يكون إلا بعد مضي الوقت، فلا بد أن يجعل جزء من الوقت سببا للوجوب، لانه ليس بين الكل والجزء الذي هو أدنى

مقدار معلوم، وإذا تقرر هذا قلنا الجزء الاول من الوقت سبب للوجوب فبإدراكه يثبت حكم الوجوب وصحة أداء الواجب.
هذا معنى ما نقل عن محمد بن شجاع رحمه الله: أن الصلاة تجب بأول جزء من الوقت وجوبا موسعا وهو الاصح.
وأكثر العراقيين من مشايخنا ينكرون هذا ويقولون الوجوب لا يثبت في أول الوقت وإنما يتعلق الوجوب بآخر الوقت، ويستدلون على ذلك بما لو حاضت المرأة في آخر الوقت فإنها لا يلزمها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت، والمقيم إذا سافر في آخر الوقت يصلي صلاة المسافرين، ولو ثبت الوجوب بأول جزء من الوقت لكان المعتبر حاله عند ذلك، وكذلك لو مات في الوقت لقي الله ولا شئ عليه، ولو ثبت الوجوب في أول الوقت لكانت الرخصة في التأخير بعد ذلك مقيدة بشرط ألا يفوته كما بينا في الامر المطلق.
ثم اختلف هؤلاء في صفة المؤدي في أول الوقت، فمنهم من يقول هو نفل يمنع لزوم الفرض إياه في آخر الوقت إذا كان على صفة يلزمه الاداء فيها بحكم الخطاب، قال لانه يتمكن من ترك الاداء في أول الوقت لا إلى بدل، وهذا حد النفل ولكن بأدائه يحصل ما هو المطلوب وهو إظهار فضيلة الوقت فيمنع لزوم الفرض إياه في آخر الوقت، أو يغير صفة ذلك المؤدي حين أدرك آخر الوقت، بمنزلة مصلي الظهر في بيته يوم الجمعة إذا شهد الجمعة مع الامام تتغير صفة المؤدى قبلها فيصير نفلا بعد أن كان
فرضا، وهذا غلط بين، فإنه لا تتأدى له هذه الصلاة إلا بنية الظهر، والظهر اسم للفرض دون النفل، ولو نوى النفل كان مؤديا للصلاة، ولا يمنع ذلك لزوم الفرض إياه في آخر الوقت، ولا تتغير صفة المؤدى إلى صفة الفرضية، وهذا لان باعتبار آخر الوقت يجب الاداء، وليس لوجوب الاداء أثر في المؤدى فكيف يكون مغيرا صفة المؤدى ومن يقول بهذا القول لا يجد بدا من أن يقول إذا أديت الجمعة في أول الوقت كان المؤدى نفلا والتنفل بالجمعة غير مشروع، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم :

وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس ما يبطل ما قالوا، لان المراد وقت الاداء ووقت الوجوب، فعلى ما قال هذا القائل لا يكون هذا وقت الوجوب ولا وقت أداء الظهر فهو مخالف للنص.
ومنهم من قال المؤدى في أول الوقت موقوف على ما يظهر من حاله في آخر الوقت، وهكذا القول في الزكاة إذا عجلها قبل الحول، واستدل عليه بما قال محمد رحمه الله في الزيادات: إذا عجل شاة أربعين ودفعها إلى الساعي ثم تم الحول وفي يده ثمان وثلاثون فله أن يسترد المدفوع من الساعي، وإن كان الساعي تصدق به كان تطوعا له، ولو تم الحول وفي يده تسع وثلاثون وجبت عليه الزكاة إذا كان المؤدى قائما في يد الساعي بعينه وجاز عن الزكاة، وهذا ضعيف أيضا، فالاداء لا يصح إلا بنية الظهر والظهر اسم للفرض خاصة، ولو نوى الفرض صحت نيته، ولو نوى النفل لم تصح نيته في حق أداء الفريضة، فلو كان حكم المؤدى التوقف لاستوت فيه النيتان، ولتأدى بمطلق نية الصلاة، والقول بالتوقف في فعل قد أمضاه لا يكون قويا في الصلاة والزكاة جميعا، وكان الكرخي رحمه الله يقول: المؤدى فرض على أن يكون الوجوب متعلقا بآخر الوقت أو بالفعل، لان الوجوب إنما لا يثبت بأول الوقت لانعدام الدليل المعين لذلك الجزء في كونه سببا وبفعل الاداء يحصل التعيين، فيكون
المؤدى واجبا، بمنزلة ما لو باع قفيزا من صبرة يتعين البيع في قفيز بالتسليم، ولو أدى شاة من أربعين في الزكاة يتعين المؤدى واجبا بالاداء، والحانث باليمين إذا كفر بأحد الاشياء يتعين ذلك واجبا بأدائه، وهذا في الحقيقة رجوع إلى ما قلنا، ففي هذه الفصول الوجوب ثابت بأصل السبب قبل تعين الواجب بالاداء فكذلك هنا الوجوب ثابت بإدراك الجزء الاول من الوقت والتعيين يحصل بالاداء، وهذا لانه لا يمكن إثبات حكم الوجوب بعد الاداء مقصورا على الحال، لانه إنما يجب على المرء ما يفعله لا ما قد فعله، وإذا تقدم الوجوب على الفعل ضرورة يتحقق به ما قلنا إن الوجوب وصحة الاداء يثبت بالجزء الاول من الوقت.
ثم قال الشافعي رحمه الله: لما تقرر الوجوب لزمه الاداء على وجه لا يتغير بتغير حاله بعد ذلك بعارض من حيض أو سفر، وقلنا

نحن: الاداء إنما يجب بالطلب، ألا ترى أن الريح إذا هبت بثوب إنسان وألقته في حجر غيره فالثوب ملك لصاحبه ولا يجب على من في حجره أداؤه إليه قبل طلبه، لان حصوله في حجره كان بغير صنعه ؟ فكذلك ههنا الوجوب تسببه كان جبرا إذ لا صنع للعبد فيه فإنما يلزمه أداء الوجوب عند طلب من له الحق وقد خيره من له الحق في الاداء ما لم يتضيق الوقت، يقرره أن وجوب الاداء لا يتصل بثبوت حكم الوجوب لا محالة، فإن البيع بثمن مؤجل يوجب الثمن في الحال، إذ لو كان وجوب الثمن متأخرا إلى مضي الاجل لم يصح البيع، ثم وجوب الاداء يكون متأخرا إلى حلول الاجل فههنا أيضا وجوب الاداء يتأخر إلى توجه المطالبة، وذلك باعتبار استطاعة تكون مع الفعل فقبل فعل الاداء لم تثبت المطالبة على وجه ينقطع به الخيار، والدليل عليه أن النائم والمغمى عليه في جميع الوقت يثبت حكم الوجوب في حقهما، ثم الخطاب بالاداء يتأخر إلى ما بعد الانتباه والافاقة.
والحاصل أنه يتعين للسببية الجزء الذي يتصل به الاداء من الوقت، فإن اتصل
بالجزء الاول كان هو السبب وإلا تنتقل السببية إلى آخر الجزء الثاني ثم إلى الثالث هكذا لمعنيين: أحدهما أن في المجاوزة عن الجزء الذي يتصل به الاداء في جعله سببا لا ضرورة وليس بين الادنى والكل مقدار يمكن الرجوع إليه، والثاني أنه إذا لم يتصل الاداء بالجزء الذي تتعين به السببية يكون تفويتا، كما إذا لم يتصل الاداء بالجزء الاخير من الوقت يكون تفويتا حتى يصير دينا في الذمة ولا وجه لجعله مفوتا ما بقي الوقت، لان الشرع خيره في الاداء، فعرفنا أن هذا المعنى تخيير له في نقل السببية من جزء إلى جزء ما بقي الوقت واسعا يبقى هذا الخيار له فلا يكون مفرطا، ولهذا لا يلزمه شئ إذا مات، ولا إذا حاضت المرأة، لان الانتقال يتحقق في حقها لبقاء خيارها، والجزء الذي تدركه من الوقت بعد الحيض لا يوجب عليها الصلاة، والجزء الذي يدركه المسافر بعدما صار مسافرا لا يوجب عليه إلا ركعتين.

ثم قال زفر رحمه الله: إذا تضيق الوقت على وجه لا يفصل عن الاداء تتعين السببية في ذلك الجزء، ألا ترى أنه ينقطع خياره ولا يسعه التأخير بعد ذلك فلا يتغير بما يعترض بعد ذلك من سفر أو مرض ؟ وقلنا نحن إنما لا يسعه التأخير كي لا يفوت شرط الاداء وهو الوقت على ما بينا أن الوقت ظرف للاداء وما بعده من آخر الوقت صالح لانتقال السببية إليه فيحصل الانتقال بالطريق الذي قلنا إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، فتتعين السببية فيه ضرورة إذا لم يبق بعده ما يحتمل انتقال السببية إليه، فيتحقق التفويت بمضيه ويعتبر صفة ذلك الجزء وحاله عند ذلك الجزء حتى إذا كانت حائضا لا يلزمها القضاء، وإذا طهرت عن الحيض عند ذلك الجزء وأيامها عشرة تلزمها الصلاة، نص عليه في نوادر أبي سليمان، فإذا أسلم الكافر أو أدرك الصبي عند ذلك الجزء يلزمهما الصلاة، وإذا كان مسافرا عند ذلك الجزء يلزمه صلاة السفر، ولهذا قلنا إنه إذا طلعت الشمس وهو في خلال الفجر يفسد الفرض، لان الجزء الذي
يتصل به طلوع الشمس من الوقت سبب صحيح تام فثبت الوجوب بصفة الكمال فلا يتأدى في الاداء مع النقصان، بخلاف ما إذا غربت الشمس وهو في خلال صلاة العصر فإن الجزء الذي يتصل به الغروب من الوقت في المعنى سبب فاسد للنهي الوارد عن الصلاة بعد ما تحمر الشمس، فيثبت الوجوب مع النقصان بحسب السبب وقد وجد الاداء بتلك الصفة، ولا يدخل على هذا ما إذا انعدم منه الاداء أصلا ثم أدى في اليوم الثاني بعدما احمرت الشمس فإنه لا يجوز، لانه إذا لم يشتغل بالاداء حتى مضي الوقت فحكم السببية يكون مضافا إلى جميع الوقت وهو سبب صحيح تام، وإنما يتأدى بصفة النقصان عند ضعف السبب إذا لم يصر دينا في الذمة، واشتغاله بالاداء يمنع صيرورته دينا في ذمته، فأما إذا لم يشتغل بالاداء حتى تحقق التفويت بمضي الوقت صار دينا في ذمته فيثبت بصفة الكمال، وهذا هو الانفصال عن الاشكال الذي يقال على هذا، وهو ما إذا أسلم الكافر بعدما احمرت الشمس ولم يصل ثم أداها في اليوم

الثاني بعدما احمرت الشمس فإنه لا يجوز لانه مع تمكن النقصان في السببية إذا مضى الوقت صار الواجب دينا في ذمته بصفة الكمال.
وما ذهب إليه زفر ضعيف، فإن من تذكر صلاة الظهر وقد بقي إلى وقت تغير الشمس مقدار ما يمكنه أن يصلي فيه ركعة أو ركعتين يمنع من الاشتغال بالاداء وإن كان وقت التذكر وقتا للفائتة بالنص، لانه لا يتمكن من الاداء قبل تغير الشمس وإذا تغيرت فسدت صلاته، فكذلك عند تضيق الوقت يؤمر بالاداء ولا يسعه التأخير، لا باعتبار أن السببية تتعين في ذلك الجزء، ولكن ليتمكن من الاداء فيما هو ظرف للاداء وهو الوقت، وهذا التمكن يفوت بالتأخير بعدها.
ومن حكم هذا الوقت أن التعيين لا يثبت بقوله حتى لو قال عينت هذا الجزء، إن لم يشتغل بالاداء بعده لا يتعين، لان خياره لم ينقطع وله أن يؤخر الاداء بعد
هذا القول، والتعيين من ضرورة انقطاع خياره في نقل السببية من جزء إلى جزء وذلك لا يتم إلا بفعل الاداء كالمكفر إذا قال عينت الطعام للتكفير به لا يتعين ما لم يباشر التكفير به، ولا معنى لقول من يقول إن نقل السببية من جزء إلى جزء تصرف في المشروعات وليس ذلك إلى العبد، لان الشرع لما خيره فقد جعل له هذه الولاية فيثبت له حق التصرف بهذه الصفة، لان الشرع قد ولاه ذلك كما ثبت له ولاية الايجاب فيما كان مشروعا غير واجب بنذره.
ومن حكمه أنه لا يمنع صحة أداء صلاة أخرى فيه، لان الوقت ظرف للاداء، وللواجب أركان معلومة يؤديها بمنافع هي حقه وبعد الوجوب بقيت المنافع حقا له أيضا فكان له أن يتصرف فيها بالصرف إلى أداء واجب آخر، بمنزلة من دفع ثوبا إلى خياط ليخيطه في هذا اليوم فإنه يستحق على الخياط إقامة العمل ولا يتعذر عليه خياطة ثوب آخر في ذلك اليوم، لان منافعه بقيت حقا له بعد ما استحق عليه خياطة الثوب بالاجارة.

ومن حكمه أنه لا يتأدى إلا بالنية لان صرف ما هو حقه من المنافع إلى أداء الواجب عليه لا يكون إلا بالنية.
ومن حكمه اشتراط تعيين النية فيه، لان منافعه لما بقيت على صفة يصلح لاداء فرض الوقت وغيره من الصلوات بها لم يتعين فرض الوقت ما لم يعينه بالنية، واشتراط تعيين الوقت لاصابة فرض الوقت حكم ثبت شرعا فلا يسقط ذلك بتقصير يكون من العبد في الاداء حتى إذا تضيق الوقت على وجه لا يسع إلا لاداء الفرض أو لا يسع له أيضا لا يسقط اعتبار نية التعيين فيه بهذا المعنى.
وأما القسم الثاني وهو ما يكون الوقت معيارا له كصوم رمضان، لان ركن الصوم هو الامساك ومقداره لا يعرف إلا بوقته فكان الوقت معيارا له بمنزلة الكيل
في المكيلات.
ومن حكمه أن الامساك الذي يوجد منه في الايام من شهر رمضان لما تعين لاداء الفرض لم يبق غيره مشروعا فيه، إذ لا تصور لاداء صومين بإمساك واحد، وما يتصور في هذا الوقت لا يفضل عن المستحق بحال فلا يكون غيره مشروعا فيه مستحقا ولا متصور الاداء شرعا.
ثم قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يستوي في هذا الحكم المسافر والمقيم، لان وجوب صوم الشهر يثبت بشهود الشهر في حق المسافر ولهذا صح الاداء، إلا أن الشرع مكنه من الترخص بالفطر لدفع المشقة عنه، فإذا ترك الترخص كان هو والمقيم سواء فيكون صومه عن فرض رمضان فتلغو نيته لتطوع أو لواجب آخر.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا نوى المسافر واجبا آخر صح صومه عما نوى، لان انتفاء صوم آخر في هذا الزمان ليس من حكم الوجوب واستحقاق الاداء بمنافعه فذلك موجود فيما كان الوقت ظرفا له، بل هو من حكم تعينه مستحقا للاداء فيه ولا تعين في حق المسافر فهو مخير بين الاداء أو التأخير إلى عدة من أيام أخر، فلا تنفي صحة أداء صوم آخر منه بهذا الامساك، ولان الوجوب وإن ثبت في حقه ولكن الترخص بتأخير أداء الواجب ثابت في حقه أيضا وهو ما ترك الترخص حين

ما صرف الامساك إلى ما هو دين في ذمته فإن ذلك أهم عنده، وإذا كان هو بالفطر مترخصا لان فيه رفقا ببدنه فلان يكون في صرفه إلى واجب آخر مترخصا لانه نظر منه لدينه كان أولى، وعلى الطريق الاول إذا نوى النفل كان صائما عن النفل، وعلى الطريق الثاني يكون صائما عن الفرض لانه في نية النفل لا يكون مترخصا بالصرف إلى ما هو الاهم، وفيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله.
فأما المريض إذا صام كان صومه عن صوم رمضان وإن نوى عن واجب آخر أو نوى النفل،
لان الرخصة في حق المريض إنما تثبت إذا تحقق عجزه عن أداء الصوم، وإذا صام فقد انعدم دليل سبب الرخصة في حقه فكان هو كالصحيح، وأما الرخصة في حق المسافر، باعتبار سبب ظاهر قام مقام العذر الباطن وهو السفر، وذلك لا ينعدم بفعل الصوم فيبقى له حق الترخص وهو في نيته واجبا آخر مترخص كما بيناه.
وقال زفر رحمه الله: ولما تعين صوم الفرض مشروعا في هذا الزمان وركن الصوم هو الامساك فالذي يتصور فيه من الامساك مستحق الصرف إليه فلا يتوقف الصحة على عزيمة منه، بل على أي وجه أتى به يكون من المستحق، كمن استأجر خياطا ليخيط له ثوبا بعينه بيده فسواء خاطه على قصده الاعانة أو غيره يكون من الوجه المستحق، ومن عليه الزكاة في نصاب بعينه إذا وهبه للفقير يكون مؤديا للزكاة وإن لم ينو لهذا المعنى.
ولكنا نقول مع تعين الصوم مشروعا منافعه التي توجد في الوقت باقية حقا له وهو مأمور بأن يؤدي بما هو حقه ما هو مستحق عليه من العبادة، وذلك بأداء يكون منه على اختيار فلا يتحقق ذلك بدون العزيمة، لانه ما لم يعزم على الصوم لا يكون صارفا ماله إلى ما هو مستحق عليه فإن عدم العزم ليس بشئ، وإنما لا يتحقق منه صرف منافعه إلى أداء صوم آخر لانه غير مشروع في هذا الوقت، كما لا يتحقق منه أداء صوم بالليل لانه غير مشروع فيه، بخلاف الاجير ففي أجير الواحد المستحق منافعه بعينه وفي الاجير المشترك المستحق هو الوصف

الذي يحدث في الثوب بعمله وذلك لا يتوقف على عزم يكون منه، وبخلاف الزكاة فالمستحق صرف جزء من المال إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى وقد تحقق ذلك، فالهبة صارت عبارة عن الصدقة في حقه مجازا، لان المبتغى بها وجه الله تعالى دون العوض من المصروف إليه.
وقال الشافعي: لا يتحقق صرف ماله إلى ما هو مشروع في الوقت مستحقا ما لم يعينه
في عزيمته، لان معنى القربة معتبر في الصفة كما هو معتبر في الاصل، فكما تشترط عزيمته في أداء أصل الصوم ليتحقق معنى العبادة يشترط ذلك في وصفه ليكون له اختيار في الصفة كما في الاصل، ومن قال بنية النفل يصير مصيبا للمشروع فقد أبعد، لانه لو اعتقد هذه الصفة في المشروع في هذا الوقت كفر بربه فكيف يصير بهذه العزيمة مصيبا للمشروع ؟ ولكنا نقول: لما كان المشروع في هذا الوقت من الصوم الذي يتصور أداؤه منه واحدا عينا كان هو بالقصد إلى الصوم مصيبا له، فالواحد المعين في زمان أو مكان يصاب باسم جنسه كما يصاب باسم نوعه، وكان هذا في الحقيقة منا قولا بموجب العلة أن تعيين المستحق في العزيمة لا بد منه، ولكن هذا التعيين يحصل بنية الصوم، لا أن نقول التعيين غير معتبر ولكن لا يشترط عزيمته في الوصف مقصودا، لان بعد وجود أصل الصوم منه في هذا الزمان لا اختيار له في صفته، ولهذا لا يتصور أداؤه بصفة أخرى شرعا، فأما إذا نوى النفل فهذا الوصف من نيته لغو، لان النفل غير مشروع فيه كما تلغو نية أداء الصوم في الليل لانه غير مشروع فيه، وكما تلغو نية الفرض خارج رمضان ممن لا فرض عليه، وإنما يعتبر من نيته عزيمة أصل الصوم وهو مأمور بأن يعتقد في صوم المشروع أنه صوم، فبه يكون مصيبا للمشروع، وعلى هذا نقول فيمن نذر الصوم في وقت بعينه خارج رمضان إنه يتأدى منه بمطلق النية ونية النفل، لان المشروع في الوقت قبل نذره عين وهو النفل وقد جعل له الشرع ولاية جعل المشروع واجبا بنذره، فبمطلق النية يكون مصيبا للمشروع وهو المنذور بعينه، ونية النفل منه بعد النذر لغو،

لانه لما صار واجبا بنذره لم يبق نفلا في حقه، فأما إذا نوى واجبا آخر كان عن ذلك الواجب، لان المشروع في الوقت قبل نذره كان صالحا لاداء واجب آخر به إذا صرفه إليه بعزمه، وتلك الصلاحية لا تنعدم بنذره، لان تصرف الناذر صحيح في محل
حقه، وذلك في جعل ما كان مشروعا له نفلا واجبا بنذره، فأما نفي الصلاحية فليس من حقه في شئ فلا يعتبر تصرفه فيه، وإذا بقيت الصلاحية تأدي الواجب الآخر به عند عزمه بخلاف شهر رمضان فقد انتفى فيه صلاحية الامساك لاداء صوم آخر سوى الفرض شرعا فتلغو نيته لواجب آخر كما تلغو نية النفل.
وقال الشافعي: صرف الامساك الذي يتصور منه في نهار رمضان إلى صوم الفرض مستحق عليه من أول النهار إلى آخره ولا يتحقق هذا الصرف إلا بعزيمته، فإذا انعدمت العزيمة في أول النهار لم يكن ذلك الجزء مصروفا إلى الصوم، وهو بالعزيمة بعد ذلك إنما يكون صارفا لما بقي لا لما مضى، والصوم منه لا يتحقق فيما مضى، ولهذا لو نوى بعد الزوال لا يصح، ولا صحة لما بقي بدون ما مضى، ألا ترى أن الاهلية لاداء الفرائض تشرط من أول النهار إلى آخره فرجحت المفسد على المصحح إذا انعدمت النية في أول النهار أخذا بالاحتياط في العبادة، بخلاف النفل فهو غير مقدر شرعا، وأداؤه موكول إلى نشاطه فيتأدى بقدر ما يؤديه، مع أن هناك لو رجحنا المفسد فاته الاداء لا إلى خلف فرجحنا المصحح لكيلا يفوته أصلا وههنا يفوته الاداء إلى خلف، وهذا بخلاف ما إذا قدم النية فإن ما تقدم منه من العزيمة يكون قائما حكما إذا جاء وقت الاداء، وفي هذا المعنى أوله وآخره سواء، فتقترن العزيمة بأداء الكل حكما، ألا ترى أن صوم

القضاء به يتأدى ولا يتأدى بالعزيمة قبل الزوال ؟ ولكنا نقول ما يتأدى به هذا الصوم في حكم شئ واحد فإنه لا يحتمل التجزي في الاداء، وبالاتفاق لا يشترط اقتران النية بأداء جميعه، فإنه لو أغمي عليه بعد الشروع في الصوم يتأدى صومه، ولا يشترط اقترانه بأول حالة الاداء، فإنه لو قدم النية تأدى صومه وإن كان غافلا عنه عند ابتداء الاداء بالنوم، فأما أن يكون ابتداء حال الصوم في أنه يسقط اعتبار العزيمة
فيه بمنزلة الدوام في الصلاة أو يكون حال الابتداء معتبرا بحال الدوام وكان ذلك لدفع الحرج، فوقت الشروع في الاداء ههنا مشتبه بحرج المرء في الانتباه في ذلك الوقت، ثم لا يندفع هذا الحرج بجواز تقديم النية في جنس الصائمين، ففيهم صبي يبلغ ومجنون يفيق في آخر الليل، وفي يوم الشك هو ممنوع من نية الفرض قبل أن يتبين، ونية النفل عنده لا تتأدى إذا تبين، وإذا بقي معنى الحرج قلنا: لما صح الاداء بنية متقدمة وإن لم تقارن حالة الشروع ولا حالة الاداء فلان تصح بنية متأخرة لاقترانها بما هو ركن الاداء كان أولى.
وتبين بهذا أن الموجود من الامساك في أول النهار لم يتعين للفطر، لانه بقي متمكنا من جعل الباقي صوما بعزيمته، والواحد الذي لا يتجزى في حكم لا ينفصل بعضه من بعض، فمن ضرورة بقاء الامكان فيما بقي بقاؤه فيما مضى حكما بأن تستند العزيمة إليه لتوقف الامساك عليه ولكن هذا إذا وجدت العزيمة في أكثر الركن، لان الاكثر بمنزلة الكمال من وجه، فكما أنه ما بقي الامكان في صرف جميع الركن إلى ما هو المستحق بعزيمته يبقى حكم صحة الاداء، فكذلك إذا بقي الامكان في صرف أكثر الركن إلى ما هو المستحق عليه بعزيمته، لان الكل من وجه يجوز إقامته مقام الكل من جميع الوجوه حكما، وفيه أداء العبادة في وقتها فيكون

المصير إليه أولى من المصير إلى التفويت لانعدام صفة الكمال من جميع الوجوه، وهذا الترجيح أولى من الترجيح بصفة العبادة، فهي حالة تبتنى على وجود الاصل، والترجيح بإيجاد أصل الشئ أولى بالمصير إليه من الترجيح بالصفة، والصفة تتبع الاصل ولا يتبع الاصل الصفة، وعلى هذا نقول في المنذور في وقت بعينه إنه يتأدى بمثل هذه العزيمة، لانه بهذه العزيمة يكون مؤديا للمشروع قبل نذره، والمشروع في الوقت بعد نذره على ما كان عليه من قبل فيصير مؤديا له بهذه العزيمة أيضا
وفي أدائه وفاء بالمنذور، وكذلك في صوم القضاء يصير مؤديا للمشروع في الوقت بهذه العزيمة وهو النفل.
وأما القضاء فهو مستحق في ذمته لا اتصال له بالوقت قبل أن يعزم على صرف المشروع في الوقت إليه فلم يتوقف إمساكه في أول النهار عليه ولم يزل تمكنه من أداء ما في ذمته بعزيمة تقترن بالجميع من كل وجه، ولهذا لا نصير إلى اعتبار الكل من وجه واحد فيه، ولهذا شرطنا الاهلية في جميع النهار لان مع انعدام الاهلية في أول النهار لا يثبت استحقاق الاداء، والمصير إلى طلب الكمال من وجه لتقرر استحقاق الاداء، فإذا لم توجد تلك الاهلية في أول النهار لم نشتغل بطلب الكمال من وجه، ألا ترى أنه يشترط وجود الاهلية للعبادة عند النية وإن سبقت وقت الاداء ولم يدل ذلك على اشتراط اقتران النية بركن الاداء ؟ وعلى هذا الاصل قلنا في صوم النفل إنه لا يتأدى بدون العزيمة قبل الزوال، لان الركن الذي به يتأدى الصوم كما لا يتجزى وجوبا لا يتجزى وجودا ولا يتصور الاداء إلا بكماله، وصفة الكمال لا تثبت بالنية بعد الزوال حقيقة ولا حكما، وتثبت بالنية قبل الزوال حكما باعتبار إقامة الاكثر مقام الكل، ولم يرد على ما قلنا الامساك الذي يندب إليه المرء في يوم الاضحى إلى أن يفرغ من الصلاة فإن ذلك ليس بصوم، وإنما ندب إليه ليكون أول ما يتناوله في هذا اليوم من القربان والناس أضياف الله تعالى يتناول

القربان في هذا اليوم وإلا حسن أن يكون أول ما يتناول منه الضيف طعام الضيافة، ولهذا ثبت هذا الحكم في حق أهل الامصار دون أهل السواد فلهم حق التضحية بعد طلوع الفجر، وليس لاهل المصر أن يضحوا إلا بعد الصلاة.
ومن هذا الجنس صوم الكفارة والقضاء، فالوقت معيار له على معنى أن مقداره يعرف به ولكنه ليس بسبب لوجوبه، بخلاف صوم رمضان فالوقت هناك معيار وسبب الوجوب على ما نبينه في بابه، ولهذا لا يتحقق قضاء صوم يومين في يوم
واحد، وأداء كفارتين بالصوم في شهرين، لان الوقت معيار بمنزلة الكيل للمكيل فكما لا يتحقق قفيزان في قفيز واحد في حالة واحدة، لا يتحقق صوم يومين في يوم واحد.
ومن حكم هذا النوع أنه لا يتأدى بدون العزيمة منه على الاداء في جميع الوقت وأنه لا يتحقق الفوات فيه ما بقي حيا، وقد قررنا هذا فيما سبق.
وأما القسم الثالث، وهو المشكل فوقت الحج، وبيان الاشكال فيه أن الحج عبادة تتأدى بأركان معلومة، ولا يستغرق الاداء جميع الوقت، فمن هذا الوجه (يشبه الصلاة ولا يتصور من الاداء في الوقت في سنة واحدة إلا حجة واحدة فمن هذا الوجه) يشبه الصوم الذي يكون الوقت معيارا له وفي وقته اشتباه أيضا، فالحج فرض العمر ووقته أشهر الحج من سنة من سني العمر، وأشهر الحج من السنة الاولى تتعين على وجه لا تفضل عن الاداء، وباعتبار أشهر الحج من السنين التي يأتيها الوقت تفضل عن الاداء، وكون ذلك من عمره محتمل في نفسه فكان مشتبها، ثم يترتب على ما قلنا حكمان: صحة الاداء باعتبار الوقت، ووجوب التعجيل بكون الوقت متعينا، وفي أحد الحكمين اتفاق حتى إنه يكون مؤديا في أي سنة أداه للتيقن بكون ذلك من عمره ولاتساع الوقت بإدراكه، وفي الحكم الثاني اختلاف، فعند أبي يوسف رحمه الله الوقت متعين قبل إدراك السنة الثانية فلا يسعه التأخير، وعند محمد رحمه الله الوقت غير متعين ما بقي حيا فيسعه التأخير بشرط أن لا يفوته.

ومن حكمه أنه بعدما لزمه الاداء بالتمكن منه يصير مفوتا بالموت قبل الاداء حتى يؤمر بالوصية بأن يحج عنه، بخلاف الصلاة فإن هناك بعد التمكن من الاداء لا يصير مفوتا إذا مات في الوقت قبل الاداء، لان الوقت هنا مقدر بعمره فبموته يتحقق مضي الوقت وقد تمكن من الاداء فإذا أخر حتى مضي الوقت كان مفوتا،
وهناك الوقت مقدر بزمان لا ينتهي ذلك بموته فلا يكون هو مفوتا بتأخير الاداء وإن مات لبقاء الوقت فلهذا لا يلزمه شئ، ويكون آثما هنا إذا مات بعد التمكن بتأخير الاداء.
أما عند أبي يوسف رحمه الله فلان وقت الاداء كان متعينا فالتأخير عنه كان تفويتا، وعند محمد رحمه الله إباحة التأخير له كان مقيدا بشرط وهو أن يؤديه في عمره، فإذا انعدم هذا الشرط كان آثما في التأخير، لانه تبين بموته أن الوقت كان عينا وأن التأخير ما كان يسعه بعد التمكن من الاداء.
ومن حكمه أنه لا يتأدى الفرض بنية النفل.
أما عند محمد رحمه الله فلان وقت الاداء من عمره متسع يفضل عن الاداء فهو كوقت الصلاة، وعند أبي يوسف رحمه الله وقت الاداء وإن كان متعينا فالاداء يكون بأركان معلومة فيكون بمنزلة الصلاة بعد ما تضيق الوقت بها، ثم وقت أداء النفل ووقت أداء الفرض في الحج غير مختلف فتصح منه العزيمة على أداء النفل فيه وبه تنعدم العزيمة على أداء الفرض، وبدون العزيمة لا يتأدى، بخلاف الصوم فلا تصور لاداء النفل هناك في الوقت المعين لاداء الفرض، فتلغو نية النفل هناك ويكون مؤديا للفرض بعزيمة أصل النية.
وقال الشافعي: أنا الغي نيته النفل منه أيضا لانه نوع سفه، فالحج لا يتأدى إلا بتحمل المشقة وقطع المسافة، ولهذا لم يجب في العمر إلا مرة، فنية النفل قبل أداء الفرض تكون سفها والسفيه عندي محجور عليه فتلغو نية النفل بهذا الطريق ولكن بإلغاء نية النفل لا ينعدم أصل نيته الحج لان الصفة تنفصل عن الاصل في هذه العبادة، ألا ترى أن بانعدام صفة الصحة لا ينعدم أصل الاحرام، بخلاف الصوم فالصفة هناك لا تنفصل عن الاصل، ألا ترى أن بانعدام صفة الصحة ينعدم أصل الصوم مع أن الحج قد يتأدى من غير عزيمة كالمغمى عليه يحرم عنه أصحابه فيصير هو محرما،

والرجل يحرم عن أبويه فيصح وإن لم توجد العزيمة منهما.
ولكنا نقول: الواجب
عليه أداء ما هو عبادة والمؤدى يكون عبادة وقد بينا أن هذا الوصف لا يتحقق بدون اختيار يكون منه بالعزم على الاداء، وإعراضه عن أداء الفرض بالعزم على أداء النفل يكون أبلغ من إعراضه عن أداء الفرض بترك أصل العزيمة، وفي إثبات الحجر بالطريق الذي قاله انتفاء اختياره وجعله مجبورا فيه وهذا ينافي أداء العبادة فيعود هذا القول على موضوعه بالنقض، وأما الاحرام فعندنا شرط الاداء بمنزلة الطهارة للصلاة، ولهذا جوزنا تقديمه على وقت الحج، أو أقمنا هناك دلالة الاستعانة مقام حقيقة الاستعانة عند الحاجة استحسانا، فيصير العزم به على أداء الفرض موجودا حكما، وهذا المعنى ينعدم عند العزم على النفل.
ومن حكمه أنه يتأدى بمطلق نية الحج لا باعتبار أنه يسقط اشتراط نية التعين فيه فإن الوقت لما كان قابلا لاداء الفرض والنفل فيه لا بد من تعيين الفرض ليصير مؤدى، ولكن هذا التعيين ثبت بدلالة الحال فإن الانسان في العادة لا يتحمل المشقة العظيمة ثم يشتغل بأداء حجة أخرى قبل أداء حجة الاسلام، ودلالة العرف يحصل التعيين بها ولكن إذا لم يصرح بغيرها، فأما مع التصريح يسقط اعتبار العرف، كمن اشترى بدراهم مطلقة يتعين نقد البلد بدلالة العرف، فإن صرح باشتراط نقد آخر عند الشراء سقط اعتبار ذلك العرف وينعقد العقد بما صرح به.
فصل: في بيان حكم الواجب بالامر وذلك نوعان: أداء، وقضاء.
فالاداء تسليم عين الواجب بسببه إلى مستحقه، قال الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) وقال عليه السلام: أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك والقضاء إسقاط الواجب بمثل من عند المأمور هو حقه، قال عليه السلام: خيركم أحسنكم قضاء.
وقال: رحم الله امرأ سهل البيع والشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء ويتبين هذا في المغصوب

رد الغاصب عينه تسليم نفس الواجب عليه بالغصب، ورد المثل بعد هلاك العين إسقاط الواجب بمثل من عنده، فيسمى الاول أداء والثاني قضاء لحقه، وقد يدخل النفل في قسم الاداء على قول من يقول مقتضى الامر الندب أو الاباحة، لانه يسلم عين ما ندب إلى تسليمه، ولا يدخل في قسم القضاء، لانه إسقاط الواجب بمثل من عنده ولا وجوب هناك، وقد تستعمل عبارة القضاء في الاداء مجازا لما فيه من إسقاط الواجب، قال الله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم) وقال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة) وقد تستعمل عبارة الاداء في القضاء مجازا لما فيه من التسليم إلا أن حقيقة كل عبارة ما فسرناها به، ففي الاداء معنى الاستقصاء وشدة الرعاية في الخروج عما لزمه وذلك بتسليم عين الواجب، وليس في القضاء من معنى الاستقصاء وشدة الرعاية شئ، بل فيه إشارة إلى معنى التقصير من المأمور وذلك بإقامة مثل من عنده مقام المأمور به بعد فواته.
واختلف مشايخنا في أن وجوب القضاء بالسبب الذي وجب به الاداء أم بدليل آخر غير الامر الذي به وجب الاداء ؟ (فالعراقيون يقولون وجوب القضاء بدليل آخر غير الامر الذي به وجب الاداء) لان الواجب بالامر أداء العبادة ولا مدخل للرأي في معرفة العبادة، فإذا كان نص الامر مقيدا بوقت كان عبادة في ذلك الوقت، ومعنى العبادة إنما يتحقق في امتثال الامر، وفي المقيد بالوقت لا تصور لذلك بعد فوات الوقت، عرفنا أن الوجوب بدليل مبتدأ وهو قوله تعالى في الصوم (فعدة من أيام أخر) وقوله عليه السلام في الصلاة: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها يوضحه أن الاداء بفعل من المأمور والفعل الذي يوجد منه في وقت غير الفعل الذي يوجد منه في وقت آخر فإذا كان الامر مقيدا بوقت لا يتناول فعل الاداء في وقت آخر، كمن استأجر أجيرا في وقت معلوم لعمل فمضي ذلك الوقت لا يلزمه تسليم النفس لاقامة العمل بحكم ذلك العقد، وهذا لان في التنصيص على التوقيت إظهار فضيلة

الوقت وذلك لا يحصل بالاداء بعد مضي الوقت، فعرفنا أنه إن فات بمضي الوقت
فإنما يفوت على وجه لا يمكن تداركه، فلا يجب القضاء إلا بدليل آخر.
وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن القضاء يجب بالسبب الذي به وجب الاداء عند فواته وهو الاصح، فإن الشرع لما نص على القضاء في الصلاة والصوم كان المعنى فيه معقولا وهو أن مثل المأمور به في الوقت مشروع حقا للمأمور بعد خروج الوقت، وخروج الوقت قبل الاداء لا يكون مسقطا لاداء الواجب في الوقت بعينه بل باعتبار الفوات فيتقدر بقدر ما يتحقق فيه الفوات وهو فضيلة الوقت، فلا يبقى ذلك مضمونا عليه بعد مضي الوقت إلا في حق الاثم إذا تعمد التفويت، فأما في أصل العبادة التفويت لا يتحقق بمضي الوقت لكون مثله مشروعا فيه للعبد متصور الوجود منه حقيقة وحكما، وما يكون سقوطه للعجز بسبب الفوات يتقدر بقدر ما يتحقق فيه الفوات فيبقى هو مطالبا بإقامة المثل من عنده مقام نفس الواجب بالامر وهو الاداء في الوقت، وإذا عقل هذا المعنى في المنصوص عليه تعدى به الحكم إلى الفرع وهي الواجبات بالنذر الموقت من الصوم والصلاة والاعتكاف، وهذا أشبه بأصول علمائنا رحمهم الله فإنهم قالوا: لو أن قوما فاتتهم صلاة من صلوات الليل فقضوها بالنهار بالجماعة جهر إمامهم بالقراءة، ولو فاتتهم صلاة من صلوات النهار فقضوها بالليل لم يجهر إمامهم بالقراءة، ومن فاتته صلاة في السفر فقضاها بعد الاقامة صلى ركعتين، ولو فاتته حين كان مقيما فقضاها في السفر صلى أربعا، وهذا لان الاداء صار مستحقا بالامر في الوقت، ونحن نعلم أنه ليس المقصود عين الوقت، فمعنى العبادة في كونه عملا بخلاف هوى النفس، أو في كونه تعظيما لله تعالى وثناء عليه، وهذا لا يختلف باختلاف الاوقات، وبعدما صار مضمون التسليم لا يسقط ذلك عنه بترك الامتثال بل يتقرر به حكم الضمان إلا أن بقدر ما يتحقق العجز عن أدائه بالمثل الذي هو قائم مقامه يسقط ضرورة وما وراء ذلك يبقى، ولهذا قلنا: من فاتته صلاة من أيام التكبير فقضاها بعد أيام التكبير لم يكبر عقيبها، لان الجهر بالتكبير دبر الصلاة غير مشروع
للعبد في غير أيام التكبير بل هو منهي عنه لكونه بدعة، فبمضي الوقت يتحقق الفوات فيه فيسقط، أصل الصلاة مشروع له بعد أيام التكبير فيبقى الواجب

باعتباره، وكذلك من فاتته الجمعة لم يقضها بعد مضي الوقت، لان إقامة الخطبة مقام ركعتين غير مشروع للعبد في غير ذلك الوقت، فبمضي الوقت يتحقق العجز فيه وتلزمه صلاة الظهر، لان مثله مشروع للعبد بعد مضي الوقت.
ومن نصر القول الاول استدل بما ذكره محمد رحمه الله في الجامع أن من نذر أن يعتكف شهر رمضان فصام ولم يعتكف ثم قضى اعتكافه في الرمضان الثاني لا يجزيه عن المنذور، ولو كان وجوب القضاء بما وجب به الاداء وهو الامر بالوفاء بالنذر لجاز، لان الثاني مثل الاول في كون الصوم مشروعا فيه مستحقا عليه وصحة أداء الاعتكاف به، فعرفنا أنه إنما لم يجز لان وجوب القضاء بدليل آخر وهو تفويت الواجب في الوقت عند مضيه على وجه هو مقدور فيه، وهذا السبب يوجب الاعتكاف دينا في ذمته فيلتحق باعتكاف يجب بالنذر مطلقا عن الوقت، فلا يتأدى بالاعتكاف في رمضان.
ولكنا نقول: أصل النذر أوجب عليه الاعتكاف، ولوجوب الاعتكاف أثر في وجوب الصوم باعتبار أنه شرط فيه وشرط الشئ تابع له فموجب الاصل يكون موجبا لتبعه إلا أنه امتنع وجوب الصوم به لعارض على شرف الزوال وهو اتصاله بوقت لا يجوز أن يجب الصوم فيه بإيجاب من العبد، فبمضي الوقت قبل أن يعتكف زال هذا الاتصال وتحقق وجوب الصوم لوجوب الاعتكاف في ذمته، ثم الصوم الواجب في الذمة لا يتأدى بصوم رمضان، وإنما لم يجب عليه الصوم لاتصال حكم الاداء بصوم رمضان وقد انقطع ذلك حين صام في الرمضان الاول ولم يعتكف حتى إنه لو لم يصم ولم يعتكف ثم اعتكف في قضاء الصوم خرج عن عهدة المنذور لبقاء الاتصال حين لم يصم في رمضان، وإن تحقق مضي الوقت، وبهذا تبين فساد ما ذهبوا إليه لان وجوب
القضاء لو كان بدليل آخر كان سببا آخر، والنذر بالاعتكاف ما كان متصلا به فلا يتأدى باعتباره كما لا يتأدى في الرمضان الثاني وإن صامه، يقرره أن امتناع وجوب الصوم عليه بالنذر لمعنى شرف الوقت المضاف إليه النذر، وقد بينا أن شرف الوقت يفوت بمضيه على وجه لا يمكن تداركه، فبفواته ينعدم ما كان متعلقا به وهو امتناع

وجوب الصوم بالنذر بالاعتكاف، حتى قال أبو يوسف رحمه الله في رواية: يبطل نذره لانه يبقى اعتكافا بغير صوم وذلك لا يكون واجبا.
وقلنا يجب الصوم لوجوب الاعتكاف لان بانعدام التبع لا ينعدم الاصل، وبوجوب الاصل يجب التبع عند زوال المانع.
قال رضي الله عنه: واعلم بأن الاداء في الامر الموقت يكون في الوقت، وفي غير الموقت يكون الاداء في العمر، لان جميع العمر فيه بمنزلة الوقت فيما هو موقت، وهو أنواع ثلاثة: كامل، وقاصر، وأداء يشبه القضاء حكما.
فالكامل هو الاداء المشروع بصفته كما أمر به، والقاصر بأن يتمكن نقصان في صفته، وذلك مثل الصلاة المكتوبة بالجماعة فهي أداء محض، أو الاداء من المنفرد يكون قاصرا لنقصان في صفة الاداء فإنه مأمور بالاداء بالجماعة، ولهذا لا يكون الجهر بالقراءة عزيمة في حق المنفرد في صلاة الليل، لان ذلك من شبه الاداء المحض، ومن اقتدى بالامام من أول الصلاة وأداها معه كان ذلك أداء محضا، ولو اقتدى به في القعدة الاخيرة ثم قام وأدى الصلاة كان ذلك أداء قاصرا، لانه يؤديها في الوقت ولكنه منفرد فيما يؤدي، لان اقتداءه بالامام فيما فرغ الامام من أدائه لا يتحقق فكان منفردا في الاداء وإن كان مقتديا في التحريمة لانه أدركها مع الامام، ولهذا لا يصح اقتداء الغير به وتلزمه القراءة وسجود السهو لو سها لكونه منفردا وأداء المنفرد قاصر ولهذا لا يجهر بالقراءة.
ولو اقتدى بالامام في أول الصلاة ثم نام
خلفه حتى فرغ الامام أو سبقه الحدث فذهب وتوضأ ثم جاء بعد فراغ الامام فهو مؤد يشبه أداؤه القضاء في الحكم، لان باعتبار بقاء الوقت هو مؤد، وباعتبار أنه التزم أداء الصلاة مع الامام حين تحرم معه كان هو قاضيا لما فاته بفراغ الامام، ولهذا جعلناه في حكم المقتدي حتى لا تلزمه القراءة، ولو سها لا يلزمه سجود السهو، لان القضاء بصفة الاداء واجب بما وجب به الاداء فإن قيل هذا على العكس فصاحب الشرع جعل المسبوق قاضيا بقوله عليه السلام: وما فاتكم فاقضوا فكيف يستقيم جعل المسبوق مؤديا وجعل اللاحق قاضيا حكما ؟ قلنا: قد بينا أن استعمال

إحدى العبارتين مكان الاخرى مجازا جائز، وإنما سمي المسبوق قاضيا مجازا لما في فعله من إسقاط الواجب، أو سماه قاضيا باعتبار حال الامام، وإليه أشار في قوله: وما فاتكم فاقضوا ونحن إنما نجعله مؤديا أداء قاصرا باعتبار حاله، وعلى هذا الاصل قلنا لو أن مسافرا اقتدى بمسافر ونام خلفه ثم استيقظ ونوى الاقامة وهو في موضع الاقامة أو سبقه الحدث فرجع إلى مصره وتوضأ، فإن كان ذلك قبل فراغ الامام من صلاته صلى أربع ركعات، وإن كان بعد فراغه صلى ركعتين إلا أن يتكلم فحينئذ يصلي أربعا، لانه بمنزلة القاضي في الاتمام حكما، ووجوب القضاء بالسبب الذي به وجب الاداء فلا يتغير إلا بما يتغير به الاصل، وقبل فراغ الامام نية الاقامة (ودخول موضع الاقامة) مغير للفرض في حق الاصل وهو الامام، فيكون مغيرا في حق من يقضي ذلك الاصل، وبعد الفراغ نية الاقامة ودخول المصر غير مغير للفرض في حق الاصل، فكذلك لا يغير في حق من يقضي ذلك الاصل إلا أن يتكلم فحينئذ ينعدم معنى القضاء لخروجه بالكلام من تحريمة المشاركة وهو المؤدي لبقاء الوقت فيتغير فرضه بنية الاقامة، ولو كان مسبوقا صلى أربعا في الوجهين لانه مؤد إتمام صلاته أداء قاصرا، سواء تكلم أو لم يتكلم، فرغ الامام أو لم يفرغ، كانت نية الاقامة مغيرة للفرض لكونه
مؤديا باعتبار بقاء الوقت.
وأما القضاء فهو نوعان: بمثل معقول كما بينا، وبمثل غير معقول كالفدية في حق الشيخ الفاني مكان الصوم، وإحجاج الغير بماله عند فوات الاداء بنفسه لعجزه فإن ذلك ثابت بالنص، قال الله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) : أي لا يطيقونه، هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي الحج حديث الخثعمية حيث قالت: يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه ؟ فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك ؟ فقالت: نعم، فقال عليه السلام: الله أحق أن يقبل ثم لا مماثلة بين الصوم وبين الفدية صورة ولا معنى،

وكذلك لا مماثلة بين دفع المال إلى من ينفق على نفسه في طريق الحج وبين مباشرة أداء الحج وسقوط الواجب عن المأمور باعتبار ذلك، فأما أصل الاعمال يكون من الحاج دون المحجوج عنه فهو قضاء بمثل غير معقول وما يكون بهذه الصفة لا يتأتى تعدية الحكم فيه إلى الفروع فيقتصر على مورد النص، ولهذا قلنا: إن النقصان الذي يتمكن في الصلاة بترك الاعتدال في الاركان لا يضمن بشئ سوى الاثم، لانه ليس لذلك الوصف منفردا عن الاصل مثل صورة ولا معنى، ولذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيمن له مائتا درهم جياد فأدى زكاتها خمسة زيوفا: لا يلزمه شئ آخر لانه ليس لصفة الجودة التي تحقق فيها الفوات مثل صورة ولا معنى من حيث القيمة، فإنها لا تتقوم شرعا عند المقابلة بجنسها.
وقال محمد رحمه الله: يلزمه أداء الفضل احتياطا، لان سقوط قيمة الجودة في حكم الربا للحاجة إلى جعل الاموال أمثالا متساوية قطعا، ومعنى الربا لا يتحقق فيما وجب عليه أداؤه لله تعالى بمثله في صفة المالية حقيقة ويقوم مقامه في أداء الواجب به احتياطا، وعلى هذا نقول: رمي
الجمار يسقط بمضي الوقت لانه ليس له مثل معقول صورة ولا معنى فإنه لم يشرع قربة للعبد في غير ذلك الوقت.
فإن قيل: كيف يستقيم وقد أوجبتم الدم عليه باعتبار ترك رمي الجمار ؟ قلنا: إيجاب الدم عليه لا بطريق أنه مثل للرمي قائم مقامه، بل لانه جبر لنقصان تمكن في نسكه بترك الرمي، وجبر نقصان النسك بالدم معلوم بالنص، قال الله تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) .
فإن قيل: فقد جعلتم الفدية مشروعة مكان الصلاة بالقياس على الصوم ولو كان ذلك غير معقول المعنى لم يجز تعدية حكمه إلى الصلاة بالرأي ؟ قلنا لا نعدي ذلك الحكم

إلى الصلاة بالرأي، ولكن يحتمل أن يكون فيه معنى معقول وإن كنا لا نقف عليه والصلاة نظير الصوم في القوة أو أهم منه، ويحتمل أنه ليس فيه معنى معقول فإن ما لا نقف عليه لا يكون علينا العمل به، فلاحتمال الوجه الاول يفدي مكان الصلاة ولاحتمال الوجه الثاني لا يجب الفداء وإن فدى لم يكن به بأس فأمرناه بذلك احتياطا، لان التصدق بالطعام لا ينفك عن معنى القربة، وقال عليه السلام: أتبع السيئة الحسنة تمحها ولهذا لا نقول في الفدية عن الصلاة إنها جائزة قطعا ولكنا نرجو القبول من الله فضلا.
وقال محمد في الزيادات: يجزيه ذلك إن شاء الله، وكذلك قال في أداء الوارث عن المورث بغير أمره في الصوم: يجزيه إن شاء الله تعالى، وعلى هذا الاصل حكم الاضحية، فالتقرب بإراقة الدم عرف بنص غير معقول المعنى فيفوت بمضي الوقت، لان مثله غير مشروع قربة للعبد في غير ذلك الوقت.
فإن قيل: فعندكم يجب التصدق بالقيمة بعد مضي أيام النحر وما ذاك إلا باعتبار إقامة القيمة مقام ما يضحي به وقد أثبتم ذلك بالرأي ؟ قلنا: لا كذلك، ولكن يحتمل أن يكون المقصود بما هو الواجب في الوقت إيصال منفعة اللحم
إلى الفقراء إلا أن الشرع أمره بإراقة الدم لما فيها من تطييب اللحم وتحقيق معنى الضيافة فالناس أضياف الله تعالى بلحوم الاضاحي في هذه الايام، ويحتمل أن يكون المقصود إراقة الدم الذي هو نقصان للمالية عند محمد رحمه الله، وتفويت للمالية عند أبي يوسف رحمه الله، يتبين ذلك بالشاة الموهوبة إذا ضحى بها الموهوب له، فإن الواهب لا يرجع فيها عند أبي يوسف رحمه الله، وله أن يرجع فيها عند محمد رحمه الله، لانها نقصان محض إلا أن الاحتمال ساقط الاعتبار في مقابلة النص، ففي أيام النحر هو قادر على أداء المنصوص عليه بعينه فلا يصار إلى الاحتمال بإقامة القيمة مقامه، وبعد مضي أيام النحر قد تحقق العجز عن أداء المنصوص عليه، فجاء أوان اعتبار الاحتمال،

واحتمال الوجه الاول يلزمه التصدق بالقيمة، لان ذلك قربة مشروعة له في غير أيام النحر والمعنى فيه معقول والاخذ بالاحتياط في باب العبادات أصل، فلاعتبار هذا الاحتمال ألزمناه التصدق بالقيمة لا ليقوم ذلك مقام إراقة الدم، وعلى هذا الاصل قال أبو يوسف رحمه الله: من أدرك الامام في الركوع في صلاة العيد لا يأتي بالتكبيرات في الركوع لان محلها القيام وقد فات، ومثل الفائت غير مشروع له في حالة الركوع ليقيمه مقام ما عليه بطريق القضاء فيتحقق الفوات فيه.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: حال الركوع مشبه بحالة القيام لاستواء النصف الاسفل في الركوع، وبه يفارق القائم القاعد، فباعتبار هذا الشبه لا يتحقق الفوات، وتكبير الركوع محسوب من تكبيرات العيد وهو مؤدي في حالة الانتقال، فإذا كانت هذه الحالة محلا لبعض تكبيرات العيد نجعلها عند الحاجة محلا لجميع التكبيرات احتياطا، وعلى هذا لو ترك قراءة الفاتحة والسورة في الاوليين قضاها في الاخريين وجهر، لان محل أداء ركن القراءة القيام الذي هو ركن الصلاة، إلا أنه تعين القيام في الاوليين لذلك بدليل موجب للعمل وهو خبر الواحد، والقيام في الاخريين مثل القيام في الاوليين في كونه ركن
الصلاة، ولهذه المشابهة لا يتحقق الفوات ويقضي القراءة في الاخريين.
ولو قرأ الفاتحة في الاوليين ولم يقرأ السورة قضى السورة في الاخريين لاعتبار هذا الشبه أيضا، والقيام في الاخريين غير محل لقراءة السورة أداء وهو محل لقراءة السورة قضاء بالمعنى الذي بينا.
ولو قرأ السورة في الاوليين ولم يقرأ الفاتحة لم يقض الفاتحة في الاخريين لان القيام في الاخريين محل للفاتحة أداء، فلو قرأها على وجه القضاء كان مغيرا به ما هو مشروع في صلاته مع وجود حقيقة الاداء، وذلك ليس في ولاية العبد، فيتحقق فوات قراءة الفاتحة بتركها في الاوليين لا إلى خلف، فلا بد من القول بسقوطها عنه، إذ لا مثل لها صورة أو معنى ليقام مقامها.
وهذه الاقسام كلها تتحقق في حقوق العباد أيضا.
أما بيان الاداء المحض فهو في تسليم عين المغصوب إلى المغصوب منه على الوجه الذي غصبه، وتسليم عين المبيع إلى المشتري على الوجه الذي اقتضاه العقد، ويتفرع عليه ما لو باع الغاصب المغصوب

من المغصوب منه أو وهبه له وسلمه فإنه يكون أداء العين المستحق بسببه ويلغو ما صرح به، وكذلك لو أن المشتري شراء فاسدا باع المبيع من البائع بعد القبض أو وهبه وسلمه يكون أداء العين المستحق بسبب فساد البيع، وعلى هذا قلنا لو أطعم الغاصب المغصوب منه الطعام المغصوب أو ألبسه الثوب المغصوب وهو لا يعلم به فإنه يكون ذلك أداء للعين المستحق بالغصب، ويتأكد ذلك بإتلاف العين فلا يبقى بعد ذلك للمغصوب منه عليه شئ.
والشافعي أبى ذلك في أحد قوليه، لان أداء المستحق مأمور به شرعا والموجود منه غرور فلا يجعل ذلك أداء للمأمور، ولكن يجعل استعمالا منه للمغصوب منه في التناول، فكأنه تناول لنفسه فيتقرر عليه الضمان، وهذا ضعيف، فالغرور في إخباره أنه طعامه وأداء الواجب في وضع الطعام بين يديه وتمكينه منه وهما غيران، وبالقول إنما جاء الغرور بجهل المغصوب منه لا لنقصان
في تمكينه فلا يخرج به من أن يكون فعله أداء لما هو المستحق، كما لو اشترى عبدا ثم قال البائع للمشتري أعتق عبدي هذا وأشار إلى المبيع فأعتقه المشتري وهو لا يعلم به فإنه يكون قابضا وإن كان هو مغرورا بما أخبره البائع به ولكن قبضه بالاعتاق، وخبر البائع وجهل المشتري غير مؤثر في ذلك فبقي إعتاقه قبضا تاما.
ومن الاداء التام تسليم المسلم فيه وبدل الصرف فإن ذلك أداء المستحق بسببه حكما بطريق أن الاستبدال متعذر فيه شرعا قبل القبض، فيجعل كأن المقبوض عين ما تناوله العقد حكما وإن كان غيره في الحقيقة، لان العقد تناول الدين والمقبوض عين.
وأما الاداء القاصر وهو رد المغصوب مشغولا بالدين أو الجناية بسبب كان منه عند الغاصب، ومعنى القصور فيه أنه أداه لا على الوصف الذي استحق عليه أداؤه، فلوجود أصل الاداء قلنا إذا هلك في يد المالك قبل الدفع إلى ولي الجناية برئ الغاصب، ولقصور في الصفة قلنا إذا دفع إلى ولي الجناية أو بيع في الدين يرجع المالك على الغاصب بقيمته كأن الرد لم يوجد، فكذلك البائع إذا سلم المبيع وهو

مباح الدم، فهذا أداء قاصر، لانه سلمه على غير الوصف الذي هو مقتضى العقد، فإن هلك في يد المشتري لزمه الثمن لوجود أصل الاداء، وإن قتل بالسبب الذي صار مباح الدم رجع بجميع الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله، لان الاداء كان قاصرا فإذا تحقق الفوات بسبب يضاف إلى ما به صار الاداء قاصرا جعل كأن الاداء لم يوجد.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الاداء قاصر لعيب في المحل، فإن حل الدم في المملوك عيب، وقصور الاداء بسبب العيب يعتبر ما بقي المحل قائما، فأما إذا فات بسبب عيب حدث عند المشتري لم ينتقض به أصل الاداء وقد تلف هنا بقتل أحدثه القاتل عند المشتري باختياره، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال: استحقاق هذا
القتل كان بالسبب الذي به صار الاداء قاصرا فيحال بالتلف على أصل السبب.
ومن الاداء القاصر إيفاء بدل الصرف أو رأس مال السلم إذا كان زيوفا فإنه قاصر باعتبار أنه دون حقه في الصفة، ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: له أن يرد المقبوض في المجلس ويطالبه بالجياد، ولو هلك المقبوض في يده قبل أن يرده لم يرجع بشئ، لان باعتبار الاصل كان فعله أداء فما لم ينفسخ ذلك الفعل لا ينعدم معنى الاداء فيه، وبعد هلاكه تعذر فسخ الاداء في الهالك، ولا يمكن إيجاب مثله لان المقبوض ملك القابض فلا يكون مضمونا عليه، وصفة الجودة منفردة عن الاصل ليس لها مثل لا صورة ولا معنى في أموال الربا فسقط حقه.
وقال أبو يوسف رحمه الله: أستحسن أن يرد مثل المقبوض (لان حقه في الصفة مرعي وتتعذر رعايته منفصلا عن الاصل فيرد مثل المقبوض) حتى يقام ذلك مقام رد العين عند تعذر رد العين، وينعدم به أصل الاداء فيطالبه بالاداء المستحق بسببه.
قال: وهذا بخلاف الزكاة فيما قبض الفقير هناك لا يمكن أن يجعل مضمونا عليه، لانه في الحكم كأنه بقبضه كفاية له من الله تعالى لا من المعطي، وبدون رد المثل يتعذر اعتبار الجودة منفردة عن الاصل، ألا ترى أن المقبوض وإن كان قائما في يده لا يتمكن من رده ؟

ومن الاداء الذي هو بمنزلة القضاء حكما أن يتزوج امرأة على عبد لغيره بعينه ثم يشتري ذلك العبد فيسلمه إليها فإن ذلك يكون أداء للعين المستحق بسببه وهو التسمية في العقد، ولهذا لا يكون لها أن تمتنع من القبول، وهذا لان كون المسمى مملوكا لغير الزوج لا يمنع صحة التسمية وثبوت الاستحقاق بها على الزوج، ألا ترى أنه تلزمه القيمة إذا تعذر تسليم العين ؟ وما ذلك إلا لاستحقاق الاصل، غير أن هذا أداء هو في معنى القضاء حكما، فإن ما اشتراه الزوج قبل أن يسلم إليها مملوك له حتى لو تصرف فيه بالاعتاق ينفذ تصرفه، ولو أعتقته المرأة قبل التسليم إليها لا ينفد
عتقها، ولو كان أباها لم يعتق عليها، فهذا التسليم من الزوج أداء مال من عنده مكان ما استحق عليه، فمن هذا الوجه يشبه القضاء.
ولو قضى القاضي لها بالقيمة قبل أن يتملكه الزوج ثم تملكه فسلمه إليها لم يكن ذلك أداء مستحقا بالتسمية ولكن يكون مبادلة بالقيمة التي تقرر حقها فيه حتى إنها إذا لم ترض بذلك لا يكون للزوج أن يجبرها على القبول، بخلاف ما قبل القضاء لها بالقيمة.
وأما القضاء بمثل معقول فبيانه في ضمان الغصوب والمتلفات، فإن الغاصب يؤدي مالا من عنده وهو مثل لما كان مستحقا عليه بسبب الغصب، وهو نوعان: مثل صورة ومعنى كما في المكيل والموزون، ومثل معنى لا صورة، والمقصود جبران حق المتلف عليه، وفي المثل صورة ومعنى هذا المقصود أتم منه في المثل معنى، فلا يصار إلى المثل معنى لا صورة إلا عند الضرورة، كما لا يصار إلى المثل إلا عند تعذر رد العين، فلو أراد أداء القيمة مع وجود المثل في أيدي الناس كان للمغصوب منه أن يمتنع من قبوله، وإذا انقطع المثل من أيدي الناس فحينئذ تتحقق الضرورة في اعتبار المثل في معنى المالية وسقط اعتبار المثل صورة لتحقق فواته.
ثم قال محمد رحمه الله: تعتبر قيمته في آخر أوقات وجوده، لان الضرورة تتحقق عند انقطاعه من أيدي الناس.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: تعتبر وقت الخصومة، لان المثل قائم بالذمة حكما وأداء المثل بصورته موهوم بأن يصبر إلى أوانه، فإنما تتحقق الضرورة

عند المطالبة وذلك وقت قضاء القاضي.
وقال أبو يوسف رحمه الله: بالانقطاع يتحقق الفوات وذلك غير موجب للضمان إنما الموجب أصل الغصب فتعتبر قيمته وقت الغصب، وهذا لان القيمة خلف عن رد العين، ولهذا كان قضاء والخلف إنما يكون واجبا بالسبب الذي به كان الاصل واجبا، وفيما ليس له مثل صورة يجب قيمته وقت الغصب ويكون ذلك قضاء بالمثل معنى لما تعذر اعتبار المثل صورة، حتى إن فيما يتعذر
اعتبار المثل صورة ومعنى بتحقق الفوات غير موجب شيئا سوى الاثم، وذلك بأن يغصب زوجة إنسان أو ولده فإن الاداء مستحق عليه، ولو مات في يده لم يضمن شيئا لتحقق الفوات بانعدام المثل صورة ومعنى.
وعلى هذا الاصل قلنا: المنافع لا تضمن بالمال بطريق العدوان المحض، لان ضمان العدوان مقدر بالمثل نصا، ولا مماثلة بين العين والمنفعة صورة ولا معنى، لان من ضرورة كون الشئ مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له، ثم العين لا تضمن بالمنفعة بطريق العدوان قط، فعرفنا أنه لا مماثلة بينهما، وكذلك المنفعة لا تضمن بالمنفعة، فإن الحجر المبنية على تقطيع واحد وتؤاجر بأجرة واحدة لا تكون منفعة إحداهما مثلا لمنفعة الاخرى في ضمان العدوان مع وجود المشابهة صورة ومعنى في الظاهر فلان لا يضمن المنفعة بالعين ولا مشابهة بينهما صورة ولا معنى كان أولى، وانتفاء المشابهة صورة لا يخفى.
وأما المعنى فلان المنافع أعراض لا تبقى وقتين والعين تبقى، وبين ما يبقى وبين ما لا يبقى تفاوت عظيم في المعنى، وبهذا تبين أنه لا مالية في المنفعة حقيقة، لان المالية لا تسبق الوجود وبعد الوجود تثبت بالاحراز والتمول وذلك لا يتصور فيما لا يبقى وقتين، وبهذا تبين أيضا أن الاتلاف والغصب لا يتحقق في المنفعة، فإن المعدوم ليس بشئ فلا يتحقق فيه فعل هو غصب أو إتلاف، وكما يوجد يتلاشى، وفي حال تلاشيه لا يتصور فيه الغصب والاتلاف، إلا أن الشرع في حكم العقد جعل المعدوم حقيقة من المنفعة كالموجود، أو أقام العين المنتفع به مقام المنفعة للحاجة إلى ذلك، وهذه الحاجة إنما تتحقق في العقد

فيثبت هذا الحكم فيما يترتب على العقد من الضمان جائزا كان أو فاسدا، لان الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا بنفسه ليعرف حكمه من عينه فلا بد من أن يرد حكمه إلى الجائز، ثم ضمان العقد فاسدا كان أو جائزا يبتنى على التراضي لا على التساوي
نصا، والتراضي يتحقق مع انعدام المماثلة، فلهذا كان مضمونا بالعقد فاسدا كان أو جائزا، ووجوب الضمان يلزمه الخروج عنه بالاداء فيكون ذلك بحسب الامكان، يوضحه أن قوام الاعراض بالاعيان والعين يقوم بنفسه، ولا مماثلة بين ما يقوم بنفسه وبين ما يقوم بغيره، بل ما يقوم بنفسه أزيد في المعنى لا محالة، ولكن هذه الزيادة يسقط اعتبارها في ضمان العقد لوجود التراضي فاسدا كان العقد أو جائزا، ولا وجه لاسقاط اعتبار هذه الزيادة في ضمان العدوان، لان بظلم الغاصب لا تسقط حرمة ماله، فلو أوجبنا عليه هذه الزيادة أهدرناها في حقه، ولو لم نوجب الضمان لم يهدر حق المغصوب منه بل يتأخر إلى الآخرة، وضرر التأخير دون ضرر الاهدار، وإذا ألزمناه أداء الزيادة كان ذلك مضافا إلينا، وإذا لم نوجب الضمان لتعذر إيجاب المثل صورة ومعنى لا يكون سقوط حق المغصوب منه في حق أحكام الدنيا مضافا إلينا، بمنزلة من ضرب إنسانا ضربا لا أثر له أو شتمه شتيمة لا عقوبة بها في الدنيا.
وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قطع يد إنسان عمدا ثم قتله عمدا قبل البرء يتخير الولي، لان القطع ثم القتل مثل الاول صورة ومعنى، والقتل بدون القطع مثل معنى، فالرأي إلى الولي في ذلك.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: القتل بعد القطع قبل البرء تحقيق لموجب الفعل الاول والقتل به من الولي يكون مثلا كاملا فلا يصار إلى القطع.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا باعتبار المعنى فأما من حيث الصورة المثل الاول هو القطع ثم القتل، والقتل بعد القطع تارة يكون محققا لموجب الفعل الاول وتارة يكون ماحيا أثر الفعل الاول، حتى إذا كان القاتل غير القاطع كان القصاص في النفس على الثاني خاصة فلا يسقط اعتبار المماثلة صورة بهذا المعنى.
فأما القضاء بمثل غير معقول فهو ضمان المحترم المتقوم الذي ليس بمال بما هو مال

معنى ضمان النفس والاطراف بالمال في حالة الخطأ، فإنه ثابت بالنص من غير أن يعقل فيه المعنى، لانه لا مماثلة بين الآدمي والمال صورة ولا معنى، فالآدمي مالك للمال والمال مخلوق لاقامة مصالح الآدمي به، ثم الشرع أوجب الدية في القتل خطأ فما عقل من ذلك إلا معنى المنة على القاتل بتسليم نفسه له لعذر الخطأ، ومعنى المنة على المقتول لصيانة دمه عن الهدر وإيجاب مال يقضي به حوائجه أو حوائج ورثته الذين يخلفونه، ولهذا لا يوجبه مع إمكانه إيجاب المثل بصفته وهو القصاص، لانه هو المثل صورة ومعنى، فالمعنى المطلوب هو الحياة وفي القصاص حياة لا في المال، فإذا لم تكن هذه الحالة في معنى المنصوص عليه من كل وجه يتعذر إلحاقها به وإيجاب المال.
وعلى هذا الاصل لو قتل من عليه القصاص إنسان آخر لا يضمن لمن له القصاص شيئا، لان ملك القصاص الثابت له ليس بمال فلا يكون المال مثلا له لا صورة ولا معنى، وكذلك لو قتل زوجة إنسان لا يضمن للزوج شيئا باعتبار ما فوت عليه من ملك النكاح، لان ذلك ليس بمال فلا يكون المال مثلا له صورة ومعنى، وهذا لان ملك النكاح مشروع للسكن والنسل، والمال بذلة لاقامة المصالح فكيف يكون بينهما مماثلة ! وإذا تحقق انعدام المثل تحقق الفوات.
وعلى هذا الاصل قلنا شهود العفو عن القصاص إذا رجعوا لم يضمنوا شيئا، وكذلك المكره للولي على العفو بغير حق لا يضمن شيئا، لانه أتلف عليه ما ليس بمال متقوم ولا وجه لايجاب الضمان هنا صيانة لملكه في القصاص، فالعفو مندوب إليه شرعا وإهدار مثله لا يقبح.
وكذلك قلنا شهود الطلاق بعد الدخول إذا رجعوا لم يضمنوا للزوج شيئا، والمكره على الطلاق بعد الدخول كذلك، والمرأة إذا ارتدت لا تضمن للزوج شيئا، ولو جامعها ابن الزوج لا يضمن للزوج شيئا، لانه أتلف عليه ملك النكاح وذلك ليس بمال متقوم فلا يكون المال مثلا له صورة

ولا معنى، والصيانة هنا للمحل المملوك لا للملك الوارد عليه، ألا ترى أن إزالة هذا الملك بالطلاق صحيح من غير شهود وولي وعوض ؟ ولهذا قلنا إن البضع لا يتقوم عند الخروج من ملك الزوج وإن كان يتقوم عند الدخول في ملكه، لان معنى الخطر للمحل ووقت التملك وقت الاستيلاء على المحل بإثبات الملك فيكون متقوما لاظهار خطره، فأما وقت الخروج فهو وقت إطلاق المحل وإزالة الاستيلاء عنه فلا يظهر حكم التقوم فيه، ولا يدخل على ما قلنا شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا فإنهم يضمنون نصف الصداق للزوج، لانهم لا يضمنون شيئا من قيمة ما أتلفوا وهو البضع فقيمته مهر المثل، ولا يضمنون شيئا منه، ولكن سقوط المطالبة بتسليم البضع قبل الدخول يكون مسقطا للمطالبة بالعوض المسمى إذا لم يكن ذلك بسبب مضاف إلى الزوج، فهما بالاضافة إلى الزوج بشهادتهما على الطلاق كالملزمين له نصف الصداق حكما، أو كأنهما فوتا عليه يده في ذلك النصف بعد فوات تسليم البضع فيكونان بمنزلة الغاصبين في حقه.
ومن القضاء الذي هو في حكم الاداء ما إذا تزوج امرأة على عبد بغير عينه فأتاها بالقيمة أجبرت على القبول وكان ذلك قضاء بالمثل المسمى من عنده وهو في معنى الاداء، لان العبد المطلق معلوم الجنس مجهول الوصف، فباعتبار كونه معلوم الجنس يكون أداء للمسمى بتسليم العبد، ولهذا لو أتاها به أجبرت على القبول، ومن حيث إنه مجهول الوصف يتعذر عليها المطالبة بعين المسمى فيكون تسليم القيمة قضاء في حكم الاداء فتجبر على قبولها، بخلاف العبد إذا كان بعينه (أو المكيل أو الموزون إذا كان موصوفا أو معينا لان المسمى معلوم بعينه) ووصفه فتكون القيمة بمقابلته قضاء ليس في معنى الاداء، فلا تجبر على القبول إذا أتاها به إلا عند تحقق العجز عن تسليم ما هو المستحق كما في ضمان الغصب على ما قررنا، والله أعلم.

فصل: في بيان مقتضى الامر في صفة الحسن للمأمور به قال رضي الله عنه: اعلم أن مطلق مقتضى الامر كون المأمور به حسنا شرعا، وهذا الوصف غير ثابت للمأمور به بنفسه، فإنه أحد تصاريف الكلام فيتحقق في القبيح والحسن جميعا لغة كسائر التصريفات، ولا نقول إنه ثابت عقلا كما زعم بعض مشايخنا رحمهم الله، لان العقل بنفسه غير موجب عندنا.
وبيان كونه ثابتا شرعا أن الله تعالى لم يأمر بالفحشاء كما نص عليه في محكم تنزيله، والامر طلب إيجاد المأمور به بأبلغ الجهات، ولهذا كان مطلقة موجبا شرعا، والقبيح واجب الاعدام شرعا، فما هو واجب الايجاد شرعا تعرف صفة الحسن فيه شرعا.
ثم هو في صفة الحسن نوعان: حسن لمعنى في نفسه، وحسن لمعنى في غيره.
والنوع الاول قسمان: حسن لعينه لا يحتمل السقوط بحال، وحسن لعينه قد يحتمل السقوط في بعض الاحوال.
والقسم الثاني نوعان أيضا: حسن لمعنى في غيره وذلك مقصود في نفسه لا يحصل منه ما لاجله كان حسنا، وحسن لمعنى في غيره يتحقق بوجوده ما لاجله كان حسنا.
وأما النوع الاول من القسم الاول فهو الايمان بالله تعالى وصفاته، فإنه مأمور به، قال الله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله) وهو حسن لعينه، وركنه التصديق بالقلب والاقرار باللسان، فالتصديق لا يحتمل السقوط بحال، ومتى بدله بغيره فهو كفر منه على أي وجه بدله، والاقرار حسن لعينه وهو يحتمل السقوط في بعض الاحوال.
حتى إنه إذا بدله بغيره بعذر الاكراه لم يكن ذلك كفرا منه إذا كان مطمئن القلب بالايمان، وهذا لان اللسان ليس بمعدن التصديق ولكن يعبر اللسان عما في قلبه، فيكون دليل التصديق وجودا وعدما، فإذا بدله بغيره في وقت يكون متمكنا من إظهاره يكون كافرا وإذا زال تمكنه من الاظهار بالاكراه
لم يصر كافرا، لان سبب الخوف على نفسه دليل ظاهر على بقاء التصديق بالقلب، وأن الحامل له على هذا التبديل حاجته إلى دفع الهلاك عن نفسه لا تبديل الاعتقاد،

فأما في وقت التمكن تبديله دليل تبدل الاعتقاد فكان ركن الايمان وجودا وعدما، وإن كان دون التصديق بالقلب لاحتماله السقوط في بعض الاحوال.
ومن هذا النوع الصلاة، فإنها حسنة لانها تعظيم لله تعالى قولا وفعلا بجميع الجوارح، وهي تحتمل السقوط في بعض الاحوال فكانت في صفة الحسن نظير الاقرار ولكنها ليست بركن الايمان في جميع الاحوال، فالاقرار دليل التصديق وجودا وعدما والصلاة لا تكون دليل التصديق وجودا وعدما، وقد تدل على ذلك إذا أتى بها على هيئة مخصوصة، ولهذا قلنا إذا صلى الكافر بجماعة المسلمين يحكم بإسلامه.
ومما يشبه هذا النوع معنى: الزكاة والصوم والحج.
فالزكاة حسنة لما فيها من إيصال الكفاية إلى الفقير المحتاج بأمر الله، والصوم حسن لما فيه من قهر النفس الامارة بالسوء في منع شهوتها بأمر الله تعالى، والحج حسن بمعنى شرف البيت بأمر الله تعالى، غير أن هذه الوسائط لا تخرجها من أن تكون حسنة لعينها، فحاجة الفقير كان بخلق الله تعالى إياها على هذه الصفة لا بصنع باشره بنفسه، وكون النفس أمارة بخلق الله تعالى إياها على هذه الصفة لا لكونها جانية بنفسها، وشرف البيت بجعل الله تعالى إياه مشرفا بهذه الصفة، فعرفنا أنها في المعنى من النوع الذي هو حسن لعينه، ولهذا جعلناها عبادة محضة، وشرطنا للوجوب فيها الاهلية الكاملة، وحكم هذا القسم واحد وهو أنه إذا وجب بالامر لا يسقط إلا بالاداء أو بإسقاط من الآمر فيما يحتمل السقوط.
وبيان القسم الثاني في السعي إلى الجمعة فإنه حسن لمعنى في غيره، وهو أنه يتوصل به إلى أداء الجمعة، وذلك المعنى مقصود بنفسه لا يصير موجودا بمجرد وجود المأمور
به من السعي، وحكمه أنه يسقط بالاداء إذا حصل المقصود به ولا يسقط إذا لم يحصل المقصود به حتى إنه إذا حمله إنسان إلى موضع مكرها بعد السعي قبل أداء الجمعة ثم خلى عنه كان السعي واجبا عليه، وإذا حصل المقصود بدون السعي بأن حمل مكرها إلى الجامع حتى صلى الجمعة سقط اعتبار السعي ولا يتمكن بانعدامه نقصان فيما هو المقصود، وإذا سقط عنه الجمعة لمرض أو سفر سقط عنه السعي.

ومن هذا النوع الوضوء فإنه حسن لمعنى في غيره وهو التمكن من أداء الصلاة، وما هو المقصود لا يصير مؤدى بعينه، ولهذا جوزنا الوضوء والاغتسال بغير النية، وممن ليس بأهل للعبادة أداء وهو الكافر، ولا ينكر معنى القربة في الوضوء، حتى إذا قصد به التقرب، وهو من أهله، بأن توضأ وهو متوضئ كان مثابا على ذلك، وكذلك إذا توضأ وهو محدث على قصد التقرب فإنه تطهير والتطهير حسن شرعا كتطهير المكان والثياب، قال الله تعالى: (أن طهرا بيتي للطائفين) وقال تعالى: (وثيابك فطهر) إلا أن ما هو شرط أداء الصلاة يتحقق بدون هذا الوصف وهو قصد التقرب، لان شرط أداء الصلاة أن يقوم إليها طاهرا عن الحدث، وبدون هذا الوصف يزول الحدث، وهو معنى قولنا: إنه يتمكن من أداء الصلاة بالوضوء وإن لم ينوه ولكنه لا يكون مثابا عليه، ثم حكمه حكم السعي كما بينا، إلا أن مع انعدام السعي يتم أداء الجمعة، وبدون الوضوء لا يجوز أداء الصلاة من المحدث، لان من شرط الجواز الطهارة عن الحدث.
وبيان النوع الآخر: في الصلاة على الميت، وقتال المشركين، وإقامة الحدود.
فالصلاة على الميت حسنة لاسلام الميت وذلك معنى في غير الصلاة مضاف إلى كسب واختيار كان من العبد قبل موته وبدون هذا الوصف يكون قبيحا منهيا عنه، يعني الصلاة على الكفار والمنافقين، قال الله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا)
وكذلك القتال مع المشركين حسن لمعنى في غيره وهو كفر الكافر أو قصده إلى محاربة المسلمين، وذلك مضاف إلى اختياره.
وكذلك القتال مع أهل البغي حسن لدفع فتنتهم ومحاربتهم عن أهل العدل.
وكذا إقامة الحدود حسن لمعنى الزجر عن المعاصي، وتلك المعاصي تضاف إلى كسب واختيار ممن تقام عليه ولكن لا يتم إلا بحصول ما لاجله كان حسنا، وحكم هذا النوع أنه يسقط بعد الوجوب بالاداء وبانعدام المعنى الذي لاجله كان يجب، حتى إذا تحقق الانزجار عن ارتكاب المعاصي، أو تصور إسلام الخلق عن آخرهم لا تبقى فرضيته إلا أنه خلاف للخبر، لانه لا يتحقق انعدام هذا المعنى في الظاهر.
وكذلك الصلاة على الميت تسقط بعارض مضاف إلى اختياره من بغي أو غيره، وإذا قام به الولي مع بعض الناس يسقط عن الباقين.
وكذلك القتال إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود، وإذا

تحقق صفة الحسن للمأمور به قد ذهب بعض مشايخنا إلى أن عند إطلاق الامر يثبت النوع الثاني من الحسن ولا يثبت النوع الاول إلا بدليل يقترن به، لان ثبوت هذه الصفة بطريق الاقتضاء وإنما ثبت بهذا الطريق الادنى على ما نبينه في باب الاقتضاء، والادنى هو الحسن لمعنى في غيره لا لعينه.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن بمطلق الامر يثبت حسن المأمور به لعينه شرعا فإن الامر لطلب الايجاد وبمطلقه يثبت أقوى أنواع الطلب وهو الايجاب فيثبت أيضا أعلى صفات الحسن، لانه استعباد فإن قوله: (أقيموا الصلاة) و (اعبدوني) هما في المعنى سواء، والعبادة لله تعالى حسنة لعينها، ولان ما يكون حسنا لمعنى في غيره فهذه الصفة له شبه المجاز لانه ثابت من وجه دون وجه، وما يكون حسنا لعينه فهذه الصفة له حقيقة وبالمطلق تثبت الحقيقة دون المجاز، وإذا ثبت هذا قلنا: اتفق الفقهاء على ثبوت صفة الجواز مطلقا للمأمور به كما قررنا أن مقتضى الامر حسن المأمور به حقيقة وذلك لا يكون إلا بعد
جوازه شرعا، ولان مقتضى مطلقه الايجاب ولا يجوز أن يكون واجب الاداء شرعا إلا بعد أن يكون جائزا شرعا، وعلى قول بعض المتكلمين بمطلق الامر لا يثبت جواز الاداء حتى يقترن به دليل.
واستدلوا على هذا بالظان عند تضايق الوقت أنه على طهارة فإنه مأمور بأداء الصلاة شرعا، لا يكون جائزا إذا أداها على هذه الصفة، ومن أفسد حجه فهو مأمور بالاداء شرعا ولا يكون المؤدى جائزا إذا أداه، وهذا سهو منهم، فإن عندنا من كان عنده أنه على طهارة فصلى جازت صلاته، نص عليه في كتاب التحري فيما إذا توضأ بماء نجس فقال صلاته جائزة ما لم يعلم فإذا علم أعاده.
فإن قيل: فإذا جازت صلاته كيف تلزمه الاعادة والامر لا يقتضي التكرار ؟ قلنا: المؤدى جائز حتى لو مات قبل أن يعلم لقي الله ولا شئ عليه، فأما إذا علم فقد تبدل حاله ووجوب الاداء بعد تبدل الحال لا يكون تكرارا، وتحقيقه أن الامر يتوجه بحسب التوسع، قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فإذا كان عنده أنه على طهارة يثبت الامر في حقه على حسب ما يليق بحاله، ومن ضرورته

الجواز على تلك الحالة، وإذا تبدل حاله بالعلم ثبت الامر بالاداء كما يليق بحاله، ولكن لما كان له طريق يتوصل به إلى هذه الحالة إذا تحرز وأحسن النظر لم يسقط الواجب في هذه الحالة بالاداء الاول وإن كان معذورا فيه لدفع الحرج عنه، والحج بمعزل مما قلنا، فالثابت بالامر وجوب أداء الاعمال بصفة الصحة، وأما بعد الافساد فالثابت وجوب التحلل عن الاحرام بطريقه، وهذا أمر آخر سوى الاول، والمأمور به في هذا الامر مجزى، فإن التحلل بأداء الاعمال بعد الافساد جائز شرعا.
ويحكى عن أبي بكر الرازي رحمه الله أنه كان يقول: صفة الجواز وإن كانت تثبت بمطلق الامر شرعا فقد تتناول الامر على ما هو مكروه شرعا أيضا، واستدل على ذلك بأداء عصر يومه بعد تغير الشمس فإنه جائز مأمور به شرعا وهو مكروه أيضا وكذلك قوله
سبحانه وتعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) يتناول طواف المحدث عندنا حتى يكون طوافه ركن الحج، وذلك جائز مأمور به شرعا، ويكون مكروها.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن بمطلق الامر كما تثبت صفة الجواز والحسن شرعا يثبت انتفاء صفة الكراهة، لان الامر استعباد ولا كراهة في عبادة العبد لربه، وانتفاء الكراهة تثبت بالاذن شرعا ومعلوم أن الاذن دون الامر في طلب إيجاد المأمور به فلان يثبت انتفاء الكراهة بالامر أولى، فأما الصلاة بعد تغير الشمس والكراهة ليست للصلاة ولكن للتشبه بمن يعبد الشمس والمأمور به هو الصلاة، وكذلك الطواف الكراهة ليست في الطواف الذي فيه تعظيم البيت بل لوصف في الطواف وهو الحدث وذلك ليس من الطواف في شئ.
ثم تكلم مشايخنا رحمهم الله فيما إذا انعدم صفة الوجوب للمأمور به لقيام الدليل هل تبقى صفة الجواز أم لا ؟ فالعراقيون من مشايخنا يقولون: هو على هذا الخلاف عندنا لا تبقى، وعلى قول الشافعي تبقى، فيثبتون هذا الخلاف في قوله عليه السلام: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير فإن صيغة الامر بهذه الصفة توجب التكفير سابقا على الحنث وقد انعدم هذا الوجوب

بدليل الاجماع فبقي الجواز عنده ولم يبق عندنا، وحجته في ذلك أن من ضرورة وجوب الاداء جواز الاداء والثابت بضرورة النص كالمنصوص، وليس من ضرورة انتفاء الوجوب انتفاء الجواز فيبقى حكم الجواز بعدما انتفى الوجوب بالدليل، واستدل عليه بصوم عاشوراء فبانتساخ وجوب الاداء فيه لم ينتسخ جواز الاداء، ولكنا نقول: موجب الامر أداء هو متعين على وجه لا يتخير العبد بين الاقدام عليه وبين تركه شرعا، والجواز فيما يكون العبد مخيرا فيه، وبينهما مغايرة على سبيل المنافاة، فإذا قام الدليل على انتساخ موجب الامر لا يجوز إبقاء غير موجب الامر مضافا إلى الامر.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن بانتفاء حكم الوجوب لقيام الدليل ينتسخ الامر ويخرج من أن يكون أمرا شرعا والمصير إلى بيان موجبه ابتداء وبقاء في حال ما يكون أمرا شرعا، فأما بعد خروجه من أن يكون أمرا شرعا فلا معنى للاشتغال بهذا التكليف، وبعدما انتسخ الامر بصوم عاشوراء لا نقول جواز الصوم في ذلك اليوم موجب ذلك الامر، بل هو موجب كون الصوم مشروعا فيه للعبد كما في سائر الايام، وقد كان ذلك ثابتا قبل إيجاب الصوم فيه بالامر شرعا فبقي على ما كان، حتى إذا بقي الامر يبقى حكم الجواز عندنا، ولهذا قلنا: الصحيح المقيم إذا صلى الظهر في بيته يوم الجمعة جازت صلاته، والواجب عليه في المصر أداء الجمعة بعدما شرعت الجمعة ولكن بقي أصل أمر أداء الظهر ولهذا يلزمه بعد مضي الوقت قضاء الظهر، ولو شهد الجمعة بعد الظهر كان مؤديا فرض الوقت، فبه تبين أن الواجب أداء الجمعة دون أداء الظهر، إذ الواجب إسقاط فرض الوقت بأداء الجمعة، فكذلك يجب نقض الظهر المؤدي بأداء الجمعة ولهذا سوينا بذلك بين المعذور وغير المعذور، لان جواز ترك أداء الجمعة للمعذور رخصة فلا يتغير به حكم ما هو عزيمة، والله أعلم.
فصل: في بيان صفة الحسن لما هو شرط أداء اللازم بالامر قال رضي الله عنه: اعلم أن من شرط وجوب أداء المأمور به القدرة التي بها يتمكن المأمور من الاداء، لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ولان الواجب أداء ما هو عبادة، وذلك عبارة عن فعل يكتسبه العبد عن اختيار ليكون معظما فيه ربه فينال الثواب وذلك لا يتحقق بدون هذه القدرة، غير أنه لا يشترط وجودها وقت الامر لصحة الامر، لانه لا يتأدى المأمور بالقدرة الموجودة وقت الامر بحال،

وإنما يتأدى بالموجود منها عند الاداء وذلك غير موجود سابقا على الاداء، فإن الاستطاعة لا تسبق الفعل وانعدامها عند الامر لا يمنع صحة الامر ولا يخرجه من أن
يكون حسنا بمنزلة انعدام المأمور، فإن النبي عليه السلام كان رسولا إلى الناس كافة، قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وقال تعالى: (نذيرا للبشر) ولا شك أنه أمر جميع من أرسل إليهم بالشرائع ثم صح الامر في حق الذين وجدوا بعده ويلزمهم الاداء بشرط أن يبلغهم فيتمكنون من الاداء، قال تعالى: (لانذركم به ومن بلغ) وكما يحسن الامر قبل وجود المأمور به يحسن قبل وجود القدرة التي يتمكن بها من الاداء ولكن بشرط التمكن عند الاداء، ألا ترى أن التصريح بهذا الشرط لا يعدم صفة الحسن في الامر، فإن المريض يؤمر بقتال المشركين إذا برئ فيكون ذلك حسنا، قال تعالى: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) وهذا الشرط نوعان: مطلق، وكامل.
فالمطلق أدنى ما يتمكن به من أداء المأمور به ماليا كان أو بدنيا، لان هذا شرط وجوب الاداء في كل أمر فضلا من الله تعالى ورحمة خصوصا في حق هذه الامة فقد رفع الله عنهم الحرج ووضع عنهم الاصر والاغلال، وفي لزوم الاداء بدون هذه القدرة من الحرج والثقل ما لا يخفى، وعلى هذا وجوب الطهارة بالماء فإنه لا يثبت في حال عدم الماء لانعدام هذه القدرة، وكذلك في حال العجز عن الاستعمال إلا بحرج بأن يخاف زيادة المرض أو العطش، أو يلحقه نوع حرج في ماله بأن لا يباع منه بثمن مثله، وكذلك أداء الصلاة لا يجب بدون هذه القدرة، ولهذا كان وجوب الاداء بحسب ما يتمكن منه قائما أو قاعدا أو بالايماء، وكذلك وجوب أداء الحج لا يكون إلا بهذه القدرة بملك الزاد والراحلة، لان التمكن من السفر الذي يتوصل به إلى الاداء لا يكون إلا به، وكذلك وجوب أداء الصدقة المالية لا يكون إلا بهذا الشرط، فإنه لا يتمكن من الاداء عبادة إلا بملك المال، ولهذا لا يعتبر التمكن منه بمال غيره وإن أذن له في ذلك في وجوب الاداء، بخلاف الطهارة فصفة العبادة هناك غير مقصودة وهنا مقصودة، ومع ذلك صفة الغني في المؤدى معتبر هنا،

قال عليه السلام: لا صدقة إلا عن ظهر غنى وبدون ملك المال لا تثبت صفة الغنى، ولهذا قال زفر والشافعي رحمهما الله: إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو طهرت الحائض في آخر الوقت بحيث لا يتمكنون من أداء الفرض فيما بقي من الوقت لا يلزمهم الاداء لانعدام الشرط وهو التمكن، ولكن علماءنا رحمهم الله قالوا: يلزمهم أداء الصلاة استحسانا، لان السبب الموجب جزء من الوقت وشرط وجوب الاداء كون القدرة على الاداء متوهم الوجود لا كونه متحقق الوجود فإن ذلك لا يسبق الاداء وهذا التوهم موجود ههنا لجواز أن يظهر في ذلك الجزء من الوقت امتداد بتوقف الشمس فيسع الاداء كما كان لسليمان صلوات الله عليه فيثبت وجوب الاداء به، ثم العجز عن الاداء فيه ظاهر لينتقل الحكم إلى ما هو خلف عن الاداء وهو القضاء، بمنزلة الحلف على مس السماء تنعقد موجبة للبر لتوهم الكون فيما خلف عليه، ثم بالعجز الظاهر ينتقل الواجب في الحال إلى ما هو خلف عنه وهو الكفارة، وكذلك الحدث في وقت الصلاة ممن كان عادما للماء يكون موجبا للطهارة بالماء لتوهم القدرة عليها ثم تتحول إلى التراب باعتبار العجز الظاهر في الحال، غير أن في فصل الحائض بشرط حقيقة الطهر في جزء من الوقت بأن تكون أيامها عشرة، أو الحكم بالطهر بدليل شرعي بأن تكون أيامها دون العشرة فينقطع الدم والباقي من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل فيه وتحرم للصلاة، وهذا لان في أوامر العباد صفة الحسن، ولزوم الاداء يثبت بهذا القدر من القدرة، فإن من قال لامرئ اسقني ماء غدا يكون أمرا صحيحا موجبا للاداء فلا يتعين للحال، فإنه يقدر على ذلك في غد، لجواز أن يموت قبله أو يظهر عارض يحول بينه وبين التمكن من الاداء، فكذلك في أوامر الشرع وجوب الاداء يثبت بهذا القدر.
ثم هذا الشرط مختص بالاداء دون القضاء فإنه شرط الوجوب ولا يتكرر الوجوب في واجب واحد فلا يشترط بقاء هذا التمكن لبقاء الواجب ولكن إن كان الفوات بمضي الوقت لا عن تقصير
منه بقي الاداء واجبا على أن يتأتى بالخلف وهو القضاء، وإن كان عن تقصير منه

فهو متعد في ذلك وباعتبار تعديه يجعل الشرط كالقائم حكما، ولهذا قلنا إذا هلك المال بعد وجوب الحج وصدقة الفطر لا يسقط الواجب عنه بذلك، لان التمكن من الاداء بملك المال كان شرط وجوب الاداء فيبقى الواجب وإن انعدم هذا الشرط.
وأما الكامل منه فالقدرة الميسرة للاداء وهي زائدة على الاولى بدرجة كرامة من الله تعالى، وفرق ما بينهما أنه لا يتغير بالاولى صفة الواجب فكان شرط الوجوب فلا يعتبر بقاؤها لبقاء الواجب والثانية يغير صفة الواجب فيجعلها سمحا سهلا لينا، ولهذا يشترط بقاؤها ببقاء الواجب، لانه متى وجب الاداء بصفة لا يبقى الاداء واجبا إلا بتلك الصفة، ولا يكون الاداء بهذه الصفة بعد انعدام القدرة الميسرة للاداء وبيان هذا أن الزكاة تسقط بهلاك المال بعد التمكن من الاداء، لان الشرع إنما أوجب الاداء بصفة اليسر ولهذا خصه بالمال النامي، وما أوجب الاداء إلا بعد مضي حول ليتحقق النماء فيكون المؤدى جزءا من الفضل قليلا من كثير وذلك غاية في اليسر، فأما أصل التمكن من الاداء يثبت بكل مال، فلو بقي الواجب بعد هلاك المال لم يكن المؤدى بصفة اليسر بل يكون بصفة الغرم فلا يكون الباقي ذلك الذي وجب ولا وجه لايجاب غيره إلا بسبب متجدد، ولهذا لو استهلك المال بقي عليه وجوب الاداء، لانه صار النصاب مشغولا بحق المستحق للزكاة، فالاستهلاك تعد منه على محل الحق بالتفويت وذلك سبب موجب للغرم عليه، كالعبد الجاني إذا استهلكه مولاه وهو لا يعلم بجنايته يصير غارما لقيمته، وإن صادف فعله ملكه باعتبار هذا المعنى، فلوجود سبب آخر أمكن إيجاب الاداء لا بالصفة التي بها وجب ابتداء، ولا يدخل على هذا ما إذا هلك بعض النصاب فإن الواجب يبقى بقدر ما بقي منه وإن كان كمال النصاب شرط الوجوب في الابتداء، لان اشتراط كمال النصاب
ليس لاجل اليسر حتى يتغير به صفة الواجب، فإن أداء درهم من أربعين وأداء خمسة من مائتين في معنى اليسر سواء، إذ كل واحد منهما أداء ربع العشر، ولكن شرط كمال النصاب ليثبت به صفة الغنى فيمن يجب عليه، فالمطلوب بالاداء إغناء المحتاج وإنما

يتحقق الاغناء بصفة الحسن من الغني كما يتحقق التمليك من المالك، وأحوال الناس تختلف في صفة الغنى بالمال فجعل الشرع لذلك حدا وهو ملك النصاب تيسيرا، ثم هذا الغنى شرط وجوب الاداء بمنزلة أدنى التمكن الذي هو شرط وجوب الاداء من غير أن يكون مغيرا صفة الواجب، فلهذا لا يشترط بقاؤه لبقاء الواجب ولكن بقدر ما بقي من المال يبقى الواجب بصفته لبقاء صفة اليسر فيه، وعلى هذا قلنا يسقط العشر بهلاك الخارج قبل الاداء، لان القدرة الميسرة شرط الاداء فيه، فالعشر مؤونة الارض النامية ولا يجب إلا بعد تحقق الخارج، فإنما يجب قليل من كثير من النماء فيكون الاداء بصفة اليسر وذلك لا يبقى بعد هلاك الخارج، وكذلك الخراج لا يبقى إذا اصطلم الزرع آفة، لان وجوب الاداء باعتبار القدرة الميسرة، ولهذا يتقدر الواجب بحسب الربع، حتى إذا قل الخارج لا يجب من الخارج أكثر من نصف الخارج إلا أن عند التمكن من الزراعة إذا لم يفعل جعلت القدرة الميسرة كالموجود حكما بتقصير كان منه في الزراعة، وذلك لا يوجد فيما إذا اصطلم الزرع آفة، فلو بقي الخراج كان غرما، ولهذا قلنا لا يسقط العشر بموت من عليه مع بقاء الخارج، لان القدرة الميسرة لاداء المالي بالمال تكون وهو باق بعد موته فيجعل هو كالحي حكما باعتبار خلفه ويكون أداء الواجب بالصفة التي يثبت بها الوجوب ابتداء، وكذلك الزكاة لا تسقط بموته في أحكام الآخرة، ولهذا يؤمر بالايصاء به وتؤدى من ثلث ماله بعد موته إذا أوصى لبقاء القدرة الميسرة، وباعتبار حياته حكما وبقاء المحل الذي هو خالص حقه وهو الثلث فيكون الاداء منه بصفة
اليسر إلا أنه إذا لم يوص لا يبقى في أحكام الدنيا بعد موته لان الواجب أداء العبادة، وباعتبار الخلافة التي تثبت بعد موته لا يمكن تحقيق هذا الوصف لان ذلك يثبت من غير اختيار له منه وفي العشر معنى العبادة لما لم يكن مقصودا بقي بعد موته وإن لم يوص به، وكذلك الخراج إذا حصل الخارج ثم هلك قبل أدائه، وعلى هذا قلنا إن الحانث في يمينه إذا عجز عن التكفير بالمال يجوز له أن يكفر بالصوم، لان وجوب الكفارة باعتبار القدرة الميسرة، ألا ترى أنه ثبت التخير شرعا في أنواع التكفير

بالمال والواجب أحد الانواع عند أهل الفقه، بخلاف ما يقوله بعض المتكلمين أن الكل واجب لاستواء الكل في صيغة الامر والتخيير لاسقاط الواجب بما يعينه منها، ويجعلون الامر مثل قياس النهي، فإن مثل هذا التخيير في النهي لا يخرج حكم النهي من أن يكون متناولا جميع ما تناوله الصيغة فكذلك الامر، ولكنا نقول: في النهي يتحقق وجوب الانتهاء في الكل مع ذكر حرف أو، لان ذلك في موضع النفي وحرف أو في موضع النفي يوجب التعميم، قال الله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) فأما في باب الكفارة ذكر حرف أو في موضع الاثبات فإنما يفيد الايجاب في أحد الانواع، ألا ترى أنه لو كفر بالانواع كلها لم يكن مؤديا للواجب في جميعها ويستحيل أن يكون واجبا قبل الاداء، ثم إذا أدى يكون المؤدى نفلا لا واجبا ويتأدي الواجب بنوع واحد، وهذا النوع منصوص عليه فلا يكون خلفا عن غيره، ولو كان الكل واجبا لم يسقط الواجب في البعض بدون أدائه أو أداء ما هو خلف عنه، فعرفنا أن الواجب أحد الانواع، والتخيير ليكون الاداء بصفة اليسر، ولهذا تحول إلى الصوم عند العجز عن الاداء بالمال، والمعتبر فيه العجز للحال لا تحقق العجز بعجز مستدام في العمر، فإن في قوله تعالى: (فصيام ثلاثة أيام) ما يدل على أنه يعتبر العجز في الحال، إذ لو اعتبر العجز في جميع العمر لم يتحقق أداء الصوم بعد
هذا العجز، وكذلك التكفير بالطعام في الظهار يعتبر العجز في الحال عن التكفير بالصوم، ولهذا لو مرض أياما فكفر بالاطعام جاز.
فتبين بهذا كله أن المعتبر في الكفارة القدرة الميسرة للاداء، وبعد هلاك المال لا يبقى ذلك لو بقي التكفير بالمال عينا فجوزنا له التكفير بالصوم، ولا تفصيل هنا بين أن يهلك المال بصنعه أو بغير صنعه، لان الواجب لا يصادف المال قبل الاداء ولا يجعل المال مشغولا به فلا يكون الاستهلاك تعديا على محل مشغول بحق المستحق، ولهذا لا يسقط بهلاك المال حتى إنه إذا أيسر بمال آخر يلزمه التكفير بالمال، لان القدرة الميسرة تثبت بملك المال ولا تختص بمال دون مال، فكان المال المستفاد فيه والمال الذي عنده سواء، ولهذا لا يعتبر فيه كون المال ناميا ولا يعتبر صفة الغنى فيمن يجب عليه، لان

الواجب ليس من نماء المال، وإنما الشرط فيه القدرة الميسرة للاداء على وجه ينال الثواب بالاداء، فيكون ذلك ساترا لما لحقه لارتكاب المحظور، وفي هذا يستوي المال النامي وغير النامي، ويخرج على ما بينا أنه إذا هلك المال بعد وجوب الحج بأن كان مالكا للزاد والراحلة وقت خروج القافلة من بلدته فإنه لا يسقط عنه الحج، لان الشرط هناك أدنى التمكن دون اليسر، فاليسر في سفر الحج يكون بالخدم والمراكب والاعوان وذلك ليس بشرط، وأدنى التمكن شرط وجوب الاداء فلا يشترط بقاؤه لبقاء الواجب.
وكذلك لو هلك المال بعد وجوب صدقة الفطر، أو هلك من وجب عليه بعد وجوب الاداء فإنه لا يسقط الواجب، لان شرط الوجوب هناك أدنى التمكن وصفة الغنى فيمن يجب عليه الاداء دون اليسر، ولهذا لو ملك من مال البذلة والمهنة فضلا على حاجته ما يساوي نصابا يجب عليه، وبهذا النوع من المال يحصل أدنى التمكن والغنى إذا بلغ نصابا، فأما صفة اليسر فهو مختص بالمال النامي ليكون الاداء من فضل المال وذلك ليس بشرط هنا، فعرفنا أن التمكن والغنى
شرط وجوب الاداء باعتبار أنه غني، قال عليه السلام: أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم والاغناء إنما يتحقق من الغنى، ولم يتغير صفة المؤدى بهذا الشرط فلا يشترط بقاؤه لبقاء الواجب، وعلى هذا الاصل قلنا لا تجب الزكاة في مال المديون بقدر ما عليه من الدين، لان الوجوب باعتبار الغنى واليسر وذلك ينعدم بالدين، والغنى إنما يحصل بفضل عن حاجته، وحاجته إلى قضاء الدين حاجة أصلية فلا يحصل الغنى بملك ذلك القدر من المال، ولهذا حل له أخذ الصدقة وهي لا تحل لغني، وإنما تيسر الاداء إذا كان المؤدى فضل مال غير مشغول بحاجته.
وكذلك لا تجب صدقة الفطر على المديون إذا لم يملك نصابا فضلا عن دينه لان الغني يملك المال معتبر في إيجاب صدقة الفطر على ما بينا أنه إغناء للمحتاج وبحاجته إلى قضاء الدين تنعدم صفة الغنى، وإن كان الدين على العبد الذي هو عبد

للخدمة فعلى المولى أن يؤدي عنه صدقة الفطر، لان صفة الغنى ثابت له بملك من النصاب سوى هذا القدر، وأصل المالية غير معتبرة فيمن يجب الاداء عنه، ولهذا تجب عن ولده الحر، وكذلك الغنى به غير معتبر فإنه يجب الاداء عن المدبر وأم الولد وإن لم يكن هو غنيا بملكه فيهما، فكذلك إذا كان العبد مشغولا بالدين لان ذلك الدين على العبد يوجب استحقاق ماليته فيخرج المولى من أن يكون غنيا به، ولو كان هذا العبد المديون للتجارة لم يجب على المولى أن يؤدي عنه زكاة التجارة، لان الغنى بالمال الذي يجب أداء الزكاة عنه شرط ليكون الاداء بصفة اليسر وذلك ينعدم بقيام الدين على العبد، ولا يدخل على ما ذكرنا وجوب كفارة الموسر على المديون مع اعتبار صفة اليسر في التكفير بالمال، لان المذكور في كتاب الايمان أنه إذا حنث في يمين وله ألف درهم وعليه مثلها دين فإنه يكفر بالصوم بعدما يقضي دينه بالمال، ولم يتعرض لما قبل قضاء الدين أنه بماذا يكفر، فقال بعض مشايخنا: يكفر
بالصوم أيضا لان ما في يده من المال مستحق بدينه مشغول بحاجته، وفي التكفير بالمال صفة اليسر معتبر بدليل التخيير المثابت بالنص، وبسبب الدين ينعدم اليسر فيكفر بالصوم، ومنهم من يقول: يلزمه التكفير بالمال لان الكفارة أوجبت ساترة أو زاجرة وما أوجبت شكرا للنعمة فلا تشبه الزكاة من هذا الوجه فإنها أوجبت شكرا للنعمة والغنى، ولهذا يشترط لايجابها أتم وجوه الغنى وذلك بالمال النامي، وحاجته إلى قضاء الدين بالمال يعدم تمام الغنى، ولا يعدم معنى حصول الثواب له إذا تصدق به ليكون ذلك ساترا للاثم الذي لحقه بارتكاب محظور اليمين وهو المقصود بالكفارة، قال تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) يوضحه أن معنى الاغناء غير معتبر في التكفير بالمال، ألا ترى أنه يحصل بالاعتاق وليس فيه إغناء، ولهذا قلنا يحصل التكفير بالمال بطعام الاباحة وإن كان الاغناء لا يحصل به، فعرفنا أن المعتبر في التكفير بالمال أصل اليسر لا نهايته وتيسير الاداء قائم بملك المال مع قيام

الدين عليه، فأما في الزكاة المعتبر هو الاغناء، ولهذا لا يتأدى إلا بتمليك المال، والاغناء لا يتحقق ممن ليس بغني كامل الغنى وبسبب الدين ينعدم الغنى، ولهذا يمتنع وجوب أداء الزكاة وصدقة الفطر على المديون.
فصل: في بيان موجب الامر في حق الكفار لا خلاف أنهم مخاطبون بالايمان، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة ليدعوهم إلى الايمان، قال تعالى: (قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) إلى قوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله) فهذا الخطاب منه يتناولهم لا محالة.
ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولهذا تقام على أهل الذمة عند تقرر أسبابها لانها تقام بطريق الخزي والعقوبة لتكون زاجرة عن الاقدام على أسبابها، وباعتقاد حرمة السبب يتحقق ذلك ولا تنعدم الاهلية لاقامة ذلك عليه بطريقه، بل هو جزاء
وعقوبة فبالكفار أليق منه بالمؤمنين.
ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم أيضا لان المطلوب بها معنى دنيوي وذلك بهم أليق، فقد آثروا الدنيا على الآخرة ! ولانهم ملتزمون لذلك، فعقد الذمة يقصد به التزام أحكام المسلمين فيما يرجع إلى المعاملات فيثبت حكم الخطاب بها في حقهم كما يثبت في حق المسلمين لوجود الالتزام إلا فيما يعلم لقيام الدليل أنهم غير ملتزمين له.
ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة، لان موجب الامر اعتقاد اللزوم والاداء وهم ينكرون اللزوم اعتقادا وذلك كفر منهم بمنزلة إنكار التوحيد، فإن صحة التصديق والاقرار بالتوحيد لا يكون مع إنكار شئ من الشرائع.
وقال محمد رحمه الله في السير الكبير: من أنكر شيئا من الشرائع فقد أبطل قول لا إله إلا الله، فقد ذكر بعض من لا يعتمد على قوله من أهل زماننا في تصنيف له أن المسلم إذا أنكر شيئا من الشرائع فهو كافر فيما أنكره مؤمن فيما سوى ذلك، وهو شبه المحال من الكلام يبتلى المرء بمثله لقلة التأمل

أو إعجابه بنفسه، أعاذنا الله من ذلك، ومع ذلك هو مخالف للرواية المنصوصة عن المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله، فإذا ثبت أنه ترك ذلك استحلالا وجحودا يكون كفرا منه ظهر أنه معاقب عليه في الآخرة كما هو معاقب على أصل الكفر، وهو المراد بقوله تعالى: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) : أي لا يقرون بها، وقال تعالى: (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) قيل في التفسير: من المسلمين المعتقدين فرضية الصلاة.
فهذا معنى قولنا: إن الخطاب يتناولهم فيما يرجع إلى العقوبة في الآخرة.
فأما في وجوب الاداء في أحكام الدنيا فمذهب العراقيين من مشايخنا رحمهم الله أن الخطاب يتناولهم أيضا والاداء واجب عليهم فإنهم لا يعاقبون على ترك الاداء إذا لم يكن الاداء واجبا عليهم، وظاهر ما تلونا يدل على أنهم يعاقبون في الآخرة على الامتناع من
الاداء في الدنيا، ولان الكفر رأس المعاصي فلا يصلح سببا لاستحقاق التخفيف، ومعلوم أن سبب الوجوب متقرر في حقهم، وصلاحية الذمة لثبوت الواجب فيها بسببه موجود في حقهم، وشرط وجوب الاداء التمكن منه وذلك غير منعدم في حقهم، فلو سقط الخطاب بالاداء كان ذلك تخفيفا والكفر لا يصلح تخفيفا لذلك، ولا معنى لقول من يقول إن التمكن من الاداء على هذه الصفة لا يتحقق حتى لو أدى لم يكن ذلك معتدا به، لانه يتمكن به من الاداء بشرط أن يقدم الايمان والخطاب به ثابت في حقه، فهو نظير الجنب والمحدث يتمكن من أداء الصلاة بشرط الطهارة وهو مطالب بذلك، فيكون متمكنا من أداء الصلاة يتوجه عليه الخطاب بأدائها مع أن انعدام التمكن من الاداء بإصراره على الكفر وهو جان في ذلك، فيجعل التمكن قائما حكما إذا كان انعدامه بسبب جنايته، ألا ترى أن زوال التمكن بسبب الشكر لا يسقط الخطاب بأداء العبادات، وكذلك انعدام التمكن بسبب الجهل إذا كان بتقصير منه لا يسقط الخطاب بالاداء، فبسبب الكفر أولى.
ومشايخ ديارنا يقولون إنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات، وجواب هذه المسألة غير محفوظ من المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله نصا، ولكن

مسائلهم تدل على ذلك، فإن المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء الصلوات التي تركها في حال الردة عندنا وتلزمه عند الشافعي والمرتد كافر.
واستدل بعض أصحابنا على أن الخلاف بيننا وبين الشافعي أن تنصيص علمائنا أن ذلك لا يلزمه القضاء بعد الاسلام دليل على أنه لم يكن مخاطبا بأدائها في حالة الكفر وهذا ضعيف، فسقوط القضاء عن المرتد والكافر الاصلي بعد الاسلام بوجود الدليل المسقط وهو قوله تعالى: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وقال عليه السلام: الاسلام يجب ما قبله والسقوط بإسقاط من له الحق لا يكون دليل انتفاء أصل الوجوب.
ومنهم من استدل على ذلك بمن
صلى في أول الوقت ثم ارتد ثم أسلم في آخر الوقت فعليه أداء فرض الوقت عندنا، لان بالردة ينعدم خطاب الاداء في حقه والاعتداد بما مضى كان بناء عليه، فإذا أسلم وقد بقي شئ من الوقت يثبت الوجوب باعتباره ويصير مخاطبا بالاداء ابتداء، وعلى قول الشافعي لا يلزمه الاداء لان الخطاب بالاداء لا ينعدم في حقه بالردة فبقي المؤدى معتدا به، وعلى هذا لو حج ثم ارتد ثم أسلم ولكن هذا ضعيف أيضا، فإن المؤدى إنما لا يكون معتدا به بعد الردة لان الردة تحبط العمل، قال الله تعالى: (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله) يعني ما اكتسب من العبادات وما حبط لا يكون معتدا فلهذا ألزمناه الاداء ثانيا.
ومنهم من جعل هذه المسألة فرعا لاصل معروف بيننا وبينهم أن الشرائع عندهم من نفس الايمان وهم مخاطبون بالايمان (فيخاطبون بالشرائع وعندنا الشرائع ليست من نفس الايمان وهم مخاطبون بالايمان) فلا يخاطبون بالاداء بالشرائع التي تبتنى على الايمان ما لم يؤمنوا وهذا ضعيف أيضا، فإنهم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات وليس شئ من ذلك من نفس الايمان أيضا.
فالذي يصح من الاستدلال لمشايخنا رحمهم الله على هذا المذهب لفظ مذكور في الكتاب، وهو أن من نذر أن يصوم شهرا ثم ارتد ثم أسلم فليس عليه من الصوم المنذور شئ، لان الردة تبطل كل عبادة ومعلوم أنه لم يرد بهذا التعليل العبادة المؤداة فهو ما أدى المنذور بعد، فعرف أن الردة تبطل وجوب أداء كل عبادة، فيكون هذا شبه التنصيص عن أصحابنا أن الخطاب بأداء الشرائع التي تحتمل السقوط لا يتناولهم

ما لم يؤمنوا.
والدليل على صحة هذا القول أن النبي عليه السلام لما بعث معاذا إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة الحديث، ففي هذا تنصيص على أن وجوب أداء الشرائع يترتب على الاجابة إلى ما دعوا إليه من أصل الدين، والدليل على
ذلك من طريق المعنى أن الامر بأداء العبادة لينال به المؤدي الثواب في الآخرة حكما من الله تعالى (كما وعده في محكم تنزيله والكافر ليس بأهل لثواب العبادة عقوبة له، على كفره حكما من الله تعالى) كما أن العبد لا يكون أهلا لملك المال حكما من الله تعالى والمرأة لا تكون أهلا لثبوت ملك المتعة لها على الرجل بسبب النكاح أو بسبب ملك الرقبة حكما من الله تعالى، وإذا تحقق انعدام الاهلية للكافر فيما هو المطلوب بالاداء يظهر به انعدام الاهلية للاداء، وبدون الاهلية لا يثبت وجوب الاداء وبه فارق الخطاب بالايمان، فإنه بالاداء يصير أهلا لما وعد الله المؤمنين، فبه تبين الاهلية للاداء أيضا.
فإن قيل: هو بالايمان يصير أهلا لما هو موعود على أداء العبادات وهو مطالب بالايمان فينبغي أن يجعل في حكم توجه الخطاب بالاداء عليه كأن ما هو مطالب به بالايمان موجود في حقه كما جعل النطفة في الرحم كالحي حكما في حق الارث والوصية والاعتاق ويجعل البيض كالصيد حكما في وجوب الجزاء على المحرم بكسره وإن لم يكن فيها معنى الصيدية حقيقة.
قلنا: هذا أن لو كان مآل أمره الايمان باعتبار الظاهر كالبيض والنطفة فمآلهما إلى الحياة والصيدية ما لم يفسدا، ومآل أمر الكافر ليس للايمان ظاهرا، بل الظاهر من حال كل معتقداته يستديم اعتقاده، ثم هذا المعنى إنما يستقيم اعتباره إذا كان عند إيمانه يتقرر وجوب الاداء فيما يتقرر سببه في حال الكفر، فيقال يخاطب بالاداء على أن يسلم فيتقرر وجوب الاداء كما في النطفة والبيض فإن حكم العتق والملك والصيدية يتقرر إذا تحقق صفة الحياة فيهما، وههنا ينعدم بالاتفاق، فإنه بعد الايمان لا يبقى وجوب الاداء في شئ مما سبق في حالة الكفر.
فإن قيل: أليس أن العبد من أهل مباشرة التصرف الموجب لملك المال وإن لم يكن أهلا لملك المال ؟ فكذلك يجوز أن يكون الكافر يخاطب بأداء العبادات وإن لم يكن

أهلا لما هو المقصود بالآداء.
قلنا: صحة ذلك التصرف من المملوك على أن يخلفه المولى
في حكمه أو على أن يتقرر الحكم له إذا أعتق كالمكاتب، فأما هنا لا تثبت أهلية الاداء في حقه على أن يخلفه غيره فيما هو المبتغي بالاداء أو على أن يتقرر ذلك له بعد إيمانه، وهذا بخلاف الجنب والمحدث في الخطاب بأداء الصلاة، لان الاهلية لما هو موعود للمصلين لا ينعدم بالجنابة والحدث، ولكن الطهارة شرط الاداء، وبانعدام الشرط لا تنعدم الاهلية لاداء الاصل، وما هذا إلا نظير من يقول لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتقه، يصح إعتاقه عن الآمر باعتبار أن الملك في المحل شرط الاعتاق فانعدامه عند الامر لا يمنع صحة الامر على أن يكون موجبا للحكم له إذا وجد الشرط عند إيجاد العتق.
ولو قال المولى لعبده: أعتق عن نفسك عبدا فأعتق لم يصح هذا الامر ولم يكن الاعتاق عن العبد، لانه بصفة الرق يخرج من أن يكون أهلا للاعتاق عن نفسه فلا يصح أمره إياه بالاعتاق عن نفسه مع انعدام الاهلية، وتبين بهذا أن سقوط الخطاب بالاداء عنهم ليس للتخفيف عليهم كما ظنوا بل لتحقق معنى العقوبة والنقمة في حقهم، فإن الاخراج من الاهلية لثواب العبادة يكون نقمة، يوضحه أن الامر لطلب أداء العبادة وهو مع صفة الكفر لا يكون أهلا للعبادة بل يحبط عمله، كما قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ومعلوم أن في العبادة المنفعة للمؤدي المأمور لا للآمر، قال الله تعالى: (ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) والكافر لا يستحق هذا النظر والمنفعة عقوبة له على كفره فكيف يكون فيه معنى التخفيف عليه ! والايجاب من الآمر نظر من الشرع للمأمور فعسى أن يقصر فيما لا يكون واجبا عليه ولا يقصر في أداء ما هو واجب عليه والكافر غير مستحق لهذا النظر، فقولنا وجوب الاداء لا يتناوله يكون تغليظا عليه لا تخفيفا، ولهذا أثبتنا حكم وجوب الاداء فيما يرجع إلى العقوبة في الآخرة في حقه، ثم هو بإصراره على الكفر متلف نفسه حكما فيما يرجع إلى ما هو المقصود بالعبادات فيكون بمنزلة من قتل نفسه حقيقة، ولا يجعل قاتل النفس حقيقة كالحي حكما في توجه الخطاب عليه بأداء العبادات لا للتخفيف عليه،
فكذلك الكافر لا يجعل متمكنا من الاداء حكما مع إصراره على الكفر لا بطريق التخفيف عليه ولكن تجعل ذمته كالمعدومة حكما في الصلاحية لوجوب أداء العبادات فيها تحقيقا لمعنى الهوان في حقهم وهو أن يلحقهم بالبهائم التي لا ذمة لها في هذا الحكم

كما وصفهم الله تعالى قال: (إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) ثم الخطاب بأداء العبادات ليسعى المرء بأدائها في فكاك نفسه، قال عليه السلام: الناس غاديان: بائع نفسه فموبقها، ومشتر نفسه فمعتقها يعني بالائتمار بالاوامر، والقول بأن الكافر ليس بأهل للسعي في فكاك نفسه ما لم يؤمن لا يكون تخفيفا عليه، وهو نظير أداء بدل الكتابة لما كان ليتوصل به المكاتب إلى فكاك نفسه، فإسقاط المولى هذه المطالبة عنه عند عجزه بالرد في الرق لا يكون تخفيفا عليه، فإن ما بقي فيه من ذل الرق فوق ضرر المطالبة بالاداء.
وإنما استنبطنا هذا من تعليل محمد رحمه الله في قوله: ما فيه من الشرك أعظم من ذلك، علل به في أنه لا يلزمه كفارة الظهار وكفارة اليمين وإن حنث، وفي الكفارات معنى العبادة على ما بينا أنه ينال به الثواب فيكون مكفرا للذنب والكافر ليس بأهل لذلك فلا يثبت في حقه الخطاب بأداء الكفارة كما لا يثبت في حق العبد الخطاب بالتكفير بالمال لانه ليس بأهل لذلك.
ونظير ما قلنا من الحسيات أن مطالبة الطبيب المريض بشرب الدواء إذا كان يرجو له الشفاء يكون نظرا من الطبيب لا إضرارا به، فإذا أيس من شفائه فترك مطالبته بشرب الدواء لا يكون ذلك تخفيفا عليه بل إجبارا له بما هو أشد عليه من ضرر شرب الدواء وهو ما يذوق من كأس الحمام، فكذلك هنا أن الكفار لا يخاطبون بأداء الشرائع لا يتضمن معنى التخفيف عليهم بل يكون فيه بيان عظم الوزر والعقوبة فيما هو مصر عليه من الشرك، والله أعلم.
باب: النهي
قال رضي الله عنه: اعلم بأن موجب النهي شرعا لزوم الانتهاء عن مباشرة المنهي عنه لانه ضد الامر.
أما من حيث اللغة فصيغة الامر لبيان أن المأمور به مما ينبغي أن يكون، وصيغة النهي لبيان أنه مما ينبغي أن لا يكون، وأما شرعا فالامر لطلب إيجاد المأمور به على أبلغ الوجوه مع بقاء اختيار المخاطب في حقيقة الايجاد، وذلك

في وجوب الائتمار، والنهي لطلب مقتضى الامتناع عن الايجاد على ابلغ الوجوه مع بقاء اختيار للمخاطب فيه وذلك بوجوب الانتهاء، فإذا تبين موجب النهي قلنا: مقتضى النهي قبح المنهي عنه شرعا، كما أن مقتضى الامر حسن المأمور به شرعا ألا ترى أن التحريم لما كان ضد الاحلال كان مقتضى أحدهما ضد مقتضى الآخر ولان صاحب الشرع جاء بتتميم المحاسن ونفي القبائح فكان نهيه موجبا قبح المنهي عنه كما كان أمره موجبا صفة الحسن للمأمور به.
فإن قيل: لماذا لا يجعل مقتضى النهي شرعا حسن الانتهاء كما كان مقتضى الامر حسن الائتمار ؟ قلنا لانه يصير مقتضاهما واحدا وبينهما مغايرة على سبيل المضادة، ثم الائتمار بفعل يقصده المخاطب ويضاف وجوده إلى كسبه فيحسن الائتمار لكون ذلك مضافا إليه، فأما الانتهاء يكون بامتناعه عن إيجاد الفعل المنهي عنه ثم انعدامه لا يكون مضافا إلى كسبه وقصده، بل الانعدام أصل فيه ما لم يوجده، وإذا لم يكن مضافا إلى فعله الذي هو اختياري لا يستقيم أن يوصف امتناعه عن الايجاد بالحسن مقصودا، فعرفنا به أن قبح المنهي عنه ثابت بمقتضى وجوب الانتهاء شرحا.
فإن قيل: تركه الفعل الذي يكون إيجادا فعل مقصود منه على ما هو مذهب أهل السنة والجماعة أن ترك الفعل فعل لما فيه من استعمال أحد الضدين والانتهاء به يتحقق، قلنا هو كذلك ولكن موجب النهي هو الانتهاء وحقيقته
الامتناع عن الايجاد، ثم إن دعته نفسه إلى الايجاد يلزمه الترك ليكون ممتنعا والنهي عنه يبقى عدما كما كان، ألا ترى أن الامتناع الذي به يتحقق الانتهاء يستغرق جميع العمر، والترك الذي هو فعل منه لا يستغرق، فإنه قبل أن يعلم به يكون منتهيا بالامتناع عنه ولا يكون مباشرا للفعل الذي هو ترك الايجاد فإن ذلك لا يكون إلا عن قصد منه بعد العلم به.
وبيان هذا أن الصائم مأمور بترك اقتضاء السهرتين في حال الصوم فلا يتحقق منه هذا الفعل ركنا للصوم حتى يعلم به ويقصده، والمعتدة ممنوعة من التزوج والخروج والتطيب وذلك ركن الاعتداد ويتم ذلك وإن لم تعلم به حتى يحكم بانقضاء عدتها بمضي

الزمان قبل أن نشعر به، وعلى هذا لو قال لامرأته: إن لم أشأ طلاقك فأنت طالق ثم قال لا أشاء طلاقك لم تطلق، ولو قال: إن أبيت طلاقك فأنت طالق ثم قال قد أبيت طلقت، لان الاباء فعل يقصده ويكسبه فيصير موجودا بقوله قد أبيت ولا يكون ذلك مستغرقا للمدة، وعدم المشيئة عبارة عن امتناعه من المشيئة وذلك يستغرق عمره فلا يتحقق وجود الشرط بقوله لا أشاء ولا بامتناعه من المشيئة في جزء من عمره.
وإذا تبين أن مقتضى النهي قبح المنهي عنه شرعا فنقول: المنهي عنه في صفة القبح قسمان: قسم منه ما هو قبيح لعينه، وقسم منه ما هو قبيح لغيره، وهذا القسم يتنوع نوعين: نوع منه ما هو قبيح لمعنى جاوره جمعا، ونوع منه ما هو قبيح لمعنى اتصل به وصفا.
فأما بيان القسم الاول في العبث والسفه فإنهما قبيحان شرعا، لان واضع اللغة وضع هذين الاسمين لما يكون خاليا عن الفائدة، ومبنى الشرع على ما هو حكمة لا يخلو عن فائدة، فما يخلو عن ذلك قطعا يكون قبيحا شرعا، ومن هذا النوع فعل اللواطة، فالمقصود من اقتضاء الشهوة شرعا هو النسل وهذا المحل ليس بمحل له
أصلا فكان قبيحا شرعا، ونظيره من العقود بيع الملاقيح والمضامين، فإنه قبيح شرعا لان البيع مبادلة المال بالمال شرعا وهو مشروع لاستنماء المال به، والماء في الصلب والرحم لا مالية فيه فلم يكن محلا للبيع شرعا، وكذلك الصلاة بغير الطهارة لان الشرع قصر الاهلية لاداء الصلاة على كون المصلي طاهرا عن الحدث والجنابة فتنعدم الاهلية بانعدام صفة الطهارة، وانعدام الاهلية فوق انعدام المحلية، فكان كل واحد منهما قبيحا شرعا بهذا الطريق.
وحكم هذا النوع من المنهي بيان أنه غير مشروع أصلا لان المشروع لا يخلو عن حكمة، وبدون الاهلية والمحلية لا تصور لذلك فيعلم به أنه غير مشروع أصلا.
وبيان النوع الثاني من الافعال وطئ الرجل زوجته في حالة الحيض، فإنه حرام منهي عنه ولكن لمعنى استعمال الاذى واستعمال الاذى مجاور للوطئ جمعا غير متصل به وصفا، ولهذا جاز له أن يستمتع بها فيما سوى موضع خروج الدم في قول محمد رحمه الله لانه لا يجاور فعله استعمال الاذى، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله يستمتع بها

فوق المئزر ويجتنب ما تحته احتياطا، لانه لا يأمن الوقوع في استعمال الاذى إذا استمتع بها في الموضع القريب من موضع الاذى.
ونظير هذا النوع من العقود والعبادات البيع وقت النداء، فإنه منهي عنه لما فيه من الاشتغال عن السعي إلى الجمعة بغيره بعدما تعين لزوم السعي وذلك يجاور البيع ولا يتصل به وصفا، والصلاة في الارض المغصوبة منهي عنها لمعنى شغل ملك الغير بنفسه وذلك مجاور لفعل الصلاة جمعا غير متصل به وصفا، فعرفنا أن قبحه لمعنى في غيره.
وحكم هذا النوع أنه يكون صحيحا مشروعا بعد النهي من قبل أن القبح لما كان باعتبار فعل آخر سوى الصلاة والبيع والوطئ لم يكن مؤثرا في المشروع لا أصلا ولا وصفا، ألا ترى أن الصائم إذا ترك الصلاة يكون فعل الصوم منه عبادة صحيحة
هو مطيع فيه وإن كان عاصيا في ترك الصلاة، وهنا يكون مطيعا في الصلاة وإن كان عاصيا في شغل ملك الغير بنفسه، ومباشرا للوطئ المملوك بالنكاح وإن كان عاصيا مرتكبا للحرام باستعمال الاذى، ولهذا قلنا يثبت الحل للزوج الاول بالوطئ الثاني إياها في حالة الحيض، ويثبت به إحصان الواطئ أيضا.
وأما النوع الثالث فبيانه في الزنا فإنه وطئ غير مملوك فكان قبيحا شرعا، لان الشرع قصر ابتغاء النسل بالوطئ على محل مملوك، فقال الله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) ونظيره من العقود الربا فإنه قبيح لمعنى اتصل بالبيع وصفا وهو انعدام المساواة التي هي شرط جواز البيع في هذه الاموال شرعا، ومن العبادات النهي عن صوم يوم العيد وأيام التشريق فإنه قبيح لمعنى اتصل بالوقت الذي هو محل الاداء وصفا وهو أنه يوم عيد ويوم ضيافة.
ثم لا خلاف فيما يكون من الافعال التي يتحقق حسا من هذا النوع أنه في صفة القبح ملحق بالقسم الاول، فإن الزنا وشرب الخمر حرام لعينه غير مشروع أصلا، ولهذا تتعلق بهما العقوبة التي تندرئ بالشبهات، وما كان مشروعا من وجه وحراما لغيره لا يخلو عن شبهة، فإيجاب العقوبة فيهما دليل ظاهر على أن حرمتهما لعينهما وذلك دليل على قبح المنهي عنه لعينه

واختلفوا فيما يكون من هذا النوع من العقود والعبادات.
قال علماؤنا رحمهم الله: موجب مطلق النهي فيها تقرير المشروع مشروعا وجعل أداء العبد إذا باشرها فاسدا إلا بدليل.
وقال الشافعي: موجب مطلق النهي في هذا النوع انتساخ المنهي عنه وخروجه من أن يكون مشروعا أصلا إلا بدليل.
وحجته في ذلك أن النهي ضد الامر.
ثم مقتضى مطلق الامر شرع المأمور به، فمقتضى مطلق النهي ضده وهو انعدام كون المنهي عنه مشروعا، وهذا لان الحقيقة هو المراد من كل نوع حتى يقوم دليل
المجاز، ثم الحقيقة في مطلق الامر إثبات صفة الحسن في المأمور به شرعا لعينه لا لغيره.
وكذلك الحقيقة في مطلق النهي إثبات صفة القبح في المنهي عنه لعينه لا لغيره، وهذا لان المطلق ينصرف إلى الكامل دون الناقص، فإن الناقص موجود من وجه دون وجه ومع شبهة العدم فيه لا يثبت ما هو الحقيقة فيه، فبهذا تبين أن المطلق يتناول الكامل، والكمال في الامر الذي هو طلب الايجاد بأن يحسن المأمور به لعينه، فكذلك الكمال فيما هو طلب الاعدام إثبات صفة القبح في إيجاده لعينه.
وإذا تقرر هذا خرج المنهي عنه من أن يكون مشروعا لمقتضى النهي وحكمه، أما مقتضاه فلان أدنى درجات المشروع أن يكون مباحا، والقبيح لعينه لا يجوز أن يكون مباحا فكذلك لا يجوز أن يكون مشروعا، وبهذا تبين أن النهي بمعنى النسخ في إخراج المنهي عنه من أن يكون مشروعا.
وأما حكمه فوجوب الانتهاء ليكون معظما مطيعا للناهي في الانتهاء، ويكون عاصيا لا محالة في ترك الانتهاء، وإنما يكون عاصيا بمباشرة ما هو خلاف المشروع، فعرفنا أن بالنهي يخرج من أن يكون مشروعا.
يقرره أن المنهي عنه لا يكون مرضيا به أصلا وإن كان لا تنعدم به الارادة، والقضاء والمشيئة بمنزلة الكفر والمعاصي، فإنها تكون من العباد بالارادة والمشيئة والقضاء ولا يكون مرضيا به، قال الله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) والمشروع ما يكون مرضيا به، قال الله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) الآية، فبهذا تبين أن المنهي عنه غير مشروع أصلا، ثم صفة القبح في المنهي عنه وإن كان لمعنى اتصل به وصفا فذلك دليل على أنه لم يبق مشروعا لان ذلك الوصف لا يفارق

المنهي عنه ومع وجوده لا يكون مشروعا، فبه يخرج من أن يكون مشروعا أصلا بمنزلة نكاح المعتدة والنكاح بغير شهود فإن النهي عنهما كان لمعنى زائد على ما به يتم العقد من فقد شرط أو زيادة صفة في المحل، ثم يخرج به من أن يكون مشروعا أصلا
مقيدا بما هو الحكم المطلوب من النكاح.
إذا تقرر هذا فالمسائل تخرج له على هذا الاصل منها أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لان ثبوتها بطريق النعمة والكرامة حتى تكون أمهاتها وبناتها في حقه كأمهاته وبناته في المحرمية فيستدعي سببا مشروعا والزنا قبيح لعينه غير مشروع أصلا فلا يصلح سببا لهذه الكرامة.
ومنها أن البيع الفاسد نحو الربا والبيع بأجل مجهول وبيع المال بالخمر لا يكون موجبا للملك بحال، لان الملك نعمة وكرامة، ألا ترى أن صفة المالكية إذا قوبلت بالمملوكية كان معنى النعمة بالمالكية فيستدعي سببا مشروعا والقبيح لعينه لا يكون مشروعا أصلا.
يقرره أن النعمة تستدعي سببا مرغوبا فيه شرعا ليرغب العاقل في مباشرته لتحصيل النعمة والمنهي عنه شرعا لا يجوز أن يكون مرغوبا فيه شرعا.
ومنها أن الغصب لا يكون موجبا للملك عند تقرر الضمان لهذا المعنى.
ومنها أن استيلاء الكفار على مال المسلم لا يكون موجبا للملك لهم شرعا لان ذلك عدوان محض فلا يكون ذلك مشروعا في نفسه ولا يصلح سببا لحكم مشروع مرغوب فيه.
ومنها أن صوم يوم العيد لم يبق بعد النهي صوما مشروعا حتى لا يصح التزامه بالنذر لان الصوم المشروع عبادة والعبادة اسم لما يكون المرء بمباشرته مطيعا لربه، فما يكون هو بمباشرته عاصيا مرتكبا للحرام لا يكون صوما مشروعا.
ومنها أن العاصي في سفره كالعبد الآبق وقاطع الطريق لا يترخص برخص المسافرين، لان ثبوت ذلك بطريق النعمة لدفع الحرج عنه عند السير المديد، فإذا كان سيره معصية لم يصلح سببا لما هو نعمة في حقه، إذ النعمة تستدعي سببا مشروعا وما يكون المرء عاصيا بمباشرته فإنه لا يكون مشروعا.
ومنها بيع الدهن النجس فإنه لا يكون مشروعا مفيدا لحكمه لان النجاسة لما اتصلت بالدهن وصفا فصارت بحيث لا تفارقه خرج الدهن من أن يكون محلا للبيع المشروع

والتحق بودك الميتة فخرج من أن يكون محلا للبيع مفيدا لحكمه وهو الملك كما
بينا في بيع الملاقيح والمضامين.
قال: ولا يدخل على ما ذكرنا الظهار فإنه موجب للكفارة التي هي مشروعة وإن كان هو في نفسه قبيحا حراما لانه منكر من القول وزور، هذا لان الكفارة مشروعة جزاء على ارتكاب المحظور بمنزلة الحدود لا أصلا بنفسه على سبيل الكرامة والنعمة، والجزاء يستدعي سببا محظورا فيكون الظهار محظورا يحقق معنى السببية لما هو في معنى الجزاء، ولا تعدم الصلاحية لذلك.
ولا يدخل عليه استيلاد أحد الشريكين الجارية المشتركة، فإنه يثبت النسب والملك للمستولد في نصيب شريكه وذلك حكم مشروع يثبت بسبب وطئ محظور، لان ثبوت النسب باعتبار وطئه ملك نفسه والنهي باعتبار أن وطأه يصادف ملك الشريك أيضا وملك الشريك مجاور لملكه جمعا غير متصل بملكه وصفا وكان في الصلاحية لثبوت النسب به بمنزلة الوطئ في حالة الحيض.
ثم إنما يملك نصيب الشريك حكما لثبوت أمية الولد في نصيبه، وكون الاستيلاد مما لا يحتمل الوصف بالتجزي وذلك غير محظور.
ولا يدخل على هذا الطلاق في حالة الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه فإنه منهي عنه ومع ذلك كان واقعا موجبا لحكم مشروع وهو الفرقة، لان هذا النهي لاجل الحيض وهو صفة المرأة غير متصل بالطلاق وصفا ولكنه مجاور له جمعا حين أوقعه في وقته.
وكان النهي لمعنى الاضرار بها من حيث تطويل العدة عليها، أو تلبيس أمر العدة عليها إذا أوقع في الطهر الذي جامعها فيه وذلك غير متصل بالطلاق الذي هو سبب الفرقة أصلا ولا وصفا.
ولا يدخل على ما ذكرنا إحرام المجامع لاهله فإنه ينعقد موجبا أداء الاعمال وإن كان منهيا عنه، لان النهي عن الجماع مع عقد الاحرام والجماع غير متصل بالاحرام أصلا ولا وصفا، ولهذا كان موجبا للقضاء والشروع بصفة الفساد غير موجب للقضاء بالاتفاق، فتبين به أنه ينعقد صحيحا ثم فسد لارتكاب المحظور به،

ولكن الاحرام مشروع على أنه لا يخرج منه المرء بعدما شرع فيه إلا بالطريق الذي
عينه الشرع للخروج منه وهو أداء الاعمال أو الدم عند الاحصار فيلزمه أداء الاعمال ليكتسب به طريق الخروج من الاحرام شرعا وذلك مشروع فيجوز أن يلزمه أداء الاعمال أيضا.
وكذلك لو جامعها بعدما أحرم فإنه لا يخرج إلا بأداء الاعمال لهذا المعنى، ولان الجماع في الاحرام محظور شرعا فيجوز أن يقال ما يلزمه من أداء الاعمال بعده على وجه لا يكون معتدا به في إسقاط الواجب عنه جزاء على ارتكاب ما هو محظور، وكلامنا فيما هو مشروع ابتداء لا جزاء، وقبل الجماع لزمه أداء الاعمال بسبب مشروع وليس إلى العبد ولاية تغيير المشروع وإن كان الاداء يفسد بفعل منه كما تفسد الصلاة بالتكلم فيها ولا يتغير به المشروع، وإذا لم يصلح فعله مغيرا بقي طريق الخروج بأداء الافعال مشروعا كما كان قبل الجماع، وللشرع ولاية نفي المشروع وإخراجه من أن يكون مشروعا كما له ولاية الشرع بمطلق نهيه الذي هو دليل القبح في المنهي عنه، فصلح أن يكون مخرجا للمنهي عنه من أن يكون مشروعا، فلهذا لم يبق مشروعا بعد النهي.
وحجتنا ما ذكره محمد رحمه الله في كتاب الطلاق، فإنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد وأيام التشريق فنهانا عما يتكون وعما لا يتكون والنهي عما لا يتكون لغو، حتى لا يستقيم أن يقال للاعمى لا تبصر، وللآدمي لا تطر، ومعلوم أنه إنما نهى عن صوم شرعي، فالامساك الذي يسمى صوما لغة غير منهي عنه، ومن أتى به لحمية أو مرض أو قلة اشتهاء لا يكون مرتكبا للمنهي عنه، فهذا دليل على أن الصوم الذي هو عبادة مشروع في الوقت بعد النهي كما كان قبله.
وتقرير هذا الكلام من وجهين: أحدهما أن موجب النهي هو الانتهاء وإنما يتحقق الانتهاء عن شئ والمعدوم ليس بشئ، فكان من ضرورة صحة النهي موجبا للانتهاء كون المنهي عنه مشروعا في الوقت، فكيف يستقيم أن يجعل المنهي عنه
غير مشروع بحكم النهي بعدما كان مشروعا ! وبه تبين أن النهي ضد النسخ، فالنسخ

تصرف في المشروع بالرفع ثم ينعدم أداء العبد باعتبار أنه لم يبق مشروعا وليس للعبد ولاية الشرع، والنهي تصرف في منع المخاطب من أداء ما هو مشروع في الوقت فيكون انعدام الاداء منه انتهاء عما نهي عنه، ومقتضى النهي حرمة الفعل الذي هو أداء لوجوب الانتهاء فبقي المشروع مشروعا كما كان، ويصير الاداء فاسدا حراما، لان فيه ترك الانتهاء الواجب بالنهي.
وبيان هذا في قوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة) فإنه كان تحريما لفعل القربان ولم يكن تحريما لعين الشجرة، وكما لا يتصور تحريم قربان الشجرة بدون الشجرة لا يتحقق تحريم أداء الصوم في وقت ليس فيه صوم مشروع.
وبهذا الحرف يتبين الفرق بين الافعال الحسية والعقود الحكمية والعبادات الشرعية، فإنه ليس من ضرورة حرمة الافعال الحسية انعدام التكون، فقلنا تأثير التحريم في إخراجها من أن تكون مشروعة أصلا وإلحاقها بما هو قبيح لعينه، ومن ضرورة تحريم العقود الشرعية بقاء أصلها مشروعا إذ لا تكون لها إذا لم تبق مشروعة، وبدون التكون لا يتحقق تحريم فعل الاداء، وكذلك في العبادات، فكان في إبقاء المشروع مشروعا مراعاة حقيقة النهي لا أن يكون تركا للحقيقة كما قرره الخصم.
يوضحه أن صفة الفساد للعقد لا يكون إلا عند وجود العقد فإن الصفة لا تسبق الموصوف، وكذلك فساد المؤدى من الصوم لا يسبق الاداء، ولا أداء إذا لم يبق مشروعا، فبه تبين أنه بقي مشروعا والمشروعات لا تكون قبيحا لعينه، فعرفنا أن القبح لوصف اتصل به فصار به الاداء قبيحا فاسدا، إلا في موضع يتعذر الجمع بين صفة الحرمة وبقاء الاصل، فحينئذ ينعدم ضرورة ويكون ذلك نسخا من طريق المعنى في صورة النهي لا أن يكون نهيا حقيقة ولا ضرورة هنا.
فالصوم والصلاة يستقيم أن يكون أصله مشروعا مع كون الاداء حراما كصوم يوم الشك
والصلاة في وقت مكروه، وكذلك العقود الشرعية يتصور بقاء أصلها مشروعا مع حرمة مباشرة التصرف وفساده كالطلاق في حالة الحيض وفي الطهر الذي جامع فيه امرأته.
وتقرير آخر أن النهي يوجب إعدام المنهي عنه بفعل مضاف إلى كسب العبد

واختياره لانه ابتلاء كالامر، وإنما يتحقق الابتلاء إذا بقي للعبد فيه اختيار، حتى إذا انتهى معظما لحرمة الناهي كان مثابا عليه، وإذا أقدم عليه تاركا تعظيم حرمة الناهي كان معاقبا على إيجاده، ولا يتحقق ذلك إلا فيما هو مشروع، فبهذا تبين أن موجب النهي إنما يتحقق في العقود الشرعية والعبادات إذا كانت مشروعة بعد النهي، فأما صفة القبح فهو ثابت بمقتضى النهي، ولكن ثبوت المقتضى لتصحيح المقتضى لا لابطاله، وإذا انعدم المشروع بمقتضى صفة القبح ينعدم موجب النهي، وبانعدامه يبطل النهي فلا يجوز إثبات المقتضى على وجه يكون مبطلا للمقتضي.
والشافعي رحمه الله فعل ذلك فكان قوله فاسدا، ونحن أثبتنا أصل النهي موجبا للانتهاء، ثم أثبتنا المقتضى بحسب الامكان على وجه لا يبطل به الاصل ولكن يثبت القبح والحرمة صفة لاداء العبد المشروع في الوقت، فإن القبح إذا كان في وصف الشئ لا يعدم أصله كالاحرام بعد الفساد فإنه يبقى أصله وإن كان قبيحا لمعنى اتصل بوصفه وهو الفساد، والعذر الذي ذكره يرجع إلى تحقيق ما ذكرنا، فإن فساد الاحرام بالجماع حكم ثابت شرعا وإلى الشرع ولاية إعدام أصل الاحرام فلو كان من ضرورة صفة الفساد انعدام الاصل في المشروعات لكان الحكم بفساده شرعا معدما لاصله، ألا ترى أن بسبب الردة ينعدم أصل الاحرام وإن كان ذلك من أعظم الجنايات، لان حبوط العمل بالردة حكم شرعي، وبسبب الاحصار يتمكن من الخروج من الاحرام قبل أداء الاعمال وذلك جناية من العبد ولكن جواز دفع ضرر استدامة الاحرام
عن نفسه حكم شرعي فيتمكن به من الخروج قبل أداء الاعمال، وكان ما بيناه نهاية في التحقيق، ومراعاة لحقيقة موجب النهي، وإثباتا بمقتضاه بحسب الامكان وبهذا يتبين الفرق بين الامر والنهي على ما استدل به الخصم، فإن مطلق الامر يوجب حسن المأمور به لعينه، لانه طلب الايجاد بأبلغ الجهات، فتمام ذلك بالوجود حقيقة فكان في إثبات صفة الحسن بمقتضى الامر على هذا الوجه تحقيق المأمور به، فأما النهي فطلب الاعدام بأبلغ الجهات، ولكن مع بقاء اختيار العبد فيه ليكون مبتلى كما في الامر، وحقيقة ذلك إنما يتكون به فيما هو مشروع ويبقى بعد النهي مشروعا،

فيثبت مقتضاه على الوجه الذي يوجبه ما هو الموجب الاصلي فيه حقيقة، وكما أن المأمور به لا يصير موجودا بمقتضى الامر لانه ينعدم به معنى الابتلاء فكذلك المنهي عنه لا ينعدم بمجرد النهي لتحقيق معنى الانتهاء وإذا لم ينعدم بقي مشروعا لا محالة.
وبيان تخريج المسائل على هذا الاصل أن نقول: الصوم مشروع في كل يوم باعتبار أنه وقت اقتضاء الشهوة عادة، والصوم منع النفس عن اقتضاء الشهوة لابتغاء مرضاة الله تعالى، ويوم العيد كسائر الايام في هذا فكان الصوم مشروعا فيه وبالنهي لم ينعدم هذا المعنى، ثم النهي ليس لانه صوم شرعي ولكن لما فيه من معنى رد الضيافة، وإليه وقعت الاشارة في قوله عليه السلام: فإنها أيام أكل وشرب وهذا المعنى باعتبار صفة اليوم وهو أنه يوم عيد فيثبت القبح في الصفة دون الاصل وهو أنه يكون حرام الاداء، والمؤدى يكون عاصيا بارتكابه ما هو حرام ويبقى أصل الصوم مشروعا في الوقت لانه مشروع باعتبار أصل اليوم ولا قبح فيه، ولهذا قلنا يصح التزامه بالنذر، لانه بالنذر يصير ملتزما في ذمته ما هو عبادة مشروعة في الوقت ولا فساد في المشروع، وذكر اليوم لبيان مقدار ما التزمه على ما بينا أن الوقت معيار للصوم، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله (إنه) لا يلزمه بالشروع، وإن أفسده بعد الشروع لا يلزمه
القضاء لان الشروع أداء منه فيكون حراما فاسدا فيكون هذا مطالبا بالكف عنه شرعا لا بإتمامه فلا يكون الافطار جناية منه على حق الشرع ولا يبقى في عهدته حتى يحتاج إلى القضاء، فأما بالنذر فلا يصير مرتكبا للحرام فيصح نذره ويؤمر بالخروج عنه بصوم يوم آخر، وبه يتم التحرز عن ارتكاب المحرم، ولكن لو صام فيه خرج عن موجب نذره لانه التزم المشروع في الوقت ونتيقن أنه أدى المشروع في الوقت إذا صام فيسقط عنه الواجب وإن كان الاداء فاسدا منه كمن نذر أن يعتق عبدا بعينه فعمى ذلك العبد أو كان أعمى يتأدى المنذور بإعتاقه ولا فرق بينهما، فالعبد مستهلك باعتبار

وصفه (قائم باعتبار أصله، والصوم في هذا الوقت مشروع باعتبار أصله فاسد الاداء باعتبار وصفه) ولهذا لا يتأدى واجب آخر بصوم هذا اليوم، لان ذلك وجب في ذمته كاملا وبصفة الفساد والحرمة في الاداء ينعدم الكمال ضرورة، وعلى هذا الصلاة في الاوقات المكروهة، فالاداء منهي لمعنى هو صفة الوقت وهو أنه وقت مقارنة الشيطان الشمس على ما ورد به الاثر فلا ينعدم أصل العبادة مشروعا فيه ولكن يحرم الاداء ويلزم بالشروع كما يلزم بالنذر، لان الصلاة عبادة معلومة بأركانها والوقت ظرف لها لا معيار فلا يصير مؤديا بمجرد الشروع والمحرم هو الاداء، ويتصور بهذا الشروع الاداء بدون صفة الحرمة بأن يصير حتى تبيض الشمس فلم يكن الشروع فاسدا كما لم يكن النذر فاسدا فيلزمه القضاء لهذا ولكن لا يتأدى به واجب آخر، لان النهي باعتبار وصف الوقت الذي هو ظرف للاداء يمكن نقصانا في الاداء والواجب في ذمته بصفة الكمال فلا يتأدى بالناقص إلا عصر يومه، فإن الوجوب باعتبار ذلك الجزء الذي هو سبب وإنما يثبت الوجوب بصفة النقصان وقد أدى بتلك الصفة فسقط عنه الواجب، وعلى هذا قلنا: البيع الفاسد يكون مشروعا بأصله موجبا لحكمه وهو الملك إذا تأيد بالقبض، لان المشروع إيجاب وقبول من أهله في محله
وبالشرط الفاسد لا يختل شئ من ذلك، ألا ترى أن الشرط لو كان جائزا لم يكن مبدلا لاصله بل يكون مغيرا لوصفه، والشرط الفاسد لا يكون معدما لاصله أيضا بل يكون مغيرا لوصفه فصار فاسدا، وليس من ضرورة صفة الفساد فيه انعدام أصله لان بالفساد يثبت صفة الحرمة، وهذا السبب مشروع لاثبات الملك، وملك اليمين مع صفة الحرمة يجتمع، ألا ترى أن من اشترى أمة مجوسية أو مرتدة يثبت الملك له مع الحرمة، وأن العصير إذا تخمر يبقى مملوكا له مع الحرمة فلهذا أثبتنا في البيع الفاسد ملكا حراما مستحق الدفع لفساد السبب ولم ينعدم به أصل المشروع بخلاف النكاح الفاسد فإنه ليس في النكاح إلا ملكا ضروريا يثبت به حل الاستمتاع، ولهذا سمي ذلك الملك حلالا في نفسه، ومن ضرورة فساد السبب ثبوت صفة الحرمة، وبين الحرمة

وبين ملك النكاح منافاة فينعدم الملك، ومن ضرورة انعدامه خروج السبب من أن يكون مشروعا، لان الاسباب الشرعية تراد لاحكامها وثبوت النسب ووجوب المهر والعدة من حكم الشبهة لا من حكم أصل العقد شرعا، وهذا الكلام يتضح في النكاح بغير شهود، فإن قوله عليه السلام: لا نكاح إلا بشهود إخبار عن عدمه بدون هذا الشرط فيكون نفيا لا نهيا، بمنزلة قول الرجل لا رجل في الدار، وكذلك في نكاح المحارم، فإن النص الوارد فيه تحريم العين بقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) إلى آخر الآية ولا يجتمع الحل والحرمة في محل واحد فكان ذلك نفيا للحل بالنكاح لا نهيا، وكذلك نكاح المعتدة فإن قوله تعالى: (والمحصنات من النساء) معطوف على قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) معناه: وحرمت المحصنات من النساء، وذلك عبارة عن منكوحة الغير ومعتدته فيكون نفيا لا نهيا، وكذلك قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) فقد ظهر بالدليل أن الحرمة الثابتة بالمصاهرة هي الثابتة بالنسب على أن تقوم المصاهرة مقام النسب في ذلك، فكان
تقديره: وحرمت عليكم ما نكح آباؤكم، وتصير صورة النهي عبارة عنه مجازا باعتبار هذا المعنى فكان نفيا كما هو موجب النسخ لا نهيا، وكذلك قوله عليه السلام: لا تنكح الامة على الحرة فإنه إخبار فيكون نفيا للنكاح مع أن الدلالة قد قامت على أن الامة من جملة المحرمات مضمومة إلى الحرة فإن الحل فيه على النصف من حل الحرة على ما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى، ومن ضرورة حرمة المحل انتفاء النكاح المشروع فيه كما قررناه، وعلى هذا عقد الربا فإنه نوع بيع ولكنه فاسد لا بخلل في ركنه بل لانعدام شرط الجواز وهو المساواة في القدر فكما أن بوجود شرط مفسد لا ينعدم أصل المشروع فكذلك بانعدام شرط مجوز لا ينعدم أصل المشروع وثبوت ملك حرام به كما اقتضاه مثل هذا السبب.

فإن قيل قوله تعالى: (وحرم الربا) يوجب نفي أصله مشروعا كقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) بل أولى لانه أضاف هذا التحريم إلى نفسه، وهناك الحرمة مضافة إلى الام.
قلنا الربا عبارة عن الفضل، فمعنى قوله تعالى: (وحرم الربا) أي حرم اكتساب الفضل الخالي عن العوض بسبب التجارة ونحن نثبت هذه الحرمة ولكن بينا أنه ليس من ضرورة الحرمة في ملك اليمين انتفاء أصل الملك، وعلى هذا قلنا بيع العبد بالخمر فإن الخمر فاسد التقوم شرعا ولم تنعدم به أصل المالية الثابتة فيه بالتمول فإن تموله ما فسد شرعا لما فيه من عرضية التخلل إذ التمول للشئ عبارة عن صيانته وادخاره لوقت الحاجة وإمساك الخمر إلى أن يتخلل لا يكون حراما شرعا، بمنزلة من أحرم وله صيد فإن الصيد لا يكون متقوما في حق تصرفه حتى لا يتمكن من التصرف فيه ويكون محرم العين في حقه ولكن لا ينعدم أصل المالية فيه باعتبار ماله وهو ما بعد التحلل من الاحرام، ولهذا اختلف العلماء في جواز هذا البيع، فمنهم من يقول هو جائز بالقيمة ولو قضى القاضي بهذا نفذ قضاؤه، فإذا تبين أنه
لم ينعدم ما هو ركن العقد قلنا ينعقد العقد موجبا حكمه في محل يقبله وهو العبد ولا ينعقد موجبا للحكم في محل لا يقبله وهو الخمر حتى لا يملك الخمر وإن قبضه بحكم العقد، بخلاف البيع بالميتة والدم فإنه لا مالية في الميتة والدم باعتبار الحال ولا باعتبار المآل، وكذلك جلد الميتة لا مالية فيه باعتبار الحال فإنه لو ترك كذلك فإنه يفسد وإنما تحدث فيه المالية بصنع مكتسب وهو الدباغة، ولهذا اتفق العلماء على بطلان هذا العقد، ولو قضى قاض بجوازه لم ينفذ قضاؤه، فلانعدام ما هو ركن العقد لم ينعقد العقد، لان انعقاده شرعا لا يكون بدون ركنه، وعلى هذا جوزنا بيع الدهن الذي وقع فيه نجاسة لان الدهن مال متقوم وبوقوع النجاسة فيه ما انعدم أصله ولا تغير وصفه إنما جاوره أجزاء النجاسة ولاجله حرم تناوله فيكون بمنزلة النهي الذي ورد لمعنى في غير المنهي عنه وهو غير متصل به وصفا، ومثل هذا النهي لا يمنع جواز العقد كما لا يمنع كمال العبادة، ولهذا يتأدى الفرض بأداء الصلاة في الارض المغصوبة،

ويتأدي صوم الفرض في أيام الوصال إذا نواه، لان النهي بالمجاورة لا لمعنى اتصل بالوقت الذي يؤدى فيه الصوم إلا أن الوصال لا يتحقق، لان الشرع أخرج زمان الليل من أن يكون وقتا لركن الصوم وهو الامساك باعتبار أن الامساك فيه عادة فكان ذلك نسخا استعير لفظ النهي له مجازا، ولا كلام في جواز ذلك إنما الكلام في موجب النهي حقيقة.
ثم في البيع يمكن تمييز الدهن مما جاوره حكما فيكون البيع متناولا للدهن دون النجاسة وفي التناول لا يمكن تمييز الدهن مما جاوره فلا يحل تناوله، فلهذا جاز بيع الثوب النجس ولا تجوز الصلاة فيه، وعلى هذا قلنا العاصي في سفره يترخص بالرخص، لان سبب الرخصة السير المديد وهو موجود بصفة الكمال لا قبح في أصله ولا في صفته وإنما القبح في معنى جاوره وهو قصده إلى قطع الطريق أو تمرد العبد على مولاه، ألا ترى أنه إذا ترك قصده بقصد الحج
خرج من أن يكون عاصيا ولم يتغير سفره وإنما تبدل قصده، وكذلك العبد إذا لحقه إذن مولاه لم يتغير سفره وخرج من أن يكون عاصيا، وعلى هذا قلنا في قوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) إن هذا النهي لا يعدم أصل الشهادة للقاذف حتى ينعقد النكاح بشهادته ولكن يفسد أداؤه حتى يخرج من أن يكون أهلا للعان لان اللعان أداء وأداؤه فاسد بعد هذا النهي المطلق، وعلى هذا قلنا الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لان الزنا قبيح لعينه، وحرمة المصاهرة ليست تثبت بالزنا ولا بالوطئ الحلال بعينه إنما الاصل فيه الولد المخلوق من الماءين وهو محترم مخلوق بخلق الله تعالى على أي وجه اجتمع الماءان في الرحم كما قال تعالى: (ثم أنشأناه خلقا آخر) فلا يتمكن فيه صفة القبح وتثبت الحرمة بطريق الكرامة له ثم تتعدى الحرمة إلى أطرافه وإلى أسباب خلقه، فيقام السبب وهو الوطئ في المحل الصالح لحدوث الولد فيه مقام نفس الولد في إثبات الحرمة، وما قام مقام غيره في إثبات حكم فإنما تراعى صلاحية السبب للحكم في الاصل لا فيما قام مقامه، بمنزلة التراب فإنه قائم مقام الماء في الطهارة

وصلاحية السبب لهذا الحكم في استعمال الماء الذي هو الاصل لا في استعمال التراب فإنه تلويث، ولهذا لم يكن وطئ الميتة والاتيان في غير المأتى ووطئ الصغيرة موجبا الحرمة، لان قيام الوطئ مقام الولد في هذا الحكم باعتبار كون المحل محلا يخلق فيه الولد وذلك لا يوجد في هذه المواضع، وعلى هذا قلنا في استيلاء الكفار على أموالنا إذا تم بالاحراز فهو موجب للملك، لان صفة الحرمة والقبح لهذا الفعل بواسطة العصمة في المحل وهذه الواسطة ثابتة من طريق الحكم في حقنا لا في حقهم فإنهم لا يعتقدون ذلك وولاية الالزام منقطعة بانعدام ولايتنا عنهم في دار الحرب، لان هذه الواسطة هي العصمة الثابتة بالاحراز بدار الاسلام عندنا وقد انتهت هذه العصمة بانتهاء سببها حين أحرزوها بدارهم حتى إن في زمان الاحراز لما كانت
العصمة عن الاسترقاق بالحرية المتأكدة بالاسلام ولم تنته بالاحراز الموجود منهم قلنا لا يملكون رقابنا، وعلى هذا قلنا الغصب سبب موجب للملك عند تقرر الضمان، لانه قبيح بأنه غصب والملك لا يثبت به وإنما يثبت الملك للغاصب بتملك المغصوب منه بدله وهو القيمة عليه، وهذا حكم شرعي لا قبح فيه، بل فيه حكمة بالغة وهو التحرز عن فضل خال عن العوض سالم للمغصوب منه شرعا فإنه إذا اجتمع الاصل والبدل في ملكه يتحقق هذا المعنى فيه مع أن الملك إنما لا يبقى للمغصوب منه ليتم به شرط سلامة الضمان له فإن الضمان ضمان جبر وإنما يجبر الفائت لا القائم فكان انعدام ملكه في العين شرطا لسلامة الضمان له وشرط الشئ تبعه فإنما تراعى صلاحية السبب في الاصل لا في التبع، وفي المدبر على هذا الطريق نقول: لما سلم الضمان للمغصوب منه بجعل الاصل زائلا عن ملكه حكما لان المدبر محتمل لذلك، ولهذا لو اكتسب هو كسبا ثم لم يرجع من إباقه حتى مات كان ذلك الكسب للغاصب وإنما لم يثبت الملك للغاصب فيه صيانة لحق المدبر، والتدبير موجب حق العتق له عند الموت ولهذا امتنع بيعه، وفي القن بعد ما زال ملك المغصوب منه لا مانع

من دخوله في ملك الغاصب الضامن وهذا أحق الناس به لانه ملك عليه بدله، أو نقول في المدبر لا يمكن أن يجعل الضمان بدلا عن العين، لان من شرطه انعدام ملكه في العين وهذا الشرط لا يمكن إيجاده بحق المدبر، فجعلنا الضمان ضمان الجناية واجبا باعتبار الجناية على يده وهذا جائز عند الضرورة ولا ضرورة في القن فيجعل بدلا عن العين، ولهذا قلنا لو أخذ القيمة بطريق الصلح بغير قضاء القاضي لا يملك عليه المدبر ويملك عليه القن.
وهذا طريق في تخريج جنس هذه المسائل.
فصل: في بيان حكم الامر والنهي في أضدادهما قال رضي الله عنه اعلم أن العلماء يختلفون فيهما جميعا، فنبين كل واحد منهما
على الانفراد ليكون أوضح.
أما بيان حكم الامر فقد قال بعض المتكلمين: لا حكم للامر في ضده.
وقال الجصاص رحمه الله: الامر بالشئ يوجب النهي عن ضده سواء كان له ضد واحد أو أضداد.
وقال بعضهم: يوجب كراهة ضده، والمختار عندنا أنه يقتضي كراهة ضده ولا نقول إنه يوجبه أو يدل عليه مطلقا.
وحجة الفريق الاول أن الضد مسكوت عنه والسكوت عنه لا يكون موجبا شيئا، ألا ترى أن التعليق بشرط لا يوجب نفي المعلق قبل وجود الشرط لانه مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل التعليق فهنا أيضا الضد مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل الامر.
يقرره أن الامر فيما وضع له لا يوجب حكما فيما لم يتناوله النص إلا بطريق التعدية إليه بعد التعليل فلان لا يوجب حكما في ضد ما وضع له كان أولى، وعلى قول هؤلاء الذم والاثم على من ترك الائتمار باعتبار أنه لم يأت بما أمر به.
قال الجصاص رحمه الله: وهو قول قبيح فإن فيه قولا باستحقاق العبد العقوبة على ما لم يفعله واستحقاق العقوبة إنما هو باعتبار فعل فعله العبد، ثم إنه بنى مذهبه على أن الامر المطلق يوجب الائتمار على الفور، فقال: من ضرورة وجوب الائتمار على الفور حرمة الترك الذي هو ضده والحرمة حكم النهي فكان موجبا للنهي عن ضده بحكمه.
يوضحه أن الامر طلب الايجاد للمأمور به على

أبلغ الجهات والاشتغال بضده يعدم ما وجب بالامر وهو الايجاد فكان حراما منهيا عنه لمقتضى حكم الامر، ولهذا يستوي فيه ما يكون ضد واحد أو أضداد، فبأي ضد اشتغل ينعدم ما هو المطلوب، ألا ترى أنه إذا قال لغيره اخرج من هذه الدار سواء اشتغل بالقعود فيها أو الاضطجاع أو القيام ينعدم ما أمر به وهو الخروج.
وهذا هو الحجة للفريق الثالث، إلا أنهم يقولون حرمة الضد بهذا الطريق تثبت بواسطة حكم الامر فإنما ثبت أدنى الحرمة فيه، لان ما ثبت بطريق الدلالة لا يكون مثل الثابت
بالنص والثابت بالنص ثابت من كل وجه وهذا ثابت من وجه دون وجه لتحقيق حكم الامر، ويكفي لذلك أدنى الحرمة، بمنزلة حرمة تثبت بالنهي لمعنى في غير المنهي عنه غير متصل بالنهي عنه فتثبت به الكراهة فقط.
ووجه القول المختار هذا الكلام أيضا إلا أنا نقول ثبوت الحرمة بطريق الاقتضاء هنا لان طلب الوجود بالامر يقتضي حرمة الضد ولا يثبت بدلالة النص إلا مثل ما هو ثابت بالنص أو أقوى منه كالتنصيص على حرمة التأفيف بدليل حرمة الشتم، لان فيه ذلك الاذى وزيادة، فأما ما ثبت بطريق الاقتضاء فهو ثابت لاجل الضرورة وإنما يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة، ووجود أحد الضدين يقتضي انتفاء الضد الآخر كالليل مع النهار فكان وجوب الاداء بالامر مقتضيا نفي الضد، وإنما حرم الضد بهذا الاقتضاء، فلهذا قلنا: إن الامر بالشئ يقتضي كراهة ضده لا أن يكون موجبا له أو دليلا عليه.
وما ذكره الجصاص أن مطلق الامر يوجب الائتمار على الفور دعوى منه، وقد ذكرنا أن الرواية بخلاف ذلك.
والجواب عما قاله الفريق الاول أن الضد مسكوت عنه يتضح بالتقرير الذي قلنا في وجه المختار، وهو أن ثبوت كراهة ضده بطريق الاقتضاء والمقتضى مسكوت عنه فإن ما يكون منصوصا عليه لا يكون ثبوته بطريق الاقتضاء، ولا خلاف بيننا وبينهم أن الاقتضاء طريق صحيح لاثبات المقتضى وإن كان مسكوتا عنه بعد أن يكون محتاجا إليه، وليس هذا نظير التعليق بالشرط فإن ذلك يوجب وجود الحكم ابتداء عند وجود الشرط، ومن ضرورة وجود الحكم عند وجود الشرط ابتداء أن لا يكون موجودا قبله ولكن انعدامه قبل وجود الشرط عدم أصلي فلا يصير مضافا إلى الوجود عند وجود الشرط نصا ولا اقتضاء، لان العدم الاصلي لا يستدعي دليلا معدما يضاف إليه، وأما ههنا وجوب الاقدام على الايجاد

يقتضي حرمة الترك والحرمة الثابتة بمقتضى الشئ تكون مضافا إليه، فجعلنا قدر
ما يثبت من الحرمة وهو الموجب للكراهة مضافا إلى الامر اقتضاء.
وإذا تبين حكم الامر فكذلك حكم النهي في ضده على هذه الاقاويل الاربعة.
فالفريق الاول يقولون لا حكم له في ضده لانه مسكوت عنه، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) فإنه لا يكون أمرا بضده وهو ترك قتل النفس إذ لو كان أمرا به لكان تارك قتل النفس مباشرا لفعل الطاعة وهو الائتمار بالامر فإنه يكون مستحق الثواب الموعود للمطيعين، وهذا فاسد.
وقال الجصاص رحمه الله: النهي عن الشئ يوجب ضده إن كان له ضد واحد وإن كان له أضداد فلا موجب له في شئ من أضداده، وبين ذلك في الحركة والسكون، فإن قول القائل لا تتحرك يكون أمرا بضده وهو السكون لان للمنهي عنه ضدا واحدا، وقوله لا تسكن لا موجب له في ضده لان له أضدادا وهي الحركة من الجهات الست فإن السكون ينعدم من أي جانب كانت الحركة فلا يتعين واحد من الاضداد مأمورا به بموجب النهي، وإذا قال لغيره لا تقم فللمنهي عنه أضداد من القعود والاضطجاع فلا موجب لهذا النهي في شئ من أضداده.
قال لان موجب النهي إعدام المنهي عنه بأبلغ الوجوه، وإذا كان له ضد واحد فمن ضرورة وجوب الاعدام الكف عن الايجاد فيكون النهي موجبا الامر بالضد بحكمه.
واستدل على ذلك بقوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) فإنه نهى عن الكتمان وهو موجب الامر بالاظهار ولهذا وجب قبول قولها فيما تخبره، لانها مأمورة بالاظهار، ونهى المحرم عن لبس المخيط لا يكون أمرا بلبس شئ عين من غير المخيط لان للمنهي عنه أضدادا هنا، وبحكم النهي لا يثبت الامر بجميع الاضداد وليس بعضها بأولى من البعض.
يوضح الفرق بينهما أن مع التصريح بالنهي فيما له ضد واحد لا يستقيم التصريح بالاباحة في الضد، فإنه لو قال نهيتك عن التحرك وأبحت لك السكون أو أنت بالخيار في السكون كان كلاما مختلا، لان موجب النهي تحريم المنهي عنه
ومع تحريمه لا يتصور التخيير في ضده لاستحالة انعدامهما جميعا وصفة الاباحة تقتضي

التخيير، وبهذا يتبين فساد ما ذهب إليه الفريق الاول من أن الضد مسكوت عنه، ولا تعويل على استدلالهم بالنهي عن قتل النفس، لانا نجعل ذلك بمنزلة التصريح بالكف عن قتل النفس لتحقيق موجب النهي، والناس تكلموا في أن الامر بالكف عن قتل النفس ما حكمه ؟ منهم من قال معنى الابتلاء لا يتحقق في مثل هذا لان طبع كل واحد يحمله على ذلك ونيل الثواب في العمل بخلاف هوى النفس ليتحقق فيه الابتلاء.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه ينال به ثواب المطيعين عند قصد امتثال الامر وإظهار الطاعة، وهكذا نقول إذا ثبت ذلك بحكم النهي، فأما إذا كان للمنهي عنه أضداد يستقيم التصريح بالاباحة في جميع الاضداد بأن تقول لا تسكن وأبحت لك التحرك من أي جهة شئت، فعرفنا أنه لا موجب لهذا النهي في شئ من الاضداد، وقول من يقول بأن مثل هذا النهي يكون أمرا بأضداده يؤدي إلى القول بأنه لا يتصور من العبد فعل مباح أو مندوب إليه، فإن المنهي عنه محرم وأضداده واجب بالامر الثابت بمقتضى النهي فكيف يتصور منه فعل مباح أو مندوب إليه ؟ وفي اتفاق العلماء على أن أقسام الافعال التي يأتي بها العبد عن قصد أربعة: واجب ومندوب إليه ومباح ومحظور، دليل على فساد قول هذا القائل.
وأما الفريق الثالث فيقولون: موجب النهي في ضده إثبات سنة تكون في القوة كالواجب، لان هذا أمر ثبت بطريق الدلالة فيكون موجبه دون موجب الثابت بالنص، وعلى القول المختار يحتمل أن يكون مقتضيا هذا المقدار على قياس ما بينا في الامر، وكذلك إذا كان للمنهي عنه أضداد فإنه يثبت هذا القدر من المقتضي في أي أضداده يأتي به المخاطب، ولهذا قلنا بأن النهي عن لبس المخيط في حالة الاحرام
يثبت أن السنة لبس الازار والرداء، وذلك أدنى ما يقع به الكفاية من غير المخيط.
فأما قوله: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) فهو نسخ وليس بنهي بمنزلة قوله تعالى: (لا يحل لك النساء من بعد) وإنما كان هذا أمرا بالاظهار بواسطة أن الكتمان لم يبق مشروعا وهو نظير قوله: لا نكاح إلا بشهود وقد

بينا تحقيق هذا المعنى فيما سبق، فأما بيان فائدة الاصل المذكور في هذا الفصل من مسائل الفقه أن نقول: لما كان الامر مقتضيا كراهة الضد لم يكن ضده مفسدا للعبادة إلا أن يكون مفوتا لما هو واجب بصيغة الامر ولكن يكون مكروها في نفسه، فإن المأمور بالقيام في الصلاة إذا قعد لا تفسد صلاته لانه لم يفت بهذا الضد ما هو الواجب بالامر وهو القيام إذا أتى به بعد القعود ولكن القعود مكروه في نفسه، ولكون النهي مقتضيا في ضده ما بينا من صفة السنة قلنا لا ينعدم بالضد ما هو موجب صيغة النهي، فإن ركن العدة الامتناع من الخروج والتزوج، ثبت ذلك بصيغة النهي، قال تعالى: (ولا يخرجن) وقال: (ولا تعزموا عقدة النكاح) فإن فعلت ذلك لم ينعدم به مأمور ما هو ركن الاعتداد حتى تنقضي العدة، بخلاف الكف في باب الصوم فإنه واجب بصيغة الامر نصا، قال تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) فينعدم الاداء بمباشرة الضد وهو الاكل، وعلى هذا قلنا العدتان تنقضيان بمضي مدة واحدة، لان الكف في العدة ثابت بمقتضى النهي ولا تضايق فيما هو موجب النهي نصا وهو التحريم، ولا يتحقق أداء الصومين في يوم واحد لتضايق الوقت في ركن كل صوم وهو الكف إلى وقت فإنه ثابت بالامر نصا ولا يتحقق اجتماع الكفين في وقت واحد، وعلى هذا قال أبو يوسف رحمه الله: من سجد في صلاته على مكان نجس ثم سجد على مكان طاهر جازت صلاته، لان المأمور به السجود على مكان طاهر ومباشرة
الضد بالسجود على مكان نجس لا يفوت المأمور به فيكون مكروها في نفسه ولا يكون مفسدا للصلاة، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تفسد به الصلاة لان تأدي المأمور به لما كان باعتبار المكان فما يكون صفة للمكان الذي يؤدى الفرض عليه يجعل بمنزلة الصفة له حكما فيصير هو كالحامل للنجاسة إذا سجد على مكان نجس والكف عن حمل النجاسة مأمور به في جميع الصلاة فيفوت ذلك بالسجود على مكان نجس، كما أن الكف عن اقتضاء الشهوة لما كان مأمورا به في جميع وقت الصوم يتحقق الفوات بالاكل في جزء من الوقت فيه، وعلى هذا قال أبو يوسف بترك القراءة في شفع من التطوع لا يخرج عن حرمة الصلاة، لانه مأمور بالقراءة في الصلاة وذلك نهي عن ضده اقتضاء، فترك القراءة ما لم يكن مفوتا للفرض

لا يكون مفسدا، ومع احتمال أداء شفع آخر بهذه التحريمة لا يتحقق فوات هذا الفرض فتبقى التحريمة صحيحة قابلة لبناء شفع آخر عليها وإن فسد أداء الشفع الاول بترك القراءة.
وقال محمد رحمه الله: القراءة فرض من أول الصلاة إلى آخرها حكما، ولهذا لا يصلح الامي خليفة للقارئ وإن كان قد رفع رأسه من السجدة الاخيرة وأتى بفرض القراءة في محلها، وإذا كان مستديما حكما يتحقق فوات ما هو الفرض بترك القراءة في ركعة فيخرج به من تحريمة الصلاة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل شفع من التطوع صلاة على حدة ولهذا تفترض القراءة في كل ركعة من الشفع عندنا كما تفترض في كل ركعة من الفجر إلا أن بترك القراءة في ركعة من التطوع لا يفوت ما هو المأمور به من القراءة في الصلاة نصا فلا تنقطع التحريمة وبترك القراءة في الركعتين يفوت ما هو الفرض قطعا فيكون ذلك قطعا للتحريمة، وهكذا نقول في الفجر فإن بترك القراءة في ركعة يفسد الفرض ولكن لا تنحل التحريمة بل تنقلب تطوعا في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي الرواية
الاخرى يقول في التطوع احتمال بناء شفع آخر عليه قائم فإذا فعل ذلك كان الكل في حكم صلاة واحدة ولا تنقطع التحريمة بترك القراءة في ركعة منها، ومثل هذا الاحتمال غير موجود في الفجر حتى إن في ظهر المسافر لبقاء هذا الاحتمال بنية الاقامة قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: لا تفسد بترك القراءة في ركعة منها حتى إذا نوى الاقامة أتم صلاته وقضى ما ترك من القراءة في الشفع الثاني فيجزيه ذلك، وعلى هذا نقول إن بترك القراءة في التطوع في الركعتين جميعا لا تنحل التحريمة عنده لاحتمال بناء شفع آخر عليه كما في فصل المسافر ولكنه يفسد لتحقق فوات ما هو فرض في هذه الصلاة، فإنه وإن بنى الشفع الثاني على تحريمته لا يخرج به من أن يكون الشفع الاول صلاة على حدة حقيقة وحكما، ولهذا لا يفسد الشفع الاول بمفسد يعترض في الشفع الثاني، والمسائل التي تخرج على هذا الاصل يكثر تعدادها، والله أعلم.

فصل: في بيان أسباب الشرائع قال رضي الله عنه: اعلم بأن الامر والنهي على الاقسام التي بيناها لطلب أداء المشروعات ففيها معنى الخطاب بالاداء بعد الوجوب بأسباب جعلها الشرع سببا لوجوب المشروعات، والموجب هو الله تعالى حقيقة لا تأثير للاسباب في الايجاب بأنفسها، والخطاب يستقيم أن يكون سببا موجبا للمشروعات إلا أن الله تعالى جعل أسبابا أخر سوى الخطاب سبب الوجوب تيسيرا للامر على العباد حتى يتوصل إلى معرفة الواجبات بمعرفة الاسباب الظاهرة، وقد دل على ما بينا قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فإن الالف واللام دليل على أن المراد أقيموا الصلاة التي أوجبتها عليكم بالسبب الذي جعلته سببا لها وأدوا الزكاة الواجبة عليكم بسببها، كقول القائل أد الثمن فإنما يفهم منه الخطاب بأداء الثمن الواجب
بسببه وهو البيع.
ثم أصل الوجوب في المشروعات جبر لا صنع للعبد فيه ولا اختيار، فإن الموجب هو الله تعالى تعبد العباد بما أوجبها عليهم، فكما لا صنع لهم في صفة العبودية الثابتة عليهم لا صنع لهم في أصل الوجوب، وباعتبار الاسباب التي جعلها الشرع سببا لا اختيار لهم في أصل الوجوب أيضا، كما أنه لا اختيار لهم في السبب، فأما وجوب الاداء الثابت بالخطاب لا ينفك عن اختيار يكون فيه للعبد عند الاداء، وبه يتحقق معنى العبادة والابتلاء في المؤدي، وهذا لان التكليف بقدر الوسع شرعا، وأصل الوجوب يثبت بتقرر السبب مع انعدام الخطاب بالاداء الثابت بالامر والنهي، فإن من مضى عليه وقت الصلاة وهو نائم تجب عليه الصلاة حتى يؤدى الفرض إذا انتبه، فالخطاب موضوع عن النائم، وكذلك المغمى عليه إذا لم يبق لتلك الصفة أكثر من يوم وليلة أو المجنون إذا لم يزدد جنونه على يوم وليلة يثبت حكم وجوب الصلاة

في حقه حتى يلزمه القضاء والخطاب موضوع عنه، ألا ترى أن المجنون أو المغمى عليه لو كان كافرا فكما أفاق أسلم لم تلزمه قضاء الصلوات لما لم يثبت الوجوب في تلك الحالة في حقه لانعدام الاهلية، فإن الاسباب إنما توجب على من يكون أهلا للوجوب عليه، وكذلك المغمى عليه في جميع شهر رمضان أو المجنون في بعض الشهر يثبت الوجوب في حقهما حتى يجب القضاء بعد الافاقة والخطاب موضوع عنهما، وكذلك الزكاة على أصل الخصم تجب على الصبي والمجنون والخطاب موضوع عنهما، وبالاتفاق يجب عليهما العشر وصدقة الفطر، وكذلك يجب عليهما حقوق العباد عند تحقق الاسباب منهما أو من الولي على سبيل النيابة عنهما كالصداق الذي يلزمهما بتزويج الولي إياهما، والعتق الذي يستحقه القريب عليهما عند دخوله في ملكهما بالارث وإن كان الخطاب موضوعا عنهما.
إذا تقرر هذا فنقول: الاسباب التي جعلها الشرع موجبا للمشروعات هي الاسباب التي تضاف المشروعات إليها وتتعلق بها شرعا، لان إضافة الشئ إلى الشئ في الحقيقة تدل على أنه حادث به كما يقال: كسب فلان أي حدث له باكتسابه، وقد يضاف إلى الشرط مجازا أيضا على معنى أن وجوده يكون عند وجود الشرط ولكن المعتبر هو الحقيقة حتى يقوم دليل المجاز، وتعلق الشئ بالشئ يدل على نحو ذلك، فحين رأينا إضافة الصلاة إلى الوقت شرعا وتعلقها بالوقت شرعا أيضا حتى تتكرر بتكررها مع أن مطلق الامر لا يوجب التكرار وإن كان معلقا بشرط، ألا ترى أن الرجل إذا قال (لغيره) تصدق بدرهم من مالي لدلوك الشمس لا يقتضي هذا الخطاب التكرار، ورأينا أن وجوب الاداء الثابت بقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) غير مقصور على المرة الواحدة، ثبت أن تكرار الوجوب باعتبار تجدد السبب بدلوك الشمس في كل يوم، ثم وجوب الاداء مرتب عليه بحكم هذا الخطاب، وحرف اللام في قوله تعالى: (لدلوك الشمس) دليل على تعلقها بذلك الوقت، كما يقال تأهب للشتاء وتطهر للصلاة ولم يتعلق بها وجودا

عندها، فعرفنا أن تعلق الوجوب بها بجعل الشرع ذلك الوقت سببا لوجوبها فنقول: وجوب الايمان بالله تعالى كما هو بأسمائه وصفاته بإيجاب الله، وسببه في الظاهر الآيات الدالة على حدث العالم لمن وجب عليه، وهذه الآيات غير موجبة لذاتها، وعقل من وجب عليه غير موجب عليه أيضا ولكن الله تعالى هو الموجب بأن أعطاه آلة يستدل بتلك الآلة على معرفة الواجب، كمن يقول لغيره هاك السراج فإن أضاء لك الطريق فاسلكه كان الموجب للسلوك في الطريق هو الامر بذلك لا الطريق بنفسه ولا السراج، فالعقل بمنزلة السراج والآيات الدالة على حدث العالم بمنزلة الطريق، والتصديق من العبد والاقرار بمنزلة السلوك في الطريق فهو واجب بإيجاب الله تعالى
حقيقة، وسببه الظاهر الآيات الدالة على حدث العالم ولهذا تسمى علامات، فإن العلم للشئ لا يكون موجبا لنفسه، ولا نعني أن هذه الآيات توجب وحدانية الله تعالى ظاهرا أو حقيقة، وإنما نعني أنها في الظاهر سبب لوجوب التصديق والاقرار على العبد، ولكون هذه الآيات دائمة لا تحتمل التغير بحال إذ لا يتصور للمحدث أن يكون غير محدث في شئ من الاوقات فكان فرضية الايمان بالله تعالى دائما بدوام سببه غير محتمل للنسخ والتبديل بحال، ولهذا صححنا إيمان الصبي العاقل، لان السبب متقرر في حقه والخطاب بالاداء موضوع عنه بسبب الصبا، لان الخطاب بالاداء يحتمل السقوط في بعض الاحوال ولكن صحة الاداء باعتبار تقرر السبب الموجب لا باعتبار وجوب الاداء، كالبيع بثمن مؤجل سبب لجواز أداء الثمن قبل حلول الاجل وإن لم يكن الخطاب بالاداء متوجها حتى يحل الاجل، والمسافر إذا صام في شهر رمضان كان صحيحا منه فرضا لتقرر السبب في حقه وإن كان الخطاب بالاداء موضوعا عنه قبل إدراك عدة من أيام أخر، وهذا لان صحة الاداء تكون بوجود ما هو الركن ممن هو أهل والركن هو التصديق والاقرار، والاهلية لذلك لا تنعدم بالصبا، فبعد ذلك بامتناع صحة الاداء لا يكون إلا بحجر شرعي، والقول بالحجر لاحد عن الايمان بالله تعالى محال، فأما الصلاة فواجبة بإيجاب الله تعالى بلا شبهة، وسبب وجوبها

في الظاهر هو الوقت في حقنا وأمرنا بأدائها بقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) أي لوجوبها بدلوك الشمس، والدليل عليه أنها تنسب إلى الوقت شرعا، فيقال فرض الوقت وصلاة الفجر والظهر، وإنما يضاف الواجب إلى سببه، وكذلك يتكرر الوجوب بتكرر الوقت، والخطاب لا يوجب التكرار وهي لا تضاف إلى الخطاب شرعا وليس هنا سوى الوقت والخطاب، فتبين بهذا أن الوقت هو السبب ولهذا لا يجوز تعجيلها قبل الوقت ويجوز بعد دخول الوقت مع تأخير لزوم الاداء بالخطاب
إلى آخر الوقت.
فإن قيل: لا يفهم من وجوب العبادة شئ سوى وجوب الاداء ولا خلاف أن وجوب الاداء بالخطاب فما الذي يكون واجبا بسبب الوقت ؟ قلنا: الواجب بسبب الوقت ما هو المشروع نفلا في غير الوقت الذي هو سبب للوجوب، وبيان هذا في الصوم فإنه مشروع نفلا في كل يوم وجد الاداء أو لم يوجد، وفي رمضان يكون مشروعا واجبا بسبب الوقت سواء وجد خطاب الاداء بوجود شرطه وهو التمكن من الاداء أو لم يوجد، ألا ترى أن من كان مغمى عليه أو نائما في وقت الصلاة ثم أفاق بعد مضي الوقت يصير مخاطبا بالاداء لوجوبها عليه لوجود السبب وهو الوقت ولو كان هذا المغمى عليه أو النائم غير بالغ ثم بلغ بعد مضي الوقت ثم أفاق وانتبه لم يكن عليه قضاؤها وقد صار مخاطبا عند الافاقة في الموضعين بصفة واحدة ولكن لما انعدمت الاهلية عند وجود السبب لم يثبت الوجوب في حقه، فلما وجدت الاهلية في الفصل الاول ثبت الوجوب، ومن باع بثمن مؤجل فالثمن يجب بنفس العقد والخطاب بالاداء متأخر إلى مضي الاجل فهذا مثله.
وسبب وجوب الصوم شهود الشهر في حال قيام الاهلية ولهذا أضيف إلى الشهر شرعا ويتكرر بتكرر الشهر ولم يجب الاداء قبل وجود الشهر وجاز بعد وإن كان الاداء متأخرا كما في حق المريض والمسافر، فإن الامر بالاداء في حقهما بعد إدراك عدة من أيام أخر، والوجوب ثابت في الشهر بتقرر سببه حتى لو صاما كان ذلك فرضا، ألا ترى أن من كان مسافرا في رمضان غير بالغ ثم صار مقيما بعدما بلغ

خارج رمضان لا يلزمه الصوم، ولو كان بالغا في رمضان مسافرا لزمه الاداء إذا صار مقيما وحالهما عند الاقامة بصفة واحدة، فعرفنا أن الوجوب ثبت في حق أحدهما بتقرر سببه دون الآخر.
وبيان ما قلنا في قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
معناه: فليصم فيه، لان الوقت ظرف للصوم وإنما يفهم من هذا فليصم فيه الصوم الواجب بشهوده، ولهذا ظن بعض المتأخرين ممن صنف في هذا الباب أن سبب الوجوب أيام الشهر دون الليالي، لان صلاحية الاداء مختص بالايام.
قال رضي الله عنه: وهذا غلط عندي بل في السببية للوجوب الايام والليالي سواء، فإن الشهر اسم لجزء من الزمان يشتمل على الايام والليالي وإنما جعله الشرع سببا لاظهار فضيلة هذا الوقت وهذه الفضيلة ثابتة لليالي والايام جميعا، والرواية محفوظة في أن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر ثم جن قبل أن يصبح ومضى الشهر وهو مجنون ثم أفاق يلزمه القضاء، ولو لم يتقرر السبب في حقه بما شهد من الشهر في حالة الافاقة لم يلزمه القضاء (وكذلك المجنون إذا أفاق في ليلة من الشهر ثم جن قبل أن يصبح ثم أفاق بعد مضي الشهر يلزمه القضاء) والدليل عليه أن نية أداء الفرض تصح بعد دخول الليلة الاولى بغروب الشمس قبل أن يصبح، ومعلوم أن نية أداء الفرض قبل تقرر سبب الوجوب لا يصح، ألا ترى أنه لو نوى قبل غروب الشمس لم تصح نيته، وأيد ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته فإنه نظير قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) وقد بينا في الصلاة أن في تقرر الوجوب بتقرر السبب لا يعتبر التمكن بالاداء، فإن من أسلم في آخر الوقت بحيث لا يتمكن من أداء الصلاة في الوقت يلزمه فرض الوقت فهنا وإن لم يثبت التمكن من الاداء بشهود الليل يتقرر سبب الوجوب ولكن بشرط احتمال الاداء في الوقت، ولهذا لو أسلم في آخر يوم من رمضان قبل الزوال أو بعده لم يلزمه الصوم وإن أدرك جزءا من الشهر، لانه ليس هنا معنى احتمال الاداء في الوقت، وقد قررنا هذا فيما سبق.

وسبب وجوب الحج البيت ولهذا يضاف إليه شرعا، قال الله تعالى: (ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولهذا لا يتكرر بتكرر وقت الاداء، لان ما هو السبب غير متجدد، فأما الوقت فهو شرط جواز الاداء وليس بسبب للوجوب ولا يقال بدخول شوال يدخل الوقت ويتأخر الاداء إلى يوم عرفة، فعرفنا أن الوقت سبب للوجوب إذ لو لم يكن سببا له لم يكن إضافة الوقت إليه مفيدا ويقال أشهر الحج كما يقال وقت الصلاة، فعرفنا أنه سبب فيه، وهذا لان عندنا يجوز الاداء كما دخل شوال، ولكن هذه عبادة تشتمل على أركان بعضها مختص بوقت ومكان وبعضها لا يختص، فما كان مختصا بوقت أو مكان لا يجوز في غير ذلك الوقت كما لا يجوز في غير ذلك المكان وما لم يكن مختصا بوقت فهو جائز في جميع وقت الحج، حتى إن من أحرم في رمضان وطاف وسعى لم يكن سعيه معتدا به من سعى الحج حتى إذا طاف للزيارة يوم النحر تلزمه إعادة السعي، ولو كان طاف وسعى في شوال كان سعيه معتدا به حتى لا يلزمه إعادته يوم النحر، لان السعي غير مؤقت فجاز أداؤه في أشهر الحج، وأما الوقوف موقت فلم يجز أداؤه قبل وقته كما لا يجوز أداء طواف الزيارة يوم عرفة لانه موقت بيوم النحر، وكما لا يجوز رمي اليوم الثاني في اليوم الاول، وهو نظير أركان الصلاة فإن السجود ترتب على الركوع فلا يعتد به قبل الركوع، ولا يدل ذلك على أن الوقت ليس بوقت الاداء، وبهذا تبين أن الوقت ليس بسبب للوجوب ولكنه شرط جواز الاداء ووجوب الاداء فيه، وكذلك الاستطاعة بالمال ليس بسبب للوجوب فإن هذه عبادة بدنية وإنما كان البيت سببا لوجوبها لانها عبادة هجرة وزيارة تعظيما لتلك البقعة فلا يصلح المال سببا لوجوبها ولا هو شرط لجواز الاداء أيضا، فالاداء من الفقير صحيح وإن كان لا يملك شيئا وإنما المال شرط وجوب الاداء فإن السفر الذي يوصله إلى الاداء لا يتهيأ له بدون الزاد والراحلة إلا بحرج عظيم والحرج مدفوع، فعرفنا أن المال شرط وجوب الاداء وهو نظير عدة من أيام أخر في باب الصوم (في حق المسافر) فإنه شرط

وجوب الاداء حتى كان الاداء جائزا قبله، ولا يتكرر وجوب الاداء بتجدد هذه الايام، وهنا أيضا لا يتكرر وجوب الاداء بتجدد ملك الزاد والراحلة، فعرفنا أنه شرط لوجوب الاداء.
وسبب وجوب الطهارة الصلاة فإنها تضاف إليها شرعا، فيقال تطهر للصلاة، فأما الحدث فهو شرط وجوب الاداء بالامر وهو قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) الآية، لا أن يكون سببا للوجوب، وكيف يكون سببا (للوجوب) وهو ناقض للطهارة ؟ فما كان مزيلا للشئ رافعا له لا يصلح سببا لوجوبه ولهذا جاز الاداء بدونه، وكان الوضوء على وضوء نورا على نور، ولا يجب الاداء مع تحقق الحدث بدون وجوب الصلاة، فإن الجنب إذا حاضت لا يجب عليها الاغتسال ما لم تطهر لانه ليس عليها وجوب الصلاة، وبهذا تبين أن الطهارة ليست بعبادة مقصودة ولكنها شرط الصلاة وما يكون شرطا للشئ يتعلق به صحته، ووجوبه بوجوب الاصل بمنزلة استقبال القبلة فإن وجوبه بوجوب الصلاة والشهود في باب النكاح ثبوتها بثبوت النكاح لكون الشهود شرطا في النكاح.
وسبب وجوب الزكاة المال بصفة أن يكون نصابا ناميا، ألا ترى أنه يضاف إلى المال وأنه يتضاعف بتضاعف النصب في وقت واحد ولكن الوجوب بواسطة غنى المالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا صدقة إلا عن ظهر غنى والغنى لا يحصل بأصل المال ما لم يبلغ مقدارا وذلك في النصاب شرعا، والوجوب بصفة اليسر ولا يتم ذلك إلا إذا كان المال ناميا ولهذا يضاف إلى سبب النماء أيضا فيقال زكاة السائمة وزكاة التجارة، فأما مضي الحول فهو شرط لوجوب الاداء من حيث إن النماء لا يحصل إلا بمضي الزمان ولهذا جاز الاداء بعد كمال النصاب قبل حولان الحول وجواز الاداء لا يكون قبل تقرر سبب الوجوب حتى لو أدى قبل كمال النصاب لم يجز.
فإن قيل: الزكاة يتكرر وجوبها في مال واحد باعتبار الاحوال، وبتكرر الشرط لا يتجدد الواجب ؟ قلنا: ليس كذلك بل يتكرر الوجوب بتجدد النماء الذي هو وصف

للمال وباعتباره يكون المال سببا للوجوب، فإن لمضي كل حول تأثيرا في حصول النماء المطلوب من عين السائمة بالدر والنسل، والمطلوب من ربح عروض التجارة زيادة القيمة.
وسبب وجوب صدقة الفطر على المسلم الغني رأس يموله بولايته عليه، ولهذا يضاف إليه فيقال صدقة الرأس، ويتضاعف الواجب بتعدد الرؤوس من الاولاد الصغار والمماليك، وإنما عرفنا هذا بقوله عليه السلام: أدوا عن كل حر وعبد وقال عليه السلام: أدوا عمن تمونون وحرف عن للانتزاع، فأما أن يكون المراد طريق الانتزاع بالوجوب على الرأس، ثم أداء الغير عنه وهذا باطل، فإنه لا يجب على الكافر والرقيق والفقير والصغير، فعرفنا أن المراد انتزاع الحكم عن سببه وفيه تنصيص على أن الرأس بالصفة التي قلنا هو السبب الموجب للوجوب، وأما الفطر فهو شرط وجوب الاداء والاضافة إليه بطريق المجاز على معنى أن الوجوب عنده يكون، وإنما جعلنا الفطر شرطا والرأس سببا مع وجود الاضافة إليهما لان تضاعف الواجب بتعدد الرؤوس دليل محكم على أنه سبب والاضافة دليل محتمل، فقد بينا أن الاضافة قد تكون إلى الشرط مجازا، ولان التنصيص على المئونة دليل على أن سبب الوجوب الرأس دون الفطر، فالمئونة إنما تجب عن الرؤوس، ولهذا اشتمل هذا الواجب على معنى المئونة وعلى معنى العبادة لان صفة الغنى فيمن يجب عليه الاداء يعتبر لوجوب الاداء وذلك دليل كونه عبادة، وصفة المئونة في المؤدي دليل على أنه بمنزلة النفقة، وجواز الاداء قبل الفطر دليل على أن الفطر ليس بسبب في وجوب الاداء بشهود وقت الفطر في حق من لا يؤدي الصوم أصلا دليل على أن الفطر شرط وجوب الاداء، فإن الكافر إذا أسلم ليلة العيد أو الصبي بلغ
أو العبد عتق يلزمه الاداء بطلوع الفجر من يوم الفطر، ولهذا لو أسلم بعد طلوع الفجر لم يلزمه وإن أدرك اليوم، لان وقت الفطر عن رمضان في حق وجوب الصدقة عند طلوع الفجر، فإذا انعدمت الاهلية عند ذلك لم يجب الاداء، وتكرر الوجوب

بتكرر الفطر في كل سنة بمنزلة تكرر وجوب الزكاة بتكرر الحول، فإن الوصف الذي لاجله كان الرأس موجبا وهو المئونة يتجدد بمضي الزمان، كما أن النماء الذي لاجله كان المال سببا للوجوب يتجدد بتجدد الحول.
وسبب وجوب العشر الارض النامية باعتبار حقيقة النماء، وسبب وجوب الخراج الارض النامية باعتبار التمكن من طلب النماء بالزراعة، ولهذا لو اصطلم الزرع آفة لم يجب العشر ولا الخراج، ولهذا لم يجتمع العشر والخراج بسبب أرض واحدة بحال، لان كل واحد منهما مئونة الارض النامية إلا أن العشر الواجب جزء من النماء فلا بد من حصول النماء ليثبت حكم الوجوب في محله بسببه، ولهذا كان في العشر معنى المئونة ومعنى العبادة، فباعتبار أصل الارض هو مئونة لان تملك الارض سبب لوجوب مئونة شرعا وباعتبار كون الواجب جزءا من النماء فيه معنى العبادة بمنزلة الزكاة، وفي الخراج معنى المئونة باعتبار أصل الارض، ومعنى المذلة باعتبار التمكن من طلب النماء بالزراعة، فالاشتغال بالزراعة مع الاعراض عن الجهاد سبب للمذلة على ما روي أن النبي عليه السلام رأى شيئا من آلات الزراعة في دار فقال: ما دخل (هذا) بيت قوم إلا ذلوا ولهذا يتكرر وجوب العشر بتجدد الخارج لتجدد الوصف وهو النماء ولا يتكرر وجوب الخراج في حول واحد بحال، ولهذا جاز تعجيل الخراج قبل الزراعة ولم يجز تعجيل العشر لان الارض باعتبار حقيقة النماء توجب العشر وذلك لا يتحقق قبل الزراعة، ولهذا أوجب أبو حنيفة رحمه الله العشر في قليل الخارج وكثيره وفي كل ما يستنبت في الارض مما له ثمرة
باقية وما ليست له ثمرة باقية سواء، لان الوجوب باعتبار صفة النماء ولا معتبر بصفة الغنى فيمن يجب عليه باعتبار النصاب لاجله.
وسبب وجوب الجزية الرأس باعتبار صفة معلومة، وهو أن يكون كافرا حرا له بنية صالحة للقتال، ولهذا يضاف إليه فيقال: جزية الرأس، ويتكرر الوجوب

بتكرر الحول بمنزلة تكرر وجوب الزكاة، فإن المعنى الذي كان الرأس سببا موجبا باعتبار نصرة القتال، وهذا لان أهل الذمة يصيرون منا دارا، والقتال بنصرة الدار واجب على أهلها، ولا تصلح أبدانهم لهذه النصرة لميلهم إلى أهل الدار المعادية لدارنا اعتقادا فأوجب عليهم في أموالهم جزية عقوبة لهم على كفرهم، وخلفا عن النصرة التي قامت بإصرارهم على الكفر في حقنا، ولهذا تصرف إلى المجاهدين الذين يقومون بنصرة الدار، وهذه النصرة يتجدد وجوبها بتجدد الحاجة في كل وقت، فكذلك ما كان خلفا عنها بتجدد وجوبها، إلا أنه لا نهاية للحاجة إلى المال فيعتبر الوقت لتجدد الوجوب كما يعتبر في الزكاة.
وسبب وجوب العقوبات ما يضاف إليه نحو الزنا للرجم والجلد، والسرقة للقطع، وشرب الخمر والقذف للحد، والقتل العمد للقصاص.
وسبب وجوب الكفارات التي هي دائرة بين العقوبة والعبادة ما يضاف إليه من سبب متردد بين الحظر والاباحة نحو اليمين المعقودة على أمر في المستقبل إذا حنث فيها، والظهار عند العود، والفطر في رمضان بصفة الجناية، والقتل بصفة الخطأ.
فأما سبب المشروع من المعاملات فهو تعلق البقاء المقدور بتعاطيها، وبيان ذلك أن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة، وهذا البقاء إنما يكون ببقاء الجنس وبقاء النفس، فبقاء الجنس بالتناسل، والتناسل بإتيان الذكور الاناث في موضع الحرث، والانسان هو المقصود بذلك، فشرع لذلك التناسل طريقا لا فساد فيه
ولا ضياع، وهو طريق الازدواج بلا شركة، ففي التغالب فساد العالم، وفي الشركة ضياع الولد لان الاب إذا اشتبه يتعذر إيجاب مئونة الولد عليه، وبالامهات عجز عن اكتساب ذلك بأصل الجبلة فيضيع الولد، وبقاء النفس إلى أجله إنما يقوم بما تقوم

به المصالح للمعيشة وذلك بالمال، وما يحتاج إليه كل واحد لكفايته لا يكون حاصلا في يده وإنما يتمكن من تحصيله بالمال، فشرع سبب اكتساب المال وسبب اكتساب ما فيه كفاية لكل واحد وهو التجارة عن تراض لما في التغالب من الفساد والله لا يحب الفساد، ولان الله تعالى جعل الدنيا دار محنة وابتلاء، كما قال تعالى: (إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه) والانسان الذي هو مقصود غير مخلوق في الدنيا لنيل اللذات وقضاء الشهوات بل للعبادة التي هي عمل بخلاف هوى النفس، قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) فعرفنا أن ما جعل لنا في الدنيا من اقتضاء الشهوات بالاكل وغير ذلك ليس لعين اقتضاء الشهوة بل لحكم آخر وهو تعلق البقاء المقدور بتعاطيها، إلا أن في الناس مطيعا وعاصيا، فالمطيع يرغب فيه لا لقضاء الشهوة بل لاتباع الامر، والعاصي يرغب فيه لقضاء شهوة النفس فيتحقق البقاء المقدور بفعل الفريقين، وللمطيع الثواب باعتبار قصده إلى الاقدام عليه، والعاصي مستوجب للعقاب باعتبار قصده في اتباع هوى النفس الامارة بالسوء، تبارك الله الحكيم الخبير القدير، هو مولانا، فنعم المولى ونعم النصير.
فصل: في بيان المشروعات من العبادات وأحكامها قال رحمه الله: هذه المشروعات تنقسم على أربعة أقسام: فرض وواجب وسنة ونفل.
فالفرض اسم لمقدر شرعا لا يحتمل الزيادة والنقصان، وهو مقطوع به لكونه ثابتا بدليل موجب للعلم قطعا من الكتاب أو السنة المتواترة أو الاجماع، وفي الاسم ما يدل على ذلك كله، فإن الفرض لغة التقدير، قال الله تعالى: (فنصف
ما فرضتم) : أي قدرتم بالتسمية، وقال تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها) : أي قطعنا الاحكام قطعا، وفي هذا الاسم ما ينبئ عن شدة الرعاية في الحفظ لانه مقطوع به وما ينبئ عن التخفيف لانه مقدر متناه كيلا يصعب علينا أداؤه، ويسمى مكتوبة أيضا لانها كتبت علينا في اللوح المحفوظ.
وبيان هذا القسم في الايمان بالله تعالى، والصلاة والزكاة والصوم والحج، فإن التصديق بالقلب

والاقرار باللسان بعد المعرفة فرض مقطوع به، إلا أن التصديق مستدام في جميع العمر لا يجوز تبديله بغيره بحال، والاقرار لا يكون واجبا في جميع الاحوال وإن كان لا يجوز تبديله بغيره من غير عذر بحال، والعبادات التي هي أركان الدين مقدرة متناهية مقطوع بها.
وحكم هذا القسم شرعا أنه موجب للعلم اعتقادا باعتبار أنه ثابت بدليل مقطوع به ولهذا يكفر جاحده، وموجب للعمل بالبدن للزوم الاداء بدليله، فيكون المؤدي مطيعا لربه والتارك للاداء عاصيا، لانه بترك الاداء مبدل للعمل لا للاعتقاد وضد الطاعة العصيان ولهذا لا يكفر بالامتناع عن الاداء فيما هو من أركان الدين، لا من أصل الدين إلا أن يكون تاركا على وجه الاستخفاف فإن استخفاف أمر الشارع كفر، فأما بدون الاستخفاف فهو عاص بالترك من غير عذر، فاسق لخروجه من طاعة ربه، فالفسق هو الخروج، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها، ولهذا كان الفاسق مؤمنا لانه غير خارج من أصل الدين وأركانه اعتقادا، ولكنه خارج من الطاعة عملا، والكافر رأس الفساق في الحقيقة إلا أنه اختص باسم هو أعظم في الذم، فاسم الفاسق عند الاطلاق يتنازل المؤمن العاصي باعتبار أعماله.
فأما الواجب فهو ما يكون لازم الاداء شرعا ولازم الترك فيما يرجع إلى الحل والحرمة، والاسم مأخوذ من الوجوب وهو السقوط، قال الله تعالى: (فإذا وجبت
جنوبها) : أي سقطت على الارض، فما يكون ساقطا على المرء عملا بلزومه إياه من غير أن يكون دليله موجبا للعلم قطعا يسمى واجبا، أو هو ساقط في حق الاعتقاد قطعا وإن كان ثابتا في حق لزوم الاداء عملا، والفرض والواجب كل واحد منهما لازم إلا أن تأثير الفرضية أكثر، ومنه سمي الحز في الخشبة فرضا لبقاء أثره على كل حال، ويسمى السقوط على الارض وجوبا لانه قد لا يبقى أثره في الباقي، فما كان ثابتا بدليل موجب للعمل والعلم قطعا يسمى فرضا، لبقاء أثره وهو العلم به أدى أو لم يؤد، وما كان ثابتا بدليل موجب للعمل غير موجب للعلم يقينا باعتبار شبهة في طريقه يسمى واجبا، وقيل الاسم مشتق من الوجبة وهي الاضطراب قال القائل:

وللفؤاد وجيب تحت أبهره لدم الغلام وراء الغيب بالحجر أي اضطراب، فلنوع شبهة في دليله يتمكن فيه اضطراب فسمي واجبا، وهذا نحو تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة، وتعديل الاركان، والطهارة في الطواف، والسعي في الحج وأصل العمرة والوتر.
والشافعي ينكر هذا القسم ويلحقه بالفرض، فإن كان إنكاره ذلك للاسم فقد بينا معنى الاسم، وإن كان للحكم فهو إنكار فاسد، لان ثبوت الحكم بحسب الدليل، ولا خلاف بيننا وبينه أن هذا التفاوت يتحقق في الدليل فإن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين لاحتمال الغلط من الراوي وهو دليل موجب للعمل بحسن الظن بالراوي وترجح جانب الصدق بظهور عدالته، فيثبت حكم هذا القسم بحسب دليله وهو أنه لا يكفر جاحده، لان دليله لا يوجب علم اليقين، ويجب العمل به لان دليله موجب للعمل ويضلل جاحده إذا لم يكن متأولا بل كان رادا لخبر الواحد، فإن كان متأولا في ذلك مع القول بوجوب العمل بخبر الواحد فحينئذ لا يضلل، ولوجوب العمل به يكون المؤدي مطيعا والتارك من غير تأويل عاصيا معاقبا، وهذا لان الدلالة قامت لنا على أن الزيادة على النص نسخ فلا يثبت إلا
بما يثبت النسخ به والنسخ لا يثبت بخبر الواحد، فكذلك لا نثبت الزيادة فلا يكون موجبا للعلم بهذا المعنى ولكن يجب العمل به، لان في العمل تقرير الثابت بالنص لا نسخ له، إلا أن هذا يشكل على بعض الناس قبل التأمل على ما حكي عن يوسف بن خالد السمتي رحمه الله: قدمت على أبي حنيفة رضي الله عنه فسألته عن الصلاة المفروضة كم هي ؟ فقال: خمس، فسألته عن الوتر، فقال: واجب، فقلت لقلة تأملي: كفرت فتبسم في وجهي، ثم تأملت فعرفت أن بين الواجب والفريضة فرق كما بين السماء والارض، فيرحم الله أبا حنيفة ويجازيه خيرا على ما هداني إليه.
وبيان هذا أن فرضية القراءة في الصلوات ثابتة بدليل مقطوع به، وهو قوله تعالى: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) وتعيين الفاتحة ثابت بخبر الواحد

فمن جعل ذلك فرضا كان زائدا على النص، ومن قال يجب العمل به من غير أن يكون فرضا كان مقررا للثابت بالنص على حاله وعاملا بالدليل الآخر بحسب موجبه، وفي القول بفرضية ما ثبت بخبر الواحد رفع للدليل الذي فيه شبهة عن درجته أو حط للدليل الذي لا شبهة فيه عن درجته وكل واحد منهما تقصير لا يجوز المصير إليه بعد الوقوف عليه بالتأمل.
وكذلك أصل الركوع والسجود ثابت بالنص، وتعديل الاركان ثابت بخبر الواحد فلو أفسدنا الصلاة بترك التعديل كما نفسدها بترك الفريضة كنا رفعنا خبر الواحد عما هو درجته في الحجة، ولو لم ندخل نقصانا في الصلاة بترك التعديل كنا حططناه عن درجته من حيث إنه موجب للعمل.
وكذلك الوتر فإنه ثابت بخبر الواحد، فلو لم نثبت صفة الوجوب فيه عملا كان فيه إخراج خبر الواحد من أن يكون موجبا للعمل، ولو جعلناه فرضا كنا قد ألحقنا خبر الواحد بالنص الذي هو مقطوع به.
وكذلك شرط الطهارة في الطواف فإن فرضية الطواف بدليل مقطوع به، واشتراط الطهارة فيه بخبر الواحد حيث شبهه رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فالقول بفساد أصل الطواف عند ترك الطهارة يكون إلحاقا لدليله بالنص المقطوع به، والقول بأنه يتمكن نقصان في الطواف حتى يعيد ما دام بمكة وإذا رجع إلى أهله يجبر النقصان بالدم يكون عملا بدليله كما هو موجبه.
وكذلك ترك الطواف بالحطيم، فإن كون الحطيم من البيت ثبت بخبر الواحد.
وكذلك السعي فإن ثبوته بخبر الواحد لان المنصوص عليه في الكتاب: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) وهذا لا يوجب الفرضية.
وكذلك العمرة ثبوتها بخبر الواحد، فأما الثابت بالنص: (ولله على الناس حج البيت) وهذا لا يوجب نوعين من الزيارة قطعا، والاضحية وصدقة الفطر على هذا أيضا تخرج.
وأما السنة: فهي الطريقة المسلوكة في الدين، مأخوذة من سنن الطريق، ومن قول القائل: سن الماء إذا صبه حتى جرى في طريقه، وهو اشتقاق معروف، والمراد به شرعا ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده عندنا.
وقال

الشافعي: مطلق السنة يتناول سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وهذا لانه لا يرى تقليد الصحابي ويقول: القياس مقدم على قول الصحابي فإنما يتبع حجته لا فعله، وقوله بمنزلة من بعد الصحابة فإنه يتبع حجتهم لا مجرد فعلهم وقولهم إذا لم يبلغوا حد الاجماع، ولهذا قال في قول سعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية: السنة تنصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قوله في استحقاق الفرقة بسبب العجز عن النفقة: السنة أنها تنصرف إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم (وكذلك قوله في أن الحر لا يقتل بالعبد: السنة تنصرف إلى سنة رسول الله عليه السلام) فأما عندنا إطلاق هذا اللفظ لا يوجب الاختصاص بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة،
ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة والسلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكانوا يأخذون البيعة على سنة العمرين، وقال عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ إذا ثبت هذا فنقول: حكم السنة هو الاتباع، فقد ثبت بالدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متبع فيما سلك من طريق الدين قولا وفعلا، وكذلك الصحابة بعده، وهذا الاتباع الثابت بمطلق السنة خال عن صفة الفرضية والوجوب إلا أن يكون من أعلام الدين، فإن ذلك بمنزلة الواجب في حكم العمل على ما قال مكحول رحمه الله: السنة سنتان: سنة أخذها هدى وتركها ضلالة، وسنة أخذها حسن وتركها لا بأس به، فالاول نحو صلاة العيد والاذان والاقامة والصلاة بالجماعة، ولهذا لو تركها قوم استوجبوا اللوم والعتاب، ولو تركها أهل بلدة وأصروا على ذلك قوتلوا عليها ليأتوا بها، والثاني نحو ما نقل من طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده ولباسه وركوبه، وسننه في العبادات متبوعة أيضا، فمنها ما يكره تركها، ومنها ما يكون التارك مسيئا، ومنها ما يكون

المتبع لها محسنا ولا يكون التارك مسيئا، وعلى هذا تخرج الالفاظ المذكورة في باب الاذان من قوله يكره وقد أساء ولا بأس به، وحيث قيل يعيد فهو دليل الوجوب، وعلى هذا الخلاف قول الصحابي: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا عندنا لا يقتضي مطلقه أن يكون الآمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعند الشافعي مطلقه يقتضي ذلك، وقد كانوا يطلقون لفظ الامر على ما أمر به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كما كانوا يطلقون لفظ السنة على سنة العمرين، وتمام بيان هذا يتأتى في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما النافلة: فهي الزيادة، ومنه تسمى الغنيمة نفلا لانه زيادة على ما هو
المقصود بالجهاد شرعا، ومنه سمي ولد الولد نافلة لانه زيادة على ما حصل للمرء بكسبه، فالنوافل من العبادات زوائد مشروعة لنا لا علينا، والتطوعات كذلك فإن التطوع اسم لما يتبرع به المرء من عنده ويكون محسنا في ذلك ولا يكون ملوما على تركه فهو والنفل سواء، وحكمه شرعا أنه يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، ولهذا قلنا: إن الشفع الثاني من ذوات الاربع في حق المسافر نفل، لانه يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، ولهذا جوزنا صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام، وراكبا مع القدرة على النزول بالايماء في حق الراكب وإن لم يكن متوجها إلى القبلة، لانه مشروع زيادة لنا وهو مستدام غير مقيد بوقت، وفي مراعاة تمام الاركان والشرائط في جميع الاوقات حرج ظاهر، فلدفع الحرج جوزنا الاداء على أي وصف يشرع فيه لتحقيق كونه زيادة لنا.
وقال الشافعي: آخره من جنس أوله نفل فكما أنه مخير في الابتداء بين أن يشرع وبين أن لا يشرع لكونه نفلا فكذلك يكون مخيرا في الانتهاء، وإذا ترك الاتمام فإنما ترك أداء النفل وذلك لا يلزمه شيئا كما في المظنون.
وقلنا نحن: المؤدي موصوف بأنه لله تعالى وقد صار مسلما بالاداء، ولهذا لو مات كان مثابا على ذلك فيجب التحرز عن إبطاله مراعاة لحق صاحب الحق، وهذا التحرز

لا يتحقق إلا بالاتمام فيما لا يحتمل الوصف بالتجزي عبادة فيجب الاتمام لهذا وإن كان في نفسه نفلا، ويجب القضاء إذا أفسده لوجود التعدي فيما هو حق الغير بمنزلة المنذور، فالمنذور في الاصل مشروع نفلا ولهذا يكون مستداما كالنوافل إلا أن لمراعاة التسمية بالنذر يلزمه أداء المشروع نفلا، فإذا وجب الابتداء لمراعاة التسمية فلان يجب الاتمام لمراعاة ما وجد منه الابتداء ابتداء كان أولى، وهو نظير الحج فإن المشروع منه نفلا يصير واجب الاداء لمراعاة التسمية حقا للشرع، فكذلك الاتمام بعد الشروع في الاداء يجب حقا للشرع، وهذا هو الطريق في بيان الانواع
الاربعة.
ومما هو ثابت بخبر الواحد أيضا تأخير المغرب للحاج إلى أن يجمع بينه وبين العشاء في وقت العشاء بالمزدلفة، فإنه ثابت بقوله عليه السلام لاسامة بن زيد رضي الله عنهما الصلاة أمامك ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لو صلى المغرب في الطريق في وقت المغرب يلزمه الاعادة بالمزدلفة ما لم يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر يسقط عنه الاعادة، لان الوجوب بدليل موجب للعمل وذلك الدليل يوجب الجمع بينهما في وقت العشاء وقد تحقق فوات هذا العمل بطلوع الفجر، فلو ألزمناه القضاء مطلقا كنا قد أفسدنا ما أداه أصلا وذلك حكم ترك الفريضة، فكذلك الترتيب بين الفوائت، وفرض الوقت ثابت بخبر الواحد فيكون موجبا للعمل ما لم يتضيق الوقت، لان عند التضيق تتحقق المعارضة بتعين هذا الوقت لاداء فرض الوقت، وكذلك عند كثرة الفوائت لان الثابت بخبر الواحد الترتيب عملا وبعد التكرار في الفوائت يتحقق فوات ذلك، وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا ترك صلاة ثم صلى شهرا وهو ذاكر لها فليس عليه إلا قضاء الفائتة، لان فساد الخمس بعدها لم يكن بدليل مقطوع به ليجب قضاؤها مطلقا وإنما كان لوجوب الترتيب بخبر الواحد وقد سقط وجوب الترتيب عملا عند كثرة الصلوات فلا يلزمه إلا قضاء المتروكة، والله أعلم.

فصل: في بيان العزيمة والرخصة قال رحمه الله: العزيمة في أحكام الشرع ما هو مشروع منها ابتداء من غير أن يكون متصلا بعارض.
سميت عزيمة لانها من حيث كونها أصلا مشروعا في نهاية من الوكادة والقوة حقا لله تعالى علينا بحكم أنه إلهنا ونحن عبيده، وله الامر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وعلينا الاسلام والانقياد.
والرخصة: ما كان بناء على عذر يكون للعباد، وهو ما استبيح للعذر مع بقاء
الدليل المحرم، وللتفاوت فيما هو أعذار العباد يتفاوت حكم ما هو رخصة.
والاسمان من حيث اللغة يدلان على ما ذكرنا، لان العزم في اللغة هو: القصد المؤكد، قال الله تعالى: (فنسي ولم نجد له عزما) : أي قصدا متأكدا في العصيان، وقال تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) ومنه جعل العزم يمينا، حتى إذا قال القائل: أعزم كان حالفا، لان العباد إنما يؤكدون قصدهم باليمين.
والرخصة في اللغة عبارة عن: اليسر والسهولة، يقال: رخص السعر إذا تيسرت الاصابة لكثرة وجود الاشكال وقلة الرغائب فيها، وفي عرف اللسان تستعمل الرخصة في الاباحة على طريق التيسير، يقول الرجل لغيره: رخصت لك في كذا، أي أبحته لك تيسيرا عليك، وقد بينا ما هو العزيمة في الفصل المتقدم، فإن النوافل لكونها مشروعة ابتداء عزيمة، ولهذا لا تحتمل التغيير بعذر يكون للعباد حتى لا تصير مشروعة.
وزعم بعض أصحابنا أنها ليست بعزيمة لانها شرعت جبرا للنقصان في أداء ما هو عزيمة من الفرائض، أو قطعا لطمع الشيطان في منع العباد من أداء الفرائض، من حيث إنهم لما رغبوا في أداء النوافل مع أنها ليست عليهم فذلك دليل رغبتهم في أداء الفرائض بطريق الاولى، والاول أوجه، فهذا الذي قالوا مقصود الاداء، فأما النوافل فمشروع ابتداء مستدام لا يحتمل التغير بعارض يكون من العباد.
وأما الرخصة قسمان: أحدهما حقيقة والآخر مجاز، فالحقيقة نوعان: أحدهما أحق من الآخر، والمجاز نوعان أيضا: أحدهما أتم من الآخر في كونه مجازا.

فأما النوع الاول فهو: ما استبيح مع قيام السبب المحرم وقيام حكمه، ففي ذلك الرخصة الكاملة بالاباحة لعذر العبد مع قيام سبب الحرمة وحكمها، وذلك نحو إجراء كلمة الشرك على اللسان بعذر الاكراه، فإن حرمة الشرك باتة لا ينكسف عنه لضرورة وجوب حق الله تعالى في الايمان به قائم أيضا ومع هذا أبيح لمن خاف التلف
على نفسه عند الاكراه إجراء الكلمة رخصة له، لان في الامتناع حتى يقتل تلف نفسه صورة ومعنى وبإجراء الكلمة لا يفوت ما هو الواجب معنى، فإن التصديق بالقلب باق والاقرار الذي سبق منه مع التصديق صح إيمانه، واستدامة الاقرار في كل وقت ليس بركن إلا أن في إجراء كلمة الشرك هتك حرمة حق الله تعالى صورة، وفي الامتناع مراعاة حقه صورة ومعنى فكان الامتناع عزيمة، لان الممتنع مطيع ربه مظهر للصلابة في الدين وما ينقطع عنه طمع المشركين وهو جهاد فيكون أفضل، والمترخص بإجراء الكلمة يعمل لنفسه من حيث السعي في دفع سبب الهلاك عنها، فهذه رخصة له إن أقدم عليها لم يأثم، والاول عزيمة حتى إذا صبر حتى قتل كان مأجورا، وعلى هذا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عند خوف الهلاك، فإن السبب الموجب لذلك وحكم السبب وهو الوجوب حقا لله تعالى قائم ولكن يرخص له في الترك، والتأخير بعذر كان من جهته وهو خوف الهلاك وعجزه عن شد المعاضد عنه، ولهذا لو أقدم على الامر بالمعروف حتى يقتل كان مأجورا لانه مطيع ربه فيما صنع، وفي هذا الفصل يباح له الاقدام عليه وإن كان يعلم أنه لا يتمكن من منعهم عن المنكر، بخلاف ما إذا أراد المسلم أن يحمل على جماعة من المشركين وهو يعلم أنه لا ينكأ فيهم حتى يقتل فإنه لا يسعه الاقدام، لان الفسقة معتقدون لما يأمرهم به وإن كانوا يعملون بخلافه ففعله يكون مؤثرا في باطنهم لا محالة وإن لم يكن مؤثرا في ظاهرهم ويتفرق جمعهم عند إقدامه على الامر بالمعروف وإن قتلوه والمقصود تفريق جمعهم، وأما المشركون غير معتقدين لما يأمرهم به المسلم فلا يتفرق جمعهم بصنيعه فإذا كان فعله لا ينكأ فيهم كان مضيعا نفسه في الحملة عليهم، ملقيا بيده إلى التهلكة لا أن يكون عاملا لربه في إعزاز الدين.
وكذلك تناول مال الغير بغير إذنه للمضطر عند خوف الهلاك فإنه رخصة مع قيام سبب الحرمة وحكمها وهو حق المالك، ولهذا وجب الضمان

حقا له، وكذلك إباحة إتلاف مال الغير عند تحقق الاكراه فإنه رخصة مع قيام سبب الحرمة وحكمها، وكذلك إباحة الافطار في رمضان للمكره، وإباحة الاقدام على الجناية على الصيد للمحرم.
ولهذا النوع أمثلة كثيرة والحكم في الكل واحد له أن يرخص بالاقدام على ما فيه رفع الهلاك عن نفسه فذلك واسع له، تيسيرا من الشرع عليه، وإن امتنع فهو أفضل له ولم يكن في الامتناع عاملا في إتلاف نفسه بل يكون متمسكا بما هو العزيمة.
والنوع الثاني: ما استبيح مع قيام السبب المحرم موجبا لحكمه إلا أن الحكم متراخ عن السبب (فلكون السبب القائم موجبا للحكم كانت الاستباحة ترخصا للمعذور ولكون الحكم متراخيا عن السبب) كان هذا النوع دون الاول، فإن كمال الرخصة يبتنى على كمال العزيمة، فإذا كان الحكم ثابتا في السبب فذلك في العزيمة أقوى منه إذا كان الحكم متراخيا عن السبب، بمنزلة البيع بشرط الخيار مع البيع البات، والبيع بثمن مؤجل مع البيع بثمن حال، فالحكم وهو الملك في المبيع والمطالبة بالثمن ثابت في البات المطلق متراخ عن السبب في المقرون بشرط الخيار أو الاجل، وبيان هذا النوع في الصوم في شهر رمضان للمسافر والمريض فإن السبب الموجب شرعا وهو شهود الشهر قائم، ولهذا لو أديا كان المؤدى فرضا ولكن الحكم متراخ إلى إدراك عدة من أيام أخر، ولهذا لو ماتا قبل الادراك لم يلزمهما شئ ولو كان الوجوب ثابتا للزمهما الامر بالفدية عنهما، لان ترك الواجب بعذر يرفع الاثم ولكن لا يسقط الخلف وهو القضاء أو الفدية، والتعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكم صحيح كتعجيل الدين المؤجل.
ثم قال الشافعي رحمه الله: لما كان حكم الوجوب متأخرا إلى إدراك عدة من أيام أخر كان الفطر أفضل ليكون إقدامه على الاداء متراخيا بعد ثبوت الحكم بإدراك عدة من أيام أخر، وقلنا نحن: الصوم أفضل لان مع إباحة الترخص بالفطر للمشقة التي تلحقه بالصوم في المرض أو السفر
السبب الموجب قائم فكان المؤدى للصوم عاملا لله تعالى في إدراك الفرائض، والمترخص بالفطر عاملا لنفسه فيما يرجع إلى الترفة فالاول عزيمة والتمسك بالعزيمة أفضل مع أن

في معنى الرخصة يشترك الصوم والفطر، فمن وجه الصوم مع الجماعة في شهر رمضان يكون أيسر من التفرد به بعد مضي الشهر وإن كان أشق على بدنه، ومن وجه الترخص بالفطر مع أداء الصوم بعد الاقامة أيسر عليه لكيلا تجتمع عليه مشقتان في وقت واحد: مشقة السفر ومشقة أداء الصوم، وإذا كان في كل جانب نوع ترفه يخير بينهما للتيسير عليه، وبعد تحقق المعارضة بينهما يترجح جانب أداء الصوم لكونه مطيعا فيه عاملا لله تعالى إلا أن يخاف الهلاك على نفسه إن صام فحينئذ يلزمه أن يفطر، لانه إن صام فمات كان قتيل الصوم وهو المباشر لفعل الصوم فيكون قاتلا نفسه وعلى المرء أن يتحرز عن قتل نفسه، بخلاف ما إذا أكرهه ظالم على الفطر فلم يفطر حتى قتله لان القتل هنا مضاف إلى فعل الظالم، فأما هو في الامتناع عن الفطر عند الاكراه مستديم للعبادة، مظهر للطاعة عن نفسه في العمل لله تعالى، وذلك عمل المجاهدين.
وبيان النوع الثالث في الاصر والاغلال التي كانت على من قبلنا، وقد وضعها الله تعالى عنا، كما قال تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) وقال تعالى: (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) الآية، فهذا النوع غير مشروع في حقنا أصلا، لا بناء على عذر موجود في حقنا بل تيسيرا وتخفيفا علينا، فكانت رخصة من حيث الاسم مجازا وإن لم تكن رخصة حقيقة لانعدام السبب الموجب للحرمة مع الحكم بالرفع والنسخ أصلا في حقنا، فإن حقيقة الرخصة في الاستباحة مع قيام السبب المحرم، ولكن لما كان الرفع للتخفيف علينا والتسهيل سميت رخصة مجازا.
وأما بيان النوع الرابع فما يستباح تيسيرا لخروج السبب من أن يكون موجبا للحكم مع بقائه مشروعا في الجملة، فإنه من حيث انعدام السبب الموجب للحكم يشبه هذا النوع الثالث فكان مجازا، ومن حيث إنه بقي السبب مشروعا في الجملة يشبه

النوع الثاني وهو أن الترخص باعتبار عذر للعباد فكان معنى الرخصة فيه حقيقة من وجه دون وجه.
وبيان هذا النوع في فصول: منها السلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم والسلم نوع بيع، واشتراط العينية في المبيع المشروع قائم في الجملة ثم سقط هذا الشرط في السلم أصلا حتى كانت العينية في المسلم فيه مفسدة للعقد لا مصححة، وكان سقوط هذا الشرط للتيسير على المحتاجين حتى يتوصلوا إلى مقصودهم من الاثمان قبل إدراك غلاتهم، ويتوصل صاحب الدراهم إلى مقصوده من الربح فكانت رخصة من حيث إخراج السبب من أن يكون موجبا اعتبار العينية فيه مع بقاء هذا النوع من السبب موجبا له في الجملة.
وكذلك المسح على الخفين رخصة مشروعة لليسر على معنى أن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم لا على معنى أن الواجب من غسل الرجل يتأدى بالمسح، ولهذا يشترط أن يكون اللبس على طهارة في الرجلين، وأن يكون أول الحدث بعد اللبس طارئا على طهارة كاملة ولو نزع الخف بعد المسح يلزمه غسل رجليه، فعرفنا أن التيسير من حيث إخراج السبب الموجب للحدث من أن يكون عاملا في الرجل ما دام مستترا بالخف، وتقدم الخف على الرجل في قبول حكم الحدث ما لم يخلعهما مع بقاء أصل السبب في الجملة.
وكذلك الزيادة في مدة المسح للمسافر فإنه رخصة من حيث إن السبب لم يبق في حقه موجبا غسل الرجل بعد مضي يوم وليلة ما لم ينزع الخف، وعلى هذا ما ذكر في كتاب الاكراه أن من اضطر إلى تناول الميتة أو شرب
الخمر لخوف الهلاك على نفسه من الجوع أو العطش أو للاكراه فإنه لا يسعه الامتناع من ذلك ولو امتنع حتى مات كان آثما، لان السبب غير موجب للحكم عند الضرورة للاستثناء المذكور في قوله تعالى: (إلا ما اضطررتم إليه) فالمستثنى لا يتناوله الكلام موجبا لحكمه، ولكن السبب بهذا الاستثناء لم ينعدم أصلا، فكانت الرخصة ثابتة باعتبار عذر العبد خرج به السبب من أن يكون موجبا للحكم في حقه ويلتحق الحرام في هذه الحالة في حقه بالحلال لما انعدم سبب الحرمة في حقه، ومن امتنع من تناول الحلال حتى يتلف نفسه يكون آثما، يوضحه أن سبب الحرمة

وجوب صيانة عقله عن الاختلاط أو الفساد بشرب الخمر، وصيانة بدنه عن ضرر تناول الميتة وصيانة البعض لا يتحقق في إتلاف الكل، فكان الامتناع في هذه الحالة إتلافا للنفس من غير أن يكون فيه تحصيل ما هو المقصود بالحرمة فلا يكون مطيعا لربه بل يكون متلفا نفسه بترك الترخص فيكون آثما.
ومن هذا النوع ما قال علماؤنا رحمهم الله: إنه لا يجوز للمسافر أن يصلي الظهر أربعا في سفره وإن ذلك بمنزلة ما لو صلى المقيم الفجر أربعا، لان السبب لم يبق في حقه موجبا إلا ركعتين فكانت الاخريان نفلا في حقه، ولهذا يباح له تركهما لا إلى بدل، وخلط النفل بالفرض قصدا لا يحل، وأداء النفل قبل إكمال الفرض يكون مفسدا للفرض فإذا لم يقعد القعدة الاولى فسدت صلاته.
والشافعي رحمه الله يقول: السبب الموجب للظهر أربع ركعات إلا أنه رخص له في الاكتفاء بالركعتين لدفع مشقة السفر فإن أكمل الصلاة كان مؤديا للفرض بعد وجود سببه فيستوي هو والمقيم في ذلك، كما إذا صام المسافر في شهر رمضان، وجعل معنى الرخصة في تخييره بين أن يؤدي فرض الوقت بأربع ركعات وبين أن يؤدي ركعتين بمنزلة العبد يأذن له مولاه في أداء الجمعة فإنه يتخير بين أن يؤدي فرض الوقت بالجمعة
ركعتين وبين أن يؤدي بالظهر أربعا.
وهذا غلط منه يتبين عند التأمل في مورد الشرع على ما روي أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله ما بالنا نصلي في السفر ركعتين ونحن آمنون ؟ فقال: هذه صدقة تصدق الله عليكم فاقبلوا صدقته ونحن نعلم أن المراد التصدق بالاسقاط عنا وما يكون واجبا في الذمة فالتصدق ممن له الحق بإسقاطه يكون كالتصدق بالدين على من عليه الدين، ومثل هذا الاسقاط إذا لم يتضمن معنى التمليك لا يرتد بالرد كالعفو عن القصاص، وكذلك إذا لم يكن فيه معنى المالية لا يرتد بالرد ولا يتوقف على القبول كالطلاق وإسقاط الشفعة، فبهذا يتبين أن السبب لم يبق موجبا للزيادة على الركعتين بعد هذا التصدق، فإن معنى الترخص في إخراج السبب من أن يكون موجبا للزيادة على الركعتين في حقه لا في التخيير، فإن التخيير عبارة عن تفويض المشيئة إلى المخير وتمليكه منه وذلك لا يتحقق هنا، فالعبادات إنما تلزمنا بطريق الابتلاء، قال الله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وتفويض المشيئة إلى العبد بهذه الصفة في أصل الوجوب أو في مقدار الواجب يعدم معنى

الابتلاء، وبهذا تبين أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم : فاقبلوا صدقته بالوقوف على أداء الواجب من غير خلط النفل به، وهكذا نقول في الصوم إلا أن الرخصة هناك في تأخير الحكم عن السبب وليس للعباد اختيار في رد ذلك إلا أن أصل السبب موجب في حقه ولهذا يلزمه القضاء إذا أدرك عدة من أيام أخر.
وبيان هذا في قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله وضع المسافر شطر الصلاة وأداء الصوم يحقق ما ذكرنا أن المشيئة التامة والاختيار الكامل لا يثبت للعبد أصلا، فإن ذلك بربوبته، وذلك معنى قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) : أي يتعالى أن يكون له رفيق فيما يختار، ويتعالى أن يكون له اختيار لدفع ضرر عنه، وهذا هو الاختيار الكامل، فأما الاختيار للعبد لا ينفك عن معنى الرفق به وذلك في أن يجر
إلى نفسه منفعة باختياره أو يدفع عن نفسه ضررا.
ألا ترى أن الله تعالى خير الحالف بين الانواع الثلاثة في الكفارة ليحصل للمكفر الرفق لنفسه باختياره الايسر عليه وهذا لا يتحقق في التخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد بوجه، وسواء صلى ركعتين أو أربعا فهو ظهر وببداهة العقول يعلم أن الرفق متعين في أداء الركعتين، فمن قال بأنه يتخير بين الاقل والاكثر من غير رفق له في ذلك فإنه لا يثبت له خيارا يليق بالعبودية والعجز، وخطأ هذا غير مشكل، ومن يقول بأن للعبد أن يرد ما أسقط الله تعالى عنه بطريق التصدق عليه فخطؤه لا يشكل أيضا لان عفو الله تعالى عن العباد في الآخرة لا يقول فيه أحد من العقلاء إنه يرتد برد العبد وإنه تخيير للعبد، وهذا بخلاف العبد المأذون في أداء الجمعة لان الجمعة غير الظهر، ولهذا لا يجوز بناء أحدهما على الآخر وعند المغايرة لا يتعين الرفق في الاقل عددا، فأما ظهر المقيم وظهر المسافر فواحد في الحكم فبالتخيير بين القليل والكثير فيه لا يتحقق شئ من معنى الرفق فيه.
ونظير هذا العبد الجاني إذا جنى جناية يخير المولى بين الدفع والفداء فإن أعتقه المولى وهو لا يعلم بالجناية أو كان الجاني مدبرا تكون على المولى قيمته ولا خيار له في ذلك، لان الجنس لما كان واحدا فالرفق كله متعين في الاقل.
وكذلك من اشترى شيئا لم يره يثبت له خيار الرؤية لتحقيق معنى الرفق باسترداد الثمن عند فسخ

البيع، وفي السلم لا يثبت خيار الرؤية لان برد المقبوض لا يتوصل إلى الرفق باسترداد الثمن ولكنه يرجع بمثل المقبوض فلا يظهر فيه معنى الرفق.
فإن قيل: معنى الرفق هنا يتحقق من حيث إن ثوابه في أداء الاربع أكثر وأداء الركعتين على بدنه أيسر فالتخيير لهذا المعنى.
قلنا: أحكام الدنيا لا تبنى على ما هو من أحكام الآخرة وهو نيل الثواب مع أن الثواب كله في امتثال الامر بأداء الواجب لا في عدد الركعات، فإن جمعة الحر في الثواب لا يكون دون ظهر العبد، وفجر المقيم
في الثواب لا يكون دون ظهره، فعرفنا أن هذا المعنى لا يتحقق في ثواب الصلاة أيضا وإنما يتحقق معنى الرفق في الصوم من الوجه الذي قررنا أن في الفطر نوع رفق له وفي الصوم نوع رفق آخر فكان التخيير بينهما مستقيما.
ويخرج على هذا من نذر صوم سنة إن فعل كذا ففعل وهو معسر فإنه يتخير بين صوم ثلاثة أيام وبين صوم سنة على قول محمد رحمه الله، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله أنه رجع إليه قبل موته بأيام لانهما مختلفان حكما، ففي صوم سنة وفاء بالمنذور وأداء ما هو قربة ابتداء، وصوم ثلاثة أيام كفارة لما لحقه بخلف الوعد المؤكد باليمين، وقد بينا أن التخيير عند المغايرة يتحقق فيه معنى الرفق، ولا يدخل على ما ذكرنا التخيير المذكور في حق موسى عليه السلام أنه فيما التزمه من الصداق بين الاقل والاكثر في جنس واحد، كما قال تعالى: (على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتمت عشرا فمن عندك) لان الزيادة على الثماني كان فضلا من عنده متبرعا به، فأما الواجب من الصداق وهو الاقل عندنا.
هكذا في مسألة الخلاف فالفرض ركعتان عندنا والزيادة عليه نفل مشروع للعبد يتبرع به من عنده ولكن الاشتغال بأداء النفل قبل إكمال الفرض مفسد للفرض، والله أعلم.
باب: أسماء صيغة الخطاب في تناوله المسميات وأحكامها قال رضي الله عنه: اعلم بأن هذه الاسماء أربعة: الخاص والعام والمشترك والمؤول.
فالخاص كل لفظ موضوع لمعنى معلوم على الانفراد، وكل اسم لمسمى معلوم على

الانفراد، ومنه يقال: اختص فلان بملك كذا: أي انفرد به ولا شركة للغير معه، وخصني فلان بكذا: أي أفرده لي، وفلان خاص فلان، ومنه سميت الخصاصة للانفراد عن المال وعن نيل أسباب المال مع الحاجة، ومعنى الخصوص في الحاصل الانفراد وقطع الاشتراك، فإذا أريد به خصوص الجنس قيل إنسان، وإذا أريد به خصوص
النوع قيل رجل، وإذا أريد به خصوص العين قيل زيد.
وأما العام كل لفظ ينتظم جمعا من الاسماء لفظا أو معنى، ونعني بالاسماء هنا المسميات، وقولنا لفظا أو معنى تفسير للانتظام: أي ينتظم جمعا من الاسماء لفظا مرة كقولنا زيدون، ومعنى تارة كقولنا من وما وما أشبههما.
ومعنى العموم لغة: الشمول، تقول العرب: عمهم الصلاح والعدل: أي شملهم، وعم الخصب: أي شمل البلدان أو الاعيان، ومنه سميت النخلة الطويلة عميمة، والقرابة إذا اتسعت انتهت إلى العمومة، فكل لفظ ينتظم جمعا من الاسماء سمي عاما لمعنى الشمول، وذلك نحو اسم الشئ فإنه يعم الموجودات كلها عندنا.
وذكر أبو بكر الجصاص رحمه الله أن العام ما ينتظم جمعا من الاسامي أو المعاني، وهذا غلط منه، فإن تعدد المعاني لا يكون إلا بعد التغاير والاختلاف، وعند ذلك اللفظ الواحد لا ينتظمهما وإنما يحتمل أن يكون كل واحد منهما مرادا باللفظ وهذا يكون مشتركا لا عاما ولا عموم للمشترك عندنا، وقد نص الجصاص في كتابه على أن المذهب في المشترك أنه لا عموم له، فعرفنا أن هذا سهو منه في العبارة أو هو مؤول، ومراده أن المعنى الواحد باعتبار أنه يعم المحال يسمى معاني مجازا، فإنه يقال: مطر عام لانه عم الامكنة وهو في الحقيقة معنى واحد ولكن لتعدد المحال الذي تناوله سماه معاني، ولكن هذا إنما يستقيم إذا قال: ما ينتظم جمعا من الاسامي والمعاني.
قال رضي الله عنه: وهكذا رأيته في بعض النسخ من كتابه، فأما قوله أو المعاني فهو سهو منه، وذكر أن إطلاق لفظ العموم حقيقة في المعاني والاحكام كما هو في الاسماء والالفاظ.
ويقال عمهم الخوف وعمهم الخصب باعتبار المعنى من غير أن يكون هناك لفظ، وهذا غلط أيضا فإن المذهب أنه لا عموم للمعاني حقيقة وإن كان

يوصف به مجازا، وسيأتيك بيان هذا الفصل في باب بيان إبطال القول بتخصيص
العلل الشرعية.
وأما المشترك فكل لفظ يشترك فيه معان أو أسام لا على سبيل الانتظام بل على احتمال أن يكون كل واحد هو المراد به على الانفراد، وإذا تعين الواحد مرادا به انتفى الآخر، مثل اسم العين فإنه للناظر، ولعين الماء، وللشمس، وللميزان، وللنقد من المال، وللشئ المعين لا على أن جميع ذلك مراد بمطلق اللفظ ولكن على احتمال كون كل واحد مرادا بانفراده عند الاطلاق، وهذا لان الاسم يتناول كل واحد من هذه الاشياء باعتبار معنى غير المعنى الآخر، وقد بينا أن لفظ الواحد لا ينتظم المعاني المختلفة.
وبيان هذا في لفظ البينونة فإنه يحتمل معنى الابانة ومعنى البين ومعنى البيان، يقول الرجل بان فلان عني: أي هجرني، وبان العضو من الجسم: أي انفصل، وبان لي كذا: أي ظهر، فيعلم أن مطلق اللفظ لا ينتظم هذه المعاني ولكن يحتمل كل واحد منها أن يكون مرادا ولهذا سميناه مشتركا، فالاشتراك عبارة عن المساواة، وفي الاحتمال وجدت المساواة بينهما فبقي المراد به مجهولا لا يمكن العمل بمطلقه في الابتداء بمنزلة المجمل إلا أن الفرق بين المشترك والمجمل أنه قد يتوصل إلى العمل بالمشترك عند التأمل في صيغة اللفظ فيرجح بعض المحتملات ويعرف أنه هو المراد بدليل في اللفظ من غير بيان آخر، والمجمل ما لا يستدرك به المراد بمجرد التأمل في صيغة اللفظ ما لم يرجع في بيانه إلى المجمل ليصير المراد بذلك البيان معلوما لا بدليل في لفظ المجمل.
وبيان المشترك في لفظ القرء، فبين العلماء اتفاق أنه يحتمل الاطهار ويحتمل الحيض وأنه غير منتظم لهما بل إذا حملناه على الحيض لدليل في اللفظ وهو أن المرأة لا تسمى ذات القرء إلا باعتبار الحيض فينتفي كون الاطهار مرادا عندنا، وإذا حمله الخصم على الاطهار لدليل في اللفظ وهو الاجتماع أخرج الحيض من أن يكون مرادا باللفظ.
وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله: لو أوصى بثلث ماله لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم لا تصح الوصية،
لان الاسم مشترك يحتمل أن يكون المراد به هو المولى الاعلى ويحتمل الاسفل وفي

المعنى تغاير، فالوصية للاعلى بمعنى المجازاة وشكرا للنعم، وللاسفل للزيادة في الانعام والترحم عليه، ولا ينتظم اللفظ المعنيين جميعا للمغايرة بينهما فبقي الموصى له مجهولا.
ولو حلف لا يكلم مواليه يتناول يمينه الاعلى والاسفل جميعا باعتبار أن المعنى الذي دعاه إلى اليمين غير مختلف في الاعلى والاسفل، فلايجاد المعنى لا يتحقق فيه الاشتراك بل اللفظ في هذا الحكم بمنزلة العام، فإن اسم الشئ يتناول الموجودات كلها باعتبار معنى واحد وهو صفة الوجود فكان منتظما للكل، والمشترك احتماله الجمع من الاشياء باعتبار معان مختلفة، فعرفنا به أن المراد واحد منها، فاسم المولى إذا استعمله فيما يختلف فيه المعنى والمقصود كان مشتركا، وفيما لا يختلف فيه المعنى كان بمنزلة العام.
وأما المؤول فهو تبين بعض ما يحتمل المشترك بغالب الرأي والاجتهاد، ومن قولك آل يؤول: أي رجع، وأوليته بكذا إذا رجعته وصرفته إليه، ومآل هذا الامر كذا: أي تصير عاقبته إليه، فالمؤول ما تصير إليه عاقبة المراد بالمشترك بواسطة الامر، قال تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله) أي عاقبته وما يؤول إليه الامر، وهو خلاف المجمل، فالمراد بالمجمل إنما يعرف ببيان من المجمل وذلك البيان يكون تفسيرا يعلم به المراد بلا شبهة، مأخوذ من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء وظهر ظهورا منتشرا، وأسفرت المرأة عن وجهها: أي كشفت وجهها، وهذا اللفظ مقلوب من التفسير فالمعنى فيهما واحد وهو الانكشاف والظهور على وجه لا شبهة فيه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار يعني قطع القول بأن المراد هذا برأيه، فإن من فعل ذلك فكأنه نصب نفسه صاحب الوحي فليتبوأ مقعده من النار، وبهذا تبين خطأ المعتزلة أن كل مجتهد مصيب لما هو الحق حقيقة، فالاجتهاد عبارة عن غالب الرأي، فمن يقول إنه يستدرك به الحق قطعا بلا شبهة فإنه
داخل في جملة من تناولهم هذا الحديث.
وصار الحاصل أن العام أكثر انتظاما للمسميات من الخاص، والخاص في معرفة المراد به أثبت من المشترك، ففي المشترك احتمال غير المراد ومع الاحتمال لا يتحقق الثبوت، والمشترك في إمكان معرفة المراد عند

التأمل في لفظه أقوى من المجمل فليس في المجمل إمكان ذلك بدون البيان على ما نذكره في بابه، إن شاء الله تعالى.
فصل: في بيان حكم الخاص قال رضي الله عنه: حكم الخاص معرفة المراد باللفظ ووجوب العمل به فيما هو موضوع له لغة، لا يخلو خاص عن ذلك وإن كان يحتمل أن تغير اللفظ عن موضوعه عند قيام الدليل فيصير عبارة عنه مجازا ولكنه غير محتمل للتصرف فيه بيانا، فإنه مبين في نفسه عامل فيما هو موضوع له بلا شبهة، وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله في قوله تعالى: (ثلاثة قروء) : إن المراد الحيض، لانا لو حملناه على الاطهار كان الاعتداد بقرأين وبعض الثالث، ولو حملناه على الحيض كان التربص بثلاثة قروء كوامل، واسم الثلاث موضوع لعدد معلوم لغة لا يحتمل النقصان عنه، بمنزلة اسم الفرد فإنه لا يحتمل العدد، واسم الواحد ليس فيه احتمال المثنى، ففي حمله على الاطهار ترك العمل بلفظ الثلاث فيما هو موضوع له لغة ولا وجه للمصير إليه، وقلنا في قوله: (اركعوا واسجدوا) إن فرض الركوع يتأدى بأدنى الانحطاط، لان اللفظ لغة موضوع للميل عن الاستواء، يقال: ركعت النخلة إذا مالت، وركع البعير إذا طأطأ رأسه، فإلحاق صفة الاعتدال به ليكون فرضا ثابتا بهذا النص لا يكون عملا بما وضع له هذا الخاص لغة، ولكن إنما يكون وفي العثمانية إنما يثبت بصفة الاعتدال بخبر الواحد فيكون موجبا للعمل ممكنا للنقصان في الصلاة إذا تركه ولا يكون مفسدا للصلاة، لان ذلك حكم ترك الثابت
بالنص، ومن ذلك قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) فالطواف موضوع لغة لمعنى معلوم لا شبهة فيه وهو: الدوران حول البيت، ثم إلحاق شرط الطهارة بالدوران ليكون فرضا لا يعتد الطواف بدونه لا يكون عملا بهذا الخاص بل يكون نسخا له وجعل الطهارة واجبا فيه حتى يتمكن النقصان بتركه يكون عملا بموجب كل دليل، فإن ثبوت شرط الطهارة بخبر الواحد وهو موجب للعمل فبتركه يتمكن النقصان في العمل شرعا فيؤمر بالاعادة أو الجبر بالدم ليرتفع به النقصان، ومن ذلك قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) الآية فإن اللفظ موضوع لغة لغسل هذه الاعضاء،

ففرضية الغسل في المغسولات والمسح في الممسوحات ثابت بهذا النص، واشتراط النية والموالاة والترتيب والتسمية ليكون فرضا لا يزول الحدث بدونها مع وجود الغسل والمسح لا يكون عملا بهذا الخاص بل يكون نسخا له، وجعل ذلك واجبا أو سنة للاكمال كما هو موجب خبر الواحد يكون عملا بكل دليل ومراعاة لمرتبة كل دليل.
فتبين أن فيما ذهب إليه الخصم حط درجة النص عن مرتبته أو رفع درجة خبر الواحد فوق مرتبته فلا يكون القول به صحيحا.
وقال الشافعي في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) : فإن القطع لفظ خاص لمعنى معلوم، فإبطال عصمة المال والتقوم الذي كان ثابتا قبل فعل السرقة أو بعده قبل القطع لا يكون عملا بهذا الخاص، بل يكون زيادة أثبتموه بالرأي أو بخبر الواحد، فقد دخلتم فيما أبيتم.
ولكنا نقول: ما أثبتنا ذلك إلا بلفظ خاص في الآية وهو قوله تعالى: (جزاء بما كسبا نكالا من الله) فاسم الجزاء يطلق على ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة أفعال العباد، فثبت بهذا اللفظ الخاص أن القطع حق الله تعالى خالصا، وتبين به أن سببه جناية على حق الله تعالى، ولا يجب القطع إلا باعتبار العصمة والتقوم في المسروق، فبه يتبين أن العصمة والتقوم عند فعل السرقة صار حقا لله تعالى حيث وجب القطع
باعتباره حقا له ويتم ذلك بالاستيفاء، لان ما يجب حقا لله تعالى فتمامه يكون بالاستيفاء إذ المقصود به الزجر وذلك يحصل بالاستيفاء، وبهذا التحقيق تبين أن العصمة والتقوم لم يبق حقا للعبد فلا يجب الضمان به، أو عرفنا ذلك من قوله تعالى: (جزاء بما كسبا) فإن الجزاء لغة يستدعي الكمال، من قولهم: جزى: أي قضى، أو جزأ بالهمزة: أي كفى، وكمال الجزاء باعتبار كمال السبب، وهو أن يكون الفعل حراما لعينه، فمع بقاء التقوم والعصمة حقا للمالك لا يكون الفعل حراما لعينه بل لغيره وهو حق المالك، فعرفنا أنه لم يبق العصمة والتقوم في المحل حقا للعبد عندنا باعتبار خاص منصوص عليه، ولا يدخل عليه الملك فإنه يبقى للمالك حتى يسترده إن كان قائما بعينه، لان مع بقاء الملك له لا تنعدم صفة الكمال في السبب وهو كون

الفعل حراما لعينه، ألا ترى أن العصير إذا تخمر يبقى مملوكا ويكون الفعل فيه حراما لعينه حتى يجب الحد بشربه، ولكن لم يبق معصوما متقوما لانه حينئذ يكون بمنزلة عصير الغير فلا يكون شربه حراما لعينه.
ثم وجوب القطع باعتبار العصمة والتقوم في محل مملوك، فأما المالك فهو غير معتبر فيه لعينه بل ليظهر السبب بخصومته عند الامام، ولهذا لو ظهر بخصومة غير المالك نقيم الحد بخصومة المكاتب والعبد المأذون المستغرق بالدين في كسبه والمتولي في مال الوقف، ونحن إنما جعلنا ما وجب القطع باعتباره حقا لله تعالى لضرورة كون الواجب محض حق الله تعالى وذلك في العصمة والتقوم دون أصل الملك.
ومن هذه الجملة قوله تعالى: (أن تبتغوا بأموالكم) فالابتغاء موضوع لمعنى معلوم وهو الطلب بالعقد، والباء للالصاق، فثبت له اشتراط كون المال ملصقا به بالابتغاء تسمية أو وجوبا، والقول بتراخيه عن الابتغاء إلى وجود حقيقة المطلوب كما قاله الخصم في المفوضة أنه لا يجب المهر لها إلا بالوطئ يكون ترك العمل بالخاص، فيكون في معنى النسخ له ولا يجوز المصير
إليه بالرأي.
ومن ذلك قوله تعالى: (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) فالفرض لمعنى معلوم لغة وهو التقدير والكتابة في قوله تعالى: (فرضنا) لمعنى معلوم لغة وهو إرادة المتكلم نفسه، فالقول بأن المهر غير مقدر شرعا بل يكون إيجاب أصله بالعقد وبيان مقداره مفوضا إلى رأي الزوجين يكون ترك العمل بهذا الخاص، فإنما العمل به فيما قلنا إن وجوب أصله وأدنى المقدار فيه ثابت شرعا لا خيار له فيه للزوجين.
ومن هذا النوع ما قال محمد والشافعي في قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) إن كلمة حتى موضوع لمعنى لغة وهو الغاية والنهاية، فجعله لمعنى موجب حلا حادثا يكون ترك العمل بهذا الخاص، وإنما العمل به في أن يجعل غاية للحرمة الحاصلة في المحل ولا حرمة قبل استيفاء عدد الطلاق ولا تصور للغاية قبل وجود أصل الشئ، فإن المنتهى بالغاية بعض الشئ فكيف يتحقق قبل وجود أصله ! بل يكون وجود الزوج الثاني في هذه الحالة كعدمه.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: ما تناوله هذا الخاص فهو غاية لما وضع

اللفظ له وهو عقد الزوج الثاني، فإن النكاح وإن كان حقيقة للوطئ فقد يطلق بمعنى العقد، والمراد العقد هنا بدليل الاضافة إلى المرأة، وإنما يضاف إليها العقد لتحقق مباشرته منها، ولا يضاف إليها الوطئ حقيقة لانها محل الفعل لا مباشرة للوطئ، فأما شرط الدخول فأثبتناه بحديث مشهور وهو ما روي أن امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير فلم أجد معه إلا مثل هذه وأشارت إلى هدبة ثوبها، كانت تتهمه بالعنة، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ فقالت: نعم، فقال: لا حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك ففي اشتراط الوطئ للعود إشارة إلى السبب الموجب للحل.
وقال عليه السلام: لعن الله المحلل والمحلل له ولا خلاف
بين العلماء أن الوطئ من الزوج الثاني شرط لحل العود إلى الاول بهذه الآثار، فنحن عملنا بما هو موجب أصل هذا الدليل بصفته فجعلناه موجبا للحل، وهم أسقطوا اعتبار هذا الوصف من هذا الدليل استدلالا بنص ليس فيه بيان أصل هذا الشرط ولا صفته، فيكون هذا ترك العمل بالدليل الموجب له لا عملا بكل خاص فيما هو موضوع له لغة.
ومن ذلك قولنا في قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له) لان الفاء موضوع لغة للوصل والتعقيب فذكره بعد الخلع المذكور في قوله تعالى: (فيما افتدت به) يكون بيانا خاصا أن إيقاع التطليقتين بعد الخلع متصلا به يكون عاملا موجبا حرمة المحل، بخلاف ما يقوله الخصم إن المختلعة لا يلحقها الطلاق.
ومن ذلك قوله تعالى: (الطلاق مرتان) إلى قوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ففي الاضافة إليها ثم تخصيص جانبها بالذكر بيان أن الذي يكون من جانب الزوج في الخلع عين ما تناوله أول الآية وهو الطلاق لا غيره وهو الفسخ، فجعل الخلع فسخا يكون ترك العمل بهذا الخاص، وجعله طلاقا كما هو موجب هذا الخاص يكون عملا بالمنصوص، هذا بيان الطريق فيما يكون من هذا الجنس.

فصل: في بيان حكم العام قال بعض المتأخرين ممن لا سلف لهم في القرون الثلاثة: حكمه الوقف فيه حتى يتبين المراد منه بمنزلة المشترك أو المجمل، ويسمى هؤلاء الواقفية، إلا أن طائفة منهم يقولون يثبت به أخص الخصوص وفيما وراء ذلك الحكم هو الوقف حتى يتبين المراد بالدليل.
وقال الشافعي: هو مجرى على عمومه موجب للحكم فيما تناوله مع ضرب شبهة فيه لاحتمال أن يكون المراد به الخصوص فلا يوجب الحكم قطعا بل على تجوز أن يظهر معنى الخصوص فيه لقيام الدليل، بمنزلة القياس فإنه يجب العمل به في الاحكام الشرعية
لا على أن يكون مقطوعا به بل مع تجوز احتمال الخطأ فيه أو الغلط، ولهذا جوز تخصيص العام بالقياس ابتداء وبخبر الواحد، فقد جعل القياس وخبر الواحد الذي لا يوجب العلم قطعا مقدما على موجب العام حتى جوز التخصيص بهما، وجعل الخاص أولى بالمصير إليه من العام، على هذا دلت مسائله، فإنه رجح خبر العرايا على عموم قوله عليه السلام: التمر بالتمر كيلا بكيل في حكم العمل به، وجعل هذا قولا واحدا له فيما يحتمل العموم وفيما لا يحتمل العموم لانعدام محله، فقال: يجب العمل فيهما بقدر الامكان حتى يقوم دليل التخصيص على الوجه الذي ذكرنا.
والمذهب عندنا أن العام موجب للحكم فيما يتناوله قطعا بمنزلة الخاص موجب للحكم فيما تناوله، يستوي في ذلك الامر والنهي والخبر إلا فيما لا يمكن اعتبار العموم فيه لانعدام محله، فحينئذ يجب التوقف إلى أن يتبين ما هو المراد به ببيان ظاهر بمنزلة المجمل، فعلى هذا دلت مسائل علمائنا رحمهم الله.
قال محمد رحمه الله في الزيادات: إذا أوصى بخاتم لرجل ثم أوصى بفصه لآخر بعد ذلك في كلام مقطوع، فالحلقة للموصى له بالخاتم والفص بينهما نصفان، لان الايجاب الثاني في عين ما أوجبه للاول لا يكون

رجوعا عن الاول فيجتمع في الفص وصيتان إحداهما بإيجاب عام والاخرى بإيجاب خاص، ثم إذا ثبت المساواة بينهما في الحكم يجعل الفص بينهما نصفين.
وقال في الوصايا: لو كانت الوصيتان بهذه الصفة في كلام موصول كان الفص للموصى له خاصة، لانه إذا كان الكلام موصولا كان آخره بيانا لاوله، فيظهر به أن مراده بالايجاب العام الحلقة دون الفص.
وقال في المضاربة: إذا اختلف المضارب ورب المال في العموم والخصوص فالقول قول من يدعي العموم أيهما كان، فلولا المساواة بين الخاص والعام حكما فيما يتناوله لم يصر إلى الترجيح بمقتضى العقد.
قال: وإذا
أقاما جميعا البينة وأرخ كل منهما آخرهما تاريخا أولى سواء كان مبينا للعموم أو الخصوص فقد جعل العام المتأخر رافعا للخاص المتقدم كما جعل الخاص المتأخر مخصصا للعام المتقدم ولا يكون ذلك إلا بعد المساواة، وظهر من مذهب أبي حنيفة رحمه الله ترجيح العام على الخاص في العمل به، نحو حفر بئر الناضح فإنه رجح قوله عليه السلام: من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا على الخاص الوارد في بئر الناضح أنه ستون ذراعا، فرجح قوله عليه السلام: ما أخرجت الارض ففيه العشر على الخاص الوارد بقوله عليه السلام: ليس في الخضراوات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ونسخ الخاص بالعام أيضا كما فعله في بول ما يؤكل لحمه فإنه جعل الخاص من حديث العرنيين فيه منسوخا بالعام وهو قوله عليه السلام: استنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه وأكثر مشايخنا رحمهم الله يقولون أيضا إن العام الذي لم يثبت خصوصه بدليل لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس، فزعموا أن المذهب هذا، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا يكون موجبا تخصيص العموم في قوله تعالى: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) حتى لا تتعين قراءة الفاتحة فرضا.
وكذلك قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) عام لم يثبت خصومه فإن الناسي جعل

ذاكرا حكما بطريقة إقامة ملته مقام التسمية تخفيفا عليه، فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس (وكذلك قوله: (ومن دخله كان آمنا) عام لم يثبت تخصيصه، ولا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس) حتى يثبت الامن بسبب الحرم المباح الدم باعتبار العموم، ومتى ثبت التخصيص في العام بدليله فحينئذ يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس على ما نبينه، إن شاء الله تعالى.
أما الواقفون استدلوا بالاشتراك في الاستعمال، فقد يستعمل لفظ العام والمراد به
الخاص، قال تعالى: (الذين قال لهم الناس) والمراد به رجل واحد، وقد يستعمل لفظة الجماعة للفرد، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقال: (رب ارجعون) وهذا في كلام الخطباء ونظم الشعراء معروف، فعند الاطلاق يشترك فيه احتمال العموم واحتمال الخصوص فيكون بمنزلة المشترك يجب الوقف فيه حتى يتبين المراد، أو نقول لفظ العام مجمل في معرفة المراد به حقيقة لاحتمال أن يكون المراد بعض ما تناوله وذلك البعض لا يمكن معرفته بالتأمل في صيغة اللفظ، ألا ترى أنه يستقيم أن يقرن به على وجه البيان والتفسير (مطلق هذا اللفظ) ما هو المراد به من العموم بأن نقول جاءني القوم كلهم أو أجمعون، ولو كان العموم موجب مطلق هذا اللفظ لم يستقم تفسيره بلفظ آخر كالخاص، فإنه لا يستقيم أن يقرن به ما يكون ثابتا بموجبه بأن يقول جاءني زيد كله أو جميعه، ولما استقام ذلك في العام عرفنا أنه غير موجب للاحاطة بنفسه والبعض الذي هو مراد منه غير معلوم، فيكون بمنزلة المجمل.
والذين قالوا بأخص الخصوص قالوا: ذلك القدر يتيقن بأنه مراد سواء كان المراد الخصوص أو العموم فللتيقن به جعلناه مرادا، وإنما الوقف فيما وراء ذلك، وبيانه أن إرادة الثلاث من لفظ الجماعة وإرادة الواحد من لفظ الجنس متيقن به، فمطلق اللفظ في ذلك بمنزلة الاحاطة عند اقتران البيان باللفظ وذلك موجب الكلام، فكذلك أخص الخصوص موجب مطلق لفظ العام.

والدليل لعامة الفقهاء على أن العام موجب العمل بعمومه قوله تعالى: (اتبعو ما أنزل إليكم من ربكم) والاتباع لفظ خاص في اللغة بمعنى معلوم، وفي المنزل عام وخاص فيجب بهذا الخاص اتباع جميع المنزل، والاتباع إنما يكون بالاعتقاد والعمل به وليس في التوقف اتباع للمنزل، فعرفنا أن العمل واجب بجميع ما أنزل على ما أوجبه
صيغة الكلام إلا ما يظهر نسخه بدليل، فقد ظهر الاستدلال بالعموم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم على وجه لا يمكن إنكاره، فإن النبي عليه السلام حين دعا أبي بن كعب رضي الله عنه وهو في الصلاة فلم يجبه بين له خطأه فيما صنع بالاستدلال بقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) وهذا عام، فلو كان موجبه التوقف على ما زعموا لم يكن لاستدلاله عليه به معنى، والصحابة رضي الله عنهم في زمن الصديق حين خالفوه في الابتداء في قتال مانعي الزكاة استدلوا عليه بقوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وهو عام، ثم استدل عليهم بقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فرجعوا إلى قوله وهذا عام.
وحين أراد عمر رضي الله عنه أن يوظف الجزية والخراج على أهل السواد استدل على من خالفه في ذلك بقوله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم) وقال أرى لمن بعدكم في هذا الفئ نصيبا ولو قسمته بينكم لم يبق لمن بعدكم فيه نصيب، وهذه الآية في هذا الحكم نهاية في العموم.
ولما هم عثمان رضي الله عنه برجم المرأة التي ولدت لستة أشهر استدل عليه ابن عباس فقال: أما إنها لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم، قال الله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال: (وفصاله في عامين) فإذا ذهب للفصال عامان بقي للحمل ستة أشهر، وهذا استدلال بالعام.
وحين اختلف عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الاختين وطئا بملك اليمين قال علي رضي الله عنه: أحلتهما قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) وحرمتهما قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الاختين) فالاخذ بما يحرم أولى احتياطا، فوافقه عثمان في هذا، إلا أنه قال: عند تعارض الدليلين أرجح الموجب للحل باعتبار الاصل.
وحين اختلف علي وابن مسعود رضي الله عنهما في المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا، فقال علي رضي الله عنه: تعتد بأبعد الاجلين، واستدل بالآيتين: قوله تعالى: (أربعة أشهر وعشرا) وقوله تعالى: (وأولات الاحمال أجلهن

أن يضعن حملهن) قال ابن مسعود رضي الله عنه: من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة النساء الطولى، يعني قوله تعالى: (وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن) نزلت بعد قوله تعالى: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) فاستدل بهذا العام على أن عدتها بوضع الحمل لا غير وجعل الخاص في عدة المتوفى عنها زوجها منسوخا بهذا العام في حق الحامل.
واحتج ابن عمر على ابن الزبير في التحريم بالمصة والمصتين بقوله تعالى: (وأخواتكم من الرضاعة) واحتج ابن عباس على الصحابة رضي الله عنهم في الصرف بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : لا ربا إلا في النسيئة واحتجوا عليه بالعموم الموجب لحرمة الربا من الكتاب والسنة فرجع إلى قولهم.
فبهذا تبين أنهم اعتقدوا وجوب العمل بالعام وإجراءه على عمومه.
ولا معنى لقول من يقول: إنهم عرفوا ذلك بدليل آخر من حال شاهدوه أو ببيان سمعوه، لان المنقول احتجاج بعضهم على بعض بصيغة العموم فقط، وفي القول بما قال هذا القائل تعطيل المنقول والاحالة على سبب آخر لم يعرف.
ثم لزوم العمل بالمنزل حكم ثابت إلى يوم القيامة، فلو كان ذلك في حقهم باعتبار دليل آخر ما وسعهم ترك النقل فيه، ولو نقلوا ذلك لظهر وانتشر.
يؤيد ما قلنا حديث أبي بكر رضي الله عنه حين بلغه اختلاف الصحابة في نقل الاخبار جمعهم فقال: إنكم إذا اختلفتم فمن بعدكم يكون أشد اختلافا، الحديث إلى أن قال: فيكم كتاب الله تعالى فأحلوا حلاله وحرموا حرامه.
ولم يخالف أحد منهم في ذلك، فعرفنا أنهم عرفوا المراد بعين ما هو المنقول إلينا لا بدليل آخر غير منقول إلينا.
ثم العموم معنى مقصود من الكلام عام بمنزلة الخصوص فلا بد أن يكون له لفظ موضوع يعرف المقصود بذلك اللفظ، لان الالفاظ لا تقصر عن المعاني، وبيان هذا أن المتكلم باللفظ الخاص له في ذلك مراد لا يحصل باللفظ العام
وهو تخصيص الفرد بشئ فكان لتحصيل مراده لفظ موضوع وهو الخاص، والمتكلم باللفظ العام بمعنى العام له مراد في العموم لا يحصل ذلك باللفظ الخاص ولا يتيسر عليه التنصيص على كل فرد بما هو مراد باللفظ العام، فلا بد من أن يكون

لمراده لفظ موضوع لغة وذلك صيغة العموم، فإن من أراد عتق جميع عبيده فإنما يتمكن من تحصيل هذا المقصود بقوله عبيدي أحرار، وهذا لفظ عام، فمن جعل موجبه الوقف فإنه يشق على المتكلم بأن يحصل مقصوده في العموم باستعمال صيغته، وما قالوا إنه قد استعمل العام بمعنى الخاص، قلنا ويستعمل أيضا بمعنى الاحاطة على وجه لا يحتمل غيره، قال تعالى: (إن الله بكل شئ عليم) وقال تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) وقال تعالى: (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) فهذا الاستعمال يمنعهم عن القول بالتوقف في موجب العموم.
ثم العموم بهذه الصيغة حقيقة واحتمال إرادة المجاز لا يخرج الحقيقة من أن تكون موجب مطلق الكلام، ألا ترى أن بعد تعين الاحاطة فيه بقوله تعالى أجمعون أو كلهم لا ينتفي هذا الاحتمال من كل وجه حتى يستقيم أن يقرن به الاستثناء، قال تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) ويقول الرجل: جاءني القوم كلهم أجمعون إلا فلانا وفلانا.
ثم هذا لا يمنع القول بأن موجبه الاحاطة فيما تناوله فكذلك في مطلق اللفظ، مع أنا لا نقول إن ما يقرن به يكون تفسيرا، ولكن نقول وإن كان موجبه العموم قطعا فهو غير محكم لاحتمال إرادة الخصوص فيه فيصير بما يقرن به محكما إذا أطلق ذلك كما في قوله: جاءني القوم كلهم، فإنه لا ينفي احتمال الخصوص بعد هذا إذا لم يقرن به استثناء يكون مغيرا له، ومثله في الخاص موجود فإن قوله جاءني فلان خاص موجب لما تناوله ولكنه غير محكم فيه لاحتمال المجاز، فإذا قال جاءني فلان نفسه يصير محكما وينتفي احتمال المجاز في أن الذي جاءه رسوله أو عبده أو كتابه.
ثم قال الشافعي
رحمه الله: أجعل مطلق العام موجبا للعمل فيما تناوله ولكن احتمال الخصوص فيه قائم ومع الاحتمال لا يصير مقطوعا به فلا أجعله موجبا للعمل فيما تناوله قطعا.
ولكنا نقول: المراد بمطلق الكلام ما هو الحقيقة فيه والحقيقة ما كانت الصيغة موضوعة له لغة، وهذه الصيغة موضوعة لمقصود العموم فكانت حقيقة فيها، وحقيقة الشئ ثابت بثبوته قطعا ما لم يقم الدليل على مجازه كما في لفظ الخاص، فإن ما هو حقيقة فيه يكون ثابتا به قطعا حتى يقوم الدليل على صرفه إلى المجاز.

فإن قال قائل: إن الخاص أيضا لا يوجب موجبه قطعا لاحتمال إرادة المجاز منه وإنما يوجب موجبه ظاهرا ما لم يتبين أنه ليس المراد به المجاز بدليل آخر بمنزلة النص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن بقاء الحكم الثابت بالنص يكون ظاهرا لا مقطوعا به لاحتمال النسخ وإن لم يظهر الناسخ بعد.
قلنا: هذا فاسد، لان مراد المتكلم بالكلام ما هو موضوع له حقيقة، هذا معلوم وإرادة المجاز موهوم والموهوم لا يعارض المعلوم ولا يؤثر في حكمه، وكذلك المجاز لا يعارض الحقيقة بل ثبوت المجاز بإرادة المتكلم لا بصيغة الكلام وهي إرادة ناقلة للكلام عن حقيقته، فما لم يظهر الناقل بدليله يثبت حكم الكلام مقطوعا به بمنزلة النص المطلق يوجب الحكم قطعا وإن احتمل التغيير بشرط تعلقه به أو قيد بقيده ولكن ذلك ناقل للكلام عن حقيقته فما لم يظهر كان حكم الكلام ثابتا قطعا، بخلاف النص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن النص يوجب الحكم، فأما بقاء الحكم ليس من موجبات النص ولكن ما ثبت فالاصل فيه البقاء حتى يظهر الدليل المزيل، فكان بقاؤه لنوع من استصحاب الحال وعدم الناسخ، وهذا المعدوم غير مقطوع به فلهذا لا يكون بقاء الحكم مقطوعا به في ذلك الوقت حتى إن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقطع احتمال النسخ كان الحكم الذي لم يظهر ناسخه باقيا قطعا.
فإن قيل: فكذلك عدم إرادة المتكلم للمجاز ليس بمعلوم قطعا بل هو ثابت بنوع من الظاهر بمنزلة عدم الناسخ في ذلك الوقت بخلاف الشرط والاستثناء فانعدامهما ثابت بالنص، لان الشرط والاستثناء يكون مقارنا للنص فالاطلاق فيه على وجه يكون ساكتا عن ذكر الشرط، والاستثناء تنصيص على عدم الشرط والاستثناء ؟ قلنا: نعم ولكن الارادة المغيرة للخاص عن حقيقته يكون في باطن المتكلم وهو غيب عنا وليس في وسعنا الوقوف على ذلك وإنما يثبت التكليف شرعا بحسب الوسع فما ليس في وسعنا الوقوف عليه لا يكون معتبرا أصلا إلى أن يظهر بدليله وعند ظهوره بدليله يجعل ثابتا ابتداء، فقبل الظهور يكون حكم الخاص ثابتا قطعا وهو بمنزلة خطاب الشرع لا يوجب الحكم في حق المخاطب ما لم يسمع به لانه ليس في وسعه العمل به قبل

السماع وعند السماع يثبت الحكم في حقه ابتداء كأن الخطاب نزل الآن، وعلى هذا قلنا: إذا قال لامرأته إن كنت تحبينني فأنت طالق، أو قال: إن كنت تحبين النار فأنت طالق فقالت أنا أحب ذلك يقع الطلاق، لان حقيقة المحبة والبغض في باطنها ولا طريق لنا إلى معرفته فلا يتعلق الطلاق بحقيقته، ولكن طريق معرفتنا في الظاهر إخبارها فيجعل الزوج معلقا الطلاق بإخبارها حكما، فإذا قالت أحب يقع الطلاق لوجود ما هو الشرط حقيقة وهو الخبر فإن الخبر يحتمل الصدق والكذب، وإذا ثبت هذا في الخاص فكذلك في العام فإن احتمال الخصوص باطن وهو غيب عنا ما لم يظهر بدليله فقبل ظهوره يكون موجبا الحكم فيما تناوله قطعا، إلا أن الشافعي يقول مع هذا احتمال إرادة الخصوص لم ينعدم ولكن ليس في وسعنا الوقوف عليه عند الخطاب فنجعل العام موجبا الحكم فيما تناوله عملا ولا نجعله موجبا للحكم قطعا فيما يرجع إلى العلم به لبقاء احتمال الخصوص.
وهكذا أقول في الخاص: الارادة المغيرة فيها احتمال إلا أن ذلك مانع عن ثبوت حكم الحقيقة عملا به فيكون
في معنى الناسخ الذي هو مبدل للحكم أصلا، والناسخ لا يكون مقترنا بالنص الموجب للحكم بل إنما يرد النسخ على البقاء، فكذلك في الخاص أجعل ظهور إرادة المجاز بدليله عاملا ابتداء فقبل ظهوره يكون حكم الخاص ثابتا قطعا، وأما إرادة الخصوص لا يكون رافعا للحكم أصلا فيبقى معتبرا مع وجود العمل بالعام فلا يثبت العلم بموجبه قطعا، وعلى هذا نقول في قوله إن كنت تحبينني إنه يقع الطلاق إذا أخبرت به لان ما ليس في وسعه الوقوف عليه وهو حقيقة المحبة والبغض بحال فيسقط اعتباره في حكم العمل، ولو قال: إن كنت تحبين النار فأنت طالق فقالت أحب لا يقع الطلاق، لان كذبها ههنا معلوم قطعا فإن أحدا ممن له طبع سليم لا يحب النار، ويكون هذا بمنزلة العام الذي ليس فيه احتمال الخصوص، كقوله تعالى: (إن الله بكل شئ عليم) فإن حقيقة الموجب بمثل هذا العام معلوم قطعا بخلاف العام الذي هو محتمل الخصوص.
ولكن الجواب عنه أن نقول: كما أن الله تعالى لم يكلفنا ما ليس في وسعنا فقد أسقط عنا ما فيه حرج علينا كما قال تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) وفي اعتبار الارادة الباطنة في العام الذي هو محتمل لها نوع حرج،

فالتمييز بين ما هو مراد المتكلم وبين ما ليس بمراد له قبل أن يظهر دليله فيه حرج عظيم وسقط اعتباره شرعا، ويقام السبب الظاهر الدال على مراده وهو صيغة العموم مقام حقيقة الباطن الذي لا يتوصل إليه إلا بحرج، ألا ترى أن خطاب الشرع يتوجه على المرء إذا اعتدل حاله، ولكن اعتدال الحال أمر باطن وله سبب ظاهر من حيث العادة وهو البلوغ عن عقل، فأقام الشرع هذا السبب الظاهر مقام ذلك المعنى الباطن للتيسير، ثم دار الحكم معه وجودا وعدما حتى إنه وإن اعتدل حاله قبل البلوغ يجعل ذلك كالمعدوم حكما في (حق) توجه الخطاب عليه، ولو لم يعتدل حاله بعد البلوغ عن عقل كان الخطاب متوجها أيضا لهذا المعنى، ومن نظر عن إنصاف لا يشكل
عليه أن الحرج في التأمل في إرادة المتكلم ليتميز به ما هو مراد له مما ليس بمراد فوق الحرج بالتأمل في أحوال الصبيان ليتوقف على اعتدال حالهم، وهذا أصل كبير في الفقه، فإن الرخصة بسبب السفر تثبت لدفع المشقة، كما قال الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ثم حقيقة المشقة باطن تختلف فيه أحوال الناس وله سبب ظاهر وهو السير المديد فأقام الشرع هذا السبب مقام حقيقة ذلك المعنى وأسقط وجود حقيقة المشقة في حق المقيم لانعدام السبب الظاهر إلا إذا تحققت الضرورة عند خوف الهلاك على نفسه فذلك أمر وراء المشقة، وأثبت الحكم عند وجود السبب الظاهر وإن لم تلحقه المشقة حقيقة.
وكذلك الاستبراء فإنه يجب التحرز عن خلط المياه المحترمة إلا أن ذلك باطن وله سبب ظاهر وهو استحداث ملك الوطئ بملك اليمين لان زوال ملك اليمين لا يوجب ما يستدل به على براءة الرحم من عدة أو استبراء، فأقام الشرع استحداث ملك الوطئ بملك اليمين مقام المعنى الباطن وهو اشتغال الرحم بالماء في حق وجوب التحرز عن الخلط بالاستبراء، ولهذا قلنا: لو اشتراها من صبي أو امرأة أو اشتراها وهي بكر أو حاضت عند البائع بعد الوطئ قبل أن يبيعها يجب الاستبراء لاعتبار السبب الظاهر، ولهذا قلنا في النكاح لا يجب الاستبراء وإن علم أنها وطئت قبل أن يتزوجها وطئا محرما بأن تزوج أمة كان قد وطئها قبل أن يتزوجها لان الاصل في النكاح الحرة، فإن الرق عارض والازدواج بين الشخصين باعتبار

==================================ج2.========================


ج2. الكتاب : أصول السرخسي

المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى

الاصل، وباعتبار صفة الحرمة زوال ملك الوطئ عن الحرة يعقب عدة موجبة براءة الرحم فلا تقع الحاجة إلى إقامة استحداث ملك الوطئ بالنكاح مقام حقيقة اشتغال الرحم في إيجاب الاستبراء للتحرز عن الخلط، وعلى هذا قلنا: إذا قال لامرأته أنت طالق الساعة إن كان في علم الله أن فلانا يقدم إلى شهر فقدم فلان بعد تمام الشهر يقع الطلاق عليها عند القدوم ابتداء، بمنزلة ما لو قال أنت طالق الساعة إن
قدم فلان إلى شهر ومعلوم أن بعد قدومه قد تبين أنه كان في علم الله قدومه إلى شهر وأن التعليق كان بشرط موجود حقيقة، ولكن لما لم يكن لنا طريق الوقوف عليه إلا بعد القدوم صار القدوم الذي به يتبين لنا شرطا لوقوع الطلاق (فيقع الطلاق) عنده ابتداء، بخلاف ما لو قال: أنت طالق الساعة إن كان زيد في الدار ثم علم بعد شهر أن زيدا في الدار يومئذ فإنه يكون الطلاق واقعا من حين تكلم به، لانه كان لنا طريق إلى الوقوف على ما جعله شرطا حقيقة فلا يقام ظهوره عندنا مقام حقيقته، ولكن تبين عند ظهوره أن الطلاق كان واقعا لانه علقه بشرط موجود، والذي تحقق ما ذكرنا أن صاحب الشرع خاطبنا بلسان العرب فإنما يفهم من خطاب الشرع ما يفهم من مخاطبات الناس فيما بينهم، ومن يقول لعبده أعط هذه المائة الدرهم هؤلاء بالسوية وهم مائة نفر نعلم قطعا أن مراده إعطاء كل واحد منهم درهما، بمنزلة ما لو قال أعط كل واحد منهم درهما، وكذلك يفهم من الخاص والعام في مخاطبات الشرع الحكم قطعا فيما تناوله كل واحد منهما.
ومن قال لغيره: لا تعتق عبدي سالما ثم قال أعتق البيض من عبيدي وسالم بهذه الصفة فإنه يكون له أن يعتقه وبإعتاقه يكون ممتثلا للامر لا مرتكبا للنهي، فكذلك نقول في العام المتأخر في خطاب الشرع إنه يكون قاضيا فيما تناوله على الخاص، فإذا كان حكم الخاص ثابتا قطعا فيما تناوله فلا بد من أن يكون العام كذلك ليكون قاضيا عليه.
فإن قيل: أليس أن تخصيص العام بالقياس وخبر الواحد جائز، ومعلوم أن القياس وخبر الواحد لا يوجب العلم قطعا فكيف يكون رافعا للحكم الثابت قطعا بصيغة

العموم إذا كانت هذه الصيغة توجب موجبها قطعا ؟ قلنا: مثل هذا يلزمك في الخاص فإن صرفه عن الحقيقة إلى المجاز بالقياس وخبر الواحد جائز.
ثم الجواب على ما اختاره أكثر مشايخنا رحمهم الله أن تخصيص العام الذي لم يثبت خصوصه ابتداء لا يجوز بالقياس (وخبر الواحد) وإنما يجوز ذلك في العام الذي ثبت خصوصه بدليل موجب من الحكم مثل ما يوجبه العام وهو خبر متأيد بالاستفاضة أو مشهور فيما بين السلف أو إجماع، فعند وجود ذلك يتبين بالقياس وخبر الواحد ما هو المراد بصيغة العام بعد أن خرج من أن يكون موجبا للحكم فيما يتناوله قطعا على ما نبينه في فصل العام إذا دخله خصوص، وهذا لان ما أوجبه القياس أو خبر الواحد يحتمل أن يكون في جملة ما تناوله دليل الخصوص ويحتمل أن يكون في جملة ما تناوله صيغة العام، فإنما يرجح بالقياس وخبر الواحد أحد الاحتمالين.
فإن قيل: ما ذهبت إليه أولى فإن الاصل هو وجوب العمل بالادلة الشرعية ما أمكن وذلك في ترتيب العام على الخاص كما قلت لا في رفع الخاص بالعام كما قلتم، فإن من أثبت التعارض بين الخاص والعام ترك العمل بالخاص أصلا وببعض ما تناوله العام، ومن قال بترتيب العام على الخاص هو عامل بحقيقة الخاص وبالعام أيضا فيما تناوله بحسب الامكان فيكون هذا أولى بالمصير إليه.
قلنا: هذا إنما يستقيم بعد ثبوت الامكان وبعد ما قررنا أن كل واحد منهما موجب فيما تناوله الحكم قطعا لا إمكان، أرأيت لو قال قائل: أنا أعمل بالعام في كل ما تناوله وأحمل الخاص على المجاز فأعمل به وبهذا الطريق يكون هذا عملا منه بالدليلين لا، فكذلك قولك: أنا أعمل بالخاص وأترك موجب العام فيما تناوله (لا يكون) عملا بهما مع أن موجب الدليل ليس كله العمل به بل العمل به والمدافعة به عند

التعارض بمنزلة الشهادات في الخصومات بين العباد فإثبات المدافعة عند المعارضة بين الخاص والعام على ما اقتضاه موجب كل واحد منهما لا يكون تركا للعمل
بأحدهما، ثم سوى الشافعي رحمه الله فيما أثبته من حكم العموم بين ما يحتمل العموم وبين ما لا يحتمله لعدم محله فيما هو المحتمل فجعل كل واحد منهما حجة لاثبات الحكم مع ضرب شبهة.
وبيان هذا في قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) وقال تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) وقال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون !) فإن نفي المساواة بينهما على العموم غير محتمل لعلمنا بالمساواة بينهما في حكم الوجود والانسانية والبشرية والصورة، فقال مع هذا العلم يكون هذا العام حجة فيما هو الممكن حتى لا يسوى بين الكافر والمؤمن في حكم القصاص وفي حكم شراء العبد المسلم ولا يشاكله، لان العمل بالدليل الشرعي واجب بحسب الامكان وانعدام الامكان فيما لا يحتمله بمنزلة دليل الخصوص شرعا، فكما أن دليل الخصوص فيما يحتمل العموم لا يخرج العام بصيغة العام من الحكم فيما يثبت من أن يكون حجة فيما وراء ذلك فكذلك عدم احتمال العموم حسا لا يخرج العام من أن يكون حجة فيما يحتمله.
وحاصل مذهبه أنه يسوي بين محتمل الحال وبين محتمل اللفظ فيما يثبت بصيغة العام من الحكم وفيما يثبت من الشبهة المانعة من العلم به قطعا، ونحن نقول: فيما ذهب إليه تحقق الحرج الذي هو مدفوع وهو الوقوف على مراد المتكلم ليعمل به فيما يحتمل العموم، واعتبار الارادة المغيرة للعموم عن حقيقتها فيما يحتمل العموم حتى لا يكون موجبا قطعا فيما تناوله، وقد بينا أن ذلك لا يجوز شرعا، وبه تبين فساد التسوية بين محتمل الحال وبين محتمل اللفظ، وتبين أن موجب العموم لا يثبت فيما لا يمكن العمل بعمومه لانعدام محل العموم، وسنقرر هذا في الفصل الذي يأتي وهو العام إذا خصص منه شئ، وإنما سوينا في موجب العام بين الخبر والامر والنهي لان ذلك حكم صيغة العموم، وهذه الصيغة متحققة في الاخبار كما في الامر والنهي، والله أعلم بالصواب.

فصل: في بيان حكم العام إذا خصص منه شئ قال رضي الله عنه (وعن والديه): كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول من عند نفسه لا على سبيل الحكاية عن السلف: العام إذا لحقه خصوص لا يبقى حجة بل يجب التوقف فيه إلى البيان سواء كان دليل الخصوص معلوما أو مجهولا إلا أنه يجب به أخص الخصوص إذا كان معلوما.
وقال بعضهم: إذا خص منه شئ مجهول فكذلك الجواب وإن خص منه شئ معلوم فإنه يبقى موجبا الحكم فيما وراء المخصوص قطعا.
وقال بعضهم: هكذا فيما إذا خص شئ معلوم، وإن خص منه شئ مجهول يسقط دليل الخصوص ويبقى العام موجبا حكمه كما كان قبل دليل الخصوص.
قال رضي الله عنه: والصحيح عندي أن المذهب عند علمائنا رحمهم الله في العام إذا لحقه خصوص يبقى حجة فيما وراء المخصوص سواء كان المخصوص مجهولا أو معلوما إلا أن فيه شبهة حتى لا يكون موجبا قطعا ويقينا، بمنزلة ما قال الشافعي رحمه الله في موجب العام قبل الخصوص، والدليل على أن المذهب هذا أن أبا حنيفة رضي الله عنه استدل على فساد البيع بالشرط بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط وهذا عام دخله خصوص، واحتج على استحقاق الشفعة بالجوار إذا كان عن ملاصقة بقول النبي عليه السلام: الجار أحق بصقبه وهذا عام قد دخله خصوص، واستدل محمد على فساد بيع العقار قبل القبض بنهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبض وهو عام لحقه خصوص، وأبو حنيفة رحمه الله خص هذا العام بالقياس، فعرفنا أنه حجة للعمل من غير أن يكون موجبا قطعا، لان القياس لا يكون موجبا قطعا فكيف يصلح أن يكون معارضا لما يكون موجبا قطعا ! وتبين أن هذا العام دون الخبر الواحد، لان القياس لا يصلح معارضا للخبر الواحد عندنا، ولهذا أخذنا بالخبر
الواحد الموجب للوضوء عند القهقهة في الصلاة وتركنا القياس به، وأبو حنيفة أخذ

بخبر الواحد في الوضوء بنبيذ التمر وترك القياس به، ثم إن خبر الواحد لا يوجب العلم قطعا فما هو دونه أولى.
وأما الكرخي احتج وقال: الخصوص الذي يلحق العام يسلب حقيقته فيصير مجازا ومجازه في مراد المتكلم، وذلك لا يتبين إلا ببيان من جهته فصار مجملا يجب التوقف فيه إلى البيان بمنزلة صيغة العموم فيما لا يحتمل العموم، نحو قوله تعالى: (وما يستوي الاعمى والبصير) فإنه لما انتفى حقيقة العموم فيه لم يكن حجة بدون البيان فكذلك هذا، وهذا لانه لو بقي حجة فيما وراء المخصوص كان حقيقة ولا وجه للجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد إلا أن يكون أخص الخصوص منه معلوما فيكون ثابتا به لكونه متيقنا كالذي يقوم فيه دليل البيان فيما لا يمكن العمل فيه بحقيقة العموم، ولان دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء فإنه يتبين به أن المخصوص لم يكن داخلا فيما هو المراد بالكلام، كما يتبين بالاستثناء أن الكلام عبارة عما وراءه ولهذا لا يكون دليل الخصوص إلا مقارنا، فأما ما يكون طارئا فهو دليل النسخ لا دليل الخصوص، وإن كان المستثنى مجهولا يصير ما وراءه بجهالته مجهولا كما أن المستثنى إذا تمكن فيه شك يصير ما وراءه مشكوكا فيه، حتى إذا قال: مماليكي أحرار إلا سالما وبزيغا لم يعتق واحد منهما وإن كان المستثنى أحدهما لانه مشكوك فيه، فيثبت حكم الشك فيهما، وإذا صار ما بقي مجهولا لم يصلح حجة بنفسه بل يجب الوقف فيه، كما في قوله تعالى: (وما يستوي الاعمى والبصير) وكذلك إن كان دليل الخصوص معلوما، لانه يجوز أن يكون معلولا وهو الظاهر، فإن دليل الخصوص نص على حدة فيكون قابلا للتعليل ما لم يمنع مانع من ذلك وبالتعليل لا ندري أن حكم الخصوص إلى أي مقدار يتعدى فيبقى ما وراءه مجهولا أيضا، وعلى ما قاله الكرخي
يسقط الاحتجاج بأكثر العمومات لان أكثر العمومات قد خص منها شئ، وهذا خلاف ما حكينا من مذهب السلف في الصدر الاول فإنهم احتجوا بالعمومات التي يلحقها (خصوص كما احتجوا بالعمومات التي لم يلحقها خصوص، ودعواه أنه

يصير به مجازا كلام لا) معنى له، فإن الحقيقة ما يكون مستعملا في موضوعه، والمجاز ما يكون معدولا به عن موضوعه، وإذا كان صيغة العموم يتناول الثلاثة حقيقة كما يتناول المائة والالف وأكثر من ذلك فإذا خص البعض من هذه الصيغة كيف يكون مجازا فيما وراءه وهو حقيقة فيه ؟ ! فإن قيل: البعض غير الكل من هذه الصيغة وإذا كان حقيقة هذه الصيغة للكل فإذا أريد به البعض كان مجازا فيه، ثم هذا إنما يستقيم على ما يقوله بعض أصحاب الشافعي رحمه الله أنه لا يجوز التخصيص من العموم إلى أن يبقى منه ما دون الثلاث، فأما على أصلكم فيجوز التخصيص إلى أن لا يبقى منه أكثر من واحد ولا شك أن صيغة الجمع لا تتناول الواحد حقيقة ؟ قلنا: نعم ولكن ما وراء المخصوص يتناوله موجب الكلام على أنه كل لا بعض بمنزلة الاستثناء، فإن الكلام يصير عبارة عما وراء المستثنى بطريق أنه كل لا بعض، ولهذا إذا لم يبق شئ بعد دليل الخصوص كان نسخا لا تخصيصا كما في الاستثناء، فإنه إذا لم يبق شئ بعد الاستثناء بحال لا يكون ذلك استثناء صحيحا، وإذا كان الباقي منه دون الثلاث فهو كل أيضا، وإن كانا بصيغة العموم، لانه لا يحتمل أن يكون الباقي أكثر من ذلك على وجه يكون الباقي جمعا حقيقة، فبهذا الطريق صححنا التخصيص كما يصح استثناء الكل بهذا الطريق، فإنه لو قال: مماليكي أحرار إلا فلانا وفلانا، وليس له سواهما كان الاستثناء صحيحا لاحتمال أن يكون المستثنى بعضا إذا كان له سواهما، بخلاف ما لو قال: مماليكي أحرار إلا مماليكي، وأما وجه القول الثاني ما بينا أن دليل
الخصوص بمنزلة الاستثناء، فإذا كان المخصوص مجهولا كان ما وراءه مجهولا أيضا والمجهول لا يكون دليلا موجبا، وأما إذا كان معلوما فما وراءه يكون معلوما أيضا، وكما أن الكلام المقيد بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى ويكون مقطوعا به إذا

كان المستثنى معلوما فكذلك العام إذا لحقه خصوص معلوم يصير عبارة عما وراءه ويكون موجبا فيه ما هو حكم العام، لان دليل الخصوص لا يتعرض لما وراءه فيبقى العام فيما وراءه حجة موجبة قطعا، ولا معنى لما قال الكرخي رحمه الله إنه يحتمل التعليل لانه إذا كان بمنزلة الاستثناء لا يحتمل التعليل فإن المستثنى معدوم على معنى أنه لم يكن مرادا بالكلام أصلا والعدم لا يعلل، وعلى هذا القول يسقط الاحتجاج بآية السرقة، لانه لحقها خصوص مجهول وهو ثمن المجن على ما روي كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دون ثمن المجن وكذلك بآية البيع فإنه لحقها خصوص مجهول وهو حرمة الربا، وكذلك بالعمومات الموجبة للعقوبة وقد لحقها خصوص مجهول وهو السقوط باعتبار تمكن الشبهة على ما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ادرؤوا الحدود بالشبهات.
ووجه القول الثالث أن التخصيص إنما يكون بكلام مبتدأ بصيغة على حدة تتناول بعض ما تناوله العام على خلاف موجبه مما لو كان طارئا كان رافعا على وجه النسخ فإذا كان مقارنا كان ثابتا، ومثل هذا لا يصلح مغيرا صفة الكلام الاول، فكيف يصلح مغيرا له وهو غير متصل بتلك الصيغة ؟ فبقي الكلام الاول صادرا من أهله في محله فيكون موجبا حكمه، وحكم العام أنه كان موجبا قطعا، فإذا كان المخصوص معلوما بقي العام فيما وراءه موجبا قطعا، ولا يكون موجبا في موضع الخصوص لتحقق المعارضة بين دليل الخصوص والعموم فيه فإذا كان مجهولا في نفسه فالمجهول لا يصلح معارضا للمعلوم، وقد بينا أن العام موجب للحكم فيما تناوله قطعا
بمنزلة الخاص فيما تناوله، فإذا لم تستقم المعارضة بكون المعارض مجهولا سقط دليل الخصوص وبقي حكم العام على ما كان في جميع ما تناوله، وهذا بخلاف الاستثناء فإنه داخل على صيغة الكلام، ألا ترى أنه لا يستقيم بدون أصل الكلام، فإن قول القائل إلا زيدا لا يكون مفيدا شيئا فإذا دخل على صيغة الكلام كان مغيرا لها فيكون أصل الكلام عبارة عما وراء المستثنى وذلك مجهول عند جهالة المستثنى والجهالة

في المستثنى لا تمنع صحة الاستثناء، لانه يبين أن صيغة الكلام لم تتناول المستثنى أصلا وما لم يتناوله الكلام فلا أثر للجهالة فيه، وهذا بخلاف صيغة العام فيما لا يحتمله العموم، لان الكلام إنما يكون مفيدا حكمه إذا صدر من أهله في محله، فإن البيع كما لا يصح من المجنون لانعدام الاهلية لا يصح في الحر لانعدام المحلية، فكذلك صيغة العموم في محل لا يقبل العموم بمنزلة الصادر من غير أهله فلا يكون موجبا حكم العموم، وإذا لم ينعقد موجبا حكم العام وليس وراءه شئ معلوم يمكن أن يجعل الكلام عبارة عنه بقي مجملا فيما هو المراد، فأما إذا صدر من أهله في محله كان موجبا حكمه إلا أن يمنع منه مانع والمجهول لا يصلح أن يكون مانعا فبقي أصل الكلام معتبرا في موجبه، ألا ترى أن البائع بعد تمام البيع إذا أجل المشتري في الثمن أجلا مجهولا من غير أن يشترط ذلك في أصل البيع يبقى البيع موجبا حالا للثمن، لانه انعقد موجبا لذلك، وهذا المانع - وهو الاجل - لا يصلح أن يكون مؤخرا للمطالبة فيبقى الحكم الاول على حاله.
وأما وجه القول الرابع - وهو الصحيح - أن دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء في حق الحكم وبمنزلة الناسخ باعتبار الصيغة، لان بدليل الخصوص يتبين بأن المراد إثبات الحكم فيما وراء المخصوص لا أن يكون المراد رفع الحكم عن الموضع المخصوص بعد أن كان ثابتا، ولهذا لا يكون إلا مقارنا حتى لو كان طارئا يجعل
نسخا لا خصوصا لانه لا يمكن أن يجعل مبينا أن المراد ما وراءه، ومن حيث الصيغة هو كلام مبتدأ مفهوم بنفسه مفيد للحكم وإن لم تتقدمه صيغة العام، فعرفنا أنه من حيث الصيغة معتبر بدليل النسخ لانه منفصل عن العام، ومن حيث الحكم هو بمنزلة الاستثناء لانه متصل به حكما حتى لا يجوز إلا مقارنا له فلم يجز إلحاقه بأحدهما خاصة بل يعتبر في كل حكم بنظيره كما هو الاصل فيما تردد بين شيئين وأخذ حظا معتبرا من كل واحد منهما فإنه يعتبر بهما، فنقول: إذا كان المستثنى مجهولا فاعتبار جانب الصيغة فيه يسقط دليل الخصوص ويبقى حكم العام في جميع ما تناوله، واعتبار جانب الحكم فيه وهو أنه بمنزلة الاستثناء يمنع ثبوت الحكم فيما وراء المخصوص لكونه

مجهولا فلا نبطل واحدا منهما بالشك، ومعنى هذا أنا لا نسقط دليل الخصوص لكونه مجهولا بالشك، ولا نخرج ما وراءه من أن يكون صيغة العام حجة فيه بالشك، وكذلك إذا كان المخصوص معلوما فإنه من حيث الصيغة هو نص على حدة قابل للتعليل وبالتعليل ما ندري ما يتعدى إليه حكم الخصوص مما تناوله صيغة العام، وباعتبار الحكم لا يقبل التعليل لانه موجب للحكم على أنه تبين به أن المراد ما وراءه كالاستثناء وهذا لا يقبل التعليل، فاعتبار الصيغة يخرج العام من أن يكون حجة فيما وراء المخصوص، وباعتبار الحكم يوجب أن يكون العام موجبا للحكم قطعا فيما وراء المخصوص، فلا يبطل معنى الحجة بالشك ولكن يتمكن فيه ضرب شبهة، فإن ما يكون ثابتا من وجه دون وجه لا يكون مقطوعا به، والحكم إنما نثبت بحسب الدليل ولهذا كان حجة موجبة العمل بها، ولا يكون موجبه العلم قطعا، وهذا بخلاف دليل النسخ فإن عمله في رفع الحكم باعتبار المعارضة وذلك لا يكون إلا فيما تناوله النص بعينه، فإن التعليل فيه يؤدي إلى إثبات المعارضة بين النص والعلة المستنبطة بالرأي والرأي لا يكون معارضا للنص، ولهذا
لا نشتغل بالتعليل في إثبات النسخ، فأما دليل الخصوص، وإن كان نصا على حدة، فإنما يوجب الحكم على الوجه الذي يوجبه الاستثناء، لانه في معنى الحكم بمنزلة الاستثناء كما قررنا، فلا يخرج من أن يكون محتملا للتعليل، وبطريق التعليل تتمكن الشبهة فيما يبقى وراء المخصوص مما يكون العام موجبا للحكم فيه، ولهذا جوزنا تخصيص هذا العام بالقياس، لان ثبوت الحكم به فيما وراء المخصوص مع شك في أصله واحتمال، فيجوز أن يكون القياس معارضا له بخلاف خبر الواحد فإنه لا شك في أصله، وإنما الاحتمال في طريقه باعتبار توهم غلط الراوي أو ميله عن الصدق إلى الكذب، فمن حيث إنه لا شك فيه متى ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقوى من القياس فلا يصلح أن يكون القياس معارضا له.
وبيان هذه الاصول من الفروع أن من جمع بين حر وعبد فباعهما بثمن واحد أو بين ميتة وذكية أو بين خل وخمر لم يجز البيع أصلا، لان الحر والميتة والخمر لا يتناولها العقد

أصلا فيكون بائعا لما هو مال متقوم منهما بحصته من الالف إذا قسم عليهما والبيع بالحصة لا ينعقد صحيحا ابتداء، كما لو قال: بعت منك هذا العبد بما يخصه من الالف إذا قسم على قيمته وعلى قيمة هذا العبد الآخر، فبهذا الفصل يتبين ما يكون بمنزلة الاستثناء أنه يجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى حكما، ولو باع منه عبدين فهلك أحدهما قبل القبض أو استحق أحدهما أو كان أحدهما مدبرا أو مكاتبا يبقى العقد صحيحا في الآخر، لان العقد يتناولهما باعتبار صفة المالية والتقوم فيهما وهو المعتبر في المحل لتناول العقد إياه، ثم خرج أحدهما لصيانة حق مستحق إما للعبد في نفسه أو للغير أو لتعذر التسليم بهلاكه فيبقى العقد في الآخر صحيحا بحصته، وهذا نظير دليل النسخ فإنه يرفع الحكم الثابت في مقدار ما تناوله النص الذي هو ناسخ ويبقى ما وراء ذلك من حكم العام على ما كان قبل ورود الناسخ.
ونظير دليل الخصوص
البيع بشرط الخيار فإنه ينعقد صحيحا بمنزلة ما لو لم يكن فيه خيار، وفي حق الحكم كان غير منعقد على معنى أن الحكم متعلق بسقوط الخيار على ما يأتيك بيانه في موضعه أن شرط الخيار لا يدخل في أصل السبب وإنما يدخل على الحكم، فيجب اعتباره في كل جانب بنظيره حتى إن باعتبار السبب إذا سقط الخيار استحق المشتري بزوائده المتصلة أو المنفصلة، وباعتبار الحكم إذا أعتق المشتري والخيار مشروط البائع ثم سقط الخيار لم ينفذ العتق، وعلى هذا قال في الزيادات: لو باع من رجل عبدين وشرط الخيار في أحدهما دون الآخر للبائع أو المشتري، فإن لم يكن ثمن كل واحد منهما مسمى لم يجز العقد في واحد منهما، وإن كان ثمن كل واحد منهما مسمى جاز في واحد منهما، فإن لم يعين المشروط فيه الخيار منهما لم يجز العقد أيضا، وإن عينا ذلك جاز العقد في الآخر ولزم بالثمن المسمى له، لان اشتراط الخيار باعتبار الحكم يعدم العقد في المشروط فيه الخيار، فإذا كان مجهولا كان العقد في الآخر ابتداء في المجهول، وإن كان معلوما ولم يكن ثمن كل واحد منهما مسمى كان العقد في الآخر ابتداء بالحصة فلا ينعقد صحيحا، وباعتبار السبب كان متناولا لهما بصفة الصحة، فإذا كان الذي لا خيار فيه منهما معلوما وكان ثمنه مسمى لزم العقد فيه ولم يجعل العقد في الآخر بمنزلة شرط فاسد في الذي لا خيار فيه، بخلاف ما قاله أبو حنيفة رحمه الله فيما إذا باع حرا وعبدا وسمى ثمن كل واحد منهما لم ينعقد البيع في العبد صحيحا،

لان اشتراط قبول العقد في الحر شرط فاسد، فقد جعله مشروطا في قبوله العقد في القن حين جمع بينهما في الايجاب، والبيع يبطل بالشروط الفاسدة، وأما اشتراط قبول العقد في الذي فيه الخيار لا يكون شرطا فاسدا، لان البيع بشرط الخيار منعقد شرطا صحيحا من حيث السبب، فكان العقد في الآخر لازما، والله أعلم.
فصل: في بيان ألفاظ العموم ألفاظ العموم قسمان: عام بصيغته ومعناه، وقسم فرد بصيغته عام بمعناه.
فأما ما هو عام بصيغته ومعناه فكل لفظ هو للجمع نحو الرجال والنساء والمسلمين والمشركين والمنافقين فإنها عام صيغة، لان واضع اللغة وضع هذه الصيغة للجماعة قال رجل ورجلان ورجال وامرأة وامرأتان ونساء، وهو عام بمعناه، لانه شامل لكل ما تناوله عند الاطلاق، فأدنى ما يطلق عليه هذا اللفظ الثلاثة، لان أدنى الجمع الصحيح ثلاثة، نص عليه محمد رحمه الله في السير الكبير في الانفال وغيرها، ومن قال لفلان على دراهم يلزمه الثلاثة، والمرأة إذا اختلعت من زوجها بما في يدها من دراهم فإذا ليس في يدها شئ يلزمها ثلاثة دراهم، لان أدنى الجمع متيقن به عند ذكر الصيغة وفيما زاد عليه شك واحتمال فلا يجب إلا المتيقن، فظن بعض أصحابنا رحمهم الله أن على قول أبي يوسف أدنى الجمع اثنان على قياس مسألة الجمعة وليس كذلك، فإن عنده الجمع الصحيح ثلاثة إلا أنه يجعل الامام من جملة الجمع الذي تتأدى بهم الجمعة على قياس سائر الصلوات فإن الامام من جملة الجماعة، ولهذا يقدم الامام إذا كان خلفه رجلان فصاعدا.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: الشرط في الجمعة الجماعة والامام جميعا فلا يكون الامام محسوبا من عدد الجماعة فيشترط ثلاثة سواه، وفي سائر الصلوات الامام ليس بشرط لادائها فيمكن أن يجعل الامام من جملة الجماعة، فإذا كان مع الامام رجلان اصطفا خلفه.
وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله يقولون: الجماعة هي المثنى فصاعدا، واستدلوا بقوله عليه السلام: الاثنان فما فوقهما جماعة ولان اسم الجماعة

حقيقة فيما فيه معنى الاجتماع وذلك موجود في الاثنين، ألا ترى أن في الوصايا والمواريث جعل للمثنى حكم الجماعة حتى لو أوصى لاقرباء فلان يتناول المثنى فصاعدا، وللاثنين من الميراث ما للثلاث فصاعدا، والاخوان يحجبان الام من الثلث إلى السدس بقوله
تعالى: (فإن كان له إخوة) وفي كتاب الله تعالى إطلاق عبارة الجمع على المثنى لقوله تعالى (هذان خصمان اختصموا) وقال تعالى: (وداود وسليمان) إلى قوله: (وكنا لحكمهم شاهدين) وقال تعالى: (إذ تسوروا المحراب) إلى قوله تعالى: (خصمان بغى بعضنا على بعض) وكذلك في استعمال الناس فإن الاثنين يقولان نحن فعلنا كذا بمنزلة الثلاثة.
وحجتنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب ثم يستقيم نفي صيغة الجماعة عن المثنى بأن يقول: ما في الدار رجال إنما فيها رجلان، وقد بينا أن اللفظ إذا كان حقيقة في الشئ لا يستقيم نفيه عنه، وإجماع أهل اللغة يشهد بذلك فإنهم يقولون الكلام ثلاثة أقسام وحدان وتثنية وجمع، ثم للوحدان أبنية مختلفة وكذلك للجمع، وليس ذلك للتثنية إنما لها علامة مخصوصة، فعرفنا أن المثنى غير الجماعة، ولما وضعوا للمثنى لفظا على حدة فلو قلنا بأن للمثنى حكم الجماعة لكان اللفظ الموضوع للثلاثة على خلاف الموضوع للمثنى تكرارا محضا وكل لفظ موضوع لفائدة جديدة، ألا ترى أن بعد الثلاث لم يوضع لما زاد عليها لفظ على حدة لما كانت صيغة الجماعة تجمعها، وكذلك اللفظ المفرد والتثنية يذكر من غير عدد، يقال: رجل ورجلان (ثم يذكر مقرونا بالعدد بعد ذلك، فيقال: ثلاثة رجال وأربعة رجال) ولا يقال واحد رجل ولا اثنان رجلان، وتسمية الثلاثة جماعة بمعنى الاجتماع كما قالوا ولكن اجتماع بصفة وهو اجتماع لا يتحقق فيه معنى يعارض الافراد على التساوي كما في الثلاثة، فإن الفرد من أحد الجانبين يقابله المثنى من جانب آخر، فأما في الاثنين يتعارض الافراد على

التساوي من حيث إن كل واحد من الجانبين فرد، فعند الانضمام يكون اسم المثنى حقيقة فيهما لا اسم الجماعة، وتأويل الحديث أن في حكم الاصطفاف خلف الامام الاثنان فما فوقهما جماعة فقد بينا المعنى فيه، فأما في المواريث فاستحقاق الاثنين
الثلثين ليس بالنص الوارد بعبارة الجماعة وهو قوله تعالى: (فلهن ثلثا ما ترك) إنما ذلك للثلاث فصاعدا، وإنما استحقاق الاثنين الثلثين بإشارة النص في قوله: (للذكر مثل حظ الانثيين) فإن نصيب الابن مع الابنة الثلثان، فيثبت به أن ذلك حظ الانثيين وما بعده لبيان أنهن وإن كن أكثر من اثنتين لا يكون لهن إلا الثلثان عند الانفراد، والحجب بالاخوين عرفناه باتفاق الصحابة رضي الله عنهم، على ما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعثمان رضي الله عنه: الاخوة في لسان قومك لا يتناول الاثنين، فقال: نعم ولكن لاستحي أن أخالفهم فيما رأوا.
ألا ترى أن الحجب ثبت بالاخوات المفردات بهذا الطريق، فإن اسم الاخوة لا يتناول الاخوات المفردات، على أن الاسم قد يتناول المثنى مجازا لاعتبار معنى الاجتماع مطلقا، فبهذا الطريق أثبتنا حكم الحجب والتوريث للمثنى، والوصية أخت الميراث فيكون ملحقا به.
وقول المثنى: نحن فعلنا كذا إخبار عن كل واحد منهما عن نفسه وعن غيره، على أن جعله تبعا لنفسه مجازا ومثل هذا قد يكون من الواحد أيضا، يقول: قد فعلنا كذا وأمرنا بكذا، وهذا لا يدل على أن اسم الجماعة يتناول الفرد حقيقة.
وفيما تلونا من الآيات بيان أن المتخاصمين كانا اثنين ويحتمل أن يكون الحضور معهما جماعة وصيغة الجماعة تنصرف إليهم جميعا، وعلى هذا قوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) فإن أكثر الاعضاء المنتفع بها في البدن زوج فما يكون فردا لعظم المنفعة فيه يجعل بمنزلة ما هو زوج فتستقيم العبارة عن تثنيته بالجمع ويبين أن أدنى الجمع الصحيح ثلاثة صورة أو معنى، وعلى هذا لو قال إن اشتريت عبيدا فعلي كذا أو إن تزوجت نساء فإنه لا يحنث إلا بالثلاثة فصاعدا إلا أنه إذا دخل الالف واللام في هذه الصيغة نجعلها للجنس مجازا، لان اللام لتعريف المعهود

في الاصل، فإن الرجل يقول رأيت رجلا ثم كلمت الرجل: أي ذلك الرجل بعينه،
وقال تعالى: (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول) : أي ذلك الرسول بعينه، فعرفنا أنه المعهود ولكن ليس فيما تناوله صيغة الجماعة معهود ليكون تعريفا لذلك، فلو لم نجعله للجنس لم تبق للالف واللام فائدة، فإذا جعل للجنس كان فيه اعتبار المعنيين جميعا: معنى المعهود من حيث إنه يتناول هذا الجنس من أقسام الاجناس فيكون تعريفا له، ومعنى العموم من حيث إن في كل جنس يوجد معنى الجماعة فلاعتبار المعنيين جميعا جعلناه للجنس، ثم تناول الواحد فصاعدا حتى إذا قال إن تزوجت النساء أو اشتريت العبيد أو كلمت الناس يحنث بالواحد، لان الواحد في الجنس بمنزلة الثلاثة في الجماعة على معنى أن اسم الجنس يتناول الواحد حقيقة، فإن آدم صلوات الله عليه هو الاصل في جنس الرجال، وحواء رضي الله عنها هي الاصل في جنس النساء، وحين لم يكن غيرهما كان اسم الجنس حقيقة لكل واحد منهما، فبكثرة الجنس لا تتغير تلك الحقيقة، فالادنى المتيقن به في حقيقة اسم الجنس الواحد كالثلاثة في الجماعة، فعند الاطلاق ينصرف إليه إلا أن يكون المراد الجمع فحينئذ لا يحنث قط ويدين في القضاء لانه نوى حقيقة كلامه، بخلاف ما إذا نوى التخصيص في صيغة العام فإنه لا يدين في القضاء.
فأما ما يكون فردا بصيغته عاما بمعناه فهو بمنزلة اسم الجن والانس فإنه فرد بصيغته، ألا ترى أنه ليس له وحدان عام بمعناه وإن لم يذكر فيه الالف واللام بمنزلة الرجال والنساء، وكذلك الرهط والقوم فإنه فرد بصيغته إذ لا فرق بين قول القائل رهط وقوم وبين قوله زيد وعمرو، وهو (عام) بمعناه، والجماعة والطائفة كذلك إلا أن الطائفة في لسان الشرع يتناول الواحد فصاعدا، قال ابن عباس في قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) إنه الواحد فصاعدا، وقال قتادة في قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) إنه الواحد فصاعدا، وهذا لاعتبار صيغة الفرد، وجعلوه بمنزلة الجنس بغير حرف اللام كما يكون مع حرف
اللام الذي هو للعهد، وعلى هذا قلنا لو حلف لا يشرب ماء يحنث بشرب القليل، كما

لو قال الماء لان صيغته صيغة الفرد والمراد به الجنس فيتناول القليل والكثير، سواء قرن به اللام أو لم يقرن، لانه لما خلا عن معنى الجماعة صيغة إذ ليس له وحدان كان جنسا، فإدخال الالف واللام فيه يكون للتأكيد، كالرجل يقول: رأيت قوما وافدين ورأيت القوم الوافدين على فلان كان ذلك كتأكيد معنى الجنس.
ثم اسم الجنس يتناول الادنى حقيقة من الوجه الذي قررنا أنه لو تصور أن لا يبقى من الماء إلا ذلك القليل كان اسم الماء له حقيقة ولا يتغير ذلك بكثرة الجنس.
وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله: إن الحالف إنما يمنع نفسه بيمينه عما في وسعه وفي وسعه شرب القليل من الجنس وليس في وسعه شرب الجميع فلعلمنا بأنه لم يرد جميع الجنس صرفناه إلى أقل ما يتناوله اسم الجنس على احتمال أن يكون مراده الكل حتى إذا نواه لم يحنث قط.
ومن هذا القسم كلمة من فإنها كلمة مبهمة وهي عبارة عن ذات من يعقل، وهي تحتمل الخصوص والعموم، ألا ترى أنه إذا قيل من في الدار يستقيم في جوابه فيها فلان وفلان وفلان ؟ وإذا قال من أنت يستقيم في جوابه أنا فلان فمتى وصلت هذه الكلمة بمعهود كانت للخصوص وإذا وصلت بغير المعهود تحتمل العموم والخصوص والاصل فيها العموم، قال الله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك) وقال: (ومنهم من ينظر إليك) إلى قوله تعالى: (ولو كانوا لا يبصرون) وقال تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) والمراد العموم، وقال صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا فله سلبه ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وعلى هذا الاصل قلنا إذا قال من شاء من عبيدي العتق فهو حر فشاؤوا جميعا عتقوا لان كلمة من تقتضي العموم وإنما أضاف المشيئة إلى من دخل تحت كلمة من فيتعمم بعمومه.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قال من شئت من عبيدي عتقه فهو حر فشاء عتقهم
جميعا عتقوا أيضا، لان كلمة من تعم العبيد ومن لتمييز هذا الجنس من سائر الاجناس بمنزلة قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الاوثان) وإضافة المشيئة إلى خاص لا يغير العموم الثابت بكلمة من، كما في قوله تعالى: (فأذن لمن شئت منهم) وقال تعالى: (ترجي من تشاء منهن) ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال: له أن يعتقهم جميعا إلا واحدا منهم، لان كلمة من للتعميم ومن للتبعيض وهو الحقيقة فإذا أضاف المشيئة

إلى العام الداخل تحت كلمة من يرجح جانب العموم فيه، فإذا أضافها إلى خاص يبقى معنى الخصوص معتبرا فيه مع العموم فيتناول بعضا عاما وذلك في أن يتناولهم إلا واحدا منهم.
وإنما رجحنا معنى العموم فيما تلونا من الآيتين بالقرينة المذكورة فيها وهو قوله تعالى: (واستغفر لهم الله) وقال تعالى: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن) وعلى احتمال الخصوص في هذه الكلمة قال في السير الكبير: إذا قال من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا فدخل رجلان معا لم يستحق واحد منهما شيئا، لان الاول اسم لفرد سابق فإذا وصله بكلمة من وهو تصريح بالخصوص يرجح معنى الخصوص فيه فلا يستحق النفل إلا واحد دخل سابقا على الجماعة.
ونظيرها كلمة ما فإنها تستعمل في ذات ما لا يعقل وفي صفات ما يعقل، حتى إذا قيل ما زيد يستقيم في جوابه عالم أو عاقل، وإذا قيل ما في الدار يستقيم في جوابه فرس وكلب وحمار ولا يستقيم في الجواب رجل وامرأة، فعرفنا أنه يستعمل في ذات ما لا يعقل بمنزلة كلمة من في ذات من يعقل، ألا ترى أن فرعون عليه اللعنة حين قال لموسى عليه السلام: وما رب العالمين ؟ وقال موسى: رب السموات والارض ؟ أظهر التعجب من جوابه حتى نسبه إلى الجنون، يعني أنا أسأله عن الماهية وهو السؤال عن ذات الشئ أجوهر هو أم عرض، وهو يجيبني عن المنية ألا إن الله تعالى
يتعالى عما سأل اللعين، ومن شأن الحكيم إذا سمع لغوا أن يعرض عنه ويشتغل بما هو مفيد، قال تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) وهذا ليس جوابا عن اللغو ولكن إعراض عنه وإتمام لذلك الاعراض بالاشتغال بما هو مفيد، وكذلك فعل موسى عليه السلام، فإنه أظهر الاعراض عن اللغو بالاشتغال بما هو مفيد وهو أن الصانع جل وعلا إنما يعرف بالتأمل في مصنوعاته وبمعرفة أسمائه وصفاته، وفي هذا بيان أن اللعين أخطأ في طلب طريق المعرفة بالسؤال عن الماهية.
وقد تأتي كلمة ما بمعنى من، قال تعالى: (وما بناها) معناه

ومن بناها إلا أن الحقيقة في كل كلمة ما بينا، وعلى هذا الاصل كان الاختلاف في قوله لامرأته: اختاري من الثلاث ما شئت فاختارت الثلاث، فإن عندهما تطلق ثلاثا، وعند أبي حنيفة رحمه الله ثنتين بمنزلة قوله: أعتق من عبيدي من شئت، ولاحتمال معنى العموم في كلمة ما قلنا إذا قال لامته إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية إنها لا تعتق، لان الشرط أن يكون جميع ما في بطنها غلاما.
ونظير هاتين الكلمتين كلمة الذي فإنها مبهمة مستعملة فيما يعقل وفيما لا يعقل وفيها معنى العموم على نحو ما في الكلمتين، حتى إذا قال: إن كان الذي في بطنك غلاما كان بمنزلة قوله إن كان في بطنك غلاما.
وكلمة أين وحيث للتعميم في الامكنة، قال الله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) وقال تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت) ولهذا لو قال لامرأته: أنت طالق أين شئت وحيث شئت يقتصر على المجلس، لانه ليس في لفظه ما يوجب تعميم الاوقات.
وأما متى كلمة مبهمة لتعميم الاوقات، ولهذا لو قال: أنت طالق متى شئت لم يتوقف ذلك على المجلس.
وأما كلمة كل فإنها توجب الاحاطة على وجه الافراد، قال الله تعالى: (إنا كل شئ خلقناه بقدر) ومعنى الافراد أن كل واحد من المسميات التي توصل بها كلمة كل يصير مذكورا على سبيل الانفراد كأنه ليس معه غيره، لان هذه الكلمة صلة في الاستعمال حتى لا تستعمل وحدها لخلوها عن الفائدة، وهي تحتمل الخصوص نحو كلمة من إلا أن معنى العموم فيها يخالف معنى العموم في كلمة من، ولهذا استقام وصلها بكلمة من، قال الله تعالى: (كل من عليها فان) حتى لو وصلت باسم نكرة تقتضي العموم في ذلك الاسم، فأما إذا قال لعبده: أعط كل رجل من هؤلاء درهما كانت موجبة للعموم فيهم، ولهذا لو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق تطلق كل امرأة يتزوجها على العموم، ولو تزوج امرأة

مرتين لم تطلق في المرة الثانية لانها توجب العموم فيما وصلت به من الاسم دون الفعل إلا أن توصل بما فحينئذ ما يتعقبها الفعل دون الاسم، لانه يقال كلما ضرب ولا يقال كلما رجل فيقتضي التعميم فيما يوصل به، قال الله تعالى: (كلما نضجت جلودهم) فإذا قال: كلما تزوجت امرأة فتزوج امرأة مرارا تطلق في كل مرة.
وبيان الفرق بين كلمة من وبين كلمة كل فيما يرجع إلى الخصوص بما ذكره محمد في السير الكبير: إذا قال: من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل رجلان معا لم يكن لواحد منهما شئ، ولو قال: كل من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة معا استحق كل واحد منهم النفل تاما لاجل الاحاطة في كلمة كل على وجه الافراد، وكل واحد من الداخلين كأنه فرد ليس معه غيره وهو أول من الناس من الذين لم يدخلوا فاستحق النفل كاملا، ولو دخل العشرة على التعاقب كان النفل للاول خاصة في الفصلين لاحتمال الخصوص في كلمة كل، فإن الاول اسم لفرد سابق وهذا الوصف تحقق فيه دون من دخل بعده.
وكلمة الجميع بمنزلة كلمة كل في أنها توجب الاحاطة ولكن على وجه الاجتماع لا على وجه الافراد، حتى لو قال جميع من دخل منكم الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة معا استحقوا نفلا واحدا، بخلاف قوله كل من دخل لان لفظ الجميع للاحاطة على وجه الاجتماع وهم سابقون بالدخول على سائر الناس، وكلمة كل للاحاطة على وجه الافراد، فكل واحد منهم كالمنفرد بالدخول سابقا على سائر الناس ممن لم يدخل، ولو قال جماعة من أهل الحرب آمنونا على بنينا ولاحدهم ابن وبنات وللباقين بنات فقط ثبت الامان لهم جميعا، ولو قال آمنوا كل واحد منا على بنيه فإنما الامان لاولاد الرجل الذي له ابن خاصة دون الآخرين، لان الاحاطة في الاول على وجه الاجتماع وباختلاط الذكر الواحد بجماعتهم بتناولهم اسم البنين، وفي الثاني الاحاطة على سبيل الافراد فإنما يتناول لفظ البنين أولاد الرجل الذي له ابن دون أولاد الذين لهم بنات فقط، وهذه الكلمات موضوعة لمعنى العموم لغة غير معلولة.
ونوع آخر منها النكرة فإن النكرة من الاسم للخصوص في أصل الوضع، لان

المقصود به تسمية فرد من الافراد.
قال الله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا) والمراد رسول واحد، قال صلى الله عليه وسلم : في خمس من الابل شاة وفي العادة يقال عبد من العبيد ورجل من الرجال ولا يقال رجال من الرجال.
ثم هذه النكرة عند الاطلاق لا تعم عندنا، وعند الشافعي رحمه الله تكون عامة، وبيانه في قوله تعالى: (فتحرير رقبة) فهو يقول هذه رقبة عامة يدخل فيها الصغيرة والكبيرة والذكر والانثى والكافرة والمؤمنة والصحيحة والزمنة وقد خص منها الزمنة والمدبرة بالاجماع فيجوز تخصيص الكافرة منها بالقياس على كفارة القتل، ونحن نقول: هذه رقبة مطلقة غير مقيدة بوصف فالتقييد بالوصف يكون زيادة ولا يكون تخصيصا فيكون نسخا ورفعا لحكم الاطلاق إذ المقيد غير
المطلق، وبهذا النص وجب عتق رقبة لا عتق رقاب.
ثم جواز العتق في جميع ما ذكره باعتبار صلاحية المحل لما وجب بالامر، وهذه الصلاحية ما ثبتت بهذا النص فقد كانت صالحة للتحرير قبل وجوب العتق بهذا النص، وإنما الثابت بهذا النص الوجوب فقط وليس فيه معنى العموم، كمن نذر أن يتصدق بدرهم فأي درهم تصدق به خرج عن نذره، لان صلاحية المحل للتصدق لم تكن بنذره إنما الوجوب بالنذر وليس في الوجوب معنى العموم، واشتراط الملك في الرقبة لضرورة التحرير المنصوص عليه فإن التحرير لا يصح من المرء إلا في ملكه، واشتراط صفة السلامة لاطلاق الرقبة لان الاطلاق يقتضي الكمال والزمنة قائمة من وجه مستهلكة من وجه فلا تكون قائمة مطلقا حتى تتناولها اسم الرقبة مطلقا، ولهذا شرط كمال الرق أيضا لان التحرير منصوص عليه مطلقا وذلك إعتاق كامل ابتداء، وفي المدبر وأم الولد هذا من وجه تعجيل لما صار مستحقا لهما مؤجلا فلا يكون إعتاقا مبتدأ مطلقا، وعلى هذا قلنا: المنكر إذا أعيد منكرا فالثاني غير الاول، لان اسم النكرة يتناول فردا غير معين وفي صرف الثاني إلى ما يتناوله الاول نوع تعيين فلا يكون نكرة مطلقا، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين، فإن الله تعالى ذكر اليسر منكرا وأعاده منكرا وذكر العسر معرفا بالالف واللام ولو كان إطلاق اسم النكرة يوجب العموم لم يكن الثاني غير الاول، فإن العام إذا أعيد بصيغته فالثاني

لا يتناول إلا ما يتناوله الاول بمنزلة اسم الجنس، وعلى هذا قال أبو حنيفة: إذا أقر بمائة درهم في موطن وأشهد شاهدين ثم أقر بمائة في موطن آخر وأشهد شاهدين كان الثاني غير الاول، ولو كتب صكا فيه إقرار بمائة وأشهد شاهدين في مجلس ثم شاهدين في مجلس آخر كان المال واحدا، لانه حين أضاف الاقرار إلى ما في الصك صار الثاني معرفا فيتناول ما يتناوله الاول فقط، كما في قوله تعالى: (فعصى فرعون الرسول)
ولو كان في مجلس واحد أقر مرتين فالمال واحد استحسانا، لان للمجلس تأثيرا في جمع الكلمات المتفرقة وجعلها ككلمة واحدة فباعتباره يكون الثاني معرفا من وجه، وقال أبو يوسف ومحمد في المجلسين كذلك باعتبار العادة، لان الانسان يكرر الاقرار الواحد بين يدي كل فريق من الشهود لمعنى الاستيثاق والمال مع الشك لا يجب فلاحتمال الاعادة بطريق العادة لم يلزمه إلا مال واحد.
ثم هذه النكرة تحتمل معنى العموم إذا اتصل بها دليل العموم، وذلك أنواع: منها النكرة في موضع النفي فإنها تعم، قال تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا) والرجل يقول: ما رأيت رجلا اليوم فإنما يفهم منه نفي هذا الجنس على العموم وهذا التعميم ليس بصيغة النكرة بل لمقتضاها، وبه تبين معنى الفرق بين النكرة في الاثبات والنكرة في النفي، لان في موضع الاثبات المقصود إثبات المنكر وفي موضع النفي المقصود نفي المنكر، فالصيغة في الموضعين تعمل فيما هو المقصود إلا أن من ضرورة نفي رؤية رجل منكر نفي رؤية جنس الرجال، فإنه بعد رؤية رجل واحد لو قال ما رأيت اليوم رجلا كان كاذبا، ألا ترى أنه لو أخبر بضده فقال رأيت اليوم رجلا كان صادقا وليس من ضرورة إثبات رؤية رجل واحد إثبات رؤية غيره، فهذا معنى قولنا: النكرة في النفي تعم وفي الاثبات تخص.
ومما يدل على العموم في النكرة الالف واللام إذا اتصلا بنكرة ليس في جنسها معهود، قال تعالى: (إن الانسان لفي خسر) وقال تعالى: (والسارق والسارقة) وقال تعالى: *

(الزانية والزاني) لما اتصل الالف واللام بنكرة ليس في جنسها معهود أوجب العموم، ولهذا قلنا: لو قال المرأة التي أتزوجها طالق تطلق كل امرأة يتزوجها، ولو قال: العبد الذي يدخل الدار من عبيدي حر يعتق كل عبد يدخل الدار، وهذا لان الالف واللام للمعهود وليس هنا معهود فيكون بمعنى الجنس مجازا، كالرجل
يقول فلان يحب الدينار ومراده الجنس وفي الجنس معنى العموم كما بينا، وعلى هذا لو قال لامرأته أنت الطلاق أو أنت طالق الطلاق يحتمل معنى العموم فيه حتى إذا نوى الثلاث تقع الثلاث، ولكن بدون النية يتناول الواحدة لانها أدنى الجنس وهي المتيقن بها، وعلى هذا قال في الزيادات: لو وكل وكيلا بشراء الثياب يصح التوكيل بدون بيان الجنس، لان عند ذكر الالف واللام يصير هذا بمعنى الجنس فيتناول الادنى، بخلاف ما لو قال ثيابا أو أثوابا فإن التوكيل لا يكون صحيحا لجهالة الجنس فيما يتناوله التوكيل.
ومن الدليل على التعميم في النكرة إلحاق وصف عام بها حتى إذا قال: والله لا أكلم إلا رجلا عالما كان له أن يكلم كل عالم، لان المستثنى نكرة في الاثبات ولكنها موصوفة بصفة عامة، بخلاف ما لو قال إلا رجلا فكلم رجلين فإنه يحنث، ولو قال لامرأتين له والله لا أقربكما إلا يوما فالمستثنى يوم واحد، ولو قال إلا يوم أقربكما فيه فكل يوم يقربهما فيه يكون مستثنى لا يحنث به لانه وصف النكرة بصفة عامة.
ومن جنس النكرة كلمة أي فإنها للخصوص باعتبار أصل الوضع، يقول أي رجل أتاك وأي دار تريدها والمراد الفرد فقط، وقال تعالى: (أيكم يأتيني بعرشها) والمراد الفرد من المخاطبين بدليل قوله تعالى: (يأتيني) فإنه لم يقل يأتوني، وعلى هذا لو قال لرجل أي عبيدي ضربته فهو حر فضربهم لم يعتق إلا واحد منهم لان كلمة أي يتناول الفرد منهم.
فإن قيل: أليس أنه لو قال أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه عتقوا جميعا ؟ قلنا: نعم ولكن كلمة أي تتناول الفرد مما يقرن به من النكرة، فإذا قال ضربك فإنما يتناول نكرة موصوفة بفعل الضرب وهذه الصفة عامة فيتعمم بتعميم

الصفة فيعتقون جميعا، وإذا قال ضربته فإنما أضاف الضرب إلى المخاطب لا إلى النكرة
التي تتناولها كلمة أي فبقيت نكرة غير موصوفة فلهذا لا تتناول إلا الواحد منهم، ونظيره قوله تعالى: (أي الفريقين أحق بالامن) والمراد أحدهما بدليل قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) وقال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) والمراد به العموم لانه وصف النكرة بحسن العمل وهي صفة عامة.
فإن قيل: أليس أنه لو قال لعبيده أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر فحملوها جميعا معا والخشبة يطيق حملها واحد لم يعتق واحد منهم وقد وصف النكرة هنا بصفة عامة وهو الحمل ؟ قلنا: ما وصف النكرة بصفة الحمل مطلقا بل بحمل الخشبة وإذا حملوها معا فكل واحد منهم إنما حمل بعضها وبوجود بعض الشرط لا ينزل شئ من الجزاء حتى لو حملوها على التعاقب عتقوا جميعا، لان كل واحد منهم حمل الخشبة والنكرة الموصوفة تكون عامة.
فإن قيل: إذا كانت الخشبة بحيث لا يطيق حملها واحد منهم عتقوا جميعا إذا حملوها وإنما حمل كل واحد منهم بعضها ؟ قلنا: إذا كانت لا يطيق حملها واحد فقط علمنا أنه وصف النكرة بأصل الحمل لا بحمل الخشبة، وإنما علمنا هذا من وجهين: أحدهما أنه إنما يحث العبيد على ما يتحقق منهم دون ما لا يتحقق، والثاني أن مقصوده إذا كانت بحيث يحملها واحد معرفة جلادتهم وإنما يحصل ذلك بحمل الواحد الخشبة لا بمطلق الحمل، وإذا كانت بحيث لا يحملها واحد فمقصوده أن تصير الخشبة محمولة إلى موضع حاجته وإنما يحصل هذا بمطلق فعل الحمل من كل واحد منهم، فهذا وجه الفرق بين هذه الفصول.
فصل وأما حكم المشترك فالتوقف فيه إلى أن يظهر المراد بالبيان على اعتقاد أن ما هو المراد حق، ويشترط أن لا يترك طلب المراد به إما بالتأمل في الصيغة أو الوقوف على دليل آخر به يتبين المراد، لان كلام الحكيم لا يخلو عن فائدة، وإذا كان المشترك

ما يحتمل معاني على وجه التساوي في الاحتمال مع علمنا أن المراد واحد منها لا جميعها، فإن الاشتراك عبارة عن التساوي، وذلك إما في الاجتماع في التناول أو في احتمال التناول، وقد انتفى معنى التساوي في التناول فتعين معنى التساوي في الاحتمال ووجب اعتقاد الحقية فيما هو المراد لان ذلك فائدة كلام الحكيم، ثم يجب الاشتغال بطلبه، ولطلبه طريقان: إما التأمل بالصيغة ليتبين به المراد أو طلب دليل آخر يعرف به المراد، وبالوقوف على المراد يزول معنى الاحتمال على التساوي، فلهذا يجب ذلك بحكم الصيغة المشتركة، وبيان هذا في قوله: غصبت من فلان شيئا، فإن أصل الاقرار يصح ويجب به حق للمقر له على المقر إلا أن في اسم الشئ احتمالا في كل موجود على التساوي، ولكن بالتأمل في صيغة الكلام يعلم أن مراده المال لانه قال غصبت وحكم الغصب لا يثبت شرعا إلا فيما هو مال ولكن لا يعرف جنس ذلك المال ولا مقداره بالتأمل في صيغة الكلام فيرجع فيه إلى بيان المقر حتى يجبر على البيان ويقبل قوله إذا بين ما هو محتمل.
وأما حكم المؤول فوجوب العمل به على حسب وجوب العمل بالظاهر إلا أن وجوب العمل بالظاهر ثابت قطعا ووجوب العمل بالمؤول ثابت مع احتمال السهو والغلط فيه فلا يكون قطعا بمنزلة العمل بخبر الواحد لان طريقه غالب الرأي وذلك لا ينفك عن احتمال السهو والغلط، وبيان هذا فيمن أخذ ماء المطر في إناء فإنه يلزمه التوضؤ به ويحكم بزوال الحدث به قطعا، ولو وجد ماء في موضع فغلب على ظنه أنه طاهر يلزمه التوضؤ به على احتمال السهو والغلط حتى إذا تبين أن الماء نجس يلزمه إعادة الوضوء والصلاة، وأكثر مسائل التحري على هذا.
باب: أسماء صيغة الخطاب في استعمال الفقهاء وأحكامها هذه الاسماء أربعة: الظاهر والنص والمفسر والمحكم، ولها أضداد أربعة:
الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه.
أما الظاهر فهو ما يعرف المراد منه بنفس السماع من غير تأمل، وهو الذي يسبق

إلى العقول والاوهام لظهوره موضوعا فيما هو المراد، مثاله قوله تعالى: (يأيها الناس اتقوا ربكم) وقال تعالى: (وأحل الله البيع) وقال تعالى: (فاقطعوا أيديهما) فهذا ونحوه ظاهر يوقف على المراد منه بسماع الصيغة، وحكمه لزوم موجبه قطعا عاما كان أو خاصا.
وأما النص فما يزداد وضوحا بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهرا بدون تلك القرينة، وزعم بعض الفقهاء أن اسم النص لا يتناول إلا الخاص وليس كذلك، فإن اشتقاق هذه الكلمة من قولك: نصصت الدابة إذا حملتها على سير فوق السير المعتاد منها بسبب باشرته، ومنه المنصة فإنه اسم للعرش الذي يحمل عليه العروس فيزداد ظهورا بنوع تكلف، فعرفنا أن النص ما يزداد وضوحا لمعنى من المتكلم، يظهر ذلك عند المقابلة بالظاهر عاما كان أو خاصا، إلا أن تلك القرينة لما اختصت بالنص دون الظاهر جعل بعضهم الاسم للخاص فقط.
وقال بعضهم: النص يكون مختصا بالسبب الذي كان السياق له فلا يثبت به ما هو موجب الظاهر، وليس كذلك عندنا، فإن العبرة لعموم الخطاب لا لخصوص السبب عندنا على ما نبينه، فيكون النص ظاهرا لصيغة الخطاب نصا باعتبار القرينة التي كان السياق لاجلها، وبيان هذا في قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) فإنه ظاهر في إطلاق البيع نص في الفرق بين البيع والربا بمعنى الحل والحرمة، لان السياق كان لاجله، لانها نزلت ردا على الكفرة في دعواهم المساواة بين البيع والربا، كما قال تعالى: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) وقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ظاهر في تجويز نكاح ما يستطيبه المرء من النساء نص في بيان
العدد، لان سياق الآية لذلك بدليل قوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع) وقوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) نص في الامر بمراعاة وقت السنة عند إرادة الايقاع، لان السياق كان لاجل ذلك ظاهر في الامر بأن لا يزيد على تطليقة واحدة (فإن امتثال هذه الصيغة يكون بقوله طلقت، وبهذا اللفظ لا يقع الطلاق إلا واحدة والامر موجب)

الامتثال ظاهرا، فتبين بهذا أن موجب النص ما هو موجب الظاهر ولكنه يزداد على الظاهر فيما يرجع إلى الوضوح والبيان بمعنى عرف من مراد المتكلم، وإنما يظهر ذلك عند المقابلة ويكون النص أولى من الظاهر.
وأما المفسر فهو اسم للمكشوف الذي يعرف المراد به مكشوفا على وجه لا يبقى معه احتمال التأويل فيكون فوق الظاهر والنص، لان احتمال التأويل قائم فيهما منقطع في المفسر، سواء كان ذلك مما يرجع إلى صيغة الكلام بأن لا يكون محتملا إلا وجها واحدا ولكنه لغة عربية أو استعارة دقيقة فيكون مكشوفا ببيان الصيغة، أو يكون بقرينة من غير الصيغة، فيتبين به المراد بالصيغة لا لمعنى من المتكلم فينقطع به احتمال التأويل إن كان خاصا واحتمال التخصيص إن كان عاما، مثاله قوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) فإن اسم الملائكة عام فيه احتمال الخصوص فبقوله: (كلهم) ينقطع هذا الاحتمال ويبقى احتمال الجمع والافتراق فبقوله: (أجمعون) ينقطع احتمال تأويل الافتراق، وتبين أن المفسر حكمه زائد على حكم النص والظاهر فكان ملزما موجبه قطعا على وجه لا يبقى فيه احتمال التأويل، ولكن يبقى احتمال النسخ.
وأما المحكم فهو زائد على ما قلنا باعتبار أنه ليس فيه احتمال النسخ والتبديل، وهو مأخوذ من قولك: بناء محكم: أي مأمون الانتقاض، وأحكمت الصيغة: أي أمنت نقضها وتبديلها، وقيل بل هو مأخوذ من قول القائل: أحكمت فلانا عن
كذا: أي رددته، قال القائل: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا أي امنعوا، ومنه حكمة الفرس لانها تمنعه من العثار والفساد، فالمحكم ممتنع من احتمال التأويل، ومن أن يرد عليه النسخ والتبديل، ولهذا سمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب: أي الاصل الذي يكون المرجع إليه بمنزلة الام للولد فإنه يرجع إليها، وسميت مكة أم القرى لان الناس يرجعون إليها للحج وفي آخر الامر،

والمرجع ما ليس فيه احتمال التأويل ولا احتمال النسخ والتبديل، وذلك نحو قوله تعالى: (إن الله بكل شئ عليم) فقد علم أن هذا (وصف) دائم لا يحتمل السقوط بحال وإنما يظهر التفاوت في موجب هذه الاسامي عند التعارض، وفائدته ترك الادنى بالاعلى وترجيح الاقوى على الاضعف، ولهذا أمثلة في الآثار إذا تعارضت نذكرها في بيان أقسام الاخبار إن شاء الله تعالى.
وأمثاله من مسائل الفقه ما قال علماؤنا رحمهم الله فيمن تزوج امرأة شهرا فإنه يكون ذلك متعة لا نكاحا، لان قوله تزوجت نص للنكاح ولكن احتمال المتعة قائم فيه، وقوله شهرا مفسر في المتعة ليس فيه احتمال النكاح فإن النكاح لا يحتمل التوقيت بحال فإذا اجتمعا في الكلام رجحنا المفسر وحملنا النص على ذلك المفسر فكان متعة لا نكاحا.
وقال في الجامع: إذا قال الرجل لآخر لي عليك ألف درهم فقال الحق أو الصدق أو اليقين كان إقرارا ولو قال البر أو الصلاح لا يكون إقرارا، فإن قال البر الحق أو البر الصدق أو البر اليقين كان إقرارا، ولو قال الصلاح الحق أو الصلاح الصدق أو الصلاح اليقين يكون ردا لكلامه ولا يكون إقرارا، لان الحق والصدق واليقين صفة للخبر ظاهرا فإذا ذكره في موضع الجواب كان محمولا على الخبر الذي هو تصديق باعتبار الظاهر مع احتمال فيه وهو إرادة ابتداء الكلام، أي الصدق أولى بك أو الحق أو اليقين
أولى بالاشتغال من دعوى الباطل، فأما البر فهو اسم لجميع أنواع الاحسان لا يختص بالخبر فهو وإن ذكر في موضع الجواب يكون بمنزلة المجمل لا يفهم منه الجواب عند الانفراد، فإن قرن به ما يكون ظاهره للجواب وذلك الصدق أو الحق أو اليقين حمل ذلك المجمل على هذا البيان الظاهر فيكون إقرارا، فأما الصلاح ليس فيه احتمال الخبر بل هو محكم في أنه ابتداء كلام لا جواب، فيحمل ما يقرن به من الظاهر على هذا المحكم ويجعل ذلك ردا لكلامه وابتداء أمر له باتباع الصلاح وترك دعوى الباطل.

وأما الخفي فهو اسم لما اشتبه معناه وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها إلا بالطلب، مأخوذ من قولهم: اختفى فلان إذا استتر في وطنه وصار بحيث لا يوقف عليه بعارض حيلة أحدثه إلا بالمبالغة في الطلب من غير أن يبدل نفسه أو موضعه، وهو ضد الظاهر، وقد جعل بعضهم ضد الظاهر المبهم وفسره بهذا المعنى أيضا، مأخوذ من قول القائل: ليل بهيم إذا عم الظلام فيه كل شئ حتى لا يهتدى فيه إلا بحد التأمل.
قال رضي الله عنه: ولكني اخترت الاول لان اسم المبهم يتناول المطلق لغة، تقول العرب: فرس بهيم: أي مطلق اللون.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أبهموا ما أبهم الله تعالى: أي أطلقوا ما أطلق الله تعالى ولا تقيدوا الحرمة في أمهات النساء بالدخول بالبنات.
وبيان ما ذكرنا من معنى الخفي في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فإنه ظاهر في السارق الذي لم يختص باسم آخر سوى السرقة يعرف به، خفي في الطرار والنباش، فقد اختصا باسم آخر هو سبب سرقتهما يعرفان به، فاشتبه الامر أن اختصاصهما بهذا الاسم لنقصان في معنى السرقة أو زيادة فيها، ولاجل ذلك اختلف العلماء.
قال أبو يوسف اختصاص النباش باسم هو سبب سرقته لا يدل على نقصان في سرقته كالطرار، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله السرقة اسم لاخذ المال
على وجه مسارقة عين حافظه مع كونه قاصدا إلى حفظه باعتراض غفلة له من نوم أو غيره، والنباش يسارق عين من عسى يهجم عليه ممن ليس بحافظ للكفن ولا قاصد إلى حفظه، فهو يبين أن اختصاصه بهذا الاسم لنقصان في معنى السرقة، وكذلك في اسم السرقة ما ينبئ عن خطر المسروق بكونه محرزا محفوظا، وفي اسم النباش ما ينفي هذا المعنى بل ينبئ عن ضده من الهوان وترك الاحراز، والتعدية في مثل هذا لايجاب العقوبة التي تدرأ بالشبهات باطلة، فأما الطرار فاختصاصه بذلك الاسم لزيادة حذق ولطف منه في جنايته، فإنه يسارق عين من يكون مقبلا على الحفظ قاصدا لذلك بفترة تعتريه في لحظة فذلك ينبئ عن مبالغة في جناية السرقة، وتعدية الحكم بمثله مستقيم في الحدود لانه إثبات حكم النص بطريق الاولى، بمنزلة حرمة الشتم والضرب بالنص المحرم للتأفيف.

ثم حكم الخفي اعتقاد الحقية في المراد ووجوب الطلب إلى أن يتبين المراد، وفوقه المشكل وهو ضد النص، مأخوذ من قول القائل: أشكل على كذا، أي دخل في أشكاله وأمثاله، كما يقال: أحرم، أي دخل في الحرم، وأشتى، أي دخل في الشتاء، وأشأم، أي دخل الشام، وهو اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميز به من بين سائر الاشكال، والمشكل قريب من المجمل ولهذا خفي على بعضهم فقالوا: المشكل والمجمل سواء ولكن بينهما فرق، فالتمييز بين الاشكال ليوقف على المراد قد يكون بدليل آخر وقد يكون بالمبالغة في التأمل حتى يظهر به الراجح، فيتبين به المراد، فهو من هذا الوجه قريب من الخفي ولكنه فوقه، فهناك الحاجة إلى التأمل في الصيغة وفي أشكالها، وحكمه اعتقاد الحقية فيما هو المراد، ثم الاقبال على الطلب والتأمل فيه إلى أن يتبين المراد فيعمل به.
وأما المجمل فهو ضد المفسر، مأخوذ من الجملة، وهو لفظ لا يفهم المراد منه
إلا باستفسار من المجمل وبيان من جهته يعرف به المراد، وذلك إما لتوحش في معنى الاستعارة أو في صيغة عربية مما يسميه أهل الادب لغة غريبة، والغريب اسم لمن فارق وطنه ودخل في جملة الناس فصار بحيث لا يوقف على أثره إلا بالاستفسار عن وطنه ممن يعلم به، وموجبه اعتقاد الحقية فيما هو المراد والتوقف فيه إلى أن يتبين ببيان المجمل ثم استفساره ليبينه، بمنزلة من ضل عن الطريق وهو يرجو أن يدركه بالسؤال ممن له معرفة بالطريق أو بالتأمل فيما ظهر له منه فيحتمل أن يدرك به الطريق.
وتبين أن المجمل فوق المشكل فإن المراد في المشكل قائم والحاجة إلى تمييزه من أشكاله، والمراد في المجمل غير قائم ولكن فيه توهم معرفة المراد بالبيان والتفسير وذلك البيان دليل آخر غير متصل بهذه الصيغة إلا أن يكون لفظ المجمل فيه غلبة الاستعمال لمعنى فحينئذ يوقف على المراد بذلك الطريق، بمنزلة الغريب الذي تأهل في غير بلدته وصار معروفا فيها فإنه يوقف على أثره بالطلب في ذلك الموضع.
وبيان ما ذكرنا من المجمل في قوله تعالى: (وحرم الربا) فإنه مجمل، لان الربا عبارة عن الزيادة في أصل الوضع وقد علمنا أنه ليس المراد ذلك، فإن البيع ما شرع إلا للاسترباح وطلب الزيادة،

ولكن المراد حرمة البيع بسبب فضل خال عن العوض مشروط في العقد، وذلك فضل مال أو فضل حال على ما يعرف في موضعه، ومعلوم أن بالتأمل في الصيغة لا يعرف هذا بل بدليل آخر فكان مجملا فيما هو المراد، وكذلك الصلاة والزكاة فهما مجملان، لان الصيغة في أصل الوضع للدعاء والنماء ولكن بكثرة الاستعمال شرعا في أعمال مخصوصة يوقف على المراد بالتأمل فيه.
وأما المتشابه فهو اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه فيه عليه، والحكم فيه اعتقاد الحقية والتسليم بترك الطلب، والاشتغال بالوقوف على المراد منه، سمي متشابها عند بعضهم لاشتباه الصيغة بها وتعارض المعاني فيها وهذا غير صحيح، فالحروف
المقطعة في أوائل السور من المتشابهات عند أهل التفسير وليس فيها هذا المعنى ولكن معرفة المراد فيه ما يشبه لفظه وما يجوز أن يوقف على المراد فيه وهو بخلاف ذلك، لانقطاع احتمال معرفة المراد فيه وأنه ليس له موجب سوى اعتقاد الحقية فيه والتسليم كما قال تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) فالوقف عندنا في هذا الموضع، ثم قوله تعالى: (والراسخون في العلم) ابتداء بحرف الواو لحسن نظم الكلام، وبيان أن الراسخ في العلم من يؤمن بالمتشابه ولا يشتغل بطلب المراد فيه بل يقف فيه مسلما هو معنى قوله تعالى: (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) وهذا لان المؤمنين فريقان: مبتلي بالامعان في الطلب لضرب من الجهل فيه، ومبتلي عن الوقوف في الطلب لكونه مكرما بنوع من العلم.
ومعنى الابتلاء من هذا الوجه ربما يزيد على معنى الابتلاء في الوجه الاول، فإن في الابتلاء بمجرد الاعتقاد مع التوقف في الطلب بيان أن مجرد العقل لا يوجب شيئا ولا يدفع شيئا، فإنه يلزمه اعتقاد الحقية فيما لا مجال لعقله فيه ليعرف أن الحكم لله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهذا هو المعنى في الابتلاء بهذه الاسامي التي فيها تفاوت يعني المجمل والمشكل والخفي، فإن الكل لو كان ظاهرا جليا بطل معنى الامتحان ونيل الثواب بالجهد بالطلب، ولو كان الكل مشكلا خفيا لم يعلم منه شئ حقيقة فأثبت الشرع هذا التفاوت في صيغة الخطاب

لتحقيق معنى الامتحان، وإظهار فضيلة الراسخين في العلم وتعظيم حرمتهم، وصرف القلوب إلى محبتهم، لحاجتهم إلى الرجوع إليهم، والاخذ بقولهم والاقتداء بهم.
وبيان ما ذكرنا من معنى المتشابه من مسائل الاصول أن رؤية الله تعالى بالابصار في الآخرة حق معلوم ثابت بالنص، وهو قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ثم هو موجود بصفة الكمال، وفي كونه مرئيا لنفسه ولغيره معنى الكمال إلا أن الجهة ممتنع، فإن الله تعالى لا جهة له فكان متشابها فيما يرجع إلى كيفية
الرؤية والجهة مع كون أصل الرؤية ثابتا بالنص معلوما كرامة للمؤمنين، فإنهم أهل لهذه الكرامة، والتشابه فيما يرجع إلى الوصف لا يقدح في العلم بالاصل ولا يبطل، وكذلك الوجه واليد على ما نص الله تعالى في القرآن معلوم، وكيفية ذلك من المتشابه فلا يبطل به الاصل المعلوم.
والمعتزلة - خذلهم الله - لاشتباه الكيفية عليهم أنكروا الاصل فكانوا معطلة بإنكارهم صفات الله تعالى، وأهل السنة والجماعة - نصرهم الله - أثبتوا ما هو الاصل المعلوم بالنص وتوقفوا فيما هو المتشابه وهو الكيفية، فلم يجوزوا الاشتغال بطلب ذلك كما وصف الله تعالى به الراسخين في العلم فقال: (يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الالباب) .
فصل: في بيان الحقيقة والمجاز الحقيقة اسم لكل لفظ هو موضوع في الاصل لشئ معلوم، مأخوذ من قولك: حق يحق فهو حق وحاق وحقيق، ولهذا يسمى أصلا أيضا لانه أصل فيما هو موضوع له.
والمجاز اسم لكل لفظ هو مستعار لشئ غير ما وضع له، مفعل من جاز يجوز سمي مجازا لتعديه عن الموضع الذي وضع في الاصل له إلى غيره، ومنه قول الرجل لغيره: حبك إياي مجاز: أي هو باللسان دون القلب الذي هو موضع الحب في الاصل، وهذا الوعد منك مجاز: أي القصد منه الترويج دون التحقيق على ما عليه وضع الوعد في الاصل، ولهذا يسمى مستعارا، لان المتكلم به استعاره وبالاستعمال فيما هو مراده بمنزلة من استعار ثوبا للبس ولبسه، وكل واحد من النوعين موجود في كلام الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الناس في الخطب والاشعار وغير ذلك،

حتى كاد المجاز يغلب الحقيقة لكثرة الاستعمال، وبه اتسع اللسان وحسن مخاطبات الناس بينهم.
وحكم الحقيقة وجود ما وضع له أمرا كان أو نهيا خاصا كان أو عاما، وحكم
المجاز وجود ما استعير لاجله كما هو حكم الحقيقة خاصا كان أو عاما.
ومن أصحاب الشافعي رحمه الله من قال لا عموم للمجاز، ولهذا قالوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء لا يعارضه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين فإن المراد بالصاع ما يكال به وهو مجاز لا عموم له، وبالاجماع المطعوم مراد به فيخرج ما سواه من أن يكون مرادا، ويترجح قوله عليه السلام: لا تبيعوا الطعام بالطعام لانه حقيقة في موضعه فيثبت الحكم به عاما، واستدلوا لاثبات هذه القاعدة بأن المصير إلى المجاز لاجل الحاجة والضرورة، فأما الاصل هو الحقيقة في كل لفظ لانه موضوع له في الاصل، ولهذا لا يعارض المجاز الحقيقة بالاتفاق حتى لا يصير اللفظ في المتردد بين الحقيقة والمجاز في حكم المشترك، وهذه الضرورة ترتفع بدون إثبات حكم العموم للمجاز فكان المجاز في هذا المعنى بمنزلة ما ثبت بطريق الاقتضاء، فكما لا تثبت هناك صفة العموم لان الضرورة ترتفع بدونه فكذلك ها هنا.
ولكنا نقول المجاز أحد نوعي الكلام فيكون بمنزلة نوع آخر في احتمال العموم والخصوص لان العموم للحقيقة ليس باعتبار معنى الحقيقة بل باعتبار دليل آخر دل عليه، فإن قولنا رجل اسم لخاص فإذا قرن به الالف واللام وليس هناك معهود ينصرف إليه بعينه كان للجنس فيكون عاما بهذا الدليل، وكذا كل نكرة إذا قرن بها الالف واللام فيما لا معهود فيه يكون عاما بهذا الدليل وقد وجد هذا الدليل في المجاز، والمحل الذي استعمل فيه المجاز قابل للعموم فتثبت به صفة العموم بدليله كما ثبت في الحقيقة، ولهذا جعلنا قوله: (ولا الصاع بالصاعين) عاما، لان الصاع نكرة قرن بها الالف واللام، وما يحويه الصاع محل لصفة العموم، وهذا

لان المجاز مستعار ليكون قائما مقام الحقيقة عاملا عمله ولا يتحقق ذلك إلا بإثبات
صفة العموم فيه، ألا ترى أن الثوب الملبوس بطريق العارية يعمل عمل الملبوس بطريق الملك فيما هو المقصود وهو دفع الحر والبرد، ولو لم يجعل كذلك لكان المتكلم بالمجاز عن اختيار مخلا بالغرض فيكون مقصرا وذلك غير مستحسن في الاصل، وقد ظهر استحسان الناس للمجازات والاستعارات فوق استحسانهم للفظ الذي هو حقيقة، عرفنا أنه ليس في هذه الاستعارة تقصير فيما هو المقصود وأن للمجاز من العمل ما للحقيقة، وقولهم إن المجاز يكون للضرورة باطل، فإن المجاز موجود في كتاب الله تعالى والله تعالى يتعالى عن أن يلحقه العجز أو الضرورة، إلا أن التفاوت بين الحقيقة والمجاز في اللزوم والدوام من حيث إن الحقيقة لا تحتمل النفي عن موضعها والمجاز يحتمل ذلك وهو العلامة في معرفة الفرق بينهما فإن اسم الاب حقيقة للاب الادنى فلا يجوز نفيه عنه بحال، وهو مجاز للجد حتى يجوز نفيه عنه بأن يقال إنه جد وليس بأب، ولهذا تترجح الحقيقة عند التعارض، لانها ألزم وأدوم والمطلوب بكل كلمة عند الاطلاق ما هي موضوعة له في الاصل فيترجح ذلك حتى يقوم دليل المجاز، بمنزلة الملبوس يترجح جهة الملك للابس فيه حتى يقوم دليل العارية إلا إذا كانت الحقيقة مهجورة فحينئذ يتعين المجاز لمعرفة القصد إلى تصحيح الكلام وينزل ذلك منزلة دليل الاستثناء، ولهذا قلنا لو حلف أن لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر لا ينصرف يمينه إلى عينها وإنما ينصرف إلى ثمرة الشجرة وما يطبخ في القدر، لان الحقيقة مهجورة فيتعين المجاز.
ولو حلف لا يأكل من هذه الشاة ينصرف يمينه إلى لحمها لا إلى لبنها وسمنها، لان الحقيقة هنا غير مهجورة فإن عين الشاة تؤكل فتترجح الحقيقة على المجاز عند إطلاق اللفظ.
ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فقد قال بعض مشايخنا يحنث إذا أكل الدقيق بعينه، لانه مأكول، والاصح أنه لا يحنث لان أكل عين الدقيق مهجور فينصرف يمينه إلى المجاز وهو ما يتخذ منه الخبز، وصار دليل الاستثناء بهذا الدليل نحو دليل الاستثناء فيمن
حلف أن لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في النقلة في الحال فإنه لا يحنث

ويصير ذلك القدر من السكنى مستثنى لمعرفة مقصوده وهو أن يمنع نفسه بيمينه عما في وسعه دون ما ليس في وسعه، وعلى هذا لو حلف لا يطلق وقد كان علق الطلاق بشرط قبل هذه اليمين فوجد الشرط لم يحنث، أو كان حلف بعد الجرح أن لا يقتل فمات المجروح لم يحنث، ويجعل ذلك بمنزلة دليل الاستثناء بمعرفة مقصوده.
ومن أحكام الحقيقة والمجاز أنهما لا يجتمعان في لفظ واحد في حالة واحدة على أن يكون كل واحد منهما مرادا بحال، لان الحقيقة أصل والمجاز مستعار ولا تصور لكون اللفظ الواحد مستعملا في موضوعه مستعارا في موضع آخر سوى موضوعه في حالة واحدة، كما لا تصور لكون الثوب الواحد على اللابس ملكا وعارية في وقت واحد، ولهذا قلنا في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) المراد الجماع دون اللمس باليد، لان الجماع مراد بالاتفاق حتى يجوز التيمم للجنب بهذا النص، ولا تجتمع الحقيقة والمجاز مرادا باللفظ، فإذا كان المجاز مرادا تتنحى الحقيقة، ولهذا قلنا النص الوارد في تحريم الخمر وإيجاب الحد بشربه بعينه لا يتناول سائر الاشربة المسكرة حتى لا يجب الحد بها ما لم تسكر، لان الاسم للنئ من ماء العنب المشتد حقيقة ولسائر الاشربة المسكرة مجازا، فإذا كانت الحقيقة مرادا يتنحى المجاز، وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن أوصى لبني فلان أو لاولاد فلان وله بنون لصلبه وأولاد البنين فإن أولاد البنين لا يستحقون شيئا، لان الحقيقة مرادة فيتنحى المجاز.
وقال في السير: إذا استأمنوا على آبائهم لا يدخل أجدادهم في ذلك، وإذا استأمنوا على أمهاتهم لا تدخل الجدات في ذلك، لان الحقيقة مرادة فيتنحى المجاز، وعلى هذا قال في الجامع: لو أن عربيا لا ولاء عليه أوصى لمواليه وله معتقون ومعتق المعتقين فإن الوصية لمعتقه وليس لمعتق المعتق شئ،
لان الاسم للمعتقين حقيقة باعتبار أنه باشر سبب إحيائهم بإحداث قوة المالكية فيهم بالاعتاق، لان الحرية حياة والرق تلف حكما فكانوا منسوبين

إليه بالولاء حقيقة كنسبة الولد إلى أبيه، وأما معتق المعتق يسمى مولى له مجازا، لانه بالاعتاق الاول جعله بحيث يملك اكتساب سبب الولاء وهو الاعتاق فيكون متسببا في الولاء الثاني من هذا الوجه، ويسمى مولى له مجازا بطريق الاتصال من حيث السببية، فإذا صارت الحقيقة مرادا يتنحى المجاز، حتى لو لم يكن له معتقون فالوصية لموالي الموالي، لان الحقيقة هنا غير مرادة فيتعين المجاز، ولو كان له معتق واحد والوصية بلفظ الجماعة فاستحق هو نصف الثلث كان الباقي مردودا على الورثة ولا يكون لموالي الموالي من ذلك شئ، لان الحقيقة هنا مرادة ولو كان للموصي موال أعلى وأسفل لم تصح الوصية، لان الاسم مشترك وكل واحد من الفريقين يحتمل أن يكون مرادا إلا أنه لا وجه للجمع بينهما وإثبات العموم لاختلاف المعنى والمقصود فيبطل أصل الوصية، ومعلوم أن التغاير بين الحقيقة والمجاز باعتبار أصل الوضع وفي الاسم المشترك لا تغاير باعتبار أصل الوضع، ثم لم يجز هناك أن يكون كل واحد منهما مرادا باللفظ في حالة واحدة فلان لا يجوز ذلك في الحقيقة والمجاز أولى.
فإن قيل: هذا الاصل لا يستمر في المسائل فإن من حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان يحنث إذا دخلها ماشيا كان أو راكبا حافيا كان أو منتعلا، وحقيقة وضع القدم فيها إذا كان حافيا.
وكذلك لو قال: يوم يقدم فلان فامرأته كذا فقدم ليلا أو نهارا يقع الطلاق والاسم للنهار حقيقة ولليل مجاز.
ولو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا يسكنها فلان عارية أو بأجر يحنث كما لو دخل دارا مملوكة له.
وفي السير قال: لو استأمن على بنيه يدخل بنوه وبنو بنيه، ولو استأمن على مواليه وهو ممن لا ولاء
عليه يدخل في الامان مواليه وموالي مواليه، فقد جمعتم بين الحقيقة والمجاز في هذه الفصول.
وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا قال لله علي أن أصوم رجب ونوى به اليمين كان نذرا ويمينا واللفظ للنذر حقيقة ولليمين مجاز.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا حلف أن لا يشرب من الفرات فأخذ الماء من الفرات في كوز فشربه يحنث كما لو كرع في الفرات، ولو حلف

لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها يحنث كما لو أكل عينها وفي هذا جمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ في حالة واحدة.
قلنا: جميع هذه المسائل تخرج مستقيما على ما ذكرنا من الاصل عند التأمل، فقد ذكرنا أن المقصود معتبر وأنه ينزل ذلك منزلة دليل الاستثناء.
ففي مسألة وضع القدم مقصود الحالف الامتناع من الدخول فيصير باعتبار مقصوده كأنه حلف لا يدخل والدخول قد يكون حافيا وقد يكون منتعلا وقد يكون راكبا فعند الدخول حافيا يحنث لا باعتبار حقيقة وضع القدم بل باعتبار الدخول الذي هو المقصود، فعرفنا أنه إنما يحنث في المواضع كلها لعموم المجاز لا لعموم الحقيقة.
وكذلك قوله يوم يقدم فلان فالمقصود بذكر اليوم هنا الوقت، لانه قرن به ما هو غير ممتد ولا يختص ببياض النهار، واليوم إنما يكون عبارة عن بياض النهار إذا قرن بما يمتد ليصير معيارا له، حتى إذا قال أمرك بيدك يوم يقدم فلان فقدم ليلا لا يصير الامر بيدها، وكذلك إذا قرن بما يختص بالنهار كقوله لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فأما إذا قرن بما لا يمتد ولا يختص بأحد الوقتين يكون عبارة عن الوقت، كما في قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره) واسم الوقت يعم الليل والنهار فلعموم المجاز قلنا بأنها تطلق في الوجهين جميعا، حتى إذا قال ليلة يقدم فلان فقدم نهارا لم تطلق لان الحقيقة هنا مرادة فيتنحى المجاز.
وفي مسألة دخول دار فلان المقصود إضافة السكنى وذلك يعم السكنى بطريق الملك والعارية، وإذا دخل دارا يسكنها فلان بالملك إنما يحنث لعموم المجاز لا للملك، حتى لو كان
الساكن فيها غير فلان لم يحنث وإن كانت مملوكة لفلان.
وفي مسألتي السير قياس واستحسان في القياس يتنحى المجاز في الامان كما في الوصية، وفي الاستحسان قال: المقصود من الامان حقن الدم وهو مبني على التوسع واسم الابناء والموالي من حيث الظاهر يتناول الفروع إلا أن الحقيقة تتقدم على المجاز في كونه مرادا، ولكن مجرد الصورة تبقى شبهته في حقن الدم كما ثبت الامان بمجرد الاشارة من الفارس إذا دعا الكافر بها إلى نفسه لصورة المسالمة وإن لم يكن ذلك حقيقة.
فإن قيل: لماذا لم تعتبر هذه الصورة في إثبات الامان للاجداد والجدات عند

الاستئمان على الآباء والامهات ؟ قلنا: لان الحقيقة إذا صارت مرادا فاعتبار هذه الصورة لثبوت الحكم في محل آخر يكون بطريق التبعية لا محالة، وبنو البنين وموالي الموالي تليق صفة التبعية بحالهم، فأما الاجداد والجدات لا يكونون تبعا للآباء والامهات وهم الاصول، فلهذا ترك اعتبار الصورة هناك في إثبات الامان لهم، فأما مسألة النذر فقد قيل معنى النذر هناك يثبت بلفظ ومعنى اليمين بلفظ آخر، فإن قوله لله عند إرادة اليمين كقوله بالله إذ الباء واللام تتعاقبان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج، وقوله علي نذر ونحن إنما أنكرنا اجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد مع أن تلك الكلمة نذر بصيغتها يمين بموجبها إذا أراد اليمين، لان موجبها وجوب المنذور به، وإيجاب المباح يمين كتحريم الحلال المباح وهو نظير شراء القريب تملك بصيغته وإعتاق بموجبه.
وأما مسألة الشرب من الفرات فالحنث عندها باعتبار عموم المجاز، لان المقصود شرب ماء الفرات ولا تنقطع هذه النسبة بجعل الماء في الاناء وعند الكرع إنما يحنث لانه شرب ماء الفرات، حتى لو تحول من الفرات إلى نهر آخر لم يحنث إن شرب منه، لان النسبة قد انقطعت عن الفرات بالتحول إلى نهر آخر.
وأبو حنيفة رحمه الله
اعتبر الحقيقة قال: الشرب من الفرات حقيقة معتادة غير مهجورة وإنما يتناول هذا اللفظ الماء بطريق المجاز عن قولهم جرى النهر أي الماء فيها، وإذا صارت الحقيقة مرادا يتنحى المجاز، وكذلك في مسألة الحنطة أبو حنيفة اعتبر الظاهر فقال عين الحنطة مأكول وهو مراد مقصود فيتنحى المجاز، وهما جعلا ذكر الحنطة عبارة عما في باطنها مجازا للعرف، فإنه يقال أهل بلدة كذا يأكلون الحنطة والمراد ما فيها من عين الحنطة وإنما يحنث لعموم المجاز وهو أنه تناول ما فيها وهذا موجود فيما إذا أكل من خبزها، فخرجت المسائل على هذا الحرف وهو اعتبار عموم المجاز بمعرفة المقصود لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز.

قال رضي الله عنه: وقد رأيت بعض العراقيين من أصحابنا رحمهم الله قالوا: إن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان في لفظ واحد في محل واحد ولكن في محلين مختلفين يجوز أن يجتمعا، وهذا قريب بشرط أن لا يكون المجاز مزاحما للحقيقة مدخلا للجنس على صاحب الحقيقة، فإن الثوب الواحد على اللابس يجوز أن يكون نصفه ملكا ونصفه عارية، وقد قلنا في قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) إنه يتناول الجدات وبنات البنات والاسم للام حقيقة وللجدات مجاز، وكذلك اسم البنات لبنات الصلب حقيقة ولاولاد البنات مجاز، وكذلك في قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) فإنه موجب حرمة منكوحة الجد كما يوجب حرمة منكوحة الاب، فعرفنا أنه يجوز الجمع بينهما في لفظ واحد ولكن في محلين مختلفين حتى يكون حقيقة في أحدهما مجازا في المحل الآخر، وهذا بخلاف المشترك فالاحتمال هناك باعتبار معاني مختلفة ولا تصور لاجتماع تلك المعاني في كلمة واحدة، وهنا تجمع الحقيقة والمجاز في احتمال الصيغة لكل واحد منهما معنى واحدا وهو الاصالة في الآباء والاجداد والامهات والجدات والولاد في حق الاولاد ولكن بعضها بواسطة وبعضها
بغير واسطة، فيكون هذا نظير ما قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله تعالى: (فتيمموا صعيدا طيبا) إنه يتناول جميع أجناس الارض باعتبار معنى يجمع الكل وهو التصاعد من الارض وإن كان الاسم للتراب حقيقة.
وبيان الفرق بين المشترك وبين المجاز مع الحقيقة في المعنى الذي ذكرنا فيما قال في السير: لو استأمن لمواليه وله موال أعلى وأسفل فالامان لاحد الفريقين وهو ما أراده الذي آمنه، وإن لم يرد شيئا يأمن الفريقان باعتبار أن الامان يتناول أحدهما لا باعتبار أنه يتناولهما، لان الاسم مشترك، وبمثله لو كان له موال وموالي موال ثبت الامان للفريقين جميعا باعتبار أنه يجوز أن يكون اللفظ الواحد عاملا بحقيقته في موضع وبمجازه في موضع آخر.
ثم طريق معرفة الحقيقة السماع لان الاصل فيه الوضع ولا يصير ذلك معلوما إلا بالسماع بمنزلة المنصوص في أحكام الشرع، وطريق الوقوف عليها السماع فقط.

وإنما طريق معرفة المجاز الوقوف على مذهب العرب في الاستعارة دون السماع بمنزلة القياس في أحكام الشرع، فإن طريق تعدية حكم النص إلى الفروع معلوم وهو التأمل في معاني النص واختيار الوصف المؤثر منها لتعدية الحكم بها إلى الفروع، فإذا وقف مجتهد على ذلك وأصاب طريقه كان ذلك مسموعا منه وإن لم يسبق به، فكذلك في الاستعارة إذا وقف إنسان على معنى تجوز الاستعارة به عند العرب فاستعار بذلك المعنى واستعمل لفظا في موضع كان مسموعا منه وإن لم يسبق به، وعلى هذا يجري كلام البلغاء من الخطباء والشعراء في كل وقت.
فنقول: طريق الاستعارة عند العرب الاتصال، والاتصال بين الشيئين يكون صورة أو معنى، فإن كل موجود متصور تكون له صورة ومعنى، فالاتصال لا يكون إلا باعتبار الصورة أو باعتبار المعنى.
فأما الاستعارة للاتصال معنى فنحو تسمية العرب الشجاع أسدا للاتصال بينهما في معنى الشجاعة والقوة، والبليد حمارا لاتصال
بينهما في معنى البلادة، والاستعارة للاتصال صورة نحو تسمية العرب المطر سماء، فإنهم يقولون: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم يعنون المطر، لانها تنزل من السحاب والعرب تسمي كل ما علا فوقك سماء ويكون نزول المطر من علو فسموه سماء مجازا للاتصال صورة، وقال تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) والغائط اسم للمطمئن من الارض، وسمي الحدث به مجازا لان يكون في المطمئن من الارض عادة، وهذا اتصال من حيث الصورة، وقال تعالى: (أو لامستم النساء) والمراد الجماع لان اللمس سببه صورة فسماه به مجازا وقال تعالى: (إني أراني أعصر خمرا) (وإنما يعصر العنب وهو مشتمل على السفل والماء والقشر إلا أنه بالعصر يصير خمرا) في أوانه فسماه به مجازا لاتصال بينهما في الذات صورة، فسلكنا في الاسباب الشرعية والعلل هذين الطريقين في الاستعارة وقلنا يصح الاستعارة للاتصال سببا فإنه نظير الاستعارة للاتصال صورة في المحسوسات، وللاتصال في المعنى المشروع الذي جاء لاجله شرع يصلح الاستعارة، وهو نظير الاتصال معنى في المحسوسات فإنه لا خلاف بين العلماء

أن صلاحية الاستعارة غير مختص بطريق اللغة وأن الاتصال في المعاني والاحكام الشرعية يصلح للاستعارة، وهذا لان الاستعارة للقرب والاتصال وذلك يتحقق في المحسوس وغير المحسوس، فالاحكام الشرعية قائمة بمعناها متعلقة بأسبابها فتكون موجودة حكما بمنزلة الموجود حسا فيتحقق معنى القرب والاتصال فيها، ولان المشروعات إذا تأملت في أسبابها وجدتها دالة على الحكم المطلوب بها باعتبار أصل اللغة فيما تكون معقولة المعنى والكلام فيه ولا استعارة فيما لا يعقل معناه، ألا ترى أن البيع مشروع لايجاب الملك وموضوع له أيضا في اللغة، وقد اتفق العلماء في جواز استعارة لفظ التحرير لايقاع الطلاق به، وجوز الشافعي رحمه الله استعارة لفظ الطلاق لايقاع العتق به، والائمة من السلف استعملوا الاستعارة بهذا الطريق أيضا وكتاب
الله تعالى ناطق بذلك، يعني قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها) فإن الله تعالى جعل هبتها نفسها جوابا للاستنكاح وهو طلب النكاح، ولا خلاف أن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينعقد بلفظ الهبة على سبيل الاستعارة لا على سبيل حقيقة الهبة، فإن الهبة لتمليك المال فلا يكون عاملا بحقيقتها فيما ليس بمال، ولانها لا توجب الملك إلا بالقبض فيما كانت حقيقة فيه فكيف فيما ليست بحقيقة فيه، فعرفنا أنها استعارة قامت مقام النكاح بطريق المجاز، وكذلك كان يتعلق بنكاحه حكم القسم والطلاق والعدة وإن كان معقودا بلفظ الهبة، فعرفنا أنه كان بطريق الاستعارة على معنى أن اللفظ متى صار مجازا عن غيره سقط اعتبار حقيقته وصار التكلم به كالتكلم بما هو مجاز عنه.
ثم ليس للرسالة أثر في معنى الخصوصية بوجوه الكلام، فإن معنى الخصوصية هو التخفيف والتوسعة وما كان يلحقه حرج في استعمال لفظ النكاح فقد كان أفصح الناس، وهذه جملة لا خلاف فيها، إلا أن الشافعي رحمه الله قال نكاح غيره لا ينعقد بهذا اللفظ لانه عقد مشروع لمقاصد لا تحصى مما يرجع إلى مصالح الدين والدنيا، ولفظ النكاح والتزويج يدل على ذلك باعتبار أنها تبتنى على الاتحاد، فالتزويج تلفيق بين الشيئين على وجه يثبت به الاتحاد بينهما في المقصود كزوجي الخف ومصراعي الباب، والنكاح

بمعنى الضم الذي ينبئ عن الاتحاد بينهما في القيام بمصالح المعيشة، وليس في هذين اللفظين ما يدل على التمليك باعتبار أصل الوضع، ولهذا لا يثبت ملك العين بهما، فالالفاظ الموضوعة لايجاب ملك العين فيها قصور فيما هو المقصود بالنكاح، إلا أن في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينعقد نكاحه بهذا اللفظ مع قصور فيه تخفيفا عليه وتوسعة للغات عليه، كما قال تعالى: (خالصة لك) وفي حق غيره لا يصلح هذا اللفظ لانعقاد النكاح به لما فيه من القصور، وهو معنى ما يقولون:
إنه عقد خاص شرع بلفظ خاص.
ونظيره الشهادة فإنها مشروعة بلفظ خاص فلا تصلح بلفظ آخر لقصور فيه حتى إذا قال الشاهد أحلف لا يكون شهادة لان لفظ الحلف موجب بغيره ولفظ الشهادة موجب بنفسه، قال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) وكذلك لفظ الهبة لا تنعقد به المعاوضة المحضة وهي البيع ابتداء وكأن ذلك لقصور فيها، وفي صفة المعاوضة النكاح أبلغ من البيع، وعلى هذا الاصل لم يجوزوا نقل الاخبار بالمعنى من غير مراعاة اللفظ، ولكنا نقول: النكاح موجب ملك المتعة، وهذه الالفاظ في محل ملك المتعة توجب ملك المتعة تبعا لملك الرقبة فإنها توجب ملك الرقبة وملك الرقبة يوجب ملك المتعة في محله فكان بينهما اتصالا من حيث السببية وهو طريق صالح للاستعارة، ولا حاجة إلى النية لان هذا المحل الذي أضيف إليه متعين لهذا المجاز وهو النكاح، والحاجة إلى النية عند الاشتباه للتعيين، وما ذكروا من مقاصد النكاح فهي لكونها غير محصورة بمنزلة الثمرة كما هو المطلوب من هذا العقد، فأما المقصود فإثبات الملك عليها ولهذا وجب البدل لها عليه، فلو كان المقصود ما سواها من المقاصد لم يجب البدل لها عليه، لان تلك المقاصد مشتركة بينهما، وكذلك جعل الطلاق بيد الزوج لانه هو المالك فإليه إزالة الملك، وإذا ثبت أن المقصود هو الملك وهذه الالفاظ موضوعة لايجاب الملك، ثم لما انعقد هذا العقد بلفظ غير موضوع لايجاب ما هو المقصود وهو الملك، فلان

ينعقد بلفظ موضوع لايجاب ما هو المقصود وهو الملك كان أولى، وإنما انعقد هذا العقد بلفظ النكاح والتزويج وإن لم يوضعا لايجاب الملك بهما في الاصل لانهما جعلا علما في إثبات هذا الملك بهما وما يكون علما لشئ بعينه فهو بمنزلة النص فيه فيثبت الحكم به بعينه ولهذا لم ينعقد بهما الاسباب الموجبة لملك العين، فأما الالفاظ الموضوعة لايجاب الملك لا ينتفي باسم العلم عن هذا المحل، وقد تقرر صلاحية الاستعارة
بالاتصال من حيث السببية فيثبت هذا الملك بها بطريق الاستعارة.
فإن قيل: الاتصال من حيث السببية لا يختص بأحد الجانبين بل يكون من الجانبين جميعا ثم لم يعتبر هذا الاتصال والقرب في إثبات ملك الرقبة باللفظ الذي هو موضوع لايجاب ملك المتعة، فكذلك لا يعتبر هذا الاتصال لاثبات ملك المتعة باللفظ الموضوع لاثبات ملك الرقبة.
قلنا: الاتصال من حيث السببية نوعان: أحدهما اتصال الحكم بالعلة وذلك معتبر في صلاحية الاستعارة من الجانبين، لان العلة غير مطلوبة لعينها بل لثبوت الحكم بها، والحكم لا يثبت بدون العلة فيتحقق معنى القرب والاتصال لافتقار كل واحد منهما إلى الآخر.
وبيان هذا فيما قال في الجامع: إذا قال: إن ملكت عبدا فهو حر فاشترى نصف عبد ثم باعه ثم اشترى النصف الثاني لا يعتق، فإن قال: عنيت الملك متفرقا كان أو مجتمعا يدين في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ويعتق النصف الباقي في ملكه.
ولو قال: إن اشتريت عبدا فهو حر فاشترى نصفه فباعه ثم اشترى النصف الباقي يعتق هذا النصف، فإن قال: عنيت الشراء مجتمعا يدين فيما بينه وبين الله تعالى فلا يعتق هذا النصف، وقيل الشراء موجب للملك والملك حكم الشراء فيصلح أن يكون ذكر الملك مستعارا عن ذكر الشراء إذا نوى التفرق فيه، ويصلح أن يكون ذكر الشراء مستعارا عن ذكر الملك إذا نوى الاجتماع فيه حتى يعمل بنيته من حيث الديانة في الموضعين، ولكن فيما فيه تخفيف عليه لا يدين في القضاء للتهمة، وفيما فيه تشديد عليه يدين لانتفاء التهمة.
والنوع الآخر اتصال الفرع بالاصل والحكم بالسبب، فإن بهذا الاتصال تصلح استعارة الاصل للفرع والسبب للحكم، ولا تصلح استعارة الفرع للاصل

والحكم للسبب، لان الاصل مستغن عن الفرع والفرع محتاج إلى الاصل، لانه تابع له فيصير معنى الاتصال معتبرا فيما هو محتاج إليه دون ما هو مستغنى عنه.
وهو نظير الجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة، فإنه يعتبر اتصال الجملة الناقصة بالكاملة فيما يرجع إلى إكمال الناقصة لحاجتها إلى ذلك حتى يتوقف أول الكلام على آخره ولا يعتبر اتصال الناقص بالكامل في حكم الكامل لانه مستغنى عنه، فملك الرقبة سبب ملك المتعة بينهما اتصال من هذا الوجه فلهذا جاز استعارة السبب للحكم ولا يجوز استعارة الحكم للسبب، واللفظ الموضوع لايجاب ملك الرقبة يجوز أن يستعار لايجاب ملك المتعة، والموضوع لايجاب ملك المتعة لا يصلح مستعارا لايجاب ملك الرقبة، ولهذا الطريق قلنا إن لفظ التحرير عامل في إيقاع الطلاق به مجازا لانها موضوعة لازالة ملك الرقبة، وزوالها سبب لزوال ملك المتعة إلا أنه لا يعمل بدون النية، لان المحل المضاف إليه غير متعين لهذا المجاز، بل هو محل لحقيقة الوصف بالحرية فيحتاج إلى النية ليتعين فيها الاستعمال بطريق المجاز، ولفظ الطلاق لا يحصل به العتق لانه موضوع لازالة ملك المتعة، وزوال ملك المتعة ليس بسبب لزوال ملك الرقبة، بل هو حكم ذلك السبب فلا يصلح استعارة الحكم للسبب كما لا يصلح استعارة الفرع للاصل لكونه مستغنى عنه، ولكن الشافعي رحمه الله جوز هذه الاستعارة أيضا للقرب بينهما من حيث المشابهة في المعنى وكل واحد منهما إزالة بطريق الابطال مبني على الغلبة، والسراية غير محتمل للفسخ محتمل للتعليق بالشرط والايجاب في المجهول فللمناسبة بينهما في هذا المعنى جوز استعارة كل واحد منهما للآخر، ولكنا نقول: المناسبة في المعنى صالح للاستعارة لكن لا بكل وصف بل بالوصف الذي يختص بكل واحد منهما، ألا ترى أنه لا يسمى الجبان أسدا ولا الشجاع حمارا للمناسبة بينهما من حيث الحيوانية والوجود وما أشبه ذلك، ويسمى الشجاع أسدا للمناسبة بينهما في الوصف الخاص وهو الشجاعة، وهذا لان اعتبار هذه المناسبة بينهما للاستعارة بمنزلة اعتبار المعنى في المنصوص لتعدية الحكم به إلى الفروع، ثم لا يستقيم تعليل النص بكل وصف

بل بوصف له أثر في ذلك الحكم، لانه لو جوز التعليل بكل وصف انعدم معنى الابتلاء أصلا، فكذلك ههنا لو صححنا الاستعارة للمناسبة في أي معنى كان ارتفع معنى الامتحان واستوى العالم والجاهل، فعرفنا أنه إنما تعتبر المناسبة في الوصف الخاص ولا مناسبة هنا في الوصف الذي لاجله وضع كل واحد منهما في الاصل، فالطلاق موضوع للاطلاق برفع المانع من الانطلاق لا بإحداث قوة الانطلاق في الذات، ومنه إطلاق الابل وإطلاق الاسير والعتاق لاحداث معنى في الذات يوجب القوة، من قول القائل: عتق الفرخ إذا قوي حتى طار، وفي ملك اليمين المملوك عاجز عن الانطلاق لضعف في ذاته وهو أنه صار رقيقا مملوكا مقهورا محتاجا إلى إحداث قوة فيه يصير بها مالكا مستوليا مستبدا بالتصرف، والمنكوحة مالكة أمر نفسها ولكنها محبوسة عند الزوج بالملك الذي له عليها فحاجتها إلى رفع المانع وذلك يكون بالطلاق كما يكون برفع القيد عن الاسير وبحل العقال عن البعير، ولا مناسبة بين رفع المانع وبين إحداث القوة، كما لا مناسبة بين رفع القيد وبين البرء من المرض، فعرفنا أنه لا وجه للاستعارة بطريق المناسبة بينهما في المعنى ولكن بالاتصال من حيث السببية والحكم، وقد بينا أن ذلك صالح من أحد الجانبين دون الجانب الآخر.
فإن قيل: عندكم الاجازة لا تنعقد بلفظ البيع نص عليه في كتاب الصلح حيث قال: بيع السكنى باطل، فالبيع سبب لملك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المنفعة.
ثم لم تصح الاستعارة بهذا الطريق عندكم مجازا، وعلى عكس هذا إذا قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فقال أعتقت يثبت التملك شراء بهذا الكلام والعتق ليس بسبب للشراء ثم كان عبارة عنه مجازا، وكذلك شراء القريب إعتاق عندكم والشراء ليس بسبب العتق ثم كان عبارة عنه.
قلنا: أما استعمال لفظ البيع في الاجارة
فإنما لا يجوز عندنا لانعدام المحل لا لانعدام الصلاحية للاستعارة، لانه إن أضيف لفظ البيع إلى رقبة الدار والعبد فهو عامل بحقيقته في تمليك العين، وإن أضيف إلى

منفعتهما فالمنفعة معدومة والمعدوم لا يكون محلا للتمليك، واللفظ متى صار مجازا عن غيره يجعل كأنه وجد التصريح باللفظ الذي هو مجاز عنه.
ولو قال: أجرتك منافع هذه الدار لا يصح أيضا وإنما يصح إذا قال أجرتك الدار باعتبار إقامة العين المضاف إليه العقد مقام المنفعة، ولفظ البيع متى أضيف إلى العين كان عاملا في حقيقته حتى لو قال الحر لغيره: بعتك نفسي شهرا بعشرة يجوز ذلك على وجه الاستعارة عن الاجارة، لان عين الحر ليس بمحل لما وضع له البيع حقيقة، وأهل المدينة يسمون الاجارة بيعا فتجوز ههنا الاستعارة للاتصال من حيث السببية، وأما قوله أعتق عبدك عني فمن يقول إن ذلك مجاز عن الشراء فقد أخطأ خطأ فاحشا وكيف يكون ذلك مجازا عنه وهو عامل بحقيقته واللفظ متى صار مجازا عن غيره يسقط اعتبار حقيقته ؟ وفي الموضع الذي لا يثبت حقيقة العتق بأن يكون القائل صبيا أو عبدا مأذونا لا يثبت الشراء، فعرفنا أن ثبوت الشراء هناك بطريق الاقتضاء للحاجة إلى تحصيل المقصود الذي صرحنا به وهو الاعتاق عنه فإن من شرطه ثبوت الملك له في المحل والمقتضى ليس من المجاز في شئ، وكذلك شراء القريب عندنا ليس بإعتاق مجازا، وكيف يكون ذلك وهو عامل بحقيقته وهو ثبوت الملك به ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في محل واحد ؟ بل بطريق أن الشراء موجب ملك الرقبة وملك الرقبة متمم علة العتق في هذا المحل، فيصير الحكم وهو العتق مضافا إلى السبب الموجب لما تتم به العلة بطريق أنه بمنزلة علة العلة، فأما أن يكون بطريق المجاز فلا.
ومن أحكام هذا الفصل أن اللفظ متى كان له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف، فعلى قول أبي حنيفة مطلقه يتناول الحقيقة المستعملة دون المجاز، وعلى قولهما مطلقه
يتناولهما باعتبار عموم المجاز.
وبيانه فيما قلنا إذا حلف لا يشرب من الفرات أو لا يأكل من هذه الحنطة، وهذا في الحقيقة يبتني على أصل وهو أن المجاز عندهما خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم فهو المقصود لا نفس العبارة، وباعتبار الحكم يترجح عموم المجاز على الحقيقة فإن الحكم به يثبت في الموضعين، وعند أبي حنيفة المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم به لا في الحكم، لانه تصرف من المتكلم في عبارته من حيث إنه يجعل عبارته قائمة مقام عبارة، ثم الحكم يثبت به أصلا بطريق أنه

يجعل كالمتكلم بما كان المجاز عبارة عنه لا أنه خلف عن الحكم، وإذا كان المجاز خلفا في التكلم لا يثبت المزاحمة بين الاصل والخلف فيجعل اللفظ عاملا في حقيقته عند الامكان وإنما يصار إلى إعماله بطريق المجاز في الموضع الذي يتعذر إعماله في حقيقته.
وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يعتق، لان صريح كلامه محال والمجاز عندهما خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم ففي كل موضع يصلح أن يكون السبب منعقدا لايجاب الحكم الاصلي يصلح أن يكون منعقدا لايجاب ما هو خلف عن الاصل، وفي كل موضع لا يوجد في السبب صلاحية الانعقاد للحكم الاصلي لا ينعقد موجبا لما هو خلف عنه، فإن قوله لامس السماء يصلح منعقدا لايجاب ما هو الاصل وهو البر من حيث إن السماء غير ممسوسة فيصلح أن يكون منعقدا لايجاب الخلف عنه وهو الكفارة، واليمين الغموس لا تصلح سببا لايجاب ما هو الاصل وهو البر فلا يكون موجبا لما هو خلف عنه وهو الكفارة، فهنا أيضا هذا اللفظ في معروف النسب الذي يولد مثله لمثله يصلح سببا لايجاب ما هو الاصل وهو ثبوت النسب إلا أنه امتنع إعماله (للحكم) لثبوت نسبه من الغير فيكون موجبا لما هو خلف عنه وهو العتق، وفيمن هو أكبر سنا منه لا يصلح
سببا لايجاب ما هو الاصل فلا يكون موجبا لما هو خلف عنه، ولهذا لا تصير أم الغلام أم الولد له هنا، وفي معروف النسب تصير أم ولد له على ما نص في كتاب الدعوى، وعلى هذا جعلنا بيع الحرة نكاحا، لان هناك المانع من الحكم الذي هو أصل في هذا المحل شرعي وهو تأكد الحرية على وجه لا يحتمل الابطال لا باعتبار أن السبب ليس بصالح لاثبات الحكم الاصلي به في هذا المحل فيكون منعقدا لاثبات ما هو خلف عنه وهو ملك المتعة، ولكن أبو حنيفة يقول المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم كما قررنا، فالشرط فيه أن يكون الكلام صالحا وصلاحيته بكونه مبتدأ وخبرا بصيغة الايجاب وهو موجود هنا فيكون عاملا في إيجاب الحكم الذي يقبله هذا المحل بطريق المجاز على معنى أنه سبب للتحرير، فإن من ملك ولده يعتق عليه

ويصير معتقا له إذا اكتسب سبب تملكه، فاللفظ متى صار عبارة عن غيره مجازا للاتصال من حيث السببية يسقط اعتبار حقيقته، وباعتبار مجازه ما صادف إلا محلا صالحا، ولما تبين أنه خلف في التكلم لا في الحكم كان عمله كعمل الاستثناء والاستثناء صحيح على أن يكون عبارة عما وراء المستثنى وإن لم يصادف أصل الكلام محلا صالحا له باعتبار أنه تصرف من المتكلم في كلامه، حتى لو قال لامرأته أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين لم تقع إلا واحدة، نص عليه في المنتقى، ومعلوم أن المحل غير صالح لما صرح به ومع ذلك كان الاستثناء صحيحا لانه تصرف من المتكلم في كلامه فهنا كذلك.
ثم فيه طريقان لابي حنيفة: أحدهما أنه بمنزلة التحرير ابتداء باعتبار أنه ذكر كلاما هو سبب للتحرير في ملكه وهو البنوة فيصير محررا (به) ابتداء مجازا، ولهذا لا تصير الام أم ولد له لانه ليس لتحرير الغلام ابتداء تأثير في إيجاب أمية الولد (لامه) ولانه لا يملك إيجاب ذلك الحق لها بعبارته على الحقيقة ابتداء بل بفعل هو استيلاد، ولهذا قال في كتاب الدعوى: لو ورث رجلان مملوكا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه يصير
ضامنا لشريكه قيمة نصيبه إذا كان موسرا باعتبار أن ذلك كالتحرير المبتدأ منه، وعلى الطريق الآخر يجعل هذا إقرارا منه بالحرية مجازا كأنه قال عتق علي من حين ملكته فإن ما صرح به وهو البنوة سبب لذلك وهنا هو الاصح، فقد قال في كتاب الاكراه إذا أكره على أن يقول هذا ابني لا يعتق عليه، والاكراه إنما يمنع صحة الاقرار بالعتق لا صحة التحرير ابتداء، ووجوب الضمان في مسألة الدعوى بهذا الطريق أيضا فإنه لو قال عتق علي من حين ملكته كان ضامنا لشريكه أيضا، وعلى هذا الطريق نقول: الجارية تصير أم ولد له لان كلامه كما جعل إقرارا بالحرية للولد جعل إقرارا بأمية الولد للام، فإن ما تكلم به سبب موجب هذا الحق لها في ملكه كما هو موجب حقيقة الحرية للولد، وبهذا الطريق في معروف النسب يثبت العتق لا بالطريق

الذي قالا، فإنه مكذب شرعا في الحكم الاصلي والمكذب في كلامه شرعا كالمكذب حقيقة في إهدار كلامه، ألا ترى أنه لو أكره على أن يقول لعبده هذا ابني لا يعتق عليه لانه مكذب شرعا بدليل الاكراه إلا أن دليل التكذيب هناك عامل في الحقيقة والمجاز جميعا، وهنا دليل التكذيب وهو ثبوت نسبه من الغير عامل في الحقيقة دون المجاز وهو الاقرار بحريته من حين ملكه، ولهذا قلنا: لو قال لزوجته وهي معروفة النسب من غيره هذه ابنتي لا تقع الفرقة بينهما لانه ليس بكلام موجب بطريق الاقرار في ملكه إنما موجبه إثبات النسب وقد صار مكذبا فيه شرعا فصار أصل كلامه لغوا.
وبيان هذا أن التبعية لا توجب الفرقة ولكنها تنافي النكاح أصلا، واللفظ متى صار مجازا عن غيره يجعل قائما مقام ذلك اللفظ فكأنه قال ما تزوجتها أو ما كان بيني وبينها نكاح قط، وذلك لا يوجب الفرقة، وكذلك لا يثبت به حرمتها عليه على وجه ينتفي به النكاح، لان في حكم الحرمة هذا الاقرار عليها لا على نفسه والعين هي التي تتصف بالحرمة وهو مكذب شرعا في إقراره على
غيره.
ولا يدخل على هذا ما إذا قال لعبده يا ابني لان النداء لاستحضار المنادي بصورته لا بمعناه وإنما صار هذا اللفظ مجازا باعتبار معناه كما بينا، فأما إذا قال يا حر أو يا عتيق فإعمال ذلك اللفظ باعتبار أنه علم لاسقاط الرق به لا باعتبار المعنى فيه فكان عاملا على أي وجه أضافه إلى المملوك، والله أعلم.
فصل: في بيان الصريح والكناية الصريح هو كل لفظ مكشوف المعنى والمراد حقيقة كان أو مجازا، يقال: فلان صرح بكذا، أي أظهر ما في قلبه لغيره من محبوب أو مكروه بأبلغ ما أمكنه من العبارة، ومنه سمي القصر صرحا، قال تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا) والكناية بخلاف ذلك وهو ما يكون المراد به مستورا إلى أن يتبين بالدليل، مأخوذ من قولهم: كنيت وكنوت، ولهذا كان الصريح ما يكون مفهوم المعنى بنفسه، وقد تكون الكناية ما لا يكون مفهوم المعنى بنفسه، فإن الحرف الواحد يجوز أن

يكون كناية نحو هاء الغائبة وكاف المخاطبة، يقول الرجل هو يفعل كذا، وهذا الهاء لا يميز اسما من اسم فتكون هذه الكناية من الصريح بمنزلة المشترك من المفسر، وكذلك كل اسم هو ضمير نحو أنا وأنت ونحن فهو كناية، وكل ما يكون متردد المعنى في نفسه فهو كناية، والمجاز قبل أن يصير متعارفا بمنزلة الكناية أيضا لما فيه من التردد، ومنه أخذت الكنية فإنها غير الاسم.
والاسم الصريح لكل شخص ما جعل علما له، ثم يكنى بالنسبة إلى ولده فيكون ذلك تعريفا له بالولد الذي هو معروف بالنسب إليه، وهذا ليس من المجاز في شئ ولكن لما كان معرفة المراد منه بغيره سمي كنية، وعلى هذا الاستعارات والتعريضات في الكلام بمنزلة الكناية فإن العرب تكني الحبشي بأبي البيضاء، والضرير بأبي العيناء، وليس بينهما اتصال بل بينهما مضادة، وقد ذكرنا أن المجاز حده الاتصال بينه وبين ما جعل مجازا عنه.
عرفنا أن الكناية غير المجاز ولكنهم يكنون بالشئ عن الشئ على وجه السخرية أو على وجه التفاؤل فيكنون عما يذم بما يمدح به على سبيل التفاؤل كما يذكرون صيغة الامر على وجه الزجر والتهديد، ويقولن تربت يداك على وجه التعطف، فبهذا يتبين أن حد الكناية غير حد المجاز.
ثم حكم الصريح ثبوت موجبه بنفسه من غير حاجة إلى عزيمة، وذلك نحو لفظ الطلاق والعتاق فإنه صريح فعلى أي وجه أضيف إلى المحل من نداء أو وصف أو خبر كان موجبا للحكم، حتى إذا قال يا حر أو يا طالق أو أنت حر أو أنت طالق أو قد حررتك أو قد طلقتك يكون إيقاعا نوى أو لم ينو لان عينه قائم مقام معناه في إيجاب الحكم لكونه صريحا فيه.
وحكم الكناية أن الحكم بها لا يثبت إلا بالنية أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال، لان في المراد بها معنى التردد فلا تكون موجبة للحكم ما لم يزل ذلك التردد بدليل يقترن بها، وعلى هذا سمى الفقهاء لفظ التحريم والبينونة من كنايات الطلاق وهو مجاز عن التسمية باعتبار معنى التردد فيما يتصل به هذا اللفظ حتى لا يكون عاملا

إلا بالنية، فسمي كناية من هذا الوجه مجازا، فأما إذا انعدم التردد بنية الطلاق فاللفظ عامل في حقيقة موجبه حتى يحصل به الحرمة والبينونة، ومعلوم أن ما يكون كناية عن غيره فإن عمله كعمل ما جعل كناية عنه، ولفظ الطلاق لا يوجب الحرمة والبينونة بنفسه، فعرفنا أنه عامل بحقيقته وإنما سمي كناية مجازا إلا قوله اعتدي فإنه كناية لاحتماله وجوها متغايرة وعند إرادة الطلاق لا يكون اللفظ عاملا في حقيقته، فإن حقيقته من باب العد والحساب وذلك محتمل عدد الاقراء وغير ذلك، فإذا نوى الطلاق وكان بعد الدخول وقع الطلاق بمقتضاه من حيث إن الاحتساب بعدد الاقراء من العدة لا يكون إلا بعد الطلاق فكأنه صرح بالطلاق، ولهذا كان الواقع رجعيا ولا يقع به أكثر من واحدة وإن نوى، وإن كان قبل الدخول يقع الطلاق به عند
النية على أنه لفظ مستعار للطلاق شرعا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة اعتدي ثم راجعها، وقال لحفصة اعتدي ثم راجعها، وكذلك قوله استبرئي رحمك، وكذلك قوله أنت واحدة فإن في قوله واحدة احتمال كونه نعتا لها أو للتطليقة فلا يتعين بدون النية وعند النية يقع الطلاق به بطريق الاضمار، أي أنت طالق تطليقة واحدة، ولهذا كان الواقع به رجعيا.
ثم الاصل في الكلام الصريح لانه موضوع للافهام، والصريح هو التام في هذا المراد فإن الكناية فيها قصور باعتبار الاشتباه فيما هو المراد، ولهذا قلنا: إن ما يندرئ بالشبهات لا يثبت بالكناية، حتى إن المقر على نفسه ببعض الاسباب الموجبة للعقوبة ما لم يذكر اللفظ الصريح كالزنا والسرقة لا يصير مستوجبا للعقوبة وإن ذكر لفظا هو كناية، ولهذا لا تقام هذه العقوبات على الاخرس عند إقراره به بإشارته لانه لم يوجد التصريح بلفظه، وعند إقامة البينة عليه لانه ربما يكون عنده شبهة لا يتمكن من إظهارها في إشارته، وعلى هذا لو قذف رجل رجلا بالزنا فقال له رجل آخر صدقت فإن الثاني لا يستوجب الحد، لان ما يلفظ به كناية عن القذف لاحتمال مطلق التصديق وجوها مختلفة، وكذلك لو قال لغيره أما أنا فلست بزان لا يلزمه حد القذف لانه تعريض وليس بتصريح بنسبته إلى الزنا فيكون قاصرا في نفسه.

فإن قيل: أليس أنه لو قذف رجل رجلا بالزنا فقال آخر هو كما قلت فإن الثاني يستوجب الحد وهذا تعريض محتمل أيضا ؟ قلنا: نعم ولكن كاف التشبيه توجب العموم عندنا في المحل الذي يحتمله، ولهذا قلنا في قول علي رضي الله عنه: إنما أعطيناهم الذمة وبدلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا: إنه مجرى على العموم فيما يندرئ بالشبهات وما يثبت مع الشبهات، فهذا الكاف أيضا موجبه العموم، لانه حصل في محل يحتمله، فيكون نسبته إلى الزنا قطعا بمنزلة كلام الاول على
ما هو موجب العام عندنا.
فصل: في بيان جملة ما تترك به الحقيقة وهي خمسة أنواع: أحدها دلالة الاستعمال عرفا، والثاني دلالة اللفظ.
والثالث سياق النظم، والرابع دلالة من وصف المتكلم، والخامس من محل الكلام.
فأما الاول فنقول: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال عرفا، لان الكلام موضوع للافهام والمطلوب به ما تسبق إليه الاوهام، فإذا تعارف الناس استعماله لشئ عينا كان ذلك بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه وما سوى ذلك - لانعدام العرف - كالمهجور لا يتناوله إلا بقرينة، ألا ترى أن اسم الدراهم عند الاطلاق يتناول نقد البلد لوجود العرف الظاهر في التعامل به ولا يتناول غيره إلا بقرينة لترك التعامل به ظاهرا في ذلك الموضع وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع الاسم له حقيقة.
وبيان هذا في اسم الصلاة فإنها للدعاء حقيقة، قال القائل: وصلي على دنها وارتسم وهي مجاز للعبادة المشروعة بأركانها، سميت به لانها شرعت للذكر، قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) وفي الدعاء ذكر وإن كان يشوبه سؤال، ثم عند الاطلاق ينصرف إلى العبادة المعلومة بأركانها سواء كان فيها دعاء أو لم يكن كصلاة الاخرس وإنما تركت الحقيقة للاستعمال عرفا.
وكذلك الحج فإن اللفظ للقصد

حقيقة ثم سميت العبادة بها لما فيها من العزيمة والقصد للزيارة فعند الاطلاق الاسم يتناول العبادة للاستعمال عرفا، والعمرة والصوم والزكاة وغيرها على هذا فإن نظائر هذا أكثر من أن تحصى، ولهذا قلنا من نذر صلاة أو حجا أو مشيا إلى بيت الله يلزمه العبادة وإن لم ينو ذلك، فالمشي إلى بيت الله تعالى غير الحج حقيقة ولكن للاستعمال عرفا ينصرف مطلق اللفظ إليه.
وكذلك لو قال لله علي أن أضرب بثوبي
حطيم الكعبة يلزمه التصدق بالثوب للاستعمال عرفا، فاللفظ حقيقة في غير ذلك.
ومن حلف أن لا يشتري رأسا ينصرف يمينه إلى ما يتعارف بيعه في الاسواق من الرؤوس على حسب ما اختلفوا فيه وكان ذلك للاستعمال عرفا، فأما من حيث الحقيقة الاسم يتناول كل رأس.
ومن حلف أن لا يأكل بيضا يتناول يمينه بيض الدجاج والاوز خاصة لاستعمال ذلك عند الاكل عرفا، ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك، وقد بينا أن العام إذا خص منه شئ يصير شبيه المجاز.
وبيان النوع الثاني وهو دلالة اللفظ فيما إذا حلف أن لا يأكل لحما فأكل لحم السمك أو الجراد لم يحنث في يمينه، لانه أطلق اللحم في لفظه ولحم السمك (أو الجراد) لا يذكر إلا بقرينة فكان قاصرا فيما يتناوله اسم مطلق اللحم، بمنزلة الصلاة على الجنازة فإنه قاصر فيما يتناوله مطلق اسم الصلاة من حيث إنه لا يذكر إلا بالقرينة، فلا يتناوله الاسم بدون القرينة.
فإن قيل: أليس أنه لو أكل لحم خنزير أو لحم إنسان فإنه يحنث في يمينه وهذا لا يذكر إلا بقرينة ؟ قلنا: نعم ولكن ذكر القرينة هنا ليس لقصور معنى اللحمية فيهما، فإن اللحم اسم معنوي موضوع لما يتولد من الدم ولا قصور في ذلك في لحم الخنزير والآدمي، فأما لحم السمك والجراد فإنه قاصر في ذلك المعنى، لانه لا دم للسمك ولا للجراد، فكذلك معنى الغذاء المطلوب باللحم لا يتم بالسمك والجراد.
فعرفنا أن القرينة فيها للقصور، ومعنى الغذاء المطلوب باللحم يتم في لحم

الخنزير والآدمي، فعرفنا أن القرينة لبيان الحرمة لا لقصور في معنى اللحمية، وليس للحرمة تأثير في المنع من إتمام شرط الحنث، وعلى هذا قلنا في قوله كل مملوك لي حر لا يدخل المكاتب بدون النية لانه تلفظ بالمملوك والمكاتب متردد بين كونه مالكا وبين كونه مملوكا فإنه مالك يدا وتصرفا مملوك رقا، وكذلك صرح بالاضافة إليه
والمكاتب مضاف إليه من وجه دون وجه، فللدلالة في لفظه لا يتناوله الكلام بدون النية ولكن يتناوله مطلق اسم الرقبة المذكورة في قوله: (أو تحرير رقبة) لانه يتناول الذات المرقوق، والرق لا ينتقض بعقد الكتابة بدليل احتمالها الفسخ واشتراط الملك بقدر ما يصح به التحرير وذلك موجود في المكاتب فيتأدى به الكفارة.
وكذلك قوله كل امرأة له طالق لا يتناول المختلعة بغير نية وإن كانت في العدة من غير النية لبقاء ملك اليد وزوال أصل ملك النكاح، وعلى عكس ما ذكرنا من معنى القصور معنى الزيادة أيضا، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: من حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو رطبا أو رمانا لم يحنث، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يحنث لان اسم الفاكهة يتناولها عند الاطلاق من غير قرينة فتكون كاملة في المعنى المطلوب بهذا الاسم، وأبو حنيفة رحمه الله يقول هي زيادة على ما هو المطلوب بالاسم لان اشتقاق اللفظ من التفكه وهو التنعم، قال تعالى: (انقلبوا فاكهين) : أي منعمين والتنعم زائد على ما به القوام، والرطب والعنب قوت يقع به القوام، والرمان في معنى الدواء وقد يقع به القوام أيضا وهو قوت في جملة التوابل وما يقع به القوام فهو زائد على التنعم، ولهذا عطف الله تعالى الفاكهة عليها وقال (وعنبا) إلى قوله: (وفاكهة وأبا) فللزيادة لا يتناولها مطلق الاسم كما أن للنقصان لا يتناول مطلق الاسم للسمك والجراد.
وكذلك لو حلف لا يأكل إداما، عند أبي حنيفة رحمه الله الادام ما يصطبغ به لانه تبع فلا يتناول ما يتأتى أكله مقصودا من الجبن والبيض واللحم، وعلى قول محمد رحمه الله يتناول ذلك لكمال معنى المؤادمة وهي الموافقة فيها كما في المسألة الاولى، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة.
وبيان النوع الثالث، وهو سياق النظم في قوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن

ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا) فإن بسياق النظم يتبين أن المراد هو الزجر
والتوبيخ دون الامر والتخيير، وكذلك قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) فإن بسياق النظم يتبين أنه ليس المراد ما هو موجب صيغة الامر بهذه الصفة.
وعلى هذا لو أقر وقال: لفلان علي ألف درهم إن شاء الله لم يلزمه شئ، ولو قال: لفلان علي ألف درهم ليس له علي شئ إن شاء الله تلزمه الالف، لان قوله ليس رجوع وصيغة قوله إن شاء الله صيغة التعليق، والارسال والتعليق كل واحد منهما متعارف بين أهل اللسان فكان ذلك من باب البيان لا من باب الرجوع ووجوب المال عليه من حكم إرسال الكلام فمع صيغة التعليق لا يلزمه حكم الارسال باعتبار سياق النظم.
وقال في السير الكبير: لو قال مسلم لحربي محصور انزل فنزل كان آمنا، ولو قال انزل إن كنت رجلا فنزل كان فيئا، ولو قال له الحربي المأسور في يده الامان الامان وقال المسلم في جوابه الامان الامان كان آمنا حتى لو أراد قتله بعد هذا فعلى أمراء الجيش أن يمنعوه من ذلك ولا يصدقونه في قوله أردت رد كلامه، ولو قال الامان الامان ستعلم ما تلقى أو قال الامان الامان تطلب أو قال لا تعجل حتى ترى لم يكن ذلك أمانا بدلالة سياق النظم.
وكذلك لو قال لغيره اصنع في مالي ما شئت إن كنت رجلا أو قال طلق زوجتي إن كنت رجلا لم يكن توكيلا.
ولو قال لغيره: لي عليك ألف درهم فقال الآخر لك علي ألف درهم ما أبعدك من ذلك لم يكن إقرارا.
فعرفنا أن بدليل سياق النظم تترك الحقيقة.
وبيان النوع الرابع: في قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) فإن كل واحد يعلم بأنه ليس بأمر لانه لا يجوز أن يظن ظان بأن الله تعالى يأمر بالكفر بحال، فتبين بأن المراد الاقدار والامكان لعلمنا أن ما يأتي به اللعين يكون بإقدار الله تعالى عليه إياه، وكذلك قول القائل اللهم اغفر لي يعلم أنه سؤال لا أمر لوصف المتكلم وهو أن العبد المحتاج إلى نعمة مولاه لا يطلب منه النعمة إلزاما وإنما يسأله ذلك سؤالا، وعلى هذا قلنا إذا قال لغيره تعال

تغد عندي فقال والله لا أتغدى ثم رجع إلى بيته فتغدى لا يحنث لان المتكلم دعاه إلى الغداء الذي بين يديه وقد أخرج كلامه مخرج الجواب، فإذا تقيد الخطاب بالمعلوم من إرادة المتكلم يتقيد الجواب أيضا به.
وكذلك لو قامت امرأة لتخرج فقال لها إن خرجت فأنت طالق فرجعت ثم خرجت بعد ذلك اليوم لم تطلق، وعلى هذا لو قالت له زوجته إنك تغتسل في هذه الدار الليلة من الجنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر ثم اغتسل فيها في (غير) تلك الليلة أو في تلك الليلة من غير الجنابة لم يحنث.
وبيان النوع الخامس: في قوله تعالى: (وما يستوي الاعمى والبصير) فإن بدلالة محل الكلام يعلم أنه ليس المراد نفي المساواة بينهما على العموم بل فيما يرجع إلى البصر فقط، وقد قلنا إن لفظ العموم في غير المحل القابل للعموم يكون بمعنى المجمل فلا يثبت به إلا ما يتيقن أنه مراد به ويكون ذلك شبه المجاز لدلالة محل الكلام، وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله في قوله عليه السلام: الاعمال بالنيات وفي قوله عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه إنه لا يقتضي العموم وارتفاع الحكم، لان بمحل الكلام يتبين أنه ليس المراد أصل العمل فإن ذلك يتحقق بغير النية ومع الخطأ والنسيان والاكراه، فإما أن يكون المراد الحكم أو الاثم، ولا يجوز أن يقال كل واحد منهما مراد لانهما يبتنيان على معنيين متغايرين فإن الثواب على العمل الذي هو عبادة والاثم بالعمل الذي هو محرم يبتني على العزيمة والقصد، والجواز والفساد الذي هو حكم يبتني على الاداء بالاركان والشرائط، ألا ترى أن من توضأ بالماء النجس وهو لا يعلم به فصلى لم تجز صلاته مطلقا حتى لو علم لزمه الاعادة ومع ذلك إذا لم يعلم ولم يكن منه التقصير كان مطيعا باعتبار قصده وعزيمته فيكون هذا بمنزلة المشترك الذي لا عموم له لتغاير المعنى فيما يحتمله فلا يجوز الاحتجاج به في حكم
الجواز والفساد إلا بدليل يقترن به فيصير كالمؤول حينئذ، فأما ما يعترض من الدليل

الموجب للنسخ أو التخصيص فليس من هذا الباب في شئ، وإنما هذا الباب لمعرفة الوجوه فيما يقترن بالكلام فيصير حقيقة ودليل النسخ والتخصيص كلام معارض إلا أن النسخ معارض صورة وحقيقة والتخصيص معارض صورة، وبيان معنى حتى لا يكون إلا بالمقارن ولكن ذلك المقارن إنما يتبين بما هو نسخ مبتدأ صيغة، فعرفنا أنه ليس من هذا الباب في شئ.
قال رضي الله عنه: والعراقيون من مشايخنا رحمهم الله يزعمون أنه لا عموم للنصوص الموجبة لتحريم الاعيان نحو قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) وقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) وقوله عليه السلام: حرمت الخمر لعينها وقالوا امتنع ثبوت حكم العموم في هذه الصورة معنى لدلالة محل الكلام وهو أن الحل والحرمة لا تكون وصفا للمحل وإنما تكون وصفا لافعالنا في المحل حقيقة فإنما يصير المحل موصوفا به مجازا وهذا غلط فاحش، فإن الحرمة بهذه النصوص ثابتة للاعيان الموصوفة بها حقيقة، لان إضافة الحرمة إلى العين تنصيص على لزومه وتحققه فيه، فلو جعلنا الحرمة صفة للفعل لم تكن العين حراما، ألا ترى أن شرب عصير الغير وأكل مال الغير فعل حرام ولم يكن ذلك دليلا على حرمة العين ولزوم هذا الوصف للعين، ولكن عمل هذه النصوص في إخراج هذه المحال من أن تكون قابلة للفعل الحلال وإثبات صفة الحرمة لازمة لاعيانها فيكون ذلك بمنزلة النسخ الذي هو رفع حكم وإثبات حكم آخر مكانه، فبهذا الطريق تقوم العين مقام الفعل في إثبات صفة الحرمة والحل له حقيقة، وهذا إذا تأملت في غاية التحقيق، فمع إمكان العمل بهذه الصيغة جعل هذه الحرمات مجازا باعتبار أنها صفة للفعل لا للمحل يكون خط فاحشا.

فصل: في إبانة طريق المراد بمطلق الكلام قد بينا أن الكلام ضربان: حقيقة ومجاز، وأنه لا يحمل على المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة، فتمس الحاجة إلى معرفة الحقيقة والمجاز، والطريق في ذلك هو النظر في السبب الداعي إلى تعريف ذلك الاسم في الاسماء الموضوعة لا لمعنى، وإلى تعريف المعنى في المعنويات، فما كان أقرب في ذلك فهو أحق، وما كان أكثر إفادة فهو أولى بأن يجعل حقيقة، وذلك يكون بطريقين: التأمل في محل الكلام، والتأمل في صيغة الكلام.
أما بيان التأمل في المحل في اختلاف العلماء في موجب العام فعند بعضهم موجبه عند الاطلاق أخص الخصوص، وعندنا موجبه العموم، وما قلناه أحق لانه إذا حمل على أخص الخصوص يبقى بعض ما تناوله مطلق الكلام غير مراد به، والمراد بالكلام تعريف ما وضع الاسم له، فإذا كان صيغة العام موضوعا لمعنى العموم كان حمله عليه عند الاطلاق أحق، ولان الخاص اسم آخر وهو ما وضع له صيغة الخاص فلو جعلنا صيغة العام تناولا للخاص أيضا فقط كان ذلك تكرارا محصنا، وإذا كان المقصود بوضع الاسماء في الاصل إعلام المراد فحمل لفظين على شئ واحد يكون تكرارا وإخراجا لاحد اللفظين من أن يكون مفيدا.
فإن قيل: فائدته التأكيد وتوسيع الكلام، قلنا: نعم ولكن هذا في الفائدة دون الفائدة المطلوبة بأصل الوضع، والاطلاق يوجب الكمال فإذا حمل كل واحد من اللفظين على فائدة جديدة باعتبار أصل الوضع كان ذلك أولى من أن يحمل على التكرار لتوسعة الكلام، فهذان الدليلان من محل الكلام قبل التأمل في صيغة اللفظ ولهذا حملنا قوله تعالى: (أو لامستم النساء) على المجامعة دون المس باليد لانه إذا حمل على المس باليد كان تكرارا لنوع حدث واحد، وإذا حمل على المجامعة كان
بيانا لنوعي الحدث وأمرا بالتيمم لهما فيكون أكثر فائدة مع أنه معطوف على

ما سبق والسابق ذكر نوعي الحدث، فإن قوله: (إذا قمتم إلى الصلاة) : أي وأنتم محدثون، ثم قال تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) ثم قال تعالى: (وإن كنتم مرضى) إلى قوله: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) فبدلالة محل الكلام يتبين أن المراد الجماع دون المس باليد.
وبيان الدلالة من صيغة الكلام في قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) قال علماؤنا رحمهم الله: اللغو ما يكون خاليا عن فائدة اليمين شرعا ووضعا، فإن فائدة اليمين إظهار الصدق من الخبر فإذا أضيف إلى خبر ليس فيه احتمال الصدق كان خاليا عن فائدة اليمين فكان لغوا.
وقال الشافعي رحمه الله: اللغو ما يجري على اللسان من غير قصد، ولا خلاف في جواز إطلاق اللفظ على كل واحد منهما.
ولكن ما قلناه أحق لان ما يجري على لسانه من غير قصد له اسم آخر موضوع وهو الخطأ الذي هو ضد العمد أو السهو الذي هو ضد التحفظ، فأما ما يكون خاليا عن الفائدة لمعنى في نفسه لا بحال المتكلم فليس له اسم موضوع سوى أنه لغو فحمله عليه أولى، ألا ترى إلى قوله: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) يعني الكلام الفاحش الذي هو خال عن فائدة الكلام بطريق الحكمة دون ما يجري من غير قصد فإن ذلك لا عتب فيه، وقال تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) وقال تعالى: (والغوا فيه لعلكم تغلبون) ومعلوم أن مراد المشركين التعنت أي إن لم تقدروا على المغالبة بالحجة فاشتغلوا بما هو خال عن الفائدة من الكلام ليحصل مقصودكم بطريق المغالبة دون المحاجة ولم يكن مقصودهم التكلم بغير قصد، وقال تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) : أي صبروا عن الجواب وذلك في الكلام الخالي عن الفائدة دون ما يجري من غير قصد، ولان فساد ما يجري
من غير قصد باعتبار معنى في المحل وهو القلب الذي هو السبب الباعث على التكلم، وفساد مالا فائدة فيه باعتبار معنى في نفس الكلام فكان هو أقرب إلى الحقيقة فيحمل اللفظ عليه عند الاطلاق.
وكذا اختلفوا في العقد فقال الخصم: العقد عبارة

عن القصد فإن العزيمة سميت عقيدة.
وقلنا: العقد اسم لربط كلام بكلام نحو ربط لفظ اليمين بالخبر الذي فيه رجاء الصدق لايجاب حكم (بكلام) وهو الصدق منه، وكذلك ربط البيع بالشراء لايجاب حكمه وهو الملك فكان ما قلناه أقرب إلى الحقيقة، لان الكلمة باعتبار الوضع من عقد الحبل وهو شد بعضه ببعض وضده الحل، منه تقول العرب: يا عاقدا ذكر حلا، وقال القائل: ولقلب المحب حل وعقد ثم يستعار (لربط الايجاب بالقبول على وجه ينعقد أحدهما بالآخر حكما فيسمى عقدا ثم يستعار) لما يكون سببا لهذا الربط وهو عزيمة القلب فكان ذلك دون العقد الذي هو ضد الحل فيما وضع الاسم له فحمله عليه يكون أحق.
ومن ذلك ما قلنا في قوله تعالى: (ثلاثة قروء) إنها الحيض دون الاطهار، لان اللفظ إما أن يكون مأخوذا من القرء الذي هو الاجتماع، قال تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) وقال القائل: هجان اللون لم يقر أجنبيا وهذا المعنى في الحيض أحق، لان معنى الاجتماع في قطرات الدم على وجه لا بد منه ليكون حيضا فإنه ما لم تمتد رؤية الدم لا يكون حيضا وإن كان الدم يجتمع في حالة الطهر في رحمها فالاسم حقيقة للدم المجتمع، ثم زمانه يسمى به مجازا وإن كان مأخوذا من الوقت المعلوم كما قال القائل: إذا هبت لقارئها الرياح
وقال آخر: له قرء كقرء الحائض فذلك بزمان الحيض أليق، لانه هو الوقت المعلوم الذي يحتاج إلى إعلامه لمعرفة ما تعلق به من الاحكام، وإن كان مأخوذا من معنى الانتقال كما يقال: قرأ النجم إذا انتقل، فحقيقة الانتقال تكون بالحيض لا بالطهر، إذ الطهر أصل، فباعتبار صيغة اللفظ يتبين أن حمله على الحيض أحق،

وكذلك لفظ النكاح فإنما نحمله على الوطئ والخصم على العقد، وما قلناه أحق لان الاسم في أصل الوضع لمعنى الضم والالتزام يقول القائل أنكح الصبر أي التزمه وضمه إليك، ومعنى الضم في الوطئ يتحقق بما يحصل من معنى الاتحاد بين الواطئين عند ذلك الفعل ولهذا يسمى جماعا، ثم العقد يسمى نكاحا باعتبار أنه سبب يتوصل به إلى ذلك الضم، فبالتأمل في صيغة اللفظ يتبين أن الوطئ أحق به إلا في الموضع الذي يتعذر حمله عليه فحينئذ يحمل على ما هو مجاز عنه وهو العقد، وهذا هو الحكم في كل لفظ محتمل للحقيقة والمجاز أنه إذا تعذر حمله على الحقيقة يحمل على المجاز لتصحيح الكلام، وهذا التعذر إما لعدم الامكان أو لكونه مهجورا عرفا أو لكونه مهجورا شرعا، فالذي هو متعذر نحو ما إذا حلف أن لا يأكل من هذه النخلة أو من هذه الكرمة فإن يمينه تنصرف إلى الثمرة لان ما هو الحقيقة في كلامه متعذر، وأما المهجور عرفا فنحو ما إذا حلف أن لا يشرب من هذه البئر فإنه ينصرف يمينه إلى الشرب من ماء البئر لان الحقيقة وهو الكرع في البئر مهجورة، واختلف مشايخنا أنه إذا كرع هل يحنث أم لا ؟ فمنهم من يقول يحنث أيضا لان الحقيقة لا تتعطل وإن حمل اللفظ على المجاز، وسواء أخذ الماء في كوز وشربه أو كرع في البئر فقد شرب ماء البئر فيحنث، ومنهم من يقول لا يحنث، لانه لما صار المجاز مرادا سقط اعتبار الحقيقة على ما قال في الجامع: لو قال لاجنبية إن نكحتك فعبدي حر ينصرف يمينه إلى العقد دون الوطئ.
ولو قال لزوجته: إن نكحتك ينصرف إلى الوطئ
دون العقد حتى لو أبانها ثم تزوجها لم يحنث ما لم يطأها.
ولو قال للمطلقة الرجعية: إن راجعتك ينصرف إلى الرجعة دون ابتداء العقد، ولو قال للمبانة: إن راجعتك ينصرف إلى ابتداء العقد ولكن الاول أوجه لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز في كونه مرادا باللفظ بل باعتبار عموم المجاز وهو شرب ماء البئر بأي طريق شربه، وعلى هذا قلنا مطلق التوكيل بالخصومة ينصرف إلى الجواب وإن كان ذلك مجازا لان الحقيقة مهجورة شرعا، فإن المدعي إذا كان محقا فالمدعي عليه لا يملك الانكار شرعا ولا يجوز له التوكيل بذلك فيحمل اللفظ على المجاز عند الاطلاق، ثم يصح منه الانكار والاقرار باعتبار معنى عموم المجاز وهو أنه جواب للخصم.
ومن حلف أن لا يكلم هذا الصبي فكلمه بعدما صار شيخا يحنث باعتبار أن الحقيقة مهجورة

شرعا فإن الصبي سبب للترحم شرعا لا للهجران فيتعين المجاز لهذا.
وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى، والله أعلم.
باب: بيان معاني الحروف المستعملة في الفقه قال رضي الله عنه: اعلم بأن الكلام عند العرب اسم وفعل وحرف، وكما يتحقق معنى الحقيقة والمجاز في الاسماء والافعال فكذلك يتحقق في الحروف، فمنه ما يكون مستعملا في حقيقته، ومنه ما يكون مجازا عن غيره، وكثير من مسائل الفقه تترتب على ذلك فلا بد من بيان هذه الحروف وذكر الطريق في تخريج المسائل عليها.
فأولى ما يبدأ به من ذلك حروف العطف.
الاصل فيه الواو فلا خلاف أنه للعطف (ولكن عندنا هو للعطف) مطلقا فيكون موجبه الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر من غير أن يقتضي مقارنة أو ترتيبا، وهو قول أكثر أهل اللغة.
وقال بعض أصحاب الشافعي رحمه الله: إنه موجب للترتيب، وقد ذكر ذلك الشافعي في أحكام القرآن، وكذلك
جعل الترتيب ركنا في الوضوء لان في الآية عطف اليد على الوجه بحرف الواو فيجب الترتيب بهذا النص، ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند السعي بأيهما نبدأ قال: ابدؤوا بما بدأ الله تعالى يريد به قوله تعالى: (إن الصفا والمروة) ففي هذا تنصيص على أن موجب الواو الترتيب، وما وجب ترتيب السجود على الركوع إلا بقوله تعالى: (اركعوا واسجدوا) ولكنا نقول: هذا من باب اللسان، فطريق معرفته التأمل في كلام العرب وفي الاصول الموضوعة عند أهل اللغة، بمنزلة ما لو وقعت الحاجة إلى معرفة حكم الشرع يكون طريقه التأمل في النصوص من الكتاب والسنة والرجوع إلى أصول الشرع، وعند التأمل في كلام العرب وأصول اللغة يتبين أن الواو لا توجب الترتيب، فإن القائل يقول: جاءني زيد وعمرو يفهم من هذا الاخبار مجيئهما من غير

مقارنة ولا ترتيب حتى يكون صادقا في خبره، سواء جاءه عمرو أولا ثم زيد أو زيد ثم عمرو أو جاءا معا.
وكذلك وضعوا الواو للجمع مع النون يقولون: جاءني الزيدون أي زيد وزيد وزيد، والقائل يقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن فيفهم منه المنع من الجمع بينهما دون الترتيب على ما قال القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ولو وضع مكان الواو هنا الفاء لم يكن الكلام مستقيما، فالفاء توجب ترتيبا من حيث إنه للتعقيب مع الوصل، فلو كان موجب الواو الترتيب لم يختل الكلام بذكر الفاء مكانه، وكذلك يتبدل الحكم أيضا إذا ذكر الواو مكان الفاء، فإن من يقول لامرأته: إن دخلت الدار وأنت طالق تطلق في الحال، فلو كان موجب الواو الترتيب لكان هو بمنزلة الفاء فينبغي أن يتأخر الطلاق إلى وجود الشرط.
وأما من حيث الوضع لغة فلانهم وضعوا كل حرف ليكون دليلا على معنى مخصوص كما فعلوا
في الاسماء والافعال، فالاشتراك لا يكون إلا لغفلة من الواضع أو لعذر، وتكرار اللفظ لمعنى واحد يوجب إخلاءه عن الفائدة كما قررنا فلا يليق ذلك بالحكمة.
ثم إنهم وضعوا الفاء للوصل مع التعقيب، وثم للتعقيب مع التراخي، ومع للقران.
فلو قلنا بأن الواو توجب القران أو الترتيب كان تكرارا باعتبار أصل الوضع، ولو قلنا إنه يوجب العطف مطلقا لكان لفائدة جديدة باعتبار أصل الوضع، ثم يتنوع هذا العطف أنواعا لكل نوع منه حرف خاص.
ونظيره من الاسماء الانسان فإنه للآدمي مطلقا ثم يتنوع أنواعا لكل نوع منه اسم خاص بأصل الوضع والتمر كذلك.
وهو نظير ما قلنا في اسم الرقبة إنه للذات مطلقا من غير أن يكون دالا على معنى التقييد بوصف فكذلك الواو للعطف (مطلقا) باعتبار أصل الوضع، ولهذا قلنا: المنصوص عليه في آية الوضوء الغسل والمسح من غير ترتيب ولا قران، ثم كان الترتيب باعتبار فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك للاكمال فيتأدى الركن بما هو المنصوص وتتعلق صفة الكمال بمراعاة الترتيب فيه.
وكذلك في قوله

تعالى: (اركعوا واسجدوا) فإنا ما عرفنا الترتيب بهذا النص إذ النصوص فيه متعارضة، فإنه تعالى قال: (واسجدي واركعي مع الراكعين) ولكن مراعاة ذلك الترتيب بكون الركوع مقدمة السجود والقيام مقدمة الركوع على ما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وكذلك قوله تعالى: (إن الصفا والمروة) فإن مراعاة الترتيب بينهما ليس باعتبار هذا النص ففي النص بيان أنهما من شعائر الله ولا ترتيب في هذا وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابدؤوا بما بدأ الله تعالى على وجه التقريب إلى الافهام لا لبيان أن الواو توجب الترتيب، فإن الذي يسبق إلى الافهام في مخاطبات العباد أن البدائية تدل على زيادة العناية فيظهر بها نوع قوة صالحة للترجيح، ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله فيمن أوصى بقرب لا تسع الثلث لها فإنه
يبدأ بما بدأ به الموصي إذا استوت في صفة اللزوم، لان البداية تدل على زيادة الاهتمام، وقد زعم بعض مشايخنا أن معنى الترتيب يترجح في العطف الثابت بحرف الواو في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله يترجح معنى القران، وخرجوا على هذا ما إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فدخلت فإنها تطلق واحدة عند أبي حنيفة باعتبار أنه مترتب وقوع الثانية على الاولى وهي تبين في الاولى لا إلى عدة، وعندهما تقع الثلاث عليها باعتبار أنهن يقعن جملة عند الدخول معا، وهذا غلط فلا خلاف بين أصحابنا أن الواو للعطف مطلقا إلا أنهما يقولان موجبه الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر.
وقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق جملة تامة، وقوله وطالق جملة ناقصة لانه ليس فيها ذكر الشرط فباعتبار العطف يصير الخبر المذكور في الجملة التامة كالمعاد في الجملة الناقصة، فيتعلق كل تطليقة بالدخول بلا واسطة وعند الدخول ينزلن جملة كما لو كرر ذكر الشرط مع كل تطليقة، ألا ترى أنه إذا قال: جاءني زيد وعمرو كان المفهوم من هذا ما هو المفهوم من قوله: جاءني زيد جاءني عمرو.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الواو للعطف وإنما يتعلق الطلاق بالشرط كما علقه وهو علق الثانية بالشرط بواسطة الاولى، فإن من ضرورة العطف هذه الواسطة، فالاولى تتعلق بالشرط بلا واسطة والثاني بواسطة الاولى، بمنزلة القنديل المعلق بالحبل بواسطة الحلق، ثم عند وجود الشرط ينزل ما تعلق فينزل كما تعلق، ولكنهما

يقولان هذا أن لو كان المتعلق بالشرط طلاقا وليس كذلك بل المتعلق ما سيصير طلاقا عند وجود الشرط إذا وصل إلى المحل، فإنه لا يكون طلاقا بدون المحل.
ثم هذه الواسطة في الذكر فتتفرق به أزمنة التعليق وذلك لا يوجب التفرق في الوقوع كما لو كرر الشرط في كل تطليقة وبينهما أيام.
وما قاله أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى
مراعاة حقيقة اللفظ ومعلوم أنه عند وجود الشرط ذلك الملفوظ به يصير طلاقا، فإذا كان من ضرورة العطف إثبات هذه الواسطة ذكرا فإن عند وجود الشرط يصير ذلك طلاقا واقعا ومن ضرورة تفرق الوقوع أن لا يقع إلا واحدة فإن هذا تبين به لا إلى عدة كما لو نجز فقال أنت طالق وطالق وطالق.
وقال مالك في التنجيز أيضا تطلق ثلاثا لان الواو توجب المقارنة، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار تطلق ثلاثا عند الدخول جملة.
وهذا غلط فإن للقران حرفا موضوعا وهو مع فلو حملنا الواو عليه كان تكرارا، وإذا أخر الشرط في التعليق إنما تطلق ثلاثا لا بهذا المعنى بل لان الاصل في الكلام المعطوف أنه متى كان في آخره ما يغير موجب أوله توقف أوله على آخره، ولهذا لو ذكر استثناء في آخر الكلام بطل الكل به فكذلك إذا ذكر شرطا، لان بالتعليق بالشرط تبين أن المذكور أولا ليس بطلاق، وإذا توقف أوله على آخره تعلق الكل بالشرط جملة، وإذا كان الشرط سابقا فليس في آخر الكلام ما يغير موجب أوله.
وكذلك في التنجيز فإن الاول طلاق سواء ذكر الثاني أو لم يذكر، فإذا لم يتوقف أوله على آخره بانت بالاولى فلغت الثانية والثالثة لانعدام محل الوقوع لا لفساد في التكلم أو العطف.
ثم على قول أبي يوسف رحمه الله تقع الاولى قبل أن يفرغ من التكلم بالثانية، وعند محمد عند الفراغ من التكلم بالثانية تقع الاولى لجواز أن يلحق بكلامه شرطا أو استثناء مغيرا.
وما قاله أبو يوسف أحق فإنه ما لم يقع الطلاق لا يفوت المحل، فلو كان وقوع الاولى بعد الفراغ من التكلم بالثانية لوقعا جميعا لوجود المحل مع صحة التكلم بالثانية.
وعلى هذا قال زفر رحمه الله: لو قال لغير

المدخول بها: أنت طالق واحدة وعشرين تطلق واحدة، لان الواو للعطف فتبين بالواحدة قبل ذكر العشرين.
ولكنا نقول: تلك كلمة واحدة حكما لانه لا يمكنه
أن يعبر عن هذا العدد بعبارة أوجز من هذا، وعطف البعض على البعض يتحقق في كلمتين لا في كلمة واحدة فإنما يقع هنا عند تمام الكلام فتطلق ثلاثا، كما لو قال واحدة ونصفا تطلق اثنتين، لانه ليس لما صرح به عبارة أوجز من ذلك فكانت كلمة واحدة حكما، وعند زفر تطلق واحدة.
وعلى هذا الاصل ما قال في الجامع: لو تزوج أمتين بغير إذن مولاهما ثم أعتقهما المولى معا جاز نكاحهما.
ولو قال: أعتقت هذه وهذه جاز نكاح الاولى وبطل نكاح الثانية لانه ليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله فنكاح الاولى صحيح أعتق الثانية أو لم يعتق، وبنفوذ العتق في الاولى تنعدم محلية النكاح في حق الثانية لان الامة ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة.
ومثله لو زوج منه رضيعتين في عقدين بغير رضاه فأرضعتهما امرأة ثم أجاز الزوج نكاحهما معا بطل نكاحهما.
ولو قال: أجزت نكاح هذه وهذه بطل نكاحهما أيضا لان في آخر كلامه ما يغير موجب أوله فإن بآخر الكلام يثبت الجمع بين الاختين نكاحا وذلك مبطل لنكاحهما فيتوقف أول الكلام على آخره.
وكان الفراء يقول الواو للجمع والمجموع بحرف الواو كالمجموع بكناية الجمع، وعندنا الواو للعطف والاشتراك على أن يصير كل واحد من المذكورين كأنه مذكور وحده لا على وجه الجمع بينهما ذكرا.
وبيان هذا فيما إذا كان لرجل ثلاثة أعبد فقال: هذا حر أو هذا وهذا فإنه يخير في الاولين ويعتق الثالث عينا، كأنه قال هذا حر أو هذا حر، وعند الفراء يخير فإن شاء أوقع العتق على (الاول وإن شاء على) الثاني والثالث، لانه جمع بينهما بحرف الواو فكأنه جمع بكناية الجمع فقال هذا حر وهذان.
واستدل بما قال في الجامع: رجل مات وترك ثلاثة أعبد قيمتهم سواء وترك ابنا فقال الابن أعتق والدي هذا في مرضه وهذا وهذا، يعتق من كل واحد منهم ثلثه بمنزلة ما لو قال أعتقهم.
ولو قال: أعتق هذا وسكت ثم قال وهذا

ثم سكت ثم قال هذا يعتق الاول كله ومن الثاني نصفه ومن الثالث ثلثه.
ولكنا نقول: لا وجه لتصحيح كلامه على ما قاله الفراء لان خبر المثنى غير خبر الواحد يقال للواحد حر وللاثنين حران والمذكور في كلامه من الخبر قوله حر فإذا لم يجعل كان كل واحد من الآخرين منفردا بالذكر لا يصلح أن يكون الخبر المذكور خبرا لهما والعطف للاشتراك في الخبر لا لاثبات خبر آخر، وإذا جعلنا الثالث كالمنفرد بالذكر صار كأنه قال أحد هذين حر وهذا فيكون فيه ضم الثالث إلى المعتق من الاولين لا إلى غير المعتق فلهذا عتق الثالث.
ومسألة الجامع إنما تخرج على الاصل الذي بينا، فإن في آخر كلامه ما يغير موجب أوله لان موجب أول الكلام عتق الاول مجانا بغير سعاية ويتغير ذلك بآخر كلامه عند أبي حنيفة رحمه الله لان المستسعي بمنزلة المكاتب (عنده) فيتغير حكم أصل العتق، وعندهما يتغير حكم البراءة عن السعاية، فلهذا توقف أوله على آخره.
واختلفوا في عطف الجملة التامة على الجملة التامة بحرف الواو نحو ما إذا قال: زينب طالق ثلاثا وعمرة طالق فإنما تطلق عمرة واحدة وكل واحد من الكلامين جملة تامة لانه ابتداء وخبر فالواو بينهما عند بعض مشايخنا لمعنى الابتداء يحسن نظم الكلام كما في قوله تعالى: (والراسخون في العلم) وقوله تعالى: (ويمحو الله الباطل) وقوله تعالى في حكم القذف: (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) فإنه ابتداء عندنا.
قال رضي الله عنه: والاصح أن هذا الواو للعطف أيضا عندي إلا أن الاشتراك في الخبر ليس من حكم بمجرد العطف بل باعتبار حاجة المعطوف إليه إذا لم يذكر خبرا ولا حاجة إذا ذكر له خبرا، ولهذا عند الحاجة جعلنا خبر المعطوف عين ما هو خبر المعطوف عليه إذا أمكن لا غيره، لان الحاجة ترتفع بعين ذلك، حتى إذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار الاخرى فإنما يتعلق بدخول الدار الثانية تلك التطليقة لا غيرها، حتى لو دخلت الدارين لم تطلق إلا واحدة،
فأما إذا تعذر ذلك بأن يقول: فلانة طالق وفلانة فإنه يقع على الثانية غير ما وقع على الاولى لان الاشتراك بينهما في تطليقة واحدة لا يتحقق، بمنزلة قوله: جاءني زيد

وعمرو فإنه إخبار عن مجئ كل واحد منهما بفعل على حدة لان مجيئهما بفعل واحد لا يتحقق.
وعلى هذا الاصل الذي بينا أن الواو لا توجب الترتيب يخرج ما قال في كتاب الصلاة: وينوي بالتسليمة الاولى من عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء، فإن مراده العطف لا الترتيب.
وكذلك مراده مما قال في الجامع الصغير: من الرجال والنساء والحفظة فإن الترتيب (في النية) لا يتحقق، فعرفنا أن المراد يجمعهم في نيته.
وقد تكون الواو بمعنى الحال لمعنى الجمع أيضا فإن الحال يجامع ذا الحال، ومنه قوله تعالى: (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها) : أي جاؤوها حال ما تكون أبوابها مفتوحة.
وعلى هذا قال في المأذون إذا قال لعبده: أد إلي ألفا وأنت حر إنه لا يعتق ما لم يؤد لان الواو بمعنى الحال فإنما جعله حرا عند الاداء وقال في السير: إذا قال افتحوا الباب وأنتم آمنون لا يأمنون ما لم يفتحوا لانه آمنهم حال فتح الباب، وإذا قال لامرأته: أنت طالق وأنت مريضة تطلق في الحال لان الواو للعطف في الاصل فلا يكون شرطا، فإن قال عنيت إذا مرضت يدين فيما بينه وبين الله تعالى لانه عني بالواو الحال وذلك محتمل فكأنه قال في حال مرضها.
وكذلك لو قال: أنت طالق وأنت تصلين أو وأنت مصلية.
وقال في المضاربة: إذا قال خذ هذه الالف واعمل بها مضاربة في البز فإنه لا يتقيد بصرفه في البز وله أن يتجر فيها ما بدا له من وجوه التجارات لان الواو للعطف فالاطلاق الثابت بأول الكلام لا يتغير بهذا العطف.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا قالت المرأة لزوجها طلقني ولك ألف درهم فطلقها تجب الالف عليها، وكذلك لو قال الزوج أنت طالق وعليك ألف درهم فقبلت تجب الالف.
وفيه طريقان لهما: أحدهما أنه استعمل الواو بمعنى الباء مجازا فإن ذلك
معروف في القسم إذ لا فرق بين قوله والله وبين قوله بالله، وإنما حملنا على هذا المجاز بدلالة المعاوضة فإن الخلع عقد معاوضة فكان هذا بمنزلة ما لو قال احمل هذا المتاع إلى منزلي ولك درهم، والثاني أن هذا الواو للحال فكأنها قالت طلقني في حال ما يكون لك علي ألف درهم، وإنما حملنا على هذا لدلالة المعاوضة كما في قوله أد إلي ألفا وأنت

طالق، بخلاف المضاربة فلا معنى لحرف الباء هناك حتى يجعل الواو عبارة عنه، ولا يمكن حمله على معنى الحال لانعدام دلالة المعاوضة فيه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول تطلق ولا شئ عليها لان الواو للعطف حقيقة وباعتبار هذه الحقيقة لا يمكن أن يجعل الالف بدلا عن الطلاق فلو جعل بدلا إنما يجعل بدلالة المعاوضة وذلك في الطلاق زائد فإن الطلاق في الغالب يكون بغير عوض، ألا ترى أن بذكر العوض يصير كلام الزوج بمعنى اليمين حتى لا يمكنه أن يرجع عنه قبل قبولها ولا يجوز ترك الحقيقة باعتبار دليل زائد على ما وضع له في الاصل، بخلاف الاجارة فإنه عقد مشروع بالبدل لا يصح بدونه فأمكن حمل اللفظ على المجاز باعتبار معنى المعاوضة فيه لانه أصل، وإنما يجعل الواو للحال إذا كان بصيغة تحتمل ذلك كما في قوله أد وأنت حر انزل وأنت آمن فإن صيغة كلامه للحال لانه خاطبه بالاول والآخر بصيغة واحدة ويتحقق عتقه في حالة الاداء ويتحقق أمانه في حالة النزول، لان المقصود أن يعلم بمحاسن الشريعة فعسى يؤمن وذلك حالة النزول.
فأما قوله خذ هذه الالف واعمل بها في البز فليس في هذه الصيغة احتمال الحال لان البز لا يكون حالا لعمله، وقوله أنت طالق وأنت مريضة للعطف حقيقة ولكن فيه احتمال الحال إذ الطلاق يتحقق في حال المرض، فلاعتبار الظاهر لا يدين في القضاء، ولاحتمال كونه محتملا تعمل نيته.
فصل
وأما الفاء فهو للعطف، وموجبه التعقيب بصفة الوصل، فيثبت به ترتيب وإن لطف ذلك، لما بينا أن كل حرف يختص بمعنى في أصل الوضع، إذ لو لم يجعل كذلك خرج من أن يكون مفيدا، فالمعنى الذي اختص به الفاء ما بينا، ألا ترى أن أهل اللسان وصلوا حرف الفاء بالجزاء وسموه حرف الجزاء لان الجزاء يتصل بالشرط على أن يتعقب نزوله وجود الشرط بلا فصل، وكذلك يستعمل حرف الفاء لعطف الحكم

على العلة، يقال: جاء الشتاء فتأهب، ويقال: ضرب فأوجع أي بذلك الضرب، وأطعم فأشبع، أي بذلك الطعام، وعلى هذا قوله عليه السلام: لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه: أي بذلك الشراء، ولهذا جعلنا الشراء إعتاقا في القريب بواسطة الملك.
ويقول: خذ من مالي ألف درهم فصاعدا، أي فما يزداد عليه فصاعدا وارتفاعا.
وعلى هذا الاصل قال علماؤنا رحمهم الله فيمن قال لغيره: بعت منك هذا العبد بألف درهم وقال المشتري فهو حر فإنه يعتق ويجعل قابلا ثم معتقا، بخلاف ما لو قال هو حر أو وهو حر فإنه يكون ردا للايجاب لا قبولا فلا يعتق.
ولو قال لخياط: انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصا فقال نعم قال فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه قميصا كان الخياط ضامنا لان الفاء للوصل والتعقيب فكأنه قال فإن كفاني قميصا فاقطعه، بخلاف ما لو قال اقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه قميصا فإنه لا يكون ضامنا لوجود الاذن مطلقا.
وقد قال بعض مشايخنا: إذا قال لغير المدخول بها: إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق فدخلت إنها تطلق واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله باعتبار أن الفاء يجعل مستعارا عن الواو مجازا لقرب أحدهما من الآخر.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن هاهنا تطلق واحدة عندهم جميعا.
لان الفاء للتعقيب فيثبت به ترتيب بين الثانية والاولى في الوقوع ومع الترتيب لا يمكن إيقاع الثانية لانها تبين بالاولى ومع إمكان اعتبار الحقيقة لا معنى للمصير إلى المجاز.
والدليل
على أن الصحيح هذا ما قال في الجامع: إن دخلت هذه الدار فدخلت هذه الدار الاخرى فأنت طالق فإن الشرط أن تدخل الثانية بعد دخول الدار الاولى حتى لو دخلت في الثانية قبل الاولى ثم دخلت في الاولى لم تطلق، بخلاف ما لو قال: ودخلت هذه الدار.
وقد توصل الفاء بما هو علة إذا كان محتمل الامتداد، يقول الرجل لغيره: أبشر فقد أتاك الغوث وهذا على سبيل بيان العلة للخطاب بالبشارة ولكن لما كان ذلك ممتدا صح ذكر حرف الفاء مقرونا به، وعلى هذا الاصل لو قال لعبده: أد إلي ألفا فأنت حر فإنه يعتق وإن لم يؤد، لانه لبيان العلة، أي لانك قد صرت حرا وصفة الحرية تمتد.
وكذلك لو قال لحربي: انزل فأنت آمن كان آمنا

نزل أو لم ينزل، لان معنى كلامه انزل لانك آمن والامان ممتد، فأما ما قال علماؤنا رحمهم الله فيمن يقول: لفلان علي درهم فدرهم إنه يلزمه درهمان فذلك لتحقيق معنى العطف إذ المعطوف غير المعطوف عليه واعتبار معنى الوصل والترتيب في الوجوب لا في الواجب، أو لما تعذر اعتبار حقيقة معنى حرف الفاء جعل عبارة عن الواو مجازا فكأنه قال درهم ودرهم.
والشافعي يقول يلزمه درهم واحد، لان ما هو موجب حرف الفاء لا يتحقق هاهنا فيكون صلة للتأكيد كأنه قال درهم فهو درهم.
ولكن ما قلناه أحق لانه يضمر ليسقط به اعتبار حرف الفاء والاضمار لتصحيح ما وقع التنصيص عليه لا لالغائه، ثم معنى العطف محكم في هذا الحرف فلا بد من اعتباره بحسب الامكان، والمعطوف غير المعطوف عليه فيلزمه درهمان لهذا.
فصل وأما حرف ثم فهو للعطف على وجه التعقيب مع التراخي، هو المعنى الذي اختص به هذا الحرف بأصل الوضع.
يقول الرجل (جاءني زيد ثم عمرو فإنما يفهم منه ما يفهم من قوله) جاءني زيد وبعده عمرو، إلا أن عند أبي حنيفة رحمه الله
صفة هذا التراخي أن يكون بمنزلة ما لو سكت ثم استأنف قولا بعد الاول لاتمام القول بالتراخي، وعندهما التراخي بهذا الحرف في الحكم مع الوصل في التكلم لمراعاة معنى العطف فيه.
وبيان هذا فيما إذا قال لغير المدخول بها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق، عند أبي حنيفة رحمه الله تتعلق الاولى بالدخول وتقع الثانية في الحال وتلغو الثالثة، بمنزلة قوله أنت طالق طالق طالق من غير حرف العطف حتى ينقطع بعض الكلام عن البعض، وعندهما يتعلق الكل بالدخول ثم عند الدخول يظهر الترتيب في الوقوع فلا تقع إلا واحدة لاعتبار التراخي بحرف ثم.
ولو أخر الشرط ذكرا فعند أبي حنيفة رحمه الله تطلق واحدة في الحال ويلغو ما سواها، وعندهما لا تطلق ما لم تدخل الدار فإذا دخلت طلقت واحدة ولو كانت مدخولا بها، فإن أخر الشرط فعند أبي حنيفة رحمه الله تطلق اثنتين في الحال وتتعلق

الثالثة بالدخول، وعندهما ما لم تدخل لا يقع شئ فإذا دخلت طلقت ثلاثا.
ولو قدم الشرط فعند أبي حنيفة رحمه الله تقع الثانية والثالثة في الحال وتتعلق الاولى بالدخول، وعندهما لا يقع شئ ما لم تدخل فإذا دخلت طلقت ثلاثا، هكذا ذكر مفسرا في النوادر.
وقد يستعمل حرف ثم بمعنى الواو مجازا، قال الله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا) وقال تعالى: (ثم الله شهيد على ما يفعلون) وعلى هذا قلنا في قوله عليه السلام: من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه إن حرف ثم في هذه الرواية محمول على الحقيقة، وفي الرواية التي قال فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير حرف ثم بمعنى الواو مجازا لان صيغة الامر للايجاب وإنما التكفير بعد الحنث لا قبله فحملنا هذا الحرف على المجاز لمراعاة حقيقة الصيغة فيما هو المقصود، إذ لو حملنا حرف ثم على الحقيقة كان الامر بالتكفير
محمولا على المجاز فإنه لا يجب تقديم التكفير على الحنث بالاتفاق، فكان الاولى على هذا أن يجعل حرف ثم بمعنى حرف الفاء فإنه أقرب إليه من حرف الواو، وإنما لم نفعل ذلك لان حرف الفاء يوجب ترتيبا أيضا والحنث غير مرتب على التكفير بوجه فلهذا جعلناه بمعنى الواو.
فصل وأما حرف بل هو لتدارك الغلط بإقامة الثاني مقام الاول وإظهار أن الاول كان غلطا، فإن الرجل يقول جاءني زيد بل عمرو أو لا بل عمرو فإنما يفهم منه الاخبار بمجئ عمرو خاصة، وهو معنى قوله تعالى: (بل كنتم مجرمين) .
(بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله) وعلى هذا قال زفر رحمه الله إن من قال لفلان علي ألف درهم بل ألفان يلزمه ثلاثة آلاف، لان بل لتدارك الغلط فيكون إقرارا بألفين ورجوعا عن الالف وبيان أنه كان غلطا ولكن الاقرار صحيح والرجوع

باطل، كما لو قال لامرأته أنت طالق واحدة بل اثنتين تطلق ثلاثا، ولكنا نقول يلزمه ألفان لانه ما كان مقصوده تدارك الغلط بنفي ما أقر به أولا بل تدارك الغلط بإثبات الزيادة التي نفاها في الكلام الاول بطريق الاقتضاء، فكأنه قال بل مع تلك الالف ألف أخرى فهما ألفان علي، ألا ترى أن الرجل يقول أتى علي خمسون سنة بل ستون فإنه يفهم هذا من كلامه بل ستون لعشرة زائدة على الخمسين التي أخبرت بها أولا، ولكن هذا يتحقق في الاخبارات لانها تحتمل الغلط ولا يتحقق في الانشاءات فلهذا جعلناه موقعا اثنتين راجعا عن الاولى ورجوعه لا يصح فتطلق ثلاثا، حتى لو قال كنت طلقتك أمس واحدة لا بل اثنتين تطلق اثنتين لان الغلط في الاخبار يتمكن، ولو قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة لا بل اثنتين تطلق واحدة لانه بقوله بل اثنتين أولا بل اثنتين يروم الرجوع عن الاولى وذلك باطل
وبعدما بانت بالاولى لم يبق المحل ليصح إيقاع الثنتين عليها، ولو قال إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل اثنتين فدخلت تطلق ثلاثا بالاتفاق لان مع تعلق الاولى بالشرط بقي المحل على حاله وهو بهذا الحرف تبين أنه تعلق الثنتين بالشرط ابتداء لا بواسطة الاولى، لانه راجع عن الاولى فكأنه أعاد ذكر الشرط وصار كلامه في حكم يمينين فعند وجود الشرط تقع الثلاث جملة لتعلق الكل بالشرط بلا واسطة، بخلاف ما قاله أبو حنيفة رحمه الله في حرف الواو فإنه للعطف فيكون هو مقررا للاولى ومعلقا الثانية بالشرط بواسطة الاولى، فعند وجود الشرط يقعن متفرقا أيضا فتبين بالاولى قبل وقوع الثانية والثالثة، والله أعلم.
فصل وأما لكن فهو كلمة موضوعة للاستدراك بعد النفي، تقول ما رأيت زيدا لكن عمرا، فالمعنى الذي تختص به هذه الكلمة باعتبار أصل الوضع إثبات ما بعدها فأما نفي ما قبلها فثابت بدليله بخلاف بل، قال تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ثم العطف بها إنما يكون عند اتساق الكلام فإن وجد ذلك كان لتعليق النفي بالاثبات الذي بعدها وإلا كانت للاستئناف.
وبيان هذا في مسائل مذكورة في الجامع: منها إذا قال رجل هذا العبد في يدي لفلان

فقال المقر له ما كان لي قط ولكنه لفلان، فإن وصل كلامه فهو للمقر له الثاني، وإن فصل فهو للمقر، لان قوله ما كان لي قط تصريح بنفي ملكه فيه، فإذا وصل به قوله لكن لفلان كان بيانا أنه نفي ملكه إلى الثاني بإثبات الملك له بقوله لكن، فإن قطع كلامه كان محمولا على نفي ملكه أصلا كما هو الظاهر وهو رد للاقرار، ثم قوله ولكنه لفلان شهادة بالملك للثاني على المقر وبشهادة الفرد لا يثبت الملك.
ولو أن المقضي له بالعبد بالبينة قال ما كان لي قط ولكنه لفلان فقال المقر له
قد كان له فباعه أو وهبه مني بعد القضاء له فإنه يكون للثاني، لانه حين وصل الكلام فقد تبين أنه نفي ملكه بإثباته للثاني وذلك يحتمل الانشاء بسبب كان بعد القضاء فيحمل على ذلك في حق المقر له إلا أن المقر يصير ضامنا قيمته للمقضي عليه لان ظاهر كلامه تكذيب لشهوده وإقرار بأن القضاء باطل وهذا حجة عليه، ولكن إنما يقرر هذا الحكم بعد ما تحول الملك إلى المقر له فيضمن قيمته للمقضي عليه.
ولو أن أمة زوجت نفسها من رجل بمائة درهم بغير إذن مولاها فقال المولى لا أجيزه لكن أجيزه بمائة وخمسين، أو قال لكن أجيزه إن زدتني خمسين فالعقد باطل لان الكلام غير متسق، فإن نفي الاجازة وإثباتها بعينها لا يتحقق فيه معنى العطف فيرتد العقد بقوله لا أجيزه ويكون قوله لكن أجيزه ابتداء بعد الانفساخ.
ولو قال لفلان علي ألف درهم قرض فقال فلان لا ولكنه غصب فإنه يلزمه المال لان الكلام متسق فيتبين بآخره أنه نفي السبب لا أصل المال وأنه قد صدقه في الاقرار بأصل المال ولا تفاوت في الحكم بين السببين، والاسباب مطلوبة للاحكام فعند انعدام التفاوت يتم تصديقه له فيما أقر به فيلزمه المال، وعلى هذا لو قال لك علي ألف درهم ثمن هذه الجارية التي اشتريتها منك فقال الجارية جاريتك ما بعتها منك ولكن لي عليك ألف درهم يلزمه المال، لان الكلام متسق وفي آخره بيان أنه مصدق له في أصل المال مكذب في السبب ولا تفاوت عند سلامة الجارية للمقر فيلزمه المال.

فصل وأما أو فهي كلمة تدخل بين اسمين أو فعلين، وموجبها باعتبار أصل الوضع يتناول أحد المذكورين.
بيانه في قوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) فإن الواجب في الكفارة أحد الاشياء المذكورة مع
إباحة التكفير بكل نوع منها على الانفراد، ولهذا لو كفر بالانواع كلها كان مؤديا للواجب بأحد الانواع في الصحيح من المذهب، بخلاف ما يقوله بعض الناس وقد بينا هذه.
وكذلك في قوله تعالى في كفارة الحلق: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وفي جزاء الصيد: (هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) وقد ظن بعض مشايخنا أنها في أصل الوضع للتشكيك فإن الرجل إذا قال رأيت زيدا وعمرا يكون مخبرا برؤية كل واحد منهما عينا، ولو قال بل عمرا يكون مخبرا برؤية عمرو عينا.
ولو قال أو عمرا يكون مخبرا برؤية أحدهما غير عين على أنه شاك في كل واحد منهما يجوز أن يكون قد رآه ويجوز أن يكون لم يره إلا أن في الابتداءات والامر والنهي يتعذر حمله على التشكيك فإن ذلك لا يكون إلا عند التباس العلم بالشئ فيحمل على التخيير، وقرر هذا الكلام في تصنيفه.
قال رضي الله عنه: وعندي أن هذا غير صحيح لان الشك ليس بأمر مقصود حتى يوضع له كلمة في أصل الوضع، ولكن هذه الكلمة لبيان أن المتناول أحد المذكورين كما ذكرنا إلا أن في الاخبار يفضي إلى الشك باعتبار محل الكلام لا باعتبار هذه الكلمة كما في قوله رأيت زيدا أو عمرا، فأما في الانشاءات لما تبدل المحل وانعدم المعنى الذي لاجله كان معنى الشك فالثابت بهذه الكلمة التخيير باعتبار أصل الوضع وهو أنها تتناول أحد المذكورين على إثبات صفة الاباحة في كل واحد منهما، ولهذا قلنا لو قال هذا العبد حر أو هذا فهو وقوله أحدهما حر سواء يتناول الايجاب أحدهما ويتخير المولى في البيان على أن يكون بيانه من وجه كابتداء الايقاع حتى يشترط لصحة البيان صلاحية المحل للايقاع، ومن وجه هو تعيين للواقع، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لو جمع بين عبده ودابته وقال هذا حر أو هذا لغا كلامه،

بمنزلة ما لو قال أحدهما حر لان محل الايجاب أحدهما بغير عينه، وإذا لم يكن أحد
العبدين محلا صالحا للايجاب فغير المعين منهما لا يكون صالحا وبدون صلاحية المحل لا يصح الايجاب أصلا.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا الايجاب يتناول أحدهما بغير عينه على احتمال التعيين، ألا ترى أنهما لو كانا عبدين تناول أحدهما على احتمال التعيين إما ببيانه أو بانعدام المزاحمة بموت أحدهما فيصح الايجاب هنا باعتبار هذا المجاز كما هو أصل أبي حنيفة رحمه الله في العمل بالمجاز وإن تعذر العمل بالحقيقة لعدم صلاحية المحل له، وعندهما المجاز خلف عن الحقيقة في الحكم، فإذا لم يكن المحل صالحا للحكم حقيقة يسقط اعتبار العمل بالمجاز وقد بينا هذا.
وعلى هذا لو قال لثلاث نسوة له: هذه طالق أو هذه وهذه تطلق الثالثة ويتخير في الاوليين، بمنزلة ما لو جمع بين الاوليين فقال إحداكما طالق وهذه، ولهذا قال زفر رحمه الله في قوله والله لا أكلم فلانا أو فلانا وفلانا إنه لا يحنث إن كلم الاول وحده ما لم يكلم الثالث معه، بمنزلة قوله لا أكلم أحد هذين وهذا.
ولكنا نقول هناك إن كلم الاول وحده يحنث وإن كلم أحد الآخرين لا يحنث ما لم يكلمهما لانه أشرك بينهما بحرف الواو والخبر المذكور يصلح للمثنى كما يصلح للواحد، فإنه يقول لا أكلم هذا لا أكلم هذين فيصير كأنه قال لا أكلم هذا أو هذين، بخلاف الطلاق فهناك الخبر المذكور غير صالح للمثنى إذا جمعت بينهما لانه يقال للمثنى طالقان مع أن هناك يمكن أن تجعل الثالثة كالمذكورة وحدها فإن الحكم فيها لا يختلف سواء ضمت إلى الاولى أو إلى الثانية، وهنا الحكم في الثالث يختلف بالانضمام إلى الاول أو الثاني فكان ضمه إلى ما يليه أولى.
وعلى هذا لو قال وكلت ببيع هذا العبد هذا الرجل أو هذا فإنه يصح التوكيل استحسانا، بمنزلة ما لو قال وكلت أحدهما ببيعه حتى لا يشترط اجتماعهما على البيع، بخلاف ما لو قال وهذا، وإذا باع أحدهما نفذ البيع ولم يكن للآخر بعد ذلك أن يبيعه، وإن عاد إلى ملكه وقبل البيع يباح لكل واحد منهما أن يبيعه.
وكذلك لو قال لواحد بع هذا العبد أو هذا يثبت له الخيار على أن يبيع
أحدهما أيهما شاء، بمنزلة ما لو قال بع أحدهما، فأما في البيع إذا أدخل كلمة

أو في المبيع أو الثمن فالبيع فاسد للجهالة لان موجب الكلمة التخيير ومن له الخيار منهما غير معلوم، فإن كان معلوما جاز في الاثنين والثلاثة استحسانا ولم يجز في الزيادة على ذلك لبقاء الحظر بعد تعين من له الخيار، ولكن اليسير من الحظر لا يمنع جواز العقد والفاحش منه يمنع جواز العقد.
فأما في النكاح ف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان يثبت التخيير بهذه الكلمة إذا كان مفيدا بأن يقول لامرأة تزوجتك على ألف درهم حالا أو على ألفين إلى سنة أو تزوجتك على ألف درهم أو مائة دينار، ولا يثبت الخيار إذا لم يكن مفيدا بأن يقول تزوجتك على ألف درهم أو ألفين بل يجب الاقل عينا لانه لا فائدة في التخيير بين القليل والكثير في جنس واحد، وصحة النكاح لا تتوقف على تسمية البدل فوجوب المال عند التسمية في معنى الابتداء، بمنزلة الاقرار بالمال أو الوصية أو الخلع أو الصلح عن دم العمد على مال فإنما يثبت الاقل لكونه متيقنا به، ولهذا كل ما يصلح أن يكون مسمى في الصلح عن دم العمد يصلح أن يكون مسمى في النكاح.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول يصار إلى تحكيم مهر المثل لان التخيير الذي هو حكم هذه الكلمة يمنع كون المسمى معلوما قطعا والموجب الاصلي في النكاح مهر المثل وإنما ينتفي ذلك الموجب عند تسمية معلومة قطعا فإذا انعدم ذلك بحرف أو وجب المصير إلى الموجب الاصلي، بخلاف الخلع والصلح فليس في ذلك العقد موجب أصلي في البدل بل هو صحيح من غير بدل يجب به فلهذا أوجبنا القدر الميتقن به وما زاد على ذلك لكونه مشكوكا فيه يبطل.
وعلى هذا قال مالك رحمه الله في حد قطاع الطريق إن الامام يتخير في ظاهر قوله تعالى: (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) فإن موجب الكلمة التخيير والكلام محمول على حقيقته حتى يقوم دليل المجاز.
ولكنا نقول في أول
الآية تنصيص على أن المذكور جزاء على المحاربة، والمحاربة أنواع كل نوع منها معلوم من تخويف أو أخذ مال أو قتل نفس أو جمع بين القتل وأخذ المال، وهذه الانواع تتفاوت في صفة الجناية والمذكور أجزية متفاوتة في معنى التشديد فوقع

الاستغناء بتلك المقدمة عن بيان تقسيم الا جزية على أنواع الجناية نصا، ولكن هذا التقسيم ثابت بأصل معلوم وهو أن الجملة إذا قوبلت بالجملة ينقسم البعض على البعض فلهذا كان الجزاء على كل نوع عينا، كيف وقد نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التقسيم في أصحاب أبي بردة ؟ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إذا جمع بين القتل وأخذ المال فللامام الخيار، إن شاء قطع يده ثم قتله وصلبه، وإن شاء قتله وصلبه ولم يقطعه، لان نوع المحاربة متعدد صورة متحد معنى فيتخير لهذا.
وقيل أو هنا بمعنى بل كما قال الله تعالى: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) أي بل أشد قسوة فيكون المراد بل يصلبوا إذا اتفقت المحاربة بقتل النفس وأخذ المال بل تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال فقط بل ينفوا من الارض إذا خوفوا الطريق.
وقد تستعار كلمة أو للعطف فتكون بمعنى الواو، قال تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) أي ويزيدون.
قال القائل: فلو كان البكاء يرد شيئابكيت على زياد أو عناق على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما بحزن واحتراق (أي وعناق) بدليل قوله: على المرأين إذ مضيا جميعا.
إذا عرفنا هذا فنقول إنما يحمل على هذه الاستعارة عند اقتران الدليل بالكلام، ومن الدليل (على ذلك) أن تكون مذكورة في موضع النفي، قال الله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) معناه: ولا كفورا، والدليل فيه ما قدمنا أن النكرة في (موضع) النفي تعم ولا يمكن إثبات التعميم إلا أن يجعل بمعنى واو العطف ولكن
على أن يتناول كل واحد منهما على الانفراد لا على الاجتماع كما هو موجب حرف الواو، ولهذا قلنا لو قال والله أكلم فلانا أو فلانا فإنه يحنث إذا كلم أحدهما، بخلاف قوله فلانا وفلانا فإنه لا يحنث ما لم يكلمهما، ولكن يتناول كل واحد (منهما) على الانفراد حتى لا يثبت له الخيار، ولو كان في الايلاء بأن قال لا أقرب

هذه أو هذه فمضت المدة بانتا جميعا.
ومن ذلك أن يستعمل الكلمة في موضع الاباحة فتكون بمعنى الواو حتى يتناول معنى الاباحة كل واحد من المذكورين، فإن الرجل يقول جالس الفقهاء أو المتكلمين فيفهم (منه) الاذن بالمجالسة مع كل واحد من الفريقين، والطبيب يقول للمريض كل هذا أو هذا فإنما يفهم منه أن كل واحد منهما صالح لك.
وبيان هذا في قوله تعالى: (إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) فالاستثناء من التحريم إباحة ثم تثبت الاباحة في جميع هذه الاشياء، فعرفنا أن موجب هذه الكلمة في الاباحة العموم وأنه بمعنى واو العطف.
وبيان الفرق بين الاباحة والايجاب أن في الايجاب الامتثال بالاقدام على أحدهما، وفي الاباحة تتحقق الموافقة في الاقدام على كل واحد منهما.
وعلى هذا قلنا إذا قال لا أكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا فإن له أن يكلمهما من غير حنث.
ولو قال لاربع نسوة له والله لا أقربكن إلا فلانة أو فلانة فإنه لا يكون موليا منهما جميعا حتى لا يحنث إن قربهما ولا تقع الفرقة بينه وبينهما بمضي المدة قبل القربان.
وقد تستعار أو بمعنى حتى قال تعالى: (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم) : أي حتى يتوب عليهم.
وفي هذه الاستعارة معنى العطف، فإن غاية الشئ تتصل به كما يتصل المعطوف بالمعطوف عليه، ولهذا قال في الجامع: لو قال والله لادخلن هذه الدار اليوم أو لادخلن هذه الدار فأي الدارين دخل بر في يمينه لانه ذكر الكلمة في موضع الاثبات فيقتضي التخيير في شرط البر.
ولو قال لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار (فأي الدارين دخل حنث في يمينه لانه ذكرها
في موضع النفي فكانت بمعنى ولا.
ولو قال والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار) الاخرى فإن دخل الاولى حنث في يمينه، وإن دخل الثانية أولا بر في يمينه حتى إذا دخل الاولى بعد ذلك لا يحنث بمنزلة قوله لا أدخل هذه الدار حتى أدخل هذه الدار فكأن الدخول في الاخرى غاية ليمينه فإذا دخلها انتهت اليمين، وإن لم يدخلها حتى دخل الاولى حنث لوجود الشرط في حال بقاء اليمين، وإنما

جعلناه هكذا لانه يتعذر اعتبار معنى التخيير فيه للنفي في أحد الجانبين ويتعذر إثبات معنى العطف لعدم المجانسة بين المذكورين فيجعل بمعنى الغاية، لان حرمة الدخول الثابت باليمين يحتمل الامتداد فيليق به ذكر الغاية كما في قوله تعالى: (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم) فإنه لا يمكن حمل الكلمة على العطف إذ الفعل لا يعطف على الاسم والمستقبل لا يعطف على الماضي، ونفي الامر يحتمل الامتداد فيجعل قوله (أو يتوب) بمعنى الغاية، ولانه نفي الدخول في الدار الاولى فإذا دخل فيها أولا يجعل كأن المذكور آخرا من جنسه نفي فيحنث بالدخول فيها لهذا، وأثبت الدخول في الدار الثانية فإذا دخلها أولا يجعل كأن الاخير من جنسه إثبات كما في قوله لادخلن هذه الدار أو لادخلن هذه الدار.
فصل وأما حتى فهي للغاية باعتبار أصل الوضع بمنزلة إلى، هو المعنى الخاص الذي لاجله وضعت الكلمة، قال تعالى: (هي حتى مطلع الفجر) وقال تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد) وقال تعالى: (حتى يأذن لي أبي) وقال تعالى: (حتى يأتيك اليقين) فمتى كان ما قبلها بحيث يحتمل الامتداد وما بعدها يصلح للانتهاء به كانت عاملة في حقيقة الغاية، ولهذا قلنا إذا حلف أن يلازم غريمه حتى يقضيه ثم فارقه قبل أن يقضيه دينه حنث، لان الملازمة تحتمل الامتداد، وقضاء الدين يصلح منهيا للملازمة.
وقال
في الزيادات: لو قال عبده حر إن لم أضربك حتى تشتكي يدي أو حتى الليل أو حتى تصبح أو حتى يشفع فلان ثم ترك ضربه قبل هذه الاشياء حنث، لان الضرب بطريق التكرار يحتمل الامتداد والمذكور بعد الكلمة صالح للانتهاء فيجعل غاية حقيقة، وإذا أقلع عن الضرب قبل الغاية حنث إلا في موضع يغلب على الحقيقة عرف فيعتبر ذلك، لان الثابت بالعرف ظاهرا بمنزلة الحقيقة، حتى لو قال إن لم أضربك حتى أقتلك أو حتى تموت فهذا على الضرب الشديد باعتبار العرف، فإنه متى كان قصده القتل لا يذكر لفظ الضرب وإنما يذكر ذلك إذا لم يكن قصده القتل وجعل

القتل غاية لبيان شدة الضرب عادة.
ولو قال حتى يغشى عليك أو حتى تبكي فهذا على حقيقة الغاية لان الضرب إلى هذه الغاية معتاد.
وقد تستعمل الكلمة للعطف فإن بين العطف والغاية مناسبة بمعنى التعاقب ولكن مع وجود معنى الغاية فيها.
يقول الرجل جاءني القوم حتى زيد ورأيت القوم حتى زيدا فيكون للعطف مع اعتبار معنى الغاية لانه يفهم بهذا أن زيدا أفضل القوم أو أرذلهم.
وقد يدخل بمعنى العطف على جملة فإن ذكر له خبرا فهو خبره وإلا فخبره من جنس ما سبق.
يقول الرجل مررت بالقوم حتى زيد غضبان، وتقول أكلت السمكة حتى رأسها فهذا مما لم يذكر خبره وهو من جنس ما سبق على احتمال أن يكون هو الاكل أو غيره ولكنه إخبار بأن رأسها مأكول أيضا.
ولو قال حتى رأسها بالنصب كان هذا عطفا، أي وأكلت رأسها أيضا ولكن باعتبار معنى الغاية.
ومثل هذا في الافعال تكون للجزاء إذا كان ما قبلها يصلح سببا لذلك وما بعدها يصلح أن يكون جزاء فيكون بمعنى لام كي، قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي لكيلا تكون فتنة، وقال تعالى: (وزلزلوا حتى يقول الرسول) والقراءة بالنصب تحتمل الغاية، معناه إلى أن يقول الرسول فيكون قول الرسول نهاية من غير أن يكون بناء على ما سبق كما هو موجب الغاية أنه لا أثر له
فيما جعل غاية له، ويحتمل لكي يقول الرسول، والقراءة بالرفع تكون بمعنى العطف أي ويقول الرسول.
وعلى هذا قال في الزيادات: إذا قال إن لم آتك غدا حتى تغديني فعبدي حر فأتاه فلم يغده لا يحنث، لان الاتيان ليس بمستدام فلا يحتمل الكلمة بمعنى حقيقة الغاية وما بعده يصلح جزاء فيكون المعنى لكي تغديني فقد جعل شرط بره الاتيان على هذا القصد وقد وجد، وكذلك لو قال إن لم تأتني حتى أغديك فأتاه ولم يغده لم يحنث.
وقد يستعار للعطف المحض كما أشرنا إليه في القراءة بالرفع، ولكن هذا إذا كان المذكور بعده لا يصلح للجزاء فيعتبر مجرد المناسبة بين العطف والغاية في الاستعارة.
وعلى هذا قال في الزيادات: إذا قال إن لم آتك حتى أتغدى عندك اليوم أو إن لم تأتني حتى تتغدى عندي اليوم فأتاه ثم لم يتغد عنده في ذلك اليوم حنث، لان الكلمة بمعنى العطف فإن الفعلين من واحد فلا يصلح الثاني أن يكون جزاء للاول فحمل على العطف المحض لتصحيح الكلام، وشرط البر وجود الامرين في اليوم فإذا لم يوجدا حنث.

فإن قيل: أهل النحو لا يعرفون هذا، فإنهم لا يقولون رأيت زيدا حتى عمرا باعتبار العطف ؟ قلنا: قد بينا أن في الاستعارات لا يعتبر السماع وإنما يعتبر المعنى الصالح للاستعارة وما أشرنا إليه من المناسبة معنى صالح لذلك فهي استعارة بديعة بنى علماؤنا رحمهم الله جواب المسألة عليها مع أن قول محمد رحمه الله حجة في اللغة فإن أبا عبيد وغيره احتج بقوله، وذكر ابن السراج أن المبرد سئل عن معنى الغزالة فقال هي الشمس، قاله محمد بن الحسن رحمه الله وكان فصيحا فإنه قال لخادم له يوما: انظر هل دلكت الغزالة ؟ فخرج ثم دخل فقال: لم أر الغزالة.
وإنما أراد محمد هل زالت الشمس ؟ فعلى هذا يجوز أن يقول الرجل رأيت زيدا حتى عمرا بمعنى العطف إلا أن الاولى أن يجعل هذا بمعنى الفاء دون الواو، لان كل واحد منهما للعطف ولكن
في الفاء معنى التعقيب فهو أقرب إلى معنى المناسبة كما بينا.
فصل وأما إلى فهي لانتهاء الغاية، ولهذا تستعمل الكلمة في الآجال والديون، قال تعالى: (إلى أجل مسمى) وعلى هذا لو قال لامرأته أنت طالق إلى شهر، فإن نوى التنجيز في الحال تطلق ويلغو آخر كلامه، وإن نوى التأخير يتأخر الوقوع إلى مضي الشهر، وإن لم يكن له نية فعلى قول زفر رحمه الله يقع في الحال، لان تأخير الشئ لا يمنع ثبوت أصله (فيكون بمنزلة التأجيل في الدين لا يمنع ثبوت أصله) وعندنا لا يقع لان الكلمة للتأخير فيما يقرن به باعتبار أصل الوضع وقد قرنها بأصل الطلاق وأصلها يحتمل التأخير في التعليق بمضي شهر أو بالاضافة إلى ما بعد شهر، فأما أصل اليمين لا يحتمل التأخير في التعليق والاضافة، فلهذا حملنا الكلمة هناك على تأخير المطالبة.
ثم من الغايات بهذه الكلمة ما لا يدخل كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) ومنها ما يدخل كقوله: (وأيديكم إلى المرافق) والحاصل فيه أن ما يكون من الغايات قائما بنفسه فإنه لا يدخل لانه حد ولا يدخل الحد في المحدود، ولهذا لو قال لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط لا يدخل الحائطان في الاقرار،

وما لا يكون قائما بنفسه فإن كان أصل الكلام متناولا للغاية كان ذكر الغاية لاخراج ما وراءها فيبقى موضع الغاية داخلا كما في قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) فإن الاسم عند الاطلاق يتناول الجارحة إلى الابط فذكر الغاية لاخراج ما وراءها، وإن كان أصل الكلام لا يتناول موضع الغاية أو فيه شك فذكر الغاية لمد الحكم إلى موضعها فلا تدخل الغاية كما في قوله تعالى: (إلى الليل) فإن الصوم عبارة عن الامساك ومطلقه لا يتناول إلا ساعة فذكر الغاية لمد الحكم إلى موضع الغاية، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: الغاية تدخل في الخيار لان مطلقه يقتضي التأبيد ولان في لزوم البيع في موضع الغاية
شكا، وفي الآجال والاجارات لا تدخل الغايات، لان المطلق لا يقتضي التأبيد وفي تأخير المطالبة وتمليك المنفعة في موضع الغاية شك، وفي اليمين إذا حلف لا يكلم فلانا إلى وقت كذا تدخل الغاية في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لان مطلقه يقتضي التأبيد فذكر الغاية لاخراج ما وراءها، ولا تدخل في ظاهر الرواية لان في حرمة الكلام ووجوب الكفارة في الكلام في موضع الغاية شكا.
وعلى هذا قال زفر رحمه الله: إذا قال لفلان علي من درهم إلى عشرة، أو قال لامرأته أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لا تدخل الغايتان لان الغاية حد والمحدود غير الحد.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: تدخل الغايتان لان هذه الغاية لا تقوم بنفسها فلا تكون غاية ما لم تكن ثانية.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: الغاية الثانية لا تدخل لان مطلق الكلام لا يتناوله وفي ثبوته شك، ولكن الغاية الاولى تدخل للضرورة لان الثانية داخلة في الكلام ولا تكون ثانية قبل دخول الاولى.
فصل وأما على فهو للالزام باعتبار أصل الوضع لان معنى حقيقة الكلمة من علو الشئ على الشئ وارتفاعه فوقه وذلك قضية الوجوب واللزوم، ولهذا لو قال لفلان علي ألف درهم أن مطلقه محمول على الدين إلا أن يصل بكلامه وديعة لان

حقيقته اللزوم في الدين.
ثم تستعمل الكلمة للشرط باعتبار أن الجزاء يتعلق بالشرط ويكون لازما عند وجوده.
وبيان هذا في قوله تعالى: (يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا) وقال تعالى: (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) وعلى هذا قال في السير: إذا قال رأس الحصن آمنوني على عشرة من أهل الحصن إن العشرة سواه والخيار في تعيينهم إليه لانه شرط ذلك لنفسه بكلمة على، بخلاف ما لو قال آمنوني وعشرة أو فعشرة أو ثم عشرة فالخيار في تعيين العشرة إلى من آمنهم، لان المتكلم
عطف أمانهم على أمان نفسه من غير أن شرط لنفسه في أمانهم شيئا.
وقد تستعار الكلمة بمعنى الباء الذي يصحب الاعواض لما بين العوض والمعوض من اللزوم والاتصال في الوجوب، حتى إذا قال بعت منك هذا الشئ على ألف درهم أو آجرتك شهرا على درهم يكون بمعنى الباء، لان البيع والاجارة لا تحتمل التعليق بالشرط فيحمل على هذا المستعار لتصحيح الكلام، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله، إذا قالت المرأة لزوجها طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها واحدة يجب ثلث الالف، بمنزلة ما لو قالت بألف درهم لان الخلع عقد معاوضة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول لا يجب عليها شئ من الالف ويكون الواقع رجعيا لان الطلاق يحتمل التعليق بالشرط وإن كان مع ذكر العوض، ولهذا كان بمنزلة اليمين من الزوج حتى لا يملك الرجوع عنه قبل قبولها، وحقيقة الكلمة للشرط فإذا كانت مذكورة فيما يحتمل معنى الشرط يحمل عليه دون المجاز وعلى اعتبار الشرط لا يلزمها شئ من المال لانها شرطت إيقاع الثلاث ليتم رضاها بالتزام المال والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله أجزاء، وقد يكون على بمعنى من، قال تعالى: (إذا اكتالوا على الناس يستوفون) أي من الناس.
فصل وكلمة من للتبعيض باعتبار أصل الوضع، وقد تكون لابتداء الغاية، يقول الرجل خرجت من الكوفة، وقد تكون للتمييز يقال باب من حديد وثوب من قطن، وقد تكون بمعنى الباء، قال تعالى: (يحفظونه من أمر الله) أي بأمر الله، وقد تكون صلة، قال تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم) وقال تعالى: (فاجتنبوا الرجس

من الاوثان) وفي حملة على الصلة يعتبر تعذر حمله على معنى وضع له باعتبار الحقيقة أو يستعار له مجازا وتعتبر الحاجة إلى إتمام الكلام به لئلا يخرج من أن يكون
مفيدا.
وعلى هذا قال في الجامع: إن كان ما في يدي من الدراهم إلا ثلاثة فإذا في يده أربعة فهو حانث لان الدرهم الرابع بعض الدراهم وكلمة من للتبعيض.
ولو قالت المرأة لزوجها اخلعني على ما في يدي من الدراهم فإذا في يدها درهم أو درهمان تلزمها ثلاثة دراهم لان من هنا صلة لتصحيح الكلام فإن الكلام لا يصح إلا بها، حتى إذا قالت اخلعني على ما في يدي دراهم كان الكلام مختلا، وفي الاول لو قال إن كان في يدي دراهم كان الكلام صحيحا فعمل الكلمة في التبعيض لا في تصحيح الكلام.
وقد بينا المسائل على هذه الكلمة فيما سبق.
فصل وأما في فهي للظرف باعتبار أصل الوضع، يقال دراهم في صرة.
وعلى اعتبار هذه الحقيقة قلنا إذا قال لغيره غصبتك ثوبا في منديل أو تمرا في قوصرة يلزمه رد كليهما لانه أقر (بغصب مظروف في ظرف فلا يتحقق ذلك إلا) بغصبه لهما.
ثم الظرف أنواع ثلاثة: ظرف الزمان وظرف المكان وظرف الفعل.
فأما ظرف الزمان فبيانه فيما إذا قال لامرأته أنت طالق في غد فإنها تطلق غدا باعتبار أنه جعل الغد ظرفا، وصلاحية الزمان ظرفا للطلاق من حيث إنه يقع فيه فتصير موصوفة في ذلك الزمان بأنها طالق فعند الاطلاق كما طلع الفجر تطلق فتتصف بالطلاق في جميع الغد بمنزلة ما لو قال أنت طالق غدا، وإن قال نويت آخر النهار لم يصدق عندهما في القضاء كما في قوله غدا، لانه نوى التخصيص فيما يكون موجبه العموم.
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يدين في القضاء لان ذكر حرف الظرف دليل على أن المراد جزء من الغد فالوقوع إنما يكون في جزء ولكن ذلك الجزء مبهم في كلامه فعند عدم النية قلنا كما وجد جزء من الغد تطلق فإذا نوى آخر النهار كان هذا بيانا للمبهم وهو مصدق في بيان مبهم كلامه في القضاء بخلاف قوله غدا فاللفظ هناك

متناول لجميع الغد فنية آخر النهار تكون تخصيصا، وعلى هذا لو قال إن صمت الشهر فهو على صوم جميع الشهر، ولو قال إن صمت في الشهر فهو على صوم ساعة باعتبار المعنى الذي قلنا.
وأما ظرف المكان فبيانه في قوله أنت طالق في الدار أو في الكوفة فإنه يقع الطلاق عليها حيثما تكون، لان المكان لا يصلح ظرفا (للطلاق) فإن الطلاق إذا وقع في مكان فهو واقع في الامكنة كلها وهي إذا اتصفت بالطلاق في مكان تتصف به في الامكنة كلها إلا أن يقول عنيت إذا دخلت فحينئذ لا يقع الطلاق ما لم تدخل باعتبار أنه كنى بالمكان عن الفعل الموجود فيه أو أضمر الفعل في كلامه فكأنه قال أنت طالق في دخولك الدار، وهذا هو ظرف الفعل على معنى أن الفعل لا يصلح ظرفا للطلاق حقيقة ولكن بين الظرف والشرط مناسبة من حيث المقارنة أو من حيث تعلق الجزاء بالشرط بمنزلة قوام المظروف بالظرف فتصير الكلمة بمعنى الشرط مجازا.
ثم إن كان الفعل سابقا أو موجودا في الحال يكون تنجيزا، وإن كان منتظرا يتعلق الوقوع بوجوده كما هو حكم الشرط.
وعلى هذا لو قال أنت طالق في حيضتك وهي حائض تطلق في الحال، وإن قال أنت طالق في مجئ حيضتك فإنها لا تطلق حتى تحيض.
وقال في الجامع: إذا قال أنت طالق في مجئ يوم لم تطلق حتى يطلع الفجر من الغد، ولو قال في مضي يوم، فإن قال ذلك بالليل فهي طالق كما غربت الشمس من الغد، وإن قال ذلك بالنهار لم تطلق حتى يجئ مثل هذه الساعة من الغد.
وعلى هذا قال في السير الكبير: إذا قال رأس الحصن آمنوني في عشرة فهو أحد العشرة لان معنى الظرف في العدد بهذا يتحقق، والخيار في التسعة إلى الذي آمنهم لا إليه، لانه ما شرط لنفسه شيئا في أمان من ضمهم إلى نفسه ليكونوا عشرة.
ولو قال لفلان علي عشرة دراهم في عشرة تلزمه عشرة لان العدد لا يصلح ظرفا لمثله بلا شبهة إلا أن يعني حرف مع فإن في يأتي بمعنى مع، قال تعالى:
(فادخلي في عبادي) أي مع عبادي، فإذا قال ذلك فحينئذ يلزمه عشرون، ولكن

بدون هذه النية لا يلزمه لان المال بالشك لا يجب.
وكما أن في يكون بمعنى مع يكون بمعنى من، قال تعالى: (وارزقوهم فيها) أي منها.
وكذلك لو قال لامرأته أنت طالق واحدة في واحدة فهي طالق واحدة إلا أن يقول نويت مع فحينئذ تطلق اثنتين دخل بها أم لم يدخل بها، وإن قال عنيت الواو فذلك صحيح أيضا على ما هو مذهب أهل النحو أن أكثر حروف الصلات يقام بعضها مقام بعض، فعند هذه النية تطلق اثنتين إن كان دخل بها وواحدة إن لم يدخل بها، بمنزلة قوله واحدة وواحدة.
وقال في الزيادات: إذا قال أنت طالق في مشيئة الله أو في إرادته لم تطلق بمنزلة قوله إن شاء الله كما جعل قوله في دخولك الدار بمنزلة قوله إن دخلت الدار، إلا في قوله في علم الله فإنها تطلق لان العلم يستعمل عادة بمعنى المعلوم، يقال علم أبي حنيفة، ويقول الرجل اللهم اغفر لنا علمك فينا: أي معلومك، وعلى هذا المعنى يستحيل جعله بمعنى الشرط.
فإن قيل: لو قال في قدرة الله لم تطلق، وقد تستعمل القدرة بمعنى المقدور، فقد يقول من يستعظم شيئا: هذه قدرة الله تعالى.
قلنا: معنى هذا الاستعمال أنه أثر قدرة الله تعالى إلا أنه قد يقام المضاف إليه مقام المضاف ومثله لا يتحقق في العلم.
ومن هذا الجنس أسماء الظروف، وهي: مع، وقبل، وبعد، وعند.
فأما مع فهي للمقارنة حقيقة وإن كان قد تستعمل بمعنى بعد، قال تعالى: (إن مع العسر يسرا) وعلى اعتبار حقيقة الوضع قلنا إذا قال لامرأته أنت طالق واحدة مع واحدة تطلق اثنتين سواء دخل بها أو لم يدخل بها، وكذلك لو قال معها واحدة لانهما تقترنان في الوقوع في الوجهين.
ولو قال لفلان علي مع كل درهم من هذه الدراهم العشرة درهم فعليه عشرون درهما.
وأما قبل فهي للتقديم، قال تعالى: (من قبل أن نطمس وجوها) ولهذا لو قال لامرأته وقت الضحوة أنت طالق قبل غروب الشمس تطلق للحال، بخلاف

الملك الذي كان للمورث، فإن الوراثة خلافة، وقد بينا أن عنده استصحاب الحال فيما يرجع إلى الابقاء حجة على الغير.
ولكنا نقول: هذا البقاء في حق المورث، فأما في حق الوارث فصفة المالكية تثبت له ابتداء واستصحاب الحال لا يكون حجة فيه بوجه، وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ادعى عينا في يد إنسان أنه له ميراث من أبيه وأقام الشاهدين فشهدا أن هذا كان لابيه لم تقبل هذه الشهادة.
وفي قول أبي يوسف الآخر تقبل، لان الوراثة خلافة فإنما يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث، ولهذا يرد بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه المورث، وما ثبت فهو باق لاستغناء البقاء عن دليل.
وهما يقولان في حق الوارث: هذا في معنى ابتداء التملك، لان صفة المالكية تثبت له في هذا المال بعد أن لم يكن مالكا، وإنما يكون البقاء في حق المورث أن لو حضر بنفسه يدعي أن العين ملكه فلا جرم إذا شهد الشاهدان أنه كان له كانت شهادة مقبولة كما إذا شهدا أنه له، فأما إذا كان المدعي هو الوارث وصفة المالكية للوارث تثبت ابتداء بعد موت المورث فهذه الشهادة لا تكون حجة للقضاء بالملك له، لان طريق القضاء بها استصحاب الحال وذلك غير صحيح.
فصل ومن هذه الجملة الاستدلال بتعارض الاشباه، وذلك نحو احتجاج زفر رحمه الله في أنه لا يجب غسل المرافق في الوضوء، لان من الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فمع الشك لا تثبت فرضية الغسل فيما هو غاية بالنص، لان
هذا في الحقيقة احتجاج بلا دليل لاثبات حكم، فإن الشك الذي يدعيه أمر حادث فلا يثبت حدوثه إلا بدليل.
فإن قال: دليله تعارض الاشباه.
قلنا: وتعارض الاشباه أيضا حادث فلا يثبت إلا بالدليل.
فإن قال: الدليل عليه ما أعده من الغايات مما يدخل بالاجماع وما لا يدخل بالاجماع.
قلنا: وهل تعلم أن هذا المتنازع فيه من أحد النوعين بدليل ؟ فإن قال أعلم ذلك.
قلنا: فإذن عليك أن لا تشك فيه بل

تلحقه بما هو من نوعه بدليله.
وإن قال: لا أعلم ذلك.
قلنا: قد اعترفت بالجهل، فإن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه وذلك لا يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل.
فصل ومن هذه الجملة الاحتجاج بالاطراد على صحة العلة إما وجودا أو وجودا وعدما فإنه احتجاج بلا دليل في الحقيقة، ومن حيث الظاهر هو احتجاج بكثرة أداء الشهادة، وقد بينا أن كثرة أداء الشهادة وتكرارها من الشاهد لا يكون دليل صحة شهادته.
ثم الاطراد عبارة عن سلامة الوصف عن النقوض والعوارض، والناظر وإن بالغ في الاجتهاد بالعرض على الاصول المعلومة عنده فالخصم لا يعجز من أن يقول عندي أصل آخر هو مناقض لهذا الوصف أو معارض فجهلك به لا يكون حجة لك علي، فتبين من هذا الوجه أنه احتجاج بلا دليل، ولكنه فوق ما تقدم في الاحتجاج به من حيث الظاهر، لان من حيث الظاهر الوصف صالح، ويحتمل أن يكون حجة للحكم إذا ظهر أثره عند التأمل،
ولكن لكونه في الحقيقة استدلالا على صحته بعدم النقوض والعوارض لم يصلح أن يكون حجة لاثبات الحكم.
فإن قيل: أليس أن النصوص بعد ثبوتها يجب العمل بها، واحتمال ورود الناسخ لا يمكن شبهة في الاحتجاج بها قبل أن يظهر الناسخ فكذلك ما تقدم ؟ قلنا: أما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا احتمال للنسخ في كل نص كان حكمه ثابتا عند وفاته، فأما في حال حياته فهكذا نقول: إن الاحتجاج به لاثبات الحكم ابتداء صحيح، فأما لابقاء الحكم أو لنفي الناسخ لا يكون صحيحا، لان احتمال بقاء الحكم واحتمال قيام دليل النسخ فيه كان بصفة واحدة، وقد قررنا هذا في باب النسخ.

مبيعا والمبيع الدين لا يكون إلا سلما، وعلى هذا لو قال لعبده إن أخبرتني بقدوم فلان فأنت حر، فهذا على الخبر الحق الذي يكون بعد القدوم، لان مفعول الخبر محذوف هنا وقد دل عليه حرف الباء الذي هو للالصاق، كقول القائل: بسم الله، أي بدأت بسم الله فيكون معنى كلامه إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدوم فلان، والقدوم اسم لفعل موجود فلا يتناول الخبر بالباطل.
ولو قال إن أخبرتني أن فلانا قد قدم فهذا على الخبر حقا كان أو باطلا، لانه لما لم يذكر حرف الباء فالمذكور صالح لان يكون مفعول الخبر وأن وما بعده مصدر والخبر إنما يكون بكلام لا يفعل فكأنه قال إن أخبرتني بخبر قدوم فلان، والخبر اسم لكلام يدل على القدوم ولا يوجد عنده القدوم لا محالة.
وعلى هذا قال في الزيادات: إذا قال أنت طالق بمشيئة الله أو بإرادته أو بحكمه لم تطلق، وكذلك سائر أخواتها، لان الباء للالصاق فيكون دليلا على معنى الشرط مفضيا إليه.
وعلى هذا قال في الجامع: إذا قال لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني تحتاج إلى الاذن في كل مرة، لان الباء للالصاق
فإنما جعل المستثنى خروجا ملصقا بالاذن وذلك لا يكون إلا بتجديد الاذن في كل مرة، قال تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي مأمورين بذلك.
ولو قال إن خرجت إلا أن آذن لك، فهذا على الاذن مرة (واحدة) لانه يتعذر الحمل ههنا على الاستثناء لمخالفة الجنس في صيغة الكلام فيحمل على معنى الغاية مجازا لما بينهما من المناسبة، وعليه دل قوله تعالى: (إلا أن يحاط بكم) .
(إلا أن تقطع قلوبهم) : أي حتى.
ثم قال الشافعي في قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) : إن الباء للتبعيض فإنما يلزمه مسح بعض الرأس وذلك أدنى ما يتناوله الاسم.
وقال مالك: الباء صلة للتأكيد بمنزلة قوله تعالى: (تنبت بالدهن) كأنه قال وامسحوا رؤوسكم فيلزمه مسح جميع الرأس.
وقلنا: أما التبعيض فلا وجه له لان الموضوع للتبعيض حرف من والتكرار والاشتراك لا يثبت بأصل الوضع، ولا وجه لحمله على الصلة لما فيه من معنى الالغاء أو الحمل على غير فائدة مقصودة

وهي التوكيد.
ولكنا نقول: الباء للالصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح فيتناول جميعه كما يقول الرجل: مسحت الحائط بيدي ومسحت رأس اليتيم بيدي فيتناول كله، وإذا قرنت بمحل المسح يتعدى الفعل بها إلى الآلة فلا تقتضي الاستيعاب وإنما تقتضي إلصاق الآلة بالمحل وذلك لا يستوعب الكل عادة، ثم أكثر الآلة ينزل منزلة الكمال، فيتأدى المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل المسح، ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق لا بحرف الباء.
فإن قيل: أليس أن في التيمم حكم المسح ثبت بقوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ثم الاستيعاب فيه شرط ؟ قلنا: أما على رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يشترط فيه الاستيعاب لهذا المعنى، وأما على ظاهر الرواية فإنما عرفنا
الاستيعاب هناك إما بإشارة الكتاب وهو أن الله تعالى أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذر الغسل والاستيعاب في الغسل فرض بالنص فكذلك فيما قام مقامه، أو عرفنا ذلك بالسنة وهو قوله عليه السلام لعمار رضي الله عنه: يكفيك ضربتان: ضربة للوجه وضربة للذراعين.
ومن هذا الفصل حروف القسم، والاصل فيها باعتبار الوضع الباء حتى يستقيم استعمالها مع إظهار الفعل ومع إضماره، فإن الباء للالصاق وهي تدل على محذوف كما بينا، وقول الرجل بالله بمعنى أقسم (أو أحلف) بالله كما قال تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا) وكذلك يستقيم وصلها بسائر الاسماء والصفات وبغير الله إذا حلف به مع التصريح بالاسم أو الكناية عنه بأن يقول بأبي أو بك لافعلن أو به لافعلن فيصح استعماله في جميع هذه الوجوه لمقصود القسم باعتبار أصل الوضع.
ثم قد تستعار الواو مكان الباء في صلة القسم لما بينهما من المناسبة صورة ومعنى.
أما الصورة فلان خروج كل واحد منهما من المخرج الصحيح بضم الشفتين، وأما المعنى فلان في العطف إلصاق المعطوف بالمعطوف عليه، وحرف الباء للالصاق إلا أن الواو تستعمل في المضمر (دون المظهر، لا يقال أحلف والله لانه يشبه قسمين،

بينهما بعضية، وفي المبتوتة إنه لا يلحقها الطلاق لانه ليس بينهما نكاح، وفي إسلام المروي بالمروي إنه يجوز لانه لم يجمع البدلين الطعم والثمنية، وهذا فاسد لانه استدلال بعدم وصف والعدم لا يصلح أن يكون موجبا حكما، وقد بينا أن العدم الثابت بدليل لا يكون بقاؤه ثابتا بدليل فكيف يستدل به لاثبات حكم آخر.
فإن قيل: مثل هذا التعليل كثير في كتبكم.
قال محمد رحمه الله: ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف لانه ليس بمال، والزوائد لا تضمن بالغصب لانه
لم يغصب الولد.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: العقار لا يضمن بالغصب لانه لم ينقله ولم يحوله.
وقال فيما لا يجب فيه الخمس: لانه لم يوجف عليه المسلمون.
وقال في تناول الحصاة: لا تجب الكفارة لانه ليس بمطعوم.
وقال في الجد: لا يؤدي صدقة الفطر عن النافلة لانه ليس عليه ذلك.
فهذا استدلال بعدم وصف أو حكم.
قلنا: أولا هذا عندنا غير مذكور على وجه المقايسة بل على وجه الاستدلال فيما كان سببه واحدا معينا بالاجماع نحو الغصب، فإن ضمان الغصب سببه واحد عين وهو الغصب، فالاستدلال بانتفاء الغصب على انتفاء الضمان يكون استدلالا بالاجماع.
وكذلك وجوب ضمان المال بسبب يستدعي المماثلة بالنص وله سبب واحد عين وهو إتلاف المال، فيستقيم الاستدلال بانتفاء المالية في المحل على انتفاء هذا النوع من الضمان وكذلك إذا كان دليل الحكم معلوما في الشرع بالاجماع نحو الخمس فإنه واجب في الغنيمة لا غير وطريق الاغتنام الايجاف عليه بالخيل والركاب، فالاستدلال به لنفي الخمس يكون استدلالا صحيحا، وقد بينا أنه إبلاء العذر في بعض المواضع لا الاحتجاج به على الخصم.
فأما تعليل النكاح بأنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال يكون تعليلا بعدم الوصف وعدم الوصف لا يعدم الحكم لجواز أن يكون الحكم ثابتا باعتبار وصف آخر، لانه وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما يثبت مع الشبهات والاصل المتفق عليه الحدود والقصاص، وبهذا الوصف لا يصير النكاح بمنزلة الحدود والقصاص حتى يثبت مع الشبهات بخلاف الحدود والقصاص، فعرفنا أن بعدم هذا الوصف لا ينعدم وصف آخر يصلح التعليل به لاثباته بشهادة

النساء مع الرجال.
وكذلك ما علل به من أخوات هذا الفصل فهو يخرج على هذا الحرف إذا تأملت.
فصل ومن هذا النوع الاحتجاج بأن الاوصاف محصورة عند القائسين، فإذا قامت الدلالة على فساد سائر الاوصاف إلا وصفا واحدا تثبت به صحة ذلك الوصف ويكون حجة.
هذا طريق بعض أصحاب الطرد.
وقد جوز الجصاص رحمه الله تصحيح الوصف للعلة بهذا الطريق.
قال الشيخ رحمه الله: وقد كان بعض أصدقائي عظيم الجد في تصحيح هذا الكلام، بعلة أن الاوصاف لما كانت محصورة وجميعها ليست بعلة للحكم بل العلة وصف منها، فإذا قام الدليل على فساد سائر الاوصاف سوى واحد منها ثبت صحة ذلك الوصف بدليل الاجماع كأصل الحكم، فإن العلماء إذا اختلفوا في حكم حادثة على أقاويل، فإذا ثبت بالدليل فساد سائر الاقاويل إلا واحدا ثبت صحة ذلك القول، وذلك نحو اختلاف العلماء في جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه، فإنا إذا أفسدنا قول من يقول بالرجوع إلى قول القائف، وقول من يقول بالقرعة، وقول من يقول بالتوقف إنه لا يثبت النسب من واحد منهما يثبت به صحة قول من يقول بأنه يثبت النسب منهما جميعا.
وإذا قال لنسائه الاربعة: إحداكن طالق ثلاثا ووطئ ثلاثا منهن حتى يكون ذلك دليلا على انتفاء المحرمة عنهن تعين بها الرابعة محرمة فكان تقرب هذا من الادلة العقلية.
قال الشيخ: وعندي أن هذا غلط لا نجوز القول به، وهو مع ذلك نوع من الاحتجاج بالدليل.
أما بيان الغلط فيه وهو أن ما يجعله هذا القائل دليل صحة علته هو الدليل على فساده، لانه لا يمكنه سلوك هذا الطريق إلا بعد قوله بالمساواة بين الاوصاف في أن كل وصف منها صالح أن يكون علة للحكم، وبعد ثبوت هذه المساواة فالدليل الذي يدل على فساد بعضها هو الدليل على فساد ما بقي منها، لانه متى علم المساواة بين شيئين في الحكم ثم ظهر لاحدهما حكم بالدليل فذلك الدليل يوجب مثل

فيجازي بها مرة إذا أريد بها الشرط ولا يجازي بها مرة إذا أريد بها الوقت، وإذا استعملت للشرط لم يكن فيها معنى الوقت، وهذا قول أبي حنيفة، وعلى قول نحويي البصرة هي للوقت باعتبار أصل الوضع، وإن استعملت للشرط فهي لا تخلو عن معنى الوقت، بمنزلة متى فإنها للوقت وإن كان قد يجازي بها، فإن المجازاة بها لازمة في غير موضع الاستفهام والمجازاة بإذا جائزة غير لازمة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وبيان المسألة ما إذا قال إذا لم أطلقك فأنت طالق أو إذا ما لم أطلقك، فإن عنى بها الوقت تطلق في الحال، وإن عنى الشرط لم تطلق حتى تموت، وإن لم تكن له نية فعلى قول أبي حنيفة لا تطلق حتى يموت، وعلى قولهما تطلق في الحال، قالا إن إذا تستعمل للوقت غالبا وتقرن بما ليس فيه معنى الخطر، فإنه يقال الرطب إذا اشتد الحر والبرد إذا جاء الشتاء، ولا يستقيم مكانها إن، قال تعالى: (إذا الشمس كورت) و (إذا السماء انفطرت) وذلك كائن لا محالة، فعرفنا أنه لا ينفك عن معنى الوقت استعمالا.
وتستعمل في جواب الشرط، قال تعالى: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) وما يستعمل في المجازاة لا يكون محض الشرط، فعرفنا أنها بمعنى متى فإنها لا تنفك عن معنى الوقت وإن كان المجازاة بها ألزم من المجازاة بإذا.
وإذا ثبت هذا قلنا قد أضاف الطلاق إلى وقت في المستقبل هو خال عن إيقاع الطلاق فيه عليها وكما سكت فقد وجد ذلك الوقت فتطلق، ألا ترى أنه لو قال لامرأته إذا شئت فأنت طالق لم تتوقت المشيئة بالمجلس بمنزلة قوله متى شئت، بخلاف قوله إن شئت، وأبو حنيفة رحمه الله اعتمد ما قال أهل الكوفة إن إذا قد تستعمل بمحض الشرط، واستدل عليه الفراء بقول القائل: استغن ما أغناك ربك بالغنى وإذا تصبك خصاصة فتحمل معناه إن تصبك خصاصة، فإن حمل على معنى الشرط لم يقع الطلاق حتى يموت،

وإن حمل على معنى الوقت وقع الطلاق في الحال والطلاق بالشك لا يقع.
وعلى هذا قلنا في قوله إذا شئت إنه لا يتوقت بالمجلس لان المشيئة صارت إليها بيقين، فلو جعلنا الكلمة بمنزلة إن خرج الامر من يدها بالقيام، ولو جعلناها بمنزلة متى لم يخرج الامر من يدها بالشك.
وأما متى فهي للوقت باعتبار أصل الوضع ولكن لما كان الفعل يليها دون الاسم جعلناها في معنى الشرط ولهذا صح المجازاة بها غير أنها لا تنفك عن معنى الوقت بحال، فإذا قال لامرأته متى لم أطلقك فأنت طالق أو متى ما لم أطلقك فأنت طالق طلقت كما سكت لوجود وقت بعد كلامه لم يطلقها فيه، ولهذا لم نذكر في حروف الشرط كلمة كل لان الاسم يليها دون الفعل فإنها تجمع الاسماء ويستقيم أن يقال كل رجل ولا يستقيم أن يقال كل دخل، وفيها معنى الشرط باعتبار أن الاسم الذي يتعقبها يوصف بفعل لا محالة ليتم كل الكلام وذلك الفعل يصير في معنى الشرط حتى لا ينزل الجزاء إلا بوجوده.
بيانه فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها وكل عبد أشتريه، وذكرنا في حروف الشرط كلمة كلما لان الفعل يتعقبها دون الاسم.
يقال كلما دخل وكلما خرج ولا يقال كلما زيد.
وقد قدمنا الكلام في بيان كلما ومن وما.
ومما هو في معنى الشرط لو على ما يروى عن أبي يوسف أنه إذا قال لامرأته أنت طالق لو دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل كقوله إن دخلت لان لو تفيد معنى الترقب فيما يقرن به مما يكون في المستقبل فكان بمعنى الشرط من هذا الوجه.
ولو قال أنت طالق لو حسن خلقك عسى أن أراجعك تطلق في الحال لان لو هنا إنما تقرن بالمراجعة التي تترقب في المستقبل فتخلو كلمة الايقاع عن معنى الشرط.
وأما لولا فهي بمعنى الاستثناء لانها تستعمل لنفي شئ بوجود غيره، قال تعالى: (ولولا رهطك لرجمناك) وعلى هذا قال محمد رحمه الله في قوله أنت طالق لولا
دخولك الدار إنها لا تطلق وتجعل هذه الكلمة بمعنى الاستثناء، ذكره الكرخي رحمه الله في المختصر.

وبالاخرى إلى فروع أخر فلا يكون انعدام العلة مع بقاء الحكم في موضع ثابتا بالعلة الاخرى دليل فساد العلة.
فأما المفارقة فمن الناس من ظن أنها مفاقهة، ولعمري المفارقة مفاقهة ولكن في غير هذا الموضع، فأما على وجه الاعتراض على العلل المؤثرة تكون مجادلة لا فائدة فيها في موضع النزاع.
وبيان هذا من وجوه ثلاثة: أحدها أن شرط صحة القياس لتعدية الحكم إلى الفروع تعليل الاصل ببعض أوصافه لا بجميع أوصافه، وقد بينا أنه متى كان التعليل بجميع أوصاف الاصل لا يكون مقايسة، فبيان المفارقة بين الاصل والفرع بذكر وصف آخر لا يوجد ذلك في الفرع ويرجع إلى بيان صحة المقايسة، فأما أن يكون ذلك اعتراضا على العلة فلا.
ثم ذكر وصف آخر في الاصل يكون ابتداء دعوى والسائل جاهل مسترشد في موقف المنكر إلى أن تتبين له الحجة لا في موضع الدعوى، وإن اشتغل بإثبات دعواه فذلك لا يكون سعيا في إثبات الحكم المقصود وإنما يكون سعيا في إثبات الحكم في الاصل وهو مفروغ عنه، ولا يتصل ما يثبته بالفرع إلا من حيث إنه ينعدم ذلك المعنى في الفرع وبالعدم لا يثبت الاتصال، وقد بينا أن العدم لا يصلح أن يكون موجبا شيئا، فكان هذا منه اشتغالا بما لا فائدة فيه.
والثالث ما بينا أن الحكم في الاصل يجوز أن يكون معلولا بعلتين ثم يتعدى الحكم إلى بعض الفروع بإحدى العلتين دون الاخرى، فبان انعدام في الفرع الوصف الذي يروم به السائل الفرق، وإن سلم له أنه علة لاثبات
الحكم في الاصل فذلك لا يمنع المجيب من أن يعدي حكم الاصل إلى الفرع بالوصف الذي يدعيه أنه علة للحكم، وما لا يكون قدحا في كلام المجيب فاشتغال السائل به يكون اشتغالا بما لا يفيد، وإنما المفاقهة في الممانعة حتى يبين المجيب تأثير علته، فالفقه حكمة باطنة، وما يكون مؤثرا في إثبات الحكم شرعا فهو الحكمة الباطنة، والمطالبة به تكون مفاقهة،

فأما الاعراض عنه والاشتغال بالفرق يكون قبولا لما فيه احتمال أن لا يكون حجة لاثبات الحكم، واشتغالا بإثبات الحكم بما ليس بحجة أصلا في موضع النزاع وهو عدم العلة، فتبين أن هذا ليس من المفاقهة في شئ، والله أعلم.
فصل: الممانعة قال رضي الله عنه: اعلم بأن الممانعة أصل الاعتراض على العلة المؤثرة من حيث إن الخصم المجيب يدعي أن حكم الحادثة ما أجاب به، فإذا لم يسلم له ذلك يذكر وصفا يدعي أنه علة موجبة للحكم في الاصل المجمع عليه وأن هذا الفرع نظير ذلك الاصل، فيتعدى ذلك الحكم بهذا الوصف إلى الفرع، وفي هذا الحكم دعويان فهو أظهر في الدعوى من الاول، أي حكم الحادثة، وإن كانت المناظرة لا تتحقق إلا بمنع دعوى السابق عرفنا أنها لا تتحقق إلا بمنع هذه الدعاوى أيضا فيكون هو محتاجا إلى إثبات دعاويه بالحجة، والسائل منكر فليس عليه سوى المطالبة لاقامة الحجة بمنزلة المنكر في باب الدعاوى والخصومات، وإليه أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث قال للمدعي: (ألك بينة) وبالممانعة يتبين العوارض ويظهر المدعي من المنكر، والملزم من الدافع بعدما ثبت شرعا أن حجة أحدهما
غير حجة الآخر.
ثم الممانعة على أربعة أوجه: ممانعة في نفس العلة، وممانعة في الوصف الذي يذكر العلل أنه علة، وممانعة في شرط صحة العلة أنه موجود في ذلك الوصف، وممانعة في المعنى الذي به صار ذلك الوصف علة للحكم.
أما الممانعة في نفس العلة فكما بينا أن كثيرا من العلل إذا تأملت فيها تكون احتجاجا بلا دليل، وذلك لا يكون حجة على الخصم الاثبات.

باب: بيان الاحكام الثابتة بظاهر النص دون القياس والرأي قال رضي الله عنه: هذه الاحكام تنقسم أربعة أقسام: الثابت بعبارة النص، والثابت بإشارته، والثابت بدلالته، والثابت بمقتضاه.
فأما الثابت بالعبارة فهو ما كان السياق لاجله ويعلم قبل التأمل أن ظاهر النص متناول له، والثابت بالاشارة ما لم يكن السياق لاجله لكنه يعلم بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة فيه ولا نقصان وبه تتم البلاغة ويظهر الاعجاز.
ونظير ذلك من المحسوس أن ينظر الانسان إلى شخص هو مقبل عليه ويدرك آخرين بلحظات بصره يمنة ويسرة وإن كان قصده رؤية المقبل إليه فقط، ومن رمى سهما إلى صيد فربما يصيب الصيدين بزيادة حذقه في ذلك للعمل، فإصابته الذي قصد منهما موافق للعادة، وإصابة الآخر فضل على ما هو العادة حصل بزيادة حذقه ومعلوم أنه يكون مباشرا فعل الاصطياد فيهما، فكذلك هنا الحكم الثابت بالاشارة والعبارة كل واحد منهما يكون ثابتا بالنص وإن كان عند التعارض قد يظهر بين الحكمين تفاوت كما نبينه.
وبيان هذين النوعين في قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين) فالثابت بالعبارة في هذه الآية نصيب من الفئ لهم لان سياق الآية لذلك، كما قال تعالى في أول الآية: (ما أفاء الله على رسوله) الآية، والثابت بالاشارة أن الذين هاجروا من مكة قد
زالت أملاكهم عما خلفوا بمكة لاستيلاء الكفار عليها، فإن الله تعالى سماهم فقراء والفقير حقيقة من لا يملك المال لا من بعدت يده عن المال، لان الفقر ضد الغنى والغني من يملك حقيقة المال لا من قربت يده من المال حتى لا يكون المكاتب غنيا حقيقة وإن كان في يده أموال، وابن السبيل غني حقيقة وإن بعدت يده عن المال لقيام ملكه، ومطلق الكلام محمول على حقيقته، وهذا حكم ثابت بصيغة الكلام من غير زيادة ولا نقصان، فعرفنا أنه ثابت بإشارة النص ولكن لما كان لا يتبين ذلك إلا بالتأمل اختلف العلماء فيه لاختلافهم في التأمل، ولهذا قيل: الاشارة من العبارة بمنزلة الكناية والتعريض من التصريح أو بمنزلة المشكل من الواضح، فمنه ما يكون

موجبا للعلم قطعا بمنزلة الثابت بالعبارة، ومنه ما لا يكون موجبا للعلم وذلك عند اشتراك معنى الحقيقة والمجاز في الاحتمال مرادا بالكلام.
ومن ذلك قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) فالثابت بالعبارة ظهور المنة للوالدة على الولد لان السياق يدل على ذلك، والثابت بالاشارة أن أدنى مدة الحمل ستة أشهر فقد ثبت بنص آخر أن مدة الفصال حولان كما قال تعالى: (وفصاله في عامين) فإنما يبقى للحمل ستة أشهر ولهذا خفي ذلك على أكثر الصحابة رضي الله عنهم واختص بفهمه ابن عباس رضي الله عنهما فلما ذكر لهم ذلك قبلوا منه واستحسنوا قوله.
ومن ذلك قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فالثابت بالعبارة وجوب نفقتها على الوالد فإن السياق لذلك، والثابت بالاشارة أحكام منها أن نسبة الولد إلى الاب لانه أضاف الولد إليه بحرف اللام فقال: (وعلى المولود له) فيكون دليلا على أنه هو المختص بالنسبة إليه، وهو دليل على أن للاب تأويلا في نفس الولد وماله، فإن الاضافة بحرف اللام دليل الملك كما يضاف العبد إلى سيده فيقال هذا العبد لفلان، وإلى ذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أنت
ومالك لابيك ولثبوت التأويل له في نفسه وماله قلنا لا يستوجب العقوبة بإتلاف نفسه ولا يحد بوطئ جاريته وإن علم حرمتها عليه، والمسائل على هذا كثيرة، وهو دليل أيضا على أن الاب لا يشاركه في النفقة على الولد غيره لانه هو المختص بالاضافة إليه والنفقة تبتني على هذه الاضافة كما وقعت الاشارة إليه في الآية، بمنزلة نفقة العبد فهي إنما تجب على سيده لا يشاركه غيره فيها، وفيه دليل أيضا على أن استئجار الام على الارضاع في حال قيام النكاح بينهما لا يجوز، لانه جعل النفقة لها عليه باعتبار عمل الارضاع بقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فلا يستوجب بدلين باعتبار عمل واحد، وهو دليل أيضا على ما يستحق بعمل الارضاع من النفقة والكسوة لا يشترط فيه إعلام الجنس والقدر وإنما يعتبر فيه المعروف فيكون دليلا لابي حنيفة رحمه الله في جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها.

فصل: القلب والعكس قال رضي الله عنه: تفسير القلب لغة: جعل أعلى الشئ أسفله وأسفله أعلاه.
من قول القائل: قلبت الاناء إذا نكسه، أو هو: جعل بطن الشئ ظهرا والظهر بطنا.
من قول القائل: قلبت الجراب إذا جعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وقلبت الامر إذا جعله ظهرا لبطن.
وقلب العلة على هذين الوجهين.
وهو نوعان: أحدهما جعل المعلول علة والعلة معلولا، وهذا مبطل للعلة، لان العلة هي الموجبة شرعا والمعلول هو الحكم الواجب به فيكون فرعا وتبعا للعلة، وإذا جعل التبع أصلا والاصل تبعا كان ذلك دليل بطلان العلة.
وبيانه فيما قال الشافعي في الذمي إنه يجب عليه الرجم لانه من جنس من يجلد بكره مائة فيرجم ثيبه كالمسلم.
فيقلب عليه فنقول: في الاصل إنما يجلد بكره لانه يرجم ثيبه فيكون ذلك قلبا مبطلا لعلته
باعتبار أن ما جعل فرعا صار أصلا وما جعله أصلا صار تبعا.
وكذلك قوله: القراءة ركن يتكرر فرضا في الاوليين فيتكرر أيضا فرضا في الاخريين كالركوع.
وهذا النوع من القلب إنما يتأتى عند التعليل بحكم لحكم، فأما إذا كان التعليل بوصف لا يرد عليه هذا القلب، إذ الوصف لا يكون حكما شرعيا يثبت بحكم آخر.
وطريق المخلص عن هذا القلب أن لا يذكر هذا على سبيل التعليل بل على سبيل الاستدلال بأحد الحكمين على الآخر، فإن الاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في الحوادث، روينا ذلك عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم، ولكن شرط هذا الاستدلال أن يثبت أنهما نظيران متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه، هذا على ذاك في حال وذاك على هذا في حال، بمنزلة التوأم فإنه يثبت حرية الاصل لاحدهما أيهما كان بثبوته للآخر، ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته للآخر، وذلك نحو ما يقوله علماؤنا رحمهم الله.
وبيانه فيما قال علماؤنا: إن الصوم عبادة تلزم بالنذر فتلزم بالشروع كالحج، فلا يستقيم قلبهم علينا، لان الحج إنما يلزم بالنذر لانه يلزم بالشروع،

لانا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى، على وجه يكون المعنى فيها لازما، والرجوع عنها بعد الاداء حرام، وإبطالها بعد الصحة جناية، فبعد ثبوت المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذاك تارة وذاك على هذا تارة.
وكذلك قولنا في الثيب الصغيرة من يكون موليا عليه في ماله تصرفا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا كالبكر، وفي البكر البالغة من لا يكون موليا عليه في ماله تصرفا لا يكون موليا عليه
في نفسه تصرفا كالرجل، يكون استدلالا صحيحا بأحد الحكمين على الآخر، إذ المساواة قد تثبت بين التصرفين من حيث إن ثبوت الولاية في كل واحد منهما باعتبار حاجة المولى عليه وعجزه عن التصرف بنفسه، فلا يستقيم قلبهم إذا ذكرنا هذا على وجه الاستدلال، لان جواز الاستدلال بكل واحد منهما على الآخر يدل على قوة المشابهة والمساواة وهو المقصود بالاستدلال، بخلاف ما علل به الشافعي، فإنه لا مساواة بين الجلد والرجم، أما من حيث الذات فالرجم عقوبة غليظة تأتي على النفس والجلد لا، ومن حيث الشرط الرجم يستدعي من الشرائط ما لا يستدعي عليه الجلد كالثيوبة.
وكذلك لا مساواة بين ركن القراءة وبين الركوع، فإن الركوع فعل هو أصل في الركعة، والقراءة ذكر هو زائد، حتى إن العاجز عن الاذكار القادر على الافعال يؤدي الصلاة، والعاجز عن الافعال القادر على الاذكار لا يؤديها، ويسقط ركن القراءة بالاقتداء عندنا وعند خوف فوت الركعة بالاتفاق ولا يسقط ركن الركوع.
وكذلك لا مساواة بين الشفع الثاني والشفع الاول في القراءة، فإنه يسقط في الشفع الثاني شطر ما كان مشروعا في الشفع الاول وهو قراءة السورة والوصف المشروع فيه في الشفع الاول وهو الجهر بالقراءة، ومع انعدام المساواة لا يمكن الاستدلال بأحدهما على الآخر، والقلب يبطل التعليل على وجه المقايسة.
والنوع الثاني من القلب: هو جعل الظاهر باطنا بأن يجعل الوصف الذي

في المصروف إليه وهي المسكنة وجعل الواجب فعل الاطعام فيكون ذلك دليلا على أنه مشروع لاعتبار حاجة المحل، ثم هذه الحاجة تتجدد بتجدد الايام فجعلنا المسكين الواحد في عشرة أيام بمنزلة عشرة مساكين في جواز الصرف إليه، ولهذا لم نجوز
صرف جميع الكفارة إلى مسكين واحد دفعة واحدة.
فإن قيل: فقد جوزتم صرف الكسوة أيضا إلى مسكين واحد في عشرة أيام والحاجة إلى الكسوة لا تتجدد (في) كل يوم وإنما ذلك في كل ستة أشهر أو أكثر.
قلنا قد بينا أن التكفير في الكسوة يحصل بالتمليك والحاجة التي تكون باعتبار التمليك لا نهاية لها فتجعل متجددة حكما بتجدد الايام، ولهذا قال بعض مشايخنا: إذا فرق الاطعام في يوم واحد يجوز أيضا وإن أدى الكل مسكينا واحدا لان تجدد الحاجة بتجدد الوقت معلوم وحقيقتها يتعذر الوقوف عليه فيجعل باعتبار كل ساعة كأن الحاجة متجددة حكما، ولكن هذا في التمليك فأما في التمكين لا يتحقق هذا، وأكثرهم على أن في الكسوة يعتبر هذا المعنى الحكمي فأما في الطعام يعتبر بتجدد الايام لان المنصوص عليه الاطعام وحقيقته في التمكين من الطعام، ومعنى تجدد الحاجة إلى ذلك لا يتحقق إلا بتجدد الايام.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم فالثابت بالعبارة وجوب أداء صدقة الفطر في يوم العيد إلى الفقير والسياق لذلك، والثابت بالاشارة أحكام: منها أنها لا تجب إلا على الغني لان الاغناء إنما يتحقق من الغني، ومنها أن الواجب الصرف إلى المحتاج لان إغناء الغني لا يتحقق وإنما يتحقق إغناء المحتاج، ومنها أنه ينبغي أن يعجل أداءها قبل الخروج إلى المصلى ليستغني عن المسألة ويحضر المصلي فارغ القلب من قوت العيال فلا يحتاج إلى السؤال، ولهذا قال أبو يوسف لا يجوز صرفها إلا إلى فقراء المسلمين، ففي قوله (في مثل هذا اليوم) إشارة إلى ذلك، يعني أنه يوم عيد للفقراء والاغنياء جميعا وإنما يتم ذلك للفقراء إذا استغنوا عن السؤال فيه.
وقال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما: هو كذلك ولكن في هذا إشارة إلى الندب أن الاولى أن يصرفه إلى فقراء المسلمين كما أن

الاولى أن يعجل أداءها قبل الصلاة وإن كان التأخير جائزا، ومنها أن وجوب الاداء يتعلق بطلوع الفجر لان اليوم اسم للوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وإنما يغنيه عن المسألة في ذلك اليوم أداء فيه، ومنها أنه يتأدى الواجب بمطلق المال لانه اعتبر الاغناء وذلك يحصل بالمال المطلق وربما يكون حصوله بالنقد أتم من حصوله بالحنطة والشعير والتمر، ومنها أن الاولى أن يصرف صدقته إلى مسكين واحد لان الاغناء بذلك يحصل وإذا فرقها على المساكين كان هذا في الاغناء دون الاول وما كان أكمل فيما هو المنصوص عليه فهو أفضل، فهذه أحكام عرفناها بإشارة النص وهو معنى جوامع الكلم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا هذا مثال بيان الثابت بعبارة النص وإشارته من الكتاب والسنة.
فأما الثابت بدلالة النص فهو ما ثبت بمعنى النظم لغة لا استنباطا بالرأي، لان للنظم صورة معلومة ومعنى هو المقصود به، فالالفاظ مطلوبة للمعاني وثبوت الحكم بالمعنى المطلوب باللفظ، بمنزلة الضرب له صورة معلومة ومعنى هو المطلوب به وهو الايلام، ثم ثبوت الحكم بوجود الموجب له، فكما أن في المسمى الخاص ثبوت الحكم باعتبار المعنى المعلوم بالنظم لغة فكذلك في المسمى الخاص الذي هو غير منصوص عليه يثبت الحكم بذلك المعنى ويسمى ذلك دلالة النص، فمن حيث إن الحكم غير ثابت فيه بتناول صورة النص إياه لم يكن ثابتا بعبارة النص، ومن حيث إنه ثابت بالمعنى المعلوم بالنص لغة كان دلالة النص ولم يكن قياسا، فالقياس معنى يستنبطه بالرأي مما ظهر له أثر في الشرع ليتعدى به الحكم إلى ما لا نص فيه لا استنباط باعتبار معنى النظم لغة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : الحنطة بالحنطة مثل بمثل جعلنا الغلة هي الكيل والوزن بالرأي فإن ذلك لا تتناوله صورة النظم ولا معناها لغة، ولهذا اختص العلماء بمعرفة الاستنباط بالرأي، ويشترك في معرفة
دلالة النص كل من له بصر في معنى الكلام لغة فقيها أو غير فقيه.
ومثال ما قلنا في قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) فإن للتأفيف صورة معلومة ومعنى

لاجله ثبتت الحرمة وهو الاذى حتى إن من لا يعرف هذا المعنى من هذا اللفظ أو كان من قوم هذا في لغتهم إكرام لم تثبت الحرمة في حقه، ثم باعتبار هذا المعنى المعلوم لغة تثبت الحرمة في سائر أنواع الكلام التي فيها هذا المعنى كالشتم وغيره وفي الافعال كالضرب ونحوه، وكان ذلك معلوما بدلالة النص لا بالقياس، لان قدر ما في التأفيف من الاذى موجود فيه وزيادة.
ومثال هذا ما روي أن ماعزا زنى وهو محصن فرجم، وقد علمنا أنه ما رجم لانه ماعز بل لانه زنى في حالة الاحصان، فإذا ثبت هذا الحكم في غيره كان ثابتا بدلالة النص لا بالقياس.
وكذلك أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفارة على الاعرابي باعتبار جنايته لا لكونه أعرابيا، فمن وجدت منه مثل تلك الجناية يكون الحكم في حقه ثابتا بدلالة النص لا بالقياس، وهذا لان المعنى المعلوم بالنص لغة بمنزلة العلة المنصوص عليها شرعا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة: إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات ثم هذا الحكم يثبت في الفأرة والحية بهذه العلة فلا يكون ثابتا بالقياس بل بدلالة النص.
وقال عليه السلام للمستحاضة: إنه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صلاة ثم ثبت ذلك الحكم في سائر الدماء التي تسيل من العروق فيكون ثابتا بدلالة النص لا بالقياس، ولهذا جعلنا الثابت بدلالة النص كالثابت بإشارة النص وإن كان يظهر بينهما التفاوت عند المقابلة، وكل واحد منهما ضرب من البلاغة أحدهما من حيث اللفظ والآخر من حيث المعنى، ولهذا جوزنا إثبات العقوبات والكفارات بدلالة النص وإن كنا لا نجوز ذلك بالقياس، فأوجبنا حد قطاع الطريق على الردء بدلالة النص، لان عبارة النص المحاربة وصورة
ذلك بمباشرة القتال ومعناها لغة قهر العدو والتخويف على وجه ينقطع به الطريق، وهذا معنى معلوم بالمحاربة لغة والردء مباشر لذلك كالمقاتل ولهذا اشتركوا في الغنيمة، فيقام الحد على الردء بدلالة النص من هذه الوجوه.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يجب الحد في اللواطة على الفاعل والمفعول به بدلالة نص الزنا، فالزنا اسم لفعل معنوي له غرض وهو اقتضاء الشهوة على قصد سفح الماء بطريق حرام لا شبهة فيه وقد وجد هذا كله في اللواطة، فاقتضاء الشهوة بالمحل المشتهي وذلك بمعنى الحرارة واللين، ألا ترى أن الذين لا يعرفون الشرع لا يفصلون بينهما، والقصد منه السفاح

لان النسل لا تصور له في هذا المحل، والحرمة هنا أبلغ من الحرمة في الفعل الذي يكون في القبل فإنها حرمة لا تنكشف بحال، وإنما يبدل اسم المحل فقط فيكون الحكم ثابتا بدلالة النص لا بطريق القياس.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول هو قاصر في المعنى الذي وجب الحد باعتباره، فإن الحد مشروع زجرا وذلك عند دعاء الطبع إليه ودعاء الطبع إلى مباشرة هذا الفعل في القبل من الجانبين فأما في الدبر دعاء الطبع إليه من جانب الفاعل لا من جانب المفعول به، وفي باب العقوبات تعتبر صفة الكمال لما في النقصان من شبهة العدم، ثم في الزنا إفساد الفراش وإتلاف الولد حكما فإن الولد الذي يتخلق من الماء في ذلك المحل لا يعرف له والد لينفق عليه، وبالنساء عجز عن الاكتساب والانفاق ولا يوجد هذا المعنى في الدبر فإنما فيه مجرد تضييع الماء بالصب في غير محل منبت وذلك قد يكون مباحا بطريق العزل، فعرفنا أنه دون الزنا في المعنى الذي لاجله أوجب الحد ولا معتبر بتأكد الحرمة في حكم العقوبة، ألا ترى أن حرمة الدم والبول آكد من حرمة الخمر، ثم الحد يجب بشرب الخمر ولا يجب بشرب الدم والبول للتفاوت في معنى دعاء الطبع من الوجه الذي قررنا، ولهذا قلنا في قوله عليه السلام: لا قود إلا بالسيف: إن القصاص يجب إذا حصل القتل
بالرمح أو النشابة، لان لعبارة النص معنى معلوما في اللغة وذلك المعنى كامل في القتل بالرمح والنشابة، وقد عرفنا أن المراد بذكر السيف القتل به لا قبضه وإنما السيف آلة يحصل به القتل فإذا حصل بآلة أخرى مثل ذلك القتل تعلق حكم القصاص به بدلالة النص لا بالقياس.
ثم قال أبو حنيفة رحمه الله: المعنى المعلوم بذكر السيف لغة أنه ناقض للبنية بالجرح وظهور أثره في الظاهر والباطن، فلا يثبت هذا الحكم فيما لا يماثله في هذا المعنى وهو الحجر والعصا.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: المعنى المعلوم به لغة أن النفس لا تطيق احتماله ودفع أثره فيثبت الحكم بهذا المعنى في القتل بالمثقل ويكون ثابتا بدلالة النص، قالا لان القتل نقض البنية وذلك بفعله لا تحتمله البنية مع صفة السلامة وهذا المعنى في المثقل أظهر، فإن إلقاء حجر الرحى والاسطوانة على إنسان لا تحتمله البنية بنفسها والقتل بالجرح لا تحتمله البنية بواسطة السراية، وإذا كان هذا أتم في المعنى المعتبر كان ثبوت الحكم فيه

بدلالة النص، كما في الضرب مع التأفيف.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: المعتبر في باب العقوبات صفة الكمال في السبب لما في النقصان من شبهة العدم، والكمال في نقض البنية بما يكون عاملا في الظاهر والباطن جميعا، فاعتبار مجرد عدم احتمال البنية إياه مع صفة السلامة ظاهرا لتعدية الحكم غير مستقيم فيما يندرئ بالشبهات وإنما يستقيم ذلك فيما يثبت بالشبهات كالدية والكفارة، فأما ما يندرئ بالشبهات ويعتبر فيه المماثلة في الاستيفاء بالنص لا بد من اعتبار صفة الكمال فيه، ودليل النقصان حكم الذكاة فإنه يختص بما ينقض البنية ظاهرا وباطنا، ولا يعتبر فيه مجرد عدم احتمال البنية إياه، وما قاله إن الجرح وسيلة كلام لا معنى له فإننا لا نعني بفعل القتل الجناية على الجسم ولا على الروح، إذ لا تتصور بالجناية على الروح من العباد، والجسم تبع والمقصود هو النفس الذي هو عبارة عن الطبائع، فالجناية عليها إنما تتم بإراقة
الدم وذلك بعمل يكون جارحا مؤثرا في الظاهر والباطن جميعا، ولهذا كان الغرز بالابرة موجبا للقصاص لانه مسيل للدم مؤثر في الظاهر والباطن إلا أنه لا يكون موجبا الحل في الذكاة، لان المعتبر هنا تسييل جميع الدم المسفوح ليتميز به الطاهر من النجس، ولهذا اختص بقطع الحلقوم والاوداج عند التيسر، ولم يثبت حكم الحل بالنار أيضا لانها تؤثر في الظاهر حسما فلا يتميز به الطاهر من النجس بل يمتنع به من سيلان الدم.
ومن ذلك أن النبي عليه السلام لما أوجب الكفارة على الاعرابي بجنايته المعلومة بالنص لغة أوجبنا على المرأة أيضا مثل ذلك بدلالة النص لا بالقياس، واحبنا في الافطار بالاكل والشرب الكفارة ايضا بدلالة النص لا بالقياس، فإن الاعرابي سأل عن جنايته بقوله: هلكت وأهلكت.
وقد علمنا أنه لم يرد الجناية على البضع لان فعل الجماع حصل منه في محل مملوك له فلا يكون جناية لعينه، ألا ترى أنه لو كان ناسيا لصومه لم يكن ذلك منه جناية أصلا، فعرفنا أن جنايته كان على الصوم باعتبار تفويت ركنه الذي يتأدى به، وقد علم أن ركن الصوم الكف

عن اقتضاء شهوة البطن و (شهوة) الفرج ووجوب الكفارة للزجر عن الجناية على الصوم، ثم دعاء الطبع إلى اقتضاء شهوة البطن أظهر منه إلى اقتضاء شهوة الفرج ووقت الصوم وقت اقتضاء شهوة البطن عادة يعني النهر، فأما اقتضاء شهوة الفرج يكون بالليالي عادة فكان الحكم ثابتا بدلالة النص من هذا الوجه، فإن الجماع آلة لهذه الجناية كالاكل وقد بينا أنه لا معتبر بالآلة في المعنى الذي يترتب الحكم عليه وهو نظير قوله عليه السلام: لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه وكما يصير معتقا بالشراء يصير معتقا بقبول الهبة والصدقة فيه، لان الشراء سبب لما يتم به علة العتق وهو الملك وقبول الهبة مثل الشراء
في ذلك، ثم الجناية على الصوم بهذه الصفة تتم منها بالتمكين كما تتم به من الرجل بالايلاج، ومعنى دعاء الطبع في جانبها كهو في جانب الرجل فالكفارة تلزمها بدلالة النص لا بالقياس.
ومن ذلك قوله عليه السلام للذي أكل ناسيا في شهر رمضان: إن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك ثم أثبتنا هذا الحكم في الذي جامع ناسيا بدلالة النص، فإن تفويت ركن الصوم حقيقة لا يختلف بالنسيان والعمد ولكن النسيان معنى معلوم لغة وهو أنه محمول عليه طبعا على وجه لا صنع له فيه ولا لاحد من العباد فكان مضافا إلى من له الحق، والجماع في حالة النسيان مثل الاكل في هذا المعنى فيثبت الحكم فيه بدلالة النص لا بالقياس، إذ المخصوص من القياس لا يقاس عليه غيره.
فإن قيل: الجماع ليس نظير الاكل من كل وجه، فإن وقت أداء الصوم وقت الاكل عادة ووقت الاسباب المفضية إلى الاكل من التصرف في الطعام وغير ذلك فيبتلى فيه بالنسيان غالبا وهو ليس بوقت الجماع عادة، والصوم أيضا يضعفه عن الجماع ولا يزيد في شهوته كما يزيد في شهوة الاكل فينبغي أن يجعل الجماع من الناسي في الصوم بمنزلة الاكل من الناسي في الصلاة لان كل واحد منهما نادر.

قلنا: نعم في الجماع هذا النوع من التقصير ولكن فيه زيادة في دعاء الطبع إليه من حيث إن الشبق قد يغلب على المرء على وجه لا يصبر عن الجماع وعند غلبة الشبق يذهب من قلبه كل شئ سوى ذلك المقصود ولا يوجد مثل هذا الشبق في الاكل فتكون هذه الزيادة بمقابلة ذلك القصور حتى تتحقق المساواة بينهما، ولكن لا تعتبر هذه الزيادة عند ذكر الصوم في حق الكفارة، لان غلبة الشبق بهذه الصفة تنعدم بإباحة الجماع ليلا، ولانه لا يكون إلا نادرا وصفة الكمال لا تبتنى على ما هو نادر
وإنما تبتنى على ما هو المعتاد، وإنما طريق القياس في هذا ما سلكه الشافعي رحمه الله حيث جعل المكره والخاطئ بمنزلة الناسي باعتبار وصف العذر، فإن الكره والخطأ غير النسيان صورة ومعنى، فالحكم الثابت بالنسيان لا يكون ثابتا بالخطأ والكره بدلالة النص بل يكون بطريق القياس، وهو قياس فاسد، فإن الكره مضاف إلى غير من له الحق وهو المكره، والخطأ مضاف إلى المخطئ أيضا وهو مما يتأتى عنه التحرز في الجملة فلم يكن في معنى ما لا صنع للعباد فيه أصلا، ألا ترى أن المريض يصلي قاعدا ثم لا تلزمه الاعادة إذا برأ بخلاف المقيد.
ومن ذلك أن الله تعالى لما أوجب القضاء على المفطر في رمضان بعذر، وهو المريض والمسافر، أوجبنا على المفطر بغير عذر بدلالة النص لا بالقياس، فإن في الموضعين ينعدم أداء الصوم الواجب في الوقت والمرض والسفر عذر في الاسقاط لا في الايجاب، فعرفنا أن وجوب القضاء عليهما لانعدام الاداء في الوقت بالفطر لغة وقد وجد هذا المعنى بعينه إذا أفطر من غير عذر فيلزمه القضاء بدلالة النص.
ثم قال الشافعي رحمه الله: بهذا الطريق أوجبت الكفارة في قتل العمد، لان النص جاء بإيجاب الكفارة في قتل الخطأ ولكن الخطأ عذر مسقط، فعرفنا أن وجوب الكفارة باعتبار أصل القتل دون صفة الخطأ وذلك موجود في العمد وزيادة فتجب الكفارة في العمد بدلالة النص، وبهذا الطريق أوجبت الكفارة في الغموس، لان في المعقود على أمر في المستقبل وجبت الكفارة باعتبار جنايته، لما في الاقدام على الحنث من هتك حرمة اسم الله تعالى وذلك موجود في الغموس وزيادة، فإنها محظورة لاجل الاستشهاد بالله تعالى كاذبا، وهذا هو صفة الحظر في المعقودة على أمر في المستقبل بعد الحنث.
ولكنا نقول: هذا الاستدلال

فاسد، لان الواجب بالنص الكفارة وهي اسم لعبادة فيها معنى العقوبة تبعا من حيث
إنها أوجبت جزاء ولكنها تتأدى بفعل هو عبادة والمقصود بها نيل الثواب ليكون مكفرا للذنب وإنما يحصل ذلك بما هو عبادة كما قال تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) فيستدعي سببا مترددا بين الحظر والاباحة، لان العقوبات المحضة سببها محظور محض والعبادات المحضة سببها ما لا حظر فيه، فالمتردد يستدعي سببا مترددا وذلك في قتل الخطأ، فإنه من حيث الصورة رمى إلى الصيد أو إلى الكافر وهو المباح، وباعتبار المحل يكون محظورا لانه أصاب آدميا محترما، فأما العمد فهو محظور محض فلا يصلح سببا للكفارة، وكذلك المعقودة على أمر في المستقبل فيها تردد، فإن تعظيم المقسم به في الابتداء وذلك مندوب إليه ولهذا شرعت في بيعة نصرة الحق وفيها معنى الحظر أيضا، قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) وقال تعالى: (واحفظوا أيمانكم) والمراد الحفظ بالامتناع عن اليمين فلكونها دائرة بين الحظر والاباحة تصلح سببا للكفارة، فأما الغموس محظور محض لان الكذب بدون الاستشهاد بالله تعالى حرام ليس فيه شبهة الاباحة فمع الاستشهاد بالله تعالى أولى، فكان الغموس باعتبار هذا المعنى كالزنا والردة فلا يصلح سببا لوجوب الكفارة.
ولا يدخل عليه القتل بالمثقل على قول أبي حنيفة فإنه موجب لكفارة وإن كان محظورا محضا لان المثقل ليس بآلة للقتل بأصل الخلقة وإنما هو آلة للتأديب، ألا ترى أن إجراءه للتأديب به والمحل قابل للتأديب مباح فلتمكن الشبهة من حيث الآلة يصير الفعل في معنى الدائر ولهذا لم يجعله موجبا للعقوبة فجعله موجبا للكفارة، ولا يدخل على هذا قتل الحربي المستأمن (عمدا) فإنه غير موجب للكفارة وإن لم تمكن فيه شبهة حتى لم يكن موجبا للقصاص، لان امتناع وجوب القصاص هناك لانعدام المماثلة بين المحلين لا لشبهة ولهذا يجب القصاص على المستأمن بقتل المستأمن.
نص عليه في السير الكبير.
وإن كان امتناع وجوب القصاص لاجل الشبهة فتلك الشبهة في المحل لا في الفعل وفي القصاص مقابلة المحل بالمحل ولهذا لا تجب الدية مع
وجوب القصاص، فأما الكفارة جزاء الفعل ولا شبهة في الفعل هناك بل هو محظور

محض فلم يكن موجبا للكفارة، فأما في المثقل الشبهة في الفعل باعتبار أن الآلة ليست بآلة القتل والفعل لا يتأتى بدون الآلة فاعتبرنا هذه الشبهة في القصاص والكفارة جميعا.
وقال الشافعي رحمه الله أيضا: يجب سجود السهو على من زاد أو نقص في صلاته عمدا لان وجوب السجود عليه عند السهو باعتبار تمكن النقصان في صلاته وذلك موجود في العمد وزيادة فيثبت الحكم فيه بدلالة النص.
وقلنا: هذا الاستدلال فاسد لان السبب الموجب بالنص شرعا هو السهو على ما قال عليه الصلاة والسلام: لكل سهو سجدتان بعد السلام والسهو ينعدم إذا كان عامدا.
فهذا هو المثال في بيان الثابت بدلالة النص.
والنوع الرابع وهو المقتضى، وهو عبارة عن زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديمه ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم وبدونه لا يمكن إعمال المنظوم فكان المقتضى مع الحكم مضافين إلى النص ثابتين به الحكم بواسطة المقتضى بمنزلة شراء القريب يثبت به الملك والعتق على أن يكونا مضافين إلى الشراء العتق بواسطة الملك، فعرفنا أن الثابت بطريق الاقتضاء بمنزلة الثابت بدلالة النص لا بمنزلة الثابت بطريق القياس، إلا أن عند المعارضة الثابت بدلالة النص أقوى، لان النص يوجبه باعتبار المعنى لغة والمقتضى ليس من موجباته لغة وإنما ثبت شرعا للحاجة إلى إثبات الحكم به ولا عموم للمقتضى عندنا.
وقال الشافعي: للمقتضى عموم لان المقتضى بمنزلة المنصوص في ثبوت الحكم به حتى كان الحكم الثابت به كالثابت بالنص لا بالقياس فكذلك في إثبات صفة العموم فيه فيجعل كالمنصوص.
ولكنا نقول: ثبوت المقتضى للحاجة والضرورة حتى إذا كان المنصوص مفيدا للحكم بدون المقتضى لا يثبت المقتضى لغة ولا شرعا والثابت بالحاجة يتقدر بقدرها ولا حاجة إلى
إثبات صفة العموم للمقتضى فإن الكلام مفيد بدونه، وهو نظير تناول الميتة لما أبيح للحاجة تتقدر بقدرها وهو سد الرمق وفيما وراء ذلك من الحمل والتمول والتناول إلى الشبع لا يثبت حكم الاباحة فيه، بخلاف المنصوص فإنه عامل بنفسه فيكون بمنزلة حل الذكية يظهر في حكم التناول وغيره مطلقا، يوضحه أن المقتضى تبع للمقتضي

فإنه شرطه ليكون مفيدا وشرط الشئ يكون تبعه ولهذا يكون ثبوته بشرائط المنصوص فلو جعل هو كالمنصوص خرج من أن يكون تبعا، والعموم حكم صيغة النص خاصة فلا يجوز إثباته في المقتضى.
وعلى هذا الاصل قلنا إذا قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتقه وقع العتق عن الآمر وعليه الالف، لان الامر بالاعتاق عنه يقتضي تمليك العين منه بالبيع ليتحقق الاعتاق عنه وهذا المقتضى يثبت متقدما ويكون بمنزلة الشرط لانه وصف في المحل والمحل للتصرف كالشرط فكذا ما يكون وصفا للمحل، وإنما يثبت بشرط العتق لا بشرط البيع مقصودا حتى يسقط اعتبار القبول فيه، ولو كان الآمر ممن لا يملك الاعتاق لم يثبت البيع بهذا الكلام، ولو صرح المأمور بالبيع بأن قال بعته منك بألف درهم وأعتقته لم يجز عن الآمر، وبهذا تبين أن المقتضى ليس كالمنصوص عليه فيما وراء موضع الحاجة.
وعلى هذا قال أبو يوسف إذا قال أعتق عبدك عني بغير شئ فأعتقه يقع العتق عن الآمر، لان الملك بطريق الهبة يثبت هنا بمقتضى العتق فيثبت على شرائط العتق ويسقط اعتبار شرطه مقصودا وهو القبض كما يسقط اعتبار القبول في البيع بل أولى، لان القبول ركن في البيع والقبض شرط في الهبة فلما سقط اعتبار ما هو الركن لكونه ثابتا بمقتضى العتق فلان يسقط اعتبار ما هو شرط أولى، ولهذا لو قال أعتق عبدك عني على ألف (درهم) ورطل من خمر يقع العتق عن الآمر، ولو أكره المأمور على أن يعتق عبده عنه بألف درهم يقع العتق عن الآمر، وبيع
المكره فاسد والقبض شرط لوقوع الملك في البيع الفاسد ثم سقط اعتباره إذا كان بمقتضى العتق.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا المقتضى تبع للمقتضي والقبض فعل ليس من جنس القول ولا هو دونه حتى يمكن إثباته تبعا له وبدون القبض الملك لا يحصل بالهبة فلا يمكن تنفيذ العتق عن الآمر، ولا وجه لجعل العبد قابضا نفسه للآمر لانه لا يسلم له بالعتق شئ من ملك المولى وإنما يبطل ملك المولى ويتلاشى بالاعتاق، ولا وجه لاسقاط القبض هنا بطريق الاقتضاء لان العمل بالمقتضى شرعي

فإنما يعمل في إسقاط ما يحتمل السقوط دون ما لا يحتمل وشرط القبض لوقوع الملك في الهبة لا يحتمل السقوط بحال بخلاف القبول في البيع فقد يحتمل السقوط، ألا ترى أن الايجاب والقبول جميعا يحتمل السقوط حتى ينعقد البيع بالتعاطي من غير قول، فلان يحتمل مجرد القبول السقوط كان أولى.
ولو قال بعت منك هذا الثوب بعشرة فاقطعه فقطعه ولم يقل شيئا كان البيع بينهما تاما، والفاسد من البيع معتبر بالجائز في الحكم لان الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا يتعرف حكمه من نفسه، وإذا كان ما ثبت الملك به في البيع الجائز يحتمل السقوط إذا كان ضمنا للعتق فكذلك ما يثبت به الملك في البيع الفاسد.
وبيان ما ذكرنا من الخلاف بيننا وبين الشافعي فيما إذا قال إن أكلت فعبدي حر ونوى طعاما دون طعام، عنده تعمل نيته لان الاكل يقتضي مأكولا وذلك كالمنصوص عليه فكأنه قال إن أكلت طعاما، ولما كان للمقتضي عموم على قوله عمل فيه نيته التخصيص، وعندنا لا تعمل لانه لا عموم للمقتضى ونية التخصيص فيما لا عموم له لغو بخلاف ما لو قال إن أكلت طعاما، وعلى هذا لو قال إن شربت أو قال إن لبست أو قال إن ركبت.
وعلى هذا قلنا لو قال إن اغتسلت الليلة ونوى الاغتسال من الجنابة لم تعمل نيته، بخلاف ما لو قال إن اغتسلت غسلا فإن هناك نيته تعمل فيما بينه وبين الله تعالى.
وكذلك لو قال: إن اغتسل الليلة في هذه الدار
وقال عنيت فلانا لم تعمل نيته لان الفاعل ليس في لفظه وإنما يثبت بطريق الاقتضاء، بخلاف ما لو قال إن اغتسل أحد في هذه الدار الليلة.
وعلى هذا لو قال لامرأته اعتدي ونوى الطلاق فإن وقوع الطلاق بطريق الاقتضاء لانها لا تعتد قبل تقدم الطلاق فيصير كأنه قال طلقتك فاعتدي ولكن ثبوته بطريق الاقتضاء، ولهذا كان الواقع رجعيا ولا تعمل نيته الثلاث فيه، وبعد البينونة والشروع في العدة يقع الطلاق بهذا اللفظ.
وربما يستدل الشافعي رحمه الله بهذا في أن المقتضى كالمنصوص عليه، وهو خارج على ما ذكرنا فإنا نجعله كالمنصوص عليه بقدر الحاجة وهو أن يصير المنصوص مفيدا موجبا للحكم فأما فيما وراء ذلك فلا.

قال رضي الله عنه: وقد رأيت لبعض من صنف في هذا الباب أنه ألحق المحذوف بالمقتضى وسوى بينهما، فخرج على هذا الاصل قوله تعالى: (واسأل القرية) وقال المراد الاهل، يثبت ذلك بمقتضى الكلام لان السؤال للتبيين فإنما ينصرف إلى من يتحقق منه البيان ليكون مفيدا دون من لا يتحقق منه، وقال عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولم يرد به العين لانه يتحقق مع هذه الاعذار فلو حمل عليه كان كذبا ولا إشكال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن ذلك، فعرفنا بمقتضى الكلام أن المراد الحكم.
ثم حمله الشافعي على الحكم في الدنيا والآخرة قولا بالعموم في المقتضى وجعل ذلك كالمنصوص عليه ولو قال رفع عن أمتي حكم الخطأ كان ذلك عاما، ولهذا الاصل قال لا يقع طلاق الخاطئ والمكره ولا يفسد الصوم بالاكل مكرها.
وقلنا لا عموم للمقتضي وحكم الآخرة وهو الاثم مراد بالاجماع وبه ترتفع الحاجة ويصير الكلام مفيدا فيبقى معتبرا في حكم الدنيا.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: الاعمال بالنيات ليس المراد عين العمل فإن ذلك متحقق بدون النية وإنما المراد الحكم ثبت ذلك بمقتضى الكلام.
فقال الشافعي يعم ذلك حكم الدنيا والآخرة فيما يستدعي القصد والعزيمة من الاعمال قولا بعموم المقتضى.
وقلنا المراد حكم الآخرة وهو أن ثواب العمل بحسب النية، لان ثبوته بطريق الاقتضاء ولا عموم للمقتضى.
وعندي أن هذا سهو من قائله فإن المحذوف غير المقتضى لان من عادة أهل اللسان حذف بعض الكلام للاختصار إذا كان فيما بقي منه دليل على المحذوف، ثم ثبوت هذا المحذوف من هذا الوجه يكون لغة وثبوت المقتضى يكون شرعا لا لغة، وعلامة الفرق بينهما أن المقتضى تبع يصح باعتباره المقتضي إذا صار كالمصرح به والمحذوف ليس بتبع بل عند التصريح به ينتقل الحكم إليه لا أن يثبت ما هو المنصوص، ولا شك أن ما ينقل غير ما يصحح المنصوص.
وبيان هذا أن في قوله أعتق عبدك عني محذوفا ويثبت التمليك بطريق الاقتضاء ليصح المنصوص، وفي قوله: (واسأل القرية) الاهل محذوف للاختصار

فإن فيما بقي من الكلام دليل عليه وعند التصريح بهذا المحذوف يتحول السؤال عن القرية إلى الاهل لا أن يتحقق به المنصوص.
وكذلك في قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ فإن عند التصريح بالحكم يتحول الرفع إلى الحكم لا إلى ما وقع التنصيص عليه مع المحذوف.
وكذلك قوله عليه السلام: الاعمال بالنيات وإنما لم يثبت العموم هنا لان المحذوف بمنزلة المشترك في أنه يحتمل كل واحد من الامرين على الانفراد ولا عموم للمشترك فأما أن يجعل المحذوف ثابتا بمقتضى الكلام فلا.
ويتبين من هذا أن ما كان محذوفا ليس بطريق الاقتضاء فإنه بمنزلة الثابت لغة فإن كان بحيث يحتمل العموم يثبت فيه صفة العموم.
وعلى هذا ما إذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك ونوى ثلاثا فإن على قول الشافعي تعمل نيته، لان قوله طالق يقتضي طلاقا وذلك كالمنصوص عليه فتعمل نيته الثلاث فيه قولا بالعموم في المقتضى.
وقلنا نحن إن قوله طالق نعت فرد ونعت الفرد لا يحتمل العدد والنية
إنما تعمل إذا كان المنوي من محتملات اللفظ ولا يمكن إعمال نية العدد باعتبار المقتضى لانه لا عموم للمقتضي، ولان المقتضى لا يجعل كالمصرح به في أصل الطلاق فكيف يجعل كالمصرح به في عدد الطلاق ؟ وبيانه أنه إذا قال لامرأته زوري أباك أو حجي ونوى به الطلاق لم تعمل نيته ومعلوم أن ما صرح به يقتضي ذهابا لا محالة، ثم لم يجعل بمنزلة قوله اذهبي حتى تعمل نيته الطلاق فيه، يقرره أن قوله طالق نعت للمرأة فإنما يعتبر فيه من المقتضى ما يكون قائما بالموصوف والطلاق من هذا اللفظ مقتضى هو ثابت بالواصف شرعا فإنه لا يكون صادقا في هذا الوصف بدون طلاق يقع عليها فيجعل موقعا ليتحقق هذا الوصف منه صدقا، ومثل هذا المقتضى لا يكون كالمصرح به شرعا بمنزلة الحال الذي هو قائم بالمخاطب وهو بعده عن موضع الحج وعن الزيارة فإن اقتضاء الذهاب لما كان لذلك المعنى لا لما هو قائم بالمنصوص لا يجعل كالمصرح به، بخلاف قوله أنت بائن فإن ذلك نعت فرد نصا حتى لا يسع نية العدد فيه لو نوى اثنتين ولكن البينونة تتصل بالمحل في الحال، وهي نوعان: قاطعة للملك، وقاطعة للحل

الذي هو وصف المحل، فنية الثلاث إنما تميز أحد نوعي ما تناوله نص كلامه فأما الطلاق لا يتصل بالمحل موجبا حكمه في الحال بل حكم انقطاع الملك به يتأخر إلى انقضاء العدة وحكم انقطاع الحل به يتأخر إلى تمام العدة وإنما يوصف المحل للحال به لانعقاد العلة (فيه) موجبا للحكم في أوانه وانعقاد العلة لا يتنوع فلم يكن المنوي من محتملات لفظه أصلا.
وعلى هذا قوله طلقتك فإن صيغة الخبر عن فعل ماض بمنزلة قوله ضربتك، فالمصدر القائم بهذه الصيغة يكون ماضيا أيضا فلا يسع فيه معنى العموم بوجه، بخلاف قوله طلقي نفسك فإن صيغته أمر بفعل في المستقبل لطلب ذلك الفعل منها، فالمصدر القائم بهذه الصيغة يكون مستقبلا أيضا وذلك الطلاق فيكون بمنزلة غيره من أسماء الاجناس في احتمال العموم والخصوص فبدون النية يثبت به أخص
الخصوص على احتمال الكل، فإذا نوى الثلاث عملت نيته لانه من محتملات كلامه، وإذا نوى اثنتين لم تعمل لانه لا احتمال للعدد في صيغة كلامه، وعلى هذا لو قال إن خرجت ونوى الخروج إلى مكان بعينه لم تعمل نيته ولو نوى السفر تعمل نيته، لان السفر نوع من أنواع الخروج وهو ثابت باعتبار صيغة كلامه، ألا ترى أن الخروج لغير السفر بخلاف الخروج للسفر في الحكم، فأما المكان فليس من صيغة كلامه في شئ وإن كان الخروج يكون إلى مكان لا محالة فلم تعمل نية التخصيص فيه لما لم يكن من مقتضى صيغة الكلام بخلاف الاول.
وكذلك لو قال إن ساكنت فلانا ونوى المساكنة في مكان بعينه لم تعمل نيته أصلا، ولو نوى المساكنة في بيت واحد تعمل نيته باعتبار أنه نوى أتم ما يكون من المساكنة فإن أعم ما يكون من المساكنة في بلدة، والمطلق من المساكنة في عرف الناس في دار واحدة، وأتم ما يكون من المساكنة في بيت واحد، فهذه النية ترجع إلى بيان نوع المساكنة الثابتة بصيغة كلامه بخلاف تعين المكان.
فإن قيل: أليس أنه لو قال لولد له أم معروفة وهو في يده: هذا ابني ثم جاءت أمه بعد موت المدعي فصدقته وادعت ميراثها منه بالنكاح فإنه يقضى لها بالميراث،

ومعلوم أن النكاح بينهما بمقتضى دعوى النسب ثم يجعل كالتصريح به حتى يثبت النكاح صحيحا ويجعل قائما إلى موت الزوج فيكون لها الميراث، فلو كان ثبوت المقتضى باعتبار الحاجة فقط لما ثبتت هذه الاحكام لانعدام الحاجة فيها ؟ قلنا: ثبوت النكاح هنا بدلالة النص لا بمقتضاه، فإن الولد اسم مشترك إذ لا يتصور ولد فينا إلا بوالد ووالدة، فالتنصيص على الولد يكون تنصيصا على الوالد والوالدة دلالة بمنزلة التنصيص على الاخ يكون كالتنصيص على أخيه إذ الاخوة لا تتصور إلا بين شخصين وقد بينا أن الثابت بدلالة النص يكون ثابتا بمعنى النص لغة لا أن يكون ثابتا بطريق
الاقتضاء مع أن اقتضاء النكاح هنا كاقتضاء الملك في قوله أعتق عبدك عني على ألف (درهم) وبعدما ثبت العقد بطريق الاقتضاء يكون باقيا لا باعتبار دليل يبقى بل لانعدام دليل المزيل، فعرفنا أنه منته بينهما بالوفاة وانتهاء النكاح بالموت سبب لاستحقاق الميراث.
وبعدما بينا هذه الحدود نقول: الثابت بمقتضى النص لا يحتمل التخصيص لانه لا عموم له والتخصيص فيما فيه احتمال العموم، والثابت بدلالة النص لا يحتمل التخصيص أيضا لان التخصيص بيان أن أصل الكلام غير متناول له وقد بينا أن الحكم الثابت بالدلالة ثابت بمعنى النص لغة، وبعدما كان معنى النص متناولا له لغة لا يبقى احتمال كونه غير متناول له وإنما يحتمل إخراجه من أن يكون موبجا للحكم فيه بدليل يعترض وذلك يكون نسخا لا تخصيصا.
وأما الثابت بإشارة النص فعند بعض مشايخنا رحمهم الله لا يحتمل الخصوص أيضا لان معنى العموم فيما يكون سياق الكلام لاجله، فأما ما تقع الاشارة إليه من غير أن يكون سياق الكلام له فهو زيادة على المطلوب بالنص ومثل هذا لا يسع فيه معنى العموم حتى يكون محتملا للتخصيص.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه يحتمل ذلك، لان الثابت بالاشارة كالثابت بالعبارة من حيث إنه ثابت بصيغة الكلام، والعموم باعتبار الصيغة، فكما أن الثابت بعبارة النص يحتمل التخصيص فكذلك الثابت بإشارته.

فصل وقد عمل قوم في النصوص بوجوه هي فاسدة عندنا.
فمنها ما قال بعضهم إن التنصيص على الشئ باسم العلم يوجب التخصيص وقطع الشركة بين المنصوص وغيره من جنسه في الحكم لانه لو لم يوجب ذلك لم يظهر للتخصيص فائدة وحاشا أن يكون شئ من كلام صاحب الشرع غير مفيد، وأيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم
الماء من الماء فالانصار فهموا التخصيص من ذلك حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالاكسال وهم كانوا أهل اللسان.
وهذا فاسد عندنا بالكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال: (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ولا يدل ذلك على إباحة الظلم في غير الاشهر الحرم، وقال تعالى: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) ثم لا يدل ذلك على تخصيص الاستثناء بالغد دون غيره من الاوقات في المستقبل.
وقال صلى الله عليه وسلم : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة ثم لا يدل ذلك على التخصيص بالجنابة دون غيرها من أسباب الاغتسال، والامثلة لهذا تكثر.
ثم إن عنوا بقولهم إن التخصيص يدل على قطع المشاركة وهو أن الحكم يثبت بالنص في المنصوص خاصة فأحد لا يخالفهم في هذا، فإن عندنا فيما هو من جنس المنصوص الحكم يثبت بعلة النص لا بعينه، وإن عنوا أن هذا التخصيص يوجب نفي الحكم في غير المنصوص فهو باطل، لانه غير متناول له أصلا فكيف يوجب نفيا أو إثباتا للحكم فيما لم يتناوله ؟ ثم سياق النص لايجاب الحكم ونفي الحكم ضده فلا يجوز أن يكون من واجبات نص الايجاب، ولان المذهب عند فقهاء الامصار جواز تعليل النصوص لتعدية الحكم بها إلى الفروع فلو كان التخصيص موجبا نفي الحكم في غير المنصوص لكان التعليل باطلا لانه يكون ذلك قياسا في مقابلة النص، ومن لا يجوز

العمل بالقياس فإنما لا يجوزه لاحتمال فيه بين أن يكون صوابا أو خطأ لا لنص يمنع منه، بمنزلة العمل بخبر الفاسق فإنه لا يعمل بخبره لضعف في سنده لا لنص في خبره مانع من العمل به، والانصار إنما استدلوا بلام التعريف التي هي مستغرقة للجنس أو المعهود في قوله عليه الصلاة والسلام: الماء من الماء ونحن نقول به في الحكم الثابت لعين الماء، وفائدة التخصيص عندنا أن يتأمل المستنبطون في علة النص
فيثبتون الحكم بها في غير المنصوص عليه من المواضع لينالوا به درجة المستنبطين وثوابهم وهذا لا يحصل إذا ورد النص عاما متناولا للجنس.
ويحكى عن الثلجي رحمه الله أنه كان يقول هذا إذا لم يكن المنصوص عليه باسم العلم محصورا بعدد نصا نحو خبر الربا فإن كان محصورا بعدد فذلك يدل على نفي الحكم فيما سواها، لان في إثبات الحكم فيما سواها إبطال العدد المنصوص وذلك لا يجوز فبهذه الواسطة يكون موجبا للنفي.
واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وبقوله: أحلت لنا ميتتان ودمان فإن ذلك يدل على نفي الحكم فيما عدا المذكور.
والصحيح أن التنصيص لا يدل على ذلك في شئ من المواضع لما بينا من المعاني.
ثم ذكر العدد لبيان الحكم بالنص ثابت في العدد المذكور فقط وقد بينا أن في غير المذكور إنما يثبت الحكم بعلة النص لا بالنص فلا يوجب ذلك إبطال العدد المنصوص.
ومنها ما قاله الشافعي رحمه الله إن التنصيص على وصف في المسمى لايجاب الحكم يوجب نفي ذلك الحكم عند عدم ذلك الوصف بمنزلة ما لو نص على نفي الحكم عند عدم الوصف.
وعندنا النص موجب للحكم عند وجود ذلك الوصف ولا يوجب نفي ذلك الحكم عند انعدامه أصلا.
وبيان هذا في قوله تعالى: (من فتياتكم المؤمنات) فإن عنده إباحة نكاح الامة (لما كان مقيدا بصفة الايمان بالنص أوجب النفي بدون هذا الوصف فلا يجوز نكاح الامة الكتابية، وعندنا لا يوجب ذلك ولهذا جوزنا نكاح الامة) الكتابية، وقال تعالى: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) فقال الشافعي رحمه الله: لما ورد حرمة الربيبة بسبب الدخول بامرأة مقيدة بوصف وهي أن تكون من نسائه أوجب ذلك نفي الحرمة عند عدم

ذلك الوصف فلا تثبت الحرمة بالزنا.
وعندنا لا يوجب النص نفي الحكم عند انعدام الوصف فتثبت الحرمة بالزنا، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم
فرض صدقة الفطر على كل حر وعبد من المسلمين فعلى مذهبه أوجب هذا النص نفي الحكم عند عدم الوصف فلا تجب الصدقة عن العبد الكافر.
وعندنا لا يوجب ذلك ولكن النص المختتم بهذا الوصف لا يتناول الكفار، والنص المطلق وهو قوله: أدوا عن كل حر وعبد يتناولهم لانه غير مختتم بهذا التقييد فيجب الاداء عن العبد الكافر بذلك النص، وهو بمنزلة من يقول لغيره أعتق عبيدي ثم يقول أعتق البيض من عبيدي فلا يوجب ذلك النهي عن إعتاق غير البيض بعدما كان ثابتا باللفظ المطلق.
واستدل الشافعي رحمه الله لاثبات مذهبه عليه السلام: في خمس من الابل السائمة شاة فإن ذلك يوجب نفي الزكاة في غير السائمة فكأنه قال ولا زكاة في غير السائمة إذ لو لم يجعل كذلك فلا بد من إيجاب الزكاة في العوامل بخبر المطلق وهو قوله عليه السلام: في خمس من الابل شاة وبالاجماع بيننا وبينكم لا تجب الزكاة في غير السائمة، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن أفهمنا ذلك إباحة ربح ما قد ضمن كأنه نص عليه، ولان النص لما أوجب الحكم في المسمى المشتمل على أوصاف مقيدا بوصف من تلك الاوصاف صار ذلك الوصف بمنزلة الشرط لايجاب الحكم على معنى أنه لا يثبت الحكم بالنص بعد وجود المسمى ما لم يوجد ذلك الوصف، فلولا ذكر الوصف لكان الحكم ثابتا قبل وجوده وهذا أمارة الشرط، فإن قوله لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار لا يكون موجبا وقوع الطلاق ما لم تدخل، وبدون هذا الشرط كان موجبا للطلاق قبل الدخول.
وقد يكون الوصف بمنزلة الشرط حتى لو قال لها إن دخلت الدار راكبة فأنت طالق كان الركوب شرطا وإن كان مذكورا على سبيل الوصف لها.
قال وقد ثبت من أصلي أن التقييد بالشرط يفهمنا نفي الحكم عند عدم الشرط

فكذلك التقييد بالوصف، وهذا بخلاف الاسم فإنه مذكور للتعريف لا لتعليق
الحكم به (فأما الوصف الذي هو ذكر للحال وهو معنوي يصلح أن يكون لتعليق الحكم به) فيكون موجبا نفي الحكم عند عدمه دلالة، ولان بالاسم يثبت الحكم ابتداء كما ثبت بالعلة بخلاف الوصف الذي هو في معنى الشرط.
وسنقرر هذا الفرق في الفصل الثاني.
واستدل علماؤنا بقوله تعالى: (وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك) ثم التقييد بهذا الوصف لا يوجب نفي الحل في اللاتي لم يهاجرن معه بالاتفاق، وقال تعالى: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) ثم التقييد بهذا الوصف لا يفيد إباحة الاكل بدون هذا الوصف، وقال تعالى: (إنما أنت منذر من يخشاها) .
(إنما تنذر من اتبع الذكر) وهو نذير للبشر، فعرفنا أن التقييد بالوصف لا يفهمنا نفي المنصوص عليه عند عدم ذلك الوصف، ثم أكثر ما فيه أن الوصف المؤثر بمنزلة العلة للحكم ولا خلاف أن الحكم يثبت بالعلة إذا وجدت فإن العلة لا توجب نفي الحكم عند انعدامها فكذلك الوصف المذكور في النص يوجب ثبوت الحكم عند وجوده ولا يوجب نفي الحكم عند عدمه، ولهذا جعلنا الوصف المؤثر إذا كان منصوصا عليه بمنزلة العلة للحكم الثابت بالنص فقلنا صفة السوم بمنزلة العلة لايجاب الزكاة في خمس من الابل، ولهذا يضاف الزكاة إليها فيقال زكاة السائمة، والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة بمنزلة من يقول لغيره أعتق عبدي الصالح أو طلق امرأتي البذيئة، فإن ذكر هذا الوصف دليل على أنه هو المؤثر للحكم.
وبهذا يتبين أن الوصف ليس في معنى الشرط كما زعم، وقوله إن دخلت راكبة إنما جعلنا الركوب شرطا لكونه معطوفا على الشرط فإن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، فأما الوصف المقرون بالاسم يكون بمنزلته والاسم ليس في معنى الشرط لاثبات الحكم فكذلك الوصف المقرون به.
ولو كان شرطا فعندنا تعليق الحكم بالشرط يوجب وجود الحكم

عند وجود الشرط ولا يوجب النفي عند عدم الشرط بل ذلك باق على ما كان قبل التعليق على ما نبينه، وإنما لا نوجب الزكاة في الحوامل باعتبار نص آخر وهو قوله عليه السلام: لا زكاة في العوامل والحوامل أو باعتبار أن صفة السوم صار بمنزلة العلة في حكم الزكاة على ما قررنا.
وعلى هذا قال زفر رحمه الله فيمن له أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال: الاكبر ابني يثبت نسب الآخرين منه، لان التنصيص على الدعوة مقيدا بالاكبر لا موجب له في نفي نسب الآخرين، وقد تبين ثبوت نسب الاكبر منه أنها كانت أم ولد له من ذلك الوقت وأم الولد فراش للمولى يثبت نسب ولدها منه بغير دعوة.
وعندنا لا يثبت نسب الآخرين منه لا للتقييد بالوصف فإنه لو أشار إلى الاكبر وقال هذا ابني لا يثبت نسب الآخرين منه أيضا، ومعلوم أن التنصيص بالاسم لا يوجب نفي الحكم في غير المسمى بذلك الاسم ولكن إنما لا يثبت نسبهما منه لان السكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة دليل النفي ويفترض على المرأة دعوة النسب فيما هو مخلوق من مائه، لانه كما لا يحل له أن يدعي نسب (ما هو غير مخلوق من مائه لا يحل له أن ينفي نسب) المخلوق من مائه، وقبل الدعوة النسب يثبت منه على سبيل الاحتمال حتى يملك نفيه وإنما يصير مقطوعا به على وجه لا يملك نفيه بالدعوة فكان ذلك فرضا عليه.
وإذا تقرر بهذا تحقق الحاجة إلى البيان كان سكوته عن دعوة نسب الآخرين دليل النفي لا تخصيصه الاكبر بالدعوة فلهذا لا يثبت نسبهما منه.
وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال شهود الوارث لا نعلم له وارثا غيره في أرض كذا إن الشهادة تقبل، لان هذه الزيادة لا توجب عليهم توارث آخر في غير ذلك الموضع، فكأنهم سكتوا عن ذكر هذه الزيادة وقالوا لا نعلم له وارثا غيره.
وأبو يوسف ومحمد قالا: لا تقبل هذه الشهادة لا لانها توجب ذلك ولكن لتمكن التهمة فإنه يحتمل أنهما خصا ذلك المكان للتحرز عن الكذب وعلمهما
بوارث آخر له في غير ذلك المكان ولكن الشهادة ترد بالتهمة، فأما الحكم

لا يثبت نفيا ولا إيجابا بالتهمة بل بالحجة المعلومة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: كما تحتمل هذه الزيادة ما قالا تحتمل المبالغة في التحرز عن الكذب باعتبار أنهما تفحصا في ذلك الموضع دون سائر المواضع، ويحتمل تحقيق المبالغة في نفي وارث آخر أي لا نعلم له وارثا آخر في موضع كذا مع أنه مولده ومنشؤه فأحرى أن لا يكون له وارث آخر في موضع آخر، وبمثل هذا المحتمل لا تتمكن التهمة ولا يمنع العمل بشهادتهما.
ومنها أن الحكم متى تعلق بشرط بالنص فعند الشافعي رحمه الله ذلك النص يوجب انعدام الحكم عند انعدام الشرط كما يوجب وجود الحكم عند وجود الشرط، وعندنا لا يوجب النص ذلك بل يوجب ثبوت الحكم عند وجود الشرط فأما انعدام الحكم عند عدم الشرط فهو باق على ما كان قبل التعليق.
وبيان هذا في قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) الآية، فإن النص لما ورد بحل نكاح الامة معلقا بشرط عدم طول الحرة جعل الشافعي ذلك كالتنصيص على حرمة نكاح الامة عند وجود طول الحرة.
وعندنا النص لا يوجب ذلك ولكن الحكم بعد هذا النص عند وجود طول الحرة على ما كان عليه أن لو لم يرد هذا النص، وقال تعالى: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) قال الشافعي لما تعلق بالنص درء العذاب عنها بشرط أن تأتي بكلمات اللعان كان ذلك تنصيصا على إقامة الحد عليها إذا لم تأت بكلمات اللعان.
وعندنا لا يوجب ذلك حتى لا يقام عليها الحد وإن امتنعت من كلمات اللعان.
وجه قول الشافعي أن التعليق بالشرط يؤثر في الحكم دون السبب على اعتبار أنه لولا التعليق لكان الحكم ثابتا فإن قوله لعبده أنت حر موجب عتقه في الحال لولا قوله إن دخلت الدار فبالتعليق
يتأخر نزول العتق ولا ينعدم أصل السبب.
وبهذا تبين أن التعليق كما يوجب الحكم عند وجود الشرط يوجب نفي الحكم قبل وجود الشرط، بمنزلة التأجيل وبمنزلة خيار الشرط في البيع فإنه يدخل على الحكم دون السبب حتى يتأخر الحكم إلى سقوط الخيار مع قيام السبب، وهو نظير التعليق الحسي، فإن تعليق القنديل بحبل من

سماء البيت يمنع وصوله إلى موضع من الارض لولا التعليق ولا يعدم أصله، وبهذا فارق الشرط العلة فإن الحكم يثبت ابتداء بوجود العلة فلا يكون انعدام الحكم قبل وجود العلة مضافا إلى العلة باعتبار أنها نفت الحكم قبل وجودها بل انعدم لانعدام سببه، فأما الشرط فمغير للحكم بعد وجود سببه فكان مانعا من ثبوت الحكم قبل وجوده كما كان مثبتا وجود الحكم عند وجوده، وعلى هذا الاصل لم يجوز تعليق الطلاق والعتاق بالملك، لان تأثير الشروط في منع حكم لولاه كان موجودا بسببه، ولولا التعليق هنا كان لغوا، وشرط قيام الملك في المحل عند التعليق لان السبب لا يتحقق بدون الملك، وتأثير الشرط في تأخير الحكم إلى وجوده بعد تقرر السبب بمنزلة الاجل، فيشترط قيام الملك في المحل عند التعليق ليتقرر السبب ثم يتأخر الحكم إلى وجود الشرط بالتعليق، ولهذا لم يجوز نكاح الامة لمن قدر على نكاح الحرة، لان الحل معلق بشرط عدم طول الحرة بالنص وذلك يوجب نفي الحكم عند وجود طول الحرة كما يوجب إثباته عند عدم طول الحرة.
هذا هو المفهوم من الكلام فإن من يقول لغيره إن دخل عبدي الدار فأعتقه يفهم منه ولا تعتقه إن لم يدخل الدار، والعمل بالنصوص واجب بمنظومها ومفهومها، ولهذا جوز تعجيل الكفارة بعد اليمين قبل الحنث، لان السبب هو اليمين ولهذا تضاف الكفارة إليها، والاصل أن الواجبات تضاف إلى أسبابها، فأما الحنث شرط يتعلق وجوب الاداء به، ويتضح هذا فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلي كفارة يمين، والتعليق بالشرط بمنزلة التأجيل
عنده فلا يمنع جواز التعجيل قبله بمنزلة الدين المؤجل إلا أن هذا في المالي دون البدني، لان تأثير التعليق بالشرط في تأخير وجوب الاداء في الحقوق المالية الوجوب ينفصل عن الاداء من حيث إن الواجب قبل الاداء مال معلوم كما في حقوق العباد، فأما في البدني الواجب فعل يتأدى به فلا يتحقق انفصاله عن الاداء، وبالتعليق بالشرط يتأخر وجوب الاداء فيتأخر تقرر السبب أيضا ضرورة، لان أحدهما لا ينفصل عن الآخر.
ونظيره من حقوق العباد الشراء مع الاستئجار، فإن بشراء العين يثبت الملك ويتم السبب قبل فعل التسليم، وبالاستئجار لا يثبت الملك في المنفعة قبل الاستيفاء لانها لا تبقى وقتين، ولا يتصور تسليمها بعد وجودها بل يقترن التسليم بالوجود، فإنما تصير معقودا عليها مملوكا بالعقد عند الاستيفاء

فكذلك في حقوق الله تعالى يفصل بين المالي والبدني من هذا الوجه، ألا ترى أن من قال لله علي أن أتصدق بدرهم رأس الشهر فتصدق به في الحال جاز لهذا المعنى.
ودليلنا على أن التعليق بالشرط لا يوجب نفي الحكم قبله من الكتاب قوله تعالى: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) الآية، ولا خلاف أنه يلزمها الحد المذكور جزاء على الفاحشة وإن لم تحصن، وقال تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وحكم الكتابة لا ينتفي قبل هذا الشرط.
ثم حقيقة الكلام تبتنى على معرفة عمل الشرط فنقول: التعليق بالشرط تصرف في أصل العلة لا في حكمها من حيث إنه يتبين بالتعليق أن المذكور ليس بسبب قبل وجود الشرط ولكن بعرض أن يصير سببا عند وجوده، فأوان وجود الحكم ابتداء حال وجود الشرط بمنزلة ما ذكره الخصم في العلة إلا أن فرق ما بينهما أن الحكم يوجد عند وجود الشرط ابتداء ولكنه يضاف إلى العلة ثبوتا به وإلى الشرط وجودا عنده، فكما أن قبل وجود العلة انعدام الحكم أصل غير مضاف إلى العلة فكذلك قبل وجود الشرط.
وبيان هذا الكلام
من وجهين: أحدهما أن السبب هو الايقاع والمعلق بالشرط يمين وهي غير الايقاع وينتقض اليمين إذا صار إيقاعا بوجود الشرط، والثاني أن صحة الايجاب باعتبار ركنه ومحله، ألا ترى أن شطر البيع كما لا يكون سببا لانعدام تمام الركن فكذلك بيع الحر لا يكون سببا لانه غير مضاف إلى محله، فكذلك في الطلاق والعتاق شطر الكلام الذي هو إيجاب (كما لا يكون سببا فالكلام الذي هو إيجاب) ما لم يتصل بالمحل لا يكون سببا، والتعليق بالشرط يمنع وصوله إلى المحل بالاتفاق ولكنه بعرض أن يتصل بالمحل إذا وجد الشرط كما أن شرط البيع بعرض أن يصير سببا إذا وجد الشطر الثاني.
وكذلك شطر النصاب ليس بسبب للزكاة بمنزلة النصاب الكامل في ملك من ليس بأهل لوجوب الزكاة عليه وهو الكافر ولكن بعرض أن يصير سببا.
ونظيره من الحسيات الرمي فإن نفسه ليس بقتل ولكنه بعرض أن يصير قتلا إذا اتصل بالمحل، وإذا كان هناك مجن منع وصوله إلى المحل فأحد لا يقول بأن المجن مانع لما هو قتل ولكن لما كان يصير قتلا لو اتصل بالمحل عند

عدم المجن فكذلك التعليق بالشرط في الحكميات.
وبهذا تبين أنه وهم حيث جعل التعليق كالتأجيل فإن التأجيل لا يمنع وصول السبب بالمحل لان سبب وجوب التسليم في الدين والعين جميعا العقد، ومحل الدين الذمة، والتأجيل لا يمنع ثبوت الدين في الذمة ولا ثبوت الملك في المبيع وإنما يؤخر المطالبة وهو محتمل السقوط فيسقط الاجل بالتعجيل ويتحقق أداء الواجب، وهنا التعليق يمنع الوصول إلى المحل وقبل الوصول (إلى المحل) لا يتم السبب ولا يتصور أداء الواجب قبل تمام السبب، ولهذا لم نجوز التكفير قبل الحنث لان أدنى درجات السبب أن يكون طريقا إلى الحكم واليمين مانع من الحنث الذي تعلق به وجوب الكفارة على ما قرره، فإنها موجبة للبر والبر يفوت بالحنث وفي الحنث نقض اليمين، كما قال تعالى: (ولا تنقضوا
الايمان بعد توكيدها) ويستحيل أن يقال في شئ إنه سبب لحكم لا يثبت ذلك الحكم إلا بعد انتقاضه، فعرفنا أنه بعرض أن يصير سببا عند وجود الشرط، فلهذا كان مضافا إليه وقبل أن يصير سببا لا يتحقق الاداء، وفرقه بين المالي والبدني باطل، فإن بعد تمام السبب الاداء جائز في البدني والمالي جميعا وإن تأخر وجوب الاداء كالمسافر إذا صام في شهر رمضان، وهذا لان الواجب لله على العبد فعل هو عبادة، فأما المال ومنافع البدن فإنه يتأدى الواجب بهما فكما أن في البدن مع تملق وجوب الاداء بالشرط لا يكون السبب تاما فكذلك في المالي، بخلاف حقوق العباد فإن الواجب للعباد مال لا فعل لان المقصود ما ينتفع منه العبد أو يندفع عنه الخسران به وذلك بالمال دون الفعل، ولهذا إذا ظفر بجنس حقه فاستوفى تم الاستيفاء وإن لم يوجد فعل هو أداء ممن عليه.
فأما حقوق الله تعالى واجبة بطريق العبادة ونفس المال ليس بعبادة إنما العبادة اسم لعمل يباشره العبد بخلاف هوى النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى وفي هذا المالي والبدني سواء، وهذا التعليق لا يشبه بتعليق القنديل بالحبل لان القنديل كان موجودا بذاته قبل التعليق، فعرفنا أن عمل التعليق في تفريغ المكان الذي كان مشغولا به من الارض قبل التعليق، وهنا قبل التعليق ما كان الحكم موجودا فكان تأثير التعليق في تأخير السببية للحكم إلى وجود

الشرط، ولهذا جوزنا تعليق الطلاق والاعتاق بالملك لان المتعلق قبل وجود الشرط يمين ومحل الالتزام باليمين الذمة فأما الملك في المحل إنما يشترط لايجاب الطلاق والاعتاق، وهذا الكلام للحال ليس بإيجاب ولكنه بعرض أن يصير إيجابا، فإن تيقنا بوجود الملك في المحل حين يصير إيجابا بوصوله إلى المحل صححنا التعليق باعتباره، وإن لم نتيقن بذلك بأن كان الشرط مما لا أثر له في إثبات الملك في المحل شرطنا الملك في الحال ليصير كلامه إيجابا عند وجود الشرط باعتبار الظاهر وهو أن
ما علم ثبوته فالاصل بقاؤه ولكن بهذا الظاهر دون الملك الذي يتيقن به عند وجود الشرط فصحة التعليق باعتبار ذلك النوع دليل على صحة التعليق باعتبار هذا الملك بطريق أولى، وليس التعليق كاشتراط الخيار في البيع فإن ذلك لا يدخل على أصل السبب لان البيع لا يحتمل الحظر، وفي جعله متعلقا بشرط لا ندري أن يكون أو لا يكون حظر تام، ولهذا كان القياس أن لا يجوز البيع مع خيار الشرط ولكن السنة جوزت ذلك لحاجة الناس باعتبار أن الخيار دخل على الحكم دون السبب فإن الحكم يحتمل التأخير عن السبب فجعل الحكم متعلقا بشرط إسقاط الخيار مع ثبوت السبب لان السبب محتمل للفسخ فيما هو المقصود وهو دفع الضرر يحصل بهذا الطريق وهو أقل غررا، فأما الطلاق والعتاق فأصل السبب فيهما يحتمل التعليق بالشرط فإذا وجد التعليق نصا يثبت الحظر الكامل فيهما بأن تعلق صيرورتهما سببا بوجود الشرط.
والدليل على الفرق من جهة الحكم أنه لو حلف أن لا يبيع فباع بشرط الخيار حنث في يمينه.
ولو حلف أن لا يطلق امرأته فعلق طلاقها بالشرط لم يحنث ما لم يوجد الشرط، وعلى هذا جوزنا نكاح الامة لمن له طول الحرة لان التعليق بالشرط لا يوجب نفي الحكم قبله فيجعل الحل ثابتا قبل وجود هذا الشرط بالآيات الموجبة لحل الاناث للذكور.
وهكذا نقول في قوله إن دخل عبدي الدار

فأعتقه فإن ذلك لا يوجب نفي الحكم قبله حتى إنه لو كان قال أولا أعتق عبدي ثم قال أعتقه إن دخل الدار جاز له أن يعتقه قبل الدخول بالامر الاول ولا يجعل هذا الثاني نهيا عن الاول.
(فإن قيل: لا خلاف أن الحكم المتعلق بالشرط يثبت عند وجود الشرط، وإذا كان الحكم ثابتا هنا قبل وجود الشرط فكيف يتصور ثبوته عند وجود الشرط إذ لا يجوز أن يكون الحكم الواحد ثابتا في الحال ومتعلقا بشرط منتظر ؟
قلنا: حل الوطئ ليس بثابت قبل النكاح ولكنه متعلق بشرط النكاح في الآيات التي ليس فيها هذا الشرط الزائد ومتعلق بها وبهذا الشرط في هذه الآية، وإنما يتحقق ما ادعى من التضاد فيما هو موجود فأما فيما هو متعلق فلا، لانه يجوز أن يكون الحكم متعلقا بشرط وذلك الحكم بعينه متعلقا بشرط آخر قبله أو بعده، ألا ترى أن من قال لعبده إذا جاء يوم الخميس فأنت حر ثم قال إذا جاء يوم الجمعة فأنت حر كان الثاني صحيحا وإن كان مجئ يوم الجمعة لا يكون إلا بعد مجئ يوم الخميس حتى لو أخرجه من ملكه فجاء يوم الخميس ثم أعاده إلى ملكه فجاء يوم الجمعة يعتق باعتبار التعليق الثاني).
فإن قيل: مع هذا لا يجوز أن يكون الشئ الواحد كمال الشرط لاثبات حكم وهو بعض الشرط لاثبات ذلك الحكم أيضا، وما قلتم يؤدي إلى هذا فإن عقد النكاح كمال الشرط في سائر الآيات سوى قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا) وهو بعض الشرط في هذه الآية إذا قلتم بأن الحكم يثبت ابتداء عند وجود هذا الشرط.
قلنا: إنما لا يجوز هذا بنص واحد فأما بنصين فهو جائز، ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر إن أكلت ثم قال أنت حر إن أكلت وشربت صح كل واحد منهما ويكون الاكل كمال الشرط بالتعليق الاول وبعض الشرط في التعليق الثاني حتى لو باعه فأكل في غير ملكه ثم اشتراه فشرب فإنه يعتق لتمام الشرط في التعليق الثاني وهو في ملكه.
وعلى هذا الاصل قال زفر رحمه الله: إن التعليق لا يبطل بفوات المحل، حتى لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها ثلاثا لم يبطل التعليق،

ولو قال لامته إن دخلت الدار فأنت حرة ثم أعتقها لم يبطل التعليق حتى إذا ارتدت ولحقت بدار الحرب فسبيت وملكها ثم دخلت الدار عتقت، قال: لان التعليق بالشرط يمنع الوصول إلى المحل والمتعلق بالشرط لا يكون طلاقا ولا سببا
للطلاق قبل وجود الشرط، واشتراط المحلية لتمام السبب وثبوت الحكم عند الوصول إليه بمنزلة اشتراط الملك فكما لا يبطل التعليق بعد صحته بانعدام الملك في المحل بأن باع العبد أو أبان المرأة وانقضت عدتها فكذلك لا يبطل بانعدام المحلية، وهذا لان توهم المحلية عند وجود الشرط قائم كتوهم الملك، وإذا كان يصح ابتداء التعليق باعتبار توهم الملك عند وجود الشرط في هذه اليمين لان الملك الموجود عند التعليق متوهم البقاء عند وجود الشرط لا متيقن البقاء فلان يبقى التعليق صحيحا باعتبار هذا التوهم كان أولى، ألا ترى أن التعليق بالملك يبقى باعتبار هذا المعنى حتى إذا قال لاجنبية كلما تزوجتك فأنت طالق ثلاثا فتزوجها وطلقت ثلاثا ثم تزوجها ثانيا بعد زوج تطلق أيضا.
ولكنا نقول بانعدام المحل يبطل التعليق، لان صحة التعليق باعتبار المحلوف به وهو ما يصير طلاقا عند وجود الشرط ولا تصور لذلك بدون المحل وبالتطليقات الثلاث تحقق فوات المحل، لان الحكم الاصلي للطلاق زوال صفة الحل عن المحل ولا تصور لذلك بعد حرمة المحل بالتطليقات الثلاث، فلانعدام المحلوف به من هذا الوجه يبطل التعليق لا لان المتعلق بالشرط تطليقات ذلك الملك.
وتحقيق هذا أنه لا بد لصحة التعليق من المحل (أيضا) حتى لا يصح التعليق بالعتق مضافا إلى البهيمة، إلا أن قيام الملك في المحل لا يشترط لان التعليق بالشرط ليس هو الطلاق المملوك، وإذا كانت صحة التعليق تستدعي المحل لم يبق صحيحا بعد فوات المحل لان فيما يرجع إلى المحل البقاء بمنزلة الابتداء وتوهم المحلية على الوجه الذي قال لا يعتبر لصحة التعليق في الابتداء فإنه لو قال لاجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق أو قال ذلك للمطلقة ثلاثا لم يصح التعليق وإن كان يتوهم الملك والمحلية عند وجود الشرط فإذا لم يعتبر ذلك لصحة التعليق في الابتداء، لا يعتبر لبقائه صحيحا، بخلاف ما إذا صرح بالاضافة إلى الملك، فإن اعتبار ذلك التعليق بالتيقن بالملك والمحلية عند

وجود الشرط.
يوضحه أن المتعلق وإن لم تكن التطليقات المملوكة له ولكن في التعليق
شبهة ذلك على معنى أنه ما صح إلا باعتباره، بمنزلة الغصب فإن موجبه رد العين ولكن فيه شبهة وجوب ضمان القيمة به، وقد اعتبرنا الشبهة حتى أثبتنا الملك عند تقرر الضمان من وقت الغصب، فهنا أيضا لا بد من اعتبار هذه الشبهة، وبعدما أوقع الثلاث قد ذهبت التطليقات المملوكة كلها فلهذا لا يبقى التعليق.
ومن هذه الجملة ما قال الشافعي رحمه الله: إن المطلق محمول على المقيد سواء كان في حادثة واحدة أو في حادثتين، لان الشئ الواحد لا يجوز أن يكون مطلقا ومقيدا، والمطلق ساكت والمقيد ناطق فكان هو أولى بأن يجعل أصلا ويبني المطلق عليه فيثبت الحكم مقيدا بهما كما في نصوص الزكاة، فإن المطلق عن صفة السوم محمول على المقيد بصفة السوم في حكم الزكاة بالاتفاق.
وكذلك نصوص الشهادة، فإن المطلق عن صفة العدالة محمول على المقيد بها في اشتراط العدالة في الشهادات كلها، وكذلك نصوص الهدايا فإن المطلق عن التبليغ وهو هدي المتعة والقران محمول على المقيد بالتبليغ وهو جزاء الصيد، يعني قوله: (هديا بالغ الكعبة) حتى يجب التبليغ في الهدايا كلها.
وكذلك إذا كان في حادثتين لان التقييد بالوصف بمنزلة التعليق بالشرط على ما قررنا، وكما أوجب نفي الحكم فيه قبل وجود الشرط أوجب في نظيره استدلالا به، ولهذا شرط الايمان في الرقبة في كفارة اليمين والظهار استدلالا بكفارة القتل، لان الكل كفارة بالتحرير فيكون بعضها نظير بعض، بمنزلة الطهارة فإن تقييد الايدي بالمرافق في الوضوء جعل تقييدا في نظيره وهو التيمم لان كل واحد منهما طهارة، وهذا بخلاف مقادير الكفارات والعبادات من الصلوات وغيرها لان ثبوتها بالنصوص باسم العلم لا بالصفة التي تجري مجرى الشرط، وقد بينا أن اسم العلم لا يوجب نفي الحكم قبل وجوده في المسمى به فكيف يوجب ذلك في غيره ؟ ولا يلزمني على هذا التتابع في صوم كفارة اليمين فإني لا أوجبه استدلالا بالمقيد بالتتابع في صوم الظهار والقتل لان هذا المطلق يعارض فيه نظائره من النصوص، فمنها مقيد بصفة التتابع
ومنها مقيد بصفة التفرق يعني صوم المتعة، قال تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) حتى لو لم يفرق الصوم فيها لم يجز فلا يكون حملها على أحدهما بأولى من الآخر ولاجل هذا التعارض أثبتنا فيها حكم الاطلاق.
ثم هذا يلزمكم فإنكم أثبتم صفة التتابع

في صوم كفارة اليمين اعتبارا بالصوم المقيد بالتتابع في باب الكفارات فذلك يلزمكم اشتراط صفة الايمان في الرقبة في كفارة اليمين اعتبارا بنظيرها في كفارة القتل.
وعندنا هذا أبعد من الاول لان العلة واحدة هناك والحكم مختلف، وهنا الحكم والعلة جميعا مختلف فكيف يمكن تعرف حكم من حكم آخر أو تعرف علة من علة أخرى ؟ ثم الدليل لنا من الكتاب قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) وفي الرجوع إلى المقيد ليعرف منه حكم المطلق إقدام على هذا المنهي عنه لما فيه من ترك الابهام فيما أبهم الله تعالى، وإليه أشار ابن عباس رضي الله عنهما قال: أبهموا ما أبهم الله واتبعوا ما بين.
وقال عمر رضي الله عنه: أم المرأة مبهمة فأبهموها.
وإنما أراد قوله: (وأمهات نسائكم) فإن حرمتها مطلقة وحرمة الربيبة مقيدة بقوله تعالى: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) وهذا غير مذكور على وجه الشرط بل على وجه الزيادة في تعريف النساء فإن النساء المذكورة في قوله: (وأمهات نسائكم) معرف بالاضافة إلينا، وفي قوله تعالى: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) زيادة تعريف أيضا، بمنزلة قول الرجل عبد امرأتي وعبد امرأتي البيضاء فلا يكون ذلك في معنى الشرط حتى يكون دليلا على نفي الحكم قبل وجوده كما توهمه الخصم.
وكذلك في كفارة القتل ذكر صفة الايمان في الرقبة لتعريف الرقبة المشروعة كفارة لا على وجه الشرط.
وإنما لا يجزئ الكافر لانها غير مشروعة لا لانعدام شرط الجواز فيما هو مشروع كما لا تجزئ إراقة الدم وتحرير نصف الرقبة، لان الكفارة ما عرفت إلا شرعا، فما ليس بمشروع لا يحصل به التكفير، وفي الموضع الذي هو مشروع
يحصل به التكفير، ولا شك أن انعدام كونه مشروعا في موضع لا يوجب نفي كونه مشروعا في موضع آخر، ولو كان موجبا لذلك لم يجز العمل به مع النص المطلق الذي هو دليل كونه مشروعا.
وبهذا تبين أن فيما ذهب إليه قولا بتناقض الادلة الشرعية أو ترك العمل ببعضها.
ثم للمطلق حكم وهو الاطلاق، فإن للاطلاق معنى معلوما وله حكم معلوم وللمقيد كذلك، فكما لا يجوز حمل المقيد على المطلق لاثبات حكم الاطلاق فيه لا يجوز حمل المطلق على المقيد لاثبات حكم التقييد فيه، ولئن سلمنا

أن القيد المذكور بمنزلة الشرط وأنه يوجب نفي الحكم قبله فيه فلا يوجب ذلك في غيره ما لم تثبت المماثلة (بينهما ولا مماثلة) في المعنى بين أم المرأة وابنتها، لان أم المرأة تبرز إلى زوج ابنتها قبل الزفاف عادة، والربيبة تمنع من ذلك بعد الزفاف فضلا عما قبله.
وكذلك لا مماثلة بين سبب كفارة القتل وبين سائر أسباب الكفارة فإن القتل بغير حق لا يكون في معنى الجناية كالظهار أو اليمين، ولا مماثلة في الحكم أيضا، فالرقبة عين في كفارة القتل ولا مدخل للاطعام فيها، والصوم مقدر بشهرين متتابعين، وفي الظهار للاطعام مدخل عند العجز عن الصوم، وفي اليمين يتخير بين ثلاثة أشياء ويكفي إطعام عشرة مساكين، وعند العجز يتأدى بصوم ثلاثة أيام، فمع انعدام المماثلة في السبب والحكم كيف يجعل ما يدل على نفي الحكم في كفارة القتل دليلا على النفي في كفارة اليمين والظهار، وإذا كان هو لا يعتبر الصوم في كفارة اليمين بالصوم في سائر الكفارات في صفة التتابع لانعدام المماثلة فكيف يستقيم منه اعتبار الرقبة في كفارة اليمين بالرقبة في كفارة القتل ؟ وما ذكره من العذر باطل، فالمطلق في كفارة إنما يحمل على المقيد في الكفارة أيضا وليس في صوم الكفارة مقيد بالتفرق، فإن صوم المتعة ليس بكفارة بل هو نسك بمنزلة إراقة الدم الذي كان الصوم خلفا عنه، ثم هو غير مقيد بالتفرق فإنه وإن فرقه
قبل الرجوع لا يجوز ولكنه مضاف إلى وقت بحرف إذا، كما قال تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) والمضاف إلى وقت لا يجوز قبل ذلك الوقت كصوم رمضان قبل شهود الشهر وصلاة الظهر قبل زوال الشمس.
وعندنا شرط التتابع فيه ليس بحمل المطلق على المقيد بل بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وقراءته لا تكون دون خبر يرويه، وقد كان مشهور إلى عهد أبي حنيفة رحمه الله، وبالخبر المشهور تثبت الزيادة على النص على ما نبينه.
فإن قيل: لماذا لم تجعلوا قراءته كنص آخر ثم عملتم بهما جميعا كما فعلتم في صدقة الفطر حيث أوجبتم الصدقة عن العبد الكافر بالنص المطلق، وعن العبد المسلم بالنص المقيد ؟ قلنا: لان الحكم هنا واحد وهو تأدي الكفارة بالصوم فبعدما صار مقيدا

بنص لا يبقى ذلك الحكم بعينه مطلقا.
فأما في صدقة الفطر النصان في بيان السبب دون الحكم وأحد السببين لا ينفي السبب الآخر، فيجوز أن يكون ملك العبد المطلق سببا لوجوب صدقة الفطر بأحد النصين، وملك العبد المسلم سببا بالنص الآخر.
وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الارض باعتبار النص المطلق وهو قوله عليه السلام: جعلت لي الارض مسجدا وطهورا وبالتراب باعتبار النص المقيد وهو قوله عليه السلام: التراب طهور المسلم لان المحل مختلف وإن كان الحكم واحدا فيستقيم إثبات المحلية باعتبار كل نص في شئ آخر، فأما التيمم إلى المرافق فلم نشترطه بحمل المطلق على المقيد، إذ لو جاز ذلك لكان الاولى إثبات التيمم في الرأس والرجل اعتبارا بالوضوء، وإنما عرفنا ذلك بنص فيه وهو حديث الاسلع أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التيمم ضربتين ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وهو مشهور يثبت بمثله التقييد، فإذا صار مقيدا لا يبقى ذلك الحكم بعينه مطلقا.
فأما صفة السائمة في الزكاة فهو ثابت بالنص المقيد
وإنما لا نوجب الزكاة في غير السائمة لنص موجب للنفي وهو قوله عليه السلام لا زكاة في العوامل لا باعتبار حمل المطلق على المقيد.
واشتراط العدالة في الشهادات باعتبار وجوب التوقف (وهو قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) أي توقفوا) في خبر الفاسق بالنص، وباعتبار قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) والفاسق لا يكون مرضيا، لا بحمل المطلق على المقيد.
واشتراط التبليغ في الهدايا باعتبار النص الوارد فيه وهو أن الله تعالى بعد ذكر الهدايا قال: (ثم محلها إلى البيت العتيق) أو بمقتضى اسم الهدي فإنه اسم لما يهدي إلى موضع.
وبمجرد اسم الكفارة لا تثبت المماثلة بين واجبات متفاوتة في أنفسها ليتعرف حكم بعضها من بعض، كما لا تثبت المماثلة بين الصلوات في مقدار الركعات والشرائط نحو الخطبة والجماعة في صلاة الجمعة حتى يعتبر بعضها ببعض وإن جمعها اسم الصلاة.
وصار حاصل الكلام أن النفي ضد الاثبات، فالنص الموجب لاثبات حكم لا يوجب ضد ذلك الحكم بعبارته

ولا بإشارته ولا بدلالته ولا بمقتضاه، لانه ليس من جملة ما لا يستغنى عنه حتى يكون مقتضيا إياه، فإثبات النفي به بعد هذا لا يكون إلا إثبات الحكم بلا دليل والاحتجاج بلا حجة وذلك باطل على ما نثبته في بابه إن شاء الله تعالى.
ونحن إذا قلنا يثبت بالمطلق حكم الاطلاق وبالمقيد حكم التقييد فقد عملنا بكل دليل بحسب الامكان، والتفاوت بين العمل بالدليل وبين العمل بلا دليل لا يخفى على كل متأمل.
ومن هذا الجنس ما قاله الشافعي رحمه الله: إن الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والنهي عن الشئ يكون أمرا بضده، وقد بينا فساد هذا الكلام فيما سبق.
ومن هذه الجملة قول بعض العلماء: إن العام يختص بسببه، وعندنا هذا على أربعة أوجه: أحدها: أن يكون السبب منقولا مع الحكم نحو ما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم سها فسجد، وأن ماعزا زنى فرجم، ونحو قوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) وهذا يوجب تخصيص الحكم بالسبب المنقول لانه لما نقل معه فذلك تنصيص على أنه بمنزلة العلة للحكم المنصوص، وكما لا يثبت الحكم بدون علية لا يبقى بدون العلة مضافا إليها بل البقاء بدونها يكون مضافا إلى علة أخرى.
والثاني: أن لا يكون السبب منقولا ولكن المذكور مما لا يستقل بنفسه ولا يكون مفهوما بدون السبب المعلوم به، فهذا يتقيد به أيضا نحو قول الرجل أليس لي عندك كذا فيقول بلى، أو يقول أكان من الامر كذا فيقول نعم أو أجل.
فهذه الالفاظ لا تستقل بنفسها مفهومة المعنى فتتقيد بالسؤال المذكور الذي كان سببا لهذا الجواب حتى جعل إقرارا بذلك، وباعتبار أصل اللغة بلى موضوع للجواب عن صيغة نفي فيه معنى الاستفهام، كما قال تعالى: (ألست بربكم قالوابلى) ونعم جواب لما هو محض الاستفهام، قال تعالى: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم) وأجل تصلح لهما.
وقد تستعمل بلى ونعم في جواب ما ليس باستفهام على أن يقدر فيه معنى الاستفهام، أو يكون مستعارا عنه.
هذا مذهب أهل اللغة.

فأما محمد رحمه الله فقد ذكر في كتاب الاقرار مسائل بناها على هذه الكلمات من غير استفهام في السؤال أو احتمال استفهام وجعلها إقرارا صحيحا بطريق الجواب، وكأنه ترك اعتبار حقيقة اللغة فيها لعرف الاستعمال.
والثالث: أن يكون مستقلا بنفسه مفهوم المعنى ولكنه خرج جوابا للسؤال وهو غير زائد على مقدار الجواب، فبهذا يتقيد بما سبق ويصير ما ذكر في السؤال كالمعاد في الجواب لانه بناء عليه.
وبيان هذا فيما إذا قال لغيره تعال تغد معي فقال إن تغديت فعبدي حر، فهذا يختص بذلك الغداء، ولو قالت له امرأته إنك تغتسل في هذه الدار الليلة من جنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر فإنه يختص بذلك
الاغتسال المذكور في السؤال.
والرابع: أن يكون مستقلا بنفسه زائدا على ما يتم به الجواب بأن يقول: إن تغديت اليوم أو إن اغتسلت الليلة، فموضع الخلاف هذا الفصل.
فعندنا لا يختص مثل هذا العام بسببه، لان في تخصيصه به إلغاء الزيادة وفي جعله نصا مبتدأ اعتبار الزيادة التي تكلم بها، وإلغاء الحال والعمل بالكلام لا بالحال، فإعمال كلامه مع إلغاء الحال أولى من إلغاء بعض كلامه، وفيما لا يستقل بنفسه قيدناه بالسبب باعتبار أن الكل صار بمنزلة المذكور وبمنزلة كلام واحد فلا يجوز إعمال بعضه دون البعض، ففي هذا الموضع لان لا يجوز إعمال بعض كلامه وإلغاء البعض كان أولى، إلا أن يقول نويت الجواب فحينئذ يدين فيما بينه وبين الله تعالى وتجعل تلك الزيادة للتوكيد.
وعلى قول بعض العلماء هذا يحمل على الجواب أيضا باعتبار الحال فيكون ذلك عملا بالمسكوت وتركا للعمل بالدليل، لان الحال مسكوت عنه والاستدلال بالمسكوت يكون استدلالا بلا دليل، فكيف يجوز باعتباره ترك العمل بالدليل وهو المنصوص ؟ والدليل على صحة ما قلنا إن بين أهل التفسير اتفاقا أن نزول آية الظهار كان بسبب خولة ثم لم يختص الحكم بها، ونزول آية القذف كان بسبب قصة عائشة رضي الله عنها ثم لم يختص بها، ونزول آية اللعان كان بسبب ما قال سعد بن عبادة ثم لم يختص به، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة

فوجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فقد كان سبب هذا النص إسلامهم إلى أجل مجهول ثم لم يختص هذا النص بذلك السبب.
وأمثلة هذا كثير، فعرفنا أن العام لا يختص بسببه.
ومن هذه الجملة تخصيص العام بغرض المتكلم، فإن من الناس من يقول يختص الكلام بما يعلم من غرض المتكلم لانه يظهر بكلامه غرضه، فيجب بناء كلامه في العموم
والخصوص والحقيقة والمجاز على ما يعلم من غرضه، ويجعل ذلك الغرض كالمذكور.
وعلى هذا قالوا: الكلام المذكور للمدح والذم والثناء والاستثناء لا يكون له عموم، لانا نعلم أنه لم يكن غرض المتكلم به العموم.
وعندنا هذا فاسد لانه ترك موجب الصيغة بمجرد التشهي وعمل بالمسكوت، فإن الغرض مسكوت عنه، فكيف يجوز العمل بالمسكوت وترك العمل بالمنصوص باعتباره ؟ ولكن العام يعرف بصيغته فإذا وجدت تلك الصيغة وأمكن العمل بحقيقتها يجب العمل، والامكان قائم مع استعمال الصيغة للمدح والذم (فإن المدح العام والثناء العام من عادة أهل اللسان، وكذلك الاستثناء والذم) واعتبار الغرض اعتبار نوع احتمال ولاجله لا يجوز ترك العمل بحقيقة الكلام.
ومن ذلك ما قاله بعض الاحداث من الفقهاء: إن القرآن في النظم يوجب المساواة في الحكم، وبيان هذا في قوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) فإن هذه جمل قرن بعضها ببعض بحرف النظم وهو الواو وقالوا يستوي حكمها في الحج.
وقال بعض أصحابنا في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) إن ذلك يوجب سقوط الزكاة عن الصبي، لان القران في النظم دليل المساواة في الحكم فلا تجب الزكاة على من لا تجب عليه الصلاة.
وعندنا هذا فاسد وهو من جنس العمل بالمسكوت وترك العمل بالدليل لاجله، فإن كلا من الجمل معلوم بنفسه وليس في واو النظم دليل المشاركة بينهما في الحكم إنما ذلك في واو العطف، وفرق ما بينهما أن واو النظم تدخل بين جملتين كل واحدة منهما تامة بنفسها مستغنية عن خبر الآخر كقول الرجل جاءني زيد وتكلم عمرو فذكر الواو بينهما لحسن النظم به

لا للعطف.
وبيان هذا في قوله تعالى: (لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء) وقال تعالى: (فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمحو الله الباطل) وأما واو العطف فإنه يدخل بين جملتين أحدهما ناقص والآخر تام بأن لا يكون خبر الناقص مذكورا
فلا يكون مفيدا بنفسه، ولا بد من جعل الخبر المذكور للاول خبرا للثانية حتى يصير مفيدا، كقول الرجل جاءني زيد وعمرو، فهذا الواو للعطف، لانه لم يذكر لعمرو خبرا ولا يمكن جعل (هذا) الخبر الاول خبرا له إلا بأن يجعل الواو للعطف حتى يصير ذلك الخبر كالمعاد لان موجب العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر، فمن قال بالقول الاول فقد ذهب إلى التسوية بين واو العطف وواو النظم باعتبار أن الواو في أصل اللغة للعطف، وموجب العطف الاشتراك، ومطلق الاشتراك يقتضي التسوية، فذلك دليل على أن القران في النظم يوجب المساواة في الحكم.
ثم الاصل أنا نفهم من خطاب صاحب الشرع ما يتفاهم من المخاطبات بيننا، ومن يقول امرأته طالق وعبده حر إن دخل الدار فإنه يقصد الاشتراك بين المذكورين في التعليق بالشرط، وذلك يفهم من كلامه حتى يجعل الكل متعلقا بالشرط وإن كان كل واحد من الكلامين تاما لكونه مبتدأ وخبرا مفهوم المعنى بنفسه، فعليه يحمل أيضا مطلق كلام صاحب الشرع.
ولكنا نقول: المشاركة في الخبر عند واو العطف لحاجة الجملة الناقصة إلى الخبر لا لعين الواو، وهذه الحاجة تنعدم في واو النظم، لان كل واحد من الكلامين تام بما ذكر له من الخبر فكان هذا الواو ساكتا عما يوجب المشاركة فإثبات المشاركة به يكون استدلالا بالمسكوت، يوضحه أنه لو كانت المشاركة تثبت باعتبار هذا الواو لثبتت في خبر كل جملة إذ ليس خبر إحدى الجملتين بذلك بأولى من الآخر، وهذا خلاف ما عليه إجماع أهل اللسان، فأما إذا قال امرأته طالق وعبده حر إن دخل الدار فكل واحد منهما تام في نفسه إيقاعا لا تعليقا بالشرط، والتعليق تصرف سوى الايقاع، ففيما يرجع إلى التعليق إحدى الجملتين ناقصة فأثبتنا المشاركة بينهما في حكم التعليق بواو العطف، حتى إذا لم يذكر الشرط وكان كلامه إيقاعا لم تثبت المشاركة بينهما في الخبر وجعل واو النظم

لتحسين الكلام به فإنه مستعمل كما بينا، ولهذا لو قال: لفلان علي مائة دينار ولفلان ألف درهم إلا عشرة يجعل الاستثناء من آخر المالين ذكرا لان بالاستثناء لا يخرج الكلام من أن يكون إقرارا وباعتبار الاقرار كل واحد من الجملتين تامة فيكون الواو للنظم وينصرف الاستثناء إلى ما يليه خاصة.
وعلى هذا قلنا في قوله تعالى: (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) إن هذا الواو للنظم حتى ينصرف الاستثناء إلى سمة الفسق دون ما تقدمه.
والشافعي يجعل هذا الواو للعطف والواو الذي في قوله: (ولا تقبلوا لهم) للنظم حتى يكون الاستثناء منصرفا إليهما دون الجلد فلا يسقط الجلد بالتوبة.
والصحيح ما قلنا: فإن من حيث الصيغة معنى العطف يتحقق في قوله تعالى: (ولا تقبلوا) ولا يتحقق في قوله تعالى: (وأولئك هم الفاسقون) لان قول القائل اجلس ولا تتكلم يكون عطفا صحيحا فكذلك قوله تعالى: (فاجلدوا) .
(ولا تقبلوا) لان كل واحد منهما خطاب للائمة، فأما قوله تعالى: (وأولئك هم الفاسقون) ليس بخطاب للائمة ولكن إخبار عن وصف القاذفين فلا يصلح معطوفا على ما هو خطاب فجعلناه للنظم، وكذلك من حيث المعنى قوله تعالى: (ولا تقبلوا) صالح لان يكون متمما للحد معطوفا على الجلد، فإن إهدار قوله في الشهادات شرعا مؤلم كالجلد وهذا الالم عند العقلاء يزداد على ألم الجلد فيصلح متمما للحد زاجرا عن سببه ولهذا خوطب به الائمة فإن إقامة الحد إليهم، فأما قوله تعالى: (وأولئك هم الفاسقون) فمعناه العاصون وذلك بيان لجريمة القاذف فلا يصلح جزاء على القذف حتى يكوشن متمما للحد، بل المقصود به إزالة إشكال كان يقع عسى وهو أن القذف خبر متميل، وربما يكون حسبة إذا كان الرامي صادقا وله أربعة من الشهود والزاني مصر فكان يقع الاشكال أنه لما كان سببا لوجوب عقوبة تندرئ بالشبهات فأزال الله هذا الاشكال بقوله: (وأولئك هم الفاسقون) أي العاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن إقامة أربعة من الشهداء، وإليه أشار في قوله
تعالى: (فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) ويتبين بهذا التحقيق أن العمل بالنص كما يوجبه فيما قلنا فإنا جعلنا العجز عن إقامة أربعة من الشهداء

======================ج33333. ==========================

ج333.


الكتاب : أصول السرخسي
المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى

مضموما إلى القذف ليتحقق بهما السبب الموجب للعقوبة، كما هو موجب حرف ثم فإنه للتعقيب مع التراخي، وجعلنا الواو في قوله تعالى: (ولا تقبلوا) للعطف فكان رد الشهادة متمما للحد كما هو موجب واو العطف، وجعلنا الواو في قوله تعالى: (وأولئك) للنظم كما هو مقتضى صيغة الكلام.
والشافعي ترك العمل بحرف ثم وجعل نفس القذف موجبا للحد، وجعل الواو في قوله تعالى: (ولا تقبلوا) للنظم، وفي قوله: (وأولئك) للعطف وكل ذلك مخالف لمقتضى صيغة الكلام، فكان الصحيح ما قلناه.
ومن هذه الجملة حكم الجمع المضاف إلى جماعة نحو قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) وقوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) فإن من الناس من يقول حكمة حقيقة الجماعة في حق كل واحد ممن أضيف إليهم وزعموا أن حقيقة الكلام هذا فإن المضاف إلى جماعة يكون مضافا إلى كل واحد منهم، وإذا كانت الصيغة التي بها حصلت الاضافة صيغة الجماعة وبها يثبت الحكم في كل واحد منهم ما هو مقتضى هذه الصيغة قولا بحقيقة الكلام، ألا ترى أن الاضافة لو حصلت بصيغة الفرد تثبت في كل واحد منهم الحكم الذي هو موجب تلك الصيغة.
وعندنا هذا فاسد وهو من جنس القول بالمسكوت، ولكن مقتضى هذه الصيغة مقابلة الآحاد بالآحاد على ما قال في الجامع: إذا قال لامرأتين له إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان فولدت كل واحدة منهما ولدا طلقتا، وكذلك إذا قال إذا حضتما حيضتين أو قال إذا دخلتما هاتين الدارين فدخلت كل واحدة منهما دارا فهما طالقان، ولا يشترط دخول كل واحدة منهما في الدارين جميعا، وما قلناه هو المعلوم من مخاطبات الناس، فإن الرجل يقول لبس
القوم ثيابهم وحلقوا رؤوسهم وركبوا دوابهم، وإنما يفهم من ذلك أن كل واحد منهم لبس ثوبه وركب دابته وحلق رأسه، والدليل عليه قول الشاعر: وإنا نرى أقدامنا في نعالهم وآنفنا بين اللحى والحواجب والمراد ما قلنا وكتاب الله يشهد به، قال تعالى: (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم) والمراد أن كل واحد منهم جعل أصبعه في أذنه لا في آذان الجماعة واستغشى ثوبه، وقال تعالى: (فقد صغت قلوبكما) والمراد في حق كل

واحدة منهما قلبها، وقال تعالى: (فاقطعوا أيديهما) والمراد قطع يد واحدة من كل واحد منهما لا قطع جميع ما يسمى يدا من كل واحد منهما لاتفاقنا على أن بالسرقة الواحدة لا تقطع إلا يد واحدة من السارق، وقد بينا أن مطلق الكلام محمول على ما يتفاهمه الناس في مخاطباتهم فهو اعتبار الصيغة بدون الاضافة، والمنصوص عليه الصيغة مع الاضافة إلى الجماعة ومع الاضافة إلى الجماعة موجب الصيغة حقيقة ليس ما ادعوا بل موجبه ما قلنا، لان ما ادعوا يثبت بدون الاضافة إلى الجماعة (وما قلنا لا يثبت بدون الاضافة إلى الجماعة) فعرفنا أن حقيقة العمل بالمنصوص فيما قلنا، وفيما قالوا ترك العمل بالدليل المنصوص وعمل بالمسكوت فيكون فاسدا.
هذا بيان الطريق فيما هو فاسد من وجوه العمل بالمنصوص كما ذهب إليه بعض الناس، وقد بينا الطريق الصحيح من ذلك في أول الباب، فمن فهم الطريقين يتيسر عليه تمييز الصحيح من الاستدلال بجميع النصوص والفاسد، وإن خفي عليه شئ فهو يخرج بالتأمل على ما بينا من كل طريق، والله أعلم.
باب: بيان الحجة الشرعية وأحكامها قال رضي الله عنه: اعلم بأن الحجة لغة اسم من قول القائل: حج، أي غلب، ومنه يقال: لج فحج، ويقول الرجل: حاججته فحججته، أي ألزمته بالحجة فصار
مغلوبا، ثم سميت الحجة في الشريعة، لانه يلزمنا حق الله تعالى بها على وجه ينقطع بها العذر، ويجوز أن يكون مأخوذا من معنى الرجوع إليه، كما قال القائل: يحجون بيت الزبرقان المزعفرا أي يرجعون إليه، ومنه: حج البيت، فإن الناس يرجعون إليه معظمين له، قال تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) والمثابة المرجع فسميت الحجة لوجوب الرجوع إليها من حيث العمل بها شرعا، ويستوي إن كانت موجبة

للعلم قطعا أو كانت موجبة للعمل دون العلم قطعا، لان الرجوع إليها بالعمل بها واجب شرعا في الوجهين على ما نبينه في باب خبر الواحد والقياس إن شاء الله تعالى.
والبينة كالحجة فإنها مشتقة من البيان وهو أن يظهر للقلب وجه الالزام بها سواء كان ظهورا موجبا للعلم أو دون ذلك لان العمل يجب في الوجهين، ومنه قوله تعالى: (فيه آيات بينات) : أي علامات ظاهرات.
والبرهان كذلك فإنه مستعمل استعمال الحجة في لسان الفقهاء.
وأما الآية فمعناها لغة: العلامة، قال الله تعالى: (فيه آيات بينات) وقال القائل: وغير آيها العصر ومطلقها في الشريعة ينصرف إلى ما يوجب العلم قطعا، ولهذا سميت معجزات الرسل آيات، قال الله تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) وقال تعالى: (فاذهبا بآياتنا) .
فإن قيل: من الناس من جحد رسالة الرسل بعد رؤية المعجزات والوقوف عليها ولو كانت موجبة للعلم قطعا لما أنكرها أحد بعد المعاينة ؟ قلنا: هذه الآيات لا توجب العلم خبرا فإنها لو أوجبت ذلك انعدم الثواب والعقاب بها أصلا وإنما توجب العلم باعتبار التأمل فيها عن إنصاف لا عن تعنت، ومع هذا التأمل يثبت العلم بها
قطعا وإنما جحدها من جحدها للاعراض عن هذا التأمل كما ذكر الله تعالى في قوله: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) وفي قوله: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) وقد كان فيهم من جحد تعنتا بعدما علم يقينا كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) وأما الدليل فهو فعيل من فاعل الدلالة، بمنزلة عليم من عالم، ومنه قولهم: يا دليل المتحيرين، أي هاديهم إلى ما يزيل الحيرة عنهم، ومنه سمي دليل القافلة، أي هاديهم إلى الطريق فسمي باسم فعله، وفي الشريعة هو اسم لحجة منطق يظهر به ما كان خفيا فإن ما قدمناه يكون موجبا تارة ومظهرا تارة، والدليل خاص لما هو مظهر.
فإن قيل: أليس أن الدخان دليل على النار والبناء دليل على الباني ولا نطق

هناك ؟ قلنا: إنما يطلق الاسم على ذلك مجازا بحصول معنى الظهور عنده، كما قال تعالى: (قالتا أتينا طائعين) وقال تعالى: (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) وقال القائل: وعظتك أحداث صمت، وكل ذلك مجاز.
ثم الدليل مجازا كان أو حقيقة يكون مظهرا ظهورا موجبا للعلم به أو دون ذلك.
والشاهد كالدليل سواء كان مظهرا على وجه يثبت العلم به أو لا يثبت به علم اليقين بمنزلة الشهادات على الحقوق في مجالس الحكام.
قال رضي الله عنه: ثم اعلم بأن الاصول في الحجج الشرعية ثلاثة: الكتاب والسنة، والاجماع، والاصل الرابع وهو القياس هو المعنى المستنبط من هذه الاصول الثلاثة.
وهي تنقسم قسمين: قسم موجب للعلم قطعا، ومجوز غير موجب للعلم، وإنما سميناه مجوزا لانه يجب العمل به والاصل أن العمل بغير علم لا يجوز، قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) فسميناه مجوزا باعتبار أنه يجب العمل به وإن لم يكن موجبا للعلم قطعا.
فأما الموجب للعلم من الحجج الشرعية أنواع أربعة: كتاب الله،
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسموع منه والمنقول عنه بالتواتر، والاجماع.
والاصل في كل ذلك لنا السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي أسمعنا ما أوحي إليه من القرآن بقراءته علينا، والمنقول عنه بطريق متواتر بمنزلة المسموع عنه في وقوع العلم به على ما نبينه، وكذلك الاجماع فإن إجماع هذه الامة إنما كانت حجة موجبة للعلم بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لا يجمع أمته على الضلالة، والسماع منه موجب للعلم لقيام الدلالة على أن الرسول عليه السلام يكون معصوما عن الكذب والقول بالباطل.
فهذا بيان قولنا إن الاصل في ذلك كله السماع من رسول صلى الله عليه وسلم .
فصل: في بيان الكتاب وكونه حجة قال رضي الله عنه: اعلم بأن الكتاب هو القرآن المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المكتوب في دفات المصاحف، المنقول إلينا على الاحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا، لان ما دون المتواتر لا يبلغ درجة العيان ولا يثبت بمثله القرآن مطلقا، ولهذا قالت الامة لو صلى بكلمات تفرد بها ابن مسعود لم تجز صلاته، لانه لم يوجد

فيه النقل المتواتر، وباب القرآن باب يقين وإحاطة فلا يثبت بدون النقل المتواتر كونه قرآنا، وما لم يثبت أنه قرآن فتلاوته في الصلاة كتلاوة خبر فيكون مفسدا للصلاة.
فإن قيل: بكونه معجزا يثبت أنه قرآن بدون النقل المتواتر.
قلنا: لا خلاف أن ما دون الآية غير معجز، وكذلك الآية القصيرة، ولهذا لم يجوز أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الصلاة إلا بقراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة لان المعجز السورة وأقصر السور ثلاث آيات يعني الكوثر.
وأبو حنيفة رحمه الله قال: الواجب بالنص قراءة ما تيسر من القرآن وبالآية القصيرة يحصل ذلك فيتأدى فرض القراءة وإن كان
يكره الاكتفاء بذلك، وجاء فيما ذكرنا أن ما دون الآية والآية القصيرة ليس بمعجز وهو قرآن يثبت به العلم قطعا، فظهر أن الطريق فيه النقل المتواتر مع أن كونه معجزا دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به، وليس بدليل في نفسه على أنه كلام الله لجواز أن يقدر الله تعالى رسوله على كلام يعجز البشر عن مثله، كما أقدر عيسى على إحياء الموتى، وعلى أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.
فعرفنا أن الطريق فيه النقل المتواتر.
وإنما اعتبرنا الاثبات في دفات المصاحف لان الصحابة رضي الله عنهم إنما أثبتوا القرآن في دفات المصاحف لتحقيق النقل المتواتر فيه، ولهذا أمروا بتجريد القرآن في المصاحف وكرهوا التعاشير وأثبتوا في المصاحف ما اتفقوا عليه ثم نقل إلينا نقلا متواترا فثبت به العلم قطعا، ولما ثبت بهذا الطريق أنه كلام الله تعالى ثبت أنه حجة موجبة للعلم قطعا لعلمنا يقينا أن كلام الله لا يكون إلا حقا.
فإن قيل: فالتسمية نقلت إلينا مكتوبة في المصاحف بقلم الوحي لمبدأ الفاتحة ومبدأ كل سورة سوى سورة براءة، ثم لم تجعلوها آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة مع النقل المتواتر من الوجه الذي قررتم ؟ قلنا: قد ذكر أبو بكر الرازي رحمه الله أن الصحيح من المذهب عندنا أن التسمية آية منزلة من القرآن لا من أول السورة ولا من آخرها ولهذا كتبت للفصل بين السور في المصحف بخط على حدة لتكون

الكتابة بقلم الوحي دليلا على أنها منزلة للفصل، والكتابة بخط على حدة دليلا على أنها ليست من أول السورة، وظاهر ما ذكر في الكتاب علماؤنا يشهد به فإنهم قالوا ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم فقد قطعوا التسمية عن التعوذ وأدخلوها في القراءة، ولكن قالوا لا يجهر بها لانه ليس من ضرورة كونها آية من القرآن الجهر بها بمنزلة الفاتحة في الاخريين، وإنما قالوا يخفي بها ليعلم أنها ليست بآية من
أول الفاتحة فإن المتعين في حق الامام الجهر بالفاتحة والسورة في الاوليين، وعلى هذا نقول يكره للجنب والحائض قراءة التسمية على قصد قراءة القرآن، لان من ضرورة كونها آية من القرآن حرمة القراءة على الجنب والحائض، ولكن لا يتأدى بها فرض القراءة في الركعة عند أبي حنيفة رحمه الله لاشتباه الآثار واختلاف العلماء وأدنى درجات الاختلاف المعتبر إيراث الشبهة به، وما كان فرضا مقطوعا به لا يتأدى بما فيه شبهة، ولسنا نعني الشبهة في كونها من القرآن بل في كونها آية تامة فإنه لا خلاف في أنها من القرآن في قوله تعالى: (وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) .
فإن قيل: فقد أثبتم بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: فصيام ثلاثة أيام متتابعات، كونه قرآنا في حق العمل به ولم يوجد فيه النقل المتواتر ولم تثبتوا في التسمية مع النقل المتواتر كونها آية من القرآن في حكم العمل وهو وجوب الجهر بها في الصلاة وتأدي القراءة بها.
قلنا: نحن ما أثبتنا بقراءة ابن مسعود كون تلك الزيادة قرآنا وإنما جعلنا ذلك بمنزلة خبر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمنا أنه ما قرأ بها إلا سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره مقبول في وجوب العمل به، وبمثل هذا الطريق لا يمكن إثبات هذا الحكم في التسمية، لان برواية الخبر وإن علم صحته لا يثبت حكم جواز الصلاة، ولانه ليس من ضرورة كونها آية من القرآن وجوب الجهر بها على ما بينا أن الفاتحة لا يجهر بها في الاخريين، وما كان ثبوته بطريق الاقتضاء يتقدر الحكم فيه بقدر الضرورة لانه لا عموم للمقتضى.
ثم قال كثير من مشايخنا إن إعجاز القرآن في النظم وفي المعنى جميعا خصوصا على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله حيث قالا: بالقراءة بالفارسية في الصلاة لا يتأدى فرض القراءة وإن كان مقطوعا به أنه هو المراد، لان الفرض قراءة المعجز وذلك في النظم والمعنى جميعا.
قال رضي الله عنه: والذي يتضح لي أنه ليس مرادهم من هذا أن

المعنى بدون النظم غير معجز، فالادلة على كون المعنى معجزا ظاهرة: منها أن المعجز كلام الله (وكلام الله تعالى) غير محدث ولا مخلوق والالسنة كلها محدثة العربية والفارسية وغيرهما، فمن يقول الاعجاز لا يتحقق إلا بالنظم فهو لا يجد بدا من أن يقول بأن المعجز محدث وهذا مما لا يجوز القول به، والثاني أن النبي عليه السلام بعث إلى الناس كافة (وآية نبوته القرآن الذي هو معجز فلا بد من القول بأنه حجة له على الناس كافة) ومعلوم أن عجز العجمي عن الاتيان بمثل القرآن بلغة العرب لا يكون حجة عليه فإنه يعجز أيضا عن الاتيان بمثل شعر امرئ القيس وغيره بلغة العرب وإنما يتحقق عجزه عن الاتيان بمثل القرآن بلغته، فهذا دليل واضح على أن معنى الاعجاز في المعنى تام، ولهذا جوز أبو حنيفة رحمه الله القراءة بالفارسية في الصلاة، ولكنهما قالا في حق من لا يقدر على القراءة بالعربية الجواب هكذا، وهو دليل على أن المعنى عندهما معجز فإن فرض القراءة ساقط عمن لا يقدر على قراءة المعجز أصلا ولم يسقط عنه الفرض أصلا بل يتأدى بالقراءة بالفارسية، فأما إذا كان قادرا على القراءة بالعربية لم يتأد الفرض في حقه بالقراءة بالفارسية عندهما لا لانه غير معجز ولكن لان متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف في أداء هذا الركن فرض في حق من يقدر عليه، وهذه المتابعة في القراءة بالعربية، إلا أن أبا حنيفة اعتبر هذا في كراهة القراءة بالفارسية فأما في تأدي أصل الركن بقراءة القرآن فإنه اعتبر ما قررناه.
فصل: في بيان حد المتواتر من الاخبار وموجبها المتواتر ما اتصل بنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل المتواتر.
مأخوذ من قول القائل: تواترت الكتب إذا اتصلت بعضها ببعض في الورود متتابعا، وحد ذلك أن ينقله قوم لا يتوهم اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم عن قوم مثلهم هكذا إلى أن يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون
أوله كآخره وأوسطه كطرفيه، وذلك نحو نقل أعداد الركعات وأعداد الصلوات

ومقادير الزكاة والديات وما أشبه ذلك، وهذا لان الاتصال لا يتحقق إلا بعد انقطاع شبهة الانفصال، وإذا انقطعت شبهة الانفصال ضاهى ذلك المسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لان الناس على همم شتى، وذلك يبعثهم على التباين في الاهواء والمرادات، فلا يردهم عن ذلك إلى شئ واحد إلا جامع أو مانع، وليس ذلك إلا اتفاق صنعوه، أو سماع اتبعوه، فإذا انقطعت تهمة الاختراع لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم تعين جهة السماع، ولهذا كان موجبا علم اليقين عند جمهور الفقهاء.
ومن الناس من يقول الخبر لا يكون حجة أصلا.
ولا يقع العلم به بوجه، وكيف يقع العلم به والمخبرون هم الذين تولوا نقله ؟ وإنما وقوع العلم بما ليس من صنع البشر ويكون خارجا عن مقدورهم، فأما ما يكون من صنع البشر ويتحقق منهم الاجتماع على اختراعه قلوا أو كثروا فذلك لا يكون موجبا للعلم أصلا، هذا قول فريق ممن ينكر رسالة المرسلين، وهذا القائل سفيه يزعم أنه لا يعرف نفسه ولا دينه ولا دنياه ولا أمه ولا أباه، بمنزلة من ينكر العيان من السوفسطائية فلا يكون الكلام معه على سبيل الاحتجاج والاستدلال، فكيف يكون ذلك وما يثبت بالاستدلال من العلم دون ما ثبت بالخبر المتواتر ؟ فإن هذا يوجب علما ضروريا والاستدلال لا يوجب ذلك، وإنما الكلام معه من حيث التقرير عند العقلاء بما لا يشك هو ولا أحد من الناس في أنه مكابرة وجحد لما يعلم اضطرارا، بمنزلة الكلام مع من يزعم أنه لا حقيقة للاشياء المحسوسة.
فنقول: إذا رجع الانسان إلى نفسه علم أنه مولود اضطرارا بالخبر، كما علم أن ولده مولود بالمعاينة وعلم أن أبويه كانا من جنسه بالخبر كما علم أن أولاده من جنسه بالعيان، وعلم أنه كان صغيرا ثم شابا بالخبر، كما علم ذلك من ولده بالعيان، وعلم أن السماء والارض كانتا قبله على هذه الصفة بالخبر، كما يعلم أنهما على هذه الصفة للحال بالعيان، وعلم أن آدم
أبو البشر على وجه لا يتمكن فيه شبهة، فمن أنكر شيئا من هذه الاشياء فهو مكابر جاحد لما هو معلوم ضرورة بمنزلة من أنكر العيان.
ولا نقول: إن هذا العلم يحصل بفعل المخبرين بل بما هو من صنع الله تعالى، وهو أنه خلق الخلق أطوارا، على طباع مختلفة وهمم متباينة يبعثهم على ذلك الاختلاف والتباين، فالاتفاق بعد ذلك مع الاسباب الموجبة للاختلاف لا يكون إلا بجامع يجمعهم على ذلك كما قررنا، وفيه حكمة

بالغة وهو بقاء الاحكام بعد وفاة المرسلين على ما كانت عليه في حياتهم، فإن النبوة ختمت برسولنا صلى الله عليه وسلم وقد كان مبعوثا إلى الناس كافة وقد أمرنا بالرجوع إليه والتيقن بما يخبر به، قال تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وهذا الخطاب يتناول الموجودين في عصره والذين يؤمنون به إلى قيام الساعة، ومعلوم أن الطريق في الرجوع إليه ليس إلا الرجوع إلى ما نقل عنه بالتواتر، فبهذا يتبين أن هذا كالمسموع منه في حياته، وقد قامت الدلالة على أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بالحق خصوصا فيما يرجع إلى بيان الدين، فيثبت منه بالسماع علم اليقين.
ومن الناس من يقول إن ما يثبت بالتواتر علم طمأنينة القلب لا علم اليقين، ومعنى هذا أنه يثبت العلم به مع بقاء توهم الغلط أو الكذب ولكن لرجحان جانب الصدق تطمئن القلوب إليه فيكون ذلك علم طمأنينة مثل ما يثبت بالظاهر لا علم اليقين.
قالوا لان التواتر إنما يثبت بمجموع آحاد، ومعنى احتمال الكذب ثابت في خبر كل واحد من تلك الآحاد فبالاجتماع لا ينعدم هذا الاحتمال، بمنزلة اجتماع السودان على شئ لا يعدم صفة السواد الموجود في كل واحد منهم قبل الاجتماع، وهذا لانه كما يتوهم أن يجتمعوا على الصدق فيما ينقلون يتوهم أن يجتمعوا على الكذب، إذ الخبر يحتمل كل واحد من الوصفين على السواء، ألا ترى أن النصارى واليهود
اتفقوا على قتل عيسى عليه السلام وصلبه، ونقلوا ذلك فيما بينهم نقلا متواترا وقد كانوا أكثر منا عددا، ثم كان ذلك كذبا لا أصل له، والمجوس اتفقوا على نقل معجزات زرادشت وقد كانوا أكثر منا عددا، ثم كان ذلك كذبا لا أصل له.
فعرفنا أن احتمال التواطؤ على الكذب لا ينتفي بالنقل المتواتر ومع بقائه لا يثبت علم اليقين، فإنما الثابت به علم طمأنينة بمنزلة من يعلم حياة رجل ثم يمر بداره فيسمع النوح ويرى آثار التهيؤ لغسل الميت ودفنه فيخبرونه أنه قد مات ويعزونه ويعزيهم فيتبدل بهذا الحادث العلم الذي كان (له) حقيقة، ويعلمه ميتا على وجه طمأنينة القلب مع احتمال أن ذلك

كله حيلة منهم وتلبيس لغرض كان لاهله في ذلك، فهذا مثله.
وهذا قول رذل أيضا فإن هذا القائل إنه لا يعلم الرسل عليهم السلام حقيقة ولا يصح إيمانه ما لم يعرف الرسل حقيقة، فهو بمنزلة من يزعم أنه لا يعرف الصانع حقيقة، فعرفنا أنه مفسد لدينه باختيار هذا القول، ثم هو جاحد لما يعلمه كل عاقل ضرورة، فإنا إذا رجعنا إلى موضع المعرفة وهو القلب ووجدنا أن المعرفة بالمتواتر من الاخبار يثبت على الوجه الذي يثبت بالعيان، لانا نعلم أن في الدنيا مكة وبغداد بالخبر على وجه ليس فيه احتمال الشك كما نعلم بلدتنا بالمعاينة، ونعرف الجهة إلى مكة يقينا بالخبر كما نعرف الجهة إلى منازلنا يقينا بالمعاينة، ومن أراد الخروج من هذه البلدة إلى بخارى يأخذ في السير إلى ناحية المغرب، كما أن من أراد أن يخرج إلى كاشغر يأخذ في السير إلى ناحية المشرق ولا يشك في ذلك أحد ولا يخطئه بوجه وإنما عرف ذلك بالخبر فلو لم يكن ذلك موجبا علم اليقين لكان هو مخاطرا بنفسه وماله خصوصا في زمان الخوف فينبغي أن يكون فعله ذلك خطأ، وفي اتفاق الناس كلهم على خلافه ما يدفع زعم هذا الزاعم.
وما استدلوا به من نقل النصارى واليهود قتل المسيح وصلبه فهو وهم، لان النقل المتواتر لم يوجد في ذلك، فإن النصارى إنما نقلوا ذلك عن أربعة نفر كانوا مع المسيح
في بيت، إذ الحواريون كانوا قد اختفوا أو تفرقوا حين هم اليهود بقتلهم، وإنما بقي مع المسيح أربعة نفر يوحنا ويوقنا ومتن ومارقيش، ويتحقق من هذه الاربعة التواطؤ على ما هو كذب لا أصل له، وقد بينا أن حد التواتر ما يستوي طرفاه ووسطه، واليهود إنما نقلوا ذلك عن سبعة نفر كانوا دخلوا البيت الذي كان فيه المسيح، وأولئك يتحقق منهم التواطؤ على الكذب، وقد روي أنهم كانوا لا يعرفون المسيح حقيقة حتى دلهم عليه رجل يقال له يهوذا، وكان يصحبه قبل ذلك فاجتعل منهم ثلاثين درهما، وقال إذا رأيتموني أقبل رجلا فاعلموا أنه صاحبكم، وبمثل هذا لا يحصل ما هو حد التواتر.
فإن قيل: الصلب قد شاهده الجماعة التي لا يتصور منهم التواطؤ على الكذب عادة فيتحقق ما هو حد التواتر في الاخبار بصلبه.
قلنا: لا كذلك، فإن فعل الصلب

إنما تناوشوه عدد قليل من الناس ثم سائر الناس يعتمدون خبرهم أن المصلوب فلان وينظرون إليه من بعد من غير تأمل فيه ففي الطباع نفرة عن التأمل في المصلوب والحلي تتغير به أيضا فيتمكن فيه الاشتباه باعتبار هذه الوجوه، فعرفنا أنه كما لا يتحقق النقل المتواتر في قتله لا يتحقق في صلبه، والثاني أن النقل المتواتر منهم في قتل رجل علموه عيسى وصلبه، وهذا النقل موجب علم اليقين فيما نقلوه ولكن لم يكن الرجل عيسى وإنما كان مشبها به، كما قال تعالى: (ولكن شبه لهم) وقد جاء في الخبر أن عيسى عليه السلام قال لمن كان معه: من يريد منكم أن يلقي الله شبهي عليه فيقتل وله الجنة ؟ فقال رجل: أنا، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه فقتل ورفع عيسى إلى السماء.
فإن قيل: هذا القول في نهاية من الفساد لان فيه قولا بإبطال المعارف أصلا وبتكذيب العيان، وإذا جوزتم هذا فما يؤمنكم من مثله فيما ينقل بالتواتر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن السامعين إنما سمعوا ذلك من رجل كان عندهم أنه محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن إياه وإنما ألقى الله شبهه على غيره، ومع هذا القول لا يتحقق الايمان بالرسل لمن يعانيهم لجواز أن يكون شبه الرسل ملقى على غيرهم، كيف والايمان بالمسيح كان واجبا عليهم في ذلك الوقت فمن ألقي عليه شبه المسيح فقد كان الايمان به واجبا بزعمكم، وفي هذا قول بأن الله تعالى أوجب على عباده الكفر بالحجة فأي قول أقبح من هذا ؟ قلنا.
الامر ليس كما توهمتم فإن إلقاء شبه المسيح على غيره غير مستبعد في القدرة ولا في الحكمة بل فيه حكمة بالغة وهو دفع شر الاعداء عن المسيح فقد كانوا عزموا على قتله وفي هذا دفع عنه مكرو القتل بوجه لطيف، ولله لطائف في دفع الاذى عن الرسل عليهم السلام، والذين قصدوه بالقتل قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون به فألقى شبهه على غيره على سبيل الاستدراج لهم ليزدادوا طغيانا ومرضا إلى مرضهم، ومثل ذلك لا يتوهم في حق قوم يأتون الرسل ليؤمنوا به ويتعظوا بوعظه، فظهر أن الفاسد قول من يقول بأن هذا يؤدي إلى إبطال المعارف والتكذيب بالرسل، ويرد ظاهر قوله تعالى: (ولكن شبه لهم) وبيان أن هذا غير مستبعد

في القدرة غير مشكل فإن إلقاء الشبه دون إيجاد الاصل لا محالة، وقد ظهر إبليس عليه اللعنة مرة في صورة شيخ من أهل نجد ومرة في صورة سراقة بن مالك وكلم المشركين فيما كانوا هموا به في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه نزل قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الآية، ورأت عائشة رضي الله عنها دحية الكلبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخبرته بذلك قال كان معي جبريل عليه السلام، ورأى ابن عباس رضي الله عنهما جبريل أيضا في صورة دحية الكلبي، ورأته الصحابة حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي ثائر الرأس يسأله معالم الدين، فعرفنا أن مثل هذا غير مستبعد في زمن الرسل، وأرى الله تعالى المشركين في أعين
المسلمين قليلا يوم بدر مع كثرة عددهم لانه لو أراهم كثرتهم وعدتهم لامتنعوا من قتالهم فأراهم بصفة القلة حتى رغبوا في قتالهم وقتلوهم كما قال تعالى: (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) فعرفنا أن مثله غير مستبعد.
فأما نقل المجوس ما نقلوه عن زرادشت فذلك كله تخييلات بمنزلة فعل المشعوذين أو لعب النساء والصبيان إلا ما ينقل أنه أدخل قوائم فرس الملك كشتاسب في بطنه ثم أخرجه وهذا إنما ينقل أنه فعله في مجلس الملك بين يدي خواصه وأولئك يتصور منهم الاجتماع على الكذب فلا يثبت (به) النقل المتواتر، كيف وقد روي أن الملك لما اختبره وعلم خبثه ودهاءه وواطأه على أن يؤمن به ويجعل هو أحد أركان دينه دعاه الناس إلى تعظيم الملوك وتحسين أفعالهم ومراعاة حقوقهم في كل حق وباطل، ويكون هو من ورائه بالسيف يجبر الناس على الدخول في دينه، وحملهم على هذه المواطأة حاجتهم إلى ذلك، فإنه لم يكن لذلك الملك بيت قديم في الملك فكان الناس لا يعظمونه، فاحتالوا بهذه الحيلة، ثم نقلوا عنه أمورا بعد ذلك بين يدي الملك وخاصته، وكل ذلك كذب لا أصل له.
فإن قيل: مثل هذه المواطأة لا تنكتم عادة فكيف انكتم في ذلك الوقت حتى اتفقوا على الايمان به وكذلك من بعدهم إلى زمان طويل وجعلوا ينقلون ذلك نقلا

متواترا ؟ قلنا: إنما لا تنكتم المواطأة التي تكون بين جمع عظيم فأما ما يكون بين الملك وخواصه تنكتم، فإنهم رصد لحفظ الاسرار وإنما يخصهم الملك بهذا الشرط لان تدبير الملك لا يتم مستويا إلا بحفظ الاسرار، وهذا معروف في عادة أهل كل زمان أن المواطأة التي تكون بين الملك وخواصه لا تظهر للعوام، فعرفنا أنه لا يوجد النقل الموجب لعلم اليقين في شئ من هذه الاخبار.
فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فقد كانوا من قبائل مختلفة وكانوا عددا لا يتوهم اجتماعهم
وتواطؤهم على الاختراع عادة لكثرتهم، فعرفنا أن ما نقلوه عنه بمنزلة المسموع منه في كونه موجبا علم اليقين، لانه لما انتفى تهمة احتمال المواطأة تعين جهة السماع.
فإن قيل: مع هذا توهم الاتفاق على الكذب غير منقطع لانه ليس شرط التواتر اجتماع أهل الدنيا وإذا اجتمع أهل بلدة أو عامتهم على شئ يثبت به التواتر، كيف وقد نقل الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهم كانوا عسكره لما تحقق منهم الاجتماع على صحبته مع تباين أمكنتهم، فذلك يوهم الاتفاق منهم على نقل ما لا أصل له ؟ قلنا: مثل هذا الاتفاق من الجمع العظيم خلاف العادة وهو نادر غاية وعادة والبناء على ما هو معتاد البشر، ألا ترى أن المعجزات توجب العلم بالنبوة قطعا لكونها خارجة عن حد معتاد البشر، ولو أن واحدا قال في زماننا صعدت السماء وكلمت الملائكة نقطع القول بأنه كاذب لكون ما يخبر به خارجا عما هو المعتاد، والتوهم بعد ذلك غير معتبر، ولهذا قلنا لو شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة وآخران أنه أعتق عبده في ذلك اليوم بعينه بكوفة لا تقبل الشهادة، لان كون الانسان في يوم واحد بمكة وكوفة مستحيل عادة فيسقط ما وراءه من التوهم، يوضحه أنه لو كان هنا توهم الاتفاق على الكذب لظهر ذلك في عصرهم أو بعد ذلك إذا تطاول الزمان، فقد كانوا ثلاثين ألفا أو أكثر والمواطأة فيما بين مثل هذا الجمع العظيم لا ينكتم عادة بل يظهر، كيف وقد اختلط بهم المنافقون وجواسيس الكفرة، كما قال تعالى: (وفيكم سماعون لهم) وقد كان في المسلمين أيضا من يلقي إلى الكفار

بالمودة ويظهر لهم سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب وغيره، والانسان يضيق صدره عن سره حتى يفشيه إلى غيره ويستكتمه، ثم السامع يفشيه إلى غيره حتى يصير ظاهرا عن قريب، فلو كان هنا توهم المواطأة لظهر ذلك، فالقول بأنه كان بينهم مواطأة وانكتم أصلا شبه المحال، وهو بمنزلة قول من يزعم أن الكفار عارضوا
القرآن بمثله ثم انكتم ذلك فإن هذا الكلام بالاتفاق بين المسلمين شبه المحال، لان النبي عليه السلام تحداهم في محافلهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو سورة منه فلو قدروا على ذلك لما أعرضوا عنه إلى بذل النفوس والاموال والحرم في غزواته، ولو عارضوه به لما خفي ذلك، فقد كان المشركون يومئذ أكثر من المسلمين، ولو لم يظهر الآن فيما بين المسلمين لظهر في ديار الشرك إذ لا خوف لهم، وتلك المعارضة حجة لهم لو كانت، والانسان على نقل الحجة يكون أحرص منه على نقل الشبهة، كيف وقد نقلت كلام مسليمة ومخاريق المتنبئين من غير أن يكون لشئ من ذلك أصل، فكما تبين بهذا التقرير انقطاع توهم المعارضة، وكون القرآن حجة موجبة للعلم قطعا فكذلك ينقطع هذا التوهم في المتواتر من الاخبار.
فإن قيل: لكونه خلاف العادة أثبتنا علم طمأنينة القلب به ولكون الاتفاق متوهما لم نثبت به علم اليقين كما ذكرنا من حال من رأى آثار الموت في دار إنسان وأخبر بموته.
قلنا: طمأنينة القلب في الاصل إنما تكون بمعرفة حقيقة الشئ، فإن امتنع ثبوت ذلك في موضع فذلك لغفلة من الناظر حيث اكتفى بالظاهر، ولو تأمل وجد في طلب الباطن لظهر عنده التلبيس والفساد، كما يكون في حق المخبر بموت الميت، وإنما تتحقق هذه الغفلة في موضع يكون وراء ما غايته حد آخر، بمنزلة ما يراه النائم في منامه، فإن عنده أن ما يراه هو الحقيقة في ذلك الوقت، ولكن لما كان وراء هذا الحد حد آخر للمعرفة فوقه وهو ما يكون في حالة اليقظة، فباعتبار هذه المقابلة يظهر أن ما يراه في النوم لم يكن موجبا للمعرفة حقيقة، فأما هنا ليس وراء الطمأنينة الثابتة بخبر التواتر حد آخر للعلم فوقه على ما بينا أن الثابت بخبر التواتر والثابت بالمعاينة في وقوع العلم به سواء، فالموجب للعلم هنا معنى في قوة الدليل وهو انقطاع

توهم المواطأة ومثل هذا كلما ازداد المرء التأمل فيه ازداد يقينا، فالتشكيك فيه
يكون دليل نقصان العقل بمنزلة التشكيك في حقائق الاشياء المحسوسة، والطمأنينة التي تكون باعتبار كمال العقل تكون عبارة عن معرفة الشئ حقيقة لا محالة.
وبهذا يتبين فساد قولهم إنه ليس في الجماعة إلا اجتماع الافراد، لان مثل هذه الطمأنينة لا تثبت بخبر الفرد وتوهم الكذب في ذلك الخبر غير خارج عن حد المعتاد.
ثم هذا باطل فإن الواحد منا يمكنه أن يتكلم بحروف الهجاء كلها، وهل لقائل أن يقول لقدرته على ذلك يتوهم منه أن يأتي بمثل القرآن ففيه تلك الحروف بعينها، وكذلك الغبي منا يمكنه أن يتكلم بكل حكمة من شعر امرئ القيس وغيره ثم لا يقول أحد إنه لقدرته على ذلك يقدر على (إنشاء) قصيدة مثل تلك القصيدة، وقد يتكلم الانسان عن ظن وفراسة فيصيب مرة ثم لا يقول أحد إنه يصيب في كل ما يتكلم (به) بهذا الطريق اعتبارا للجملة بالفرد، واتفاق مثل هذا الجمع على الصدق كان بجامع جمعهم عليه وهو دعاء الدين والمروءة على الصدق، وإنما تدعي انقطاع توهم اتفاقهم مع اختلاف الطبائع والاهواء من غير جامع يجمعهم على ذلك، فأما عند وجود الجامع فهو موافق للمعتاد.
فإن قيل: لو تواتر الخبر عند القاضي بأن الذي في يد زيد ملك عمرو لم يقض له بالملك بدون إقامة البينة، ولو ثبت له علم اليقين بذلك لتمكن من القضاء به.
قلنا: هذا أولا يلزم الخصم فإنه يثبت علم طمأنينة القلب بخبر التواتر، وبه يتمكن من القضاء لان بشهادة الشاهدين لا يثبت فوق ذلك.
فأما عندنا فيحتمل أن يقال بأنه يقضي لانه مأمور شرعا بأن يقضي بالعلم ويحتمل أن لا يقضي، بمنزلة ما لو صار معلوما له بمعاينة السبب قبل أن يقلد القضاء فيما ثبت مع الشبهات وفيما يندرئ بالشبهات من الحدود التي هي لله تعالى، وإن صار معلوما له بعدما قلد القضاء لم يقض به ما لم تشهد

الشهود، وعلم اليقين يثبت له بمعاينة السبب لا محالة، ألا ترى أن الشاهد لو قال
أخبر لم يجز للقاضي أن يقضي بقوله، وفيما يرجع إلى العلم لا فرق بين قوله أشهد وبين قوله أخبر، فعرفنا أن في باب القضاء تعتبر الشرائط سوى العلم بالشئ ليتمكن القاضي من القضاء به.
ثم المذهب عند علمائنا أن الثابت بالمتواتر من الاخبار علم ضروري كالثابت بالمعاينة.
وأصحاب الشافعي يقولون: الثابت به علم يقين ولكنه مكتسب لا ضروري بمنزلة ما يثبت من العلم بالنبوة عند معرفة المعجزات، فإنه علم يقين ولكنه مكتسب لا ضروري، وهذا لان فيما يكون ضروريا لا يتحقق الاختلاف فيما بين الناس، وإذا وجدنا الناس مختلفين في ثبوت علم اليقين بالخبر المتواتر عرفنا أنه مكتسب.
ولكنا نقول: هذا فاسد فإنه لو كان طريق هذا العلم الاكتساب لاختص به من يكون من أهل الاكتساب، ورأينا أنه لا يختص هذا العلم بمن يكون من أهل الاكتساب، فكل واحد منا في صغره كان يعلم أباه وأمه بالخبر كما يعلمه بعد البلوغ ولو كان طريقه الاكتساب لتمكن المرء من أن يترك هذا الاكتساب فلا يقع له العلم، وبالاتفاق العلم الذي يحصل بخبر التواتر لا يتمكن المرء من دفعه بكسب يباشره أو بالامتناع من اكتسابه، فعرفنا أنه ثابت ضرورة.
فأما المعجزة فهناك يحتاج إلى (أن) تميز المعجزة من المخرقة، وتمييز ما يكون في حد مقدور البشر مما يكون خارجا من ذلك، ولا طريق إلى هذا التمييز إلا بالاستدلال، فعرفنا أن العلم الثابت به طريقه طريق الاستدلال، وقد بينا أنه لا خلاف بين من لهم عقول كاملة في العلم الواقع بخبر المتواتر وإنما الاختلاف ناشئ من نقصان العقل لبعض الناس وترك التأمل وذلك دليل وسواس يعتري بعض الناس كما يكون في المعلوم بالحواس، وبالاتفاق لا يعتبر هذا الاختلاف في المعلوم بالحواس ويكون العلم الواقع به ضروريا، فكذلك في المعلوم بخبر التواتر.
ثم اختلف مشايخنا فيما هو متواتر الفرع آحاد الاصل من الاخبار وهو الذي تسميه الفقهاء في حيز التواتر والمشهور من الاخبار، فكان أبو بكر

الرازي رحمه الله يقول هذا أحد قسمي المتواتر على معنى أنه يثبت به علم اليقين ولكنه علم اكتساب كما قال أصحاب الشافعي في القسم الآخر، وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول لا يكون المتواتر إلا ما يوجب العلم ضروريا، فأما النوع الثاني فهو مشهور وليس بمتواتر وهو الصحيح عندنا.
وبيان هذا النوع في كل حديث نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد يتوهم اجتماعهم على الكذب ولكن تلقته العلماء بالقبول والعمل به، فباعتبار الاصل هو من الآحاد، وباعتبار الفرع هو متواتر، وذلك نحو خبر المسح على الخفين، وخبر تحريم المتعة بعد الاباحة، وخبر تحريم نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، وخبر حرمة التفاضل في الاشياء الستة وما أشبه ذلك.
أما أبو بكر الرازي كان يقول لما تواتر نقل هذا الخبر إلينا من قوم لا يتوهم اجتماعهم على الكذب فقد أوجب لنا ذلك علم اليقين وانقطع به توهم الاتفاق في الصدر الاول، لان الذين تلقوه بالقبول والعمل به لا يتوهم اتفاقهم على القبول إلا بجامع جمعهم على ذلك وليس ذلك إلا تعين جانب الصدق في الذين كانوا أهلا من رواته، ولكن إنما عرفنا هذا بالاستدلال فلهذا سمينا العلم الثابت به مكتسبا وإن كان مقطوعا به، بمنزلة العلم بمعرفة الصانع، ألا ترى أن النسخ يثبت بمثل هذه الاخبار، فإنه يثبت بها الزيادة على كتاب الله تعالى والزيادة على النص نسخ ولا يثبت نسخ ما يوجب علم اليقين إلا بمثل ما يوجب علم اليقين.
وجه قول عيسى أن ما يكون موجبا علم اليقين فإنه يكفر جاحده كما في المتواتر الذي يوجب العلم ضرورة، وبالاتفاق لا يكفر جاحد المشهور من الاخبار، فعرفنا أن الثابت به علم طمأنينة القلب لا علم اليقين وهذا لانه وإن تواتر نقله من الفريق الثاني والثالث فقد بقي فيه شبهة توهم الكذب عادة باعتبار الاصل، فإن رواته عدد يسير وعلم اليقين إنما يثبت إذا اتصل بمن هو معصوم عن الكذب، على وجه لا يبقى فيه شبهة الانفصال، وقد بقي هنا شبهة الانفصال باعتبار الاصل فيمنع
ثبوت علم اليقين به، يقرره أن العلم الواقع لنا بمثل هذا النقل إنما يكون قبل التأمل في شبهة الانفصال، فأما عند التأمل في هذه الشبهة يتمكن نقصان فيه، فعرفنا أنه علم طمأنينة، فأما العلم الواقع بما هو متواتر بأصله وفرعه فهو يزداد قوة بالتأمل فيه،

ثم قد بينا أن التفاوت يظهر عند المقابلة فإذا لم يكن وراء القسم الاول حد آخر عرفنا أن الثابت به علم ضرورة، ولما كان وراء القسم الثاني حد آخر عرفنا أن الثابت به علم طمأنينة.
ولكن مع هذا تجوز الزيادة على النص بهذا النوع من الاخبار، لان العلماء لما تلقته بالقبول والعمل به كان دليلا موجبا فإن الاجماع من العصر الثاني والثالث دليل موجب شرعا، فلهذا جوزنا به الزيادة على النص، ولكن مع هذا بقي فيه شبهة توهم الانفصال فلا يكفر جاحده، وما هذا إلا نظير ما تقدم بيانه، فإن العلم بكون المسيح عليه السلام مبعوثا إلى بني إسرائيل ثابت بالنقل المتواتر أصلا وفرعا على وجه لم يبق فيه توهم الشبهة لاحد، ثم بنقلهم المتواتر أنه قتل أو صلب لا يثبت العلم، لان ذلك آحاد الاصل متواتر الفرع كما قررنا.
فإن قيل: (فكان ينبغي) أن يثبت به طمأنينة القلب كما أثبتم هنا.
قلنا: إنما لم نثبت لانه اعترض ما هو أقوى منه فيما يرجع إلى العلم وهو إخبار علام الغيوب بأنهم ما قتلوه يقينا، والحجج التي تثبت بها طمأنينة القلب إذا اعترض عليها ما هو أقوى لم يبق علم طمأنينة القلب بها.
ثم ذكر عيسى رحمه الله أن هذا النوع من الاخبار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يضلل جاحده ولا يكفر وذلك نحو خبر الرجم، وقسم لا يضلل جاحده ولكن يخطأ ويخشى عليه المأثم وذلك نحو خبر المسح بالخف وخبر حرمة التفاضل، وقسم لا يخشى على جاحده المأثم ولكن يخطأ في ذلك وهو الاخبار التي اختلف فيها الفقهاء في باب الاحكام.
وهذا الذي قاله صحيح بناؤه على تلقي العلماء إياه بالقبول ثم العمل
بموجبه فإن خبر الرجم اتفق عليه العلماء من الصدر الاول والثاني، وإنما خالف فيه الخوارج وخلافهم لا يكون قدحا في الاجماع، ولهذا قال يضلل جاحده.
فأما خبر المسح ففيه شبهة الاختلاف في الصدر الاول، فإن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم كانا يقولان سلوا هؤلاء الذين يرون المسح هل مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سورة المائدة ؟ والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سورة المائدة، وقد

نقل رجوعهما عن ذلك أيضا وكذلك خبر الصرف فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يجوز التفاضل مستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم : لا ربا إلا في النسيئة وقد نقل رجوعه عن ذلك، فلشبهة الاختلاف في الصدر الاول قلنا بأنه لا يضلل جاحده ولكن يخشى عليه المأثم، ولان باعتبار رجوعهم يثبت الاجماع (وقد ثبت الاجماع) على قبوله من الصدر الثاني والثالث ولا يسع مخالفة الاجماع، فلهذا يخشى على جاحده المأثم.
وأما النوع الثالث فقد ظهر فيه الاختلاف في كل قرن فكل من ترجح عنده جانب الصدق فيه بدليل عمل به وكان له أن يخطئ صاحبه ولكن لا يخشى عليه المأثم في ذلك لانه صار إليه عن اجتهاد، والاثم في الخطأ موضوع عن المجتهد على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
وأما الغريب المستنكر فإنه يخشى المأثم على العامل به، وذلك نحو خبر القتل في القسامة وخبر القضاء بالشاهد واليمين، لانه مخالف لظاهر القرآن وقد ترك العلماء في القرن الاول والثاني العمل به فبه يقرب من الكذب، كما أن المشهور يقرب من الصدق بتلقيهم إياه بالقبول والعمل به، فكما يخشى المأثم هناك على ترك العمل به لقربه من الصدق فكذلك يخشى على من يعمل بالغريب المستنكر لقربه من الكذب، والثابت بمثله مجرد الظن ومن الظن ما يأثم المرء باتباعه، قال تعالى: (وظننتم ظن السوء) وقال تعالى: (إن بعض الظن إثم) وهو نظير من يصير إلى
التحري عند اشتباه القبلة فيعمل به مع وجود الدليل ويترك العمل بالدليل، ولا شك في تأثيم من يدع العمل بالدليل ويعمل بالظن، فهذا مثله، والله أعلم.
ذكر عيسى رحمه الله أنه ليس لما ينعقد به التواتر حد معلوم من حيث العدد، وهو الصحيح، لان خبر التواتر يثبت علم اليقين ولا يوجد حد من حيث العدد يثبت به علم اليقين وإذا انتقص منه بفرد لا يثبت علم اليقين.
ولكنا نعلم أن بالعدد اليسير لا يثبت ذلك لتوهم المواطأة بينهم وبالجمع العظيم يثبت ذلك لانعدام توهم

المواطأة، فإنما يبني على هذا أنه متى كان المخبرون بحيث يؤمن تواطؤهم عادة يكون خبرهم متواترا.
والحدود نوعان: منه ما يكون متميز الاطراف والوسط كالمقادير في الحدود الشرعية، ومنه ما يكون متميز الاطراف مشكل الوسط كالسير بالاميال والاكل بالارطال.
فهذا مما هو متميز الاطراف مشكل الوسط، والطريق فيه ما بينا.
فصل: في بيان أن إجماع هذه الامة موجب للعلم قال رضي الله عنه: اعلم أن إجماع هذه الامة موجب للعلم قطعا كرامة لهم على الدين لا لانقطاع توهم اجتماعهم على الضلال بمعنى معقول، فاليهود والنصارى والمجوس أكثر منا عددا وقد وجد منهم الاجماع على الضلالة، ولان الاتفاق قد يتحقق من الخلف على وجه المتابعة للآباء من غير حجة كما أخبر الله تعالى عن الكفرة بقوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة) وقال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) فعرفنا أنه إنما جعل اجتماع هذه الامة حجة شرعا كرامة لهم على الدين.
فهذا مذهب الفقهاء وأكثر المتكلمين.
وقال النظام وقوم من الامامية لا يكون الاجماع حجة موجبة للعلم بحال لانه ليس فيه إلا اجتماع الافراد وإذا كان قول كل فرد غير موجب للعلم لكونه غير معصوم عن الخطأ فكذلك أقاويلهم بعدما
اجتمعوا لان توهم الخطأ لا ينعدم بالاجتماع، ألا ترى أن كل واحد منهم لما كان إنسانا قبل الاجتماع فبعد الاجتماع هم ناس وكل واحد من القادرين حالة الانفراد لا يصير عاجزا بعد الاجتماع، وكل واحد من العميان عند الانفراد لا يصير بصيرا بالاجتماع، ولا تصير جملتهم أيضا بهذه الصفة بعد الاجتماع.
وهذا الكلام ظاهر التناقض والفساد فقد ثبت بالاجتماع ما لا يكون ثابتا عند الانفراد في المحسوسات والمشروعات، فإن الافراد لا يقدرون على حمل خشبة ثقيلة وإذا اجتمعوا قدروا على ذلك، واللقمة الواحدة من الطعام والقطرة من الماء لا تكون مشبعة ولا مروية ثم عند الاجتماع تصير مشبعة ومروية، وهذا لان بالاجتماع يحدث ما لم يكن عند الانفراد وهو الدليل الجامع لهم على

ما اتفقوا عليه، وقد قررنا هذا في الخبر المتواتر، ومن أنكر كون الاجماع حجة موجبة للعلم فقد أبطل أصل الدين فإن مدار أصول الدين ومرجع المسلمين إلى إجماعهم فالمنكر لذلك يسعى في هدم أصل الدين.
وسنقرر هذا في آخر الفصل.
ثم الدليل على أن الاجماع من هذه الامة حجة موجبة شرعا، وأنهم إذا اجتمعوا على شئ فالحق فيما اجتمعوا عليه قطعا، وإذا اختلفوا في شئ فالحق لا يعدوهم أصلا الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وكلمة خير بمعنى أفعل فيدل على النهاية في الخيرية وذلك دليل ظاهر على أن النهاية في الخيرية فيما يجتمعون عليه، ثم فسر ذلك بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وإنما جعلهم خير أمة بهذا، والمعروف المطلق ما هو حق عند الله تعالى، فأما ما يؤدي إليه اجتهاد المجتهدين فإنه غير معروف مطلقا، إذ المجتهد يخطئ ويصيب ولكنه معروف في حقه على معنى أنه يلزمه العمل به ما لم يتبين خطؤه، ففي هذا بيان أن المعروف المطلق ما يجتمعون عليه.
فإن قيل: هذا يقتضي كون كل واحد منهم آمرا بالمعروف كما ذكرنا في موجب
الجمع المضاف إلى جماعة وبالاجماع اجتهاد كل واحد منهم بانفراده لا يكون موجبا للعلم قطعا.
قلنا: لا بل المراد هنا أن جميع الامة أو أكثرهم بهذه الصفة، ونظيره قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك) .
(وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) وكان ذلك من بعضهم.
ويقال في بذلة الكلام: بنو هاشم حكماء، وأهل الكوفة فقهاء، وإنما يراد بعضهم، فيتبين بهذا التحقيق أن المراد بيان أن الاكثر من هذه الامة إذا اجتمعوا على شئ فهو المعروف مطلقا، وأنهم إذا اختلفوا في شئ فالمعروف المطلق لا يعدو أقوالهم، وقال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) الآية، فقد جعل الله اتباع غير سبيل المؤمنين بمنزلة مشاقة الرسول في استيجاب النار.
ثم قول الرسول موجب للعلم قطعا فكذلك ما اجتمع عليه المؤمنون، ولا يجوز أن يقال المراد اجتماع الخصلتين لان في ذكرهما دليلا على أن تأثير أحدهما كتأثير الآخر، بمنزلة قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله

إلها آخر) إلى قوله: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) وأيد هذا قوله تعالى: (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) ففي هذا تنصيص على أن من اتخذ وليجة من دون المؤمنين فهو بمنزلة من اتخذ وليجة من دون الرسول.
وقال تعالى: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) وفيه تنصيص على أن المرضي عند الله ما هم عليه حقيقة، ومعلوم أن الارتضاء مطلقا لا يكون بالخطأ وإن كان المخطئ معذورا وإنما يكون بما هو الصواب، فعرفنا أن الحق مطلقا فيما اجتمعوا عليه.
وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) والوسط العدل المرضي قال تعالى: (أوسطهم) أي أعدلهم وأرضاهم قولا، وقال القائل: هم وسط يرضى الانام بحكمهم أي عدل، ففي الوصف لهم بالعدالة تنصيص على أن الحق ما يجتمعون عليه،
ثم جعلهم شهداء على الناس والشاهد مطلقا من يكون قوله حجة، ففي هذا بيان أن إجماعهم حجة على الناس وأنه موجب للعلم قطعا، ولا معنى لقول من يقول الشهود في الحقوق عند القاضي وإن جعلت شهادتهم حجة فإنها لا تكون موجبة للعلم قطعا، وهذا لان شهادتهم حجة في حق القاضي باعتبار أنه مأمور بالقضاء بالظاهر فإن ما وراءه غيب عنه ولا طريق له إلى معرفته فيكون حجة بحسب ذلك، وأما هنا فقد جعل الله تعالى هذه الامة شهداء على الناس بما هو حق الله تعالى (على الناس وهو علام الغيوب لا تخفى عليه خافية فإن ما يكون حجة لحق الله تعالى) على الناس ما يكون موصوفا بأنه حق قطعا، كيف وقد جعل الله شهادتهم على الناس كشهادة الرسول عليهم، فقال تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيدا) وشهادة الرسول حجة موجبة للعلم قطعا لانه معصوم عن القول بالباطل، فتبين بهذه المقابلة أن شهادة الامة في حق الناس بهذه الصفة، ولا يجوز أن يقال هذا في حكم الآخرة لانه لا تفصيل في الآية، ولان ما في الآخرة يكون أداء الشهادة في مجلس القضاء والقاضي علام الغيوب عالم بحقائق الامور فما لم يكونوا عالمين بما هو الحق في الدنيا لا يصلحون للاداء بهذه الصفة في الآخرة مع أن الشهادة في الآخرة مذكورة

في الآيتين من كتاب الله تعالى في قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) وفي قوله تعالى: (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) الآية، فتبين أن المراد بما تلونا الشهادة بحقوق الله تعالى على الناس في الدنيا.
ولا يقال كما وصف الله هذه الامة بأنهم شهداء فقد وصف به أهل الكتاب، قال تعالى: (يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء) وقال تعالى: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ثم لم يدل ذلك على أن إجماعهم موجب للعلم وهذا لان الله تعالى إنما جعلهم شهداء
بما أخذ الميثاق به عليهم وهو بيان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابهم للناس، كما قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه) الآية، ولو بينوا كان بيانهم حجة، إلا أنهم لما تعنتوا واشتغلوا بالحسد وطلب الرياسة كفروا بذلك، وإنما سماهم أهل الكتاب باعتبار ما كانوا عليه من قبل ولذلك جعلهم شهداء على حفظ الكتاب، فما لم يبدلوا كان قولهم حجة، ولكنهم حرفوا وغيروا ذلك فلهذا لا يكون قولهم حجة، فأما هنا فقد جعل الله هذه الامة شهداء على الناس، فعرفنا أن قولهم حجة في إلزام حقوق الله على الناس إلى قيام الساعة.
ولا يقال فقد ثبت حق الله بما لا يوجب العلم قطعا نحو خبر الواحد والقياس وهذا لان خبر الواحد حجة باعتبار أنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله حجة موجبة للعلم قطعا، ولكن امتنع ثبوت العلم به لشبهة في النقل، واحتمل ذلك لضرورة فقدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقياس لا يكون حجة لاثبات الحكم ابتداء بل بتعدية الحكم الثابت بالنص إلى محل لا نص فيه، واحتمل ذلك لضرورة حاجتنا إلى ذلك، فأما هنا فقد جعل الله تعالى الامة شهداء على الناس مطلقا، وذلك لا يكون إلا إذا كان الحق مطلقا فيما يشهدون به.
فإن قيل: وصف الله تعالى إياهم بهذا لا يكون دليلا على أنه لا يتوهم اجتماعهم على ما هو ضلالة، كما في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) ففيه بيان أنه خلقهم للعبادة ثم لا يمنع ذلك توهم اجتماعهم على ترك العبادة.
قلنا: اللام

المذكور في قوله تعالى: (ليكونوا) يدل على أنه جعلهم بهذه الصفة كرامة لهم ليكون قولهم حجة على الناس في حق الله، كما يقول إنه جعل الناس أحرارا ليكونوا أهلا للملك فإنما يفهم منه أن الاهلية للملك ثابت لهم باعتبار الحرية، فهاهنا أيضا يفهم من الآية أن قولهم حجة على الناس باعتبار صفة الوساطة لهم، وهكذا
كان يقتضي ظاهر قوله تعالى: (إلا ليعبدون) غير أنا لو حملنا على هذا الظاهر خرجت العبادة من أن ينالها ثواب أو عقاب بتركها، لان ذلك يثبت باختيار يكون من العبد عند الاقدام عليه، فعرفنا أن المراد من قوله: (إلا ليعبدون) إلا وعليهم العبادة لي.
وبأن بترك الظاهر في موضع لقيام الدليل لا يمنع العمل بالظاهر فيما سواه، وتبين أن ما نحن فيه نظير شهادة الرسول علينا كما ذكره الله معطوفا على هذه الصفة لا نظير ما استشهدوا به.
وأما السنة فقد جاءت مستفيضة مشهورة في ذلك: فمنها حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ومنها حديث معاذ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله تعالى، ومناصحة ولاة الامر، ولزوم جماعة المسلمين ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار وقال عليه السلام: من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه وقال عليه السلام: إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة ولما سئل عن الخميرة التي يتعاطاها الناس قال: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح والآثار في هذا الباب كثيرة تبلغ حد التواتر، لان كل واحد منهم إذا روي حديثا في هذا الباب سمعه في جمع ولم ينكر عليه أحد من ذلك الجمع فذلك بمنزلة المتواتر، كالانسان إذا رأى القافلة بعد انصرافها من مكة وسمع من كل فريق واحدا يقول: قد حججنا، فإنه يثبت له علم اليقين بأنهم حجوا في تلك السنة.

وشئ من المعقول يشهد به، فإن الله تعالى جعل الرسول خاتم النبيين وحكم
ببقاء شريعته إلى يوم القيامة وأنه لا نبي بعده، وإلى ذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من ناوأهم فلا بد من أن تكون شريعته ظاهرة في الناس إلى قيام الساعة وقد انقطع الوحي بوفاته، فعرفنا ضرورة أن طريق بقاء شريعته عصمة الله أمته من أن يجتمعوا على الضلالة فإن في الاجتماع على الضلالة رفع الشريعة وذلك يضاد الموعود من البقاء، وإذا ثبت عصمة جميع الامة من الاجتماع على الضلالة ضاهى ما أجمعوا عليه المسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك موجب للعلم قطعا، فهذا مثله.
وهذا معنى ما قلنا إن عند الاجتماع يحدث ما لم يكن ثابتا بالافراد، وهو نظير القاضي إذا نفذ قضاء باجتهاد فإنه يلزم ذلك على وجه لا يحتمل النقض، وإن كان ذلك فوق الاجتهاد وكان ذلك لصيانة القضاء الذي هو من أسباب الدين فلان يثبت هنا ما ادعينا صيانة لاصل الدين كان أولى.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس وقال: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض الله ؟ قلنا: في صحة هذا الحديث نظر هو في الظاهر مخالف لكتاب الله (الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) ومن كان الله وليه فهو ظاهر أبدا، ومعنى قوله يخرجهم من الظلمات إلى النور: أي من ظلمات الكفر والباطل إلى نور الايمان والحق، فذلك دليل على أن الحق ما يتفقون عليه في كل وقت، وقال تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) الآية، ولو ثبت الحديث فالمراد بيان أن أهل الشر يغلبون في آخر الزمان مع بقاء الصالحين المتمسكين بالحق فيهم، والمراد بالحديث الآخر بيان الحال بين نفخة الفزع ونفخة البعث، فإن قيام الساعة عند نفخة البعث، وعند ذلك لم يبق في الارض من بني آدم أحد حيا.
ثم الكلام بعد هذا في سبب الاجماع، وركنه، وأهلية من ينعقد به الاجماع،
وشرطه، وحكمه.

فصل: السبب قال رضي الله عنه: اعلم بأن سبب الاجماع قد يكون توقيفا من الكتاب والسنة.
أما الكتاب فنحو الاجماع على حرمة الامهات والبنات، سببه قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) وأما من حيث السنة فنحو الاجماع على أن في اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية، والاجماع على أنه لا يجوز بيع الطعام المشتري قبل القبض، وما أشبه ذلك، فإن سببه السنة المروية في الباب.
ومن ذلك ما يكون مستنبطا بالاجتهاد على ما هو المنصوص عليه من الكتاب أو السنة، وذلك نحو إجماعهم على توظيف الخراج على أهل السواد، فإن عمر رضي الله عنه حين أراد ذلك خالفه بلال مع جماعة من أصحابه حتى تلا عليهم قوله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم) قال: أرى لمن بعدكم في هذا الفئ نصيبا فلو قسمتها بينكم لم يبق لمن بعدكم فيها نصيب.
فأجمعوا على قوله، وسبب إجماعهم هذا الاستنباط.
ولما اختلفوا في الخليفة بعد رسول الله عليه السلام قال عمر: إن رسول الله اختار أبا بكر لامر دينكم فيكون أرضني به لامر دنياكم.
فأجمعوا على خلافته، وسبب إجماعهم هذا الاستنباط.
ومنها ما يكون عن رأي نحو إجماعهم على أجل العنين، وإجماعهم على الحد على شارب الخمر على ما روي أن عمر رضي الله عنه لما شاورهم في ذلك قال علي: إنه إذا شرب هذي وإذا هذي افترى وحد المفترين في كتاب الله ثمانون جلدة.
وهكذا قاله ابن عوف.
وكان علي يقول: ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فأجد من ذلك في نفسي شيئا إلا حد الخمر فإنه ثبت بآرائنا.
فإن قيل كيف يستقيم هذا وإثبات الحد بالرأي لا يكون ؟ قلنا: لا نقول إثبات أصل الحد كان بالرأي بل بالسنة وهو ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالضرب بالجريد والنعال في شرب الخمر إلا أنهم بالتفحص عرفوا مقدار ما ضرب فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن الذين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أربعون نفرا وضرب كل واحد بنعليه، فنقلوا بالرأي من النعال إلى الجلدات استدلالا بحد القذف وأثبتوا المقدار بالنص، فأجمعوا أن حد الخمر ثمانون جلدة.

وكان ابن جرير رحمه الله يقول: الاجماع الموجب للعلم قطعا لا يصدر عن خبر الواحد ولا عن قياس، لان خبر الواحد والقياس لا يوجب العلم قطعا فما يصدر عنه كيف يكون موجبا لذلك ؟ ولان الناس يختلفون في القياس هل هو حجة أم لا ؟ فكيف يصدر الاجماع عن نفس الخلاف ؟ وهذا غلط بين، فقد بينا أن إجماع هذه الامة حجة شرعا باعتبار عينه لا باعتبار دليله، فمن يقول بأنه لا يكون إلا صادرا عن دليل موجب للعلم فإنه يجعل الاجماع لغوا وإنما يثبت العلم بذلك الدليل، فهو ومن ينكر كون الاجماع حجة أصلا سواء، وخبر الواحد والقياس وإن لم يكن موجبا للعلم بنفسه فإذا تأيد بالاجماع فذلك يضاهي ما لو تأيد بآية من كتاب الله أو بالعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقرير منه على ذلك فيصير موجبا للعلم من هذا الطريق قطعا، وقد كان في الصدر الاول اتفاق على استعمال القياس وكونه حجة على ما نبينه، وإنما أظهر الخلاف بعض أهل الكلام ممن لا نظر له في الفقه، وبعض المتأخرين ممن لا علم له بحقيقة الاحكام وأولئك لا يعتد بخلافهم ولا يؤنس بوفاقهم.
ثم الاجماع الثابت بهذه الاسباب يثبت انتقاله إلينا بالطريق الذي يثبت به انتقال السنة المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك (تارة) يكون بالتواتر، وتارة بالاشتهار، وتارة بالآحاد، وذلك نحو ما يروى عن عبيدة السلماني قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شئ كاجتماعهم على المحافظة على الاربع قبل الظهر، وعلى الاسفار بالفجر، وعلى تحريم نكاح الاخت في عدة الاخت.
وقال ابن مسعود
رضي الله عنه في تكبيرات الجنازة: كل ذلك قد كان، وقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكبرون عليها أربعا.
ومن الناس من أنكر ثبوت الاجماع بخبر الواحد لان الاجماع يوجب العلم قطعا وخبر الواحد لا يوجب ذلك، وهذا خطأ بين، فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم موجب للعلم أيضا ثم يجوز أن يثبت ذلك بالنقل

بطريق الآحاد على أن يكون موجبا للعمل دون العلم، فكذلك الاجماع يجوز أن يثبت بالنقل بطريق الآحاد على أن يكون موجبا العمل.
وسنقرر هذا في بيان الحكم إن شاء الله تعالى.
فصل: الركن ركن الاجماع نوعان: العزيمة، والرخصة.
فالعزيمة هو اتفاق الكل على الحكم بقول سمع منهم، أو مباشرة الفعل فيما يكون من بابه على وجه يكون ذلك موجودا من العام والخاص فيما يستوي الكل في الحاجة إلى معرفته لعموم البلوى فيه كتحريم الزنا والربا، وتحريم الامهات وأشباه ذلك، ويشترك فيه جميع علماء العصر، وفيما لا يحتاج العام إلى معرفته لعدم البلوى العام بهم فيه كحرمة المرأة على عمتها وخالتها، وفرائض الصدقات وما يجب في الزروع والثمار وما أشبه ذلك، وهذا لان ركن الشئ ما يقوم به أصله فإنما يقوم أصل الاجماع في النوعين بهذا.
وأما الرخصة وهو أن ينتشر القول من بعض علماء أهل العصر ويسكت الباقون عن إظهار الخلاف وعن الرد على القائلين بعد عرض الفتوى عليهم أو صيرورته معلوما لهم بالانتشار والظهور، فالاجماع يثبت به عندنا.
ومن العلماء من يقول بهذا الطريق لا يثبت الاجماع.
ويحكى عن الشافعي رحمه الله أنه كان يقول: إن ظهر القول من أكثر العلماء والساكتون نفر يسير منهم يثبت به الاجماع، وإن انتشر القول من واحد أو اثنين والساكتون أكثر علماء العصر لا يثبت به الاجماع.
وجه قولهم إن السكوت محتمل قد يكون للموافقة وقد يكون للمهابة والتقية مع إضمار الخلاف والمحتمل لا يكون حجة خصوصا فيما يوجب العلم قطعا، ألا ترى أن فيما هو مختلف فيه السكوت لا يكون دليلا على شئ لكونه محتملا.
ويستدلون على صحة هذه القاعدة بما روي أن عمر رضي الله عنه لما شاور الصحابة في مال فضل

عنده للمسلمين فأشاروا عليه بتأخير القسمة والامساك إلى وقت الحاجة وعلي رضي الله عنه في القوم ساكت فقال له: ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال: لم تجعل يقينك شكا وعلمك جهلا ؟ أرى أن تقسم ذلك بين المسلمين وروى فيه حديثا، فهو لم يجعل سكوته دليل الموافقة لهم حتى سأله، واستخار علي رضي الله عنه السكوت مع كون الحق عنده في خلافهم.
ولما شاور عمر الصحابة في إملاص المغيبة التي بعث بها ففزعت فقالوا: إنما أنت مؤدب وما أردت إلا الخير فلا شئ عليك وعلي رضي الله عنه في القوم ساكت فقال: ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال: إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطؤوا، وإن قاربوك فقد غشوك، أرى عليك الغرة.
فقال: أنت صدقتني.
فقد استخار السكوت مع إضمار الخلاف، ولم يجعل عمر سكوته دليل الموافقة حتى استنطقه.
ولما بين ابن عباس حجته في مسألة العول للصحابة قالوا له: هلا قلت هذا لعمر ؟ فقال: كان رجلا مهيبا فهبته، وفي رواية منعني درته من ذلك.
وكان عيسى بن أبان يقول: ترك النكير لا يكون دليل الموافقة بدليل حديث ذي اليدين فإنه حين قال: أقصرت الصلاة أم نسيتها يا رسول الله ؟ فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر وقال: أحق ما يقول ذو اليدين ؟ ولو كان

ترك النكير دليل الموافقة لاكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ولما استنطقهم في الصلاة من غير حاجة.
وكان الكرخي رحمه الله يقول: السكوت على النكير فيما يكون مجتهدا فيه لا يكون دليل الموافقة لانه ليس لاحد المجتهدين أن ينكر
على صاحبه باجتهاده، وليس عليه أن يبين له ما أدى إليه اجتهاده فالسكوت في مثله لا يكون دليل الموافقة.
وجه قولنا إنه لو شرط لانعقاد الاجماع التنصيص من كل واحد منهم على قوله وإظهار الموافقة مع الآخرين قولا أدى إلى أن لا ينعقد الاجماع أبدا، لانه لا يتصور اجتماع أهل العصر كلهم على قول يسمع ذلك منهم إلا نادرا، وفي العادة إنما يكون ذلك بانتشار الفتوى من البعض وسكوت الباقين، وفي اتفاقنا على كون الاجماع حجة وطريقا لمعرفة الحكم دليل على بطلان قول هذا القائل، وهذا لان المتعذر كالممتنع، ثم تعليق الشئ بشرط هو ممتنع يكون نفيا لا صلة فكذا تعليقه بشرط هو متعذر، وهذا لان الله تعالى رفع عنا الحرج كما لم يكلفنا ما ليس في وسعنا، وليس في وسع علماء العصر السماع من الذين كانوا قبلهم يقرون فكان ذلك ساقطا عنهم فكذلك يتعذر السماع من جميع علماء العصر، والوقوف على قول كل واحد منهم في حكم حادثة حقيقة لما فيه من الحرج البين، فينبغي أن يجعل اشتهار الفتوى من البعض والسكوت من الباقين كافيا في انعقاد الاجماع، لان السامعين من العلماء المجتهدين لا يحل لهم السكوت عن إظهار الخلاف إذا كان الحكم عندهم خلاف ما ظهر وسكوتهم محمول على الوجه الذي يحل، فبهذا الطريق ينقطع معنى التساوي في الاحتمال ويترجح جانب إظهار الموافقة، ومثل هذا السكوت لا يرجح أحد الجانبين فيما يكون مختلفا فيه فيبقى محتملا على ظاهره، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: إنما يثبت الاجماع إذا اشتهر القول من أكثرهم لان هذا القدر مما يتأتى وإقامة السكوت مقام إظهار الموافقة لدفع الحرج فيتقدر بقدره، ولا حرج في اعتبار ظهور القول من الاكثر، ولان الاقل يجعل تبعا للاكثر، فإذا كان الاكثر سكوتا يجعل ذلك كسكوت الكل، وإذا ظهر القول من الاكثر يجعل كظهوره من الكل.
ولكنا نقول: المعنى الذي لاجله

جعل سكوت الاقل بمنزلة إظهار الموافقة أنه لا يحل لهم ترك إظهار الخلاف إذا كان الحكم عندهم خلاف ذلك، وهذا المعنى فيما يشتهر من واحد أو اثنين أظهر، لان تمكن الاكثر من إظهار الخلاف يكون أبين فلان يجعل سكوتهم عن إظهار الخلاف بعد ما اشتهر القول دليل الموافقة كان أولى.
وأما حديث القسمة فإنما سكت علي رضي الله عنه لان ما أشاروا به على عمر كان حسنا، فإن للامام أن يؤخر القسمة فيما يفضل عنده من المال ليكون معدا لنائبة تنوب المسلمين، ولكن كان القسمة أحسن عند علي لانه أقرب إلى أداء الامانة والخروج عما يحمل من العهدة، وفي مثل هذا الموضع لا يجب إظهار الخلاف ولكن إذا سئل يجب بيان الاحسن، فلهذا سكت علي في الابتداء وحين سأله بين الوجه الاحسن عنده.
وكذا حديث الاملاص فإن ما أشاروا به من الحكم كان صوابا، لانه لم يوجد من عمر رضي الله عنه مباشرة صنع بها ولا تسبب هو جناية، ولكن إلزام الغرة مع هذا يكون أبعد من القيل والقال، ويكون أقرب إلى بسط العدل وحسن الرعاية فلهذا سكت في الابتداء ولما استنطقه بين أولى الوجهين عنده، يوضحه أن مجرد السكوت عن إظهار الخلاف لا يكون دليل الموافقة عندنا ما بقي مجلس المشاورة ولم يفصل الحكم بعد، فإنما يكون هذا حجة أن لو فصل عمر الحكم بقولهم أو ظهر منه توقف في الجواب ويكون علي رضي الله عنه ساكتا بعد ذلك ولم ينقل هذا، فإنما يحمل سكوته في الابتداء على أنه لتجربة أفهامهم، أو لتعظيم الفتوى الذي يريد إظهاره باجتهاده حتى لا يزدري به أحد من السامعين، أو ليروي النظر في الحادثة ويميزه من الاشباه حتى يتبين له ما هو الصواب فيظهره، والظاهر أنه لو لم يستنطقه عمر رضي الله عنه لكان هو بين ما يستقر عليه رأيه من الجواب قبل إبرام الحكم وانقضاء مجلس المشاورة.
فأما حديث ابن عباس فقد قيل إنه لا يكاد يصح لان عمر رضي الله عنه كان يقدم ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يدعوه في مجلس الشورى مع الكبار من

الصحابة لما عرف من فطنته وحسن ذهنه وبصيرته، وقد أشار عليه بأشياء فقبل ذلك واستحسنه، وكان يقول له: غص يا غواص، شنشنة أعرفها من أخزم يعني أنه شبه العباس في رأيه ودهائه، فكيف يستقيم مع هذا أن يقال إنه امتنع من بيان قوله وحجته لعمر مهابة له ؟ وإن صح فهذه المهابة إنما كان باعتبار ما عرف من فضل رأي عمر وفقهه فمنعه ذلك من الاستقصاء في المحاجة معه كما يكون من حال الشبان مع ذوي الاسنان من المجتهدين في كل عصر، فإنهم يهابون الكبار فلا يستقصون في المحاجة معهم حسب ما يفعلون مع الاقران، ومتى كان (الناس) في تقية من عمر في إظهار الحق مع قوله عليه الصلاة والسلام: أينما دار الحق فعمر معه وكان ألين وأسرع قبولا للحق من غيره حتى كان يشاورهم ويقول لهم: لا خير فيكم إذا لم تقولوا لنا، ولا خير فينا إذا لم نسمع منكم، رحم الله امرأ أهدى إلى أخيه عيوبه.
فمع طلب البيان منه بهذه الصفة لا يتوهم أن يهابه أحد فلا يظهر عنده حكم الشرع مهابة له.
وحديث ذي اليدين رضي الله عنه قلنا مجرد السكوت عن النكير لا يكون دليل الموافقة عندنا، ولكن مع ترك إظهار ما هو الحق عنده بعد مضي مدة المهلة، ولم توجد هذه الصفة في حديث ذي اليدين، فإنه كما أظهر مقالته سأل رسول الله أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وكان الكلام في الصلاة يومئذ مباحا فما كان هناك ما يمنعهم من الكلام، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعرف ما عندهم من خلاف له أو وفاق، وذلك مستقيم قبل أن يحصل المقصود بالسكوت وإن كان يحصل ذلك بسكوتهم عن إظهار الخلاف أن لو قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتمام الصلاة ولم يستنطقهم.

وكذلك ما قاله الكرخي رحمه الله فهو خارج على هذا الحرف، لانا لا نجعل مجرد السكوت عن النكير دليل الموافقة بل ترك إظهار ما عنده مما هو مخالف لما انتشر، وهذا واجب على كل مجتهد من علماء العصر، لا يباح له السكوت عنه بعد ما انتشر قول بخلاف قوله وبلغه ذلك، فإنما يحمل السكوت على الوجه الذي يحل له شرعا، ولهذا اعتبرنا في ثبوت الاجماع بهذا الطريق أن يسكت بعد عرض الفتوى عليه، لانه ما لم يبلغه قول هو مخالف لما عنده وما لم يسأل عنه لا يلزمه البيان، وإنما يكون ذلك بعد عرض الفتوى عليه وبعد مضي مدة المهلة أيضا لانه يحتاج إلى التروي وإلى رد الحادثة إلى الاشباه ليميز الاشبه بالحادثة من بين الاشباه برأيه، ولا يتأتى ذلك إلا بمدة، فإذا مضت المدة ولم يظهر خلاف ما بلغه كان ذلك دليلا على الوفاق باعتبار العادة.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا تنتهي هذه المدة إلا بموته لان الانسان قد يكون متفكرا في شئ مدة عمره فلا يستقر فيه رأيه على شئ، وقد يرى رأيا في شئ ثم يظهر له رأي آخر فيرجع عن الاول، فعلى هذا مدة التروي لا تنتهي إلا بموته.
قلنا: لا كذلك بل إذا مضى من المدة ما يتمكن فيه من النظر والاجتهاد فعليه إظهار ما تبين له باجتهاده من توقف في الجواب أو خلاف أو وفاق لا يحل له السكوت عن الاظهار إلا عند الموافقة، وبعدما ثبت الاجماع بهذا الطريق فليس له أن يرجع عنه برأي يعرض له، لان الاجماع موجب للعلم قطعا بمنزلة النص فكما لا يجوز ترك العمل بالنص باعتبار رأي يعترض له لا يجوز مخالفة الاجماع برأي يعترض له بعدما انعقد الاجماع بدليله.
وكذلك إن لم يعرض عليه الفتوى ولكن اشتهر الفتوى في الناس على وجه يعلم أنه بلغ ذلك الساكتين من علماء العصر فإن ذلك يقوم مقام العرض عليهم لانه يجب عليهم إظهار الخلاف الذي عندهم إن كانوا يعتقدون خلاف ذلك
على وجه ينتشر هذا الخلاف منهم كما انتشر القول الاول، ليكون الثاني معارضا للاول، ولو أظهروا ذلك لانتشر، فسكوتهم عن الاظهار الثابت بدليل عدم الانتشار

دليل على الموافقة.
بهذا الطريق أثبتنا كون القرآن معجزا، لان العرب ما عارضوا بمثله ولو فعلوا لانتشر ذلك، وعجزهم عن المعارضة بعد التحدي دليل على أنه معجز.
فإن قيل: فقد اشتهر فتوى الناس بجواز المزارعة بعد أبي حنيفة قولا وفعلا مع سكوت أصحاب أبي حنيفة عن النكير ولم يكن ذلك دليل الموافقة.
قلنا: كما انتشر ذلك فقد انتشر أيضا الخلاف من أصحاب أبي حنيفة لمن أجاز المزارعة محاجة ومناظرة، وإنما تركوا التشنيع على من يباشر ذلك لانه ظهر عند الناس نوع رجحان لقول من أجازها فأخذوا بذلك، وذلك يمنع القائلين بفسادها من أن يظهروا منع الناس من ذلك لعلمهم أن الناس لا يمتنعون باعتبار ما ظهر لهم، بمنزلة القاضي إذا قضى في فصل مجتهد فيه فإنه لا يجب على المجتهد الذي يعتقد خلافه أن يظهر للناس خطأ القاضي، لعلمه أن الناس لا يأخذون بقوله، ولاعتقاده أن قضاء القاضي بما قضى به نافذ وأن ذلك الجانب ترجح بالقضاء، فترك النكير على من يباشر المزارعة بهذه المثابة.
يحقق ما قلنا إن من عادة المتشاورين من العوام في شئ يهمهم من أمر الدنيا ويتعلق به بعض مصالحهم أن البعض إذا أظهر فيه رأيا وعند البعض خلاف ذلك فإنهم لا يمتنعون من إظهار ما عندهم إلا نادرا ولا يبنى الحكم على النادر، فإذا كان هذا في أمر الدنيا مع أن السكوت عن الاظهار يحل فيه شرعا فلان يكون أمر الدين وما يرجع إلى إظهار حكم الله تعالى بهذه الصفة حتى يكون السكوت فيه دليل الوفاق كان أولى، فكذلك العادة من حال من يسمع ما هو مستبعد عنه أن لا يمتنع من إظهار النكير عنده، بل يكون ذلك جل همه، ألا ترى أنه لو أخبر مخبر أن الخطيب يوم الجمعة لما صعد المنبر رماه إنسان بسهم فقتله، وسمع ذلك منه قوم شهدوا الجمعة ولم
يعرفوا من ذلك شيئا، فإنه لا يكون في همتهم شئ أسبق من إظهار الانكار عليه، وقد بينا أن ما عليه العادة الظاهرة لا يجوز تركه في الاحكام، فتبين باعتبار هذه العادة أن السكوت دليل الموافقة، ونحن نعلم أنه قد كان عند الصحابة أن إجماعهم

حجة موجبة للعلم قطعا، فإذا علم الساكت هذا يفترض عليه بيان ما عنده ليتحقق الخلاف ويخرج ما اشتهر من أن يكون حكم الحادثة قطعا، والسكوت إن لم يدل على الموافقة فلا إشكال أنه لا يدل على الخلاف.
ومن هذا الجنس ما إذا اختلفوا في حادثة على أقاويل محصورة، فإن المذهب عندنا أن هذا يكون دليل الاجماع منهم على أنه لا قول في هذه الحادثة سوى هذه الاقاويل حتى ليس لاحد أن يحدث فيه قولا آخر برأيه.
وعند بعضهم هذا من باب السكوت الذي هو محتمل أيضا فكما لا يدل على نفي الخلاف لا يدل على نفي قول آخر في الحادثة فإن ذلك نوع تعيين ولا يثبت بالمحتمل.
ولكنا نقول: قد بينا أنهم إذا اختلفوا على أقاويل فنحن نعلم أن الحق لا يعدو أقاويلهم، وهذا بمنزلة التنصيص منهم على أن ما هو الحق حقيقة في هذه الاقاويل، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
وكذلك هذا الحكم في اختلاف بين أهل كل عصر إلا على قول بعض مشايخنا، فإنهم يقولون هذا في أقاويل الصحابة خاصة لما لهم من الفضل والسابقة، ولكن المعنى الذي أشرنا إليه يوجب المساواة، وعلى هذا قالوا فيما ظهر من بعض الخلفاء عن الصحابة أنه قال في خطبته على المنبر، ولم يظهر من أحد منهم خلاف لذلك، فإن ذلك إجماع منهم بهذا الطريق.
وقد قال بعض من لا يعبأ بقوله: الاجماع الموجب للعلم قطعا لا يكون إلا في مثل ما اتفق عليه الناس من موضع الكعبة وموضع الصفا والمروة وما أشبه ذلك، وهذا ضعيف جدا، فإنه يقال لهذا القائل: بأي طريق عرفت إجماع المسلمين على هذا ؟ بطريق سماعك نصا من كل واحد من آحادهم ؟ فإن قال نعم ظهر
للناس كذبه، وإن قال لا ولكن بتنصيص البعض وسكوت الباقين عن إظهار الخلاف، فنقول كما ثبت بهذا الطريق الاجماع منهم على هذه الاشياء التي لا يشك فيها أحد فكذلك ثبت الاجماع منهم بهذا الطريق في الاحكام الشرعية.
فصل: الاهلية زعم بعض الناس أن الاجماع الموجب للعلم لا يكون إلا باتفاق فرق الامة أهل الحق وأهل الضلالة جميعا، لان الحجة إجماع الامة ومطلق اسم الامة يتناول الكل.

فأما المذهب عندنا أن الحجة اتفاق كل عالم مجتهد ممن هو غير منسوب إلى هوى ولا معلن بفسق في كل عصر، لان حكم الاجماع إنما يثبت باعتبار وصف لا يثبت إلا بهذه المعاني وذلك صفة الوساطة كما قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) وهو عبارة عن الخيار العدول المرضيين، وصفة الشهادة بقوله: (لتكونوا شهداء على الناس) فلا بد من اعتبار الاهلية لاداء الشهادة، وصفة الامر بالمعروف، وذلك يشير إلى فرضية الاتباع فيما يأمرون به وينهون عنه وإنما يفترض اتباع العدل المرضي فيما يأمر به، وثبوته بطريق الكرامة على الدين والمستحق للكرامات مطلقا من كان بهذه الصفة.
فأما أهل الاهواء فمن يكفر في هواه فاسم الامة لا يتناوله مطلقا ولا هو مستحق للكرامة الثابتة للمؤمنين، ومن يضلل في هواه إذا كان يدعو الناس إلى ما يعتقده فهو يتعصب لذلك على وجه يخرج به إلى صفة السفه والمجون فيكون متهما في أمر الدين لا معتبر بقوله في إجماع الامة، ولهذا لم يعتبر خلاف الروافض في إمامة أبي بكر، ولا خلاف الخوارج في خلافة علي.
فإن كان لا يدعو الناس إلى هواه ولكنه مشهور به، فقد قال بعض مشايخنا فيما يضلل هو فيه لا معتبر بقوله، لانه إنما يضلل لمخالفته نصا موجبا للعلم فكل قول كان بخلاف النص فهو باطل، وفيما سوى ذلك يعتبر قوله، ولا يثبت الاجماع مع مخالفته لانه من أهل الشهادة، ولهذا كان
مقبول الشهادة في الاحكام.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه إن كان متهما بالهوى ولكنه غير مظهر له فالجواب هكذا، فأما إذا كان مظهرا لهواه فإنه لا يعتد بقوله في الاجماع، لان المعنى الذي لاجله قبلت شهادته لا يوجد هنا فإنها تقبل لانتفاء تهمة الكذب، على ما قال محمد رحمه الله: قوم عظموا الذنوب حتى جعلوها كفرا لا يتهمون بالكذب في الشهادة.
وهذا يدل على أنهم لا يؤتمنون في أحكام الشرع ولا يعتبر قولهم فيه، فإن الخوارج هم الذين يقولون إن الذنب نفسه كفر وقد أكفروا أكثر الصحابة الذين عليهم مدار أحكام الشرع، وإنما عرفناها بنقلهم فكيف يعتمد قول هؤلاء في أحكام الشرع، وأدنى ما فيه أنهم لا يتعلمون ذلك، إذا كانوا يعتقدون كفر الناقلين.
ولا معتبر بقول الجهال في الاحكام، فأما من كان محقا في اعتقاده

ولكنه فاسق في تعاطيه فالعراقيون يقولون لا يعتد بقوله في الاجماع أيضا، لانه ليس بأهل لاداء الشهادة، ولان التوقف في قوله واجب بالنص وذلك ينفي وجوب الاتباع.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه إذا كان معلنا لفسقه فكذلك الجواب، لانه لما لم يتحرز من إعلان ما يعتقده باطلا فكذلك لا يتحرز من إعلان قول يعتقد بطلانه باطنا، فأما إذا لم يكن مظهرا للفسق فإنه يعتد بقوله في الاجماع وإن علم فسقه حتى ترد شهادته، لانه لا يخرج بهذا من الاهلية للشهادة أصلا ولا من الاهلية للكرامة بسبب الدين، ألا ترى أنا نقطع القول لمن يموت مؤمنا مصرا على فسقه أنه لا يخلد في النار، فإذا كان هو أهلا للكرامة بالجنة في الآخرة فكذلك في الدنيا باعتبار قوله في الاجماع.
فأما كونه عالما مجتهدا فهو معتبر في الحكم الذي يختص بمعرفته والحاجة إليه العلماء، وعلى هذا قلنا: من يكون متكلما غير عالم بأصول الفقه والادلة الشرعية في الاحكام لا يعتد بقوله في الاجماع.
هكذا نقل عن الكرخي.
وكذلك من يكون محدثا لا بصر له في وجوه الرأي وطرق المقاييس
الشرعية لا يعتد بقوله في الاجماع، لان هذا فيما يبني عليه حكم الشرع بمنزلة العامي ولا يعتد بقول العامي في إجماع علماء العصر، لانه لا هداية له في الحكم المحتاج إلى معرفته، فهو بمنزلة المجنون حتى لا يعتد بمخالفته.
ثم قال بعض العلماء الذين هم بالصفة التي قلنا من أهل العصر: ما لم يبلغوا حدا لا يتوهم عليهم التواطؤ على الباطل لا يثبت الاجماع الموجب للعلم باتفاقهم، ألا ترى أن حكم التواتر لا يثبت بخبرهم ما لم يبلغوا هذا الحد، فكذلك حكم الاجماع بقولهم، لان بكل واحد منهما يثبت علم اليقين.
والاصح عندنا أنهم إذا كانوا جماعة واتفقوا قولا أو فتوى من البعض مع سكوت الباقين فإنه ينعقد الاجماع به وإن لم يبلغوا حد التواتر، بخلاف الخبر فإن ذلك محتمل للصدق والكذب فلا بد من مراعاة معنى ينتفي به تهمة الكذب بكثرتهم، ألا ترى أن صفة العدالة لا تعتبر هناك، وهذا إظهار حكم ابتداء ليس فيه من معنى احتمال تهمة الكذب شئ إنما فيه توهم الخطأ، فإذا كانوا جماعة فالامن عن ذلك ثابت شرعا كرامة لهم بسبب الدين وصفة العدالة على ما قررنا.

فإن قيل لا يؤمن على هؤلاء إعلان الفسق أو الضلالة أو الردة مثلا بعدما انعقد الاجماع منهم، فكيف يؤمن الخطأ باعتبار اجتماعهم ؟ وعن هذا الكلام جوابان لمشايخنا رحمهم الله: أحدهما أنا لا نجوز هذا على جماعتهم بعدما كان إجماعهم موجبا للعلم في حكم الشرع فإن الله تعالى يعصمهم من ذلك، لان إجماعهم صار بمنزلة النص عن صاحب الشريعة، فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن هذا نقطع القول به، لان قوله موجب للعلم، فكذلك جماعة العلماء إذا ثبت لهم هذه الدرجة، وهو أن قولهم موجب للعلم كرامة بسبب الدين.
والثاني أنه وإن تحقق هذا منهم فإن الله تعالى يقيم آخرين مقامهم ليكون الحكم ثابتا بإجماعهم، لان الدين محفوظ إلى
قيام الساعة على ما قال رسول الله عليه السلام: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله فما يعترض على الاولين لا يؤثر في حكم الاجماع لقيام أمثالهم مقامهم، بمنزلة موتهم.
وقال بعض العلماء: الاجماع الموجب للعلم لا يكون إلا بإجماع الصحابة الذين كانوا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لانهم صحبوه وسمعوا منه علم التنزيل والتأويل، وأثنى عليهم في آثار معروفة فهم المختصون بهذه الكرامة.
وهذا ضعيف عندنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما أثنى عليهم فقد أثنى على من بعدهم فقال: خير الناس قرني الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ففي هذا بيان أن أهل كل عصر يقومون مقامهم في صفة الخيرية إذا كانوا على مثل اعتقادهم، والمعاني التي بيناها لاثبات هذا الحكم بها من صفة الوساطة والشهادة والامر بالمعروف لا يختص بزمان ولا بقوم، وثبوت هذا الحكم بالاجماع لتحقيق بقاء حكم الشرع إلى قيام الساعة وذلك لا يتم ما لم يجعل إجماع أهل كل عصر حجة كإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
فإن قيل: ف أبو حنيفة رحمه الله قال بخلاف هذا لانه قال: ما جاءنا عن الصحابة اتبعناهم، وما جاءنا عن التابعين زاحمناهم.
قلنا: إنما قال ذلك لانه كان من جملة التابعين

فإنه رأى أربعة من الصحابة: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو الطفيل، و عبد الله بن حارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنهم، وقد كان ممن يجتهد في عهد التابعين ويعلم الناس حتى ناظر الشعبي في مسألة النذر بالمعصية فما كان ينعقد إجماعهم بدون قوله فلهذا قال ذلك لا لانه كان لا يرى إجماع من بعد الصحابة حجة.
ومن الناس من يقول: الاجماع الذي هو حجة إجماع أهل المدينة خاصة لانهم أهل حضرة الرسول وقد بين رسول الله عليه السلام خصوصية تلك البقعة في آثار فقال:
إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها وقال عليه السلام: إن الدجال لا يدخلها وقال عليه السلام: من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء وقال عليه السلام: إن المدينة تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد ولكن ما قررنا من المعاني لا يختص بمكان دون مكان.
ثم إن كان مراد القائل أهلها الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا ينازع فيه أحد، وإن كان المراد أهلها في كل عصر فهو قول باطل، لانه ليس في بقعة من البقاع اليوم في دار الاسلام قوم هم أقل علما وأظهر جهلا وأبعد عن أسباب الخير من الذين هم بالمدينة فكيف يستجاز القول بأنه لا إجماع في أحكام الدين إلا إجماعهم ؟ والمراد بالآثار حال المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانت الهجرة فريضة كان المسلمون يجتمعون فيها وأهل الخبث والردة لا يقرون فيها، وقد تكون البقعة محروسة وإن كان من يسكنها على غير الحق، ألا ترى أن مكة كانت محروسة عام الفيل مع أن أهلها كانوا مشركين يومئذ.
ومن الناس من يقول لا إجماع إلا لعترة الرسول لانهم المخصوصون بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسباب العز، قال عليه السلام: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي إن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدي وقال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) .

ولكنا نقول: أنواع الكرامة لاهل البيت متفق عليه، ولكن حكم الاجماع الموجب للعلم باعتبار نصوص ومعاني لا يختص ذلك بأهل البيت، والنسب ليس من ذلك في شئ فالتخصيص به يكون زيادة، كيف وقد قال تعالى: (واتبع سبيل من أناب إلي) فكل من كان منيبا إلى ربه فهو داخل في هذه الآية، وهو مراد بقوله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) كما ذكرنا من الاستدلال به.
فصل: الشرط زعم بعض الناس أن انقراض العصر شرط لثبوت حكم الاجماع.
وهو قول الشافعي رحمه الله أيضا، لان قبل انقراض العصر إذا بدا لبعضهم رأي خلاف رأي الجماعة فإن ما ظهر له في الانتهاء بمنزلة الموجود في الابتداء ولو كان موجودا لم ينعقد إجماعهم بدون قوله، فكذلك إذا اعترض له ذلك، ولا يقع الامن عن هذا إلا بانقراض العصر على ذلك الاجماع، ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسوي بين الناس في العطايا وكانوا لا يخالفونه في ذلك، ثم فضل علي رضي الله عنه في العطايا في خلافته ولا يظن به مخالفة الجماعة، فعرفنا أن بدون انقراض العصر لا يثبت حكم الاجماع، وقال علي رضي الله عنه: اتفق رأيي ورأي عمر على أن أمهات الاولاد لا يبعن، وأنهن أحرار عن دبر من الموالي، ثم رأيت أن أرقهن.
فلو ثبت الاجماع قبل انقراض العصر لما استجاز خلاف الاجماع برأيه.
وأما عندنا انقراض العصر ليس بشرط، لان الاجماع لما انعقد باعتبار اجتماع معاني الذي قلنا كان الثابت به كالثابت بالنص، وكما أن الثابت بالنص لا يختص بوقت دون وقت فكذلك الثابت بالاجماع، ولو شرطنا انقراض العصر لم يثبت الاجماع أبدا لان بعض التابعين في عصر الصحابة كان يزاحمهم في الفتوى فيتوهم أن يبدو له رأي بعد أن لم يبق أحد من الصحابة، وهكذا في القرن الثاني والثالث فيؤدي إلى سد باب حكم الاجماع (أصلا) وهذا باطل.
ولكنا نقول: بعد ما ثبت الاجماع موجبا للعلم باتفاقهم فليس لاحد أن يظهر خلاف ذلك برأيه لا من

أهل ذلك العصر ولا من غيرهم، كما لا يكون له أن يخالف النص برأيه وهذا بخلاف رأيه قبل انعقاد الاجماع، لان الدليل الموجب للعلم لم يتقرر هناك فكان قوله معتبرا في منع انعقاد الاجماع.
وأما حديث التسوية في العطاء فقد كان مختلفا في الابتداء
على ما روي عن عمر رضي الله عنه قال لابي بكر: لا تجعل من لا سابقة له في الاسلام كمن له سابقة.
فقال أبو بكر: هم إنما عملوا لله فأجرهم على الله.
فتبين أن هذا الفصل كان مختلفا في الابتداء فلهذا مال علي رضي الله عنه إلى التفضيل.
وحديث أمهات الاولاد فالمروي أن عليا رضي الله عنه قال: ثم رأيت أن أرقهن.
يعني أن لا أعتقهن بموت المولى حتى يكون الوارث أو الوصي هو المعتق لها كما دل عليه ظاهر بعض الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس المراد جواز بيعهن إذ ليس من ضرورة الرق جواز البيع لا محالة.
وكان الكرخي رحمه الله يقول: شرط الاجماع أن يجتمع علماء العصر كلهم على حكم واحد، فأما إذا اجتمع أكثرهم على شئ وخالفهم واحد أو اثنان لم يثبت حكم الاجماع.
وهذا قول الشافعي رحمه الله أيضا، لان النبي عليه السلام قال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولانه لا معتبر بالقلة والكثرة في المعنى الذي يبتنى عليه حكم الاجماع، وبالاتفاق لو كان فريق منهم على قول وفريق مثلهم على قول آخر فإنه لا يثبت حكم الاجماع، فكذلك إذا كان أكثرهم على قول ونفر يسير منهم على خلاف ذلك لا يثبت حكم الاجماع.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي ما أشار إليه أبو بكر الرازي رحمه الله أن الواحد إذا خالف الجماعة فإن سوغوا له ذلك الاجتهاد لا يثبت حكم الاجماع بدون قوله، بمنزلة خلاف ابن عباس للصحابة في زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للام ثلث جميع المال، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد وأنكروا (عليه) قوله فإنه يثبت حكم الاجماع بدون قوله، بمنزلة قول ابن عباس في حل التفاضل في أموال الربا، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يسوغوا له هذا الاجتهاد حتى روي أنه رجع إلى قولهم فكان الاجماع ثابتا بدون قوله، ولهذا قال محمد رحمه الله في الاملاء: لو قضى القاضي

بجواز بيع الدرهم بالدرهمين لم ينفذ قضاؤه لانه مخالف للاجماع.
والدليل على صحة
هذا القول قوله عليه السلام: يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار.
وقال عليه السلام: عليكم بالسواد الاعظم يعني ما عليه عامة المؤمنين، ففي هذا إشارة إلى أن قول الواحد لا يعارض قول الجماعة، ولانا لو شرطنا هذا أدى إلى أن لا ينعقد الاجماع أبدا لانه لا بد أن يكون في علماء العصر واحد أو اثنان ممن لم يسمع ذلك الفتوى أصلا وممن يرى خلاف ذلك.
وإنما كان الاجماع حجة باعتبار ظهور وجه الصواب فيه بالاجتماع عليه، وإنما يظهر هذا في قول الجماعة لا في قول الواحد، ألا ترى أن قول الواحد لا يكون موجبا للعلم وإن لم يكن بمقابلته جماعة يخالفونه وقول الجماعة موجب للعلم إذا لم يكن هناك واحد يخالفهم، فكذلك مع وجود هذا الواحد، لان قوله لا يعارض قولهم، بخلاف ما إذا كان على كل قول جماعة فهناك المعارضة تتحقق، والمراد من قوله عليه السلام: بأيهم اقتديتم اهتديتم إذا لم يكن هناك دليل موجبا للعلم، بخلاف قول من يهتدي به، ألا ترى أنه إذا كان هناك نص بخلاف قول الواحد لم يجز اتباعه ولم يكن هذا الحديث متناولا له.
وحكي عن أبي حازم القاضي رحمه الله أن الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا على شئ فذلك إجماع موجب للعلم ولا يعتد بخلاف من خالفهم في ذلك لقوله عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ولهذا لم يعتبر خلاف زيد للخلفاء في توريث ذوي الارحام، وأمر المعتصم برد الاموال التي اجتمعت في بيت المال مما أخذت من تركات فيها ذوو الارحام فأنكر ذلك عليه أبو سعيد البردعي رحمه الله وقال: هذا شئ أمضى على قول زيد، فقال: لا أعتد خلاف زيد في مقابلة قول الخلفاء الراشدين، وقد قضيت بذلك فليس لاحد أن يبطله بعدي.

فصل: الحكم ذكر هشام عن محمد رحمهما الله: الفقه أربعة، ما في القرآن وما أشبهه،
وما جاءت به السنة وما أشبهها، وما جاء عن الصحابة وما أشبهه، وما رآه المسلمون حسنا وما أشبهه.
ففي هذا بيان أن ما أجمع عليه الصحابة فهو بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة، في كونه مقطوعا به حتى يكفر جاحده.
وهذا أقوى ما يكون من الاجماع، ففي الصحابة أهل المدينة وعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خلاف بين من يعتد بقولهم إن هذا الاجماع حجة موجبة للعلم قطعا فيكفر جاحده كما يكفر جاحد ما ثبت بالكتاب أو بخبر متواتر.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وتوهم الخطأ لم ينعدم بإجماعهم أصلا، فإن رأيهم لا يكون فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) وقال تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) الآية، ففي هذا إشارة إلى أنه قد كان وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ في بعض ما فعل به برأيه، فعرفنا أنه لا يؤمن الخطأ في رأي دون رأيه أصلا ؟ قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن التقرير على الخطأ خصوصا في إظهار أحكام الدين، ولهذا كان قوله موجبا علم اليقين، واتباعه فرض على الامة، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وسنقرر هذا الكلام في موضعه (إن شاء الله تعالى) فإذا ثبت هذا فيما ثبت بتنصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك فيما يثبت بإجماع الصحابة، فإنه لا يبقى فيه توهم الخطأ بعد إجماعهم حتى يكفر جاحده.
وقوله وما أشبهه المراد منه أن الصحابة إذا اختلفوا في حادثة على أقاويل فإن ذلك اتفاق

منهم على أنه لا قول سوى ما ذكروا فيها وأن الحق لا يعدو أقاويلهم حتى ليس لاحد بعدهم أن يخترع قولا آخر برأيه، ولهذا قلنا إن الصحابة لما اختلفوا في مقدار جعل الآبق على أقاويل كان ذلك اتفاقا منهم على أن الحق لا يعدو أقاويلهم، فليس لاحد بعدهم أن يخترع فيه قولا آخر برأيه، إلا أن هذا الاجماع دون الاول في الحكم
لان ثبوته بطريق الاستدلال وأصله مسكوت عنه فلا يكفر جاحده مثل هذا الاجماع.
فإن قيل: أليس أنكم قلتم فيمن قال لامرأته اختاري فإن اختارت نفسها وقعت تطليقة بائنة، وإن اختارت زوجها لم يقع شئ، وقد كانت الصحابة فيها على قولين سوى هذا ثم اخترعتم قولا ثالثا برأيكم ؟ قلنا: ما فعلنا ذلك فإن الكرخي رحمه الله ذكر مذهبنا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه فليس ذلك بخروج عن أقاويلهم، وفي قوله ما رآه المسلمون حسنا بيان أن إجماع أهل كل عصر حجة، ولكن هذا في الحكم دون ما سبق، وهو بمنزلة خبر مشهور حتى لا يكفر جاحده، ولكن يجوز النسخ به لان بين من يعتد بقولهم من العلماء اختلافا فيه، ودون هذا بدرجة أيضا الاجماع بعد الاختلاف في الحادثة، إذا كانت مختلفا فيها في عصر ثم اتفق أهل عصر آخر بعدهم على أحد القولين، فقد قال بعض العلماء: هذا لا يكون إجماعا، وعندنا هو إجماع ولكنه بمنزلة خبر الواحد في كونه موجبا للعمل غير موجب للعلم.
قال رضي الله عنه: وكان شيخنا (الامام الحلواني رحمه الله) يقول: هذا على قول محمد رحمه الله يكون إجماعا، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يكون إجماعا، فإن الرواية محفوظة عن محمد رحمه الله أن قضاء القاضي بجواز بيع أم الولد باطل، وقد كان هذا مختلفا فيه بين الصحابة ثم اتفق من بعدهم على أنه لا يجوز بيعها فكان هذا قضاء بخلاف الاجماع عند محمد، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ينفذ قضاء القاضي به لشبهة الاختلاف في الصدر الاول، ولا يثبت الاجماع مع وجود الاختلاف في الصدر الاول.
قال رضي الله عنه:

والاوجه عندي أن هذا إجماع عند أصحابنا جميعا للدليل الذي دل على أن إجماع أهل كل عصر إجماع معتبر، وإنما ينفذ قضاء القاضي بجواز بيعها لشبهة الاختلاف في أن مثل هذا هل يكون إجماعا ؟ فعلى اعتبار هذه الشبهة يكون قضاؤه في مجتهد
فيه، فلهذا نفذه أبو حنيفة رحمه الله.
وجه قول الفريق الاول أن الحجة إجماع الامة والذي كان مخالفا في الصدر الاول من الامة وبموته لا يبطل قوله فلا يثبت الاجماع بدون قوله، ألا ترى أنه لو بقي حيا إلى هذا الوقت لم ينعقد الاجماع بدون قوله، فكذلك إذا كان ميتا، لان اعتبار قوله لدليله لا لحياته، ولانه لو ثبت الاجماع بعده لوجب القول بتضليله، ولا نظن أحدا يقول هذا لابن عباس رضي الله عنهما في زوج وأبوين وإن أجمعوا بعده على خلاف قوله، ولا لابن مسعود رضي الله عنه في تقديم ذوي الارحام على مولى العتاقة وإن أجمعوا بعده على خلاف قوله، وقد قلتم إذا قال لامرأته أنت خلية ونوى ثلاثا ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام لا يلزمه الحد، لان عمر رضي الله عنه كان يراها تطليقة رجعية وقد أجمعوا بعده على خلاف ذلك ولهذا صح نية الثلاث فيه، فدل أن الاجماع لا يثبت بمثل هذا.
وجه قولنا إن المعتبر إجماع أهل كل عصر لما بينا أن المقصود كون أحكام الشرع محفوظة وأن ثبوت هذا الحكم باعتبار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك يختص به الاحياء من أهل العصر دون من مات قبلهم فكما أن لا يعتبر توهم قول ممن يأتي بعدهم بخلاف قولهم في منع ثبوت حكم الاجماع فكذلك لا يعتبر قول واحد كان قبلهم إذا اجتمعوا في عصرهم على خلافه، ويجعل هذا الاجماع بمنزلة التقدير من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لو عرض عليه الفتوى، ومعلوم أنه لو عرض عليه فقال: الصواب هذا فإنه تثبت الحجة به ولا يضلل القائل بخلافه قبل هذا التنصيص، فكذلك هنا لا يضلل القائل بخلافه قبل هذا الاجماع، ألا ترى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعدما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة حتى أتاهم آت فأخبرهم واستداروا

كهيئتهم وجوز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم، لان ذلك كان قبل
العلم بالنص الناسخ، وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول بإباحة المتعة ثم رجع إلى قول الصحابة، ويثبت الاجماع برجوعه لا محالة ولم يكن ذلك موجبا تضليله فيما كان يفتي به قبل هذا.
فأما ما إذا قال لامرأته أنت خلية فإنما أسقطنا الحد هناك بالوطئ لا لان اتفاق أهل العصر بعد الخلاف ليس بإجماع ولكن للشبهة المتمكنة في هذا الاجماع بسبب اختلاف العلماء، فإن الحد يسقط بأدنى شبهة، والله أعلم بالحقيقة.
باب: الكلام في قبول أخبار الآحاد والعمل بها قال فقهاء الامصار رحمهم الله: خبر الواحد العدل حجة للعمل به في أمر الدين ولا يثبت به علم اليقين.
وقال بعض من لا يعتد بقوله: خبر الواحد لا يكون حجة في الدين أصلا.
وقال بعض أهل الحديث: يثبت بخبر الواحد علم اليقين، منهم من اعتبر فيه عدد الشهادة ليكون حجة، ومنهم من اعتبر أقصى عدد الشهادة وهو الاربعة.
فأما الفريق الاول استدلوا بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وإذا كان خبر الواحد لا يوجب العلم لم يجز اتباعه والعمل به بهذا الظاهر، وقال تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) وخبر الواحد إذا لم يكن معصوما عن الكذب (محتمل للكذب) والغلط فلا يكون حقا على الاطلاق ولا يجوز القول بإيجاب العمل به في الدين، وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) وقال تعالى: (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) ومعنى الصدق في خبر الواحد غير ثابت إلا بطريق الظن، ولان خبر الواحد محتمل للصدق والكذب والنص الذي هو محتمل لا يكون موجبا للعمل بنفسه مع أن كل واحد من المحتملين فيه يجوز أن يكون شرعا، فلان لا يجوز العمل بما هو محتمل للكذب والكذب باطل أصلا كان أولى.
ولا يدخل على ما ذكرنا أمور المعاملات، لان الذي يترتب عليها حقوق العباد

والعباد يعجزون عن إظهار كل حق لهم بطريق لا يبقى فيه شك وشبهة، فلاجل الضرورة جوزنا الاعتماد فيها على خبر الواحد، ولهذا سقط اعتبار اشتراط العدالة فيه أيضا، فأما هنا الثابت ما هو حق لله، والله موصوف بكمال القدرة يتعالى عن أن يلحقه ضرورة أو عجز عن إظهار حقوقه بما لا يبقى فيه شك وشبهة، فلهذا لا يجعل المحتمل للصدق والكذب حجة فيه.
وعلى هذا تخرج الشهادات أيضا فإن القياس فيها أن لا يكون حجة مع بقاء احتمال الكذب تركناه بالنصوص وبالمعنى الذي أشرنا إليه أنها مشروعة لاثبات حقوق العباد، والحاجة إليها تتجدد للعباد في كل وقت وهم يعجزون عن إثبات كل حق لهم بما لا يكون محتملا، ولان القول بما قلتم يؤدي إلى أن يزداد درجة المخبر الذي هو غير معصوم عن الكذب على المخبر المعصوم عن الكذب، يعني من ينزل عليه الوحي، فإن خبره في أول أمره إنما كان واجب القبول باقتران المعجزات به، فمن يقول بأن خبر غيره يكون مقبولا من غير دليل يقترن به فقد زاد درجة هذا المخبر على درجة الرسول، وأي قول أظهر فسادا من هذا ! ولا خلاف أن أصل الدين كالتوحيد وصفات الله وإثبات النبوة لا يكون إلا بطريق يوجب العلم قطعا ولا يكون فيه شك ولا شبهة، فكذلك فيما يكون من أمر الدين.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات) الآية، وقال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس) الآية، ففي هاتين الآيتين نهى لكل واحد عن الكتمان، وأمر بالبيان على ما هو الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولان أخذ الميثاق من أصل الدين، والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، ومن ضرورة توجه الامر بالاظهار على كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به، إذ أمر الشرع لا يخلو عن فائدة حميدة ولا فائدة في النهي عن الكتمان، والامر بالبيان سوى
هذا.
ولا يدخل عليه الفاسق فإنه داخل في عموم الامر بالبيان ثم لا يقبل بيانه في الدين، لانه مخصوص من هذا النص بنص آخر وهو ما فيه أمر بالتوقف في خبر الفاسق، ثم هو مزجور عن اكتساب سبب الفسق مأمور بالتوبة عنه ثم يترتب البيان عليه، فعلى هذا الوجه بيانه يفيد وجوب القول والعمل به، وقال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) الآية، والفرقة اسم للثلاثة فصاعدا، فالطائفة من الفرقة

بعضها وهو الواحد أو الاثنان، ففي أمر الطائفة بالتفقه والرجوع إلى قومهم للانذار كي يحذروا، تنصيص على أن القبول واجب على السامعين من الطائفة، وأنه يلزمهم الحذر بإنذار الطائفة، وذلك لا يكون إلا بالحجة، ولا يقال الطائفة اسم للجماعة لان المتقدمين اختلفوا في تفسير الطائفة.
قال محمد بن كعب: هو اسم للواحد.
وقال عطاء: اسم للاثنين.
وقال الزهري: لثلاثة.
وقال الحسن: لعشرة، فيكون هذا اتفاقا منهم أن الاسم يحتمل أن يتناول كل واحد من هذه الاعداد، ولم يقل أحد بالزيادة على العشرة، ومعلوم أن بخبر العشرة لا ينتفي توهم الكذب ولا يخرج من أن يكون محتملا، فعرفنا أنه لا يشترط لوجوب العمل كون المخبر بحيث لا يبقى في خبره تهمة الكذب.
ثم الاصح ما قاله محمد بن كعب، فقد قال قتادة في قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة) الواحد فصاعدا، وقال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) نقل في سبب النزول أنهما كانا رجلين، وفي سياق الآية ما يدل عليه فإنه قال تعالى: (فأصلحوا بينهما) ولم يقل بينهم، وقال: (فأصلحوا بين أخويكم) فقد سمي الرجلين طائفتين.
فإن قيل: هذا بعيد فإن هاء التأنيث لا تلحق بنعت الواحد من الذكور.
قلنا: هذا عند ذكر الرجل فأما عند ذكر النعت يصلح للفرد من الذكور والاناث، فللعرب عادة في إلحاق هاء التأنيث به وكتاب الله يشهد به، قال تعالى: (وإن تدع مثقلة إلى
حملها لا يحمل منه شئ) والمراد الواحد لا من الاناث خاصة بدليل قوله تعالى: (ولو كان ذا قربى) .
فإن قيل: هذا خطاب لجميع الطوائف بالانذار وهم يبلغون حد التواتر ويكون خبرهم مستفيضا مشتهرا.
قلنا: لا كذلك فالجمع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم كقول القائل: لبس القوم ثيابهم، وفي قوله تعالى: (إذا رجعوا إليهم) ما يدل على ما قلنا، لان الرجوع إنما يتحقق ممن كان خارجا من القوم ثم صار قادما عليهم وإتيان جميع الطوائف إلى كل قوم للانذار لا يكون رجوعا إليهم مع أن هذا لو كان شرطا لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وكلفهم أن يفعلوه، ولو فعلوه

لاشتهر ولم ينقل شئ من ذلك في الآثار، والذي يتحقق بهم الاجماع للدوران للانذار لا ينقطع توهم الكذب عن خبرهم لبقاء احتمال التواطؤ بينهم، فكان الاستدلال قائما وإن ساعدناهم على هذا التأويل.
فإن قيل: عندنا الراجع إلى كل فريق مأمور بالانذار بما سمعه لقومه، وإن لم يكن عليهم أن يقبلوا ذلك منه، بل المقصود أن يشتهر ذلك وعند الاشتهار تنتفي تهمة الكذب فتصير حجة حينئذ، بمنزلة الشاهد الواحد فإنه مأمور بأداء الشهادة، وإن كان العمل بشهادته لا يجب ما لم يتم العدد بشاهد آخر وتظهر العدالة بالتزكية.
قلنا: الشاهد إذا كان وحده فليس عليه أداء الشهادة، لان ذلك لا ينفع المدعي وربما يضر بالشاهد فلو لم يكن خبر الواحد حجة لوجوب العمل لما وجب الانذار بما سمع، ثم لما ثبت بالنص أنه مأمور بالانذار ثبت أنه يجب القبول منه، لانه في هذا بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان مأمورا بالانذار ثم كان قوله ملزما للسامعين، كيف وقد بين الله تعالى حكم القبول والعمل به في إشارة بقوله: (لعلهم يحذرون) : أي لكي يحذروا عن الرد والامتناع عن العمل بعد لزوم الحجة إياهم، كما قال تعالى:
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره) والامر بالحذر لا يكون إلا بعد توجه الحجة.
فدل أن خبر الواحد موجب للعمل، ولان النبي عليه السلام كان مبعوثا إلى الناس كافة، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وقد بلغ الرسالة بلا خلاف ومعلوم يقينا أنه ما أتى كل أحد فبلغه مشافهة، ولكنه بلغ قوما بنفسه، وآخرين برسول أرسل إليهم، وآخرين بكتاب، وكتابه إلى ملوك الآفاق مشهور لا يمكن إنكاره، فلو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان مبلغا رسالات ربه بهذا الطريق إلى الناس كافة، وقد فتحت البلدان النائية على عهده كاليمن والبحرين وهو ما أتاهم بنفسه ولكنه بعث عاملا إلى كل ناحية ليعلمهم الاحكام، على ما هو سير الملوك اليوم في بعث العمال إلى البلدان لاجل أمور الدنيا، فلو لم يكن خبر الواحد حجة في أمور الدين لما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الذين آمنوا وكانوا بالبعد من

حضرته، وكذلك المخدرات في بيوتهن لم يحضرن مجلسه في كل حادثة ولكن أزواجهن كانوا يسمعون أحكام الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرجعون إليهن ويعلمونهن، فلو لم يكن خبر الواحد حجة لكلفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتيان إليه للسماع منه ولو فعل ذلك لاشتهر، ولا يقال إنما اكتفى بذلك لان من بعثه رسول الله معلما إلى قوم لا يقول لهم إلا ما هو حق صدق فكان ذلك كرامة لرسول الله ولا يوجد مثل ذلك في حق غيرهم من المخبرين، لانه لو كان بهذه الصفة لنقل هذا السبب كرامة لهم ولاعقابهم، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خص واحدا من الصحابة بشئ اشتهر ذلك بالنقل، نحو قوله في حنظلة رضي الله عنه إن الملائكة غسلته، وفي جعفر رضي الله عنه إن له جناحين يطير بهما في الجنة.
ثم كما أن من بعثه رسول الله عليه السلام خليفته في التبليغ فكل من سمع شيئا في أمر الدين فهو خليفته في التبليغ مأمور من جهته بالبيان كالمبعوث لقوله عليه
الصلاة والسلام: ألا فليبلغ الشاهد الغائب ولقوله عليه السلام: نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من يسمعها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى ما هو أفقه منه فينبغي أن يثبت ترجح جانب الصدق في خبر كل عدل أيضا كرامة لرسول الله عليه السلام.
وفي قوله: (فرب حامل فقه) بيان أن ما يخبر به الواحد فقه والفقه في الدين ما يكون حجة، ولانا نعلم أنه عليه السلام كان يأكل الطعام وما كان يزرع بنفسه ليتيقن بصفة الحل فيما يأكله وقد كان مأمورا بأكل الطيب، قال تعالى: (يأيها الرسل كلوا من الطيبات) وربما كان يهدي إليه على ما روي أن سلمان رضي الله عنه أهدي إليه طبقا من رطب، وأن بريرة رضي الله عنها كانت تهدي إليه، وكان يدعى إلى طعام، فلو لم يكن خبر الواحد حجة للعمل به في حق الله تعالى لما اعتمد ذلك فيما يأكله، ولا يقال: كان يعلم من طريق الوحي حل ما يتناوله لانه ما كان منتظر الوحي عند أكله، ألا ترى أنه تناول لقمة من الشاة المصلية

فلما لم يسغها سأل عن شأنها فأخبر بذلك فأمر بالتصدق بها، وتناول لقمة من الشاة المسمومة، فعرفنا أنه ما كان ينتظر الوحي عند كل أكلة.
والذي يؤيد ما قلنا حكم الشهادات، فإن الله تعالى أمر القاضي بالقضاء بالشهادة، ومعلوم أن الاحتمال يبقى بعد شهادة شاهدين، فلو كان شرط وجوب العمل بالخبر انتفاء تهمة الكذب من كل وجه لما وجب على القاضي القضاء بالشهادة مع بقاء هذا الاحتمال.
فإن قيل: الشهادات لاظهار حقوق العباد وقد بينا أن هذا الشرط غير معتبر فيما هو من حقوق العباد.
قلنا: كما يجب القضاء بما هو من حقوق العباد عند أداء الشهادة يجب القضاء بما هو من حقوق الله تعالى كحد الشرب والسرقة والزنا، ثم وجوب القضاء بالشهادة من حقوق الله تعالى حتى إذا امتنع من غير عذر يفسق، وإذا لم ير ذلك أصلا يكفر، إلا أن سببه حق العبد وبه لا يخرج من أن يكون حقا لله تعالى
كالزكاة، فإنها تجب حقا لله تعالى بسبب مال هو حق العبد.
وقد يترتب على خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى نحو الاخبار بطهارة الماء ونجاسته، والاخبار بأن هذا الشئ أهداه إليك فلان، وأن فلانا وكلني ببيع هذا الشئ، فإنه يترتب على هذا كله ما هو حق الله تعالى وهو إباحة التناول، فإن الحل والحرمة من حق الله، ولا يظن بأحد أنه لا يرى الاعتماد في مثل هذا على خبر الواحد فإنه يتعذر به على الناس الوصول إلى حوائجهم، ألا ترى أنه وإن أخبره أن العين ملكه ببيعه فمن الجائز أنه غاصب، وإذا ألجأته الضرورة إلى التسليم في هذا يقاس عليه ما سواه.
ويتبين به فساد اشتراط انتفاء تهمة الكذب عن الخبر للعمل به فيما هو من حق الله تعالى، وبهذا يتبين خطأ من زعم أن هذا عمل بغير علم، فإنه عندنا عمل بعلم هو ثابت من حيث الظاهر ولكنه غير مقطوع به، وقد سمى الله تعالى مثله علما فقال: (وما شهدنا إلا بما علمنا) وإنما قالوا ذلك سماعا من مخبر أخبرهم به، وقال: (فإن علمتوهن مؤمنات) وإنما قال ذلك باعتبار غالب الرأي واعتماد نوع من الظاهر، فدل على أن مثله علم لا ظن إنما الظن عند خبر الفاسق، ولهذا أمر الله بالتوقف في خبره

وبين المعنى فيه بقوله: (أن تصيبوا قوما بجهالة) فيكون ذلك بيانا أن من اعتمد خبر العدل في العمل به يكون مصيبا بعلم لا بجهالة إلا أن ذلك (علم) باعتبار الظاهر لان عدالته ترجح جانب الصدق في خبره، وإذا كان هذا النوع من الظاهر يصلح حجة للقضاء به فلان يصلح حجة للعمل به في أمر الدين كان أولى، لان هذا الحكم أسرع ثبوتا، ألا ترى أن بالقياس يثبت، ومعلوم أن هذا الاحتمال في القياس أظهر، والقياس دون خبر الواحد، ومن لا يجوز العمل بخبر الواحد هنا يفزع إلى القياس، فكيف يستقيم ترك العمل بما هو أقوى لبقاء احتمال فيه والفزع إلى ما هو دونه وهذا الاحتمال فيه أظهر ؟
فإن قيل: هذا سهو، فإن الكلام في إثبات الحكم ابتداء والقياس لا يصلح لنصب الحكم ابتداء، وإنما ذلك بالسماع ممن ينزل عليه الوحي وقد كان معصوما عن مثل هذا الاحتمال في خبره، فعرفنا أنه لا يثبت الحكم ابتداء إلا بخبر يضاهي السماع منه، وذلك بأن يبلغ حد التواتر، إلا أن في القضاء تركنا هذا الشرط لضرورة بالناس فإنهم يحتاجون إلى إظهار حقوقهم بالحجة عند القاضي ولا يتمكنون من مثل هذا الخبر في كل حق يجب لبعضهم على بعض.
قلنا: رضينا بهذا الكلام ونقول: حاجتنا إلى معرفة أحكام الدين وحقوق الله تعالى علينا لنعمل به مثل حاجة من كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته وكانوا يسمعون منه، ومعلوم أن بعد تطاول الزمان لا يوجد مثل هذا الخبر في كل حكم من أحكام الشرع، فوجب أن يجعل خبر الواحد فيه حجة للعمل باعتبار الظاهر لتحقق الحاجة إليه، كما جعل مثل هذه الحاجة معتبرا في وجوب القضاء على القاضي بالشهادة مع بقاء الاحتمال، مع أنه ليس الطريق ما قالوا في باب القضاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع الخصومة في حقوق العباد ويقضي بالشهادات والايمان، وكان يقول: إنما أنا بشر مثلكم أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فكأنما أقطع له قطعة من النار ومعلوم أن مثل هذه الضرورة ما كان يتحقق في حقه، فقد كان الوحي ينزل عليه ولو كان توهم الكذب

في شهادة الشهود يمنع بثبوت العلم في (حق) العمل بشهادتهم لما قضى رسول الله بالشهادة قط، فإنه كان متمكنا من القضاء بعلم وذلك بأن ينتظر نزول الوحي عليه فما كان يجوز له أن يقضي بغير علم، وقد نقل قضاياه مشهورا بالشهادات والايمان فهو دليل على صحة ما قلنا.
والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم في العمل بخبر الواحد أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تخفى، ذكر محمد رحمه الله بعضها في الاستحسان، وأورد أكثرها عيسى بن أبان رحمه الله
مستدلا بجواز العمل بخبر الواحد، ولكنا لم نشتغل بها لشهرتها، ولعلمنا أن الخصوم يتعنتون فيقولون كيف يحتجون على وجوب العمل بخبر الواحد بالآحاد من الاخبار وهو نفس الخلاف، فلهذا اشتغلنا بالاستدلال بما هو شبه المحسوس، فكأن عيسى ابن أبان إنما استدل بها لكونها مشهورة في حيز التواتر، ولان العمل بالقياس جائز فيما لا نص فيه، ثبت ذلك باتفاق الصحابة، وخبر الواحد أقوى من القياس، لان المعمول به وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شبهة فيه وإنما الشبهة في طريق الاتصال به، وفي القياس الشبهة والاحتمال في المعنى المعمول به والطريق فيهما غالب الرأي، فكان جواز العمل بالقياس دليلا على جواز العمل بخبر الواحد بالطريق الاولى.
يقرره أن العامي إذا سأل المفتي حادثته فأفتى بشئ يلزمه العمل به، ولو سأله عن اعتقاده في ذلك فأخبر أنه معتقد لما يفتيه به كان عليه أن يعتمد قوله وفيه احتمال السهو والكذب، ولكن باعتبار فقهه يترجح جانب الاصابة، وباعتبار عدالته يترجح جانب الصدق فيه فيجب العمل به، فكذلك فيما يخبر به العدل لان جانب الصدق يترجح بظهور عدالته، وما قالوا إن في هذا إثبات زيادة درجة لخبر غير المعصوم على خبر المعصوم غلط بين، فإن الحاجة إلى ظهور المعجزات لثبوت علم اليقين بنبوته، وليكون خبره موجبا علم اليقين ولا يثبت مثل ذلك بخبر مثل هذا المخبر، ألا ترى أن العمل بخبر المخبر في المعاملات جائز عدلا كان أو فاسقا إذا وقع في قلب السامع أنه صادق، ولا يكون في

هذا قولا بزيادة خبره على خبر المعصوم عن الكذب.
وأما من قال بأن خبر الواحد يوجب العلم فقد استدل بما روي أن النبي عليه السلام قال لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: ثم أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة في أموالهم ومراده الاعلام بالاخبار، وأما إذا لم يكن خبر الواحد موجبا للعلم للسامع لا يكون ذلك إعلاما، ولان العمل يجب بخبر الواحد ولا يجب العمل إلا بعلم، قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به
علم) ولان الله تعالى قال في نبأ الفاسق: (أن تصيبوا قوما بجهالة) وضد الجهالة العلم وضد الفسق العدالة، ففي هذا بيان أن العلم إنما لا يقع بخبر الفاسق وأنه يثبت بخبر العدل.
ثم قد يثبت بالآحاد من الاخبار ما يكون الحكم فيه العلم فقط نحو عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورؤية الله تعالى بالابصار في الآخرة، فبهذا ونحوه يتبين أن خبر الواحد موجب للعلم.
ولكنا نقول: هذا القائل كأنه خفي عليه الفرق بين سكون النفس وطمأنينة القلب وبين علم اليقين، فإن بقاء احتمال الكذب في خبر غير المعصوم معاين لا يمكن إنكاره ومع الشبهة والاحتمال لا يثبت اليقين وإنما يثبت سكون النفس وطمأنينة القلب بترجح جانب الصدق ببعض الاسباب، وقد بينا فيما سبق أن علم اليقين لا يثبت بالمشهور من الاخبار بهذا المعنى فكيف يثبت بخبر الواحد وطمأنينة القلب نوع علم من حيث الظاهر فهو المراد بقوله: (ثم أعلمهم) ويجوز العمل باعتباره كما يجوز العمل بمثله في باب القبلة عند الاشتباه، وينتفي باعتبار مطلق الجهالة لانه يترجح جانب الصدق بظهور العدالة، بخلاف خبر الفاسق فإنه يتحقق فيه المعارضة من غير أن يترجح أحد الجانبين.
فأما الآثار المروية في عذاب القبر ونحوها فبعضها مشهورة وبعضها آحاد وهي توجب عقد القلب عليه، والابتلاء بعقد القلب على الشئ بمنزلة الابتلاء بالعمل به أو أهم، فإن ذلك ليس من ضرورات العلم، قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) وقال تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) فتبين أنهم تركوا عقد القلب على ثبوته بعد العلم به، وفي هذا بيان أن هذه الآثار لا تنفك عن معنى وجوب

العمل بها.
ويحكى عن النظام أن خبر الواحد عند اقتران بعض الاسباب به موجب للعلم ضرورة.
قال: ألا ترى أن من مر بباب فرأى آثار غسل الميت، وسمع عجوزا تخرج من الدار وهي تقول مات فلان، فإنه يعلم موته ضرورة بهذا الخبر، لاقتران هذا
السبب به.
قال: وهو علم يحدثه الله تعالى في قلب السامع بمنزلة العلم للسامع بخبر التواتر إذ ليس في التواتر إلا مجموع الآحاد، ويجوز القول بأن الله تعالى يحدثه في قلب بعض السامعين دون البعض كما أنه يحدث الولد ببعض الوطئ دون البعض.
وهذا قول باطل، فإن ما يكون ثابتا ضرورة لا يختلف الناس فيه، بمنزلة العلم الواقع بالمعاينة والعلم الواقع بخبر التواتر.
ثم في هذا إبطال أحكام الشرع من الرجوع إلى البينات والايمان عند تعارض الدعوة والانكار، والمصير إلى اللعان عند قذف الزوج زوجته فإن القرائن من أبين الاسباب، وكان ينبغي أن يكون خبر الزوج موجبا العلم ضرورة فلا يجوز للقاضي عند ذلك أن يصير إلى اللعان، وكذلك في سائر الخصومات ينبغي أن ينتظر إلى أن يحصل له علم الضرورة بخبر المخبرين فيعمل به، واقتران المعجزات بأخبار الرسل من أقوى الاسباب.
ثم العلم الحاصل بالنبوة يكون كسبيا لا ضروريا فكيف يستقيم مع هذا لاحد أن يقول إن بخبر الواحد يثبت العلم الضروري بحال من الاحوال.
فإن قيل: فقد قلتم الآن إن من جحد الرسالة فإنما جحد بعد العلم بها، فدل أن العلم الضروري كان ثابتا بالخبر.
قلنا: إنما كان ذلك من قوم متعنتين عرفوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته من كتابهم ثم جحدوا عنادا، كما قال تعالى: (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) ولا يظن أحد أن جميع الكفار كانوا عالمين بذلك ضرورة ثم تواطؤا على الجحود على ذلك، لان في هذا القول نفي العلم بخبر التواتر، فإن ثبوت العلم به باعتبار انتفاء تهمة التواطؤ فكيف يجوز إثبات علم الضروري عند خبر الواحد بطريق يدل على نفي العلم بخبر التواتر، وبمثله

يتبين عوار المبطلين، والله ولي المتقين.
فأما خبر المخبر بالموت إنما يوجب سكون النفس وطمأنينة القلب، ألا ترى أنه إذا شككه آخر بقوله اختفى صاحب الدار من
السلطان فأظهر هذا تشكك فيه، ولو كان الثابت له علما ضروريا لما تشكك فيه بخبر الواحد.
وأما من شرط عدد الشهادة استدل فيه بالنصوص الواردة في باب الشهادات، فإن الشرع اعتبر ذلك لثبوت العلم على وجه يجب العمل به، فعرفنا أن بدون ذلك لا يثبت العلم على وجه يجب العمل به في خبر متميل بين الصدق والكذب.
والدليل عليه أن أبا بكر رضي الله عنه حين شهد عنده المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام أطعم الجدة السدس قال: ائت بشاهد آخر فشهد معه محمد بن مسلمة رضي الله عنه، ولما روى أبو موسى لعمر خبر الاستئذان فقال: ائت بشاهد آخر فشهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنهم.
وقال عمر رضي الله عنه في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت.
وقال علي رضي الله عنه في حديث أبي سنان الاشجعي رضي الله عنه في مهر المثل: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه ! في هذا بيان أنهم كانوا لا يقبلون خبر الواحد وكانوا يعتبرون لطمأنينة القلب عدد الشهادة، كما كانوا يعتبرون لذلك صفة العدالة، ومن بالغ في الاحتياط فقد اعتبر أقصى عدد الشهادة لان ما دون ذلك محتمل، وتمام الرجحان عند انقطاع الاحتمال بحسب الامكان.
ولكنا نستدل بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) ومعلوم أن هذا النعت لكل مؤمن، فهو تنصيص على أن قول كل مؤمن في باب الدين يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وإنما يكون كذلك إذا كان يجب العمل بما يأمر به من المعروف فاشتراط العدد في الامرين يكون زيادة.
وجميع ما ذكرنا حجة على هؤلاء ولا حجة لهم في شئ مما ذكروا، فإن هذه الآثار إنما تكون حجة لهم إذا أثبتوا النقل فيها من اثنين عن اثنين حتى اتصل بهم، لان

بدون ذلك لا تقوم الحجة عندهم، ولا يتمكن أحد من إثبات هذا في شئ من أخبار الآحاد.
ثم إنما طلب أبو بكر رضي الله عنه شاهدا آخر من المغيرة لانه شك في خبره باعتبار معنى وقف عليه، أو باعتبار أنه أخبر أن هذا القضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بمحضر من الجماعة فأحب أن يستثبت لذلك.
وكذلك عمر رضي الله عنه إنما أمر أبا موسى أن يأتي بشاهد آخر لانه أخبر بما تعم به البلوى فيحتاج الخاص والعام إلى معرفته فأحب أن يستثبته، ولو لم يأت بشاهد آخر لكان يقبل حديثه أيضا.
وذكر بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أنه لا يقبل حديثه لو لم يأت بشاهد آخر في ذلك الوقت، لان في الرواة يومئذ كثرة فكان لا تتحقق الضرورة في العمل بخبر الواحد ومثله لا يوجد بعد تطاول الزمان.
ولكن الاصح هو الاول، وعليه نص محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان فقال: لو لم يأت بشاهد آخر لكان يقبل حديثه أيضا، ألا ترى أنه قبل حديث ضحاك بن سفيان رضي الله عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وقبل حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين رجع من الشام، وقبل حديثه أيضا في أخذ الجزية من المجوس ولم يطلب منه شاهدا آخر، وإنما لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس لكونه مخالفا للكتاب والسنة فإن السكنى لها منصوص عليه في قوله: (أسكنوهن من حيث سكنتم) وهي قالت ولم يجعل لي رسول الله عليه السلام نفقة ولا سكنى، وإنما لم يقبل علي رضي الله عنه حديث أبي سنان لمذهب له كان ينفرد به وهو أنه كان لا يقبل رواية الاعراب وكان يحلف الراوي إذا روى له حديثا إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ألا ترى أن ابن مسعود رضي الله عنه لما لم يكن هذا من مذهبه قبل حديث أبي سنان وسر به وباب الشهادات ليس نظير باب الاخبار بالاتفاق، ففي الشهادة كل امرأتين تقومان مقام رجل واحد، وفي الاخبار الرجال والنساء سواء.
ولكن نقول: اشتراط العدد في الشهادات عرفناه بالنص من غير أن يعقل فيه معنى، فإن العلم الحاصل بخبر الواحد
العدل لا يزداد بانضمام مثله إليه، وانتفاء تهمة الكذب لا يحصل أيضا بنصاب الشهادة، فعرفنا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه والواجب علينا فيه اتباع النص، وباب

الاخبار ليس في معناه، ألا ترى أنه لا اختصاص في باب الاخبار بلفظ الشهادة ولا بمجلس القضاء، وأن الشهادات الموجبة للقضاء تختص بذلك.
وكذلك حكم الاخبار لا يختلف باختلاف المخبر به من أحكام الدين وتختلف باختلاف المشهود به، فيثبت بعض الاحكام بشهادة النساء مع الرجال ولا يثبت البعض ويثبت البعض بشهادة امرأة واحدة، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة رضي الله عنه حجة تامة.
وسنقرر هذا الكلام في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
فصل: في بيان أقسام ما يكون خبر الواحد فيه حجة قال رضي الله عنه: هذه أربعة أقسام: أحدها أحكام الشرع التي هي فروع الدين فيما يحتمل النسخ والتبديل، فإنها واجبة لله تعالى علينا يلزمنا أن ندين بها.
وهي نوعان: ما لا يندرئ بالشبهات كالعبادات وغيرها، وخبر الواحد العدل حجة فيها لايجاب العمل من غير اشتراط عدد ولا لفظ بل بأوصاف تشترط في المخبر على ما نبينه، وهذا لان المعتبر فيه رجحان جانب الصدق لا انتفاء احتمال الكذب، وذلك حاصل من غير عدد ولا تعيين لفظ، وليس لزيادة العدد وتعيين اللفظ تأثير في انتفاء تهمة الكذب، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون مثل هذه الاخبار من الواحد لايجاب العمل من غير اشتراط زيادة العدد إلا على سبيل الاحتياط من بعضهم، نحو ما روي أن عليا رضي الله عنه كان يحلف الراوي على ما قال: كنت إذا لم أسمع حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثني به غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: ما أذنب عبد ذنبا ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ثم استغفر ربه إلا غفر له ففي هذا بيان أنه كان يحتاط
فيحلف الراوي، وما كان يشترط زيادة العدد ولا تعيين لفظ الشهادة، فلو كان ذلك شرطا لاستوى فيه المتقدمون والمتأخرون كما في الشهادات في الاحكام.
وأما ما يندرئ بالشبهات فقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في الامالي أن خبر الواحد فيه حجة أيضا، وهو اختيار الجصاص رحمه الله، وكان الكرخي رحمه

الله يقول: خبر الواحد فيه لا يكون حجة.
وجه القول الاول أن المعتبر في خبر الواحد ليكون حجة ترجح جانب الصدق وعند ذلك يكون العمل به واجبا فيما يندرئ بالشبهات وفيما يثبت بالشبهات كما في البينات، ولو كان مجرد الاحتمال مانعا للعمل فيما يندرئ بالشبهات لم يجز العمل فيها بالبينة.
وكذلك يجوز العمل فيها بدلالة النص مع بقاء الاحتمال.
ووجه القول الآخر أن في اتصال خبر الواحد بمن يكون قوله حجة موجبة للعلم شبهة، وما يندرئ بالشبهات لا يجوز إثباته بما فيه شبهة، ألا ترى أنه لا يجوز إثباته بالقياس، وإنما جوزنا إثباته بالشهادات بالنص وهو قوله تعالى: (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) وما كان ثابتا بالنص بخلاف القياس لا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه وخبر الواحد ليس في معنى الشهادة من كل وجه.
والقسم الثاني: حقوق العباد التي فيها إلزام محض ويشترك فيها أهل الملل، وهذا لا يثبت بخبر الواحد إلا بشرط العدد، وتعيين لفظ الشهادة، والاهلية، والولاية لانها تبتنى على منازعات متحققة بين الناس بعد التعارض بين الدعوى والانكار، وإنما شرعت مرجحة لاحد الجانبين فلا يصلح نفس الخبر مرجحا للخبر إلا باعتبار زيادة توكيد من لفظ شهادة أو يمين فهما للتوكيد، ألا ترى أن كلمات اللعان شرع فيها لفظ الشهادة واليمين للتوكيد، وزيادة العدد أيضا للتوكيد، وطمأنينة القلب إلى قول المثنى أظهر، إذ الواحد يميل إلى الواحد عادة قلما يتفق الاثنان على الميل إلى الواحد
في حادثة واحدة، ولان الخصومات إنما تقع باعتبار الهمم المختلفة للناس، والمصير إلى التزوير والاشتغال بالحيل والاباطيل فيها ظاهر، فجعلها الشرع حجة بشرط زيادة العدد وتعيين لفظ الشهادة تقليلا لمعنى الحيل والتزوير فيها بحسب وسع القضاة.
وليس هذا نظير القسم الاول، فإن السامع هناك حاجته إلى الدليل للعمل به لا إلى رفع دليل مانع، وخبر الواحد باعتبار حسن الظن بالراوي دليل صالح لذلك، فأما

في المنازعات فالحاجة إلى رفع ما معه من الدليل وهو الانكار الذي هو معارض لدعوى المدعي، فاشتراط الزيادة في الخبر هنا لهذا المعنى.
ومن القسم الاول الشهادة على رؤية هلال رمضان إذا كان بالسماء علة، فالثابت به حق الله تعالى على عباده وهو أداء الصوم.
ومن القسم الثاني الشهادة على هلال الفطر فالثابت به حق العباد لان في الفطر منفعة لهم وهو ملزم إياهم..ومن ذلك أيضا الاخبار بالحرمة بسبب الرضاع في ملك النكاح أو ملك اليمين فإنه يبتني على زوال الملك، لان ثبوت الحل لا يكون بدون الملك فانتفاؤه يوجب انتفاء الملك والملك من حقوق العباد، فإن كان الحل والحرمة من حقوق الله تعالى وكذلك الاخبار بالحرمة في الامة فإن حرمة الفرج وإن كان من حق الله تعالى فثبوتها يبتني على زوال الملك الذي هو حق العباد فلا يكون خبر الواحد حجة فيها بدون شرائط الشهادة، بخلاف الخبر بطهارة الماء ونجاسته، والخبر بحل الطعام والشراب وحرمته فإن ذلك من القسم الاول، لان ثبوت الملك ليس من ضرورة ثبوت الحل فيه، وزوال الحل لا يبتنى على زوال الملك فيه ضرورة.
ومما اختلفوا فيه التزكية، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما هي من القسم الاول لا يعتبر فيها العدد ولا لفظ الشهادة، لان الثابت بها تقرر الحجة وجواز القضاء وذلك حق الشرع وعند محمد رحمه الله هو نظير القسم الثاني في اشتراط العدد فيها، لانه يتعلق بها ما هو حق العباد وهو استحقاق القضاء
للمدعي بحقه.
والقسم الثالث: المعاملات التي تجري بين العباد مما لا يتعلق بها اللزوم أصلا، وخبر الواحد فيها حجة إذا كان المخبر مميزا عدلا كان أو غير عدل صبيا كان أو بالغا كافرا كان أو مسلما، وذلك نحو الوكالات والمضاربات والاذن للعبيد في التجارة والشراء من الوكلاء والملاك حتى إذا أخبره صبي مميز أو كافر أو فاسق أن فلانا وكله أو أن مولاه أذن له فوقع في قلبه أنه صادق يجوز له أن يشتغل بالتصرف بناء على خبره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدية الطعام من البر التقي وغيره، وكان يشتري من الكافر أيضا، والمعاملات بين الناس في الاسواق من

لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ظاهر لا يخفى على واحد منهم لا يشترطون العدالة فيمن يعاملونه، وأنهم يعتمدون خبر كل مميز يخبرهم بذلك لما في اشتراط العدالة فيه من الحرج البين.
والفرق بين هذا وبين ما سبق من وجهين: أحدهما أن الضرورة (هنا) تتحقق بالحاجة إلى قبول خبر كل مميز، لان الانسان قلما يجد العدل ليبعثه إلى غلامه أو وكيله، ولا دليل مع السامع سوى هذا الخبر ولا يتمكن من الرجوع إليه للعمل، وكذلك المتصرف مع الوكيل فإن أقصى ما يمكنه أن يرجع إلى الموكل ولعله غاصب غير مالك أيضا، وللضرورة تأثير في التخفيف ولا يتحقق مثل هذه الضرورة في الاخبار فيما يرجع إلى أحكام الشرع، لان في العدول من الرواة كثرة ويتمكن السامع من الرجوع إلى دليل آخر يعمل به إذا لم يصح الخبر عنده وهو القياس الصحيح.
والثاني وهو أن هذه الاخبار غير ملزمة، لان العبد والوكيل يباح لهما الاقدام على التصرف من غير أن يلزمهما ذلك، واشتراط العدالة ليترجح جانب الصدق من الخبر، فيصلح أن يكون ملزما وذلك فيما يتعلق به اللزوم من أحكام الشرع دون ما لا يتعلق به اللزوم من المعاملات.
ثم هذه الحالة حالة
المسالمة، واشتراط زيادة العدد واللفظ في الشهادة إنما كان باعتبار المنازعة والخصومة فيسقط اعتبار ذلك عند المسالمة.
وعلى هذا بنى المسائل في آخر الاستحسان فقال: إذا قال: كان هذا العين لي في يد فلان غصبا فأخذتها منه لم يجز للسامع أن يعتمد خبره لانه في خبره يشير إلى المنازعة.
ولو قال تاب من غصبه فرده على جاز أن يعتمد خبره إذا وقع في قلبه أنه صادق لانه يشير إلى المسالمة.
وكذلك لو تزوج امرأة فأخبره مخبر بأنها حرمت عليه بسبب عارض من رضاع أو غيره يجوز له أن يعتمد خبره ويتزوج أختها.
ولو أخبره أنها كانت محرمة عليه عند العقد لم يقبل خبره لانه ليس في الحرمة الطارئة معنى المنازعة، وفي المقارنة للعقد يتحقق ذلك، فإقدامه على مباشرة العقد تصريح منه بأنها حلال له.
وكذلك المرأة إذا أخبرت بأن الزوج طلقها وهو غائب يجوز لها أن تعتمد خبر المخبر وتتزوج بعد انقضاء العدة، بخلاف ما إذا أخبرت أن العقد كان بينهما باطلا في الاصل بمعنى من المعاني.
والمسائل على هذا الاصل كثيرة.

والقسم الرابع: ما يتعلق به اللزوم من وجه دون وجه من المعاملات، وذلك نحو الحجر على العبد المأذون وعزل الوكيل فإن الحجر نظير الاطلاق، فمن هذا الوجه هو غير ملزم إياه شيئا، ولكنه لو تصرف بعد ثبوت الحجر كان ذلك ملزما إياه العهدة، ففي هذا الخبر معنى اللزوم من هذا الوجه.
ثم على قول أبي حنيفة رضي الله عنه يشترط في هذا الخبر أحد شرطي الشهادة إما العدد أو العدالة، وعند أبي يوسف ومحمد هذا نظير ما سبق، والشرط فيه أن يكون المخبر مميزا عدلا كان أو غير عدل، حتى إذا أخبر فاسق العبد بأن مولاه قد حجر عليه يصير محجورا عندهما اعتبارا للحجر بالاطلاق، فالمعنى الذي ذكرنا فيه موجود هنا، وقياسا للمخبر الفضولي على ما إذا كان رسول المولى.
وكذلك إذا أخبر الوكيل بأن الموكل عزله أو أخبرت البكر بأن وليها زوجها فسكتت أو أخبر الشفيع ببيع الدار فسكت عن طلب
الشفعة أو أخبر المولى بأن عبده جنى فأعتقه، فأبو حنيفة يقول في هذه الفصول كلها خبر الفاسق غير معتبر إذا نشأ الخبر من عنده لان فيه معنى اللزوم فإنه يلزمه الكف عن التصرف إذا أخبره بالحجر والعزل، ويلزمها النكاح إذا سكتت بعد العلم، والكف عن طلب الشفعة إذا سكت بعد العلم، والدية إذا أعتق بعد العلم بالجناية.
وخبر الفاسق لا يكون ملزما لان التوقف في خبر الفاسق ثابت بالنص ومن ضرورته أن لا يكون ملزما، بخلاف الرسول فإن عبارته كعبارة المرسل، ثم بالمرسل حاجة إلى تبليغ ذلك وقلما يجد عدلا يستعمله في الارسال إلى عبده ووكيله.
فأما الفضولي فمتكلف لا حاجة به إلى هذا التبليغ والسامع غير محتاج إليه أيضا لانه معه دليل يعتمده للتصرف إلى أن يبلغه ما يرفعه، فلهذا شرطنا العدالة في الخبر في هذا القسم، ولا يشترط العدد لان اشتراطها لاجل منازعة متحققة وذلك غير موجود هنا، فإن كان المخبر هنا فاسقين فقد قال بعضهم يثبت بخبرهما لوجود أحد الشرطين.
وقال بعضهم لا يثبت لان خبر الفاسقين لا يصلح للالزام

كخبر الفاسق الواحد.
ولفظ الكتاب مشتبه فإنه قال حتى يخبره رجلان أو رجل عدل فقيل: معناه: رجلان عدل أو رجل عدل لان صيغة هذا النعت للفرد والجماعة واحد، ألا ترى أنه يقال: شاهدا عدل.
ومن اعتمد القول الاول قال اشتراط زيادة العدد للتوكيد هنا بمنزلة اشتراط العدد في إخبار العدول في الشهادات فإنها للتوكيد، واستدل عليه بما قال في الاستحسان: لو أخبر أحد المخبرين بطهارة الماء والآخر بنجاسته وأحدهما عدل والآخر غير عدل، فإنه يعتمد خبر العدل منهما.
ولو كان في أحد الجانبين مخبران وفي الجانب الآخر واحد واستووا في صفة العدالة فإنه يأخذ بقول الاثنين.
وكذلك في الجرح والتعديل كما يرجح خبر العدل على خبر غير العدل يترجح خبر المثنى من العدول على خبر الواحد، فعرفنا أن في زيادة العدد معنى
التوكيد.
والذي أسلم في دار الحرب إذا لم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان لم يلزمه القضاء، فإن أخبره بذلك فاسق فقد قال مشايخنا هو على الخلاف أيضا: عند أبي حنيفة لا يعتبر هذا الخبر في إيجاب القضاء عليه، وعندهما يعتبر.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه يعتبر الخبر هنا في إيجاب القضاء عندهم جميعا لان هذا المخبر نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور من جهته بالتبليغ كما قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب فهو بمنزلة رسول المالك إلى عبده، ثم هو غير متكلف في هذا الخبر ولكنه مسقط عن نفسه ما لزمه من الامر بالمعروف فلهذا يعتبر خبره.
فصل: في أقسام الرواة الذين يكون خبرهم حجة قال رضي الله عنه: اعلم بأن الرواة قسمان: معروف، ومجهول.
فالمعروف نوعان: من كان معروفا بالفقه والرأي في الاجتهاد، ومن كان معروفا بالعدالة وحسن الضبط والحفظ ولكنه قليل الفقه.
فالنوع الاول كالخلفاء الراشدين والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبي موسى الاشعري وعائشة وغيرهم من المشهورين بالفقه من الصحابة رضي الله عنهم، وخبرهم حجة موجبة

للعلم الذي هو غالب الرأي، ويبتنى عليه وجوب العمل، سواء كان الخبر موافقا للقياس أو مخالفا له، فإن كان موافقا للقياس تأيد به، وإن كان مخالفا للقياس يترك القياس ويعمل بالخبر.
وكان مالك بن أنس يقول يقدم القياس على خبر الواحد في العمل به، لان القياس حجة بإجماع السلف من الصحابة، ودليل الكتاب والسنة والاجماع أقوى من خبر الواحد فكذلك ما يكون ثابتا بالاجماع.
ولكنا نقول: ترك القياس بالخبر الواحد في العمل به أمر مشهور في الصحابة ومن بعدهم من السلف لا يمكن إنكاره حتى يسمون ذلك معدولا به عن القياس، وعليه دل حديث عمر رضي الله
عنه فإن حمل ابن مالك رضي الله عنه حين روى له حديث الغرة في الجنين قال: كدنا أن نقضي فيه برأينا فيما فيه قضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به.
وفي رواية: لولا ما رويت لرأينا خلاف ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهى عن إكراء المزارع فتركناه لاجل قوله، ولان قول الرسول صلى الله عليه وسلم موجب للعلم باعتبار أصله وإنما الشبهة في النقل عنه.
فأما الوصف الذي به القياس فالشبهة والاحتمال في أصله لانا لا نعلم يقينا أن ثبوت الحكم المنصوص باعتبار هذا الوصف من بين سائر الاوصاف، وما يكون الشبهة في أصله دون ما تكون الشبهة في طريقه بعد التيقن بأصله، يوضحه أن الشبهة هنا باعتبار توهم الغلط والنسيان في الراوي وذلك عارض، وهناك باعتبار التردد بين هذا الوصف وسائر الاوصاف وهو أصل، ثم الوصف الذي هو معنى من المنصوص كالخبر والرأي، والنظر فيه كالسماع، والقياس كالعمل به، ولا شك أن الوصف ساكت عن البيان والخبر بيان في نفسه فيكون الخبر أقوى من الوصف في الابانة، والسماع أقوى من الرأي في الاصابة، ولا يجوز ترك القوي بالضعيف.
فأما المعروف بالعدالة والضبط والحفظ كأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما وغيرهما ممن اشتهر بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسماع منه مدة

طويلة في الحضر والسفر، فإن أبا هريرة ممن لا يشك أحد في عدالته وطول صحبته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال له: (زر غبا تزدد حبا) وكذلك في حسن حفظه وضبطه، فقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك على ما روي عنه أنه قال: يزعمون أن أبا هريرة يكثر الرواية وإني كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني والانصار يشتغلون بالقيام على أموالهم والمهاجرون بتجاراتهم،
فكنت أحضر إذا غابوا، وقد حضرت مجلسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من يبسط منكم رداءه حتى أفيض فيه مقالتي فيضمها إليه ثم لا ينساها) فبسطت بردة كانت علي فأفاض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ثم ضممتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك شيئا.
ولكن مع هذا قد اشتهر من الصحابة رضي الله عنه ومن بعدهم معارضة بعض رواياته بالقياس، هذا ابن عباس رضي الله عنهما لما سمعه يروي: (توضؤوا مما مسته النار) قال: أرأيت لو توضأت بماء سخن أكنت تتوضأ منه، أرأيت لو ادهن أهلك بدهن فادهنت به شاربك أكنت تتوضأ منه ! فقد رد خبره بالقياس، حتى روي أن أبا هريرة قال (له): يا ابن أخي إذا أتاك الحديث فلا تضرب له الامثال.
ولا يقال إنما رده باعتبار نص آخر عنده، وهو ما روي أن النبي عليه السلام أتى بكتف مؤربة فأكلها وصلى ولم يتوضأ، لانه لو كان عنده نص لما تكلم بالقياس ولا أعرض عن أقوى الحجتين، أو كان سبيله أن يطلب التاريخ بينهما ليعرف الناسخ من المنسوخ، أو أن يخصص اللحم من ذلك الخبر بهذا الحديث، فحيث اشتغل بالقياس وهو معروف بالفقه والرأي من بين الصحابة على وجه لا يبلغ درجة أبي هريرة في الفقه ودرجته، عرفنا أنه استخار التأمل في روايته إذا كان مخالفا للقياس.
ولما سمعه يروي: من حمل جنازة فليتوضأ قال أيلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة ؟ ! ولما سمعت عائشة رضي الله عنها أن أبا هريرة يروي أن ولد الزنا شر الثلاثة.
قالت: كيف يصح هذا وقد قال الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)

وهذا عام دخله خصوص.
وروي أن عائشة قالت لابن أخيها ألا تعجب من كثرة رواية هذا الرجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم حدث بأحاديث لو عدها عاد لاحصاها ! وقال إبراهيم النخعي رضي الله عنه: كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون.
وقال لو كان ولد الزنا شر الثلاثة لما انتظر بأمه أن تضع.
وهذا نوع قياس.
ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا هريرة يروي ما لا يعرف قال: لتكفن عن هذا أو لالحقنك بجبال دوس.
فلمكان ما اشتهر من السلف في هذا الباب قلنا ما وافق القياس من روايته فهو معمول به، وما خالف القياس فإن تلقته الامة بالقبول فهو معمول به، وإلا فالقياس الصحيح شرعا مقدم على روايته فيما ينسد باب الرأي فيه.
ولعل ظانا يظن أن في مقالتنا ازدراء به ومعاذ الله من ذلك، فهو مقدم في العدالة والحفظ والضبط كما قررنا، ولكن نقل الخبر بالمعنى كان مستفيضا فيهم، والوقوف على كل معنى أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه أمر عظيم، فقد أوتي جوامع الكلم على ما قال: أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا ومعلوم أن الناقل بالمعنى لا ينقل إلا بقدر ما فهمه من العبارة، وعند قصور فهم السامع ربما يذهب عليه بعض المراد، وهذا القصور لا يشكل عند المقابلة بما هو فقه (لفظ) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلتوهم هذا القصور قلنا: إذا انسد باب الرأي فيما روي وتحققت الضرورة بكونه مخالفا للقياس الصحيح فلا بد من تركه، لان كون القياس الصحيح حجة ثابت بالكتاب والسنة والاجماع فما خالف القياس الصحيح من كل وجه فهو في المعنى مخالف للكتاب والسنة المشهورة والاجماع.
وبيان هذا في حديث المصراة فإن الامر برد صاع من تمر مكان اللبن قل أو كثر مخالف للقياس الصحيح من كل وجه، لان تقدير الضمان في العدوانات بالمثل أو القيمة حكم ثابت بالكتاب والسنة والاجماع.
وكذلك فيما يرويه سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال فيمن وطئ جارية امرأته: فإن طاوعته فهي له وعليه مثلها، وإن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها فإن القياس الصحيح يرد هذا الحديث ويتبين أنه كالمخالف للكتاب والسنة المشهورة والاجماع.
ثم هذا النوع من القصور لا يتوهم في الراوي إذا كان فقيها لان ذلك لا يخفى عليه لقوة فقهه، فالظاهر أنه إنما روى الحديث بالمعنى
عن بصيرة فإنه علم سماعه (من رسول الله كذلك مخالفا للقياس ولا تهمة في روايته فكأنا سمعنا ذلك) من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزمنا ترك كل قياس بمقابلته، ولهذا قلت رواية الكبار من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ألا ترى إلى ما روي عن عمرو بن ميمون قال: صحبت ابن مسعود سنين فما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة، فإنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذه البهر والفرق وجعلت فرائصه ترتعد فقال نحو هذا أو قريبا منه أو كلاما هذا معناه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا.
فبهذا يتبين أن الوقوف على ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من معاني كلامه كان عظيما عندهم فلهذا قلت رواية الفقهاء منهم، فإذا صحت الرواية عنهم فهو مقدم على القياس.
ومع هذا كله فالكبار من أصحابنا يعظمون رواية هذا النوع منهم ويعتمدون قولهم، فإن محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أخذ بقول أنس بن مالك رضي الله عنه في مقدار الحيض وغيره وكان درجة أبي هريرة فوق درجته، فعرفنا بهذا أنهم ما تركوا العمل بروايتهم إلا عند الضرورة لانسداد باب الرأي من الوجه الذي قررنا.
فأما المجهول فإنما نعني بهذا اللفظ من لم يشتهر بطول الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما عرف بما روي من حديث أو حديثين، نحو وابصة بن معبد، وسلمة بن المحبق، ومعقل بن سنان الاشجعي رضي الله عنهم وغيرهم.
ورواية هذا النوع على خمسة أوجه: أحدها أن يشتهر لقبول الفقهاء روايته والرواية عنه، والثاني أن يسكتوا عن الطعن فيه بعدما يشتهر، والثالث أن يختلفوا في الطعن في روايته، والرابع أن يطعنوا في روايته من غير خلاف بينهم في ذلك، والخامس أن لا تظهر روايته ولا الطعن فيه فيما بينهم.
أما من قبل السلف منه روايته وجوزوا النقل عنه

فهو بمنزلة المشهورين في الرواية: لانهم ما كانوا متهمين بالتقصير في أمر الدين،
وما كانوا يقبلون الحديث حتى يصح عندهم أنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وحسن ضبطه، أو لانه موافق لما عندهم مما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعض المشهورين يروي عنه.
وكذلك إن سكتوا عن الرد بعدما اشتهر روايته عندهم، لان السكوت بعد تحقق الحاجة لا يحل إلا على وجه الرضا بالمسموع فكان سكوتهم عن الرد دليل التقرير، بمنزلة ما لو قبلوه وردوا عنه.
وكذلك ما اختلفوا في قبوله وروايته عنه عندنا، لانه حين قبله بعض الفقهاء المشهورين منهم فكأنه روى ذلك بنفسه.
وبيان هذا في حديث معقل بن سنان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لبروع بنت واشق الاشجعية بمهر مثلها حين مات عنها زوجها ولم يسم لها صداقا، فإن ابن مسعود رضي الله عنه قبل روايته وسر به لما وافق قضاءه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي رضي الله عنه رده فقال: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه حسبها الميراث لا مهر لها.
فلما اختلفوا فيه في الصدر الاول أخذنا بروايته، لان الفقهاء من القرن الثاني كعلقمة ومسروق والحسن ونافع بن جبير قبلوا روايته فصار معدلا بقبول الفقهاء روايته.
وكذلك أبو الجراح صاحب راية الاشجعيين صدقه في هذه الرواية.
وكأن عليا رضي الله عنه إنما لم يقبل روايته لانه كان مخالفا للقياس عنده، وابن مسعود رضي الله عنه قبل روايته لانه كان موافقا للقياس عنده.
فتبين بهذا أن رواية مثل هذا فيما يوافق القياس يكون مقبولا ثم العمل يكون بالرواية.
وأما إذا ردوا عليه روايته ولم يختلفوا في ذلك فإنه لا يجوز العمل بروايته، لانهم كانوا لا يتهمون برد الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بترك العمل به وترجيح الرأي بخلافه عليه، فاتفاقهم على الرد دليل على أنهم كذبوه في هذه الرواية وعلموا أن ذلك وهم منه.
ولو قال الراوي أوهمت لم يعمل بروايته، فإذا ظهر دليل ذلك ممن هو فوقه أولى.
وبيان هذا في حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر رضي الله عنه قال: لا ندع
كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت.
قال عيسى

بن أبان رحمه الله مراده من الكتاب والسنة القياس الصحيح، فإن ثبوته بالكتاب والسنة وهو قياس الشبه في اعتبار النفقة بالسكنى من حيث إن كل واحد منهما حق مالي مستحق بالنكاح.
فإن قيل: هذا إشارة إلى غير ما أشار إليه عمر، فإنه لم يقل لا نقبل حديثها لعلمنا أنها أوهمت، ولكن قال: لا ندع كتاب ربنا لانا لا ندري أصدقت أم كذبت.
قلنا: في قوله لا ندري إشارة إلى هذا المعنى، فإن قبول الرواية والعمل به يبتني على ظهور رجحان جانب الصدق وهو بين أنه لم يظهر رجحان جانب الصدق في روايتها، والرأي يدل على خلاف روايتها فنترك روايتها ونعمل بالقياس الصحيح، وفي المعنى لا فرق بين هذا وبين قوله لا نقبل روايتها، بمنزلة القاضي يرد شهادة الفاسق بقوله ائت بشاهد آخر ائت بحجة.
ومن هذا النحو حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه في القسامة: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ وحديث بسرة رضي الله عنها: من مس ذكره فليتوضأ وحديث أبي هريرة: من أصبح جنبا فلا صوم له وأما ما لم يشتهر عندهم ولم يعارضوه بالرد فإن العمل به لا يجب ولكن يجوز العمل به إذا وافق القياس، لان من كل من الصدر الاول فالعدالة ثابتة له باعتبار الظاهر، لانه في زمان الغالب من أهله العدول على ما قال عليه السلام: خير الناس قرني الذي أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فباعتبار الظاهر يترجح جانب الصدق في خبره، وباعتبار أنه لم تشتهر روايته في السلف يتمكن تهمة الوهم فيه فيجوز العمل به إذا وافق القياس على وجه حسن الظن به ولكن لا يجب العمل به، لان الوجوب شرعا لا يثبت بمثل هذا الطريق الضعيف، ولهذا جوز أبو حنيفة القضاء بشهادة المستور، ولم يوجب على القاضي القضاء، لانه
كان في القرن الثالث والغالب على أهله الصدق، فأما في زماننا رواية مثل هذا لا يكون مقبولا، ولا يصح العمل به ما لم يتأيد بقبول العدول روايته، لان الفسق

غلب على أهل هذا الزمان، ولهذا لم يجوز أبو يوسف ومحمد القضاء بشهادة المستور قبل ظهور عدالته.
فصار الحاصل أن الحكم في رواية المشهور الذي لم يعرف بالفقه وجوب العمل وحمل روايته على الصدق إلا أن يمنع منه مانع وهو أن يكون مخالفا للقياس وأن الحكم في رواية المجهول أنه لا يكون حجة للعمل إلا أن يتأيد بمؤيد وهو قبول السلف أو بعضهم روايته، والله أعلم.
فصل: في بيان شرائط الراوي حدا وتفسيرا وحكما قال رضي الله عنه: اعلم بأن هذه الشرائط أربعة: العقل، والضبط، والعدالة، والاسلام.
أما اشتراط العقل: فلان الخبر الذي يرويه كلام منظوم له معنى معلوم، ولا بد من اشتراط العقل في المتكلم من العباد ليكون قوله كلاما معتبرا، فالكلام المعتبر شرعا ما يكون عن تمييز وبيان، لا عن تلقين وهذيان، ألا ترى أن من الطيور من يسمع منه حروف منظومة ويسمى ذلك لحنا لا كلاما، وكذلك إذا سمع من إنسان صوته بحروف منظومة لا يدل على معنى معلوم لا يسمى ذلك كلاما، فعرفنا أن معنى الكلام في الشاهد ما يكون مميزا بين أسماء الاعلام، فما لا يكون بهذه الصفة يكون كلاما صورة لا معنى، بمنزلة ما لو صنع من خشب صورة آدمي لا يكون آدميا لانعدام معنى الآدمي فيه.
ثم التمييز الذي به يتم الكلام بصورته ومعناه لا يكون إلا بعد وجود العقل، فكان العقل شرطا في المخبر، لان خبره أحد أنواع الكلام فلا يكون معتبرا إلا باعتبار عقله.
وأما الضبط: فلان قبول الخبر باعتبار معنى الصدق فيه ولا يتحقق ذلك
إلا بحسن ضبط الراوي من حين يسمع إلى حين يروي.
فكان الضبط لما هو معنى هذا النوع من الكلام بمنزلة العقل الذي به يصح أصل الكلام شرعا.
وأما العدالة: فلان الكلام في خبر من هو غير معصوم عن الكذب فلا تكون جهة الصدق متعينا في خبره لعينه، وإنما يترجح جانب الصدق بظهور عدالته، لان

الكذب محظور عقله فنستدل بانزجاره عن سائر ما نعتقده محظورا على انزجاره عن الكذب الذي نعتقده محظورا، أو لما كان منزجرا عن الكذب في أمور الدنيا فذلك دليل انزجاره عن الكذب في أمور الدين وأحكام الشرع بالطريق الاولى، فأما إذا لم يكن عدلا في تعاطيه فاعتبار جانب تعاطيه يرجح معنى الكذب في خبره، لانه لما لم يبال من ارتكاب سائر المحظورات مع اعتقاده حرمته، فالظاهر أنه لا يبالي من الكذب مع اعتقاده حرمته، واعتبار جانب اعتقاده يدل على الصدق في خبره فتقع المعارضة ويجب التوقف، وإذا كان ترجيح جانب الصدق باعتبار عدالته وبه يصير الخبر حجة للعمل شرعا، فعرفنا أن العدالة في الراوي شرط لكون خبره حجة.
فأما اشتراط الاسلام: لانتفاء تهمة الكذب لا باعتبار نقصان حال المخبر بل باعتبار زيادة شئ فيه يدل على كذبه في خبره، وذلك لان الكلام في الاخبار التي يثبت بها أحكام الشرع، وهم يعادوننا في أصل الدين بغير حق على وجه هو نهاية في العداوة فيحملهم ذلك على السعي في هدم أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه، وإليه أشار الله تعالى في قوله: (لا يألونكم خبالا) أي لا يقصرون في الافساد عليكم، وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان، فإنهم كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته من كتابه بعدما أخذ عليهم الميثاق بإظهار ذلك فلا يؤمنون من أن يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية، بل هذا هو الظاهر، فلاجل هذا شرطنا الاسلام في الراوي لكون خبره
حجة، ولهذا لم تجوز شهادتهم على المسلمين، لان العداوة ربما تحملهم على القصد للاضرار بالمسلمين بشهادة الزور، كما لا تقبل شهادة ذي الضغن لظهور عداوته بسبب الباطن، وقبلنا شهادة بعضهم على بعض لانعدام هذا المعنى الباعث على الكذب فيما بينهم.
وبهذا تبين أن رد خبره ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في خبره، بمنزلة شهادة الاب للولد فإنها لا تكون مقبولة لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته وهو شفقة الابوة وميله إلى ولده طبعا.
وأما بيان حد هذه الشروط وتفسيرها فنقول: العقل نور في الصدر به يبصر

القلب عند النظر في الحجج بمنزلة السراج، فإنه نور تبصر العين به عند النظر فترى ما يدرك بالحواس لا أن السراج يوجب رؤية ذلك ولكنه يدل العين عند النظر عليه، فكذلك نور الصدر الذي هو العقل يدل القلب على معرفة ما هو غائب عن الحواس من غير أن يكون موجبا لذلك، بل القلب يدرك (بالعقل) ذلك بتوفيق الله تعالى، وهو في الحاصل عبارة عن الاختيار الذي يبتنى عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة، ولهذا لا يعتبر من البهائم لخلوه عن هذا المعنى، والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الانسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة، وهذا لان العقل لا يكون موجودا في الآدمي باعتبار أصله ولكنه خلق من خلق الله تعالى يحدث شيئا فشيئا، ثم يتعذر الوقوف على وجود كل جزء منه بحسب ما يمضي من الزمان على الصبي إلى أن يبلغ صفة الكمال، فجعل الشرع الحد لمعرفة كمال العقل هو البلوغ تيسيرا للامر علينا، لان اعتدال الحال عند ذلك يكون عادة والله تعالى هو العالم حقيقة بما يحدثه من ذلك
في كل أحد من عباده من نقصان أو كمال، ولكن لا طريق لنا إلى الوقوف على حد ذلك، فقام السبب الظاهر في حقنا مقام المطلوب حقيقة تيسيرا، وهو البلوغ مع انعدام الآفة، ثم يسقط اعتبار ما يوجد من العقل للصبي قبل هذا الحد شرعا لدفع الضرر عنه لا للاضرار به، فإن الصبا سبب للنظر له، ولهذا لم يعتبر فيما يتردد بين المنفعة والمضرة ويعتبر فيما يتمخض منفعة له.
ثم خبره في أحكام الشرع لا يكون حجة للالزام دفعا لضرر العهدة عنه، كما لا يجعل وليا في تصرفاته في أمور الدنيا دفعا لضرر العهدة عنه، ولهذا صح سماعه وتحمله للشهادة قبل البلوغ إذا كان مميزا، فقد كان في الصحابة من سمع في حالة الصغر وروى بعد البلوغ وكانت روايته مقبولة، لانه ليس في ذلك من معنى ضرر لزوم العهدة شئ، وإنما يكون ذلك في الاداء فيشترط لفسخه أدائه على وجه يكون حجة كونه عاقلا مطلقا.
ولا يحصل ذلك إلا

باعتدال حاله ظاهرا كما بينا.
وصار الحاصل أن العاقل نوعان: من يصيب بعض العقل على وجه يتمكن من التمييز به بين ما يضره وما ينفعه ولكنه ناقص في نفسه كالصبي قبل البلوغ والمعتوه الذي يعقل، وعاقل هو كامل العقل وهو البالغ الذي لا آفة به، فإن بالآفة يستدل تارة على انعدام العقل بعد البلوغ كالمجنون، وتارة على نقصان العقل كما في حق المعتوه، فإذا انعدمت الآفة كان اعتدال الظاهر بالبلوغ دليلا على كمال العقل الذي هو الباطن، والمطلق من كل شئ يتناول الكامل منه، فاشتراط العقل لصحة خبره على وجه يكون حجة دليل على أنه يشترط كمال العقل في ذلك.
فأما الضبط: فهو عبارة عن الاخذ بالجزم، وتمامه في الاخبار أن يسمع حق السماع، ثم يفهم المعنى الذي أريد به، ثم يحفظ ذلك (بجهده، ثم يثبت على ذلك) بمحافظة حدوده ومراعاة حقوقه بتكراره إلى أن يؤدي إلى غيره، لان بدون السماع لا يتصور الفهم، وبعد السماع إذا لم يفهم معنى الكلام لم يكن ذلك سماعا مطلقا بل
يكون ذلك سماع صوت لا سماع كلام هو خبر، وبعد فهم المعنى يتم التحمل وذلك يلزمه الاداء كما تحمل، ولا يتأتى ذلك إلا بحفظه والثبات على ذلك إلى أن يؤدي.
ثم الاداء إنما يكون مقبولا منه باعتبار معنى الصدق فيه وذلك لا يتأتى إلا بهذا، ولهذا لم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أداء الشهادة لمن عرف خطه في الصك ولا يتذكر الحادثة لانه غير ضابط لما تحمل وبدون الضبط لا يجوز له أداء الشهادة.
ثم الضبط نوعان: ظاهر، وباطن.
فالظاهر منه بمعرفة صيغة المسموع والوقوف على معناه لغة، والباطن منه بالوقوف على معنى الصيغة فيما يبتنى عليه أحكام الشرع وهو الفقه، وذلك لا يتأتى إلا بالتجربة والتأمل بعد معرفة معاني اللغة وأصول أحكام الشرع، ولهذا لم تقبل رواية من اشتدت غفلته إما خلقة أو مسامحة ومجازفة، لان الضبط ظاهرا لا يتم منه عادة، وما يكون شرطا يراعي وجوده بصفة الكمال، ولهذا لم يثبت السلف المعارضة بين رواية من لم يعرف بالفقه ورواية من عرف بالفقه لانعدام الضبط باطنا ممن لم يعرف بالفقه، على ما يروى عن عمرو بن دينار أن جابر بن زيد أبا الشعثاء، روى له عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم

تزوج ميمونة وهو محرم، قال عمرو فقلت لجابر: إن ابن شهاب أخبرني عن يزيد بن الاصم أن النبي عليه السلام تزوجها وهو حلال.
فقال: إنها كانت خالة ابن عباس وهو أعلم بحالها.
فقلت: وقد كانت خالة يزيد بن الاصم أيضا.
فقال: أنى يجعل يزيد بن الاصم بوال على عقبه إلى ابن عباس ! فدل أن رواية غير الفقيه لا تكون معارضة لرواية الفقيه، وهذا الترجيح ليس إلا باعتبار تمام الضبط من الفقيه، وكأن المعنى فيه أن نقل الخبر بالمعنى كان مشهورا فيهم، فمن لا يكون معروفا بالفقه ربما يقصر في أداء المعنى بلفظه بناء على فهمه، ويؤمن مثل ذلك من الفقيه، ولهذا قلنا إن المحافظة على اللفظ في زماننا أولى من الرواية بالمعنى لتفاوت ظاهر بين
الناس في فهم المعنى.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا ونقل القرآن صحيح ممن لا يفهم معناه ؟ قلنا: أصل النقل في القرآن من أئمة الهدى الذين كانوا خير الورى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما نقلوا بعد تمام الضبط، ثم من بعدهم إنما ينقل بعد جهد شديد يكون منه في التعلم والحفظ واستدامة القراءة، ولو وجد مثل ذلك في الخبر لكنا نجوز نقله أيضا، مع أن الله تعالى وعد حفظ القرآن عن تحريف المبطلين بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وبهذا النص عرفنا انقطاع طمع الملحدين عن القرآن فصححنا النقل فيه ممن يكون ضابطا له ظاهرا وإن كان لا يعرف معناه، ومثل ذلك لا يوجد في الاخبار فكان تمام الضبط فيها بما قلنا.
مع أن هناك يتعلق بالنظم أحكام: منها حرمة القراءة على الجنب والحائض، وجواز الصلاة بها في قول بعض العلماء، وكون النظم معجزا.
فأما في الاخبار المعتبر هو المعنى المراد بالكلام، فتمام الضبط إنما يكون بالوقوف على ما هو المراد، ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا تجوز الشهادة على الكتاب والختم إذا لم يعرف الشاهد ما في باطن الكتاب، لان الضبط في الشهادة شرط للاداء

والمقصود ما في باطن الكتاب لا عين الكتاب فلا يتم ضبطه إلا بمعرفة ذلك، ولهذا استحب المتقدمون من السلف تقليل الرواية، ومن كان أكرمهم وأدوم صحبة وهو الصديق رضي الله عنه كان أقلهم رواية، حتى روي عنه أنه قال: إذا سئلتم عن شئ فلا ترووا ولكن ردوا الناس إلى كتاب الله تعالى.
وقال عمر رضي الله عنه: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.
ولما قيل ل زيد بن أرقم ألا تروي لنا عن رسول الله عليه السلام شيئا فقال: قد كبرنا ونسينا والرواية عن رسول الله شديد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات ! فقد جمع أهل الحديث في هذا الباب آثارا كثيرة ولاجلها قلت رواية أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال بعض الطاعنين إنه كان لا يعرف الحديث.
ولم يكن على ما ظن، بل كان أعلم أهل عصره بالحديث، ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلت روايته.
وبيان هذا أن الانسان قد ينتهي إلى مجلس وقد مضى صدر من الكلام فيخفي على المتكلم حاله لتوقفه على ما مضى من كلامه مما يكون بعده بناء عليه، فقلما يتم ضبط هذا السامع لمعنى ما يسمع بعد ما فاته أول الكلام، ولا يجد في تأمل ذلك أيضا، لانه لا يرى نفسه أهلا بأن يؤخذ الدين عنه، ثم يكون من قضاء الله تعالى أن يصير صدرا يرجع إليه في معرفة أحكام الدين، فإذا لم يتم ضبطه في الابتداء لم ينبغ له أن يجازف في الرواية، وإنما ينبغي أن يشتغل بما وجد منه الجهد التام في ضبطه فيستدل بكثرة الرواية ممن كان حاله في الابتداء بهذه الصفة على قلة المبالاة، ولهذا ذم السلف الصالح كثرة الرواية، وهذا معنى معتبر في الروايات والشهادات جميعا، ألا ترى أن من اشتهر في الناس بخصلة دالة على قلة المبالاة من قضاء الحاجة بمرأى العين من الناس أو الاكل في الاسواق يتوقف في شهادته.
فهذا بيان تفسير الضبط.
وأما العدالة: فهي الاستقامة.
يقال: فلان عادل إذا كان مستقيم السيرة في الانصاف والحكم بالحق.
وطريق عادل، سمي به الجادة، وضده الجور.
ومنه يقال: طريق جائر إذا كان من البنيات.
ثم العدالة نوعان: ظاهرة، وباطنة.
فالظاهرة

تثبت بالدين والعقل على معنى أن من أصابها فهو عدل ظاهرا، لانهما يحملانه على الاستقامة ويدعوانه إلى ذلك.
والباطنة لا تعرف إلا بالنظر في معاملات المرء، ولا يمكن الوقوف على نهاية ذلك لتفاوت بين الناس فيهما، ولكن كل من كان ممتنعا من ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه فهو على طريق الاستقامة في حدود الدين.
وعلى هذه العدالة نبني حكم رواية الخبر في كونه حجة، لان ما تثبت به العدالة الظاهرة بعارضة هوى النفس والشهوة الذي تصده عن الثبات على طريق الاستقامة، فإن الهوى أصل فيه سابق على إصابة العقل، ولا يزايله بعدما رزق العقل، وبعدما اجتمعا فيه يكون عدلا من وجه دون وجه، فيكون حاله كحال الصبي العاقل والمعتوه الذي يعقل من جملة العقلاء، وقد بينا أن المطلق يقتضي الكامل، فعرفنا أن العدل مطلقا من يترجح أمر دينه على هواه، ويكون ممتنعا بقوة الدين عما يعتقد الحرمة فيه من الشهوات، ولهذا قال في كتاب الشهادات: إن من ارتكب كبيرة فإنه لا يكون عدلا في الشهادة، وفيما دون الكبيرة من المعاصي إن أصر على ارتكاب شئ لم يكن مقبول الشهادة.
وكان ينبغي أن لا يكون مقبول الشهادة أصر أو لم يصر، لانه فاسق بخروجه عن الحد المحدود له شرعا، والفاسق لا يكون عدلا في الشهادة، إلا أن في القول بهذا سد الباب أصلا فغير المعصوم لا يتحقق منه التحرز عن الزلات أجمع، لان لله تعالى على العباد في كل لحظة أمرا ونهيا يتعذر عليهم القيام بحقهما، ولكن التحرز عن الاصرار بالندم والرجوع عنه غير متعذر، والحرج مدفوع، وليس في التحرز عن ارتكاب الكبائر الموجبة للحد معنى الحرج، فلهذا بنينا حكم العدالة على التحرز المتأتي عما يعتقد الحرمة فيه، ولهذا قلنا صاحب الهوى إذا كان ممتنعا عما يعتقد الحرمة فيه فهو مقبول الشهادة وإن كان فاسقا في اعتقاده ضالا، لانه بسبب الغلو في طلب الحجة والتعمق في اتباعه أخطأ الطريق فضل عن سواء السبيل، وشدة اتباع الحجة لا تمكن تهمة الكذب في شهادته وإن أخطأ الطريق، وكذلك الكافر من أهل الشهادة إذا كان عدلا في تعاطيه بأن كان منزجرا عما يعتقد الحرمة فيه، إلا أنه غير مقبول الشهادة على المسلمين

لاجل عداوة ظاهرة تحمله على التقول عليه، وهي عداوة بسبب باطل فتكون مبطلة
للشهادة، ولهذا قلنا: الرق والانوثة والعمى لا تقدح في العدالة أصلا وإن كانت تمنع من قبول الشهادة أو تمكن نقصانا فيها، لانه لا تأثير لهذه المعاني في الحمل على ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه والعدالة تبتنى على ذلك، ولهذا لم يجعل الفاسق والمستور عدلا مطلقا في حكم الشهادة حتى لا يجوز القضاء بشهادة الفاسق وإن كان لو قضى به القاضي نفذ، ولا يجب القضاء بشهادة المستور قبل ظهور حاله.
وقال الشافعي رحمه الله: ولما لم يكن خبر الفاسق والمستور حجة فخبر المجهول أحرى أن لا يكون حجة.
وقلنا نحن: المجهول من القرون الثلاثة عدل بتعديل صاحب الشرع إياه ما لم يتبين منه ما يزيل عدالته، فيكون خبره حجة على الوجه الذي قررنا.
وأما الاسلام: فهو عبارة عن شريعتنا، وهو نوعان أيضا: ظاهر، وباطن فالظاهر يكون بالميلاد بين المسلمين والنشوء على طريقتها شهادة وعبادة.
والباطن يكون بالتصديق والاقرار بالله كما هو بصفاته وأسمائه والاقرار بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله تعالى وقبول أحكامه وشرائعه.
فمن استوصف فوصف ذلك كله فهو مسلم حقيقة، وكذلك إن كان معتقدا لذلك كله.
فقبل أن يستوصف هو مؤمن فيما بينه وبين ربه حقيقة.
وقال في الجامع الكبير: إذا بلغت المرأة فاستوصفت الاسلام فلم تصف فإنها تبين من زوجها.
وقد كنا حكمنا بصحة النكاح بظاهر إسلامها ثم يحكم بفساد النكاح حين لم تحسن أن تصف وجعل ذلك ردة منها.
وقد استقصى بعض مشايخنا في هذا فقالوا: ذكر الوصف على سبيل الاجمال لا يكفي ما لم يكن عالما بحقيقة ما يذكر، لان حفظ الفقه غير حفظ المعنى، ألا ترى أن من يذكر أن محمدا رسول الله ولا يعرف من هو لا يكون مؤمنا به، فإن النصارى يزعمون أنهم يؤمنون بعيسى وعندهم أنه ولد الله فلا يكون ذلك منهم معرفة لعيسى الذي هو عبد الله ورسوله.
ولكنا نقول: في المصير إلى هذا الاستقصاء حرج بين، فالناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا ظاهرا، وأكثرهم لا يقدرون على بيان تفسير
صفات الله تعالى وأسمائه على الحقيقة، ولكن ذكر الاوصاف على الاجمال يكفي

لثبوت الايمان حقيقة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن الناس بذلك حتى قال للاعرابي الذي شهد برؤية الهلال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ فقال: نعم.
فقال: الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم ولما سأله جبريل عن الايمان والاسلام لاجل تعليم الناس معالم الدين بين ذلك على سبيل الاجمال.
وكتاب الله يشهد بذلك، قال تعالى: (فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن) وقد كان هذا الامتحان من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالاستيصاف على الاجمال، وهذا لان المطلق عند الاستيصاف يكون محمولا على الكامل كما هو الاصل، وقد يعجز المرء عن إظهار ما يعتقده بعبارته فينبغي أن يكون الاستيصاف بذكر ذلك على وجه استفهام المخاطب أنه هل يعتقد كذا وكذا، فإذا قال نعم كان مؤمنا حقيقة، وإن كان قال لا أعرف ما تقول أو لا أعتقد ذلك فحينئذ يحكم بكفره، وكذلك من ظهر منه أمارات المعرفة نحو أداء الصلاة بالجماعة مع المسلمين، فإن ذلك يقوم مقام الوصف في الحكم بإيمانه مطلقا، قال عليه السلام: إذا رأيتم الرجل يعتاد الجماعات فاشهدوا له بالايمان ولا يختلف ما ذكرنا بالرق والحرية والذكورة والانوثة والعمى والبصر، فلهذا جعلنا خبر هؤلاء في كونه حجة في الاحكام الشرعية بصفة واحدة، لان الشرائط التي يبتنى عليها وجوب قبول الخبر يتحقق في الكل.
أما العبد فلا شك في استجماع هذه الشرائط فيه وإن لم يكن من أهل الشهادة لان الاهلية للشهادة تبتنى على الاهلية للولاية على الغير والرق ينفي هذه الولاية، وهذا لان الشهادة تنفيذ القول على الغير وذلك ينعدم في الخبر من وجهين: أحدهما أن المخبر لا يلزم أحدا شيئا ولكن السامع إنما يلتزم باعتقاده أن المخبر عنه مفترض الطاعة (فإذا ترجح جانب الصدق في خبر المخبر ضاهى ذلك المسموع
ممن هو مفترض الطاعة) في اعتقاده فيلزمه العمل باعتبار اعتقاده، كالقاضي يلزمه القضاء بالشهادة بتقلده هذه الامانة لا بإلزام الشاهد إياه، فإن كلام الشاهد يلزم المشهود عليه دون القاضي.
وبيان هذا أن قوله عليه السلام: لا صلاة إلا بقراءة ليس في ظاهره إلزام أحد شيئا بل بيان صفة تتأدى به الصلاة إذا أرادها، بمنزلة قول

القائل لا خياطة إلا بالابرة.
والثاني أن المخبر يلتزم أولا ثم يتعدى حكم اللزوم إلى غيره من السامعين، فأما الشاهد فإنه يلزم غيره ابتداء، ولهذا جعلنا العبد بمنزلة الحر في الشهادة التي يكون فيها التزام على الوجه الذي يكون في الخبر وهو الشهادة على رؤية هلال رمضان.
ثم قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك فدل أنه كان يعتمد خبره بأن مولاه أذن له.
وسلمان رضي الله عنه حين كان عبدا أتاه بصدقة فاعتمد خبره وأمر أصحابه بالاكل، ثم أتاه بهدية فاعتمد خبره وأكل منه.
وكان يعتمد خبر بريرة رضي الله عنها قبل أن تعتق وبعد عتقها، فدل أن المملوك في حكم قبول الخبر كالحر وأن الانثى في ذلك كالذكر وإن تفاوتا في حكم الشهادة، لانه يشترط العدد في النساء لثبوت معنى الشهادة، وفي باب الخبر العدد ليس بشرط فكما فارق الشهادة الخبر في اشتراط أصل العدد فكذلك في اشتراط العدد في النساء، ألا ترى أن الصحابة كانوا يرجعون إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يشكل عليهم من أمر الدين فيعتمدون خبرهن.
وقال رسول الله عليه السلام تأخذون ثلثي دينكم من عائشة وأما العمى فإنه لا يؤثر في الخبر لانه لا يقدح في العدالة، ألا ترى أنه قد كان في الرسل من ابتلي بذلك كشعيب ويعقوب، وكان في الصحابة من ابتلي به كابن أم مكتوم وعتبان بن مالك رضي الله عنهما، وفيهم من كف بصره كابن عباس وابن عمر وجابر وواثلة بن الاسقع رضي الله عنهم، والاخبار المروية عنهم مقبولة، ولم
يشتغل أحد بطلب التاريخ في ذلك أنهم رووا في حالة البصر أم بعد العمى، وهذا بخلاف الشهادة فإن شهادتهم إنما لا تقبل لحاجة الشاهد إلى تمييز بين المشهود له والمشهود عليه عند الاداء وهذا التمييز من البصير يكون بالمعاينة، ومن الاعمى بالاستدلال وبينهما تفاوت يمكن التحرز عنه في جنس الشهود، وفي رواية الخبر لا حاجة إلى هذا التمييز فكان الاعمى والبصير فيه سواء والمحدود في القذف بعد التوبة في رواية الخبر كغيره في ظاهر المذهب، فإن أبا بكرة رضي الله عنه مقبول الخبر ولم يشتغل أحد بطلب التاريخ في خبره أنه روى بعدما أقيم عليه الحد أم قبله، بخلاف

الشهادة فإن رد شهادته من تمام حده ثبت ذلك بالنص، ورواية الخبر ليست في معنى الشهادة، ألا ترى أنه لا شهادة للنساء في الحدود أصلا، وروايتهن في باب الحدود كرواية الرجال، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه لا يكون المحدود في القذف مقبول الرواية لانه محكوم بكذبه بالنص، قال تعالى: (فأولئك عند الله هم الكاذبون) والمحكوم بالكذب فيما يرجع إلى التعاطي لا يكون عدلا، ومن شرط كون الخبر حجة العدالة مطلقا كما بينا.
فصل: في بيان ضبط المتن والنقل بالمعنى قال بعض أهل الحديث: مراعاة اللفظ في الرواية واجب على وجه لا يجوز النقل بالمعنى من غير مراعاة اللفظ بحال، وذلك منقول عن ابن سيرين.
قال بعض أهل النظر: قول الصحابي على سبيل الحكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله لا يكون حجة بل يجب طلب لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الباب حتى يصح الاحتجاج به، وهذا قول مهجور.
وقال جمهور العلماء مراعاة اللفظ في النقل أولى، ويجوز النقل بالمعنى بعد حسن الضبط على تفصيل نذكره في آخر الفصل.
وقد نقل ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي.
فأما من لم يجوز ذلك استدل
بقوله عليه السلام: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فقد أمر بمراعاة اللفظ في النقل، وبين المعنى فيه وهو تفاوت الناس في الفقه والفهم، واعتبار هذا المعنى يوجب الحجر عاما عن تبديل اللفظ بلفظ آخر، وهذا لان النبي صلى الله عليه وسلم أوتي من جوامع الكلم والفصاحة في البيان ما هو نهاية لا يدركه فيه غيره، ففي التبديل بعبارة أخرى لا يؤمن التحريف أو الزيادة والنقصان فيما كان مرادا له.
وحجتنا في ذلك ما اشتهر من قول الصحابة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا، ولا يمتنع أحد من قبول ذلك إلا من هو متعنت.
وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا روى حديثا قال: نحو هذا أو قريبا منه

أو كلاما هذا معناه، وكان أنس رضي الله عنه إذا روى حديثا قال في آخره أو كما قال رسول الله عليه السلام، فدل أن النقل بالمعنى كان مشهورا فيهم، وكذلك العلماء بعدهم يذكرون في تصانيفهم: بلغنا نحوا من ذلك.
وهذا لان نظم الحديث ليس بمعجز والمطلوب منه ما يتعلق بمعناه وهو الحكم من غير أن يكون له تعلق بصورة النظم، وقد علمنا أن الامر بالتبليغ لما هو المقصود به فإذا كمل ذلك بالنقل بالمعنى كان ممتثلا لما أمر به من النقل لا مرتكبا للحرام، وإنما يعتبر النظم في نقل القرآن لانه معجز مع أنه قد ثبت أيضا فيه نوع رخصة ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أشار إليه في قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف إلا أن في ذلك رخصة من حيث الاسقاط، وهذا من حيث التخفيف والتيسير، ومعنى الرخصة يتحقق بالطريقين كما تقدم بيانه.
إذا عرفنا هذا فنقول: الخبر إما أن يكون محكما له معنى واحد معلوم بظاهر المتن، أو يكون ظاهرا معلوم المعنى بظاهره على احتمال شئ آخر كالعام الذي يحتمل
الخصوص والحقيقة التي تحتمل المجاز، أو يكون مشكلا، أو يكون مشتركا يعرف المراد بالتأويل، أو يكون مجملا لا يعرف المراد به إلا ببيان، أو يكون متشابها، أو يكون من جوامع الكلم.
فأما المحكم يجوز نقله بالمعنى لكل من كان عالما بوجوه اللغة، لان المراد به معلوم حقيقة، وإذا كساه العالم باللغة عبارة أخرى لا يتمكن فيه تهمة الزيادة والنقصان.
فأما الظاهر فلا يجوز نقله بالمعنى إلا لمن جمع إلى العلم باللغة العلم بفقه الشريعة، لانه إذا لم يكن عالما بذلك لم يؤمن إذا كساه عبارة أخرى أن لا تكون تلك العبارة في احتمال الخصوص والمجاز مثل العبارة الاولى، وإن كان ذلك هو المراد به، ولعل العبارة التي يروي بها تكون أعم من تلك العبارة لجهله بالفرق بين الخاص والعام، فإذا كان عالما بفقه الشريعة يقع الامن عن هذا التقصير منه عند تغيير العبارة فيجوز له النقل بالمعنى كما كان يفعله الحسن والنخعي والشعبي رحمهم الله.

فأما المشكل والمشترك لا يجوز فيهما النقل بالمعنى أصلا، لان المراد بهما لا يعرف إلا بالتأويل، والتأويل يكون بنوع من الرأي كالقياس فلا يكون حجة على غيره.
وأما المجمل فلا يتصور فيه النقل بالمعنى لانه لا يوقف على المعنى فيه إلا بدليل آخر، والمتشابه كذلك لانا ابتلينا بالكف عن طلب المعنى فيه فكيف يتصور نقله بالمعنى.
وأما ما يكون من جوامع الكلم كقوله عليه السلام: الخراج بالضمان وقوله عليه السلام: العجماء جبار وما أشبه ذلك فقد جوز بعض مشايخنا نقله بالمعنى على الشرط الذي ذكرنا في الظاهر.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه لا يجوز ذلك لان النبي عليه السلام كان مخصوصا بهذا النظم على ما روي أنه قال: أوتيت جوامع الكلم أي خصصت بذلك فلا يقدر أحد بعده على ما كان هو مخصوصا به،
ولكن كل مكلف بما في وسعه، وفي وسعه نقل ذلك اللفظ ليكون مؤديا إلى غيره ما سمعه منه بيقين، وإذا نقله إلى عبارته لم يؤمن القصور في المعنى المطلوب به ويتيقن بالقصور في النظم الذي هو من جوامع الكلم، وكان هذا النوع هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ثم أداها كما سمعها.
فصل: في بيان الضبط بالكتابة والخط قال رضي الله عنه: اعلم بأن الكتابة نوعان: تذكرة، وإمام.
فالتذكرة هو أن ينظر في المكتوب فيتذكر به ما كان مسموعا له، والنقل بهذا الطريق جائز سواء كان مكتوبا بخطه أو بخط غيره، وذلك الخط معروف أو مجهول، لانه إنما ينقل ما يحفظ غير أن النظر في الكتاب كان مذكرا له فلا يكون دون التفكر، ولو تفكر فتذكر جاز له أن يروي ويكون خبره حجة فكذلك إذا نظر في الكتاب فتذكر، ولهذا المقصود ندب إلى الكتاب على ما جاء في الحديث: قيدوا العلم بالكتاب وقال إبراهيم: كانوا يأخذون العلم حفظا ثم أبيح لهم الكتابة لما حدث بهم من الكسل، ولان النسيان مركب في الانسان لا يمكنه أن يحفظ نفسه منه إلا ما كان خاصا لرسول الله عليه السلام بقوله: سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء

الله ولهذا الاستثناء وقع لرسول الله عليه السلام تردد في قراءته سورة المؤمنين في صلاة الفجر حتى قال لابي رضي الله عنه: (هلا ذكرتني) فثبت أن النسيان مما لا يستطاع الامتناع منه إلا بحرج بين والحرج مدفوع، وبعد النسيان النظر في الكتاب طريق للتذكر والعود إلى ما كان عليه من الحفظ، وإذا عاد كما كان فالرواية تكون عن ضبط تام.
وأما النوع الثاني فهو أن لا يتذكر عند النظر ولكنه يعتمد الخط، وذلك يكون في فصول ثلاثة: رواية الحديث، والقاضي يجد في خريطته سجلا مخطوطا
بخطه من غير أن يتذكر الحادثة، والشاهد يرى خطه في الصك ولا يتذكر الحادثة.
فأبو حنيفة رحمه الله أخذ في الفصول الثلاثة بما هو العزيمة وقال لا يجوز له أن يعتمد الكتاب ما لم يتذكر، لان النظر في الكتاب لمعرفة القلب كالنظر في المرآة للرؤية بالعين، ثم النظر في المرآة إذا لم تفده إدراكا لا يكون معتبرا، فالنظر في الكتاب إذا لم يفده تذكرا يكون هدرا، وهذا لان الرواية والشهادة وتنفيذ القضاء لا يكون إلا بعلم والخط يشبه الخط فبصورة الخط لا يستفيد علما من غير التذكر، وما كان الفساد في سائر الاديان إلا بالاعتماد على الصور بدون المعنى.
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله أن في السجل ورواية الاثر يجوز له أن يعتمد الخط وإن لم يتذكر به وفي الصك لا يجوز له ذلك.
وروى ابن رستم عن محمد رحمهما الله أن ذلك جائز في الفصول كلها، وما ذهبنا إليه رخصة للتيسير على الناس.
ثم هذه الرخصة تتنوع أنواعا: إما أن يكون الكتاب بخطه، أو بخط رجل معروف ثقة موقع بتوقيعه، أو بخط رجل معروف غير ثقة أو غير موقع، أو بخط مجهول أما أبو يوسف رحمه الله فقال: السجل يكون في خريطة القاضي مختوما بختمه وكان في يده أيضا فباعتبار الظاهر يؤمن فيه التزوير والتبديل بالزيادة والنقصان، والقاضي مأمور باتباع الظاهر في القضاء فله أن يعتمد السجل في ذلك، وكذلك كتاب المحدث إذا كان في يده، وإن لم يكن السجل في يد القاضي فليس له أن يعتمده لان التزوير والتغيير فيه عادة لما يبتنى عليه من المظالم والخصومات، ومثله في كتاب

الحديث ليس بعادة فلا فرق فيه بين أن يكون في يده أو في يد أمين آخر لم يظهر منه خيانة في مثله، وأما الصك فيكون بيد الخصم فلا يقع الامن فيه عن التغيير والتزوير، حتى إذا كان في يد الشاهد كان الجواب فيه مثل الجواب في السجل.
والحاصل أنه بنى هذه الرخصة على ما يوقع الامن عن التغيير والتعديل عادة، ومحمد رحمه الله أثبت
الرخصة في الصك أيضا وإن لم يكن في يده إذا علم أن المكتوب خطه على وجه لا يبقى فيه شبهة له، لان الباقي بعد ذلك توهم التغيير وله أثر بين يوقف عليه، فإذا لم يظهر ذلك فيه جاز اعتماده، فأما إذا وجد الكتاب بخط بين وهو معلوم عنده أو بخط رجل معروف موثق به فإنه يجوز له أن يقول وجدت بخط فلان كذا لا يزيد على ذلك، ثم إن كان ذلك الخط منفردا ليس معه شئ آخر فإنه لا يكون حجة، وإن كان معه غيره فذلك يوقع الامن عن التزوير بطريق العادة فيجوز اعتماده على وجه الرخصة (وهذا في الاخبار خاصة) فأما في الشهادة والقضاء فلا، لان ذلك من مظالم العباد يعتبر فيه من الاستقصاء ما لا يعتبر في رواية الاخبار واشتراط العلم فيه منصوص عليه، قال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) وقال عليه السلام للشاهد: إذا رأيت مثل هذا الشمس فاشهد وإلا فدع.
فصل: في بيان وجوه الانقطاع قال رضي الله عنه: اعلم بأن الانقطاع نوعان: انقطاع صورة، وانقطاع معنى.
أما صورة الانقطاع صورة ففي المراسيل من الاخبار، ولا خلاف بين العلماء في مراسيل الصحابة رضي الله عنهم أنها حجة، لانهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يروونه عن رسول الله عليه السلام مطلقا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة، وإلى هذا أشار البراء بن عازب رضي الله عنهما بقوله: ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان يحدث بعضنا بعضا، ولكنا لا نكذب.

فأما مراسيل القرن الثاني والثالث حجة في قول علمائنا رحمهم الله.
وقال الشافعي لا يكون حجة إلا إذا تأيد بآية أو سنة مشهورة، أو اشتهر العمل به من السلف، أو اتصل من وجه آخر.
قال: ولهذا جعلت مراسيل سعيد بن المسيب حجة لاني اتبعتها
فوجدتها مسانيد.
احتج في ذلك فقال: الخبر إنما يكون حجة باعتبار أوصاف في الراوي ولا طريق لمعرفة تلك الاوصاف في الراوي إذا كان غير معلوم الاصل، فلا تقوم الحجة بمثل هذه الرواية، وإعلامه بالاشارة إليه في حياته وبذكر اسمه ونسبه بعد وفاته، فإذا لم يذكره أصلا فقد تحقق انقطاع هذا الخبر عن رسول الله، والحجة في الخبر باتصاله برسول الله عليه السلام فبعد الانقطاع لا يكون حجة.
ولا يقال إن رواية العدل عنه تكون تعديلا له وإن لم يذكر اسمه، لان طريق معرفة الجرح والعدالة الاجتهاد، وقد يكون الواحد عدلا عند إنسان، مجروحا عند غيره بأن يقف منه على ما كان الآخر لا يقف عليه، ألا ترى أن شهود الفرع إذا شهدوا على شهادة الاصول من غير ذكرهم في شهادتهم لا تكون شهادتهم حجة لهذا المعنى، يوضحه أنه قد كان فيهم من يروي عمن هو مجروح عنده على ما قال الشعبي رحمه الله: حدثني الحارث وكان والله كذابا.
فعرفنا أن بروايته عنه لا يثبت فيه ما يشترط في الراوي فيكون خبره حجة، ولان الناس تكلفوا بحفظ الاسانيد في باب الاخبار، فلو كانت الحجة تقوم بالمراسيل لكان تكلفهم اشتغالا بما لا يفيد فيبعد أن يقال اجتمع الناس على ما ليس بمفيد.
ولكنا نقول: الدلائل التي دلت على كون خبر الواحد حجة من الكتاب والسنة كلها تدل على كون المرسل من الاخبار حجة.
ثم قد ظهر الارسال من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ظهورا لا ينكره إلا متعنت.
أما من الصحابة فبيانه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح جنبا فلا صوم له ولما أنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها قال هي أعلم حدثني به الفضل بن عباس رضي الله عنهما، فقد أرسل الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع منه، وقيل إن ابن عباس ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بضعة عشر حديثا وقد كثرت روايته مرسلا، وإنما كان ذلك سماعا من غير

رسول الله عليه السلام، حتى روي أن النبي عليه السلام كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر، وإنما سمع ذلك من أخيه الفضل ونعمان بن بشير رضي الله عنهم، ما سمع من رسول الله عليه السلام إلا حديثا واحدا وهو قوله عليه السلام إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده، وإذا فسدت فسد سائر جسده ألا وهي القلب ثم كثرت روايته عن رسول الله عليه السلام مرسلا، والحسن وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما وغيرهما من أئمة التابعين كان كثيرا ما يروون مرسلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل أكثر ما رواه سعيد بن المسيب مرسلا إنما سمعه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال الحسن: كنت إذا اجتمع لي أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالا.
وقال ابن سيرين رضي الله عنه: ما كنا نسند الحديث إلى أن وقعت الفتنة فقال الاعمش: قلت لابراهيم إذا رويت لي حديثا عن عبد الله فأسنده لي، فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو ذاك، وإذا قلت لك قال عبد الله فهو غير واحد، ولهذا قال عيسى بن أبان: المرسل أقوى من المسند فإن من اشتهر عنده حديث (بأن سمعه) بطرق طوى الاسناد لوضوح الطريق عنده وقطع الشهادة بقوله قال رسول الله عليه السلام، وإذا سمعه بطريق واحد لا يتضح الامر عنده على وجه لا يبقى له فيه شبهة فيذكره مسندا على قصد أن يحمله من يحمل عنه.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يجوز النسخ بالمرسل كما يجوز بين الاخبار بالمشهور عندكم.
قلنا: إنما لم يجز ذلك لان قوة المرسل من هذا الوجه بنوع من الاجتهاد فيكون نظير قوة تثبت بطريق القياس والنسخ بمثله لا يجوز.
ثم رواية هؤلاء الكبار مرسلا، أما إن كان باعتبار سماعهم ممن ليس بعدل عندهم أو باعتبار سماعهم من عدل مع اعتقادهم أن ذلك ليس بحجة أو على اعتقادهم أن المرسل حجة كالمسند، والاول باطل فإن من يستجيز الرواية عمن يعرفه غير عدل بهذه الصفة لا يعتمد روايته مرسلا
ولا مسندا، ولا يجوز أن يظن بهم هذا، والثاني باطل لانه قول بأنهم كتموا موضع

الحجة بترك الاسناد مع علمهم أن الحجة لا تقوم بدونه، فتعين الثالث وهو أنهم اعتقدوا أن المرسل حجة كالمسند وكفى باتفاقهم حجة.
وقال الشافعي في بعض كتبه إنما أرسلوا ليطلب ذلك في المسند: وهذا كلام فاسد، لانه إما أن يقال لم يكن عندهم إسناد ذلك أو كان ولم يذكروا، والاول باطل لان فيه قولا بأنهم تخرصوا ما لم يسمعوا ليطلب ذلك في المسموعات ولا يجوز ذلك لمن هو دونهم فكيف بهم ؟ والثاني باطل لانه إذا كان عندهم الاسناد وقد علموا أن الحجة لا تقوم بدونه فليس في تركه إلا القصد إلى إتعاب النفس بالطلب.
ولو قال من أنكر الاحتجاج بخبر الواحد إنهم إنما رووا ذلك ليطلب ذلك في المتواتر لا يكون هذا الكلام مقبولا منه بالاتفاق فكذلك هذا، يقرره أن المفتي إذا قال للمستفتي قضى رسول الله في هذه الحادثة بكذا كان عليه أن يعمل به، وإن لم يذكر له إسنادا فكذلك إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
ولو قال روى فلان عن فلان قبل ذلك منه وإن لم يقل حدثني ولا سمعته منه، وهذا في معنى الارسال.
فإن قال: إنما نجيزه على هذا الوجه عمن لقي فيحمل مطلق كلامه على المسموع منه.
قلنا: لما جاز حمل كلامه على هذا وإن لم ينص عليه لتحسين الظن به فكذلك يجوز حمل كلامه عند الارسال على السماع ممن هو عدل باعتبار الظاهر لتحسين الظن به، وهذا لانه لا طريق لنا إلى معرفة الشرائط للرواية فيمن لم يدركه إلا بالسماع ممن أدركه، وإذا كان من أدركه عدلا ثقة فإنه لا يروي عنه مطلقا ما لم يعرف استجماع الشرائط فيه، فبروايته عنه يثبت لنا استجماع الشرائط، ألا ترى أنه لو أسند الرواية إليه يثبت استجماع الشرائط فيه بروايته عنه فكذلك إذا أرسله بل أولى، لانه إذا أسند إليه فإنما شهد عليه بأنه روى ذلك، فإذا أرسل فإنما يشهد على رسول الله أنه
قال ذلك، ومن علم أنه لا يستجيز الشهادة على غير رسول الله بالباطل فكيف يظن أن يستجيز الشهادة على رسول الله بالباطل مع قوله عليه السلام: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار يوضحه أن القاضي إذا كتب سجلا فيه قضاؤه في حادثة وأشهد على ذلك كان ذلك حجة وإن لم يبين اسم الشهود في المسجل وما كان ذلك إلا بهذا الطريق، وهذا بخلاف الشهود على شهادة الغير، لان العلماء

مختلفون في أن عند الرجوع هل يجب الضمان على شهود الاصل أم لا فلعل القاضي ممن يرى تضمينهم فلا يتمكن من القضاء به إذا لم يكونوا معلومين عنده ومثل هذا لا يتحقق في باب الاخبار مع أن شاهد الفرع ينوب عن شاهد الاصل في نقل شهادته، ألا ترى أنه لو أشهد قوما على شهادته فسمعه آخرون لم يكن لهم أن يشهدوا على شهادته بخلاف رواية الاخبار، وإذا كان الفرعي يعبر عن الاصل بشهادته لم يجد بدا من ذكره ليكون معبرا، ألا ترى أنه لو قال: أشهد عن فلان لم يكن ذلك مقبولا.
وهنا لو قال أروي عن فلان كان مقبولا منه.
ثم اشتغال الناس بالاسناد كاشتغالهم بالتكلف لسماع الحديث من وجوه، وذلك لا يدل على أن خبر الواحد لا يكون حجة، فكذلك اشتغالهم بالاسناد لا يكون دليلا على أن المرسل لا يكون حجة.
فأما مراسيل من بعد القرون الثلاثة فقد كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله لا يفرق بين مراسيل أهل الاعصار، وكان يقول: من تقبل روايته مسندا تقبل روايته مرسلا.
للمعنى الذي ذكرنا.
وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول: من اشتهر في الناس بحمل العلم منه تقبل روايته مرسلا ومسندا.
وإنما يعني به محمد بن الحسن رحمه الله وأمثاله من المشهورين بالعلم، ومن لم يشتهر بحمل الناس العلم منه مطلقا وإنما اشتهر بالرواية عنه فإن مسنده يكون حجة ومرسله يكون موقوفا إلى أن يعرض على من اشتهر بحمل العلم عنه.
وأصح الاقاويل في هذا ما قاله أبو بكر
الرازي رضي الله عنه أن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم يعرف منه الرواية مطلقا عمن ليس بعدل ثقة، ومرسل من كان بعدهم لا يكون حجة إلا من اشتهر بأنه لا يروي إلا عمن هو عدل ثقة لان النبي عليه السلام شهد للقرون الثلاثة بالصدق والخيرية فكانت عدالتهم ثابتة بتلك الشهادة ما لم يتبين خلافهم، وشهد على من بعدهم بالكذب بقوله ثم يفشو الكذب، فلا تثبت عدالة من كان في زمن شهد على أهله بالكذب إلا برواية من كان معلوم العدالة يعلم أنه لا يروي إلا عن عدل.
وإلى نحو هذا أشار عروة بن الزبير رضي الله عنهما حين روى لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحيا أرضا ميتة فهي له فقال: أتشهد به على رسول الله عليه السلام ؟ قال: نعم فما يمنعني من ذلك وقد أخبرني به العدل الرضا.
فقبل عمر بن عبد العزيز روايته.

واختلف أصحاب الحديث في منقطع من وجه متصل من وجه آخر.
فمنهم من قال سقط اعتبار الاتصال فيه بالانقطاع من وجه، وكأن هذا القائل جعل الانقطاع بسكوت راوي الفرع عن تسمية راوي الاصل دليل الجرح فيه، وإذا استوى الموجب للعدالة والموجب للجرح يغلب الجرح، وأكثرهم على أن هذا يكون حجة لوجود الاتصال فيه بطريق واحد والطريق الآخر الذي هو منقطع يجعل كأن لبس، لان ذلك الطريق ساكت عن الراوي وحاله أصلا، وفي الطريق المتصل بيان له ولا معارضة بين الساكت والناطق.
فأما النوع الثاني وهو الانقطاع معنى ينقسم قسمين: إما أن يكون ذلك المعنى بدليل معارض، أو نقصان في حال الراوي يثبت به الانقطاع.
فأما القسم الاول وهو ثبوت الانقطاع بدليل معارض فعلى أربعة أوجه: إما أن يكون مخالفا لكتاب الله تعالى، أو لسنة مشهورة عن رسول الله، أو يكون حديثا شاذا لم يشتهر فيما
تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته، أو يكون حديثا قد أعرض عنه الائمة من الصدر الاول بأن ظهر منهم الاختلاف في تلك الحادثة ولم تجر بينهم المحاجة بذلك الحديث.
فأما الوجه الاول وهو ما إذا كان الحديث مخالفا لكتاب الله تعالى فإنه لا يكون مقبولا ولا حجة للعمل به عاما كانت الآية أو خاصا نصا أو ظاهرا عندنا على ما بينا أن تخصيص العام بخبر الواحد لا يجوز ابتداء، وكذلك ترك الظاهر فيه والحمل على نوع من المجاز لا يجوز بخبر الواحد عندنا خلافا للشافعي، وقد بينا هذا، ودليلنا في ذلك قوله عليه السلام: كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وكتاب الله أحق والمراد كل شرط هو مخالف لكتاب الله تعالى لا أن يكون المراد ما لا يوجد عينه في كتاب الله تعالى فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله تعالى، وبالاجماع من الاحكام ما هو ثابت بخبر الواحد والقياس وإن كان لا يوجد ذلك في كتاب الله تعالى، فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفا لكتاب الله تعالى، وذلك

تنصيص على أن كل حديث هو مخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود.
وقال عليه السلام: تكثر الاحاديث لكم بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه فاقبلوه واعلموا أنه مني، وما خالفه فردوه واعلموا أني منه برئ ولان الكتاب متيقن به وفي اتصال الخبر الواحد برسول الله صلى الله عليه وسلم شبهة فعند تعذر الاخذ بهما لا بد من أن يؤخذ بالمتيقن ويترك ما فيه شبهة، والعام والخاص في هذا سواء لما بينا أن العام موجب للحكم فيما يتناوله قطعا كالخاص، وكذلك النص والظاهر سواء، لان المتن من الكتاب متيقن به ومتن الحديث لا ينفك عن شبهة لاحتمال النقل بالمعنى، ثم قوام المعنى بالمتن فإنما يشتغل بالترجيح من حيث المتن أولا إلى أن يجئ إلى المعنى، ولا شك أن
الكتاب يترجح باعتبار النقل المتواتر في المتن على خبر الواحد، فكانت مخالفة الخبر للكتاب دليلا ظاهرا على الزيافة فيه، ولهذا لم يقبل علماؤنا خبر الوضوء من مس الذكر لانه مخالف للكتاب، فإن الله تعالى قال: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) يعني الاستنجاء بالماء فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهرا ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا يكون إلا بمس الذكر فالحديث الذي يجعل مسه حدثا بمنزلة البول يكون مخالفا لما في الكتاب، لان الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهرا.
وكذلك لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة للمبتوتة لانه مخالف للكتاب وهو قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) ولا خلاف أن المراد وأنفقوا عليهن من وجدكم، فالمراد الحائل فإنه عطف عليه قوله تعالى: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) وكذلك لم يقبل خبر القضاء بالشاهد واليمين لانه مخالف للكتاب من أوجه، فإن الله تعالى قال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) الآية، وقوله: واستشهدوا أمر بفعل هو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل كل يكون مجملا فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل كل يكون مجملا فيما يرجع الى بيان المأكول فيكون ما بعده تفسيرا لذلك المجمل وبيانا لجميع ما هو المراد بالامر وهو استشهاد رجلين فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، كقول القائل كل طعام كذا

فإن لم يكن فكذا، أو أذنت لك أن تعامل فلانا فإن لم يكن ففلانا، يكون ذلك بيانا لجميع ما هو المراد بالامر والاذن، وإذا ثبت أن جميع ما هو المذكور في الآية كان خبر القضاء بالشاهد واليمين زائدا عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا، يقرره قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا ترتابوا) فقد نص على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة شاهدين بهذه الصفة، وليس دون الادنى شئ آخر تنتفي به الريبة، ولانه نقل الحكم من استشهاد الرجل الثاني بعد شهادة الشاهد الواحد إلى استشهاد امرأتين، مع أن
حضور النساء مجالس القضاء لاداء الشهادة خلاف العادة وقد أمرن بالقرار في البيوت شرعا، فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة لما نقل الحكم إلى استشهاد امرأتين، وهو خلاف المعتاد، مع تمكن المدعي من إتمام حجته بيمينه.
وبمثل هذا الطريق جعلنا شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض حجة، لان الله تعالى نقل الحكم عن استشهاد مسلمين على وصية المسلم إلى استشهاد ذميين بقوله تعالى: (أو آخران من غيركم) مع أن حضور أهل الذمة مجالس القضاة لاداء الشهادة خلاف المعتاد، فذلك دليل ظاهر على أن الحجة تقوم بشهادتهم في الجملة.
وهو دليل أيضا على رد خبر القضاء بالشاهد واليمين لانه نقل الحكم إلى استشهاد ذميين عند عدم شاهدين مسلمين، فلو كان الشاهد الواحد مع يمين المدعي حجة لكان الاولى بيان ذلك عند الحاجة، وذكر في الآية يمين الشاهدين ظاهرا عند الريبة مع أن ذلك ليس بحجة اليوم (لاجل النسخ) فلو كان بيمين المدعي تنتفي الريبة أو تتم الحجة لكان الاولى ذكر يمينه عند الحاجة.
فبهذه الوجوه يتبين أن خبر القضاء بالشاهد واليمين مخالف للكتاب فتركنا العمل به لهذا، وكذلك الغريب من أخبار الآحاد إذا خالف السنة المشهورة فهو منقطع في حكم العمل به، لان ما يكون متواترا من السنة أو مستفيضا أو مجمعا عليه فهو بمنزلة الكتاب في ثبوت علم اليقين به، وما فيه شبهة فهو مردود في مقابلة اليقين، وكذلك المشهور من السنة فإنه أقوى من الغريب لكونه أبعد عن موضع الشبهة، ولهذا جاز النسخ بالمشهور دون الغريب، فالضعيف لا يظهر في مقابلة القوي،

ولهذا لم يعمل بخبر القضاء بالشاهد واليمين، لانه مخالف للسنة المشهورة وهو قوله عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على من أنكر من وجهين: أحدهما أن في هذا الحديث بيان أن اليمين في جانب المنكر دون المدعي، والثاني أن فيه بيان أنه لا يجمع بين اليمين والبينة فلا تصلح اليمين متممة للبينة بحال، ولهذا الاصل لم يعمل
أبو حنيفة بخبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في بيع الرطب بالتمر أن النبي عليه السلام قال: أينتقص إذا جف ؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذا لانه مخالف للسنة المشهورة وهو قوله عليه السلام: التمر بالتمر مثل بمثل من وجهين: أحدهما أن فيها اشتراط المماثلة في الكيل مطلقا لجواز العقد فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الاحوال وهو بعد الجفوف يكون زيادة، والثاني أنه جعل فضلا يظهر بالكيل هو الحرام في السنة المشهورة فجعل فضل يظهر عند فوات وصف مرغوب فيه ربا حراما يكون مخالفا لذلك الحكم، إلا أن أبا يوسف ومحمدا قالا: السنة المشهورة لا تتناول الرطب لان مطلق اسم التمر لا يتناوله، بدليل أن من حلف لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث، ولو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرا لم يحنث، فإذا لم تتناوله السنة المشهورة وجب إثبات الحكم فيه بالخبر الآخر.
وأبو حنيفة قال: التمر اسم للثمرة الخارجة من النخل من حين تنعقد صورتها إلى أن تدرك، وما يختلف عليه أحوال وأوصاف حسب ما يكون على الآدمي لا يتبدل به اسم العين، وفي الايمان تترك الحقائق لدلالة العرف، واليمين تتقيد بوصف في العين إذا كان داعيا إلى اليمين.
ففي هذين النوعين من الانتقاد للحديث علم كثير، وصيانة للدين بليغة، فإن أصل البدع والاهواء إنما ظهر من قبل ترك عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة المشهورة، فإن قوما جعلوها أصلا مع الشبهة في اتصالها برسول الله عليه السلام ومع أنها لا توجب علم اليقين، ثم تأولوا عليها الكتاب والسنة المشهورة فجعلوا التبع متبوعا، وجعلوا الاساس ما هو غير متيقن به فوقعوا في الاهواء والبدع، بمنزلة من أنكر خبر الواحد فإنه لما لم يجوز العمل به احتاج إلى القياس ليعمل به وفيه أنواع من الشبهة، أو إلى استصحاب الحال وهو ليس

بحجة أصلا وترك العمل بالحجة إلى ما ليس بحجة يكون فتحا لباب الآحاد، وجعل
ما هو غير متيقن به أصلا، ثم تخريج ما فيه التيقن عليه يكون فتحا لباب الاهواء والبدع وكل واحد منهما زيف مردود، وإنما سواء السبيل ما ذهب إليه علماؤنا رحمهم الله من إنزال كل حجة منزلتها، فإنهم جعلوا الكتاب والسنة المشهورة أصلا ثم خرجوا عليهما ما فيه بعض الشبهة وهو المروي بطريق الآحاد مما لم يشتهر، فما كان منه موافقا للمشهور قبلوه، وما لم يجدوا في الكتاب ولا في السنة المشهورة له ذكرا قبلوه أيضا وأوجبوا العمل به، وما كان مخالفا لهما ردوه، على أن العمل بالكتاب والسنة أوجب من العمل بالغريب بخلافه، وما لم يجدوه في شئ من الاخبار وصاروا حينئذ إلى القياس في معرفة حكمه لتحقق الحاجة إليه.
وأما القسم الثالث وهو الغريب فيما يعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته للعمل به فإنه زيف، لان صاحب الشرع كان مأمورا بأن يبين للناس ما يحتاجون إليه، وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه من بعدهم، فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمهم، وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم عرفنا أنه سهو أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم، فلو كان ثابتا في المتقدمين لاشتهر أيضا وما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته، ولهذا لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علة، ولم يقبل قول الوصي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة، وإن كان ذلك محتملا لان الظاهر يكذبه في ذلك، وعلى هذا الاصل لم نعمل بحديث الوضوء من مس الذكر، لان بسرة تفردت بروايته مع عموم الحاجة لهم إلى معرفته.
فالقول بأن النبي عليه السلام خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة حاجتهم إليه شبه المحال، وكذلك خبر الوضوء مما مسته النار، وخبر

الوضوء من حمل الجنازة، وعلى هذا لم يعمل علماؤنا رحمهم الله بخبر الجهر بالتسمية، وخبر رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، لانه لم يشتهر النقل فيها مع حاجة الخاص والعام إلى معرفته.
فإن قيل فقد قبلتم الخبر الدال على وجوب الوتر، وعلى وجوب المضمضة والاستنشاق في الجنابة وهو خبر الواحد فيما تعم به البلوى.
قلنا: لانه قد اشتهر أن النبي عليه السلام فعله وأمر بفعله، فأما الوجوب حكم آخر سوى الفعل وذلك مما يجوز أن يوقف عليه بعض الخواص لينقلوه إلى غيرهم، فإنما قبلنا خبر الواحد في هذا الحكم، فأما أصل الفعل فإنما أثبتناه بالنقل المستفيض.
وأما القسم الرابع وهو ما لم تجر المحاجة به بين الصحابة مع ظهور الاختلاف بينهم في الحكم فإنه زيف، لانهم الاصول في نقل الدين لا يتهمون بالكتمان، ولا يترك الاحتجاج بما هو الحجة والاشتغال بما ليس بحجة، فإذا ظهر منهم الاختلاف في الحكم وجرت المحاجة بينهم فيه بالرأي والرأي ليس بحجة مع ثبوت الخبر، فلو كان الخبر صحيحا لاحتج به بعضهم على بعض، حتى يرتفع به الخلاف الثابت بينهم بناء على الرأي، فكان إعراض الكل عن الاحتجاج به دليلا ظاهرا على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو هو منسوخ، وذلك نحو ما يروى الطلاق بالرجال والعدة بالنساء فإن الكبار من الصحابة اختلفوا في هذا وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث أصلا، فعرفنا أنه غير ثابت أو مؤول، والمراد به أن إيقاع الطلاق إلى الرجال.
وكذلك ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الصدقة فإن الصحابة اختلفوا في وجوب الزكاة في مال الصبي وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث أصلا، فعرفنا أنه غير ثابت إذ
لو كان ثابتا لاشتهر فيهم وجرت المحاجة به بعد تحقق الحاجة إليه بظهور الاختلاف، ففي الانتقاد بالوجهين الاولين تظهر الزيافة معنى للمقابلة، بمنزلة نقد البلد إذا قوبل بنقد أجود منه تظهر الزيافة فيه، وفي الانتقاد بالوجهين الآخرين إظهار الزيافة معنى من حيث إنه تقوي فيه شبهة الانقطاع، بمنزلة نقد تبين فيه زيادة غش على ما هو في

النقد المعهود فيصير زيفا مردودا من هذا الوجه.
والشافعي أعرض عن طلب الانقطاع معنى واشتغل ببناء الحكم على ظاهر الانقطاع في المرسل فترك العمل به مع قوة المعنى فيه كما هو دأبه ودأبنا، فإنه يبني على الظاهر أكثر الاحكام، وعلماؤنا يبنون الفقه على المعاني المؤثرة التي يتضح الحكم عند التأمل فيها.
وأما النوع الثاني وهو ما يبتنى على نقصان حال الراوي فبيان ذلك في فصول: منها خبر المستور، والفاسق، والكافر، والصبي، والمعتوه، والمغفل، والمساهل، وصاحب الهوى.
أما المستور فقد نص محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان على أن خبره كخبر الفاسق، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه بمنزلة العدل في رواية الاخبار لثبوت العدالة له ظاهرا بالحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وعن عمر رضي الله عنه): المسلمون عدول بعضهم على بعض.
ولهذا جوز أبو حنيفة القضاء بشهادة المستورد فيما يثبت مع الشبهات إذا لم يطعن الخصم، ولكن ما ذكره في الاستحسان أصح في زماننا، فإن الفسق غالب في أهل هذا الزمان فلا تعتمد رواية المستورد ما لم تتبين عدالته كما لم تعتمد شهادته في القضاء قبل أن تظهر عدالته، وهذا بحديث عباد بن كثير أن النبي عليه السلام قال: لا تحدثوا عمن لا تعلمون بشهادته ولان في رواية الحديث معنى الالزام فلا بد من أن يعتمد فيه دليل ملزم وهو العدالة التي تظهر بالتفحص عن أحوال الراوي.
وأما الفاسق فقد ذكر في كتاب الاستحسان أنه إذا أخبر بطهارة الماء أو بنجاسته أو بحل الطعام والشراب وحرمته فإن السامع يحكم رأيه في ذلك، فإن وقع عنده أنه صادق فعليه أن يعمل بخبره وإلا لم يعمل به، وعلى هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله: الجواب كذلك فيما يرويه الفاسق.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن خبره لا يكون حجة لانه غير مقبول الشهادة وفي حل الطعام وحرمته وطهارة الماء ونجاسته إنما اعتبر خبره إذا تأيد

بأكثر الرأي لاجل الضرورة، لان ذلك حكم خاص ربما يتعذر الوقوف عليه من جهة غيره، ومثل هذه الضرورة لا يتحقق في رواية الخبر فإن في العدول كثرة يمكن الوقوف على معرفة الحديث بالسماع منهم، فلا حاجة إلى الاعتماد على رواية الفاسق فيه.
ثم في المعاملات جعل خبر الفاسق مقبولا لاجل الضرورة أيضا فإن المعاملة تكثر بين الناس ولا يوجد عدل يرجع إليه في كل خبر من ذلك النوع إلا أن ذلك ينفك عن معنى الالزام، فجوز الاعتماد فيه على خبر الفاسق مطلقا، والحل والحرمة فيه معنى الالزام من وجه فلهذا لم نجعل خبر الفاسق فيه معتمدا على الاطلاق حتى ينضم إليه غالب الرأي.
ومن الناس من لم يجعل خبر الفاسق مقبولا في المعاملة أيضا لظاهر قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وروي أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى قوم فرجع إليه وقال إنهم هموا بقتلي فأراد رسول الله أن يعتمد خبره ويبعث إليهم خيلا لانه ما كان ظاهر الفسق عنده فأنزل الله تعالى هذه الآية، وما أخبر به كان من المعاملات خاليا عن الالزام ومع ذلك أمر الله تعالى بالتوقف في هذا النبأ من الفاسق.
ولكنا نقول: كان ذلك خبرا مستنكرا، فإنه أخبر أنهم ارتدوا بمنع الزكاة وجحودها وهموا بقتله وفيه إلزام الجهاد معهم، ونحن نقول: إن من ثبت فسقه لا يعتبر خبره في
مثل هذا، فأما في المعاملات التي تنفك عن معنى الالزام فيجوز اعتماد خبره لاجل الضرورة، إذ الفسق يرجح معنى الكذب في خبره من غير أن يكون موجبا الحكم بأنه كاذب في خبره لا محالة، ولهذا جعلناه مع الفسق من أهل الشهادة.
فأما الكافر فإنه لا تعتمد روايته في باب الاخبار أصلا.
وكذلك في طهارة الماء ونجاسته إلا أنه إذا وقع في قلب السامع أنه صادق فيما يخبر به من نجاسة الماء فالافضل له أن يريق الماء ثم يتيمم، ولا تجوز صلاته بالتيمم قبل إراقة الماء، لانه لا يعتمد خبره في باب الدين أصلا فيبقى مجرد غلبة الظن وذلك لا يجوز له الصلاة بالتيمم مع وجود الماء، بخلاف الفاسق فهناك يلزمه أن يتوضأ بذلك الماء إذا وقع في قلبه أنه صادق في الاخبار بطهارة

الماء، وإن أخبر بنجاسة الماء ووقع في قلبه أنه صادق فالاولى له أن يريق الماء ويتيمم، فإن تيمم ولم يرق الماء جازت صلاته.
وأما خبر الصبي فقد ذكر في الاستحسان بعد ذكر الفاسق والكافر: وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان.
فزعم بعض مشايخنا أن المراد العطف على الفاسق وأن خبره بمنزلة خبر الفاسق في طهارة الماء ونجاسته، والاصح أن المراد عطفه على الكافر، فإن الصبي ليس من أهل الشهادة أصلا كما أن الكافر ليس من أهل الشهادة على المسلمين، بخلاف الفاسق فهو من أهل الشهادة وإن لم يكن مقبول الشهادة لفسقه (و) لان الصبي بخبره يلزم الغير ابتداء من غير أن يلتزم شيئا لانه غير مخاطب كالكافر يلزم غيره من غير أن يلتزم، لانه غير معتقد للحكم الذي يخبر به، فأما الفاسق فيلتزم أولا ثم يلزم غيره، ولان الولاية المتعدية تبتنى على الولاية القائمة للمرء على نفسه والفاسق من أهل هذه الولاية فيكون أهلا للولاية
المتعدية أيضا، بخلاف الصبي، والمعتوه بمنزلة الصبي، فقد سوى علماؤنا بينهما في الاحكام في الكتب لنقصان عقلهما.
ومن الناس من يقول رواية الصبي في باب الدين مقبولة وإن لم يكن هو مقبول الشهادة لانعدام الاهلية للولاية بمنزلة رواية العبد، واستدل فيه بحديث أهل قباء، فإن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أتاهم وأخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة وهم كانوا في الصلاة فاستداروا كهيئتهم، وكان ابن عمر يومئذ صغيرا على ما روي أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أو يوم أحد على حسب ما اختلف الرواة فيه وهو ابن أربع عشرة سنة فرده، وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين، فقد اعتمدوا خبره فيما لا يجوز العمل به إلا بعلم وهو الصلاة إلى الكعبة ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكنا نقول: قد روي أن الذي أتاهم أنس بن مالك، وقد روى عبد الله

بن عمر، فإنا نحمل على أنهما جاء أحدهما بعد الآخر وأخبرا بذلك، وإنما تحولوا معتمدين على خبر البالغ وهو أنس بن مالك، أو كان ابن عمر بالغا يومئذ وإنما رده رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال لضعف بنيته يومئذ لا لانه كان صغيرا فإن ابن أربع عشرة سنة يجوز أن يكون بالغا.
فأما المغفل فإن كان أغلب أحواله التيقظ فهو بمنزلة من لا غفلة به في الرواية والشهادة، لان ما به من الغفلة يسير قلما يخلو العدل عن مثله إلا من عصمه الله تعالى، وإن تفاحش ما به من الغفلة حتى ظهر ذلك في أغلب أموره فهو بمنزلة المعتوه، لان ما يلزم من النقصان في المرء بطريق العادة يجعل بمنزلة الثابت بأصل الخلقة، ألا ترى أنه يترجح معنى السهو والغلط في الرواية باعتبارهما جميعا كما يترجح جانب الكذب باعتبار
فسق الراوي.
وأما المساهل فهو كالمغفل فإنه اسم لمن يجازف في الامور ولا يبالي بما يقع له من السهو والغلط، ولا يشتغل فيه بالتدارك بعد أن يعلم به، فيكون بمنزلة المغفل إذا ظهر ذلك في أكثر أموره.
وأما صاحب الهوى فقد بينا أن الصحيح أنه لا تعتمد روايته في أحكام الدين وإن كانت شهادتهم مقبولة إلا الخطابية، فإن الهوى لا يكون مرجحا جانب الكذب في شهادته على ما قررنا، إلا الخطابية وهم ضرب من الروافض يجوزون أداء الشهادة إذا حلف المدعي بين أيديهم أنه محق في دعواه، ويقولون المسلم لا يحلف كاذبا، ففي هذا الاعتقاد ما يرجح جانب الكذب في شهادتهم لتوهم أنهم اعتمدوا ذلك.
وكذلك قالوا فيمن يعتقد أن الالهام حجة موجبة للعلم لا تقبل شهادته لتوهم أن يكون اعتمد ذلك في أداء

الشهادة بناء على اعتقاده.
فأما من سواهم من أهل الاهواء ليس فيما يعتقدون من الهوى ما يمكن تهمة الكذب في شهادتهم، لان الشهادة من باب المظالم والخصومات، ولا يتعصب صاحب الهوى بهذا الطريق مع من هو محق في اعتقاده حتى يشهد عليه كاذبا، فأما في أخبار الدين فيتوهم بهذا التعصب لافساد طريق الحق على من هو محق حتى يجيبه إلى ما يدعو إليه من الباطل، فلهذا لا تعتمد روايته ولا تجعل حجة في باب الدين، والله أعلم.
فصل: في بيان أقسام الاخبار قال رضي الله عنه: هذه الاقسام أربعة: خبر يحيط العلم بصدقه، وخبر يحيط العلم بكذبه، وخبر يحتملهما على السواء، وخبر يترجح فيه
أحد الجانبين.
فالاول: أخبار الرسل المسموعة منهم، فإن جهة الصدق متعين فيها لقيام الدلالة على أنهم معصومون عن الكذب وثبوت رسالتهم بالمعجزات الخارجة عن مقدور البشر عادة، وحكم هذا النوع اعتقاد الحقية فيه والائتمار به بحسب الطاقة، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) .
والنوع الثاني: نحو دعوى فرعون الربوبية مع قيام آيات الحدث فيه ظاهرا، ودعوى الكفار أن الاصنام آلهة أو أنها شفعاؤهم عند الله، أو أنها تقربهم إلى الله زلفى مع التيقن بأنها جمادات، ونحو دعوى زرادشت وماني ومسيلمة وغيرهم من المتنبئين النبوة مع ظهور أفعال تدل على السفه منهم، وأنهم لم يبرهنوا على ذلك إلا بما هو مخرفة من جنس أفعال المشعوذين، فالعلم يحيط بكذب هذا النوع، وحكمه اعتقاد البطلان فيه ثم الاشتغال برده باللسان واليد بحسب ما تقع الحاجة إليه في دفع الفتنة.
والنوع الثالث: نحو خبر الفاسق في أمر الدين، ففيه احتمال الصدق باعتبار

دينه وعقله، واحتمال الكذب باعتبار تعاطيه، واستوى الجانبان في الاحتمال فالحكم فيه التوقف إلى أن يظهر ما يترجح به أحد الجانبين عملا بقوله تعالى: (فتبينوا) .
والنوع الرابع: نحو شهادة الفاسق إذا ردها القاضي، فإن بقضائه يترجح جانب الكذب فيه، وخبر المحدود في القذف عند إقامة الحد عليه، وحكمه أنه لا يجوز العمل به بعد ذلك لتعين جانب الكذب فيه فيما يوجب العمل.
ومن هذا النوع خبر العدل المستجمع لشرائط الرواية في باب الدين، فإنه يترجح
جانب الصدق فيه بوجود دليل شرعي موجب للعمل به وهو صالح للترجيح، والمقصود هذا النوع.
ولهذا النوع أطراف ثلاثة: طرف السماع، وطرف الحفظ، وطرف الاداء.
فطرف السماع نوعان: عزيمة، ورخصة.
فالعزيمة ما تكون بحسب الاستماع.
وهو أربعة أوجه: وجهان من ذلك حقيقة وأحدهما أحق من الآخر، ووجهان من ذلك عزيمة فيهما شبهة الرخصة.
فالوجهان الاولان قراءة المحدث عليك وأنت تسمع، وقراءتك على المحدث وهو يسمع، ثم استفهامك إياه بقولك أهو كما قرأت عليك فيقول نعم، وأهل الحديث يقولون الوجه الاول أحق لانه طريق رسول الله عليه السلام، وهو الذي كان يحدث أصحابه ثم نقلوه عنه، وهو أبعد من الخطأ والسهو فيكون أحق فيما هو المقصود وهو تحمل الامانة بصفة تامة.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن قراءتك على المحدث أقوى من قراءة المحدث عليك، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لكونه مأمون السهو والغلط، ولانه كان يذكر ما يذكره حفظا، وكان لا يكتب ولا يقرأ المكتوب أيضا، وإنما كلامنا فيمن يخبر عن كتاب لا عن (حفظه حتى إذا كان يروي عن حفظ لا عن كتاب فقراءته أقوى لانه يتحدث به) حقيقة، فأما إذا كان يروي عن كتاب فالجانبان

سواء في معنى التحدث بما في الكتاب، ألا ترى أن في الشهادات لا فرق بين أن يقرأ من عليه الحق ذكر إقراره عليك وبين أن تقرأه عليه، ثم تستفهمه هل تقر بجميع ما قرأته عليك فيقول نعم، وبكل واحد من الطريقين يجوز أداء الشهادة، وباب الشهادة أضيق من باب رواية الخبر، فكان المعنى فيه أن نعم جواب مختصر ولا فرق في الجواب بين المختصر والمشبع، فيصير
ما تقدم كالمعاد في الجواب كله، ثم للطالب من الرعاية عند القراءة عادة ما ليس للمحدث، فعند قراءة المحدث لا يؤمن من الخطأ في بعض ما يقرأ لقلة رعايته، ويؤمن ذلك إذا قرأ الطالب لشدة رعايته.
فإن قيل عند قراءة الطالب يتوهم أن يسهو المحدث عن بعض ما يسمع وينتفي هذا التوهم إذا قرأه المحدث لشدة رعاية الطالب في ضبط ما يسمع منه.
قلنا: هو كذلك ولكن السهو عن سماع البعض مما لا يمكن التحرز عنه عادة وهو أيسر مما يقع بسبب الخطأ في القراءة، فمراعاة ذلك الجانب أولى.
والوجهان الآخران الكتابة والرسالة، فإن المحدث إذا كتب إلى غيره على رسم الكتب وذكر في كتابه: حدثني فلان عن فلان إلى آخره، ثم قال: وإذا جاءك كتابي هذا وفهمت ما فيه فحدث به عني فهذا صحيح.
وكذلك لو أرسل إليه رسولا فبلغه على هذه الصفة، فإن رسول الله عليه السلام كان مأمورا بتبليغ الرسالة، وبلغ إلى قوم مشافهة وإلى آخرين بالكتاب والرسول وكان ذلك تبليغا تاما.
وكذلك في زماننا يثبت من الخلفاء تقليد السلطنة والقضاء بالكتاب والرسول بهذا الطريق كما يثبت بالمشافهة، إلا أن المختار في الوجهين الاولين للراوي أن يقول حدثني فلان، وفي الوجهين الآخرين أن يقول أخبرني، لان في الوجهين الاولين شافهه المحدث بالاسماع فيكون محدثا له، وفي الوجهين الآخرين لم يشافهه ولكنه مخبر له بكتابه، فإن الكتاب ممن بعد كالخطاب ممن حضر، والرسول كالكتاب أو أقوى لان معنى الضبط يوجد فيهما، ثم الرسول ناطق والكتاب غير ناطق.
وعلى هذا ذكر في الزيادات: إذا حلف أن لا يتحدث بسر فلان أو لا يتكلم

به فكتب به أو أرسل رسولا لم يحنث، ولو تكلم به مشافهة يحنث،
ولو حلف لا يخبر به فكتب أو أرسل يحنث بمنزلة ما لو تكلم به.
والدليل عليه أن الله تعالى أكرمنا بكتابه ورسوله، ثم لا يجوز لاحد أن يقول حدثني الله ولا كلمني الله، إنما ذلك لموسى عليه الصلاة والسلام خاصة كما قال تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) ويجوز أن يقول أخبرنا الله بكذا أو أنبأنا ونبأنا، فلهذا كان المختار في الوجهين الاولين حدثني وفي الوجهين الآخرين أخبرني.
وأما الرخصة فيه فمما لا تكون فيه إسماع، وذلك الاجازة والمناولة، وشرط الصحة في ذلك أن يكون ما في الكتاب معلوما للمجاز له مفهوما له، وأن يكون المجيز من أهل الضبط والاتقان قد علم جميع ما في الكتاب، وإذا قال حينئذ أجزت لك أن تروي عني ما في هذا الكتاب كان صحيحا، لان الشهادة تصح بهذه الصفة، فإن الشاهد إذا وقف على جميع ما في الصك، وكان ذلك معلوما لمن عليه الحق فقال أجزت لك أن تشهد علي بجميع ما في هذا الكتاب كان صحيحا فكذلك رواية الخبر، والاحوط للمجاز له أن يقول عند الرواية أجاز لي فلان، فإن قال أخبرني فهو جائز أيضا وليس ينبغي له أن يقول حدثني، فإن ذلك مختص بالاسماع ولم يوجد.
والمناولة لتأكيد الاجازة فيستوى الحكم فيما إذا وجدا جميعا أو وجدت الاجازة وحدها.
فأما إذا كان المستجيز غير عالم بما في الكتاب فقد قال بعض مشايخنا إن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا تصح هذه الاجازة، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تصح على قياس اختلافهم في كتاب القاضي إلى القاضي وكتاب الشهادة، فإن علم الشاهد بما في الكتاب شرط في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ولا يكون شرطا في قول أبي يوسف رحمه الله لصحة أداء الشهادة.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن هذه الاجازة لا تصح في
قولهم جميعا إلا أن أبا يوسف استحسن هناك لاجل الضرورة، فالكتب تشتمل على أسرار لا يريد الكاتب والمكتوب إليه أن يقف عليها غيرهما وذلك لا يوجد في كتب الاخبار.

ثم الخبر أصل الدين أمره عظيم، وخطبه جسيم، فلا وجه للحكم بصحة تحمل الامانة فيه قبل أن يصير معلوما مفهوما له، ألا ترى أنه لو قرأ عليه المحدث فلم يسمع ولم يفهم لم يجز له أن يروي، والاجازة إذا لم يكن ما في الكتاب معلوما له دون ذلك كيف تجوز الرواية بهذا القدر، وإسماع الصبيان الذين لا يميزون ولا يفهمون نوع تبرك استحسنه الناس، فأما أن يثبت بمثله نقل الدين فلا.
وكذلك من حضر مجلس السماع واشتغل بقراءة كتاب آخر غير ما يقرؤه القارئ، أو اشتغل بالكتابة لشئ آخر أو اشتغل بتحدث أو لغو أو لهو، أو اشتغل عن السماع لغفلة أو نوم، فإن سماعه لا يكون صحيحا مطلقا له الرواية إلا أن مقدار ما لا يمكن التحرز عنه من السهو والغفلة يجعل عفوا للضرورة، فأما عند القصد فهو غير معذور ولا يأمن أن يحرم بسبب ذلك حظه ونعوذ بالله، فأما إذا قال المحدث: أجزت لك أن تروي عني مسموعاتي فإن ذلك غير صحيح بالاتفاق، بمنزلة ما لو قال رجل لآخر اشهد علي بكل صك تجد فيه إقراري فقد أجزت لك ذلك فإن ذلك باطل.
وقد نقل عن بعض أئمة التابعين أن سائلا سأله الاجازة بهذه الصفة فتعجب وقال لاصحابه: هذا يطلب مني أن أجيز له أن يكذب علي ! وبعض المتأخرين جوزوا ذلك على وجه الرخصة لضرورة المستعجلين، ولكن في هذه الرخصة سد باب الجهد في الدين، وفتح باب الكسل فلا وجه للمصير إليه.
فأما الكتب المصنفة التي هي مشهورة في أيدي الناس فلا بأس لمن
نظر فيها، وفهم شيئا منها، وكان متقنا في ذلك أن يقول: قال فلان كذا أو مذهب فلان كذا من غير أن يقول حدثني أو أخبرني، لانها مستفيضة بمنزلة الخبر المشهور، وبعض الجهال من المحدثين استبعدوا ذلك حتى طعنوا على محمد رحمه الله في كتبه المصنفة.
وحكي أن بعضهم قال لمحمد بن الحسن رحمه الله: أسمعت هذا كله من أبي حنيفة ؟ فقال: لا.
فقال: أسمعته من

أبي يوسف ؟ فقال: لا وإنما أخذنا ذلك مذاكرة.
فقال: كيف يجوز إطلاق القول بأن مذهب فلان كذا أو قال فلان كذا بهذا الطريق ؟ ! وهذا جهل لان تصنيف كل صاحب مذهب معروف في أيدي الناس مشهور كموطأ مالك رحمه الله وغير ذلك فيكون بمنزلة الخبر المشهور يوقف به على مذهب المصنف، وإن لم نسمع منه فلا بأس بذكره على الوجه الذي ذكرنا بعد أن يكون أصلا معتمدا يؤمن فيه التصحيف والزيادة والنقصان.
فأما بيان طرق الحفظ فهو نوعان: عزيمة ورخصة.
فالعزيمة فيه أن يحفظ المسموع من وقت السماع والفهم إلى وقت الاداء، وكان هذا مذهب أبي حنيفة في الاخبار والشهادات جميعا، ولهذا قلت روايته، وهو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه للناس.
وأما الرخصة فيه أن يعتمد الكتاب إلا أنه إذا نظر في الكتاب فتذكر فهو عزيمة أيضا ولكنه مشبه بالرخصة، وإذا لم يتذكر فهو محض الرخصة على قول من يجوز ذلك، وقد بينا فيما سبق.
والاداء أيضا نوعان: عزيمة، ورخصة.
فالعزيمة أن يؤدي على الوجه الذي سمعه بلفظه ومعناه، والرخصة فيه أن يؤدي بعبارته معنى ما فهمه عند سماعه، وقد بينا ذلك.
ومن نوع الرخصة التدليس وهو أن يقول قال فلان كذا
لمن لقيه ولكن لم يسمع منه، فيوهم السامعين أنه قد سمع ذلك منه، وكان الاعمش والثوري يفعلان ذلك، وكان شعبة يأبى ذلك ويستبعده غاية الاستبعاد حتى كان يقول: لان أزني أحب إلي من أن أدلس.
والصحيح القول الاول، وقد بينا أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك فيقول الواحد منهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فإذا روجع فيه قال سمعته من فلان يرويه عن رسول الله عليه السلام، وما كان ينكر بعضهم على بعض ذلك، فعرفنا أنه لا بأس به وأن هذا النوع لا يكون تدليسا مطلقا، فإنه لا يجوز لاحد أن يسمي أحدا من الصحابة مدلسا، وإنما التدليس المطلق أن يسقط اسم من

رواه له ويروى عن راوي الاصل على قصد الترويج بعلو الاسناد، فإن هذا القصد غير محمود، فأما إذا لم يكن على هذا القصد وإنما كان على قصد التيسير على السامعين بإسقاط تطويل الاسناد عنهم، أو على قصد التأكيد بالعزم على أنه قول رسول الله عليه السلام قطعا فهذا لا بأس به، وما نقل عن الصحابة والتابعين محمول على هذا النوع.
وتجوز الرواية عمن اشتهر بهذا الفعل إذا علم أنه لا يدلس إلا فيما سمعه عن ثقة، فأما إذا كان يروي عمن ليس بثقة ويدلس بهذه الصفة لا تجوز الرواية عنه بعدما اشتهر بالتدليس.
واختلف العلماء في فصل من هذا الجنس وهو أن الصحابي إذا قال أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو السنة كذا، فالمذهب عندنا أنه لا يفهم من هذا المطلق الاخبار بأمر رسول الله عليه السلام أو أنه سنة رسول الله.
وقال الشافعي في القديم: ينصرف إلى ذلك عند الاطلاق، وفي الجديد قال: لا ينصرف إلى ذلك بدون البيان لاحتمال أن يكون المراد سنة البلدان أو الرؤساء، حتى قال في كل موضع قال مالك رحمه الله السنة ببلدنا كذا: فإنما أراد سنة سليمان بن بلال وهو
كان عريفا بالمدينة، وعلى قوله القديم أخذ بقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه في العاجز عن النفقة إنه يفرق بينه وبين امرأته لانه حمل قول سعيد السنة، على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك أخذ بقوله في أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية بقول سعيد فيه السنة، فحمل ذلك على سنة رسول الله عليه السلام.
ولم نأخذ نحن بذلك لانا علمنا أن مراده سنة زيد، ورجحنا قول علي وعبد الله رضي الله عنهما على قول زيد رضي الله عنه بالقياس الصحيح.
وحجتنا في ذلك أن الامر والنهي يتحقق من غير رسول الله عليه السلام كما يتحقق منه، قال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) وعند الاطلاق لا يثبت إلا أدنى الكمال، ألا ترى أن مطلق قول العالم أمرنا بكذا لا يحمل على أنه أمر الله أنزله في كتابه نصا، فكذلك لا يحمل على أنه أمر رسول الله عليه السلام نصا لاحتمال أن يكون الآمر غيره ممن يجب متابعته.
وكذلك السنة، فقد قال عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وقال عليه السلام: من سن سنة حسنة فله

أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وقد ظهر من عادة الصحابة التقييد عند إرادة سنة رسول الله عليه السلام بالاضافة إليه على ما قال عمر لصبي بن معبد: هديت لسنة نبيك.
وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه: ثلاث ساعات نهانا رسول الله عليه السلام أن نصلي فيهن.
وقال صفوان بن عسال رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله عليه السلام إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها) الحديث.
فبهذا يتبين أنهم إذا أطلقوا هذا اللفظ فإنه لا يكون مرادهم الاضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا، ومع الاحتمال لا يثبت التعيين بغير دليل.
تم بتوفيق الله تعالى وعونه الجزء الاول من اصول الامام السرخسى
رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك أخذ بقوله في أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية بقول سعيد فيه السنة، فحمل ذلك على سنة رسول الله عليه السلام.
ولم نأخذ نحن بذلك لانا علمنا أن مراده سنة زيد، ورجحنا قول علي وعبد الله رضي الله عنهما على قول زيد رضي الله عنه بالقياس الصحيح.
وحجتنا في ذلك أن الامر والنهي يتحقق من غير رسول الله عليه السلام كما يتحقق منه، قال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) وعند الاطلاق لا يثبت إلا أدنى الكمال، ألا ترى أن مطلق قول العالم أمرنا بكذا لا يحمل على أنه أمر الله أنزله في كتابه نصا، فكذلك لا يحمل على أنه أمر رسول الله عليه السلام نصا لاحتمال أن يكون الآمر غيره ممن يجب متابعته.
وكذلك السنة، فقد قال عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وقال عليه السلام: من سن سنة حسنة فله

أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وقد ظهر من عادة الصحابة التقييد عند إرادة سنة رسول الله عليه السلام بالاضافة إليه على ما قال عمر لصبي بن معبد: هديت لسنة نبيك.
وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه: ثلاث ساعات نهانا رسول الله عليه السلام أن نصلي فيهن.
وقال صفوان بن عسال رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله عليه السلام إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها) الحديث.
فبهذا يتبين أنهم إذا أطلقوا هذا اللفظ فإنه لا يكون مرادهم الاضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا، ومع الاحتمال لا يثبت التعيين بغير دليل.
تم بتوفيق الله تعالى وعونه الجزء الاول من اصول الامام السرخسى ويليه الجزء الثاني، واوله: (فصل في الخبر بلحقه التكذيب من جهة الراوى أو من جهة غيره).

أصول السرخسي - أبو بكر السرخسي ج 2
أصول السرخسي
أبو بكر السرخسي ج 2

اصول السرخسي للامام الفقيه الاصولي النظار ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى المتوفى سنة 490 من الهجرة النبوية رضى الله عنه الجزء الثاني حقق أصوله أبو الوفاء الافغاني رئيس اللجنة العلمية لاحياء المعارف النعمانية عنيت بنشره لجنة احياء المعارف النعمانية بحيدر اباد الدكن بالهند دار الكتاب العلمية بيروت لبنان

الطبعة الاولى 1414 ه.
- 1993 م.

بسم الله الرحمن الرحيم فصل: في الخبر يلحقه التكذيب من جهة الراوي أو من جهة غيره أما ما يلحقه من جهة الراوي فأربعة أقسام: أحدها أن ينكر الرواية أصلا، والثاني أن يظهر منه مخالفة للحديث قولا أو عملا قبل الرواية أو بعدها، أو لم يعلم التاريخ، والثالث أن يظهر منه تعيين شئ مما هو من محتملات الخبر تأويلا أو تخصيصا،
والرابع أن يترك العمل بالحديث أصلا.
فأما الوجه الاول فقد اختلف فيه أهل الحديث من السلف فقال بعضهم: بإنكار الراوي يخرج الحديث من أن يكون حجة.
وقال بعضهم: لا يخرج (من أن يكون حجة) وبيان هذا فيما رواه ربيعة عن سهيل بن أبي صالح من حديث القضاء بالشاهد واليمين، ثم قيل لسهيل: إن ربيعة يروي عنك هذا الحديث فلم يذكره وجعل يروي ويقول حدثني ربيعة عني وهو ثقة.
وقد عمل الشافعي بالحديث مع إنكار الراوي ولم يعمل به علماؤنا رحمهم الله.
وذكر سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث، ثم روى أن ابن جريج سأل الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه، ثم عمل به محمد والشافعي مع إنكار الراوي، ولم يعمل به أبو حنيفة وأبو يوسف لانكار الراوي إياه، وقالوا ينبغي أن يكون هذا الفصل على الاختلاف بين علمائنا رحمهم الله بهذه الصفة، واستدلوا عليه بما لو ادعى رجل عند قاض أنه قضى له بحق على هذا الخصم ولم يعرف القاضي قضاءه فأقام المدعي شاهدين على قضائه بهذه الصفة، فإن على قول أبي يوسف لا يقبل القاضي هذه البينة ولا ينفذ قضاءه بها وعلى قول محمد يقبلها وينفذ قضاءه، فإذا ثبت هذا الخلاف بينهما في قضاء ينكره القاضي فكذلك في حديث ينكره الراوي الاصل.
وعلى هذا ما يحكي من المحاورة التي جرت بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في الرواية عن أبي حنيفة في ثلاث مسائل من

الجامع الصغير، وقد بيناها في شرح الجامع الصغير، فإن محمدا ثبت على ما رواه عن أبي يوسف عنه بعد إنكار أبي يوسف، وأبو يوسف لم يعتمد رواية محمد عنه حين لم يتذكر.
وزعم بعض مشايخنا أن على قياس قول علمائنا ينبغي أن لا يبطل الخبر بإنكار راوي الاصل إلا على قول زفر رحمه الله، وردوا هذا إلى قول زوج المعتدة
أخبرتني أن عدتها قد انقضت وهي تنكر فإن على قول زفر لا يبقى الخبر معمولا به بعد إنكارها، وعندنا يبقى معمولا به إلا في حقها، والاول أصح، فإن جواز نكاح الاخت والاربع له هنا عندنا باعتبار ظهور انقضاء العدة في حقه (بقوله) لكونه أمينا في الاخبار عن أمر بينه وبين ربه لا لاتصال الخبر بها، ولهذا لو قال انقضت عدتها ولم يضف الخبر إليها كان الحكم كذلك في الصحيح من الجواب.
فأما الفريق الاول فقد احتجوا بحديث ذي اليدين رضي الله عنه، فإن النبي عليه السلام لما قال لابي بكر وعمر رضي الله عنهما: (أحق ما يقول ذو اليدين ؟) فقالا نعم، فقام فأتم صلاته وقبل خبرهما عنه وإن لم يذكره، وعمر قبل خبر أنس بن مالك عنه في أمان الهرمزان بقوله له أتكلم كلام حي وإن لم يذكر ذلك، ولان النسيان غالب على الانسان فقد يحفظ الانسان شيئا ويرويه لغيره ثم ينسى بعد مدة فلا يتذكره أصلا، والراوي عنه عدل ثقة فبه يترجح جانب الصدق في خبره ثم لا يبطل ذلك بنسيانه.
وهذا بخلاف الشهادة على الشهادة فإن شاهد الاصل إذا أنكره لم يكن للقاضي أن يقضي بشهادته، لان الفرعي هناك ليس بشاهد على الحق ليقضي بشهادته، وإنما هو ثابت في نقل شهادة الاصلي، ولهذا لو قال أشهد على فلان لا يكون صحيحا ما لم يقل أشهدني على شهادته وأمرني بالاداء فأنا أشهد على شهادته، ثم القضاء يكون بشهادة الاصلي ومع إنكار لا تثبت شهادته في مجلس القضاء، فأما هنا الفرعي إنما يروي الحديث باعتبار سماع صحيح له من الاصلي ولا يبطل ذلك بإنكار الاصلي بناء على نسيانه.
وأما الفريق الثاني استدلوا بحديث عمار رضي الله عنه حين قال لعمر: أما تذكر إذ كنا في الابل فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أما كان يكفيك أن تضرب بيديك الارض فتمسح بهما وجهك وذراعيك فلم

يرفع عمر رضي الله عنه رأسه ولم يعتمد روايته مع أنه كان عدلا ثقة، لانه روى عنه
ولم يتذكر هو ما رواه فكان لا يرى التيمم للجنب بعد ذلك، ولان باعتبار تكذيب العادة يخرج الحديث من أن يكون حجة موجبة للعمل كما قررنا فيما سبق، وتكذيب الراوي أدل على الوهن من تكذيب العادة، وهذا لان الخبر إنما يكون معمولا به إذا اتصل برسول الله عليه السلام، وقد انقطع هذا الاتصال بإنكار راوي الاصل، لان إنكاره حجة في حقه فتنتفي به روايته الحديث أو يصير هو مناقضا بإنكاره ومع التناقض لا تثبت روايته وبدون روايته لا يثبت الاتصال فلا يكون حجة كما في الشهادة على الشهادة، وكما يتوهم نسيان راوي الاصل يتوهم غلط راوي الفرع، فقد يسمع الانسان حديثا فيحفظه ولا يحفظ من سمع منه فيظن أنه سمعه من فلان وإنما سمعه من غيره، فأدنى الدرجات فيه أن يقع التعارض فيما هو متوهم فلا يثبت الاتصال من جهته ولا من جهة غيره لانه مجهول وبالمجهول لا يثبت الاتصال.
وأما حديث ذي اليدين فإنما يحمل على أن النبي عليه السلام تذكر ذلك عند خبرهما وهذا هو الظاهر، فإنه كان معصوما عن التقرير على الخطأ، وحديث عمر محتمل لذلك أيضا فربما تذكر حين شهد به غيره فلهذا عمل به، أو تذكر غفلة من نفسه وشغل القلب بشئ في ذلك الوقت، وقد يكون هذا للمرء بحيث يوجد شئ منه ثم لا يذكره، فأخذه بالاحتياط وجعله آمنا من هذا الوجه.
ونحن لا نمنع من مثل هذا الاحتياط، وإنما ندعي أنه لا يبقى موجبا للعمل مع إنكار راوي الاصل، وكما أن راوي الفرع عدل ثقة فراوي الاصل كذلك وذلك يرجح جانب الصدق في إنكاره أيضا فتتحقق المعارضة من هذا الوجه، وأدنى ما فيه أن يتعارض قولاه في الرواية والانكار فيبقى الامر على ما كان قبل روايته.
وأما الوجه الثاني وهو ما إذا ظهر منه المخالفة قولا أو عملا، فإن كان ذلك بتاريخ قبل الرواية فإنه لا يقدح في الخبر ويحمل على أنه كان ذلك مذهبه قبل أن يسمع الحديث فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إن لم يعلم التاريخ لان الحمل على أحسن
الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون ذلك منه قبل أن يبلغه الحديث

ثم رجع إلى الحديث.
وأما إذا علم ذلك منه بتاريخ بعد الحديث فإن الحديث يخرج به من أن يكون حجة لان فتواه بخلاف الحديث أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع وأنه الاصل للحديث، فإن الحالات لا تخلو إما إن كانت الرواية تقولا منه لا عن سماع فيكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث فيصير به فاسقا لا تقبل روايته أصلا، أو يكون ذلك منه عن غفلة ونسيان وشهادة المغفل لا تكون حجة فكذلك خبره، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم الحديث، وهذا أحسن الوجوه فيجب الحمل عليه تحسينا للظن بروايته وعمله، فإنه روى على طريق إبقاء الاسناد وعلم أنه منسوخ فأفتى بخلافه، أو عمل بالناسخ دون المنسوخ، وكما يتوهم أن يكون فتواه أو عمله بناء على غفلة أو نسيان يتوهم أن تكون روايته بناء على غلط وقع له وباعتبار التعارض بينهما ينقطع الاتصال.
وبيان هذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: يغسل الاناء من ولوغ الكلب سبعا ثم صح من فتواه أنه يطهر بالغسل ثلاثا فحملنا على أنه كان علم انتساخ هذا الحكم، أو علم بدلالة الحال أن مراد رسول الله عليه السلام الندب فيما وراء الثلاثة.
وقال عمر رضي الله عنه: متعتان كانتا على عهد رسول الله عليه السلام وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج.
فإنما يحمل هذا على علمه بالانتساخ، ولهذا قال ابن سيرين هم الذين رووا الرخصة في المتعة وهم الذين نهوا عنها، وليس في رأيهم ما يرغب عنه ولا في نصيحتهم ما يوجب التهمة.
وأما في العمل فبيان هذا في حديث عائشة رضي الله عنها: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها) ثم صح أنها زوجت ابنة أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، فبعملها بخلاف الحديث يتبين النسخ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي
عليه السلام كان يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس من الرجوع، ثم قد صح عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر سنين وكان لا يرفع يديه إلا عند تكبيرة الافتتاح فيثبت بعمله بخلاف الحديث نسخ الحكم.
وأما الوجه الثالث وهو تعيينه بعض محتملات الحديث فإن ذلك لا يمنع كون الحديث معمولا به على ظاهره من قبل أنه إنما فعل ذلك بتأويل وتأويله لا يكون

حجة على غيره، وإنما الحجة الحديث، وبتأويله لا يتغير ظاهر الحديث فيبقى معمولا به على ظاهره، وهو وغيره في التأويل والتخصيص سواء.
وبيان هذا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا وهذا يحتمل التفرق بالاقوال ويحتمل التفرق بالابدان ثم حمله ابن عمر على التفرق بالابدان حتى روى عنه أنه كان إذا أوجب البيع مشى هنيهة، ولم نأخذ بتأويله لان الحديث في احتمال كل واحد من الامرين كالمشترك فتعيين أحد المحتملين فيه يكون تأويلا لا تصرفا في الحديث.
وكذلك قال الشافعي رحمه الله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: من بدل دينه فاقتلوه ثم قد ظهر من فتوى ابن عباس أن المرتدة لا تقتل فقال: هذا تخصيص لحق الحديث من الراوي وذلك بمنزلة التأويل لا يكون حجة على غيره، فأنا آخذ بظاهر الحديث وأوجب القتل على المرتدة.
وأما ترك العمل بالحديث أصلا فهو بمنزلة العمل بخلاف الحديث حتى يخرج به من أن يكون حجة، لان ترك العمل بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام كما أن العمل بخلافه حرام، ومن هذا النوع ترك ابن عمر العمل بحديث رفع اليدين عند الركوع كما بينا.
وأما ما يكون من جهة غير الراوي فهو قسمان: أحدهما ما يكون من جهة الصحابة، والثاني ما يكون من جهة أئمة الحديث.
فأما ما يكون من الصحابة فهو
نوعان على ما ذكره عيسى بن أبان رحمه الله: أحدهما أن يعمل بخلاف الحديث بعض الائمة من الصحابة وهو ممن يعلم أنه لا يخفى عليه مثل ذلك الحديث، فيخرج الحديث به من أن يكون حجة، لانه لما انقطع توهم أنه لم يبلغه ولا يظن به مخالفة حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء رواه هو أو غيره، فأحسن الوجوه فيه أنه علم انتساخه أو أن ذلك الحكم لم يكن حتما فيجب حمله على هذا.
وبيانه فيما روى البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ثم صح عن الخلفاء أنهم أبوا الجمع بين الجلد والرجم بعد علمنا أنه لم يخف عليهم الحديث لشهرته، فعرفنا به انتساخ هذا الحكم، وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه قوله: والله لا أنفي أحدا أبدا.
وقول علي رضي الله عنه: كفى بالنفي فتنة، مع علمنا أنه لم يخف عليهما الحديث، فاستدللنا به على انتساخ حكم الجمع بين الجلد والتغريب.

وكذلك ما يروى أن عمر رضي الله عنه حين فتح السواد من بها على أهلها وأبى أن يقسمها بين الغانمين مع علمنا أنه لم يخف عليه قسمة رسول الله عليه السلام خيبر بين أصحابه حين افتتحها، فاستدللنا به على أنه علم أن ذلك لم يكن حكما حتما من رسول الله عليه السلام على وجه لا يجوز غيره في الغنائم.
فإن قيل: أليس أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يطبق في الصلاة بعد ما ثبت انتساخه بحديث مشهور فيه أمر بالاخذ بالركب، ثم خفي عليه ذلك حتى لم يجعل عمله دليلا، على أن الحديث الذي فيه أمر بالاخذ بالركب منسوخ أو أن الاخذ بالركب لا يكون عينا في الصلاة ؟ قلنا: ما خفي على ابن مسعود حديث الامر بالاخذ بالركب، وإنما وقع عنده أنه على سبيل الرخصة فكان تلحقهم المشقة في التطبيق مع طول الركوع لانهم كانوا يخافون السقوط على الارض، فأمروا بالاخذ بالركب تيسيرا عليهم لا تعيينا عليهم، فلاجل هذا التأويل لم يترك العمل بظاهر الحديث
الذي فيه أمر بالاخذ بالركب.
والوجه الثاني أن يظهر منه العمل بخلاف الحديث وهو ممن يجوز أن يخفى عليه ذلك الحديث، فلا يخرج الحديث من أن يكون حجة بعمله بخلافه.
وبيان هذا فيما روي أن النبي عليه السلام رخص للحائض في أن تترك طواف الصدر، ثم صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها تقيم حتى تطهر فتطوف، ولا تترك بهذا العمل بالحديث الذي فيه رخصة لجواز أن يكون ذلك خفي عليه.
وكذلك ما يروى عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه أنه كان لا يوجب إعادة الوضوء على من قهقه في الصلاة، ولا يترك به العمل بالحديث الموجب للوضوء من القهقهة في الصلاة لجواز أن يكون ذلك خفي عليه.
وكذلك قول ابن عمر: لا يحج أحد عن أحد، لا يمنع العمل بالحديث الوارد في الاحجاج عن الشيخ الكبير لجواز أن يكون ذلك خفي عليه، وهذا لان الحديث معمول به إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يترك العمل به باعتبار عمل ممن هو دونه بخلافه، وإنما تحمل فتواه بخلاف الحديث على أحسن الوجهين وهو أنه إنما أفتى به برأيه، لانه خفي عليه النص ولو بلغه لرجع إليه فعلى من يبلغه الحديث بطريق صحيح أن يأخذ به.

وأما ما يكون من أئمة الحديث فهو الطعن في الرواة، وذلك نوعان: مبهم، ومفسر.
ثم المفسر نوعان: ما لا يصلح أن يكون طعنا، وما يصلح أن يكون.
والذي يصلح نوعان: مجتهد فيه، أو متفق عليه.
والمتفق عليه نوعان: أن يكون ممن هو مشهور بالنصيحة والاتقان، أو ممن هو معروف بالتعصب والعداوة.
فأما الطعن المبهم فهو عند الفقهاء لا يكون جرحا، لان العدالة باعتبار ظاهر الدين ثابت لكل مسلم خصوصا من كان من القرون الثلاثة، فلا يترك ذلك بطعن مبهم، ألا ترى أن الشهادة أضيق من رواية الخبر في هذا.
ثم الطعن المبهم من المدعى عليه لا يكون جرحا
فكذلك من المزكي، ولا يمتنع العمل بالشهادة لاجل الطعن المبهم، فلان لا يخرج الحديث بالطعن المبهم من أن يكون حجة أولى.
وهذا للعادة الظاهرة أن الانسان إذا لحقه من غير ما يسوءه فإنه يعجز عن إمساك لسانه في ذلك الوقت حتى يطعن فيه طعنا مبهما إلا من عصمه الله تعالى، ثم إذا طلب منه تفسير ذلك لا يكون له أصل.
والمفسر الذي لا يصلح أن يكون طعنا لا يوجب الجرح أيضا، وذلك مثل طعن بعض المتعنتين في أبي حنيفة أنه دس ابنه ليأخذ كتب أستاذه حماد فكان يروي من ذلك.
وهذا إن صح فهو لا يصلح طعنا بل هو دليل الاتقان فقد كان هو لا يستجيز الرواية إلا عن حفظ، والانسان لا يقوى اعتماده على جميع ما يحفظه، ففعل ذلك ليقابل حفظه بكتب أستاذه فيزداد به معنى الاتقان.
وكذلك الطعن بالتدليس على من يقول حدثني فلان عن فلان ولا يقول قال حدثني فلان فإن هذا لا يصلح أن يكون طعنا، لان هذا يوهم الارسال، وإذا كان حقيقة الارسال دليل زيادة الاتقان على ما بينا فما يوهم الارسال كيف يكون طعنا.
ومنه الطعن بالتلبيس على من يكنى عن الراوي ولا يذكر اسمه ولا نسبه، نحو رواية سفيان الثوري بقوله حدثنا أبو سعيد من غير بيان يعلم به أن هذا ثقة أو غير ثقة، ونحو رواية محمد بقوله أخبرنا الثقة من غير تفسير، فإن هذا محمول على أحسن الوجوه وهو صيانة الراوي من أن يطعن فيه (بعض) من لا يبالي وصيانة السامع من أن

يبتلى بالطعن في أحد من غير حجة، على أن من يكون مطعونا في بعض رواياته بسبب لا يوجب عموم الطعن فيه فذلك لا يمنع قبول روايته والعمل به فيما سوى ذلك نحو الكلبي وأمثاله.
ثم سفيان الثوري ممن لا يخفى حاله في الفقه والعدالة ولا يظن به إلا أحسن الوجوه.
وكذلك محمد بن الحسن فتحمل الكناية منهما عن الراوي على أنهما قصدا صيانته، وكيف يجعل ذلك طعنا والقول بأنه ثقة شهادة بالعدالة له ؟.
ومن ذلك أيضا طعن بعض الجهال في محمد بن الحسن بأنه سأل عبد الله بن المبارك رحمه الله أن يروي له أحاديث ليسمعها منه فأبى فلما قيل له في ذلك فقال: لا تعجبني أخلاقه.
فإن هذا إن صح لم يصلح أن يكون طعنا لان أخلاق الفقهاء لا توافق أخلاق الزهاد في كل وجع، فهم بمحل القدوة والزهاد بمحل العزلة، وقد يحسن في مقام العزلة ما يقبح في مقام القدوة أو على عكس ذلك، فكيف يصلح أن يكون هذا طعنا لو صح مع أنه غير صحيح، فقد روي عن ابن المبارك أنه قال لا بد أن يكون في كل زمان من يحيي به الله للناس دينهم ودنياهم.
فقيل له: من بهذه الصفة في هذا الزمان ؟ فقال: محمد بن الحسن.
فهذا يتبين أنه لا أصل لذلك الطعن.
ومن ذلك الطعن بركض الدواب، فإن ذلك من عمل الجهاد، لان السباق على الافراس والاقدام مشروع ليتقوى به المرء على الجهاد، فما يكون من جنسه مشروع لا يصلح أن يكون طعنا.
ومن ذلك الطعن بكثرة المزاح فإن ذلك مباح شرعا إذا لم يتكلم بما ليس بحق، على ما روي أن النبي عليه السلام كان يمازح ولا يقول إلا حقا.
ولكن هذا بشرط أن لا يكون متخبطا مجازفا يعتاد القصد إلى رفع الحجة والتلبيس به، ألا ترى إلى ما روي أن عليا رضي الله عنه كان به دعابة.
وقد ذكر ذلك عمر حين ذكر اسمه في الشورى ولم يذكره على وجه الطعن، فعرفنا أن عينه لا يكون طعنا.
ومن ذلك الطعن بحداثة سن الراوي، فإن كثيرا من الصحابة كانوا يروون في حداثة سنهم، منهم ابن عباس وابن عمر، ولكن هذا بشرط الاتقان عند التحمل

في الصغر، وعند الرواية بعد البلوغ، ولهذا أخذنا بحديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه في صدقة الفطر أنه نصف صاع من بر، ورجحنا حديثه على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في التقدير بصاع من بر، لان حديثه أحسن متنا،
فذلك دليل الاتقان، ووافقه رواية ابن عباس أيضا.
والشافعي أخذ بحديث النعمان إبن بشير رضي الله عنهما في إثبات حق الرجوع للوالد فيما يهب لولده، وقد روي أنه نحله أبوه غلاما وهو ابن سبع سنين، فعرفنا أن مثل هذا لا يكون طعنا عند الفقهاء.
ومن ذلك الطعن بأن رواية الاخبار ليست بعادة له، فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ما اعتاد الرواية ولا يظن بأحد أنه يطعن في حديثه بهذا السبب، وقبل رسول الله شهادة الاعرابي على رؤية هلال رمضان، والاعرابي ما كان اعتاد الرواية، وقد كان في الصحابة من يمتنع من الرواية في عامة الاوقات، وفيهم من يشتغل بالرواية في عامة الاوقات، ثم لم يرجح أحد رواية من اعتاد ذلك على من لم يعتد الرواية، وهذا لان المعتبر هو الاتقان، وربما يكون إتقان من لم تصر الرواية عادة له فيما يروي أكثر من إتقان من اعتاد الرواية.
ومن ذلك الطعن بالاستكثار من تفريع مسائل الفقه، فإن ذلك دليل الاجتهاد وقوة الخاطر، فيستدل به على حسن الضبط والاتقان، فكيف يصلح أن يكون طعنا وما يكون مجتهدا فيه الطعن بالارسال ؟ وقد بينا أنه ليس بطعن عندنا لانه دليل تأكد الخبر وإتقان الراوي في السماع من غير واحد.
وأما الطعن المفسر بما يكون موجبا للجرح، فإن حصل ممن هو معروف بالتعصب أو متهم به لظهور سبب باعث له على العداوة فإنه لا يوجب الجرح، وذلك نحو طعن الملحدين والمتهمين ببعض الاهواء المضلة في أهل السنة، وطعن بعض من ينتحل مذهب الشافعي رحمه الله في بعض المتقدمين من كبار أصحابنا، فإنه لا يوجب الجرح لعلمنا أنه كان عن تعصب وعداوة.
فأما وجوه الطعن الموجب للجرح فربما ينتهي إلى أربعين وجها يطول الكتاب بذكر تلك الوجوه، ومن طلبها في كتاب الجرح والتعديل وقف عليها إن شاء الله تعالى.

فصل: في بيان المعارضة بين النصوص وتفسير المعارضة وركنها وحكمها وشرطها قال رضي الله عنه: اعلم بأن الحجج الشرعية من الكتاب والسنة لا يقع بينهما التعارض والتناقض وضعا، لان ذلك من أمارات العجز والله يتعالى عن أن يوصف به، وإنما يقع التعارض لجهلنا بالتاريخ، فإنه يتعذر به علينا التمييز بين الناسخ والمنسوخ، ألا ترى أن عند العلم بالتاريخ لا تقع المعارضة بوجه ولكن المتأخر ناسخ للمتقدم، فعرفنا أن الواجب في الاصل طلب التاريخ ليعلم به الناسخ من المنسوخ، وإذا لم يوجد ذلك يقع التعارض بينهما في حقنا من غير أن يتمكن التعارض فيما هو حكم الله تعالى في الحادثة، ولاجل هذا يحتاج إلى معرفة تفسير المعارضة، وركنها، وشرطها، وحكمها.
فأما التفسير: فهي الممانعة على سبيل المقابلة.
يقال: عرض لي كذا: أي استقبلني فمنعني مما قصدته، ومنه سميت الموانع عوارض، فإذا تقابل الحجتان على سبيل المدافعة والممانعة سميت معارضة.
وأما الركن: فهو تقابل الحجتين المتساويتين على وجه يوجب كل واحد منهما ضد ما توجبه الاخرى، كالحل والحرمة والنفي والاثبات، لان ركن الشئ ما يقوم به ذلك الشئ، وبالحجتين المتساويتين تقوم المقابلة إذا لا مقابلة للضعيف مع القوي.
وأما الشرط: فهو أن يكون تقابل الدليلين في وقت واحد وفي محل واحد، لان المضادة والتنافي لا يتحقق بين الشيئين في وقتين ولا في محلين حسا وحكما.
ومن الحسيات الليل والنهار لا يتصور اجتماعهما في وقت واحد، ويجوز أن يكون بعض الزمان نهارا والبعض ليلا، وكذلك السواد مع البياض مجتمعان في العين في محلين ولا تصور لاجتماعهما في محل واحد.
ومن الحكميات النكاح فإنه يوجب الحل
في المنكوحة والحرمة في أمها وبنتها، ولا يتحقق التضاد بينهما في محلين حتى صح إثباتهما بسبب واحد.
والصوم يجب في وقت والفطر في وقت آخر ولا يتحقق

معنى التضاد بينهما باختلاف الوقت، فعرفنا أن شرط التضاد والتمانع اتحاد المحل والوقت.
ومن الشرط أن يكون كل واحد منهما موجبا على وجه يجوز أن يكون ناسخا للآخر إذا عرف التاريخ بينهما، ولهذا قلنا: يقع التعارض بين الآيتين، وبين القراءتين، وبين السنتين، وبين الآية والسنة المشهورة، لان كل واحد منهما يجوز أن يكون ناسخا إذا علم التاريخ بينهما، على ما نبينه في باب النسخ.
ولا يقع التعارض بين القياسين، لان أحدهما لا يجوز أن يكون ناسخا للآخر، فإن النسخ لا يكون إلا فيما هو موجب للعلم والقياس لا يوجب ذلك ولا يكون ذلك إلا عن تاريخ وذلك لا يتحقق في القياسين.
وكذلك لا يقع التعارض في أقاويل الصحابة لان كل واحد منهما (إنما) قال ذلك عن رأيه والرواية لا تثبت بالاحتمال، وكما أن الرأيين من واحد لا يصلح أن يكون أحدهما ناسخا للآخر فكذلك من اثنين.
وأما الحكم فنقول: متى وقع التعارض بين الآيتين فالسبيل الرجوع إلى سبب النزول ليعلم التاريخ بينهما، فإذا علم ذلك كان المتأخر ناسخا للمتقدم فيجب العمل بالناسخ ولا يجوز العمل بالمنسوخ، فإن لم يعلم ذلك فحينئذ يجب المصير إلى السنة لمعرفة حكم الحادثة، ويجب العمل بذلك إن وجد في السنة، لان المعارضة لما تحققت في حقنا فقد تعذر علينا العمل بالآيتين، إذ ليست إحداهما بالعمل بها أولى من الاخرى والتحقق بما لو لم يوجد حكم الحادثة في الكتاب فيجب المصير إلى السنة في معرفة الحكم.
وكذلك إن وقع التعارض بين السنتين ولم يعرف التاريخ فإنه يصار إلى ما بعد السنة فيما يكون حجة في حكم الحادثة، وذلك قول الصحابي أو القياس
الصحيح على ما بينا من قبل في الترتيب في الحجج الشرعية، لان عند المعارضة يتعذر العمل بالمتعارضين، ففي حكم العمل يجعل ذلك كالمعدوم أصلا.
وعلى هذا قلنا: إذا ادعى رجلان نكاح امرأة وأقام كل واحد منهما البينة وتعذر ترجيح إحدى البينتين بوجه من الوجوه فإنه تبطل الحجتان ويصير كأنه لم يقم كل واحد منهما البينة.

فأما إذا وقع التعارض بين القياسين، فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر بدليل شرعي وذلك قوة في أحدهما لا يوجد مثله في الآخر يجب العمل بالراجح ويكون ذلك بمنزلة معرفة التاريخ في النصوص، وإن لم يوجد ذلك فإن المجتهد يعمل بأيهما شاء لا باعتبار أن كل واحد منهما حق أو صواب، فالحق أحدهما والآخر خطأ على ما هو المذهب عندنا في المجتهد أنه يصيب تارة ويخطئ أخرى، ولكنه معذور في العمل به في الظاهر ما لم يتبين له الخطأ بدليل أقوى من ذلك، وهذا لانه في طريق الاجتهاد مصيب، وإن لم يقف على الصواب باجتهاده وطمأنينة القلب إلى ما أدى إليه اجتهاده يصلح أن يكون دليلا في حكم العمل شرعا عند تحقق الضرورة بانقطاع الادلة.
قال عليه السلام: المؤمن ينظر بنور الله وقال: فراسة المؤمن لا تخطئ ولهذا جوزنا التحري في باب القبلة عند انقطاع الادلة الدالة على الجهة، وحكمنا بجواز الصلاة سواء تبين أنه أصاب جهة الكعبة أو أخطأ، لانه اعتمد في عمله دليلا شرعيا، وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله: قبلة المتحري جهة قصده.
وإنما جعلناه مخيرا عند تعارض القياسين لاجل الضرورة، لانه إن ترك العمل بهما للتعارض احتاج إلى اعتبار الحال لبناء حكم الحادثة عليه، إذ ليس بعد القياس دليل شرعي يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة، والعمل بالحال عمل بلا دليل، ولا إشكال أن العمل بدليل شرعي فيه احتمال الخطأ والصواب يكون أولى من العمل بلا دليل، ولكن هذه
الضرورة إنما تتحقق في القياسين ولا تتحقق في النصين لانه يترتب عليهما دليل شرعي يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة، لهذا لا يتخير هناك في العمل بأي النصين شاء.
وعلى هذا الاصل قلنا: إذا كان في السفر ومعه إناءان في أحدهما ماء طاهر وفي الآخر ماء نجس ولا يعرف الطاهر من النجس، فإنه يتحرى للشرب ولا يتحرى للوضوء بل يتيمم، لان في حق الشرب لا يجد بدلا يصير إليه في تحصيل مقصوده، فله أن يصير إلى التحري لتحقق الضرورة، وفي حكم الطهارة يجد شيئا آخر يطهر به عند العجز عن استعمال الماء الطاهر وهو التيمم فلا يتحقق فيه الضرورة، وبسبب المعارضة يجعل لعادم الماء فيصير إلى التيمم، وقلنا في المساليخ إذا استوت الذكية والميتة ففي حالة الضرورة بأن لم يجد حلالا سوى ذلك جاز له التحري، وعند عدم الضرورة بوجود طعام حلال لا يكون له أن يصير إلى التحري، ولهذا

لم يجوز التحري في الفروج أصلا عند اختلاط المعتقة عينا بغير المعتقة، لان جواز ذلك باعتبار الضرورة ولا مدخل للضرورة في إباحة الفرج بدون الملك بخلاف الطعام والشراب.
ثم إذا عمل بأحد القياسين وحكم بصحة عمله باعتبار الظاهر يصير ذلك لازما له حتى لا يجوز له أن يتركه ويعمل بالآخر من غير دليل موجب لذلك.
وعلى هذا قلنا في الثوبين: إذا كان أحدهما طاهرا والآخر نجسا وهو لا يجد ثوبا آخر فإنه يصير إلى التحري لتحقق الضرورة، فإنه لو ترك لبسهما لا يجد شيئا آخر يقيم به فرض الستر الذي هو شرط جواز الصلاة، وبعدما صلى في أحد الثوبين بالتحري لا يكون له أن يصلي في الثوب الآخر، لانا حين حكمنا بجواز الصلاة في ذلك الثوب فذلك دليل شرعي موجب طهارة ذلك الثوب، والحكم بنجاسة الثوب الآخر فلا تجوز الصلاة فيه بعد ذلك إلا بدليل أقوى منه.
فإن قيل: أليس أنه لو تحرى عند اشتباه القبلة وصلى صلاة إلى جهة ثم وقع تحريه
على جهة أخرى يجوز له أن يصلي في المستقبل إلى الجهة الثانية، ولم يجعل ذلك دليلا على أن جهة القبلة ما أدى إليه اجتهاده في الابتداء ؟ قلنا: لان هناك الحكم بجواز الصلاة إلى تلك الجهة لا يتضمن الحكم بكونها جهة الكعبة لا محالة، ألا ترى أنه وإن تبين له الخطأ بيقين بأن استدبر الكعبة جازت صلاته، وفي الثوب من ضرورة الحكم بجواز الصلاة في ثوب الحكم بطهارة ذلك الثوب، حتى إذا تبين أنه كان نجسا تلزمه إعادة الصلاة، والعمل بالقياس من هذا القبيل، فإن صحة العمل بأحد القياسين يتضمن الحكم بكونه حجة للعمل به ظاهرا، ولهذا لو تبين نص بخلافه بطل حكم العمل به، فلهذا كان العمل بأحد القياسين مانعا له من العمل بالقياس الآخر بعد ما لم يتبين دليل أقوى منه.
ووجه آخر أن التعارض بين النصين إنما يقع لجهلنا بالتاريخ بينهما والجهل لا يصلح دليلا على حكم شرعي من حيث العلم لا من حيث العمل، والاختيار حكم شرعي لا يجوز أن يثبت باعتبار هذا الجهل.
فأما التعارض بين القياسين باعتبار كون كل واحد منهما صالحا للعمل به في أصل الوضع وإن كان أحدهما صوابا حقيقة والآخر خطأ، ولكن من حيث الظاهر هو معمول

به شرعا ما لم يتبين وجه الخطأ فيه، فإثبات الخيار بينهما في حكم العمل إذا رجح أحدهما بنوع فراسة يكون إثبات الحكم بدليل شرعي، ثم إذا عمل بأحدهما صح ذلك بالاجماع فلا يكون له أن ينقض ما نفذ من القضاء منه بالاجماع، ولا يصير إلى العمل بالآخر إلا بدليل هو أقوى من الاول.
فإن قيل: لو ثبت الخيار له في العمل بالقياسين لكان يبقى خياره بعدما عمل بأحدهما في حادثة حتى يكون له أن يعمل بالآخر في حادثة أخرى كما في كفارة اليمين، فإنه لو عين أحد الانواع في تكفير يمين به يبقى خياره في تعيين نوع آخر في كفارة يمين أخرى.
قلنا: هناك التخيير ثبت على أن كل واحد من الانواع صالح للتكفير
به بدليل موجب للعلم، وهنا الخيار ما ثبت بمثل هذا الدليل بل باعتبار أن كل واحد منهما صالح للعمل به ظاهرا، مع علمنا بأن الحق أحدهما والآخر خطأ، فبعد ما تأيد أحدهما بنفوذ القضاء به لا يكون له أن يصير إلى الآخر إلا بدليل هو أقوى من الاول، وهذا لان جهة الصواب تترجح بعمله فيما عمل به، ومن ضرورته ترجح جانب الخطأ في الآخر ظاهرا، فما لم يرتفع ذلك بدليل سوى ما كان موجودا عند العمل بأحدهما لا يكون له أن يصير إلى العمل بالآخر.
والحاصل: أن فيما ليس فيه احتمال الانتقال من محل إلى محل إذا تعين المحل بعمله لا يبقى له خيار بعد ذلك كالنجاسة في الثوب، فإنها لا تحتمل الانتقال من ثوب إلى ثوب، فإذا تعين بصلاته في أحد الثوبين صفة الطهارة فيه والنجاسة في الآخر لا يبقى له رأي في الصلاة في الثوب الآخر ما لم يثبت طهارته بدليل موجب للعلم.
وفي باب القبلة فرض التوجه يحتمل الانتقال، ألا ترى أنه انتقل من بيت المقدس إلى الكعبة، ومن عين الكعبة إلى الجهة إذا بعد من مكة، ومن جهة الكعبة إلى سائر الجهات إذا كان راكبا فإنه يصلي حيثما توجهت به راحلته، فبعد ما صلى بالتحري إلى جهة إذا تحول رأيه ينتقل فرض التوجه إلى تلك الجهة أيضا، لان الشرط أن يكون مبتلى في التوجه عند القيام إلى الصلاة، وإنما يتحقق هذا إذا صلى إلى الجهة التي وقع عليها تحريه.
وكذلك حكم العمل بالقياس في المجتهدات فإن القضاء الذي نفذ بالقياس في محل لا يحتمل الانتقال إلى محل آخر فيلزم ذلك.
فأما

فيما وراء ذلك الحكم محتمل للانتقال، فإن الكلام في حكم يحتمل النسخ، وشرط العمل بالقياس أن يكون مبتلى بطلب الطريق باعتبار أصل الوضع شرعا، فإذا استقر رأيه على أن الصواب هو الآخر كان عليه أن يعمل في المستقبل.
وعلى هذا الاصل قلنا: إذا طلق إحدى امرأتيه بعينها ثم نسي أو أعتق أحد المملوكين
بعينه ثم نسي لا يثبت له خيار البيان، لان الواقع من الطلاق والعتاق لا يحتمل الانتقال من محل إلى محل آخر، وإنما ثبتت المعارضة بين المحلين في حقه لجهله بالمحل الذي عينه عند الايقاع وجهله لا يثبت الخيار له شرعا، وبمثله لو أوجب في أحدهما بغير عينه ابتداء كان له الخيار في البيان، لان تعيين المحل كان مملوكا له شرعا كابتداء الايقاع، ولكنه بمباشرة الايقاع أسقط ما كان له من الخيار في أصل الايقاع، ولم يسقط ما كان له من الخيار في التعيين فيبقى ذلك الخيار ثابتا له شرعا، ومما يثبت فيه حكم التعارض سؤر الحمار والبغل، فقد تعارضت الادلة في الحكم بطهارته ونجاسته، وقد بينا هذا في فروع الفقه، ولكن لا يمكن المصير إلى القياس بعد هذا التعارض، لان القياس لا يصلح لنصب الحكم به ابتداء فوجب العمل بدليل فيه بحسب الامكان وهو المصير إلى الحال، فإن الماء كان طاهرا في الاصل فيبقى طاهرا.
نص عليه في غير موضع من النوادر، حتى قال: لو غمس الثوب في سؤر الحمار تجوز الصلاة فيه ولا يتنجس العضو أيضا باستعماله، لانه عرق طاهر في الاصل.
وهذا الدليل لا يصلح أن يكون مطلقا أداء الصلاة به وحده، لان الحدث كان ثابتا قبل استعماله فلا يزول باستعماله بيقين، فشرطنا ضم التيمم إليه حتى يحصل التيقن بالطهارة المطلقة لاداء الصلاة.
وكذلك الخنثى إذا لم يظهر فيه دليل يترجح به صفة الذكورة أو الانوثة فإنه يكون مشكل الحال يجعل بمنزلة الذكور في بعض الاحكام وبمنزلة الاناث في البعض، على حسب ما يدل عليه الحال في كل حكم.
وكذلك المفقود فإنه يجعل بمنزله الحي في مال نفسه حتى لا يورث عنه وبمنزلة الميت في الارث من الغير، لان أمره مشكل فوجب المصير إلى الحال لاجل الضرورة والحكم بما يدل عليه الحال في كل حادثة.

وأما بيان المخلص عن المعارضات فنقول: يطلب هذا المخلص أولا من نفس
الحجة، فإن لم يوجد فمن الحكم، فإن لم يوجد فباعتبار الحال، فإن لم يوجد فبمعرفة التاريخ نصا، فإن لم يوجد فبدلالة التاريخ.
فأما الوجه الاول وهو الطلب المخلص من نفس الحجة فبيانه من أوجه: أحدها أن يكون أحد النصين محكما والآخر مجملا أو مشكلا، فإن بهذا يتبين أن التعارض حقيقة غير موجود بين النصين وإن كان موجودا ظاهرا فيصار إلى العمل بالحكم دون المجمل والمشكل.
وكذلك إن كان أحدهما نصا من الكتاب أو السنة المشهورة والآخر خبر الواحد.
وكذلك إن كان أحدهما محتملا للخصوص فإنه ينتفي معنى التعارض بتخصيصه بالنص الآخر.
وبيانه من الكتاب في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وقوله تعالى في المستأمن: (ثم أبلغه مأمنه) فإن التعارض يقع بين النصين ظاهرا ولكن قوله: (فاقطعوا أيديهما) عام يحتمل الخصوص فجعلنا قوله تعالى: (ثم أبلغه مأمنه) دليل تخصيص المستأمن من ذلك.
ومن السنة قوله عليه السلام: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ونهيه عن الصلاة في ثلاث ساعات، فالتعارض بين النصين ثبت ظاهرا ولكن قوله عليه السلام: فليصلها إذا ذكرها بعرض التخصيص فيجعل النص الآخر دليل التخصيص حتى ينتفي به التعارض.
وكذلك إن ظهر عمل الناس بأحد النصين دون الآخر، لان الذي ظهر العمل به بين الناس ترجح بدليل الاجماع فينتفي به معنى التعارض بينهما، مع أن الظاهر أن اتفاقهم على العمل به لكونه متأخرا ناسخا لما كان قبله، وبالعلم بالتاريخ ينتفي التعارض فكذلك بالاجماع الدال عليه، وإن كان المعمول به سابقا فذلك دليل على أن الآخر مؤول أو سهو من بعض الرواة إن كان في الاخبار، لان المنسوخ إذا اشتهر فناسخه يشتهر بعده أيضا، كما اشتهر تحريم المتعة بعد الاباحة واشتهر إباحة زيارة القبور وإمساك لحوم الاضاحي والشرب في الاواني بعد النهي،

ولو اشتهر الناسخ لما أجمعوا على العمل بخلافه، فبهذا الطريق تنتفي المعارضة وكما ينتفي التعارض بدليل الاجماع يثبت التعارض بدليل الاجماع فإن النبي عليه السلام سئل عن ميراث العمة والخالة فقال: لا شئ لهما وقال: الخال وارث من لا وارث له فمن حيث الظاهر لا تعارض بين الحديثين، لان كل واحد منهما في محل آخر ولكن ثبت بإجماع الناس أنه لا فرق بين الخال والخالة والعمة في صفة الوراثة، فباعتبار هذا الاجماع يقع التعارض بين النصين، ثم رجح علماؤنا المثبت منهما، ورجح الشافعي ما كان معلوما باعتبار الاصل وهو عدم استحقاق الميراث.
وبيان الطلب المخلص من حيث الحكم أن التعارض إنما يقع للمدافعة بين الحكمين، فإن كان الحكم الثابت بأحد النصين مدفوعا بالآخر لا محالة فهو التعارض حقيقة، وإن أمكن إثبات حكم بكل واحد من النصين سوى الحكم الآخر لا تتحقق المدافعة فينتفي التعارض.
وبيان ذلك في قوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) مع قوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) فبين النصين تعارض من حيث الظاهر في يمين الغموس فإنها من كسب القلوب، ولكنها غير معقودة لانها لم تصادف محل عقد اليمين وهو الخبر الذي فيه رجاء الصدق، ولكن انتفى هذا التعارض باعتبار الحكم فإن المؤاخذة المذكورة في قوله تعالى: (بما عقدتم الايمان) هي المؤاخذة بالكفارة في الدنيا، وفي قوله تعالى: (بما كسبت قلوبكم) المؤاخذة بالعقوبة في الآخرة، لانه أطلق المؤاخذة فيها والمؤاخذة المطلقة تكون في دار الجزاء فإن الجزاء بوفاق العمل، فأما في الدنيا فقد يبتلى المطيع ليكون تمحيصا لذنوبه وينعم على العاصي استدراجا، فبهذا الطريق تبين أن الحكم الثابت في أحد النصين غير الحكم الثابت في الآخر، وإذا انتفت المدافعة بين الحكمين ظهر المخلص عن التعارض.
فأما المخلص بطريق الحال فبيانه في قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)
بالتخفيف في إحدى القراءتين وبالتشديد في الاخرى، فبينهما تعارض في الظاهر، لان حتى للغاية وبين امتداد الشئ إلى غاية وبين قصوره دونها منافاة، والاطهار هو الاغتسال والطهر يكون بانقطاع الدم فبين امتداد حرمة القربان إلى الاغتسال وبين ثبوت حل القربان عند انقطاع الدم منافاة، ولكن باعتبار الحال ينتفي هذا التعارض، وهو أن تحمل القراءة

بالتشديد على حال ما إذا كان أيامها دون العشرة، والقراءة بالتخفيف على حال ما إذا كان أيامها عشرة، لان الطهر بالانقطاع إنما يتيقن به في تلك الحالة، فإن الحيض لا يكون أكثر من عشرة أيام، فأما فيما دون العشرة لا يثبت الطهر بالانقطاع بيقين، لتوهم أن يعاودها الدم ويكون ذلك حيضا فتمتد حرمة القربان إلى الاطهار بالاغتسال.
وكذلك قوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين) فالتعارض يقع في الظاهر بين القراءة بالنصب الذي يجعل الرجل عطفا على المغسول، والقراءة بالخفض الذي يجعل الرجل عطفا على الممسوح (ثم) تنتفي هذه المعارضة بأن تحمل القراءة بالخفض على حال ما إذا كان لابسا للخف، بطريق أن الجلد الذي استتر به الرجل يجعل قائما مقام بشرة الرجل، فإنما ذكر الرجل عبارة عنه بهذا الطريق، والقراءة بالنصب على حال ظهور القدم، فإن الفرض في هذه الحالة غسل الرجلين عينا.
فأما طلب المخلص من حيث التاريخ فهو أن يعلم بالدليل التاريخ فيما بين النصين، فيكون المتأخر منهما ناسخا للمتقدم.
وبيان هذا فيما قال ابن مسعود رضي الله عنه في عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا محتجا به على من يقول إنها تعتد بأبعد الاجلين، فإنه قال: من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى: (وأولات الاحمال أجلهن) نزلت بعد سورة النساء الطولى: (يتربصن بأنفسهن) فجعل التأخر دليل النسخ، فعرفنا أنه كان معروفا فيما بينهم أن المتأخر من النصين ناسخ للمتقدم.
فأما طلب المخلص بدلالة التاريخ وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر
والآخر موجبا للاباحة نحو ما روي أن النبي عليه السلام نهى عن أكل الضب وروي أنه رخص فيه، وما روي أنه عليه السلام نهى عن أكل الضبع وروي أنه عليه السلام رخص فيه، فإن التعارض بين النصين ثابت من حيث الظاهر ثم ينتفي ذلك بالمصير إلى دلالة التاريخ وهو أن النص الموجب للحظر يكون متأخرا عن الموجب للاباحة فكان الاخذ به أولى.
وبيان ذلك وهو أن الموجب للاباحة يبقى ما كان على ما كان على طريقة بعض مشايخنا، لكون الاباحة أصلا في الاشياء، كما أشار إليه محمد في كتاب الاكراه، وعلى أقوى الطريقين باعتبار أن قبل مبعث

رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الاباحة ظاهرة في هذه الاشياء، فإن الناس لم يتركوا سدى في شئ من الاوقات، ولكن في زمان الفترة الاباحة كانت ظاهرة في الناس وذلك باق إلى أن ثبت الدليل الموجب للحرمة في شريعتنا، فبهذا الوجه يتبين أن الموجب للحظر متأخر، وهذا لانا لو جعلنا الموجب للاباحة متأخرا احتجنا إلى إثبات نسخين: نسخ الاباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للاباحة، وإذا جعلنا نص الحظر متأخرا احتجنا إلى إثبات النسخ في أحدهما خاصة فكان هذا الجانب أولى، ولانه قد ثبت بالاتفاق نسخ حكم الاباحة بالحظر.
وأما نسخ حكم الحظر بالاباحة فمحتمل فبالاحتمال لا يثبت النسخ، ولان النص الموجب للحظر فيه زيادة حكم وهو نيل الثواب بالانتهاء عنه واستحقاق العقاب بالاقدام عليه، وذلك ينعدم في النص الموجب للاباحة، فكان تمام الاحتياط في إثبات التاريخ بينهما على أن يكون الموجب للحظر متأخرا والاخذ بالاحتياط أصل في الشرع.
واختلف مشايخنا فيما إذا كان أحد النصين موجبا للنفي والآخر موجبا للاثبات، فكان الشيخ أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: المثبت أولى من النافي، لان
المثبت أقرب إلى الصدق من النافي ولهذا قبلت الشهادة على الاثبات دون النفي.
وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول: تتحقق المعارضة بينهما، لان الخبر الموجب للنفي معمول به كالموجب للاثبات، وما يستدل به على صدق الراوي في الخبر الموجب للاثبات فإنه يستدل بعينه على صدق الراوي في الخبر الموجب للنفي.
واختلف عمل المتقدمين من مشايخنا في مثل هذين النصين، فإنه روي أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو محرم، وروي أنه تزوجها وهو حلال، ثم أخذنا برواية من روى أنه تزوجها وهو محرم والاثبات في الرواية الاخرى، لانهم اتفقوا أن العقد كان بعد إحرامه، فمن روى أنه تزوجها وهو حلال فهو المثبت للتحلل من الاحرام قبل العقد ثم لم يرجح المثبت على النافي هنا.
وروي أن بريرة أعتقت وزوجها كان حرا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي أنها أعتقت وزوجها عبد، ولا خلاف أن زوجها كان عبدا في الاصل، فكان الاثبات في رواية من روى أن زوجها كان حرا حين أعتقت فأخذنا بذلك، فهذا يدل على أن الترجيح

يحصل بالاثبات.
وروي أن النبي عليه السلام رد ابنته زينب على أبي العاص رضي الله عنهما بنكاح جديد، وروي أنه ردها عليه بالنكاح الاول، والاثبات في رواية من روى أنه ردها عليه بعقد جديد، وبذلك أخذنا، فهو دليل على أن الترجيح يحصل بالاثبات.
وذكر في كتاب الاستحسان: إذا أخبر عدل بطهارة الماء وعدل آخر بنجاسته فإنه يتعارض الخبران والاثبات في خبر من أخبر بنجاسته ثم لم يرجح الخبر به.
وقال في التزكية: الشاهد إذا عدله واحد وجرحه آخر فإن الجرح يكون أولى لان في خبره إثباتا.
فإذا تبين من أصول علمائنا هذا كله فلا بد من طلب وجه يحصل به التوفيق بين هذه الفصول ويستمر المذهب عليه مستقيما.
وذلك الوجه أن خبر النفي إما أن يكون لدليل يوجب
العلم به أو لعدم الدليل المثبت أو يكون مشتبها، فإن كان لدليل يوجب العلم به فهو مساو للمثبت وتتحقق المعارضة بينهما، وعلى هذا قال في السير الكبير: إذا قالت المرأة سمعت زوجي يقول المسيح ابن الله فبنت منه، وقال الزوج إنما قلت المسيح ابن الله قول النصارى، أو وقالت النصارى المسيح ابن الله، فالقول قوله، فإن شهد للمرأة شاهدان.
وقالا لم نسمع من الزوج هذه الزيادة.
فالقول قوله أيضا، وإن قالا لم يقل هذه الزيادة قبلت الشهادة وفرق بينهما.
وكذا لو ادعى الاستثناء في الطلاق وشهد الشهود أنه لم يستثن قبلت الشهادة، وهذه شهادة على النفي ولكنها عن دليل موجب للعلم به وهو أن ما يكون من باب الكلام فهو مسموع من المتكلم لمن كان بالقرب منه، وما لم يسمع منه يكون دندنة لا كلاما، فإذا قبلت الشهادة على النفي إذا كان عن دليل كما تقبل على الاثبات قلنا في الخبر أيضا يقع التعارض بين النفي والاثبات.
فأما إذا كان خبر النفي لعدم العلم بالاثبات فإنه لا يكون معارضا للمثبت، لانه خبر لا عن دليل موجب بل عن استصحاب حال، وخبر المثبت عن دليل موجب له، ولان السامع والمخبر في هذا النوع سواء، فإن السامع غير عالم بالدليل المثبت كالمخبر بالنفي، فلو جاز أن يكون هذا

الخبر معارضا لخبر المثبت لجاز أن يكون علم السامع معارضا لخبر المثبت.
وإن كان الحال مشتبها فإنه يجب الرجوع إلى الخبر بالنفي واستفساره عما يخبر به ثم التأمل في كلامه، فإن ظهر أنه اعتمد في خبره دليلا موجبا العلم به فهو نظير القسم الاول، وإلا فهو نظير القسم الثاني.
ففي مسألة التزكية من يزكي الشاهد فقد عرفنا أنه إنما يزكيه لعدم العلم بسبب الجرح منه، إذ لا طريق لاحد إلى الوقوف على جميع أحوال غيره حتى يكون إخباره عن تزكيته عن دليل موجب العلم به، والذي جرحه فخبره مثبت الجرح العارض لوقوفه على دليل موجب له، فلهذا جعل خبره أولى.
وفي طهارة الماء ونجاسته
المخبر بالطهارة يعتمد دليلا، لانه توقف على طهارة الماء حقيقة فإن الماء الذي نزل من السماء إذا أخذه الانسان في إناء طاهر وكان بمرأى العين منه إلى وقت الاستعمال فإنه يعلم طهارته بدليل موجب له، كما أن المخبر بنجاسته يعتمد الدليل فتتحقق المعارضة بين الخبرين.
وعلى هذا أثبتنا المعارضة في حديث نكاح ميمونة لان المخبر بأنه كان محرما اعتمد دليلا، والمخبر بأنه كان حلالا اعتمد أيضا في خبره الدليل الموجب له، فإن هيئة المحرم ظاهرا يخالف هيئة الحلال فتتحقق المعارضة من هذا الوجه ويجب المصير إلى طلب الترجيح من جهة إتقان الراوي لما تعذر الترجيح من نفس الحجة، فأخذنا برواية ابن عباس رضي الله عنهما لانه روى القصة على وجهها وذلك دليل إتقانه، ولان يزيد بن الاصم لا يعادله في الضبط والاتقان.
وحديث رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص رجحنا فيه المثبت للنكاح الجديد، لان من نفى ذلك فهو لم يعتمد في نفيه دليلا موجبا العلم به بل عدم الدليل للاثبات وهو مشاهدة النكاح الجديد، فتبنى روايته على استصحاب الحال وهو أنه عرف النكاح بينهما فيما مضى وشاهد ردها عليه فروى أنه ردها بالنكاح الاول.
وفي حديث بريرة رجحنا الخبر المثبت لحرية الزوج عند عتقها، لان من يروي أنه كان عبدا فهو لم يعتمد في خبره دليلا موجبا لنفي الحرية، ولكن بنى خبره على استصحاب الحال لعدم علمه بدليل المثبت للحرية فلهذا رجحنا المثبت.
ومن هذا النوع رواية أنس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام كان قارنا في حجة الوداع، ورواية جابر رضي الله عنه أنه كان مفردا بالحج، فإنا رجحنا خبر المثبت للقران لان من روى الافراد

فهو ما اعتمد دليلا موجبا نفى القران ولكنه عدم الدليل الموجب للعلم به، وهو أنه لم يسمع تلبيته بالعمرة وسمع التلبية بالحج وروي أنه كان مفردا.
ومن ذلك حديث بلال رضي الله عنه أن النبي عليه السلام لم يصل في الكعبة،
مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى فيها عام الفتح، فإنهم اتفقوا أنه ما دخلها يومئذ إلا مرة، ومن أخبر أنه لم يصل فيها (فإنه) لم يعتمد دليلا موجبا للعلم به ولكنه لم يعاين صلاته فيها والآخر عاين ذلك فكان المثبت أولى من النافي.
ومن أهل النظر من يقول يتخلص عن التعارض بكثرة عدد الرواة حتى إذا كان أحد الخبرين يرويه واحد والآخر يرويه اثنان فالذي يرويه اثنان أولى بالعمل به.
واستدلوا بمسألة كتاب الاستحسان في الخبر بطهارة الماء ونجاسته وحل الطعام وحرمته، أنه إذا كان المخبر بأحد الامرين اثنين وبالآخر واحدا، فإنه يؤخذ بخبر الاثنين، وهذا لان خبر المثنى حجة تامة في الشهادات بخلاف خبر الواحد فطمأنينة القلب إلى خبر المثنى أكثر، وقد اشتهر عن الصحابة الاعتماد على خبر المثنى دون الواحد على ما سبق بيانه.
وكذلك يتخلص عن التعارض أيضا بحرية الراوي استدلالا بما ذكر في الاستحسان أنه متى كان المخبر بأحد الامرين حرين وبالآخر عبدين فإنه يؤخذ بخبر الحرين.
قال رضي الله عنه: والذي يصح عندي أن هذا النوع من الترجيح قول محمد رحمه الله خاصة، فقد ذكر نظيره في السير الكبير قال: أهل العلم بالسير ثلاث فرق: أهل الشام، وأهل الحجاز، وأهل العراق، فكل ما اتفق فيه الفريقان (منهم) على قول أخذت بذلك وتركت ما انفرد به فريق واحد.
وهذا ترجيح بكثرة القائلين صار إليه محمد، وأبى ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف.
والصحيح ما قالا، فإن كثرة العدد لا يكون دليل قوة الحجة، قال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وقال تعالى: (ما يعلمهم إلا قليل) وقال تعالى: (وقليل ما هم) ثم السلف من الصحابة وغيرهم لم يرجحوا بكثرة العدد في باب العمل بأخبار الآحاد فالقول به يكون

قولا بخلاف إجماعهم، ولما اتفقنا أن خبر الواحد موجب للعمل كخبر المثنى فيتحقق
التعارض بين الخبرين بناء على هذا الاجماع، أرأيت لو وصل إلى السامع أحد الخبرين بطرق والآخر بطريق واحد أكان يرجح ما وصل إليه بطرق إذا كان راوي الاصل واحدا، فهذا لا يقول به أحد، ولا يؤخذ حكم رواية الاخبار من حكم الشهادات، ألا ترى أن في رواية الاخبار يقع التعارض بين خبر المرأة وخبر الرجل، وبين خبر المحدود في القذف بعد التوبة وخبر غير المحدود، وبين خبر المثنى وخبر الاربعة وإن كان يظهر التفاوت بينهما في الشهادات حتى يثبت بشهادة الاربعة ما لا يثبت بشهادة الاثنين وهو الزنا.
وكذلك طمأنينة القلب إلى قول الاربعة أكثر ومع ذلك تتحقق المعارضة بين شهادة الاثنين وشهادة الاربعة في الاموال، ليعلم أنه لا يؤخذ حكم الحادثة من حادثة أخرى ما لم تعلم المساواة بينهما من كل وجه.
وإنما رجح خبر المثنى على خبر الواحد وخبر الحرين على خبر العبدين في مسألة الاستحسان لظهور الترجيح في العمل به فيما يرجع إلى حقوق العباد، فأما في أحكام الشرع فخبر الواحد وخبر المثنى في وجوب العمل به سواء.
ومن هذه الجملة إذا كان في أحد الخبرين زيادة لم تذكر تلك الزيادة في الخبر الثاني، فمذهبنا فيه أنه إذا كان الراوي واحدا يؤخذ بالمثبت للزيادة ويجعل حذف تلك الزيادة في بعض الطرق محالا على قلة ضبط الراوي وغفلته عن السماع، وذلك مثل ما يرويه ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا وفي رواية أخرى لم تذكر هذه الزيادة، فأخذنا بما فيه إثبات هذه الزيادة وقلنا لا يجري التحالف إلا عند قيام السلعة.
ومحمد والشافعي يقولان نعمل بالحديثين لان العمل بهما ممكن فلا نشتغل بترجيح أحدهما في العمل به.
والصحيح ما قلنا لوجهين: أحدهما أن أصل الخبر واحد وذلك متيقن به وكونهما خبرين محتمل وبالاحتمال لا يثبت الخبر، وإذا كان الخبر واحدا فحذف الزيادة من بعض الرواة ليس له طريق سوى ما قلنا.
والثاني أنا لو جعلناهما خبرين لم يكن للزيادة المذكورة في أحدهما فائدة فيما يرجع إلى بيان الحكم، لان الحكم واحد في الخبرين ولا يجوز حمل كلام رسول الله على ما فيه إخلاؤه عن الفائدة.
فأما إذا اختلف الراوي فقد علم أنهما خبران، وأن النبي

عليه السلام إنما قال كل واحد منهما في وقت آخر فيجب العمل بهما عند الامكان كما هو مذهبنا في أن المطلق لا يحمل على المقيد في حكمين.
وبيان هذا فيما روي أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الطعام قبل القبض وقال لعتاب بن أسيد رضي الله عنه انههم عن أربعة: عن بيع ما لم يقبضوا فإنا نعمل بالحديثين ولا نجعل المطلق منهما محمولا على المقيد بالطعام حتى لا يجوز بيع سائر العروض قبل القبض كما لا يجوز بيع الطعام.
وأهل الحديث يجعلون الرواة في هذا طبقات فيقولون: إذا كانت الزيادة يرويها من هو في الطبقة العليا يجب الاخذ بذلك، وإن كانت الزيادة إنما يرويها من ليس في الطبقة العليا ويروي الخبر بدون الزيادة من هو في الطبقة العليا فإنه يثبت التعارض بينهما.
وكذلك قالوا في خبر يروى موقوفا على بعض الصحابة بطريق ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق، فإن كان يرويه عن رسول الله عليه السلام من هو في الطبقة العليا فإنه يثبت مرفوعا، وإن كان إنما يرويه عن رسول الله عليه السلام من ليس في الطبقة العليا ويرويه موقوفا من هو في الطبقة العليا فإنه يثبت موقوفا.
وكذلك قالوا في المسند والمرسل، ولكن الفقهاء لم يأخذوا بهذا القول، لان الترجيح عند أهل الفقه يكون بالحجة لا بأعيان الرجال، والله أعلم.
باب: البيان قال رضي الله عنه: اختلفت عبارة أصحابنا في معنى البيان.
قال أكثرهم: هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب منفصلا عما تستر به.
وقال بعضهم: هو ظهور
المراد للمخاطب والعلم بالامر الذي حصل له عند الخطاب، وهو اختيار أصحاب الشافعي، لان الرجل يقول: بان لي هذا المعنى بيانا: أي ظهر، وبانت المرأة من زوجها بينونة: أي حرمت، وبان الحبيب بينا: أي بعد، وكل ذلك عبارة عن الانفصال والظهور ولكنها بمعان مختلفة فاختلفت المصادر بحسبها.
والاصح هو الاول أن المراد هو الاظهار، فإن أحدا من العرب لا يفهم من إطلاق لفظ البيان العلم الواقع للمبين له، ولكن إذا قال الرجل: بين فلان كذا بيانا واضحا فإنما يفهم

منه أنه أظهره إظهارا لا يبقى معه شك، وإذا قيل: فلان ذو بيان فإنما يراد به الاظهار أيضا، وقول رسول الله: إن من البيان لسحرا يشهد لما قلنا إنه عبارة عن الاظهار، وقال تعالى: (هذا بيان للناس) وقال تعالى: (علمه البيان) والمراد الاظهار، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا بالبيان للناس، قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) وقد علمنا أنه بين للكل.
ومن وقع له العلم ببيانه أقر ومن لم يقع له العلم أصر.
ولو كان البيان عبارة عن العلم الواقع للمبين لما كان هو متمما للبيان في حق الناس كلهم.
وقول من يقول من أصحابنا حد البيان هو: الاخراج عن حد الاشكال إلى التجلي ليس بقوي، فإن هذا الحد أشكل من البيان والمقصود بذكر الحد زيادة كشف الشئ لا زيادة الاشكال فيه، ثم هذا الحد لبيان المجمل خاصة والبيان يكون فيه وفي غيره.
ثم المذهب عند الفقهاء وأكثر المتكلمين أن البيان يحصل بالفعل من رسول الله عليه السلام كما يحصل بالقول.
وقال بعض المتكلمين: لا يكون البيان إلا بالقول بناء على أصلهم أن بيان المجمل لا يكون إلا متصلا به، والفعل لا يكون متصلا بالقول.
فأما عندنا: بيان المجمل قد يكون متصلا به وقد يكون منفصلا عنه، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
ثم الدليل على أن البيان قد يحصل بالفعل أن جبريل عليه السلام بين مواقيت الصلاة للنبي عليه السلام بالفعل حيث أمه في البيت في اليومين، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة قال للسائل: صل معنا ثم صلى في اليومين في وقتين، فبين له المواقيت بالفعل، وقال لاصحابه: خذوا عني مناسككم وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي ففي هذا تنصيص على أن فعله مبين لهم، ولان البيان عبارة عن إظهار المراد فربما يكون ذلك بالفعل أبلغ منه بالقول، ألا ترى أنه أمر أصحابه بالحلق عام الحديبية فلم يفعلوا ثم لما رأوه حلق بنفسه حلقوا في الحال، فعرفنا أن إظهار المراد يحصل بالفعل كما يحصل بالقول.
ثم البيان على خمسة أوجه: بيان تقرير، وبيان تفسير، وبيان تغيير، وبيان تبديل، وبيان ضرورة.

فأما بيان التقرير: فهو في الحقيقة الذي يحتمل المجاز والعام المحتمل للخصوص، فيكون البيان قاطعا للاحتمال مقررا للحكم على ما اقتضاه الظاهر، وذلك نحو قوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) فصيغة الجمع تعم الملائكة على احتمال أن يكون المراد بعضهم، وقوله تعالى: (كلهم أجمعون) بيان قاطع لهذا الاحتمال فهو بيان التقرير.
وكذلك قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحيه) يحتمل المجاز لان البريد يسمى طائرا فإذا قال يطير بجناحيه بين أنه أراد الحقيقة.
وهذا البيان صحيح موصولا كان أو مفصولا، لانه مقرر للحكم الثابت بالظاهر.
وعلى هذا قلنا: إذا قال لامرأته أنت طالق ثم قال نويت به الطلاق عن النكاح، أو قال لعبده أنت حر ثم قال نويت به الحرية عن الرق والملك، فإنه يكون ذلك بيانا صحيحا، لانه تقرير للحكم الثابت بظاهر الكلام لا تغيير له.
وأما بيان التفسير: فهو بيان المجمل والمشترك، فإن العمل بظاهره غير ممكن،
وإنما يوقف على المراد للعمل به بالبيان فيكون البيان تفسيرا له، وذلك نحو قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ونظيره من مسائل الفقه إذا قال لامرأته أنت بائن أو أنت علي حرام، فإن البينونة والحرمة مشتركة فإذا قال عنيت به الطلاق كان هذا بيان تفسير، ثم بعد التفسير العمل بأصل الكلام، ولهذا أثبتنا به البينونة والحرمة.
وكذلك إذا قال لفلان علي ألف درهم وفي البلد نقود مختلفة ثم قال عنيت به نقد كذا، فإنه يكون ذلك بيان تفسير.
وسائر الكنايات في الطلاق والعتاق على هذا أيضا.
ثم هذا النوع يصح عند الفقهاء موصولا ومفصولا، وتأخير البيان عن أصل الكلام لا يخرجه من أن يكون بيانا، وعلى قول بعض المتكلمين لا يجوز تأخير بيان المجمل والمشترك عن أصل الكلام، لان بدون البيان لا يمكن العمل به والمقصود بالخطاب فهمه والعمل به، فإذا كان ذلك لا يحصل بدون البيان فلو جوزنا

تأخير البيان أدى إلى تكليف ما ليس في الوسع، يوضحه أنه لا يحسن خطاب العربي بلغة التركية ولا خطاب التركي بلغة العرب إذا علم أنه لا يفهم ذلك إلا أن يكون هناك ترجمان يبين له، وإنما لا يحسن ذلك لان المقصود بالخطاب إفهام السامع وهو لا يفهم فكذلك الخطاب بلفظ مجمل بدون بيان يقترن به لا يكون حسنا شرعا، لان المخاطب لا يفهم المراد به، وإنما يصح مع البيان لان المخاطب يفهم المراد به.
ولكنا نقول: الخطاب بالمجمل قبل البيان مفيد وهو الابتلاء باعتقاد الحقية فيما هو المراد به مع انتظار البيان للعمل به، وإنما يكون هذا تكليف ما ليس في الوسع أن لو أوجبنا العمل به قبل البيان ولا نوجب ذلك، ولكن الابتلاء باعتقاد الحقية فيه أهم من الابتلاء بالعمل به فكان حسنا صحيحا من هذا الوجه، ألا ترى أن الابتلاء بالمتشابه كان باعتقاد الحقية فيما هو المراد به من
غير انتظار البيان فلان يكون الابتلاء باعتقاد الحقية في المجمل مع انتظار البيان صحيحا كان أولى.
ومخاطبة العربي بلغ التركية تخلو عن هذه الفائدة، وإليه أشار الله في قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وبيان ما قلنا في قصة موسى عليه السلام مع معلمه فإنه كان مبتلى باعتقاد الحقية فيما فعله معلمه مع انتظار البيان، وما كان سؤاله في كل مرة إلا استعجالا منه للبيان الذي كان منتظرا له، ولهذا قال بعدما بينه له ما أخبر الله عن معلمه (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) .
ثم اختلف العلماء في جواز تأخير دليل الخصوص في العموم فقال علماؤنا رحمهم الله: دليل الخصوص إذا اقترن بالعموم يكون بيانا، وإذا تأخر لم يكن بيانا بل يكون نسخا.
وقال الشافعي: يكون بيانا سواء كان متصلا بالعموم أو منفصلا عنه.
وإنما يبتنى هذا الخلاف على الاصل الذي قلنا إن مطلق العام عندنا يوجب الحكم فيما يتناوله قطعا كالخاص، وعند الشافعي يوجب الحكم على احتمال الخصوص بمنزلة العام الذي ثبت خصوصه بالدليل فيكون دليل الخصوص على مذهبه فيهما بيان التفسير لا بيان التغيير فيصح موصولا ومفصولا.
وعندنا لما

كان العام المطلق موجبا للحكم قطعا فدليل الخصوص فيه يكون مغيرا لهذا الحكم، فإن العام الذي دخله خصوص لا يكون حكمه عندنا مثل حكم العام الذي لم يدخله خصوص، وبيان التغيير إنما يكون موصولا لا مفصولا على ما يأتيك بيانه إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا قال علماؤنا: إذا أوصى لرجل بخاتم ولآخر بفصه، فإن كان في كلام موصول فهو بيان وتكون الحلقة لاحدهما والفص للآخر، وإن كان في كلام مفصول فإنه لا يكون بيانا ولكن يكون إيجاب الفص للآخر ابتداء حتى يقع التعارض بينهما في الفص فتكون الحلقة للموصى له بالخاتم والفص بينهما نصفان.
وأما بيان
المجمل فليس بهذه الصفة بل هو بيان محض لوجود شرطه وهو كون اللفظ محتملا غير موجب للعمل به بنفسه، واحتمال كون البيان الملحق به تفسيرا وإعلاما لما هو المراد به، فيكون بيانا من كل وجه ولا يكون معارضا فيصح موصولا ومفصولا، ودليل الخصوص في العام ليس ببيان من كل وجه بل هو بيان من حيث احتمال صيغة العموم للخصوص، وهو ابتداء دليل معارض من حيث كون العام موجبا العمل بنفسه فيما تناوله، فيكون بمنزلة الاستثناء والشرط فيصح موصولا على أنه بيان، ويكون معارضا ناسخا للحكم الاول إذا كان مفصولا.
وقد بينا أدلة هذا الاصل الذي نشأ منه الخلاف، وإنما أعدناه هنا للحاجة إلى الجواب عن نصوص وشبه يحتج بها الخصم.
فمن ذلك قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) وثم للتعقيب مع التراخي فقد ضمن البيان بعد إلزام الاتباع وإلزام الاتباع إنما يكون بالعام دون المجمل، إذ المراد بالاتباع العمل به، فعرفنا أن البيان الذي هو خصوص قد يتأخر عن العموم.
وقال تعالى في قصة نوح عليه الصلاة والسلام: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك) وعموم اسم الاهل يتناول ابنه ولاجله كان سؤال نوح بقوله: (إن ابني من أهلي) ثم بين الله تعالى له بقوله تعالى: (إنه ليس من أهلك) وقال تعالى في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ضيفه المكرمين: (إنا مهلكو أهل هذه القرية) وعموم هذا اللفظ يتناول لوطا ولهذا قال الخليل عليه السلام إن فيها لوطا، ثم بينوا له فقالوا (لننجينه وأهله) فدل أن دليل الخصوص يجوز أن ينفصل عن العموم.
وقال تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون

الله حصب جهنم) ثم لما عارضه ابن الزبعري بعيسى والملائكة عليهم السلام نزل دليل الخصوص (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) والدليل عليه قصة بني إسرائيل فإنهم أمروا بذبح بقرة كما قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا
بقرة) ثم لما استوصفوها بين لهم صفتها وكان ذلك دليل الخصوص على وجه البيان منفصلا عن أصل الخطاب.
والدليل عليه أن آية المواريث عامة في إيجاب الميراث للاقارب كفارا كانوا أو مسلمين، ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الارث يكون عند الموافقة في الدين لا عند المخالفة فيكون هذا تخصيصا منفصلا عن دليل العموم، وقوله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) عام في تأخير الميراث عن الوصية في جميع المال، ثم بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوصية تختص بالثلث تخصيص منفصل عن دليل العموم فدل على أن ذلك جائز ولا يخرج به من أن يكون بيانا، واستدلوا بقوله تعالى: (ولذي القربى) فإنه عام تأخر بيان خصوصه إلى أن كلم عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما رسول الله في ذلك فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب كشئ واحد وقال إنهم لم يفارقوني في الجاهلية ولا في الاسلام.
ثم قالوا تأخير البيان في الاعيان معتبر بتأخير البيان في الازمان وبالاتفاق يجوز أن يرد لفظ مطلقه يقتضي عموم الازمان ثم يتأخر عنه بيان أن المراد بعض الازمان دون البعض بالنسخ فكذلك يجوز أن يرد لفظ ظاهره يقتضي عموم الاعيان، ثم يتأخر عنه دليل الخصوص الذي يتبين به أن المراد بعض الاعيان دون البعض.
وحجتنا فيه أن الخصم يوافقنا بالقول في العموم وبطلان مذهب من يقول بالوقف في العموم، وقد أوضحنا ذلك بالدليل.
ثم من ضرورة القول بالعموم لزوم اعتقاد العموم فيه، والقول بجواز تأخير دليل الخصوص يؤدي إلى أن يقال يلزمنا اعتقاد الشئ على خلاف ما هو عليه وهذا في غاية الفساد.
وكما يجب اعتقاد العموم عند وجود صيغة العموم يجوز الاخبار به أيضا فيقال إنه عام.
وفي جواز تأخير البيان بدليل الخصوص يؤدي إلى القول بجواز الكذب في الحجج الشرعية وذلك باطل،

====================د4444.==================

د444....


الكتاب : أصول السرخسي
المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى

وهذا بخلاف النسخ فإن الواجب اعتقاد الحقية في الحكم النازل، فأما في حياة رسول الله عليه السلام فما كان يجب اعتقاد التأبيد في ذلك الحكم، ولا إطلاق القول بأنه مؤبد، لان الوحي كان ينزل ساعة فساعة ويتبدل الحكم كالصلاة إلى بيت المقدس وتحريم شرب الخمر وما أشبه ذلك، وإنما اعتقاد التأبيد فيه وإطلاق القول به بعد رسول الله لقيام الدليل على أن شريعته لا تنسخ بعده بشريعة أخرى.
فأما قوله تعالى (ثم إن علينا بيانه) فنقول: بالاتفاق ليس المراد جميع ما في القرآن فإن البيان من القرآن أيضا فيؤدي هذا القول بأن لذلك البيان بيانا إلى ما لا يتناهى، وإنما المراد بعض ما في القرآن وهو المجمل الذي يكون بيانه تفسيرا له ونحن نجوز تأخير البيان في مثله، فأما فيما يكون مغيرا أو مبدلا للحكم إذا اتصل به، فإذا تأخر عنه يكون نسخا ولا يكون بيانا محضا، ودليل الخصوص في العام بهذه الصفة.
ونظيره المحكمات التي هن أم الكتاب، فإن فيها ما لا يحتمل النسخ ويحتمل بيان التقرير كصفات الله جل جلاله، فكذلك ما ورد من العام مطلقا قلنا إنه يحتمل البيان الذي هو نسخ، ولكنه لا يحتمل البيان المحض وهو ما يكون تفسيرا له إذا كان منفصلا عنه.
فأما قوله تعالى: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك) قلنا البيان هنا موصول فإنه قال: (إلا من سبق عليه القول) والمراد ما سبق من وعد إهلاك الكفار بقوله تعالى: (إنهم مغرقون) .
فإن قيل: ففي ذلك الوعد نهي لنوح عليه الصلاة والسلام عن الكلام فيهم كما قال تعالى: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) فلو كان قوله (إلا من سبق عليه القول) منصرفا إلى ذلك لما استجاز نوح عليه الصلاة والسلام سؤال ابنه بقوله (إن ابني من أهلي) قلنا: إنما سأل لانه كان دعاه إلى الايمان وكان يظن فيه أنه يؤمن حين تنزل الآية الكبرى وامتد رجاؤه لذلك إلى أن آيسه الله تعالى من ذلك بقوله تعالى: (إنه عمل غير صالح) فأعرض عنه عند ذلك وقال: (رب إني أعوذ
بك أن أسألك ما ليس لي به علم) ونظيره استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لابيه (بناء على رجاء أن يؤمن كما وعد، وإليه أشار في قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم

لابيه) إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) ثم قوله تعالى: (وأهلك) ما تناول ابنه الكافر، لان أهل المرسلين من يتابعهم على دينهم، وعلى هذا لفظ الاهل كان مشتركا فيه لاحتمال أن يكون المراد الاهل من حيث النسب واحتمال أن يكون المراد الاهل من حيث المتابعة في الدين، فلهذا سأل الله فبين الله له أن المراد أهله من حيث المتابعة في الدين وأن ابنه الكافر ليس من أهله وتأخير البيان في المشترك صحيح عندنا.
فأما قوله تعالى: (إنا مهلكو أهل هذه القرية) فالبيان هنا موصول في هذه الآية بقوله: (إن أهلها كانوا ظالمين) وفي موضع آخر بقوله: (إلا آل لوط) .
فإن قيل: فما معنى سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرسل بقوله: (إن فيها لوطا) ؟ قلنا: فيه معنيان: أحدهما أن العذاب النازل قد يخص الظالمين كما في قصة أصحاب السبت، وقد يصيب الكل فيكون عذابا في حق الظالمين ابتلاء في حق المطيعين، كما قال تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فأراد الخليل عليه السلام أن يبين له أن عذاب أهل تلك القرية من أي الطريقين وأن يعلم أن لوطا عليه السلام هل ينجو من ذلك أم يبتلى به ؟ والثاني أنه علم يقينا أن لوطا ليس من المهلكين معهم ولكنه خصه في سؤاله ليزداد طمأنينة وليكون فيه زيادة تخصيص للوط.
وهو نظير قوله تعالى: (رب أرني كيف تحيي الموتى) وقد كان عالما متيقنا بإحياء الموتى ولكن سأله لينضم العيان إلى ما كان له من علم اليقين فيزداد به طمأنينة قلبه.
فأما قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) فقد قيل إن هذا الخطاب كان لاهل مكة وهم كانوا عبدة الاوثان، وما كان فيهم من يعبد عيسى
عليه الصلاة والسلام والملائكة فلم يكن أصل الكلام متناولا لهم.
والاوجه أن يقول إن في صيغة الكلام ما هو دليل ظاهر على أنه غير متناول لهم، فإن كلمة ما يعبر بها عن ذات ما لا يعقل وإنما يعبر عن ذات من يعقل بكلمة من، إلا أن القوم كانوا متعنتين يجادلون بالباطل بعد ما تبين لهم فحين عارضوا بعيسى والملائكة عليه السلام علم رسول الله عليه السلام تعنتهم في ذلك، وأنهم يعلمون أن الكلام غير

متناول لمن عارضوا به، وقد كانوا أهل اللسان فأعرض عن جوابهم امتثالا بقوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) ثم بين الله تعالى تعنتهم فيما عارضوا به بقوله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) ومثل هذا الكلام يكون ابتداء كلام هو حسن وإن لم يكن محتاجا إليه في حق من لا يتعنت، وإنما كلامنا فيما يكون محتاجا إليه من البيان ليوقف به على ما هو المراد.
والذي يوضح تعنت القوم أنهم كانوا يسمونه مرة ساحرا ومرة مجنونا وبين الوصفين تناقض بين، فالساحر من يكون حاذقا في عمله حتى يلبس على العقلاء، والمجنون من لا يكون مهتديا إلى الاعمال والاقوال على ما عليه أصل الوضع، ولكنهم لشدة الحسد كانوا يتعنتون وينسبونه إلى ما يدعو إلى تنفير الناس عنه، من غير تأمل في التحرز عن التناقض واللغو.
فأما قصة بقرة بني إسرائيل فنقول: كان ذلك بيانا بالزيادة على النص وهو يعدل النسخ عندنا والنسخ إنما يكون متأخرا عن أصل الخطاب، وإلى هذا أشار ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لو أنهم عمدوا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لاجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
فدل أن الامر الاول قد كان فيه تخفيف وأنه قد انتسخ ذلك بأمر فيه تشديد عليهم.
فأما قوله: (ولذي القربى) فقد قيل إنه مشترك يحتمل أن يكون المراد قربى النصرة، ويحتمل أن يكون المراد قربى القرابة، فلهذا سأل عثمان وجبير بن مطعم
رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وبين لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد قربى النصرة.
أو نقول: قد علمنا أنه ليس المراد من يناسبه إلى أقصى أب فإن ذلك يوجب دخول جميع بني آدم فيه، ولكن فيه إشكال أن المراد من يناسبه بأبيه خاصة أو بجده أو أعلى من ذلك، فبين رسول الله عليه السلام أن المراد من يناسبه إلى هاشم، ثم ألحق بهم بني المطلب لانضمامهم إلى بني هاشم في القيام بنصرته في الجاهلية والاسلام، فلم يكن هذا البيان من تخصيص العام في شئ، بل هذا بيان المراد في العام الذي يتعذر فيه القول بالعموم، وقد بينا أن مثل هذا العام في حكم العمل به كالمجمل كما في قوله: (وما يستوي الاعمى والبصير) فيكون البيان تفسيرا له فلهذا صح متأخرا.
فأما تقييد حكم الميراث بالموافقة في الدين

فهو زيادة على النص وهو يعدل النسخ عندنا فلا يكون بيانا محضا.
فأما قصر حكم تنفيذ الوصية على الثلث وجوبا قبل الميراث فيحتمل أن السنة المبينة له كانت قبل نزول آية الميراث فيكون ذلك بيانا مقارنا لما نزل في حقنا باعتبار المعنى، فإنه لما سبق علمنا بما نزل كان من ضرورته أن يكون مقارنا له.
فأما البيان المتأخر في الازمان فهو نسخ ونحن لا ندعي إلا هذا، فإنا نقول إنما يكون دليل الخصوص بيانا محضا إذا كان متصلا بالعام، فأما إذا كان متأخرا عنه يكون نسخا.
فتبين أن ما استدل به من الحجة هو لنا عليه.
وسنقرره في باب النسخ إن شاء الله تعالى.
فصل: في بيان التغيير والتبديل أما بيان التغيير: هو الاستثناء، كما قال تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) فإن الالف اسم موضوع لعدد معلوم فما يكون دون ذلك العدد يكون غيره لا محالة، فلولا الاستثناء لكان العلم يقع لنا بأنه لبث فيهم ألف سنة، ومع الاستثناء إنما يقع العلم لنا بأنه لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما، فيكون هذا تغييرا لما كان
مقتضى مطلق تسمية الالف.
وبيان التبديل: هو التعليق بالشرط، كما قال الله تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فإنه يتبين به أنه لا يجب إيتاء الاجر بعد العقد إذا لم يوجد الارضاع، وإنما يجب ابتداء عند وجود الارضاع، فيكون تبديلا لحكم وجوب أداء البدل بنفس العقد.
وإنما سمينا كل واحد منهما بهذا الاسم لما ظهر من أثر كل واحد منهما، فإن حد البيان غير حد النسخ، لان البيان إظهار حكم الحادثة عند وجوده ابتداء، والنسخ رفع للحكم بعد الثبوت، وعند وجود الشرط يثبت الحكم ابتداء ولكن بكلام كان سابقا على وجود الشرط تكلما به، إلا أنه لم يكن موجبا حكمه إلا عند وجود الشرط، فكان بيانا من حيث إن الحكم ثبت عند وجوده ابتداء، ولم يكن نسخا صورة من حيث إن النسخ هو رفع الحكم بعد ثبوته في محله، فكان تبديلا من حيث إن مقتضى قوله لعبده أنت حر نزول العتق

في المحل واستقراره فيه، وأن يكون علة للحكم بنفسه، وبذكر الشرط يتبدل ذلك كله، لانه يتبين به أنه ليس بعلة تامة للحكم قبل الشرط، وأنه ليس بإيجاب للعتق بل هو يمين، وأن محله الذمة حتى لا يصل إلى العبد إلا بعد خروجه من أن يكون يمينا بوجود الشرط، فعرفنا أنه تبديل.
وكذلك الاستثناء، فإن قوله لفلان علي ألف درهم مقتضاه وجوب العدد المسمى في ذمته ويتغير ذلك بقوله إلا مائة، لا على طريق أنه يرتفع بعض ما كان واجبا ليكون نسخا، فإن هذا في الاخبار غير محتمل، ولكن على طريق أنه يصير عبارة عما وراء المستثنى فيكون إخبارا عن وجوب تسعمائة فقط، فعرفنا أنه تغيير لمقتضى صيغة الكلام الاول، وليس بتبديل، إنما التبديل أن يخرج كلامه من أن يكون إخبارا بالواجب أصلا، فلهذا سميناه بيان التغيير.
ثم لا خلاف بين العلماء في هذين النوعين من البيان أنه يصح موصولا بالكلام ولا يصح مفصولا ممن لا يملك النسخ، وإنما يختلفون في كيفية إعمال الاستثناء والشرط.
فقال علماؤنا: موجب الاستثناء أن الكلام به يصير عبارة عما وراء المستثنى، وأنه ينعدم ثبوت الحكم في المستثنى لانعدام الدليل الموجب له مع صورة التكلم به، بمنزلة الغاية فيما يقبل التوقيت فإنه ينعدم الحكم فيما وراء الغاية لانعدام الدليل الموجب له، لا لان الغاية توجب نفي الحكم فيما وراءه.
وعلى قول الشافعي الحكم لا يثبت في المستثنى لوجود المعارض كما أن دليل الخصوص يمنع ثبوت حكم العام فيما يتناوله دليل الخصوص لوجود المعارض.
وكذلك الشرط عندنا فإنه يمنع ثبوت الحكم في المحل لانعدام العلة الموجبة له حكما مع صورة التكلم به، لا لان الشرط مانع من وجود العلة، وعلى قوله الشرط مانع للحكم مع وجود علته.
والكلام في فصل الشرط قد تقدم بيانه إنما الكلام هنا في الاستثناء، فإنهم احتجوا باتفاق أهل اللسان أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الاثبات نفي، فهذا تنصيص على أن الاستثناء موجب ما هو ضد موجب أصل الكلام على وجه المعارضة له في المستثنى، وعليه دل قوله تعالى: (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين

إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته) فالاستثناء الاول كان من المهلكين ثم فهم منه الانجاء، والاستثناء الثاني من المنجين فإنما فهم منه أنهم من المهلكين.
وعلى هذا قالوا: إذا قال لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهمين يلزمه تسعة، لان الاستثناء الاول من الاثبات فكان نفيا، والاستثناء الثاني من النفي فكان إثباتا، والدليل عليه قوله تعالى: (فشربوا منه إلا قليلا منهم) : أي إلا قليلا منهم لم يشربوا، فقد نص على هذا في قوله تعالى: (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) وإذا ثبت أن المراد بالكلام هذا كان في موجبه كالمنصوص عليه، والدليل عليه
كلمة الشهادة فإنها كلمة التوحيد لاشتمالها على النفي والاثبات، وإنما يتحقق ذلك إذا جعل كأنه قال إلا الله فإنه هو الاله، والدليل عليه أن صيغة الايجاب إذا صح من المتكلم فهو مفيد حكمه إلا أن يمنع منه مانع وبالاستثناء لا ينتفي التكلم بكلام صحيح في جميع ما تناوله أصل الكلام، ولو لم يكن الاستثناء موجبا هو معارض مانع لما امتنع ثبوت الحكم فيه، لان بالاستثناء لا يخرج من أن يكون متكلما به فيه، لاستحالة أن يكون متكلما به غير متكلم في كلام واحد، ولكن يجوز أن يكون متكلما به ويمتنع ثبوت الحكم فيه لمانع منع منه كما في البيع بشرط الخيار، فعرفنا أن الطريق الصحيح في الاستثناء هذا، وعليه خرج مذهبه فقال في قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) في آية القذف: إن المراد إلا الذين تابوا فأولئك هم الصالحون وتقبل شهادتهم، إلا أنه لا يتناول هذا الاستثناء الجلد على وجه المعارضة، لانه استثناء لبعض الاحوال بإيجاب حكم فيه سوى الحكم الاول وهو حال ما بعد التوبة فيختص بما يحتمل التوقيت دون ما لا يحتمل التوقيت، وإقامة الجلد لا يحتمل ذلك، فأما رد الشهادة والتفسيق يحتمل ذلك.
وقال في قوله عليه السلام: لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء إن المراد لكن إن جعلتموه سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر حتى أثبت بالحديث حكمين: حكم الحرمة لمطلق الطعام (بالطعام) فأثبته في القليل والكثير، وحكم الحل بوجود المساواة كما هو موجب الاستثناء فيختص بالكثير الذي يقبل المساواة.
وهو نظير قوله تعالى: (فنصف ما فرضتم

إلا أن يعفون) في أن الثابت به حكمان حكم بنصف المفروض بالطلاق فيكون عاما فيمن يصح منه العفو ومن لا يصح العفو منه نحو الصغيرة والمجنونة، وحكم سقوط الكل بالعفو كما هو موجب الاستثناء فيختص بالكبيرة العاقلة التي يصح منها العفو.
وعلى هذا إذا قال: لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا فإنه يلزمه
الالف إلا قدر قيمة الثوب، لان موجب الاستثناء نفي الحكم في المستثنى بدليل المعارض والدليل المعارض يجب العمل به بحسب الامكان والامكان هنا أن يجعل موجبه نفي مقدار قيمة ثوب لا نفي عين الثوب، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف فيما إذا قال له علي ألف درهم إلا كر حنطة: إنه ينقص من الالف قدر قيمة كر حنطة وإن الاستثناء يصحح بحسب الامكان على الوجه الذي قلنا، بخلاف ما يقوله محمد رحمه الله إنه لا يصح الاستثناء.
قال: ولو كان الكلام عبارة عما وراء المستثنى من الوجه الذي قلتم لكان يلزمه الالف هنا كاملا لان مع وجوب الالف عليه نحن نعلم أنه لا كر عليه فكيف يجعل هذا عبارة عما وراء المستثنى، والكلام لم يتناول المستثنى أصلا، فظهر أن الطريق فيه ما قلنا.
وحجتنا في إبطال طريقة الخصم الاستثناء المذكور في القرآن فيما هو خبر نحو قوله تعالى: (فشربوا منه إلا قليلا منهم) .
(فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) فإن دليل المعارضة في الحكم إنما يتحقق في الايجاب دون الخبر لان ذلك يوهم الكذب باعتبار صدر الكلام ومع بقاء أصل الكلام للحكم لا يتصور امتناع الحكم فيه بمانع، فلو كان الطريق ما قاله الخصم لاختص الاستثناء بالايجاب كدليل الخصوص ودليل الخصوص يختص بالايجاب.
والثاني أن الاستثناء إنما يصح إذا كان المستنثى بعض ما تناوله الكلام.
ولا يصح إذا كان جميع ما تناوله الكلام، ودليل الخصوص الذي هو رفع للحكم كالنسخ كما يعمل في البعض

يعمل في الكل، فعرفنا أنه ليس الطريق في الاستثناء ما ذهب إليه ولكن الطريق فيه أنه عبارة عما وراء المستثنى، حتى إذا كان يتوهم بعد الاستثناء بقاء شئ دون الخبر يجعل الكلام عبارة عنه صح، وإن لم يبق من الحكم شئ.
وبيان هذا أنه لو قال عبيدي أحرار إلا عبيدي لم يصح الاستثناء، ولو قال إلا هؤلاء وليس
له سواهم صح الاستثناء، لانه يتوهم بقاء شئ وراء المستثنى يجعل الكلام عبارة عنه هنا ولا توهم لمثله في الاول، وكذلك الطلاق على هذا.
ولا يجوز أن يقال إن استثناء الكل إنما لا يصح لانه رجوع، فإن فيما يصح الرجوع عنه لا يصح استثناء الكل أيضا، حتى إذا قال أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ثلث مالي كان الاستثناء باطلا والرجوع عن الوصية يصح، وإنما بطل الاستثناء هنا لانه لا يتوهم وراء المستثنى شئ يكون الكلام عبارة عنه، فعرفنا أنه تصرف في الكلام لا في الحكم، وأنه عبارة عما وراء المستثنى بأطول الطريقين تارة وأقصرهما تارة، والدليل عليه أن الدليل المعارض يستقل بنفسه والاستثناء لا يستقل بنفسه، فإنه ما لم يسبق صدر الكلام لا يتحقق الاستثناء مفيدا شيئا بمنزلة الغاية التي لا تستقل بنفسها.
فأما دليل الخصوص يصير مستقلا بنفسه وإن لم يسبقه الكلام ويكون مفيدا لحكمه.
ثم الدليل على صحة ما قال علماؤنا أن الاستثناء يبين أن صدر الكلام لم يتناول المستثنى أصلا فإنه تصرف في الكلام كما أن دليل الخصوص تصرف في حكم الكلام، ثم يتبين بدليل الخصوص أن العام لم يكن موجبا الحكم في موضع الخصوص فكذلك بالاستثناء يتبين أن أصل الكلام لم يكن متناولا للمستثنى.
والدليل على تصحيح هذه القاعدة قوله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) فإن معناه لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما، لان الالف اسم لعدد معلوم ليس فيه احتمال ما دونه بوجه فلو لم يجعل أصل الكلام هكذا لم يمكن تصحيح ذكر الالف بوجه لان اسم الالف لا ينطلق على تسعمائة وخمسين أصلا، وإذا قال الرجل لفلان علي ألف درهم إلا مائة فإنه يجعل كأنه قال له علي تسعمائة فإن مع بقاء صدر الكلام على حاله وهو الالف لا يمكن إيجاب

تسعمائة عليه ابتداء، لان القدر الذي يجب حكم صدر الكلام وإذا لم يكن في صدر
الكلام احتمال هذا المقدار لا يمكن إيجابه حقيقة، فعرفنا به أنه يصير صدر الكلام عبارة عما وراء المستثنى وهو تسعمائة، وكان لهذا العدد عبارتان الاقصر وهو تسعمائة والاطول هو الالف إلا مائة.
وهذا معنى قول أهل اللغة: إن الاستثناء استخراج، يعني استخراج بعض الكلام على أن يجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى، ألا ترى أن بعد دليل الخصوص الحكم الثابت بالعام ما يتناوله لفظ العموم حقيقة، حتى إذا كان العام بعبارة الفرد يجوز فيه الخصوص إلى أن لا يبقى منه إلا واحد، وإذا كان بلفظ الجمع يجوز فيه الخصوص إلى أن لا يبقى منه إلا ثلاثة، فإن أدنى ما تناوله اسم الجمع ثلاثة، وإذا كان الباقي دون ذلك كان رفعا للحكم بطريق النسخ.
ثم كما يجوز أن يكون الكلام معتبرا في الحكم ويمتنع ثبوت الحكم به لمانع فكذلك يجوز أن تبقى صورة الكلام، ولا يكون معتبرا في حق الحكم أصلا كطلاق الصبي والمجنون، فإذا جعلنا طريق الاستثناء ما ذهبنا إليه بقي صورة التكلم في المستثنى غير موجب بحكمه وذلك جائز، وإذا جعلنا الطريق ما قاله الخصم احتجنا إلى أن نثبت بالكلام ما ليس من محتملاته وذلك لا يجوز، فعرفنا أن انعدام وجوب المائة عليه لانعدام العلة الموجبة لا لمعارض يمنع الوجوب بعد وجود العلة الموجبة، وكذلك في التعليق بالشرط فإن امتناع ثبوت الحكم في المحل لانعدام علته بطريق أن التعليق بالشرط لما منع الوصول إلى المحل، وصورة التكلم بدون المحل لا يكون علة للايجاب، فانعدام الحكم لانعدام العلة في الفصلين لا لمانع كما توهمه الخصم إلا أن الوصول إلى المحل في التعليق متوهم لوجود الشرط فلم يبطل الكلام في حق الحكم أصلا، ولكن نجعله تصرفا آخر وهو اليمين على أنه متى وصل إلى المحل ولم يبق يمينا كان إيجابا، فسميناه بيان التبديل لهذا، وانتفاء المستثنى من أصل الكلام ليس فيه توهم الارتفاع حتى تكون صورة الكلام عاملا فيه، فجعلناه بيان التغيير بطريق أنه عبارة عما وراء المستثنى، لانه لم يصر تصرفا آخر

بالاستثناء، وهذا لان الكلمة كما لا تكون مفهمة قبل انضمام بعض حروفها إلى البعض لا تكون مفهمة قبل انضمام بعض الكلمات إلى البعض، حتى تكون دالة على المراد، فتوقف أول الكلام على آخره في الفصلين ويكون الكل في حكم كلام واحد، فإن ظهر باعتبار آخره لصدر الكلام محل آخر وهو الذمة، كما في الشرط، جعل بيانا فيه تبديل، وإن لم يظهر لصدر الكلام محل آخر بآخره جعل آخره مغيرا لصدره بطريق البيان، وذلك بالاستثناء، على أن يجعل عبارة عما وراء المستثنى، ويجعل بمنزلة الغاية على معنى أنه ينتهي به صدر الكلام ولولاه لكان مجاوزا إليه، كما أن بالغاية ينتهي أصل الكلام على معنى أنه لولا الغاية لكان الكلام متناولا له، ثم انعدام الحكم بعد الغاية لعدم الدليل المثبت لا لمانع بعد وجود المثبت، فكذلك انعدام الحكم في المستثنى لعدم دليل الموجب لا لمعارض مانع.
فأما قول أهل اللغة الاستثناء من النفي إثبات ومن الاثبات نفي، فإطلاق ذلك باعتبار نوع من المجاز، فإنهم كما قالوا هذا فقد قالوا إنه استخراج وإنه عبارة عما وراء المستثنى ولا بد من الجمع بين الكلمتين، ولا طريق للجمع سوى ما بينا وهو أنه باعتبار حقيقته في أصل الوضع عبارة عما وراء المستثنى، وهو نفي من الاثبات وإثبات من النفي باعتبار إشارته على معنى أن حكم الاثبات يتوقت به كما يتوقت بالغاية فإذا لم يبق بعده ظهر النفي لانعدام علة الاثبات فسمي نفيا مجازا.
فإن قيل: هذا فاسد فإن قول القائل لا عالم إلا زيد يفهم منه الاخبار بأن زيدا عالم، وكذلك كلمة الشهادة تكون إقرارا بالتوحيد حقيقة كيف يستقيم حمل ذلك على نوع من المجاز ؟ قلنا: قول القائل لا عالم نفي لوصف العلم وقوله إلا زيد توقيت للوصف به ومقتضى التوقيت انعدام ذلك الوصف بعد الوقت، فمقتضى كلامه هنا نفي صفة العلم لغير زيد ثم ثبت به العلم لزيد بإشارة كلامه لا بنص كلامه، كما أن نفي
النهار يتوقت إلى طلوع الفجر فبوجوده يثبت ما هو ضده وهو صفة النهار، ونفي السكون يتوقت بالحركة فبعد انعدام الحركة يثبت السكون، يقرره أن الآدمي لا يخلو عن أحد الوصفين إما العلم وإما نفي العلم عنه، فلما توقت النفي في صفة كلامه بزيد

ثبت صفة العلم فيه لانعدام ضده.
وفي كلمة الشهادة كذلك نقول، فإن كلامه نفي الالوهية عن غير الله تعالى ونفي الشركة في صفة الالوهية لغير الله معه، ثم يثبت التوحيد بطريق الاشارة إليه، وكان المقصود بهذه العبارة إظهار التصديق بالقلب فإنه هو الاصل والاقرار باللسان يبتنى عليه، ومعنى التصديق بالقلب بهذا الطريق يكون أظهر.
وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا قال إن خرجت من هذه الدار إلا أن يأذن لي فلان فمات فلان قبل أن يأذن له بطلت اليمين، كما لو قال إن خرجت من هذه الدار حتى يأذن لي فلان، لان في الموضعين يثبت باليمين حظر الخروج موقتا بإذن فلان، ولا تصور لذلك إلا في حال حياة فلان، فأما بعد موته وانقطاع إذنه لو بقيت اليمين كان موجبها حظرا مطلقا والموقت غير المطلق.
فإن قيل: أليس أنه لو قال لامرأته إن خرجت إلا بإذني فإنه يحتاج إلى تجديد الاذن في كل مرة، ولو كان الاستثناء بمنزلة الغاية لكانت اليمين ترتفع بالاذن مرة، كما لو قال إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك.
قلنا: إنما اختلفا في هذا الوجه لان كل واحد من الكلامين يتناول محلا آخر، فإن قوله حتى آذن محله الحظر الثابت باليمين فإنه توقيت له، وقوله إلا بإذني محله الخروج الذي هو مصدر كلامه ومعناه إلا خروجا بإذني، والخروج غير الحظر الثابت باليمين، فعرفنا أن كل واحد منهما دخل في محل آخر هنا، فلهذا كان حكم الاستثناء مخالفا لحكم التصريح بالغاية، وبالاستثناء يظهر معنى التوقيت في كل خروج يكون بصفة الاذن، وكل خروج لا يكون بتلك الصفة فهو موجب للحنث.
قال رضي الله عنه: اعلم بأن الاستثناء نوعان: حقيقة، ومجاز.
فمعنى الاستثناء حقيقة ما بينا، وما هو مجاز منه فهو الاستثناء المنقطع، وهي بمعنى لكن أو بمعنى العطف.
وبيانه في قوله تعالى: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) : أي لكن أباطيل.
قال تعالى: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) : أي لكن رب العالمين الذي خلقني.
وقال: (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) : أي لكن سلاما.
وقيل في قوله تعالى: (إلا الذين ظلموا منهم) : إنه بمعنى العطف: ولا الذين ظلموا، وقيل لكن: أي لكن الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني.
وقيل في قوله (إلا خطأ) : إنه

بمعنى لكن أي لكن إن قتله خطأ.
وزعم بعض مشايخنا أنه بمعنى ولا.
قال رضي عنه: وهذا غلط عندي، لانه حينئذ يكون عطفا على النهي فيكون نهيا والخطأ لا يكون منهيا عنه ولا مأمورا به بل هو موضوع، قال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) .
ثم الكلام لحقيقته لا يحمل على المجاز إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة، كما في قوله تعالى: (إلا أن يعفون) فإنه يتعذر حمله على حقيقة الاستثناء لانه إذا حمل عليه كان في معنى التوقيت فيتقرر به حكم التنصيف الثابت بصدر الكلام، فعرفنا أنه بمعنى لكن وأنه ابتداء حكم: أي لكن إن عفا الزوج بإيفاء الكل أو المرأة بالاسقاط فهو أقرب للتقوى.
وكذلك قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) في آية القذف فإنه استثناء منقطع: أي لكن إن تابوا من قبل أن التائبين هم القاذفون.
فتعذر حمل اللفظ على حقيقة الاستثناء فإن الثابت لا يخرج من أن يكون قاذفا، وإن كان محمولا على حقيقة الاستثناء هو استثناء بعض الاحوال: أي وأولئك هم الفاسقون في جميع الاحوال إلا أن يتوبوا، فيكون هذا الاستثناء توقيتا بحال ما قبل التوبة فلا تبقى صفة الفسق بعد التوبة لانعدام الدليل الموجب لا لمعارض مانع كما توهمه الخصم.
وقوله: لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء استثناء لبعض الاحوال أيضا: أي لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا حالة التساوي في الكيل.
فيكون توقيتا للنهي بمنزلة الغاية ويثبت بهذا النص أن حكم الربا الحرمة الموقتة في المحل دون المطلقة.
وإنما تتحقق الحرمة الموقتة في المحل الذي يقبل المساواة في الكيل، فأما في المحل الذي لا يقبل المساواة لو ثبت إنما يثبت حرمة مطلقة وذلك ليس من حكم هذا النص، فلهذا لا يثبت حكم الربا في القليل وفي المطعوم الذي لا يكون مكيلا أصلا.
وعلى هذا قلنا إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا فإنه تلزمه الالف لان هذا ليس

باستثناء حقيقة، إذ حقيقة الاستثناء في أصل الوضع أن يكون الكلام عبارة عما وراء المستثنى، والمستثنى هنا لم يتناوله صدر الكلام صورة ومعنى حتى يجعل الكلام عبارة عما وراءه فيكون استثناء منقطعا، ومعناه لكن لا ثوب له علي.
والتصريح بهذا الكلام لا يسقط عنه شيئا من الالف ولا يمنع إعمال أصل الكلام في إيجاب جميع الالف عليه فكذلك اللفظ الذي يدل عليه، ولهذا قال محمد في قوله إلا كر حنطة إنه تلزمه الالف كاملة.
فأما أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما استحسنا هنا فقالا: كلامه استثناء حقيقة باعتبار المعنى، لان صورة صدر الكلام الاخبار بوجوب المسمى عليه، ومعناه إظهار ما هو لازم في ذمته، والمكيل والموزون كشئ واحد في حكم الثبوت في الذمة على معنى أن كل واحد منهما يثبت في الذمة ثبوتا صحيحا بمنزلة الاثمان، فهذا الاستثناء باعتبار صورة صدر الكلام لا يكون استخراجا، وباعتبار معناه يكون استخراجا، على أنه استخرج هذا القدر مما هو واجب في ذمته، والمعنى يترجح على الصورة لانه هو المطلوب، فلهذا جعلنا استثناءه استخراجا على أن يكون كلامه عبارة عما وراء مالية كر حنطة من الالف، فأما الثوب لا يكون مثل المكيل والموزون
في الصورة ولا في المعنى، وهو الثبوت في الذمة، فإنه لا يثبت في الذمة إلا مبيعا والالف تثبت في الذمة ثمنا فلا يمكن جعل كلامه استخراجا باعتبار الصورة ولا باعتبار المعنى، فلهذا جعلناه استثناء منقطعا.
ثم قال الشافعي بناء على أصله: الاستثناء متى تعقب كلمات معطوفة بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما تقدم ذكره، لانه معارض مانع للحكم بمنزلة الشرط، ثم الشرط ينصرف إلى جميع ما سبق حتى يتعلق الكل به فكذلك الاستثناء.
واستدل عليه بقوله تعالى في آية قطاع الطريق: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) فإنه ينصرف إلى جميع ما تقدم ذكره.
وقال علماؤنا: الاستثناء تغيير وتصرف في الكلام فيقتصر على ما يليه خاصة

لوجهين: أحدهما أن إعمال الاستثناء باعتبار أن الكل في حكم كلام واحد وذلك لا يتحقق في الكلمات المعطوفة بعضها على بعض.
والثاني أن أصل الكلام عامل باعتبار أصل الوضع، وإنما انعدم هذا الوصف منه بطريق الضرورة فيقتصر على ما تتحقق فيه الضرورة وهذه الضرورة ترتفع بصرفه إلى ما يليه، بخلاف الشرط فإنه تبديل ولا يخرج به أصل الكلام من أن يكون عاملا إنما يتبدل به الحكم كما بينا، ومطلق العطف يقتضي الاشتراك فلهذا أثبتنا حكم التبديل بالتعليق بالشرط في جميع ما سبق ذكره مع أن فيه كلاما في الفرق بين ما إذا عطفت جملة تامة على جملة تامة وبين ما إذا عطفت جملة ناقصة على جملة تامة ثم تعقبها شرط، ولكن ليس هذا موضع بيان ذلك.
فأما قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) فلاجل دليل في نص الكلام صرفناه إلى جميع ما تقدم وذلك التقييد بقوله تعالى: (من قبل أن تقدروا عليهم) فإن التوبة في محو الاثم ورجاء المغفرة والرحمة به في الآخرة لا تختلف بوجودها بعد قدرة الامام على التائب أو قبل ذلك، وإنما
تختلف في حكم إقامة الحد، الذي يكون مفوضا إلى الامام، فعرفنا بهذا التقييد أن المراد ما سبق من الحد، وقد يتغير حكم مقتضى الكلام لدليل فيه، ألا ترى أن مقتضى مطلق الكلام الترتيب على أن يجعل المتقدم في الذكر متقدما في الحكم، ثم يتغير ذلك بدليل مغير، كما في قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) فإن المراد أنزله قيما ولم يجعل له عوجا.
وكذلك في قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) فإن معناه: ولولا سبقت من ربك كلمة وأجل مسمى لكان لزاما، وضمة اللام دلنا على ذلك فهذا نظيره.
وإذا تقرر هذا الاصل قلنا: البيان المغير والمبدل يصح موصولا ولا يصح مفصولا، لانه متى كان بيانا كان مقررا للحكم الثابت بصدر الكلام كبيان التقرير وبيان التفسير، وإنما يتحقق ذلك إذا كان موصولا، فأما إذا كان مفصولا فإنه يكون رفعا للحكم الثابت بمطلق الكلام.
أما في الاستثناء فإن الكلام يتم موجبا لحكمه بآخره وذلك بالسكوت عنه أو الانتقال إلى كلام آخر،

والاستثناء الموصول ليس بكلام آخر فإنه غير مستقل بنفسه، فأما إذا سكت فقد تم الكلام موجبا لحكمه، ثم الاستثناء بعد ذلك يكون نسخا بطريق رفع الحكم الثابت فلا يكون بيانا مغيرا، وأما الشرط فهو مبدل باعتبار أنه يمتنع الوصول إلى المحل وهو العبد في كلمة الاعتاق ويجعل محله الذمة، وإنما يتحقق هذا إذا كان موصولا، فأما المفصول يكون رفعا عن المحل يعتبر هذا في المحسوسات، فإن تعليق القنديل بالحبل في الابتداء يكون مانعا من الوصول إلى مقره من الارض مبينا أن إزالة اليد عنه لم يكن كسرا، فأما بعد ما وصل إلى مقره من الارض تعليقه بالقنديل يكون رفعا عن محله.
فتبين بهذا أن الشرط إذا كان مفصولا
فإنه يكون رفعا للحكم عن محله بمنزلة النسخ، وهو لا يملك رفع الطلاق والعتاق عن المحل بعدما استقر فيه، فلهذا لا يعمل الاستثناء والشرط مفصولا.
وعلى هذا قلنا: إذا قال لفلان علي ألف درهم وديعة فإنه يصدق موصولا ولا يصدق إذا قاله مفصولا، لان قوله وديعة بيان فيه تغيير أو تبديل، فإن مقتضى قوله علي ألف درهم الاخبار بوجوب الالف في ذمته، وقوله وديعة فيه بيان أن الواجب في ذمته حفظها وإمساكها إلى أن يؤديها إلى صاحبها لا أصل المال، فإما أن يكون تبديلا للمحل الذي أخبر بصدر الكلام أنه التزمه لصاحبه أو تغييرا لما اقتضاه أول الكلام، لانه لازم عليه للمقر له من أصل المال إلى الحفظ، فإذا كان موصولا كان بيانا صحيحا، وإذا كان مفصولا كان نسخا فيكون بمنزلة الرجوع عما أقر به.
وعلى هذا لو قال لغيره أقرضتني عشرة دراهم أو اسلفتني أو أسلمت إلي أو أعطيتني إلا أني لم أقبض فإن قال ذلك مفصولا لم يصدق، وإن قال موصولا صدق استحسانا، لان هذا بيان تغيير، فإن حقيقة هذه الالفاظ تقتضي تسليم المال إليه ولا يكون ذلك إلا بقبضه، إلا أنه يحتمل أن يكون المراد به العقد مجازا، فقد تستعمل هذه الالفاظ للعقد، فكان قوله لم أقبض تغييرا للكلام عن الحقيقة إلى المجاز فيصح موصولا ولا يصح مفصولا.
وإذا قال دفعت إلي ألف درهم أو نقدتني إلا أني لم أقبض فكذلك الجواب عند محمد، لان الدفع والنقد والاعطاء

في المعنى سواء، فتجعل هاتان الكلمتان كقوله أعطيتني ويصدق فيهما إذا كان موصولا لا إذا كان مفصولا بطريق أنه بيان تغيير.
وأبو يوسف قال فيهما لا يصدق موصولا ولا مفصولا، لان الدفع والنقد اسم للفعل لا يتناول العقد مجازا ولا حقيقة، فكان قوله إلا أني لم أقبض رجوعا والرجوع لا يعمل موصولا ولا مفصولا، فأما الاعطاء قد سمي به العقد مجازا، يقال عقد الهبة وعقد العطية.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا أنها زيوف لم يصدق موصولا ولا مفصولا.
وقال أبو يوسف ومحمد: يصدق موصولا لان قوله إلا أنها زيوف بيان تغيير، فإن مطلق تسمية الالف في البيع ينصرف إلى الجياد، لانه هو النقد الغالب وبه المعاملة بين الناس وفيه احتمال الزيوف بدون هذه العادة، فكان كلامه بيان تغيير فيصح موصولا لا مفصولا، كما في قوله إلا أنها وزن خمسة وكما في الفصول المتقدمة بل أولى، فإن ذلك نوع من المجاز وهذا حقيقة لان إسم الدراهم للزيوف حقيقة كما أنها للجياد حقيقة.
وأبو حنيفة يقول: مقتضى عقد المعاوضة وجوب المال بصفة السلامة، والزيافة في الدراهم عيب لان الزيافة إنما تكون بغش في الدراهم والغش عيب، فكان هذا رجوعا عن مقتضى أول كلامه والرجوع لا يعمل موصولا ولا مفصولا، وصار دعوى العيب في الثمن كدعوى العيب في البيع، بأن قال: بعتك هذه الجارية معيبا بعيب كذا، وقال المشتري بل اشتريتها سليمة، فإن البائع لا يصدق سواء قاله موصولا أو مفصولا، بخلاف قوله إلا أنها وزن خمسة فإن ذلك استثناء لبعض المقدار بمنزلة قوله إلا مائتين، وبخلاف قوله لفلان علي كر حنطة من ثمن بيع إلا أنها ردية لان الرداءة ليست بعيب في الحنطة، فالعيب ما يخلو عنه أصل الفطرة والرداءة في الحنطة تكون بأصل الخلقة، فكان هذا بيان النوع لا بيان العيب فيصح موصولا كان أو مفصولا.
وعلى هذا لو قال لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر، فإن عند أبي يوسف ومحمد هذا بيان تغيير من حقيقة وجوب المال إلى (بيان) مباشرة سبب الالتزام صورة وهو شراء الخمر فيصح موصولا لا مفصولا.
وأبو حنيفة يقول هذا رجوع، لان

أول كلامه تنصيص على وجوب المال في ذمته وثمن الخمر لا يكون واجبا في ذمة المسلم بالشراء فيكون رجوعا.
وعلى هذا لو قال لفلان علي ألف درهم من ثمن جارية
باعنيها إلا أني لم أقبضها فإن على قول أبي يوسف ومحمد يصدق إذا كان موصولا، وإذا كان مفصولا يسأل المقر له عن الجهة فإن قال الالف لي عليه بجهة أخرى سوى البيع فالقول قوله والمال لازم على المقر، وإن قال بجهة البيع ولكنه قبضها فالقول حينئذ قول المقر أنه لم يقبضها لان هذا بيان تغيير، فإنه يتأخر به حق المقر له في المطالبة بالالف إلى أن يحضر الجارية ليسلمها بمنزلة شرط الخيار أو الاجل في العقد يكون مغير لمقتضى مطلق العقد، ولا يكون ناسخا لاصله فيصح هذا البيان منه موصولا، وإذا كان مفصولا فإن صدقه في الجهة فقد ثبتت الجهة بتصادقهما عليه، ثم ليس في إقراره بالشراء ووجوب المال عليه بالعقد إقرار بالقبض فكان المقر له مدعيا عليه ابتداء تسليم المبيع، وهو منكر ليس براجع عما أقر به فجعلنا القول قول المنكر، وإذا كذبه في الجهة لم تثبت الجهة التي ادعاها وقد صح تصديقه له في وجوب المال عليه، وبيانه الذي قال إنه من ثمن جارية لم يقبضها بيان تغيير فلا يصح مفصولا.
وأبو حنيفة يقول هذا رجوع عما أقر به، لانه أقر بأول كلامه أن المال واجب له دينا في ذمته، وثمن جارية لا يوقف على أثرها لا تكون واجبة عليه إلا بعد القبض، فإن المبيعة قبل التسليم إذا صارت بحيث لا يوقف على عينها بحال بطل العقد ولا يكون ثمنها واجبا.
وقوله من ثمن جارية باعنيها ولكني لم أقبضها إشارة إلى هذا، فإن الجارية التي هي غير معينة لا يوقف على أثرها، وما من جارية يحضرها البائع إلا وللمشتري أن يقول المبيعة غيرها، فعرفنا أن آخر كلامه رجوع عما أقر به من وجوب المال دينا في ذمته، والرجوع لا يصح موصولا ولا مفصولا.
وعلى هذا قال أصحابنا في كتاب الشركة: إذا قال لغيره بعت منك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه فإنه يجعل هذا بيعا لنصف العبد بجميع الالف، ولو قال علي أن لي نصفه يكون بائعا نصف العبد بخمسمائة، لانه إذا قيد كلامه بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى وإنما أدخله على المبيع

دون الثمن، وما وراء المستثنى من المبيع نصف العبد فيصير بائعا لذلك بجميع الالف.
فأما قوله على أن لي نصفه فهو معارض بحكمه لصدر الكلام ويصير بائعا جميع العبد من نفسه ومن المشتري بالالف وبيعه من نفسه معتبر إذا كان مفيدا، ألا ترى أن المضارب يبيع مال المضاربة من رب المال فيجوز لكونه مفيدا، وإذا كان كل واحد من البدلين مملوكا له فهنا أيضا إيجابه لنفسه مفيد في حق تقسيم الثمن فيعتبر ويتبين به أنه صار بائعا نصفه من المشتري بنصف الالف، كما لو باع منه عبدين بألف درهم وأحدهما مملوك له يصير بائعا عبد نفسه منه بحصته من الثمن إذا قسم على قيمته وقيمة العبد الذي هو ملك المشتري.
وعلى هذا الاصل قال أبو يوسف فيمن أودع صبيا محجورا عليه مالا فاستهلكه إنه يكون ضامنا، لان تسليطه إياه على المال بإثبات يده عليه يتنوع نوعين استحفاظ وغير استحفاظ، فيكون قوله أحفظه بيانا منه لنوع ما كان من جهته وهو التمكين، وبيانه تصرف منه في حق نفسه مقصورا عليه غير متناول لحق الغير، فينعدم ما سوى الاستحفاظ لانعدام علته، وينعدم نفوذ الاستحفاظ لانعدام ولايته على المحل وكون الصبي ممن لا يحفظ، وبعد انعدام النوعين يصير كأنه لم يوجد تمكينه من المال أصلا فإذا استهلكه كان ضامنا، كما لو كان المال في يد صاحبه على حاله فجاء الصبي واستهلكه.
وأبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما قالا: التسليط فعل مطلق وليس بعام حتى يصار فيه إلى التنويع، وقوله احفظ كلام ليس من جنس الفعل ليشتغل بتصحيحه بطريق الاستثناء ولكنه معارض، لان الدفع إليه تسليط مطلقا، وقوله احفظ معارض بمنزلة دليل الخصوص أو بمنزلة ما قاله الخصم في الاستثناء، وإنما يكون معارضا إذا صح منه هذا القول شرعا كدليل الخصوص إنما يكون معارضا إذا صح شرعا، ولا خلاف أن قوله احفظ
غير صحيح في حكم الاستحفاظ شرعا فيبقى التسليط مطلقا، فالاستهلاك بعد تسليط من له الحق مطلقا لا يكون موجبا للضمان على الصبي ولا على البالغ.
وما يخرج من المسائل على هذا الاصل يكثر تعدادها، فمن فهم ما أشرنا إليه فهو يهديه إلى ما سواها، والله أعلم.

فصل وأما بيان الضرورة فهو نوع من البيان يحصل بغير ما وضع له في الاصل.
وهو على أربعة أوجه: منه ما ينزل منزلة المنصوص عليه في البيان، ومنه ما يكون بيانا بدلالة حال المتكلم، ومنه ما يكون بيانا بضرورة دفع الغرور، ومنه ما يكون بيانا بدلالة الكلام.
فأما الاول فنحو قوله: (وورثه أبواه فلامه الثلث) فإنه لما أضاف الميراث إليهما في صدر الكلام ثم بين نصيب الام كان ذلك بيانا أن للاب ما بقي فلا يحصل هذا البيان بترك التنصيص على نصيب الاب، بل بدلالة صدر الكلام يصير نصيب الاب كالمنصوص عليه.
وعلى هذا قال أصحابنا في المضاربة: إذا بين رب المال حصة المضارب من الربح ولم يبين حصة نفسه جاز العقد قياسا واستحسانا، لان المضارب هو الذي يستحق بالشرط وإنما الحاجة إلى بيان نصيبه خاصة وقد وجد، ولو بين نصيب نفسه من الربح ولم يبين نصيب المضارب جاز العقد استحسانا، لان مقتضى المضاربة الشركة بينهما في الربح فببيان نصيب أحدهما يصير نصيب الآخر معلوما ويجعل ذلك كالمنطوق به فكأنه قال ولك ما بقي.
وكذلك في المزارعة إذا بين نصيب من البذر من قبله ولم يبين نصيب الآخر جاز العقد استحسانا لهذا المعنى.
وكذلك لو قال في وصيته أوصيت لفلان وفلان بألف درهم لفلان منها أربعمائة، فإن ذلك بيان أن للآخر ستمائة بمنزلة ما لو نص عليه.
وكذلك لو قال أوصيت بثلث مالي لزيد وعمرو
لزيد من ذلك ألف درهم فإنه يجعل هذا بيانا منه أن ما يبقى من الثلث لعمرو كما لو نص عليه.
وأما النوع الثاني فنحو سكوت صاحب الشرع عن معاينة شئ عن تغييره يكون بيانا منه لحقيته باعتبار حاله، فإن البيان واجب عند الحاجة إلى البيان، فلو كان الحكم بخلافه لبين ذلك لا محالة ولو بينه لظهر، وكذلك سكوت الصحابة عن بيان قيمة الخدمة للمستحق على المغرور يكون دليلا على نفيه بدلالة حالهم،

لان المستحق جاء يطلب حكم الحادثة وهو جاهل بما هو واجب له، وكانت هذه أول حادثة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوا فيه نصا عنه، فكان يجب عليهم البيان بصفة الكمال، والسكوت بعد وجوب البيان دليل النفي.
وعلى هذا قلنا: إذا ولدت أمة الرجل ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال: الاكبر ابني، فإنه يكون ذلك بيانا منه أن الآخرين ليسا بولدين له، لان نفي نسب ولد ليس منه واجب، ودعوى نسب ولد هو منه ليتأكد به على وجه لا ينتفي واجب أيضا، فالسكوت عن البيان بعد تحقق الوجوب دليل النفي فيجعل ذلك كالتصريح بالنفي.
وعلى هذا قلنا: البكر إذا بلغها نكاح الولي فسكتت يجعل ذلك إجازة منها باعتبار حالها فإنها تستحي، فيجعل سكوتها دليلا على جواب يحول الحياء بينها وبين التكلم به وهو الاجازة التي يكون فيها إظهار الرغبة في الرجال، فإنها إنما تستحي من ذلك.
وأما النوع الثالث فنحو سكوت المولى عن النهي عند رؤية العبد يبيع ويشتري، فإنه يجعل إذنا له في التجارة لضرورة دفع الغرور عمن يعامل العبد، فإن في هذا الغرور إضرارا بهم والضرر مدفوع ولهذا لم يصح الحجر الخاص بعد الاذن العام المنتشر، والناس لا يتمكنون من استطلاع رأي المولى في كل معاملة يعاملونه
مع العبد، وإنما يتمكنون من التصرف بمرأى العين منه، ويستدلون بسكوته على رضاه، فجعلنا سكوته كالتصريح بالاذن لضرورة دفع الغرور.
وكذلك سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد العلم بالبيع يجعل بمنزلة إسقاط الشفعة لضرورة دفع الغرور عن المشتري، فإنه يحتاج إلى التصرف في المشتري، فإذا لم يجعل سكوت الشفيع عن طلب الشفعة إسقاطا للشفعة فإما أن يمتنع المشتري من التصرف أو ينقض الشفيع عليه تصرفه، فلدفع الضرر والغرور جعلنا ذلك كالتنصيص منه على إسقاط الشفعة، وإن كان السكوت في أصله غير موضوع للبيان بل هو ضده.
وكذلك نكول المدعى عليه عن اليمين يجعل بمنزلة الاقرار منه إما لدفع الضرر عن المدعي فيكون من النوع الثالث، أو لحال الناكل وهو امتناعه من اليمين المستحقة عليه بعد تمكنه من إيفائه.

وأما النوع الرابع فبيانه فيما إذا قال لفلان علي مائة ودرهم أو مائة ودينار، فإن ذلك بيان للمائة أنها من جنس المعطوف عندنا.
وعند الشافعي يلزمه المعطوف والقول في بيان جنس المائة قوله، وكذلك لو قال مائة وقفيز حنطة أو ذكر مكيلا أو موزونا آخر.
واحتج فقال: إنه أقر بمائة مجملا ثم عطف ما هو مفسر فيلزمه المفسر ويرجع إليه في بيان المجمل، كما لو قال مائة وثوب أو مائة وشاة أو مائة وعبد، وهذا لان المعطوف غير المعطوف عليه فلا يكون العطف تفسيرا للمعطوف عليه بعينه، وكيف يكون تفسيرا وهو في نفسه مقر به لازم إياه ! ولو كان تفسيرا له لم يجب به شئ لان الوجوب بالكلام المفسر لا بالتفسير.
ولكنا نقول: قوله ودرهم بيان للمائة عادة ودلالة.
أما من حيث العادة فلان الناس اعتادوا حذف ما هو تفسير عن المعطوف عليه في العدد إذا كان المعطوف مفسرا بنفسه كما اعتادوا حذف التفسير عن المعطوف عليه والاكتفاء بذكر التفسير للمعطوف،
فإنهم يقولون مائة وعشرة دراهم على أن يكون الكل من الدراهم، وإنما اعتادوا ذلك لضرورة طول الكلام وكثرة العدد والايجاز عند ذلك طريق معلوم عادة، وإنما اعتادوا هذا فيما يثبت في الذمة في عامة المعاملات كالمكيل والموزون دون ما لا يثبت في الذمة، إلا في معاملة خاصة كالثياب فإنها لا تثبت في الذمة قرضا ولا بيعا مطلقا، وإنما يثبت في السلم أو فيما هو في معنى السلم كالبيع بالثياب الموصوفة مؤجلا.
وأما من حيث الدلالة فلان المعطوف مع المعطوف عليه كشئ واحد من حيث الحكم والاعراب بمنزلة المضاف مع المضاف إليه، ثم الاضافة للتعريف حتى يصير المضاف معرفا بالمضاف إليه، فكذلك العطف متى كان صالحا للتعريف يصير المعطوف عليه معرفا بالمعطوف باعتبار أنهما كشئ واحد، ولكن هذا فيما يجوز أن يثبت في الذمة عند مباشرة السبب بذكر المعطوف بالمعطوف عليه كالمكيل والموزون.
فأما ما ليس بمقدر لا يثبت دينا في الذمة بذكر المعطوف (والمعطوف) عليه مع إلحاق التفسير بالمعطوف عليه، ولكن يحتاج إلى ذكر شرائط أخر، فلهذا لم نجعل المعطوف عليه مفسرا بالمعطوف هناك.

واتفقوا أنه لو قال لفلان علي مائة وثلاثة دراهم أنه تلزمه الكل من الدراهم.
وكذلك لو قال مائة وثلاثة أثواب أو ثلاثة أفراس أو ثلاثة أعبد، لانه عطف إحدى الجملتين على الاخرى ثم عقبهما بتفسير، والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه، فالتفسير المذكور يكون تفسيرا لهما.
وكذلك لو قال له علي أحد وعشرون درهما فالكل دراهم، لانه عطف العدد المبهم على ما هو واحد مذكور على وجه الابهام، وقوله درهما مذكور على وجه التفسير فيكون تفسيرا لهما، والاختلاف في قوله له مائة ودرهمان كالاختلاف في قوله ودرهم.
وقد روي عن أبي يوسف أنه إذا قال له علي مائة وثوب أو مائة وشاة فالمعطوف يكون تفسيرا
للمعطوف عليه، بخلاف ما إذا قال مائة وعبد لان في قوله مائة ودرهم إنما جعلناه تفسيرا باعتبار أن المعطوف والمعطوف عليه كشئ واحد، وهذا يتحقق في كل ما يحتمل القسمة، فإن معنى الاتحاد بالعطف في مثله يتحقق، فأما ما لا يحتمل القسمة مطلقا كالعبد لا يتحقق فيه معنى الاتحاد بسبب العطف فلا يصير المجمل بالمعطوف فيه مفسرا، والله أعلم.
باب: النسخ جوازا وتفسيرا قال رضي الله عنه: اعلم بأن الناس تكلموا في معنى النسخ لغة فقال بعضهم: هو عبارة عن النقل، من قول القائل: نسخت الكتاب إذا نقله من موضع إلى موضع.
وقال بعضهم: هو عبارة عن الابطال، من قولهم نسخت الشمس الظل: أي أبطلته.
وقال بعضهم: هو عبارة عن الازالة من قولهم نسخت الرياح الآثار: أي أزالتها.
وكل ذلك مجاز لا حقيقة، فإن حقيقة النقل أن تحول عين الشئ من موضع إلى موضع آخر ونسخ الكتاب لا يكون بهذه الصفة إذ لا يتصور نقل عين المكتوب من موضع إلى موضع آخر وإنما يتصور إثبات مثله في المحل الآخر.
وكذلك في الاحكام فإنه لا يتصور نقل الحكم الذي هو منسوخ إلى ناسخه وإنما المراد إثبات مثله مشروعا في المستقبل أو نقل المتعبد من الحكم الاول إلى الحكم الثاني.
وكذلك معنى الازالة فإن إزالة الحجر عن مكانه لا يعدم عينه ولكن عينه باق في المكان الثاني، وبعد النسخ لا يبقى الحكم الاول، ولو كان حقيقة النسخ الازالة لكان يطلق هذا

اسم على كل ما توجد فيه الازالة وأحد لا يقول بذلك.
وكذلك لفظ الابطال فإن بالنص لا تبطل الآية وكيف تكون حقيقة النسخ الابطال وقد أطلق الله تعالى ذلك في الاثبات بقوله تعالى: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) فعرفنا أن الاسم شرعي عرفناه بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وأوجه
ما قيل فيه إنه عبارة عن التبديل من قول القائل نسخت الرسوم: أي بدلت برسوم أخر.
وقد استبعد هذا المعنى بعض من صنف في هذا الباب من مشايخنا وقال: في إطلاق لفظ التبديل إشارة إلى أنه رفع الحكم المنسوخ وإقامة الناسخ مقامه، وفي ذلك إيهام البداء والله تعالى يتعالى عن ذلك.
قال رضي الله عنه: وعندي أن هذا سهو منه وعبارة التبديل منصوص عليه في القرآن، قال تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية) وإذا كان اسم النسخ شرعيا معلوما بالنص فجعله عبارة عما يكون معلوما بالنص أيضا يكون أولى الوجوه.
ثم هو في حق الشارع بيان محض، فإن الله تعالى عالم بحقائق الامور لا يعزب عنه مثقال ذرة، ثم إطلاق الامر بشئ يوهمنا بقاء ذلك على التأبيد من غير أن نقطع القول به في زمن من ينزل عليه الوحي، فكان النسخ بيانا لمدة الحكم المنسوخ في حق الشارع وتبديلا لذلك الحكم بحكم آخر في حقنا على ما كان معلوما عندنا لو لم ينزل الناسخ، بمنزلة القتل فإنه انتهاء الاجل في حق من هو عالم بعواقب الامور.
لان المقتول ميت بأجله بلا شبهة، ولكن في حق القاتل جعل فعله جناية على معنى أنه يعتبر في حقه حتى يستوجب به القصاص وإن كان ذلك موتا بالاجل المنصوص عليه في قوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ومن فهم معنى التبديل بهذه الصفة عرف أنه ليس فيه من إيهام البداء شئ.
ثم المذهب عند المسلمين أن النسخ جائز في الامر والنهي الذي يجوز أن يكون ثابتا ويجوز أن لا يكون على ما نبينه في فصل محل النسخ، وعلى قول اليهود النسخ لا يجوز أصلا.
وهم في ذلك فريقان: فريق منهم يأبى النسخ عقلا، وفريق يأبى جوازه سمعا وتوقيفا.
وقد قال بعض من لا يعتد بقوله من المسلمين إنه لا يجوز النسخ أيضا، وربما قالوا لم يرد النسخ في شئ أصلا.
ولا وجه للقول الاول إذا كان القائل ممن يعتقد الاسلام، فإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها

من الشرائع فكيف يتحقق هذا القول منه مع اعتقاده لهذه الشريعة.
والثاني باطل نصا، فإن قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) وقوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية) نص قاطع على جواز النسخ، وانتساخ التوجه إلى بيت المقدس بفرضية التوجه إلى الكعبة أمر ظاهر لا ينكره عاقل، فقول من يقول لم يوجد باطل من هذا الوجه.
فأما من قال من اليهود إنه لا يجوز بطريق التوقيف استدل بما يروى عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه قال: تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والارض.
وزعموا أن هذا مكتوب في التوراة عندهم، وقالوا قد ثبت عندنا بالطريق الموجب للعلم وهو خبر التواتر عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن شريعتي لا تنسخ كما تزعمون أنتم أن ذلك ثبت عندكم بالنقل المتواتر عمن تزعمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبهذا الطريق طعنوا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا من أجل العمل في السبت لا يجوز تصديقه ولا يجوز أن يأتي بمعجزة تدل على صدقه.
ومن أنكر منهم ذلك عقلا قال الامر بالشئ دليل على حسن المأمور به، والنهي عن الشئ دليل على قبح المنهي عنه، والشئ الواحد لا يجوز أن يكون حسنا وقبيحا، فالقول بجواز النسخ قول بجواز البداء، وذلك إنما يتصور ممن يجهل عواقب الامور والله تعالى يتعالى عن ذلك، يوضحه أن مطلق الامر يقتضي التأبيد في الحكم وكذلك مطلق النهي، ولهذا حسن منا اعتقاد التأبيد فيه فيكون ذلك بمنزلة التصريح بالتأبيد، ولو ورد نص بأن العمل في السبت حرام عليكم أبدا لم يجز نسخه بعد ذلك بحال، فكذلك إذا ثبت التأبيد بمقتضى مطلق الامر إذ لو كان ذلك موقتا كما قلتم لكان تمام البيان فيه بالتنصيص على التوقيت، فما كان يحسن إطلاقه عن ذكر التوقيت وفي ذلك إيهام الخلل فيما بينه الله تعالى فلا يجوز القول به أصلا.
وحجتنا فيه من طريق التوقيف اتفاق الكل على أن جواز النكاح بين الاخوة والاخوات قد كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام، وبه حصل التناسل،

وقد انتسخ ذلك بعده، وكذلك جواز الاستمتاع بمن هو بعض من المرء قد كان في شريعته، فإن حواء رضي الله عنها خلقت منه وكان يستمتع بها ثم انتسخ ذلك الحكم حتى لا يجوز لاحد أن يستمتع بمن هو بعض منه بالنكاح نحو ابنته، ولان اليهود مقرون بأن يعقوب عليه السلام حرم شيئا من المطعومات على نفسه، وأن ذلك صار حراما عليهم كما أخبرنا الله تعالى به في قوله: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) الآية، والنسخ ليس إلا تحريم المباح أو إباحة الحرام، وكذلك العمل في السبت كان مباحا قبل زمن موسى عليه السلام فإنهم يوافقوننا على أن حرمة العمل في السبت من شريعة موسى، وإنما يكون من شريعته إذا كان ثبوته بنزول الوحي عليه، فأما إذا كان ذلك قبل شريعته على هذا الوجه أيضا فلا فائدة في تخصيصه أنه شريعته، فإذا جاز ثبوت الحرمة في شريعته بعد ما كان مباحا جاز ثبوت الحل في شريعة نبي آخر قامت الدلالة على صحة نبوته.
ومن حيث المعقول الكلام من وجهين: أحدهما أن النسخ في المشروعات التي يجوز أن تكون مشروعا ويجوز أن لا تكون، ومعلوم أن هذه المشروعات شرعها الله تعالى على سبيل الابتلاء لعباده حتى يميز المطيع من العاصي.
ومعنى الابتلاء يختلف باختلاف أحوال الناس، وباختلاف الاوقات، فإن في هذا الابتلاء حكمة بالغة وليس ذلك إلا منفعة للعباد في ذلك عاجلا أو آجلا، لان الله تعالى يتعالى عن أن يلحقه المضار والمنافع، وما لا منفعة فيه أصلا يكون عبثا ضدا للحكمة، ثم قد تكون المنفعة في إثبات شئ في وقت وفي نفيه في وقت آخر كإيجاب الصوم في النهار إلى غروب الشمس أو طلوع النجوم كما هو مذهبهم، ونفي الصوم بعد
ذلك، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الناس كوجوب اعتزال المرأة في حالة الحيض وانتفاء ذلك بعدما طهرت، ألا ترى أنه لو نص على ذكر الوقت فيه بأن قال حرمت عليكم العمل في السبت ألف سنة ثم هو مباح بعد ذلك كان مستقيما وكان معنى الابتلاء فيه متحققا ولم يكن فيه من معنى البداء شئ، فكذلك عند إطلاق اللفظ في التحريم.
ثم النسخ بعد ذلك إذا انتهت مدة التحريم الذي كان معلوما عند

الشارع حين شرعه لا يكون فيه من معنى البداء شئ بل يكون امتحانا للمخاطبين في الوقتين جميعا، وهو بمنزلة تبديل الصحة بالمرض والمرض بالصحة، وتبديل الغنى بالفقر والفقر بالغنى، فإن ذلك ابتلاء بالطريق الذي قلنا إليه أشار الله تعالى فيما أنزله على نبينا صلى الله عليه وسلم وقال: (إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه) والثاني أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم وذلك غيب عنا لو بينه لنا في وقت الامر كان حسنا لا يشوبه من معنى القبح شئ فكذلك إذا بينه بعد ذلك بالنسخ.
وإنما قلنا ذلك لان النسخ إنما يكون فيما يجوز أن يكون مشروعا ويجوز أن لا يكون مشروعا ومع الشرع مطلقا يحتمل أن يكون موقتا ويحتمل أن يكون مؤبدا احتمالا على السواء، لان الامر يقتضي كونه مشروعا من غير أن يكون موجبا بقاءه مشروعا وإنما البقاء بعد الثبوت بدليل آخر سبق أو بعدم الدليل المزيل، فأما أن يكون ذلك واجبا بالامر فلا، لان إحياء الشريعة بالامر به كإحياء الشخص وذلك لا يوجب بقاءه وإنما يوجب وجوده، ثم البقاء بعد ذلك بإبقاء الله تعالى إياه أو بانعدام سبب الفناء، فكما أن الاماتة بعد الاحياء لا يكون فيه شئ من معنى القبح، ولا يكون دليل البداء والجهل بعواقب الامور بل يكون ذلك بيانا لمدة بقاء الحياة الذي كان معلوما عند الخالق حين خلقه، وإن كان ذلك غيبا عنا فكذلك النسخ في حكم الشرع.
فإن قيل: فعلى هذا بقاء الحكم قبل أن يظهر ناسخه لا يكون مقطوعا به لانه ما لم يكن هناك دليل موجب له لا يكون مقطوعا به، ولا دليل سوى الامر به.
قلنا: أما في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك نقول بقاءه بعد الامر إنما يكون باستصحاب الحال لجواز نزول الوحي بما ينسخه ويبين به مدة بقائه إلا أن الواجب علينا التمسك بما ظهر عندنا لا بما هو غيب عنا، فما لم تظهر لنا مدة البقاء بنزول الناسخ يلزمنا العمل به، وكذلك بعد نزول الناسخ قبل أن يعلم المخاطب به.
وهو نظير حياة المفقود بعدما غاب عنا فإنه يكون ثابتا باستصحاب الحال لا بدليل موجب لبقائه حيا، ولكنا نجعله في حكم الاحياء بناء على ما ظهر لنا حتى يتبين انتهاء مدة حياته بظهور موته، فأما بعد وفاة الرسول عليه السلام

فلم يبق احتمال النسخ وصار البقاء ثابتا بدليل مقطوع به وهو أن النسخ لا يكون إلا على لسان من ينزل عليه الوحي، ولا توهم لذلك بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل: فعلى هذا لا يكون النسخ في أصل الامر لان الحكم الثابت بالامر غير الامر فببيان مدته لا يثبت تبديل الامر بالنهي.
قلنا: وهكذا نقول فإنه ليس في النسخ تعرض للامر بوجه من الوجوه بل للحكم الثابت به ظاهرا بناء على ما هو معلوم لنا، فإنه كان يجوز البقاء بعد هذه المدة باعتبار الاطلاق الذي كان عندنا.
فأما في حق الشارع فهو بيان مدة الحكم كما كان معلوما له حقيقة ولا يتحقق منه توهم التعرض للامر ولا لحكمه، كالاماتة بعد الاحياء، فإنه بيان المدة من غير أن يكون فيه تعرض لاصل الاحياء ولا لما يبتنى عليه من مدة البقاء، فاعتبار ما هو ظاهر لنا يكون فيه تبديل صفة الحياة بصفة الوفاة، وإنما تتحقق المنافاة بين القبح والحسن في محل واحد في وقت واحد، فأما في وقتين ومحلين فلا يتحقق ذلك، ألا ترى أنه
لا يتوجه الخطاب على من لا يعقل من صبي أو مجنون ثم يتوجه عليه الخطاب بعدما عقل، ويكون كل واحد منهما حسنا لاختلاف الوقت أو لاختلاف المحل.
وهذا لان أحوالنا تتبدل فيكون النسخ تبديلا بناء على ما يتبدل من أحوالنا من العلم مدة البقاء والجهل به لا يكون مؤديا إلى الجمع بين صفة القبح والحسن والله يتعالى عن ذلك، فكان في حقه بيانا محضا لمدة بقاء المشروع بمنزلة المنصوص عليه حين شرعه.
وما استدلوا به من السمع لا يكاد يصح عندنا بعدما ثبت رسالة رسل بعد موسى عليه السلام بالآيات المعجزة، والدلائل القاطعة.
ودعواهم أن ذلك في التوراة غير مسموعة منهم، لانه ثبت عندنا على لسان من ثبتت رسالته أنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا، ولان كلام الله تعالى لا يثبت إلا بالنقل المتواتر وذلك لا يوجد في التوراة بعدما فعل بختنصر ببني إسرائيل ما فعل من القتل الذريع وإحراق أسفار التوراة.
وفي المسألة كلام كثير بين أهل الاصول، ولكنا اقتصرنا هنا على قدر ما يتصل بأصول الفقه، والمقصود من بيان هذه المسألة هنا ما يترتب عليها من أصول الفقه، والله الموفق للاتمام.

فصل: في بيان محل النسخ قد بينا أن جواز النسخ مختص بما يجوز أن يكون مشروعا ويجوز أن لا يكون مشروعا وهو مما يحتمل التوقيت نصا مع كونه مشروعا، لانه بيان مدة بقاء الحكم وبعد انتهاء المدة لا يبقى مشروعا فلا بد من أن يكون فيه احتمال الوصفين.
وبهذا البيان يظهر أنه إذا كان موقتا فلا بد من أن يكون محتملا للتوقيت نصا، وفي هذا بيان أنه ليس في أصل التوحيد احتمال النسخ بوجه من الوجوه، لان الله تعالى بأسمائه وصفاته لم يزل كان ولا يزال يكون، ومن صفاته أنه صادق حكيم عالم بحقائق الامور فلا احتمال للنسخ في هذا بوجه من الوجوه، ألا ترى أن الامر بالايمان بالله
وكتبه ورسله لا يحتمل التوقيت بالنص، وأنه لا يجوز أن يكون غير مشروع بحال من الاحوال.
وعلى هذا قال جمهور العلماء لا نسخ في الاخبار أيضا، يعنون في معاني الاخبار واعتقاد كون المخبر به على ما أخبر به الصادق الحكيم، بخلاف ما يقوله بعض أهل الزيغ من احتمال النسخ في الاخبار التي تكون في المستقبل، لظاهر قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ولكنا نقول: الاخبار ثلاثة: خبر عن وجود ما هو ماض وذلك ليس فيه احتمال التوقيت ولا احتمال أن لا يكون موجودا، وخبر عما هو موجود في الحال وليس فيه هذا الاحتمال أيضا، وخبر عما هو كائن في المستقبل نحو الاخبار بقيام الساعة وليس فيه احتمال ما بينا من التردد، فتجويز النسخ في شئ من ذلك يكون قولا بتجويز الكذب والغلط على المخبر به، ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقال اعتقدوا الصدق في هذا الخبر إلى وقت كذا ثم اعتقدوا فيه الكذب بعد ذلك.
والقول بجواز النسخ في معاني الاخبار يؤدي إلى هذا لا محالة، وهو البداء والجهل الذي تدعيه اليهود في أصل النسخ.
فأما قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فقد فسره الحسن رضي الله عنه بالاحياء والاماتة.
وفسره زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: (يمحو الله ما يشاء) مما أنزله من الوحي (ويثبت) بإنزال الوحي فيه.
فعلى هذا يتبين أن المراد ما يجوز أن يكون مؤقتا أو أن المراد التلاوة، ونحن نجوز ذلك في الاخبار أيضا بأن تترك التلاوة فيه حتى يندرس وينعدم حفظه من قلوب العباد كما في الكتب المتقدمة، وإنما

لا يجوز ذلك في معاني الاخبار على ما قررنا.
وإنما محل النسخ الاحكام المشروعة بالامر والنهي مما يجوز أن لا يكون مشروعا ويجوز أن يكون مشروعا موقتا.
وذلك ينقسم أربعة أقسام: قسم منه ما هو مؤبد بالنص، وقسم منه ما يثبت التأبيد فيه بدلالة النص، وقسم منه ما هو موقت بالنص.
فهذه الاقسام الثلاثة
ليس فيها احتمال النسخ أيضا، وإنما احتمال النسخ في القسم الرابع وهو المطلق الذي يحتمل أن يكون موقتا ويحتمل أن يكون مؤبدا احتمالا على السواء.
فأما بيان القسم الاول في قوله تعالى: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) ففيه تنصيص على التأبيد، وكذلك في قوله تعالى: (خالدين فيها أبدا) لان بعد التنصيص على التأبيد بيان التوقيت فيه بالنسخ لا يكون إلا على وجه البداء وظهور الغلط، والله تعالى يتعالى عن ذلك.
وما ثبت التأبيد فيه بدلالة النص فبيانه في الشرائع بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقرا عليها فإنه ليس فيها احتمال النسخ، لان النسخ لا يكون إلا على لسان من ينزل عليه الوحي، وقد ثبت بدليل مقطوع به أن رسول الله خاتم النبيين وأنه لا نسخ لشريعته فلا يبقى احتمال النسخ بعد هذه الدلالة فيما كان شريعة له حين قبض.
ونظيره من المخلوقات الدار الآخرة فقد ثبت بدليل مقطوع به أنه لا فناء لها.
وأما القسم الثالث: فبيانه في قول القائل: أذنت لك في أن تفعل كذا إلى مائة سنة، فإن النهي قبل مضي تلك المدة يكون من باب البداء، ويتبين به أن الاذن الاول كان غلطا منه لجهله بعاقبة الامر، والنسخ الذي يكون مؤديا إلى هذا لا يجوز القول به في أحكام الشرع، ولم يرد شرع بهذه الصفة.
فأما القسم الرابع: فبيانه في العبادات المفروضة شرعا عند أسباب جعلها الشرع سببا لذلك فإنها تحتمل التوقيت نصا يعني في الاداء اللازم باعتبار الامر، وفي الاسباب التي جعلها الله تعالى سببا لذلك، فإنه لو قال جعلت زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر عليكم إلى وقت كذا كان مستقيما، ولو قال جعلت شهود الشهر سببا لوجوب الصوم عليكم إلى وقت كذا كان مستقيما.
وهذا كله في الاصل مما يجوز أن يكون

مشروعا ويجوز أن لا يكون، فكان النسخ فيه بيانا لمدة بقاء الحكم وذلك جائز باعتبار ما بينا من المعنيين: أحدهما أن معنى الابتلاء والمنفعة للعباد في شئ يختلف باختلاف الاوقات واختلاف الناس في أحوالهم.
والثاني أن دليل الايجاب غير موجب للبقاء بمنزلة البيع يوجب الملك في المبيع للمشتري ولا يوجب بقاء الملك بل بقاؤه بدليل آخر مبق أو بعدم دليل المزيل وهو موجب الثمن في ذمة المشتري ولا يوجب بقاء الثمن في ذمته لا محالة، ولا يكون في النسخ تعرضا للامر ولا للحكم الذي هو موجبه، وامتناع جواز النسخ فيما تقدم من الاقسام كان لاجتماع معنى القبح والحسن، وإنما يتحقق ذلك في وقت واحد لا في وقتين، حتى إن ما يكون حسنا لعينه لا يجوز أن يكون قبيحا لعينه بوجه من الوجوه.
فإن قيل: أليس أن الخليل صلى الله عليه وسلم أمر بذبح ولده وكان الامر دليلا على حسن ذبحه ثم انتسخ ذلك فكان منهيا عن ذبحه مع قيام الامر حتى وجب ذبح الشاة فداء عنه، ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به يثبت الانتساخ كان دليلا على قبحه وقد قلتم باجتماعهما في وقت واحد.
قلنا: لا كذلك فإنا لا نقول بأنه انتسخ الحكم الذي كان ثابتا بالامر، وكيف يقال به وقد سماه الله محققا رؤياه بقوله تعالى: (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) : أي حققت ما أمرت به.
وبعد النسخ لا يكون هو محققا ما أمر به، ولكنا نقول الشاة كانت فداء كما نص الله عليه في قوله: (وفديناه بذبح عظيم) على معنى أنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب بعد أن كان الايجاب بالامر مضافا إلى الولد حقيقة، كمن يرمي سهما إلى غيره فيفديه آخر بنفسه بأن يتقدم عليه حتى ينفذ فيه بعد أن يكون خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي قصده، وإذا كان فداء من هذا الوجه كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالامر فلا يستقيم القول بالنسخ فيه، لان ذلك يبتنى على النهي الذي هو ضد الامر، فلا يتصور اجتماعهما في وقت واحد.
فإن قيل: فإيش الحكمة في إضافة الايجاب إلى الولد إذا لم يجب به ذبح الولد ؟ قلنا: فيه تحقيق معنى الابتلاء في حق الخليل عليه السلام حتى يظهر منه الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده، وفي حق الولد بالصبر والمجاهدة على معرة الذبح إلى حال المكاشفة.
وفيه إظهار معنى الكرامة والفضيلة

للخليل عليه السلام بالاسلام لرب العالمين، وللولد بأن يكون قربانا لله، وإليه أشار الله تعالى في قوله: (فلما أسلما) ثم استقر حكم الوجوب في الشاة بطريق الفداء للولد كما قال: (وفديناه بذبح عظيم) والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب للاصل فيه يتبين انعدام النسخ هنا لانعدام ركنه فإنه بيان مدة بقاء الواجب، وحين وجبت الشاة فداء كان الواجب قائما والولد حرام الذبح، فعرفنا أنه لا وجه للقول بأنه كان نسخا.
ثم على مذهب علمائنا يجوز نسخ الاخف بالاثقل كما يجوز نسخ الاثقل بالاخف.
وذكر الشافعي في كتاب الرسالة أن الله تعالى فرض فرائض أثبتها وأخرى نسخها رحمة وتخفيفا لعباده، فزعم بعض أصحابه أنه أشار بهذا إلى وجه الحكمة في النسخ.
وقال بعضهم بل أراد به أن الناسخ أخف من المنسوخ وكان لا يجوز نسخ الاخف بالاثقل، واستدلوا فيه بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) وبالاتفاق ليس المراد أن الناسخ أفضل من المنسوخ، فعرفنا أن المراد أنه خير من حيث إنه أخف، وعليه نص في موضع آخر فقال: (الآن خفف الله عنكم) الآية.
ولكنا نستدل بقوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فالتقييد بكون الناسخ أخف من المنسوخ يكون زيادة على هذا النص من غير دليل، ثم المعنى الذي دل على جواز النسخ وهو ما أشرنا إليه من الابتلاء والنقل إلى ما فيه منفعة لنا عاجلا أو آجلا لا يفصل بينهما، فقد يكون المنفعة تارة في النقل إلى ما هو أخف على البدن، وتارة في النقل إلى ما هو أشق على البدن، ألا ترى أن الطبيب ينقل المريض من الغذاء إلى
الدواء تارة، ومن الدواء إلى الغذاء تارة بحسب ما يعلم من منفعته فيه.
ثم هو بيان مدة بقاء الحكم على وجه لو كان مقرونا بالامر لكان صحيحا مستقيما، وفي هذا لا فرق بين الاثقل والاخف، ولا حجة لهم في قوله: (الآن خفف الله عنكم) فإن النسخ في ذلك الحكم بعينه كان نقلا من الاثقل إلى الاخف، وهذا يدل على أن كل نسخ يكون بهذه الصفة، ألا ترى أن حد الزنا كان في الابتداء هو الحبس والاذى باللسان ثم انتسخ ذلك بالجلد والرجم.
ولا شك أن الناسخ أثقل على البدن.
وجاء عن معاذ وابن عمر رضي الله عنهم في قوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم) أن حكمه كان هو التخيير للصحيح بين الصوم والفدية ثم انتسخ ذلك بفرضية الصوم عزما بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وانتسخ حكم إباحة الخمر بالتحريم وهو أشق على

البدن.
ثم لا شك أنه قد افترض على العباد بعض ما كان مشروعا لا بصفة الفرضية وإلزام ما كان مباحا يكون أشق لا محالة.
وبهذا يتبين أنه ليس المراد من قوله: (نأت بخير منها) الاخف على البدن، فإن الحج ما كان لازما قبل نزول قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) وكان كل مسلم مندوبا إلى أدائه ثم صار الاداء لازما بهذه الآية وهذا أشق على البدن، يوضحه أن ترك الخروج للحج يكون أخف على البدن من الخروج، ولا إشكال أن الخروج إلى أداء الحج بعد التمكن خير من الترك.
فبهذا يتبين ضعف استدلالهم.
فصل: في بيان شرط النسخ قال رضي الله عنه: اعلم بأن شرط جواز النسخ عندنا هو التمكن من عقد القلب، فأما الفعل أو التمكن من الفعل فليس بشرط، وعلى قول المعتزلة التمكن من الفعل شرط.
وحاصل المسألة أن النسخ بيان لمدة عقد القلب والعمل بالبدن تارة، ولاحدهما وهو عقد القلب على الحكم تارة، فكان عقد القلب هو الحكم
الاصلي فيه، والعمل بالبدن زيادة يجوز أن يكون النسخ بيانا للمدة فيه ويجوز أن لا يكون عندنا.
وعلى قولهم النسخ يكون بيانا لمدة الحكم في حق العمل به وذلك لا يتحقق إلا بعد الفعل أو التمكن منه حكما، لان الترك بعد التمكن فيه تفريط من العبد فلا ينعدم به معنى بيان مدة العمل بالنسخ.
قالوا لان العمل هو المقصود بالامر والنهي، ألا ترى أن ورودهما بذكر الفعل معنى قول القائل افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا.
وتحقيق معنى الابتلاء في الفعل أيضا، فعرفنا أنه هو المقصود والنسخ قبل التمكن من الفعل لا يكون إلا بطريق البداء، ألا ترى أن الانسان يقول قد أمرت عبدي أن يفعل غدا كذا ثم بدا لي فنهيته عنه.
وهذا لانه إنما ينتهي عما أمر بفعله قبل التمكن من الفعل، بأن يظهر له من حال المأمور به ما لم يكن معلوما حين يأمره به لعلمنا أنه بالامر إنما طلب من المأمور إيجاد الفعل بعد التمكن منه لا قبله، إذ التكليف لا يكون إلا بحسب الوسع، والبداء على الله تعالى لا يجوز، يقرره أن القول بجواز النسخ قبل التمكن يؤدي إلى أن يكون الشئ الواحد حسنا وقبيحا في وقت واحد، لان الامر دليل على حسن فعل المأمور به عند الامكان، والنهي قبل التمكن

دليل على قبح فعله في ذلك الوقت بعينه، يوضحه أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم على وجه يجوز أن يكون مقرونا بالامر، ولهذا جاز النسخ في الامر والنهي دون الخبر، والنسخ قبل التمكن لا يصح مقرونا بالامر، فإنه لا يستقيم أن يقول افعل كذا إلى أن لا يكون متمكنا منه ثم لا يفعله بعد ذلك، فعرفنا أن النسخ قبل التمكن لا يجوز.
وحجتنا في ذلك الحديث المشهور إن الله تعالى فرض على عباده خمسين صلاة في ليلة المعراج، ثم انتسخ ما زاد على الخمس لسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك نسخا قبل التمكن من الفعل إلا أنه كان بعد عقد القلب عليه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الاصل لهذه الامة ولا شك أنه عقد قلبه على ذلك، ولا معنى لقولهم إن الله تعالى ما فرض ذلك عزما وإنما جعل ذلك إلى رأي رسوله ومشيئته،
لان في الحديث أن رسول الله عليه السلام سأل التخفيف عن أمته غير مرة وما زال يسأل ذلك ويجيبه ربه إليه حتى انتهى إلى الخمس، فقيل له: لو سألت التخفيف أيضا فقال: أنا أستحي من ربي وفي هذا بيان أنه لم يكن ذلك مفوضا إلى اختياره بل كان نسخا على وجه التخفيف بسؤاله بعد الفرضية.
ومنهم من استدل بقوله: (فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) إلى قوله (فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم) فإن هذا نسخ الامر قبل الفعل، ولكنهم يقولون كان هذا النسخ بعد التمكن من الفعل وإن كان قبل مباشرة الفعل ولا خلاف في جواز ذلك، والاصح هو الاول، ولان النسخ جائز بعد وجود جزء مما تناوله الامر بالفعل، فإن قول القائل افعلوا كذا في مستقبل أعماركم يجوز نسخه بالنهي عنه بعد مضي جزء من العمر، ولولا النسخ لكان أصل الكلام متناولا لجميع العمر، فبالنسخ يتبين أنه كان المراد الابتلاء بالعمل في ذلك الجزء خاصة ولا يتوهم فيه معنى البداء أو الجهل بعاقبة الامر، فكذلك النسخ بعد عقد القلب على الحكم، واعتقاد الحقية فيه قبل التمكن من العمل يكون بيانا أن المراد كان عقد القلب عليه إلى هذا الوقت واعتقاده الفرضية فيه دون مباشرة العمل، وإنما يكون مباشرة العمل مقصودا لمن ينتفع به، والله يتعالى عن ذلك، وإنما المقصود فيما يأمر الله به عباده الابتلاء، والابتلاء بعزيمة القلب

واعتقاد الحقية لا يكون دون الابتلاء بالعمل وربما يكون ذلك أهم، ألا ترى أن في المتشابه ما كان الابتلاء إلا بعقد القلب عليه واعتقاد الحقية فيه.
وكذلك في المجمل الذي لا يمكن العمل به إلا بعد البيان يكون الابتلاء قبل البيان بعقد القلب عليه واعتقاد الحقية فيه، ويكون ذلك حسنا لا يشوبه من معنى القبح شئ، فكذلك الامر الذي يرد النسخ عقيبه قبل التمكن من الفعل، ويعتبر هذا بإحياء الشخص، فقد تبين انتهاء مدة حياته بالموت قبل أن يصير منتفعا بحياته إما في بطن
أمه بأن ينفصل ميتا أو بعد الانفصال قبل أن ينتفع بحياته، وأحد لا يقول إنه يتمكن فيه معنى البداء أو إنه يجتمع فيه معنى الحسن والقبح، يوضحه أن الواحد منا قد يأمر عبده ومقصوده من ذلك أن يظهر عند الناس حسن طاعته وانقياده له ثم ينهاه عن ذلك بعد حصول هذا المقصود قبل أن يتمكن من مباشرة الفعل، ولا يجعل ذلك دليل البداء منه وإن كان ممن يجوز عليه البداء، فلان لا يجعل النسخ قبل التمكن من الفعل بعد عزم القلب واعتقاد الحقية موهما للبداء في حق من لا يجوز عليه البداء أولى، وإنما يجتمع الحسن والقبح في شئ واحد إذا كان مأمورا به ومنهيا عنه في وقت واحد، وذلك لا يكون، مع أن الحسن مطلقا ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، يقرره أن تمام الحسن على ما يزعمون إنما يظهر عند مباشرة العمل والاطلاق يقتضي صفة الكمال، ثم بالاتفاق يجوز النسخ بعد التمكن من الفعل قبل حقيقة الفعل، لان معنى الحسن فيه كامل من حيث عقد القلب واعتقاد الحقية فيه فكذلك قبل التمكن، ولا نقول بأن مثل هذا البيان لا يجوز مقرونا بالامر فإنه لو قال افعل كذا في وقت كذا (إن لم أنسخه عنك كان ذلك أمرا مستقيما بمنزلة قوله افعل كذا في وقت كذا) إن تمكنت منه، وتكون الفائدة في الحال هو القبول بالقلب واعتقاد الحقية فيه، فكذلك يجوز مثله بعد الامر بطريق النسخ، والله الموفق.
فصل: في بيان الناسخ قال رضي الله عنه: اعلم بأن الحجج أربعة: الكتاب، والسنة، والاجماع،

والقياس.
ولا خلاف بين جمهور العلماء في أنه لا يجوز نسخ الكتاب والسنة بالقياس، وكان ابن سريج من أصحاب الشافعي يجوز ذلك، والانماطي من أصحابه كان يقول لا يجوز ذلك بقياس الشبه ويجوز بقياس مستخرج من الاصول، وكل
قياس هو مستخرج من القرآن يجوز نسخ الكتاب به، وكل قياس هو مستخرج من السنة يجوز نسخ السنة به، لان هذا في الحقيقة نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالسنة، فثبوت الحكم بمثل هذا القياس في الحقيقة يكون محالا به على الكتاب والسنة.
وهذا قول باطل باتفاق الصحابة، فقد كانوا مجمعين على ترك الرأي بالكتاب والسنة، حتى قال عمر رضي الله عنه في حديث الجنين: كدنا أن نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ولكني رأيت رسول الله يمسح على ظاهر الخف دون باطنه.
ولان القياس كيفما كان لا يوجب العلم فكيف ينسخ به ما هو موجب للعلم قطعا، وقد بينا أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم وكونه حسنا إلى ذلك الوقت، ولا مجال للرأي في معرفة انتهاء وقت الحسن، وما ادعاه من أن هذا الحكم يكون ثابتا بالكتاب فكلام ضعيف، فإن الوصف الذي به يرد الفرع إلى الاصل المنصوص عليه في الكتاب والسنة غير مقطوع بأنه هو المعنى في الحكم الثابت بالنص، وأحد من القائسين لا يقول بأن حكم الربا فيما عدا الاشياء الستة يكون ثابتا بالنص الذي فيه ذكر الاشياء الستة.
وأما النسخ بالاجماع فقد جوزه بعض مشايخنا بطريق أن الاجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والاجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، وإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور كما أشرنا إليه في الزيادة على النص فجوازه بالاجماع أولى.
وأكثرهم على أنه لا يجوز ذلك، لان الاجماع عبارة عن اجتماع الآراء على شئ، وقد بينا أنه لا مجال للرأي في معرفة نهاية وقت الحسن والقبح في الشئ عند الله تعالى، ثم أوان النسخ حال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتفاقنا على أنه لا نسخ بعده، وفي حال حياته ما كان ينعقد الاجماع بدون رأيه،
وكان الرجوع إليه فرضا، وإذا وجد البيان منه فالموجب للعلم قطعا هو البيان المسموع

منه، وإنما يكون الاجماع موجبا للعلم بعده ولا نسخ بعده، فعرفنا أن النسخ بدليل الاجماع لا يجوز.
ثم الاقسام بعد هذا أربعة: نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالسنة، ونسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب.
ولا خلاف بين العلماء في جواز القسمين الاولين، ويختلفون في القسمين الآخرين.
فعندنا يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة أو المشهورة على ما ذكره الكرخي عن أبي يوسف أنه يجوز نسخ الكتاب بمثل خبر المسح على الخفين وهو مشهور، وكذلك يجوز نسخ السنة بالكتاب.
وعلى قول الشافعي لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة ولا نسخ السنة بالكتاب، فإنه قال في كتاب الرسالة: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنة كما لا ينسخ الكتاب إلا الكتاب.
فمن أصحابه من يقول مراده نفي الجواز، ومنهم من يقول مراده نفي الوجود: أي لم يوجد في الشريعة نسخ الكتاب بالسنة ولا نسخ السنة بالكتاب.
فيحتاج إلى إثبات الفصلين بالحجة.
فأما هو احتج بقوله تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) وفي هذا تنصيص على أنه كان متبعا لكل ما يوحى إليه ولم يكن مبدلا لشئ منه والنسخ تبديل، قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) فأخبر أنه مبين لما هو المنزل حتى يعمل الناس بالمنزل بعدما تبين لهم ببيانه، وفي تجويز نسخ الكتاب بالسنة رفع هذا الحكم، لان العمل بالناسخ يكون، فإذا كان الناسخ من السنة لا يكون العمل به عملا بالمنزل.
وقوله تعالى: (ولعلهم يتفكرون) : أي يتفكرون في المنزل ليعملوا به بعد بيانه، وفي الناسخ في المنسوخ التفكر في التاريخ بينهما ليجعل المتقدم منسوخا بالمتأخر
لا في المنزل ليعمل به، وقال تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ولا شك أن السنة لا تكون مثلا للقرآن ولا خيرا منه، والقرآن كلام الله غير محدث ولا مخلوق وهو معجز، والسنة كلام مخلوق وهو غير معجز.
فعرفنا أن نسخ الكتاب لا يجوز بالسنة، وقال عليه السلام: إذا روي لكم

عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالف كتاب الله فردوه ومع هذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجوز نسخ الكتاب بالسنة ؟ ! ولان ما قلته أقرب إلى صيانة رسول الله عن طعن الطاعنين فيه، وبالاتفاق يجب المصير في باب بيان أحكام الشرع إلى طريق يكون أبعد عن الطعن فيه.
وبيان ذلك أنه إذا جاز منه أن يقول ما هو مخالف للمنزل في الظاهر على وجه النسخ له فالطاعن يقول هو أول قائل وأول عامل بخلاف ما يزعم أنه أنزل إليه فكيف يعتمد قوله فيه ! وإذا ظهر منه قول ثم قرأ ما هو مخالف لما ظهر منه من القول فالطاعن يقول قد كذبه ربه فيما قال فكيف نصدقه ؟ وإلى هذا أشار الله تعالى في قوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) ثم نفى عنه هذا الطعن بقوله: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) ففي هذا بيان أنه ليس في نسخ الكتاب بالكتاب تعريضه للطعن، وفي نسخ الكتاب بالسنة تعريضه للطعن من الوجه الذي قاله الطاعنون، فيجب سد هذا الباب لعلمنا أنه مصون عما يوهم الطعن فيه.
واستدل على نفي جواز نسخ (السنة) بالكتاب بقوله: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) والسنة شئ فيكون الكتاب تبيانا لحكمه لا رافعا له، وذلك في أن يكون مؤيدا إن كان موافقا ومبينا للغلط فيها إن كان مخالفا، ولهذا لا يجوز إلا عند وروده ليكون بيانا محضا، فإن رسول الله كان لا يقر على الخطأ، والبيان المحض ما يكون مقارنا،
ولان النبي عليه السلام إذا أمر بشئ وتقرر ذلك فقد توجه علينا الامر من الله تعالى بتصديقه في ذلك واتباعه، فلا يجوز القول بأن ينزل في القرآن بعد ذلك ما يكون مخالفا له حقيقة أو ظاهرا، فإن ذلك يؤدي إلى القول بأنه لا يفترض تصديقه فيما يخبر به لجواز أن ينزل القرآن بخلافه وذلك خلاف النص وخلاف قول المسلمين أجمع، يقرره أن السنة نوع حجة لاثبات حكم الشرع، والكتاب كذلك، وحجج الشرع لا تتناقض وإنما يتأيد نوع منها بنوع

آخر، لان في التناقض ما يؤدي إلى تنفير الناس عن قبوله، وما يستدل به على أنه من عند غير الله، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فبهذا يتبين أن أحد النوعين يتأيد بالآخر، ولا يتمكن فيما بين النوعين تناقض، والقول بجواز نسخ السنة بالكتاب والكتاب بالسنة يؤدي إلى هذا.
وحجتنا في ذلك من أصحابنا من استدل بقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين) ففي هذا تنصيص على أن الوصية للوالدين والاقربين فرض ثم انتسخ ذلك بقوله عليه السلام: لا وصية لوارث وهذه سنة مشهورة.
ولا يجوز أن يقال إنما انتسخ ذلك بآية المواريث لان فيها إيجاب حق آخر لهم بطريق الارث وإيجاب حق بطريق الارث لا ينافي حقا آخر ثابتا بطريق آخر، وبدون المنافاة لا يثبت النسخ.
ولا يجوز أن يقال لعل ناسخه مما أنزل في القرآن ولكن لم يبلغنا لانتساخ تلاوته مع بقاء حكمه، لان فتح هذا الباب يؤدي إلى القول بالوقف في جميع أحكام الشرع، فإنه يقال: ما من حكم إلا ويتوهم فيه أن يكون ناسخه قد نزل ثم لم يبلغنا لانتساخ تلاوته، ومع ذلك يؤدي هذا إلى مذهب الروافض، فإنهم يقولون قد نزلت آيات كثيرة
فيها تنصيص على إمامة علي ولم يبلغنا ذلك، ويقولون إن لظاهر ما نزل من القرآن باطنا لا نعقله وقد كان يعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فيزعمون أن كثيرا من الاحكام قد خفي علينا ويجب الرجوع فيها إلى أهل البيت للوقوف على ذلك، وقد أجمع المسلمون على بطلان القول بهذا، فكل سؤال يؤدي إلى القول بذلك فهو ساقط.
ولكن هذا الاستدلال مع هذا ليس بقوي من وجهين: أحدهما أن في آية المواريث تنصيصا على ترتيب الارث على وصية منكرة، فإنه قال: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) والتي كانت مفروضة من الوصية هي الوصية المعهودة المعرفة بالالف واللام، فإنه قال: (الوصية للوالدين) فلو كانت تلك الوصية باقية عند نزول آية المواريث لكان فيها ترتيب الميراث على الوصية المعهودة، وفي التنصيص على ترتيب الارث على

وصية مطلقة دليل نسخ الوصية المعهودة، لان الاطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الاطلاق نسخ.
والثاني أن النسخ في الشرع نوعان: أحدهما إثبات الحكم مبتدأ على وجه يكون دليلا على انتهاء الوقت في حكم كان قبله.
والثاني نسخ بطريق التحويل للحكم من شئ إلى شئ، بمنزلة تحويل فرض التوجه عند أداء الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة، وانتساخ الوصية للوالدين والاقربين بآية الميراث من النوع الثاني، فإن الله تعالى فوض بيان نصيب كل فريق إلى من حضره الموت على أن يراعى الحدود في ذلك، ويبين حصة كل واحد منهم بحسب قرابته، ثم تولى بيان ذلك بنفسه في آية المواريث، وإليه أشار في قوله تعالى: (يوصيكم الله) وإنما تولى بيانه بنفسه لان الموصي ربما كان يقصد إلى المضارة في ذلك، وإلى ذلك أشار في قوله تعالى: (غير مضار وصية من الله) وربما كان لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصى لكل واحد منهم
بجهله فبين الله تعالى نصيب كل واحد منهم على وجه يتيقن بأنه هو الصواب وأن فيه الحكمة البالغة، وإلى ذلك أشار في قوله تعالى: (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) وما هذا إلا نظير من أمر غيره بإعتاق عبده ثم يعتقه بنفسه فينتهي به حكم الوكالة لما باشره الموكل بنفسه، فهنا حين بين الله تعالى نصيب كل قريب لم يبق حكم الوصية إلى الوالدين والاقربين لحصول المقصود بأقوى الطرق، وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله: إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث وكان النسخ بهذا الطريق بمنزلة الحوالة، فإن الدين إذا تحول من ذمة إلى ذمة حتى اشتغلت الذمة الثانية به فرغ منه الذمة الاولى وإن لم يكن بين وجوب الدين في الذمتين معنى المنافاة كما يكون بطريق الكفالة.
ولكنا نقول بهذا الطريق يجوز أن يثبت انتهاء حكم وجوب الوصية للوالدين والاقربين، فأما انتهاء حكم جواز الوصية لهم لا يثبت بهذا الطريق، ألا ترى أن بالحوالة وإن لم يبق الدين واجبا في الذمة الاولى فقد بقيت الذمة محلا صالحا لوجوب الدين فيها، وليس من ضرورة انتفاء وجوب الوصية لهم

انتفاء الجواز كالوصية للاجانب.
فعرفنا أنه إنما انتسخ انتفاء وجوب الوصية لهم لضرورة نفي أصل الوصية لهم وذلك ثابت بالسنة، وهو قوله عليه السلام لا وصية لوارث فمن هذا الوجه يتقرر الاستدلال بهذه الآية.
ومنهم من استدل بحكم الحبس في البيوت والاذى باللسان في حق الزاني، فإنه كان بالكتاب ثم انتسخ بالسنة، وهو قوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة وهذا ليس بقوي أيضا، فقد ثبت برواية عمر رضي الله عنه أن الرجم مما كان يتلى في القرآن على ما قال: لولا أن الناس يقولون إن عمر زاد في كتاب الله لكتبت على حاشية
المصحف: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة.
الحديث، فإنما كان هذا نسخ الكتاب بالكتاب.
ثم الآية التي فيها بيان حكم الحبس والاذى باللسان فيها بيان توقيت ذلك الحكم بما هو مجمل وهو قوله تعالى: (أو يجعل الله لهن سبيلا) فإنما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المجمل، وإليه أشار في قوله عليه السلام خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ولا خلاف أن بيان المجمل في كتاب الله تعالى بالسنة يجوز.
ومنهم من استدل بقوله تعالى: (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) فإن هذا حكم منصوص في القرآن، فقد انتسخ وناسخه لا يتلى في القرآن، فعرفنا أنه ثابت بالسنة.
وهذا ضعيف أيضا.
وبين أهل التفسير كلام فيما هو المراد بهذه الآية، وأثبت ما قيل فيه أن من ارتدت زوجته وهربت إلى دار الحرب فقد كان على المسلمين أن يعينوه من الغنيمة بما يندفع به الخسران عنه، وذلك بأن يعطوه مثل ما ساق إليها من الصداق، وإلى ذلك وقعت الاشارة في قوله تعالى: (فعاقبتم) أي عاقبتم المشركين بالسبي والاسترقاق واغتنام أموالهم.
وكان ذلك بطريق الندب على سبيل المساواة ولم ينتسخ هذا الحكم.
فبهذا تبين أنه لا يؤخذ نسخ حكم ثابت بالكتاب بحكم هو ثابت بالسنة ابتداء، وإنما يؤخذ من ذلك الزيادة بالسنة على الحكم الثابت بالكتاب، نحو ما ذهب إليه الشافعي في ضم التغريب إلى الجلد

في حد البكر، فإنه أثبته بقوله: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) ومثل هذه الزيادة عندنا نسخ وعنده بيان بطريق التخصيص ولا يكون نسخا.
فعلى هذا، الكلام يبتنى على ذلك الاصل.
وسنقرر هذا بعد هذا.
ثم الحجة لاثبات جواز نسخ الكتاب بالسنة قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فإن المراد بيان حكم غير متلو في الكتاب
مكان حكم آخر، وهو متلو على وجه يتبين به مدة بقاء الحكم الاول وثبوت حكم الثاني، والنسخ ليس إلا هذا.
والدليل على أن المراد هذا لا ما توهمه الخصم في بيان الحكم المنزل في الكتاب أنه قال تعالى: (ما نزل إليهم) ولو كان المراد الكتاب لقال ما نزل إليك كما قال تعالى: (بلغ ما أنزل إليك من ربك) والمنزل إلى الناس الحكم الذي أمروا باعتقاده والعمل به، وذلك يكون تارة بوحي متلو، وتارة بوحي غير متلو، وهو ما يكون مسموعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقال إنه سنته، فقد ثبت بالنص أنه كان لا يقول ذلك إلا بالوحي قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) ومعنى قوله: (لعلهم يتفكرون) : أي يتفكرون في حجج الشرع ليقفوا بتفكرهم على الحكمة البالغة في كل حجة، أو ليعرفوا الناسخ من المنسوخ.
ووجه الحكمة في تبديل المنسوخ بالناسخ ما يترتب عليه من المنافع للمخاطبين في الدنيا والآخرة، أو يتبين لهم إرادة اليسر والتوسعة للامر عليهم، أو ما يكون لهم فيه من عظيم الثواب، وفي هذا كله لا فرق بين ما يكون ثبوته بوحي متلو وبين ما يكون ثبوته بوحي غير متلو، وفيما تلا من الآية إشارة إلى ما قلنا فإنه قال تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) فعرفنا أن المراد بيان أنه لا يبدل شيئا من تلقاء نفسه بناء على متابعة الهوى وإنما يوحى إليه فيتبع ما يوحى إليه ويبينه للناس فيما ليس بمنزل في القرآن، ولكن العبارة فيه مفوض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبينه بعبارته، وهو حكم ثابت من الله تعالى بدليل مقطوع به بمنزلة الحكم المتلو في القرآن، ودليل كونه مقطوعا به ما قال إن تصديقنا

إياه فرض علينا من الله تعالى، وكذلك أتباعه لازم بقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله) فبهذا التقرير يتبين أن بالوحي الذي هو غير متلو (يجوز أن يتبين مدة بقاء الحكم المتلو كما يجوز أن يتبين ذلك بالوحي الذي هو متلو) والنسخ ليس إلا هذا، ألا ترى أنا لو سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحكم هو ثابت بوحي متلو: قد كان هذا الحكم ثابتا إلى الآن وقد انتهى وقته فلا تعملوا به بعده، يلزمنا تصديقه في ذلك والكف عن العمل به، وتكفير من يكذبه في ذلك.
فكذلك إذا ثبت ذلك عندنا بالنقل المتواتر عنه.
فإن قيل: مع هذا في الآية إشارة إلى (أن رسول الله مبين للحكم وفي النسخ بيان حكم ورفع حكم مشروع وليس في الآية إشارة إلى) أنه رافع لحكم ثابت بوحي متلو.
قلنا: نحن نقول هو مبين ولكن في حق الحكم الاول مبين تأويلا وتبليغا وفي حق الحكم الثاني تبليغا وتأويلا.
وبيان هذا أنا قد ذكرنا أن الدليل الموجب لثبوت الحكم وهو الوحي المتلو لا يكون موجبا بقاء الحكم وبالنسخ إنما يرتفع بقاء الحكم الاول، ولم يكن ذلك ثابتا بوحي متلو حتى يكون في بيانه رفع الحكم المتلو مع أنه ليس في النسخ رفع الحكم ولكنه بيان مدة بقاء الحكم، ثم الوقت لا يبقى بعد مضي وقته كما لو كان التوقيت فيه مذكورا في النص المثبت، فعلى هذا التقرير يكون هو مبينا للوقت فيما هو منزل.
فإن قيل: فعلى هذا اختلاط البيان بالنسخ وبالاتفاق بين البيان والنسخ فرق.
قلنا: لا كذلك، فإن كلا واحد منهما في الحقيقة بيان إلا أن البيان المحض يجوز أن يكون مقترنا بأصل الكلام، كدليل الخصوص في العموم، فإنه لا يكون إلا مقارنا، وبيان المجمل فإنه يجوز أن يكون مقارنا.
فأما النسخ (بيان) لا يكون

إلا متأخرا.
وبهذه العلامة يظهر الفرق بينهما، فأما أن يكون النسخ غير
البيان فلا.
فإن قيل: الحكم الثابت بالسنة يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إنه سنته، وما يكون طريقه الوحي فهو مضاف إلى الله تعالى كالثابت بالوحي المتلو، ففي إضافته إلى رسول الله دليل على أنه ليس ببيان لما هو المنزل بطريق الوحي.
وإذا تقرر هذا فنقول: في النسخ بيان انتهاء مدة كون الحكم حسنا عند الله تعالى وذلك مما لا يمكن معرفته إلا بوحي من الله، فكيف يجوز إثبات نسخ الكتاب بالسنة ؟ قلنا: قد بينا أن ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يبينه عن وحي، والاضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لان العبارة في ذلك له، فمن هذا الوجه يقال إنه سنته.
فأما حقيقة الحكم من الله تعالى وقف عليه رسول الله بطريق الوحي ثم بينه للناس.
وبهذا يتبين أنه ما عرف انتهاء مدة الحسن في ذلك الحكم إلا بوحي من الله تعالى، وما هو إلا نظير بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة الحياة لحي قد أحياه الله تعالى، فإن أحدا لا يظن أنه بين ذلك من غير طريق الوحي، وما كانت الاضافة إليه إلا نظير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟) فإن إضافة الامناء إلى العباد لا يمنع القول بأن الشخص مخلوق خلقه الله تعالى، فكذلك إضافة السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق أنه ظهر لنا بعبارته لا يكون دليلا على أن الحكم غير ثابت بطريق الوحي من الله تعالى، وكما أن الكتاب والسنة كل واحد منهما حجة موجبة للعلم فآيات الكتاب كلها حجة موجبة للعلم.
ثم القول بجواز نسخ الكتاب بالكتاب لا يؤدي إلى القول بالتناقض في الحجة فكذلك في السنن، فإن جواز نسخ السنة بالسنة لا يؤدي إلى التناقض وتطرق الطاعنين إلى الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكذلك جواز نسخ الكتاب بالسنة لا يؤدي إلى ذلك بل يؤدي ذلك إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى قرب منزلته من حيث
إن الله تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الاصل إليه ليبينه بعبارته، وجعل لعبارته من الدرجة ما يثبت به مدة الحكم الذي هو ثابت بوحي متلو حتى

يتبين به انتساخه.
والدليل عليه أنه لا خلاف بيننا وبين الخصم على جواز نسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ تلاوة الكتاب إنما يكون بغير الكتاب، إما بأن يرفع حفظه من القلوب، أو لا يبقى أحد ممن كان يحفظه نحو صحف إبراهيم ومن تقدمه من الانبياء عليهم السلام، وهذا نسخ الكتاب بغير الكتاب، وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته سورة المؤمنين فأسقط منها آية ثم قال بعد الفراغ ألم يكن فيكم أبي فقال: نعم يا رسول الله.
فقال: هلا ذكرتنيها فقال: ظننت أنها نسخت.
فقال: لو نسخت لانبأتكم بها فقد اعتقد نسخ الكتاب بغير الكتاب ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا ثبت جواز نسخ التلاوة بغير الكتاب فكذلك جواز نسخ الحكم، لان وجوب التلاوة والعمل بحكمه كل واحد منهما حكم ثابت بالكتاب.
والدليل على جواز نسخ الحكم الثابت بالكتاب بغيره أن قوله تعالى: (لا يحل لك النساء من بعد) قد انتسخ باتفاق الصحابة، على ما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا حتى أبيح له النساء.
وناسخ هذا لا يتلى في الكتاب، فعرفنا أنهم اعتقدوا جواز نسخ الكتاب بغير الكتاب.
فأما قوله تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها) فهو يخرج على ما ذكرنا من التقرير، فإن كل واحد من الحكمين ثابت بطريق الوحي، وشارعه علام الغيوب وإن كانت العبارة في أحدهما من حيث الظاهر لرسول الله، فيستقيم إطلاق القول بأن الحكم الثاني مثل الاول أو خير منه على معنى زيادة الثواب والدرجة فيه،
أو كونه أيسر على العباد، أو أجمع لمصالحهم عاجلا وآجلا، إلا أن الوحي المتلو نظمه معجز والذي هو غير متلو نظمه ليس بمعجز، لانه عبارة مخلوق، وهو عليه السلام وإن كان أفصح العرب فكلامه ليس بمعجز، ألا ترى أنه ما تحدى الناس إلى الاتيان بمثل كلامه كما تحداهم إلى الاتيان بمثل سورة من القرآن.
ولكن حكم النسخ لا يختص بالمعجز، ألا ترى أن النسخ يثبت بما دون الآية وبآية واحدة، واتفاق العلماء على صفة الاعجاز في سورة وإن تكلموا فيما دون

السورة.
فعرفنا أن حكم النسخ لا يختص بالمعجز.
وما روي من قوله عليه السلام: فاعرضوه على كتاب الله تعالى فقد قيل هذا الحديث لا يكاد يصح، لان هذا الحديث بعينه مخالف لكتاب الله تعالى، فإن في الكتاب فرضية اتباعه مطلقا، وفي هذا الحديث فرضية اتباعه مقيدا بأن لا يكون مخالفا لما يتلى في الكتاب ظاهرا.
ثم ولئن ثبت فالمراد أخبار الآحاد لا المسموع منه بعينه أو الثابت عنه بالنقل المتواتر، وفي اللفظ ما دل عليه وهو قوله عليه السلام: إذا روي لكم عني حديث ولم يقل إذا سمعتم مني، وبه نقول إن بخبر الواحد لا يثبت نسخ الكتاب، لانه لا يثبت كونه مسموعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا ولهذا لا يثبت به علم اليقين، على أن المراد بقوله: وما خالف فردوه عند التعارض إذا جعل التاريخ بينهما حتى لا يوقف على الناسخ والمنسوخ منهما فإنه يعمل بما في كتاب الله تعالى، ولا يجوز ترك ما هو ثابت في كتاب الله نصا عند التعارض، ونحن هكذا نقول، وإنما الكلام فيما إذا عرف التاريخ بينهما.
والدليل على جواز نسخ السنة بالكتاب قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) فإن السنة شئ ومطلقها يحتمل التوقيت والتأبيد فناسخها يكون مبينا
معنى التوقيت فيها، والله تعالى بين أن القرآن تبيان لكل شئ فبه يظهر جواز نسخ السنة بالكتاب.
والدليل عليه جواز نسخ السنة بالسنة، فإن كل واحد منهما ثابت بوحي غير متلو فإذا جاز نسخ السنة بوحي غير متلو فلان يجوز نسخها بوحي متلو كان أولى.
والدليل على وجود ذلك أن النبي عليه السلام بعدما قدم المدنية كان يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وهذا الحكم ليس يتلى في القرآن وإنما يثبت بالسنة ثم انتسخ بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) .
فإن قيل: لا كذلك بل ثبوت هذا الحكم بالكتاب، فإنه كان في شريعة من قبلنا، وعندي شريعة من قبلنا تلزمنا حتى يقوم الدليل على انتساخه، وهذا حكم ثابت بالكتاب وهو قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) قلنا: عندك شريعة من قبلنا تلزمنا بطريق أنه تصير شريعة لنا بسنة رسول الله قولا أو عملا

فلا يخرج بهذا من أن يكون نسخ السنة بالكتاب، مع أن الناسخ ما كان في شريعة من قبلنا قد ثبت بفعل رسول الله حين كان بمكة فإنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم بعدما قدم المدينة لما صلى إلى بيت المقدس انتسخت السنة بالسنة، ثم لما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة انتسخت السنة بالكتاب، ولا خلاف أن ما كان في شريعة من قبلنا ثبت انتساخه في حقنا بقول أو فعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه وهذا نسخ الكتاب بالسنة.
والدليل عليه أن النبي عليه السلام صالح قريشا عام الحديبية على أن يرد عليهم من جاءه منهم مسلما ثم انتسخ بقوله: (فلا ترجعوهن إلى الكفار) الآية، وهذا نسخ السنة بالكتاب.
وكذلك حكم إباحة الخمر في الابتداء فإنه كان ثابتا بالسنة ثم انتسخ بالكتاب، وهو قوله تعالى: (فاجتنبوه) وحكم حرمة الاكل والشرب والجماع بعد النوم في زمان الصوم كان ثابتا بالسنة ثم انتسخ بقوله تعالى: (فالآن باشروهن) الآية.
ولهذا أمثلة كثيرة.
وأما نسخ الكتاب بالكتاب فنحو وجوب الصفح والاعراض عن المشركين، فإنه كان ثابتا بالكتاب وهو قوله تعالى: (فاصفح الصفح الجميل) ثم انتسخ ذلك بالكتاب بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) وحرمة فرار الواحد مما دون العشرة من المشركين حكما ثابتا بالكتاب وهو قوله: (وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا) ثم انتسخ بالكتاب وهو قوله: (الآن خفف الله عنكم) .
وأما نسخ السنة بالسنة فبيانه فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه.
وكنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي أن تمسكوها فوق ثلاثة أيام فأمسكوا وادخروا ما بدا لكم.
وكنت نهيتكم عن الشرب في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في الظروف فإن الظروف لا تحل شيئا ولا تحرمه، ولا تشربوا مسكرا ثم إنما يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة أو المشهورة على وجه لو جهل التاريخ بينهما يثبت حكم التعارض.
فأما بخبر الواحد لا يجوز النسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لان التعارض به لا يثبت بينه وبين الكتاب، فإنه لا يعلم بأنه كلام رسول الله عليه السلام لتمكن الشبهة في طريق النقل، ولهذا لا يوجب العلم، فلا يتبين به أيضا مدة بقاء الحكم الثابت بما يوجب علم اليقين.
فأما في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقد كان يجوز أن يثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد، ألا ترى أن أهل قباء تحولوا في خلال الصلاة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة بخبر الواحد ولم ينكر عليهم ذلك رسول الله.
وهذا لان في حياته كان احتمال النسخ والتوقيت قائما في كل حكم لان الوحي كان ينزل حالا فحالا، فأما بعده فلا احتمال للنسخ ابتداء.
ولا بد من أن يكون ما يثبت به النسخ مستندا إلى حال حياته بطريق لا شبهة فيه، وهو النقل المتواتر أو ما يكون في حيز التواتر على الوجه الذي قررنا
فيما سبق، والله أعلم.
فصل: في بيان وجوه النسخ وهذه وجوه أربعة: نسخ التلاوة والحكم جميعا، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ رسم التلاوة مع بقاء الحكم، والنسخ بطريق الزيادة على النص.
فأما الوجه الاول: فنحو صحف إبراهيم ومن تقدمه من الرسل عليهم السلام، فقد علمنا بما يوجب العلم حقيقة أنها قد كانت نازلة تقرأ ويعمل بها، قال تعالى: (إن هذا لفي الصحف الاولى صحف إبراهيم وموسى) وقال تعالى: (وإنه لفي زبر الاولين) ثم لم يبق شئ من ذلك في أيدينا تلاوة ولا عملا به فلا طريق لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك.
وله طريقان: إما صرف الله تعالى عنها القلوب، وإما موت من يحفظها من العلماء لا إلى خلف.
ثم هذا النوع من النسخ في القرآن كان جائزا في حياة رسول الله عليه السلام بقوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) فالاستثناء دليل على جواز ذلك.
وقال تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) وقال: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) فأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز هذا النوع من النسخ في القرآن عند المسلمين.
وقال بعض الملحدين ممن يتستر بإظهار الاسلام وهو قاصد إلى إفساده هذا جائز بعد وفاته أيضا، واستدل في ذلك بما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم..وأنس رضي الله عنه كان يقول:

قرأنا في القرآن: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.
وقال عمر رضي الله عنه: قرأنا آية الرجم في كتاب الله ووعيناها.
وقال أبي بن كعب: إن سورة الاحزاب كانت مثل سورة البقرة أو أطول منها.
والشافعي لا يظن به موافقة هؤلاء في هذا القول، ولكنه استدل بما هو قريب من هذا في عدد
الرضعات، فإنه صحح ما يروى عن عائشة رضي الله عنها: وإن مما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس رضعات معلومات، وكان ذلك مما يتلى في القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - الحديث.
والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه، فإن الله تعالى يتعالى من أن يوصف بالنسيان والغفلة، فعرفنا أن المراد الحفظ لدينا، فالغفلة والنسيان متوهم منا وبه ينعدم الحفظ إلا أن يحفظه الله عزوجل، ولانه لا يخلو شئ من أوقات بقاء الخلق في الدنيا عن أن يكون فيما بينهم ما هو ثابت بطريق الوحي فيما ابتلوا به من أداء الامانة التي حملوها، إذ العقل لا يوجب ذلك وليس به كفاية بوجه من الوجوه، وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله عليه السلام، ولو جوزنا هذا في بعض ما أوحي إليه لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه فيؤدي إلى القول بأن لا يبقى شئ مما ثبت بالوحي بين الناس في (حال) بقاء التكليف، وأي قول أقبح من هذا ! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما في أيدينا اليوم أو كله مخالف لشريعة رسول الله، بأن نسخ الله ذلك بعده وألف بين قلوب الناس على أن ألهمهم ما هو خلاف شريعته، فلصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر الله تعالى أنه هو الحافظ لما أنزله على رسوله، وبه يتبين أنه لا يجوز نسخ شئ منه بعد وفاته بطريق الاندراس وذهاب حفظه من قلوب العباد، وما ينقل من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصح شئ منها، ويحمل قول من قال في آية الرجم إنه في كتاب الله: أي في حكم الله تعالى، كما قال تعالى (كتاب الله عليكم) : (أي حكم الله عليكم) وحديث عائشة لا يكاد يصح

لانه قال في ذلك الحديث وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله
فدخل داجن البيت فأكله، ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أخرى، فعرفنا أنه لا أصل هذا الحديث.
فأما الوجهان الآخران فهما جائزان في قول الجمهور من العلماء، ومن الناس من يأبى ذلك.
قالوا لان المقصود بيان الحكم، وإنزال المتلو كان لاجله، فلا يجوز رفع الحكم مع بقاء التلاوة لخلوه عما هو المقصود، ولا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، لان الحكم لا يثبت بدون السبب ولا يبقى بدون بقاء السبب أيضا.
ومنهم من يقول يجوز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ولا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، فإنه لا شك في وجوب الاعتقاد في المتلو أنه قرآن وأنه كلام الله تعالى، كيف يصح أن يعتقد فيه خلاف هذا في شئ من الاوقات والقول بنسخ التلاوة يؤدي إلى هذا، فكان هذا نوعا من الاخبار التي لا يجوز فيها النسخ.
فأما دليلنا على وجود نسخ الحكم مع بقاء التلاوة قوله تعالى: (فأمسكوهن في البيوت) فإن الحبس في البيوت والاذى باللسان كان حد الزنا وقد انتسخ هذا الحكم مع بقاء التلاوة.
وكذلك قوله تعالى: (متاعا إلى الحول غير إخراج) فإن تقدير عدة الوفاة بحول كان منزلا وانتسخ هذا الحكم مع بقاء التلاوة.
وقوله تعالى: (فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) فإن حكم هذا قد انتسخ بقوله: (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) وبقيت التلاوة.
وحكم التخيير بين الصوم والفدية قد انتسخ بقوله (فليصمه) وبقيت التلاوة وهو قوله: (وأن تصوموا خير لكم) والدليل على جواز ذلك أنه يتعلق بصيغة التلاوة حكمان مقصودان: أحدهما جواز الصلاة، والثاني النظم المعجز، وبعد انتساخ الحكم الذي هو العمل به يبقى هذان الحكمان وهما مقصودان، ألا ترى أن بالمتشابه في القرآن إنما يثبت هذان الحكمان فقط، وإذا حسن ابتداء رسم التلاوة لهذين الحكمين فالبقاء أولى.
وقد بينا أن

الدليل الموجب لثبوت الحكم لا يكون موجبا للبقاء، وبالانتساخ إنما ينعدم بقاء الحكم، وذلك ما كان مضافا إلى ما كان موجبا ثبوت الحكم، فانتهاء الحكم لا يمنع بقاء التلاوة من هذا الوجه.
وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه فيما قال علماؤنا: إن صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة، بقراءة ابن مسعود: فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة.
ولكن لم يوجد فيه النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن، وابن مسعود لا يشك في عدالته وإتقانه، فلا وجه لذلك إلا أن نقول كان ذلك مما يتلى في القرآن كما حفظه ابن مسعود رضي الله عنه ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بصرف الله القلوب عن حفظها إلا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقيا بنقله، فإن خبر الواحد موجب للعمل به وقراءته لا تكون دون روايته، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق.
والدليل على جوازه ما بينا أن بقاء الحكم لا يكون ببقاء السبب الموجب له، فانتساخ التلاوة لا يمنع بقاء الحكم، ألا ترى أن البيع موجب للملك ثم لو قطع المشتري ملكه بالبيع من غيره أو أزاله بالاعتاق لم ينعدم ذلك البيع، لان البقاء لم يكن مضافا إليه.
ثم قد بينا أن حكم تعلق جواز الصلاة بتلاوته وحرمة قراءته على الجنب والحائض مقصود، وهو مما يجوز أن يكون موقتا ينتهي بمضي مدته فيكون نسخ التلاوة بيان مدة ذلك الحكم، كما أن نسخ الحكم بيان المدة فيه، وما توهمه بعضهم فهو غلط بين، فإن بعدما اعتقدنا في المتلو أنه قرآن وأنه كلام الله تعالى لا نعتقد فيه أنه ليس بقرآن وأنه ليس بكلام الله تعالى بحال من الاحوال، ولكن بانتساخ التلاوة ينتهي حكم تعلق جواز الصلاة به، وحرمة قراءته على الجنب والحائض لضرورة أن الله تعالى رفع عنا تلاوته وحفظه وهو نظير ما يقول، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
ما قبض نعتقد فيه أنه رسول الله وأنه خاتم الانبياء عليهم السلام على ما كان في حال حياته وإن أخرجه الله من بيننا بانتهاء مدة حياته في الدنيا.
وأيد جميع ما ذكرنا قوله تعالى: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) ثم قد بينا أنه يجوز إثبات الحكم ابتداء بوحي غير متلو فلان يجوز بقاء الحكم بعدما انتسخ حكم التلاوة من الوحي المتلو كان أولى.

وأما الوجه الرابع وهو الزيادة على النص فإنه بيان صورة ونسخ معنى عندنا سواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم، وعلى قول الشافعي هو بمنزلة تخصيص العام ولا يكون فيه معنى النسخ حتى جوز ذلك بخبر الواحد والقياس.
وبيان هذا في النفي مع الجلد، وقيد صفة الايمان في الرقبة في كفارة الظهار واليمين.
وجه قوله إن الرقبة اسم عام يتناول المؤمنة والكافرة، فإخراج الكافرة منها يكون تخصيصا لا نسخا بمنزلة إخراج بعض الاعيان من الاسم العام، ألا ترى أن بني إسرائيل استوصفوا البقرة وكان ذلك منهم طلب البيان المحض دون النسخ، وبعدما بينها الله لهم امتثلوا الامر المذكور في قوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) وهذا لان النسخ يكون برفع الحكم المشروع وفي الزيادة تقرير الحكم المشروع وإلحاق شئ آخر به بطريق المحاورة، فإن إلحاق النفي بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون مشروعا، وإلحاق صفة الايمان بالرقبة لا يخرج الرقبة من أن تكون مستحقة الاعتاق في الكفارة.
وهذا نظير حقوق العباد، فإن من ادعى على غيره ألفا وخمسائة وشهد له شاهدان بألف وآخران بألف وخمسائة حتى قضى له بالمال كله كان مقدار الالف مقضيا به بشهادتهم جميعا، وإلحاق الزيادة بالالف في شهادة الآخر يوجب تقرير الاصل في كونه مشهودا به لا رفعه.
فتبين بهذا أن الزيادة لا تتعرض لاصل الحكم المشروع فلا يكون فيها معنى النسخ بوجه من الوجوه.
ثم قد يكون بطريق التخصيص وقد لا يكون،
ولهذا لا يشترط فيها أن تكون مقرونة بالاصل كما يشترط ذلك في دليل الخصوص، وحاجتنا إلى إثبات أن ذلك ليس بنسخ وقد أثبتناه بما قررنا.
وحجتنا في ذلك أن أكثر ما ذكره الخصم دليل على أن الزيادة بيان صورة، ونحن نسلم ذلك ولكنا ندعي أنه نسخ معنى، والدليل على إثبات ذلك أن ما يجب حقا لله تعالى من عبادة أو عقوبة أو كفارة لا يحتمل الوصف بالتجزي وليس للبعض منه حكم الجملة بوجه، فإن الركعة من صلاة الفجر لا تكون فجرا والركعتين من صلاة الظهر في حق المقيم لا تكون ظهرا، وكذلك المظاهر إذا صام شهرا ثم عجز فأطعم ثلاثين مسكينا لا يكون مكفرا به بالاطعام

ولا بالصوم، ولهذا قلنا: القاذف إذا جلد تسعة وسبعين سوطا لا تسقط شهادته، لان الحد ثمانون سوطا فبعضه لا يكون حدا.
إذا تقرر هذا فنقول: الثابت بآية الزنا جلد وهو حد، فإذا التحق النفي به يخرج الجلد من أن يكون حدا لانه يكون بعض الحد حينئذ وبعض الحد ليس بحد، بمنزلة بعض العلة فإنه لا يوجب شيئا من الحكم الثابت بالعلة فكان نسخا من هذا الوجه، وكذلك في الرقبة فإن مع الاطلاق التكفير بتحرير رقبة، وبعد القيد تحرير رقبة بعض ما يتأدى به الكفارة.
فعرفنا أنه نسخ وبه فارق حقوق العباد، فإنه مما يحتمل الوصف بالتجزي فيمكن أن يجعل إلحاق الزيادة به تقريرا للمزيد عليه، حتى إن فيما لا يحتمل التجزي من حقوق العباد الحكم كذلك أيضا، فإن البيع لما كان عبارة عن الايجاب والقبول لم يكن الايجاب المحض بيعا، ونكاح أربع نسوة لما كان موجبا حرمة النكاح عليه لا يثبت شئ من ذلك بنكاح امرأة أو امرأتين لان ليس بنكاح أربع نسوة، وقد بينا في قصة بني إسرائيل أن ذلك كان بيانا صورة وكان نسخا معنى، كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: شددوا فشدد الله عليهم.
يدل عليه أن النسخ لبيان مدة بقاء
الحكم وإثبات حكم آخر، ثم الاطلاق ضد التقييد فكان من ضرورة ثبوت التقييد انعدام صفة الاطلاق، وذلك لا يكون إلا بعد انتهاء مدة حكم الاطلاق وإثبات حكم هو ضده وهو التقييد، وإذا كان إثبات حكم غير الاول على وجه يعلم أنه لم يبق معه الاول نسخا فإثبات حكم هو ضد الاول أولى أن يكون نسخا بطريق المعنى، وبه فارق التخصيص فإن التخصيص لا يوجب حكما فيما تناوله العام غير الحكم الاول، ولكن يبين أن العام لم يكن متناولا لما صار مخصوصا منه، ولهذا لا يكون التخصيص إلا مقارنا، يقرره أن التخصيص للاخراج والتقييد للاثبات، وأي مشابهة تكون بين الاخراج من الحكم وبين إثبات الحكم.
وهذا لان الاطلاق يعدم صفة التقييد والتقييد إيجاد لذلك الوصف، فبعد ما ثبت التقييد لا يتصور بقاء صفة الاطلاق، ولا يكون الحكم ثابتا لما تناوله صيغة الاطلاق، وإنما يكون ثابتا بالمقيد من اللفظ، فأما العام إذا خص منه شئ يبقى الحكم ثابتا فيما وراءه بمقتضى لفظ العموم فقط،

وإذا كان بقاء الحكم بما كان النص العام متناولا له عرفنا أن التخصيص لا يكون تعرضا لما وراء المخصوص بشئ.
وبيان هذا أن قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) وإن خص منه أهل الذمة وغيرهم فمن لا أمان له يجب قتله لانه مشرك.
وفي قوله: (فتحرير رقبة) إذا قيدنا بصفة الايمان لا تتأدى الكفارة بما يتناوله اسم الرقبة بل بما يتناوله اسم الرقبة المؤمنة.
فعرفنا أنه في معنى النسخ وليس بتخصيص، ولان التخصيص يصرف فيما كان اللفظ متناولا له باعتبار دليل الظاهر لولا دليل الخصوص، والتقييد تصرف فيما لم يكن اللفظ متناولا له أصلا لولا التقييد، فإن اسم الرقبة لا يتناول صفتها من حيث الايمان والكفر، فعرفنا أنه نسخ والنسخ في الحكم الثابت بالنص لا يكون بخبر الواحد ولا بالقياس.
وعلى هذا قلنا: لا تتعين الفاتحة للقراءة في الصلاة ركنا لانه زيادة على ما ثبت بالنص، ولا تثبت الطهارة عن الحدث شرطا في
ركن الطواف لانه زيادة على النص، ولا يثبت النفي حدا مع الجلد في زنا البكر لانه زيادة، ولا يثبت اشتراط صفة الايمان في كفارة اليمين والظهار لانه زيادة.
وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: شرب القليل من الطلاء المثلث لا يكون حراما لان المحرم السكر بالنص، وشرب القليل بعض العلة فيما يحصل به السكر فلا يكون مسكرا.
وعلى هذا قال أصحابنا: إذا وجد المحدث من الماء ما لا يكفيه لوضوئه أو الجنب ما لا يكفيه لاغتساله فإنه يتيمم ولا يستعمل ذلك الماء، لان الواجب استعمال الماء الذي هو طهور، وهذا بمنزلة بعض العلة في حكم الطهارة فلا يكون طهورا فوجوده لا يمنع التيمم.
وعلى هذا قلنا: إذا شهد أحد الشاهدين بالبيع بألف والآخر بالبيع بألف وخمسمائة لا تقبل الشهادة في إثبات العقد بألف، وإن اتفق عليه الشاهدان ظاهرا لان الذي شهد بألف وخمسمائة قد جعل الالف بعض الثمن وانعقاد البيع بجميع الثمن المسمى لا ببعضه، فمن هذا الوجه كل واحد منهما في المعنى شاهد لعقد آخر والالف المذكور في شهادة الثاني كان بحيث يثبت به العقد لولا وصل شئ آخر به بمنزلة التخيير في الطلاق والعتاق يصير شيئا آخر إذا اتصل به التعليق بالشرط فحكم الزيادة يكون بهذه الصفة أيضا.
والذي يقرر جميع ما ذكرنا أن النسخ إنما يثبت بما لو جهل التاريخ فيه كان معارضا وهذا يتحقق في الاطلاق والتقييد، فإنه لو جهل التاريخ بين النص المطلق والمقيد يثبت التعارض بينهما، فعرفنا أنه عند معرفة التاريخ بينهما يكون

التقييد في النص المطلق نسخا من حيث المعنى، ويجوز أن يرد النسخ على ما هو ناسخ كما يجوز أن يرد النسخ على ما كان مشروعا ابتداء إذ المعنى لا يوجب الفرق بينهما.
وبيان هذا فيما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حرمة مفاداة الاسير الثابت بقوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) قد انتسخ بقوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء) ثم قال السدي: هذا قد انتسخ بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم) لان سورة براءة من آخر ما نزل فكان ناسخا للحكم الذي كان قبله.
وكذلك حكم الحبس في البيوت والاذى باللسان في كونه حدا قد انتسخ بقوله عليه السلام: (خذوا عني) الحديث.
ثم هذا الحكم انتسخ بنزول قوله تعالى: (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وبرجم النبي عليه السلام ماعز بن مالك رضي الله عنه، واستقر الحكم على أن الحد الكامل في حق غير المحصن مائة جلدة وفي حق المحصن الرجم.
ومما اختلفوا في أنه نسخ أم لا حكم الميراث، فقد كان التوريث بالحلف والهجرة ثابتا في الابتداء، قال تعالى: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) وقال تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا) إلى قوله: (أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا) الآية، ثم انتسخ هذا عند بعض العلماء بنزول قوله تعالى: (وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) الآية.
ومنهم من قال: هذا ليس بنسخ ولكن هذا تقديم وارث على وارث فلا يكون نسخا، كتقديم الابن على الاخ في الميراث لا يكون نسخ التوريث بالاخوة، وتقديم الشريك على الجار في استحقاق الشفعة لا يكون نسخ حكم الشفعة بالجوار.
والاصح أن نقول: هذا نسخ بعض الاحوال دون البعض، فإن قوله تعالى: (فآتوهم نصيبهم) تنصيص على أن بالحلف يستحق النصيب من الميراث مع وجود القريب، ثم انتسخ هذا الحكم بقوله تعالى: (وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) حتى لا يستحق بالحلف شيئا مع وجود القريب أصلا.
فعرفنا أن هذا الحكم قد انتهى في هذه الحالة فكان نسخا وإن كان

الارث بهذا السبب باقيا في غير هذه الحالة، وإلى ذلك أشار ابن مسعود رضي
الله عنه في قوله: يا معشر همدان إنه ليس حي من أحياء العرب أحرى أن يموت الرجل فيهم ولا يعرف له نسب منكم فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب.
والله أعلم.
باب: الكلام في أفعال النبي عليه السلام اعلم بأن أفعاله التي تكون عن قصد تنقسم أربعة أقسام: مباح، ومستحب، وواجب، وفرض.
وهنا نوع خامس وهو الزلة، ولكنه غير داخل في هذا الباب، لانه لا يصلح للاقتداء به في ذلك، وعقد الباب لبيان حكم الاقتداء به في أفعاله، ولهذا لم يذكر في الجملة ما يحصل في حالة النوم والاغماء لان القصد لا يتحقق فيه فلا يكون داخلا فيما هو حد الخطاب.
وأما الزلة فإنه لا يوجد فيها القصد إلى عينها أيضا، ولكن يوجد القصد إلى أصل الفعل.
وبيان هذا أن الزلة أخذت من قول القائل: زل الرجل في الطين إذا لم يوجد القصد إلى الوقوع ولا إلى الثبات بعد الوقوع، ولكن وجد القصد إلى المشي في الطريق، فعرفنا بهذا أن الزلة ما تتصل بالفاعل عند فعله ما لم يكن قصده بعينه، ولكنه زل فاشتغل به عما قصد بعينه، والمعصية عند الاطلاق إنما يتناول ما يقصده المباشر بعينه وإن كان قد أطلق الشرع ذلك على الزلة مجازا.
ثم لا بد أن يقترن بالزلة بيان من جهة الفاعل أو من الله تعالى، كما قال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام عند قتل القبطي: (هذا من عمل الشيطان) الآية، وكما قال تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) الآية وإذا كان البيان يقترن به لا محالة علم أنه غير صالح للاقتداء به.
ثم اختلف الناس في أفعاله التي لا تكون عن سهو ولا من نتيجة الطبع على ما جبل عليه الانسان ما هو موجب ذلك في حق أمته.
فقال بعضهم: الواجب هو الوقف في ذلك حتى يقوم الدليل.
وقال بعضهم: بل يجب اتباعه
والاقتداء به في جميع ذلك إلا ما يقوم عليه دليل.
وكان أبو الحسن الكرخي

رحمه الله يقول: إن علم صفة فعله أنه فعله واجبا أو ندبا أو مباحا فإنه يتبع فيه بتلك الصفة، وإن لم يعلم فإنه يثبت فيه صفة الاباحة، ثم لا يكون الاتباع فيه ثابتا إلا بقيام الدليل.
وكان الجصاص رحمه الله يقول بقول الكرخي رحمه الله إلا أنه يقول: إذا لم يعلم فالاتباع له في ذلك ثابت حتى يقوم الدليل على كونه مخصوصا.
وهذا هو الصحيح.
فأما الواقفون احتجوا فقالوا: لما أشكل صفة فعله فقد تعذر اتباعه في ذلك على وجه الموافقة، لان ذلك لا يكون بالموافقة في أصل الفعل دون الصفة، فإنه إذا كان هو فعل فعلا نفلا ونحن نفعله فرضا يكون ذلك منازعة لا موافقة، واعتبر هذا بفعل السحرة مع ما رأوه من الكليم ظاهرا فإنه كان منازعة منهم في الابتداء، لان فعلهم لم يكن بصفة فعله، فعرفنا أن الوصف إذا كان مشكلا لا تتحقق الموافقة في الفعل لا محالة، ولا وجه للمخالفة فيجب الوقف فيه حتى يقوم الدليل.
وهذا الكلام عند التأمل باطل، فإن هذا القائل إن كان يمنع الامة من أن يفعلوا مثل فعله بهذا الطريق ويلومهم على ذلك فقد أثبت صفة الحظر في الاتباع، وإن كان لا يمنعهم من ذلك ولا يلومهم عليه فقد أثبت صفة الاباحة، فعرفنا أن القول بالوقف لا يتحقق في هذا الفصل.
وأما الفريق الثاني فقد استدلوا بالنصوص الموجبة للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، نحو قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) ، وقوله تعالى: (فاتبعوني يحببكم الله) وقوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي
الامي) إلى قوله: (واتبعوه لعلكم تهتدون) وقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) : أي عن سمته وطريقته.
وقال تعالى: (وما أمر فرعون برشيد) ففي هذه النصوص دليل على وجوب الاتباع علينا إلى أن يقوم الدليل يمنع من ذلك.
فأما الدليل لنا في هذا الفصل أن نقول: صح في الحديث أن النبي عليه

السلام خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم، فلما فرغ قال: ما لكم خلعتم نعالكم الحديث.
فلو كان مطلق فعله موجبا للمتابعة لم يكن لقوله: ما لكم خلعتم نعالكم معنى.
وخرج للتراويح ليلة أو ليلتين فلما قيل له في ذلك قال: خشيت أن تكتب عليكم ولو كتبت عليكم ما قمتم بها فو كان مطلق فعله يلزمنا الاتباع له في ذلك لم يكن لقوله: خشيت أن تكتب عليكم معنى.
ثم قد بينا أن الموافقة حقيقتها في أصل الفعل وصفته فعند الاطلاق إنما يثبت القدر المتيقن به وهو صفة الاباحة، فإنه يترتب عليه التمكن من إيجاد الفعل شرعا، فيثبت القدر المتيقن به (وهو صفة الاباحة) من الوصف، ويتوقف ما وراء ذلك على قيام الدليل، بمنزلة رجل يقول لغيره: وكلتك بمالي فإنه يملك الحفظ، لانه متيقن لكونه مراد الموكل، ولا يثبت ما سوى ذلك من التصرفات حتى يقوم الدليل، يقرر ما ذكرنا أن الفعل قسمان: أخذ، وترك.
ثم أحد قسمي أفعاله وهو الترك لا يوجب الاتباع علينا إلا بدليل فكذلك القسم الآخر.
وبيان هذا أنه حين كان الخمر مباحا قد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شربها أصلا، ثم ذلك لا يوجب علينا ترك الشرب فيما هو مباح، يوضحه أن مطلق فعله لو كان موجبا للاتباع لكان ذلك عاما في جميع أفعاله ولا وجه للقول بذلك، لان ذلك يوجب على كل أحد أن
لا يفارقه آناء الليل والنهار ليقف على جميع أفعاله فيقتدي به، لانه لا يخرج عن الواجب إلا بذلك، ومعلوم أن هذا مما لا يتحقق ولا يقول به أحد.
فعرفنا أن مطلق الفعل لا يلزمنا اتباعه في ذلك.
فأما الآيات ففي قوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) دليل على أن التأسي به في أفعاله ليس بواجب، لانه لو كان واجبا لكان من حق الكلام أن يقول عليكم، ففي قوله (لكم) دليل على أن ذلك مباح لنا لا أن يكون لازما علينا.
والمراد بالامر بالاتباع التصديق والاقرار بما جاء به، فإن الخطاب بذلك لاهل الكتاب وذلك بين في سياق الآية، والمراد بالامر ما يفهم من مطلق لفظ الامر عند

الاطلاق، وقد تقدم بيان هذا في أول الكتاب.
ثم قال الكرخي: قد ظهر خصوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشياء لاختصاصه بما لا شركة لاحد من أمته معه في ذلك، فكل فعل يكون منه فهو محتمل للوصف لجواز أن يكون هذا مما اختص هو به ويجوز أن يكون مما هو غير مخصوص به، وعند احتمال الجانبين على السواء يجب الوقف حتى يقوم الدليل لتحقق المعارضة.
ولكن الصحيح ما ذهب إليه الجصاص، لان في قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) تنصيص على جواز التأسي به في أفعاله، فيكون هذا النص معمولا به حتى يقوم الدليل المانع وهو ما يوجب تخصيصه بذلك، وقد دل عليه قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم) وفي هذا بيان أن ثبوت الحل في حقه مطلقا دليل ثبوته في حق الامة، ألا ترى أنه نص على تخصيصه فيما كان هو مخصوصا به بقوله تعالى: (خالصة لك من دون المؤمنين) وهو النكاح بغير مهر، فلو لم يكن مطلق فعله دليلا للامة في الاقدام على مثله لم يكن لقوله: (خالصة
لك) فائدة، فإن الخصوصية تكون ثابتة بدون هذه الكلمة، والدليل عليه أنه عليه السلام لما قال لعبد الله بن رواحة حين صلى على الارض في يوم قد مطروا في السفر: ألم يكن لك في أسوة ؟ فقال: أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها.
فقال: إني مع هذا أرجو أن أكون أخشاكم لله ولما سألت امرأة أم سلمة عن القبلة للصائم فقالت: إن رسول الله عليه السلام يقبل وهو صائم.
فقالت لسنا كرسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم سألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤالها فقال: هلا أخبرتها أني أقبل وأنا صائم ؟ فقالت: قد أخبرتها بذلك فقالت كذا.
فقال: إني أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم بحدوده ففي هذا بيان أن اتباعه فيما يثبت من أفعاله أصل حتى يقوم الدليل على كونه مخصوصا بفعله، وهذا لان الرسل أئمة يقتدى بهم، كما قال تعالى: (إني

جاعلك للناس إماما) فالاصل في كل فعل يكون منهم جواز الاقتداء بهم، إلا ما يثبت فيه دليل الخصوصية باعتبار أحوالهم وعلو منازلهم، وإذا كان الاصل هذا ففي كل فعل يكون مبهم بصفة الخصوص يجب بيان الخصوصية مقارنا به، إذ الحاجة إلى ذلك ماسة عند كل فعل يكون (منهم) حكمه بخلاف هذا الاصل والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة دليل النفي، فترك بيان الخصوصية يكون دليلا على أنه من جملة الافعال التي هو فيها قدوة أمته.
فصل: في بيان طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إظهار أحكام الشرع قد بينا أنه كان يعتمد الوحي فيما بينه من أحكام الشرع.
والوحي نوعان: ظاهر، وباطن.
فالظاهر منه قسمان: (أحدهما) ما يكون على لسان الملك
بما يقع في سمعه بعد علمه بالمبلغ بأنه قاطعة، وهو المراد بقوله تعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) وبقوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم) الآية، والآخر ما يتضح له بإشارة الملك من غير بيان بكلام، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب والوحي الباطن هو: تأييد القلب على وجه لا يبقى فيه شبهة ولا معارض ولا مزاحم، وذلك بأن يظهر له الحق بنور في قلبه من ربه يتضح له حكم الحادثة به، وإليه أشار الله تعالى بقوله: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) وهذا كله مقرونا بالابتلاء، ومعنى الابتلاء هو: التأمل بقلبه في حقيقته حتى يظهر له ما هو المقصود، وكل ذلك خاص لرسول الله تثبت به الحجة القاطعة، ولا شركة للامة في ذلك إلا أن يكرم الله به من شاء من أمته لحقه وذلك الكرامة للاولياء.
وأما ما يشبه الوحي في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو استنباط الاحكام من النصوص بالرأي

والاجتهاد فإنما يكون من رسول الله بهذا الطريق، فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنه يكون ثوابا لا محالة، فإنه كان لا يقر على الخطأ فكان ذلك منه حجة قاطعة، ومثل هذا من الامة لا يجعل بمنزلة الوحي، لان المجتهد يخطئ ويصيب، فقد علم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من صفة الكمال ما لا يحيط به إلا الله، فلا شك أن غيره لا يساويه في إعمال الرأي والاجتهاد في الاحكام.
وهذا يبتنى على اختلاف العلماء في أنه عليه السلام هل كان يجتهد في الاحكام ويعمل بالرأي فيما لا نص فيه ؟ فأبى ذلك بعض العلماء وقال: هذا الطريق حظ الامة، فأما حظ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العمل بالوحي من الوجوه التي ذكرنا.
وقال بعضهم: قد كان يعمل بطريق الوحي تارة وبالرأي تارة، وبكل واحد من الطريقين
كان يبين الاحكام.
وأصح الاقاويل عندنا أنه عليه السلام فيما كان يبتلى به من الحوادث التي ليس فيها وحي منزل كان ينتظر الوحي إلى أن تمضي مدة الانتظار، ثم كان يعمل بالرأي والاجتهاد ويبين الحكم به فإذا أقر عليه كان ذلك حجة قاطعة للحكم.
فأما الفريق الاول فاحتجوا بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) ولانه لا خلاف أنه كان لا يجوز لاحد مخالفة رسول الله عليه السلام فيما بينه من أحكام الشرع، والرأي قد يقع فيه الغلط في حقه وفي حق غيره، فلو كان يبين الحكم بالرأي لكان يجوز مخالفته في ذلك كما في أمر الحرب، فقد ظهر أنهم خالفوه في ذلك غير مرة واستصوبهم في ذلك، ألا ترى أنه لما أراد النزول يوم بدر دون الماء قال له الخباب بن المنذر رضي الله عنه: إن كان عن وحي فسمعا وطاعة، وإن كان عن رأي فإني أرى الصواب أن ننزل على الماء ونتخذ الحياض، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه ونزل على الماء.
ولما أراد يوم الاحزاب أن يعطي المشركين شطر ثمار المدينة لينصرفوا قام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما وقالا: إن كان هذا عن وحي فسمعا وطاعة، وإن كان عن رأي فلا نعطيهم إلا السيف، قد كنا نحن وهم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لهم دين فكانوا لا يطمعون

في ثمار المدينة إلا بشري أو بقري فإذا أعزنا الله تعالى بالدين نعطيهم الدنية لا نعطيهم إلا السيف.
وقال عليه السلام: إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أصرفهم عنكم فإذا أبيتم أنتم وذاك ثم قال للذين جاءوا للصلح: اذهبوا فلا نعطيكم إلا السيف ولما قدم المدينة استقبح ما كانوا يصنعونه من تلقيح النخيل فنهاهم عن ذلك فأحشفت وقال: عهدي بثماركم بخلاف هذا فقالوا:
نهيتنا عن التلقيح وإنما كانت جودة الثمر من ذلك.
قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم وأنا أعلم بأمر دينكم فتبين أن الرأي منه كالرأي من غيره في احتمال الغلط، وبالاتفاق لا تجوز مخالفته فيما ينص عليه من أحكام الشرع، فعرفنا أن طريق وقوفه على ذلك ما ليس فيه توهم الغلط أصلا وذلك الوحي، ثم الرأي الذي فيه توهم الغلط إنما يجوز المصير إليه عند الضرورة وهذه الضرورة تثبت في حق الامة لا في حقه، فقد كان الوحي يأتيه في كل وقت، وما هذا إلا نظير التحري في أمر القبلة فإنه لا يجوز المصير إليه لمن كان بمكة معاينا للكعبة، ويجوز المصير إليه لمن كان نائيا عن الكعبة، لان من كان معاينا فالضرورة المحوجة إلى التحري لا تتحقق في حقه لوجود الطريق الذي لا يتمكن فيه تهمة الغلط وهو المعاينة، وكذلك حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل بالرأي في الاحكام، ولانه عليه السلام كان ينصب أحكام الشرع ابتداء والرأي لا يصلح لنصب الحكم به ابتداء وإنما هو لتعدية حكم النص إلى نظيره مما لا نص فيه كما في حق الامة، لانه لا يجوز لاحد استعمال الرأي في نصب حكم ابتداء، فعرفنا أنه إنما كان ينصب الحكم ابتداء بطريق الوحي دون الرأي، وهذا لان الحق في أحكام الشرع لله تعالى فإنما يثبت حق الله تعالى بما يكون موجبا للعلم قطعا والرأي لا يوجب ذلك، وبه فارق أمر الحرب والشورى في المعاملات، لان ذلك من حقوق العباد، فالمطلوب به الدفع عنهم أو الجر إليهم فيما تقوم به مصالحهم، واستعمال الرأي جائز في مثله لحاجة العباد إلى ذلك، فإنه ليس في وسعهم فوق ذلك، والله تعالى يتعالى عما يوصف به العباد من العجز أو الحاجة، فما هو حق الله تعالى لا يثبت ابتداء إلا بما يكون موجبا علم اليقين.

والحجة للقول الثاني قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الابصار) ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولي الناس بهذا الوصف الذي ذكره عند الامر بالاعتبار، فعرفنا
أنه داخل في هذا الخطاب، قال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وقد دخل في جملة المستنبطين من تقدم ذكره، فعرفنا أن الرسول من جملة الذين أخبر الله أنهم يعلمون بالاستنباط، وقال تعالى: (ففهمناها سليمان) والمراد أنه وقف على الحكم بطريق الرأي لا بطريق الوحي، لان ما كان بطريق الوحي فداود وسليمان عليهما السلام فيه سواء، وحيث خص سليمان عليه السلام بالفهم عرفنا أن المراد به بطريق الرأي، وقد حكم داود بين الخصمين حين تسوروا المحراب بالرأي، فإنه قال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) وهذا بيان بالقياس الظاهر.
وقال النبي عليه السلام للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيت أكان يقبل منك ؟ وهذا بيان بطريق القياس.
وقال لعمر رضي الله عنه حين سأله عن القبلة للصائم: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك ؟ وقال في حرمة الصدقة على بني هاشم: أرأيت لو تمضمضت بالماء أكنت شاربه ؟ وهذا بيان بطريق القياس في حرمة الاوساخ واستعمال المستعمل.
وقال: إن الرجل ليؤجر في كل شئ حتى في مباضعة أهله فقيل له: يقضي أحدنا شهوته ثم يؤجر على ذلك ؟ قال: أرأيتم لو وضع ذلك فيما لا يحل هل كان يأثم به ؟ قالوا: نعم.
قال: فكذلك يؤجر إذا وضعه فيما يحل وهذا بيان بطريق الرأي والاجتهاد.
والدليل عليه أنه كان مأمورا بالمشاورة مع أصحابه، قال تعالى: (وشاورهم في الامر) وقد صح أنه كان يشاورهم في أمر الحرب وغير ذلك حتى روي أنه شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في مفاداة الاسارى يوم بدر فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك حتى نزل قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ومفاداة الاسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع ومما هو حق الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه، فعرفنا أنه كان يشاورهم في الاحكام
كما في الحروب، وقد شاورهم فيما يكون جامعا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة، ثم لما جاء عبد الله بن زيد رضي الله عنه وذكر ما رأى في المنام من أمر الاذان

فأخذ به وقال: (ألقها على بلال) ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي، ألا ترى أنه لما أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال الله أكبر هذا أثبت، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الاذان مما هو (من) حق الله ثم قد جوز العمل فيه بالرأي، فعرفنا أن ذلك جائز، ولا معنى لقول من يقول إنه إنما كان يستشيرهم في الاحكام لتطييب نفوسهم، وهذا لان فيما كان الوحي فيه ظاهرا معلوما ما كان يستشيرهم، وفيما كان يستشيرهم الحال لا يخلو إما أن كان يعمل برأيهم أو لا يعمل، فإن كان لا يعمل برأيهم وكان ذلك معلوما لهم فليس في هذه الاستشارة تطييب النفس ولكنها من نوع الاستهزاء وظن ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم محال، وإن كان يستشيرهم ليعمل برأيهم فلا شك أن رأيه يكون أقوى من رأيهم، وإذا جاز له العمل برأيهم فيما لا نص فيه فجواز ذلك برأيه أولى.
ويتبين بهذا أنه إنما كان يستشيرهم لتقريب الوجوه وتحميس الرأي، على ما كان يقول: المشورة تلقيح العقول وقال: من الحزم أن تستشير ذا رأي ثم تطيعه ثم الاستنباط بالرأي إنما يبتنى على العلم بمعاني النصوص، ولا شك أن درجته في ذلك أعلى من درجة غيره، وقد كان يعلم بالمتشابه الذي لا يقف أحد من الامة بعده على معناه، فعرفنا بهذا أن له من هذه الدرجة أعلى النهاية، وبعد العلم بالطريق الذي يوقف به على الحكم المنع من استعمال ذلك نوع من الحجر، وتجويز استعمال ذلك نوع إطلاق وإنما يليق بعلو درجته الاطلاق دون الحجر.
وكذلك ما يعلم بطريق الوحي فهو محصور متناه، وما يعلم بالاستنباط من معاني الوحي غير متناه.
وقيل أفضل
درجات العلم للعباد طريق الاستنباط، ألا ترى أن من يكون مستنبطا من الامة فهو على درجة ممن يكون حافظا غير مستنبط، فالقول بما يوجب سد باب ما هو أعلى الدرجات في العلم عليه شبه المحال، ولولا طعن المتعنتين لكان الاولى بنا الكف عن الاشتغال بإظهار هذا بالحجة، فقد كان درجته في العلم ما لا

يحيط به إلا الله، وتمام معنى التعظيم في حق من هو دونه أن لا يشتغل بمثل هذا التقسيم في حقه، وإنما ذكرنا ذلك لدفع طعن المتعنتين.
ثم ما بينه بالرأي إذا أقر عليه كان صوابا لا محالة فيثبت به علم اليقين، بخلاف ما يكون من غيره من البيان بالرأي، وهو نظير الالهام على ما أشرنا إليه في بيان الوحي الباطن، وأنه حجة قاطعة في حقه وإن كان الالهام في حق غيره لا يكون بهذه الصفة على ما نبينه في بابه.
والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة رضي الله عنها لما جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: ما أراك إلا قد حرمت عليه فقالت: إني أشتكي إلى الله فأنزل الله تعالى قوله: (قد سمع الله قول التي تجادلك) الآية، فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لانا أمرنا باتباعه، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الامة، فالمجتهد قد يخطئ ويقر على ذلك، فلهذا لم يكن الرأي في حق غيره موجبا علم اليقين ولا صالحا لنصب الحكم به ابتداء، بل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص عليه.
والدليل عليه أنه قد ثبت بالنص عمله بالرأي فيما لم يقر عليه، وربما عوتب على ذلك وربما لم يعاتب.
فمما عوتب عليه ما وقعت الاشارة إليه في قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) وفي قوله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الاعمى) ومما لم يعاتب عليه ما يروى أنه
لما دخل بيته ووضع السلاح حين فرغ من حرب الاحزاب أتاه جبريل عليه السلام وقال: وضعت السلاح ولم تضعه الملائكة.
وأمره بأن يذهب إلى بني قريظة.
ومن ذلك أنه أمر أبا بكر رضي الله عنه بتبليغ سورة براءة إلى المشركين في العام الذي أمره فيه أن يحج بالناس، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: لا يبلغها إليهم إلا رجل منك.
فبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أثره ليكون هو المبلغ للسورة إليهم، والقصة في ذلك معروفة، فبهذا يتبين أنه كان يعمل برأيه، وكان لا يقر إلا على ما هو الصواب، ولهذا كان لا تجوز مخالفته في ذلك لانه حين أقر عليه فقد حصل التيقن بكون الصواب فيه، فلا يسع لاحد أن يخالفه في ذلك.
فأما قوله: (وما ينطق عن الهوى) فقد قيل: هذا فيما يتلو عليه من

القرآن، بدليل أول السورة قوله تعالى: (والنجم إذا هوى) : أي والقرآن إذا أنزل.
وقيل المراد بالهوى: هوى النفس الامارة بالسوء، وأحد لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع هوى النفس أو القول به، ولكن طريق الاستنباط والرأي غير هوى النفس.
وهذا أيضا تأويل قوله تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) ثم في قوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) ما يوضح جميع ما قلنا، لان اتباع الوحي إنما يتم في العمل بما فيه الوحي بعينه، واستنباط المعنى فيه لاثبات الحكم في نظيره وذلك بالرأي يكون.
ثم قد بينا أنه ما كان يقر إلا على الصواب فإذا أقر على ذلك كان ذلك وحيا في المعنى وهو يشبه الوحي في الابتداء على ما بينا، إلا أنا شرطنا في ذلك أن ينقطع طمعه عن الوحي، وهو نظير ما يشترط في حق الامة للعمل بالرأي العرض على الكتاب والسنة، فإذا لم يوجد في ذلك فحينئذ يصار إلى اجتهاد الرأي.
ونظيره من الاحكام من كان في السفر ولا ماء معه وهو يرجو وجود الماء فعليه أن يطلب
الماء ولا يعجل بالتيمم، وإن كان لا يرجو وجود الماء فحينئذ يتيمم ولا يشتغل بالطلب، فحال غير رسول الله ممن يبتلى بحادثة كحال من لا يرجو وجود الماء، لانه لا طمع له في الوحي فلا يؤخر العمل بالرأي والاجتهاد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الوحي في كل ساعة عادة فكان حاله فيما يبتلى به من الحوادث كحال من يرجو وجود الماء، فلهذا كان ينتظر ولا يعجل بالعمل بالرأي، وكان هذا الانتظار في حقه بمنزلة التأمل في النص المؤول أو الخفي في حق غيره، ومدة الانتظار في ذلك أن ينقطع طمعه عن نزول الوحي فيه، بأن كان يخاف الفوت فحينئذ يعمل فيه بالرأي ويبينه للناس، فإذا أقر على ذلك كانت حجة قاطعة بمنزلة الثابت بالوحي.

فصل قال علماؤنا رحمهم الله: فعل النبي عليه السلام وقوله متى ورده وافقا لما هو في القرآن يجعل صادرا عن القرآن وبيانا لما فيه.
وأصحاب الشافعي يقولون: يجعل ذلك بيان حكم مبتدأ حتى يقوم الدليل على خلافه.
وعلى هذا قلنا: بيان النبي عليه السلام للتيمم في حق الجنب صادر عما في القرآن، وبه يتبين أن المراد من قوله تعالى: (أو لامستم النساء) الجماع دون المس باليد، وهم يجعلون ذلك بيان حكم مبتدأ ويحملون قوله (أو لامستم النساء) على المس باليد، قالوا: لانه يحتمل أن يكون ذلك صادرا عما في القرآن، ويحتمل أن يكون شرع الحكم ابتداء وهو في الظاهر غير متصل بالآية فيحمل على أنه بيان حكم مبتدأ باعتبار الظاهر، ولان في حمله على هذا زيادة فائدة، وفي حمله على ما قلتم تأكيد ما صار معلوما بالآية ببيانه فحمله على ما يفيد فائدة جديدة كان أولى.
وحجتنا فيه قوله تعالى: (إن هو إلا وحي يوحى) ففي هذا تنصيص على أن قوله وفعله في حكم الشرع يكون عن وحي، فإذا كان ذلك ظاهرا
معلوما في الوحي المتلو عرفنا أنه صادر عن ذلك، إذ لو لم نجعله صادرا عن ذلك احتجنا إلى إثبات وحي غير متلو فيه وإثبات الوحي من غير الحاجة ومع الشك لا يجوز.
وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) : أي ردوه إلى كتاب الله وقال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) فإذا ظهر منه حكم في حادثة وذلك الحكم موجود فيما أنزل الله عرفنا أنه حكم فيه بما أنزل الله لانه ما كان يخالف ما أمر به، ولان الصحابة رضي الله عنهم فهموا ذلك من أفعاله، فإنهم حملوا قطعه يد السارق على الوجوب وأداءه الصلاة في مواقيتها على الوجوب، وقد بينا أن مطلق فعله لا يدل على ذلك، فلولا أنهم علموا أن فعله ذلك صادر عن الآيات الدالة على الوجوب نحو قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات) وقوله تعالى: (فاقطعوا أيديهما) لاستفسروه وطلبوا منه بيان صفة فعله، وحيث لم يشتغلوا بذلك عرفنا أنهم علموا أن فعله ذلك منه صادر عن الآية، فأما دعواهم الاحتمال

ساقط، فإن الظاهر أن ذلك منه صادر عن القرآن، لانه مأمور باتباع ما في القرآن كغيره.
وقال تعالى: (واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) فسقط اعتبار الاحتمال مع هذا الظاهر.
وقولهم: فيه زيادة فائدة، ساقط فإن إثبات هذه الزيادة لا يمكن إلا بعد إثبات وحي بالشك ومن غير حاجة إليه، وقد بينا أن ذلك لا يجوز.
فصل قال علماؤنا رحمهم الله: فعل النبي عليه السلام متى كان على وجه البيان لما في القرآن وحصل ذلك منه في مكان أو زمان فالبيان يكون واقعا بفعله وبما هو من صفاته عند الفعل، فأما المكان والزمان لا يكون شرطا فيه.
وأصحاب الشافعي يقولون: البيان منه بالمداومة على فعل مندوب إليه في مكان أو على
فعل واجب في مكان أو زمان يدل على أن ذلك المكان والزمان شرط فيه.
وعلى هذا قلنا: إحرام النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في أشهر الحج لا يكون بيانا في أن الاحرام تختص صحته بالوجود في أشهر الحج حتى يجوز الاحرام بالحج قبل أشهر الحج.
وكذلك فعله ركعتي الطواف في مقام إبراهيم لا يكون بيانا أن ركعتي الطواف تختص بالاداء في ذلك المكان.
وعلى قول الشافعي رحمه الله ينتصب الزمان شرطا ببيانه والمكان في أحد الوجهين أيضا، قال: لان مداومته على ذلك في مكان بعينه أو زمان بعينه لو لم يحمل على وجه البيان لم يبق له فائدة أخرى، وقد علمنا أنه ما داوم على ذلك إلا لفائدة، ثم قاس هذا بمداومته على فعل الصلوات المفروضة في الاوقات المخصوصة والامكنة الطاهرة، فإن ذلك بيان منه لوجوب مراعاة ذلك الزمان والمكان في أداء الفرائض، فكذلك في سائر أفعاله.
ولكنا نقول: البيان إنما يحصل بفعله والمكان والزمان ليس من فعله في شئ، فما كان المكان والزمان إلا بمنزلة فعل غيره، وغيره وإن ساعده على ذلك الفعل فإن البيان يكون حاصلا بفعله لا بفعل غيره،

فكذلك المكان الذي يوجد فيه الفعل أو الزمان الذي يوجد فيه الفعل لا يكون له حظ في حصول البيان به، بل بجعل البيان حاصلا بفعله فقط إلا أن يكون هناك أمر مجمل في حق الزمان محتاجا إلى البيان أو في حق المكان، كما في باب الصلاة فإنا نعلم فرضيتها في بعض الاوقات (المخصوصة) واختصاص جواز أدائها ببعض الامكنة بالنص فيكون فعله في الاوقات المخصوصة والامكنة الطاهرة بيانا للمجمل في ذلك كله، فأما فعله في باب الحج بيان لقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) وذلك حاصل بالفعل لا بالوقت، لانه ليس فيه أمر مجمل لاختصاص عقد الاحرام بالحج ببعض الاوقات دون البعض، وما كان
ذلك إلا نظير مباشرة الطهارة بالماء في الوقت، فإن ذلك كان بيانا منه لاصل الطهارة المأمور بها في الكتاب، ولم يكن بيانا في التخصيص في الوقت حتى تجوز الطهارة بالماء قبل دخول الوقت بلا خلاف.
فصل: في بيان شرائع من قبلنا اختلف العلماء في هذا الفصل على أقاويل.
فمنهم من قال: ما كان شريعة لنبي فهو باق أبدا حتى يقوم دليل النسخ فيه وكل من يأتي فعليه أن يعمل به على أنه شريعة ذلك النبي عليه السلام ما لم يظهر ناسخه.
وقال بعضهم: شريعة كل نبي تنتهي ببعث نبي آخر بعده حتى لا يعمل به إلا أن يقوم الدليل على بقائه وذلك ببيان من النبي المبعوث بعده.
وقال بعضهم: شرائع من قبلنا يلزمنا العمل به على أن ذلك شريعة لنبينا عليه السلام فيما لم يظهر دليل النسخ فيه، ولا يفصلون بين ما يصير معلوما من شرائع من قبلنا بنقل أهل الكتاب أو برواية المسلمين عما في أيديهم من الكتاب وبين ما ثبت من ذلك ببيان في القرآن أو السنة.
وأصح الاقاويل عندنا أن ما ثبت بكتاب الله أنه كان شريعة من قبلنا أو ببيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن علينا العمل به على أنه شريعة لنبينا عليه السلام ما لم يظهر ناسخه، فأما ما علم بنقل أهل الكتاب أو بفهم المسلمين

من كتبهم فإنه لا يجب اتباعه لقيام دليل موجب للعلم على أنهم حرفوا الكتب، فلا يعتبر نقلهم في ذلك لتوهم أن المنقول من جملة ما حرفوا، ولا يعتبر فهم المسلمين ذلك مما في أيديهم من الكتب لجواز أن يكون ذلك من جملة ما غيروا وبدلوا.
والدليل على أن المذهب هذا أن محمدا قد استدل في كتاب الشرب على جواز القسمة بطريق المهايأة في الشرب بقوله تعالى: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم) وبقوله تعالى: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) وإنما
أخبر الله تعالى ذلك عن صالح عليه السلام، ومعلوم أنه ما استدل به إلا بعد اعتقاده بقاء ذلك الحكم شريعة لنبينا عليه السلام.
واستدل أبو يوسف على جريان القصاص بين الذكر والانثى بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وبه كان يستدل الكرخي على جريان القصاص بين الحر والعبد والمسلم والذمي، والشافعي في هذا لا يخالفنا، وقد استدل برجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين بحكم التوراة، كما نص عليه بقوله أنا أحق من أحيا سنة أماتوها على وجوب الرجم على أهل الكتاب وعلى أن ذلك صار شريعة لنبينا.
ونحن لا ننكر ذلك أيضا ولكنا ندعي انتساخ ذلك بطريق زيادة شرط الاحصان لايجاب الرجم في شريعتنا، ولمثل هذه الزيادة حكم النسخ عندنا.
وبين المتكلمين اختلاف في أن النبي عليه السلام قبل نزول الوحي (عليه) هل كان متعبدا بشريعة من قبله ؟ فمنهم من أبى ذلك، ومنهم من توقف فيه، ومنهم من قال كان متعبدا بذلك، ولكن موضع بيان هذا الفصل أصول التوحيد، فإنا نذكر ههنا ما يتصل بأصول الفقه.
فأما الفريق الاول قالوا: صفة الاطلاق في الشئ يقتضي التأبيد فيه إذا كان محتملا للتأبيد، فالتوقيت يكون زيادة فيه لا يجوز إثباته إلا بالدليل، ثم الرسول الذي كان الحكم شريعة له لم يخرج من أن يكون رسولا برسول آخر بعث بعده، فكذلك شريعته لا تخرج من أن تكون معمولا بها وإن بعث بعده رسول آخر ما لم يقم دليل النسخ فيه، ألا ترى أن علينا الاقرار بالرسل كلهم، وإلى ذلك وقعت الاشارة في قوله تعالى: (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته

وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) فكذلك ما ثبت شريعة لرسول فما لم يظهر ناسخه فهو بمنزلة ما ليس فيه احتمال النسخ في كونه باقيا معمولا به، يوضحه أن ما ثبت شريعة لرسول فقد ثبتت الحقية فيه وكونه مرضيا عند
الله، وبعث الرسل لبيان ما هو مرضي عند الله فما علم كونه مرضيا قبل بعث رسول آخر لا يخرج من أن يكون مرضيا ببعث رسول آخر، وإذا بقي مرضيا كان معمولا به كما كان قبل بعث الرسول الثاني، وبهذا تبين الفرق أن الاصل هو الموافقة في شرائع الرسل إلا أذا تبين تغيير حكم بدليل النسخ.
فأما الفريق الثاني فقد استدلوا بقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وبقوله: (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) فتخصيص بني إسرائيل يكون التوراة هدى لهم يكون دليلا على أنه لا يلزمنا العمل بما فيه إلا أن يقوم دليل يوجب العمل به في شريعتنا، ولان بعث الرسل لبيان ما بالناس حاجة إلى بيانه، وإذا لم تجعل شريعة رسول منتهية ببعث رسول آخر لم يكن بالناس حاجة إلى البيان عند بعث الثاني، لان ذلك مبين عندهم بالطريق الموجب للعلم، فمن هذا الوجه يتبين أن بعث رسول آخر دليل النسخ لشريعة كانت قبله، ولهذا جعلنا هذا كالنسخ فيما يحتمل النسخ دون ما لا يحتمل النسخ أصلا كالتوحيد وأصل الدين، ألا ترى أن الرسل عليهم السلام ما اختلفوا في شئ من ذلك أصلا ولا وصفا ولا يجوز أن يكون بينهم فيه خلاف، ولهذا انقطع القول ببقاء شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة لعلمنا بدليل مقطوع به أنه لا نبي بعده حتى يكون ناسخا لشريعته، يوضحه أن الانبياء عليهم السلام قبل نبينا أكثرهم إنما بعثوا إلى قوم مخصوصين ورسولنا هو المبعوث إلى الناس كافة على ما قال عليه السلام: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الاحمر والاسود، وقد كان النبي قبلي يبعث إلى قومه الحديث، فإذا ثبت أنه قد كان في المرسلين من يكون وجوب العمل بشريعته على أهل مكان دون أهل مكان آخر وإن كان ذلك مرضيا عند الله تعالى علمنا أنه يجوز أن يكون وجوب العمل به على أهل زمان دون أهل زمان آخر

وإن كان (ذلك) منتهيا ببعث نبي آخر وقد كان يجوز اجتماع نبيين في ذلك الوقت في مكانين على أن يدعو كل واحد منهما إلى شريعته، فعرفنا أنه يجوز مثل ذلك في زمانين وأن المبعوث آخرا يدعو إلى العمل بشريعته ويأمر الناس باتباعه ولا يدعو إلى العمل بشريعة من قبله، فتعين الكلام في نبينا فإنه كان يدعو الناس إلى اتباعه كما قال تعالى: (فاتبعوني يحببكم الله) وإنما يأمر بالعمل بشريعته فلو بقيت شرائع من قبلنا معمولا بها بعد مبعثه لدعا الناس إلى العمل بذلك، ولكان يجب عليه أن يعلم ذلك أصحابه ليتمكنوا من العمل به ولو فعل ذلك لنقل إلينا نقلا مستفيضا والمنقول إلينا منعه إياهم عن ذلك، فإنه روي أنه (عليه الصلاة والسلام (لما رأى صحيفة في يد عمر سأله عنها فقال: هي التوراة.
فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال: أمتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى ! والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وبهذا اللفظ يتبين أن الرسول المتقدم ببعث رسول آخر يكون كالواحد من أمته في لزوم اتباع شريعته لو كان حيا، وعليه دل كتاب الله كما قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به) فأخذ الميثاق عليهم بذلك من أبين الدلائل على أنهم بمنزلة أمة من بعث آخرا في وجوب اتباعه، وبهذا ظهر شرف نبينا عليه السلام فإنه لا نبي بعده فكان الكل ممن تقدم وممن تأخر في حكم المتبع له وهو بمنزلة القلب يطيعه الرأس ويتبعه الرجل.
والفريق الثالث استدلوا بهذا الكلام أيضا ولكن بطريق أن ما كان شريعة لمن قبلنا يصير شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن تقدم في العمل به يكون متبعا له، وفي حكم العامل بشريعته من هذا الوجه، فإن الله تعالى قال: (ملة أبيكم إبراهيم) وقال تعالى (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم) وقال تعالى (وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) وما يكون منتهيا منسوخا
لا يكون متبعا، فبهذه النصوص يتبين أنه متبع، وأنه ملة إبراهيم فلم يبق

طريق سوى أن نقول قد صار ذلك شريعة لنبينا عليه السلام، ويجب على الناس العمل به بطريق أنه شريعة له حتى يقوم دليل نسخه في شريعته، ألا ترى أنه قد اجتمع نبيان في وقت واحد وفي مكان واحد فيمن قبلنا على أن كان أحدهما تبعا للآخر نحو هارون مع موسى، ولوط مع إبراهيم كما قال تعالى: (فآمن له لوط) فكانت الشريعة لاحدهما والآخر نبي مرسل وهو مأمور باتباعه والعمل بشريعته، ولا يجوز القول باجتماع نبيين في وقت واحد ومكان واحد على أن يكون لكل واحد منهما شريعة تخالف شريعة الآخر في وقت من الاوقات.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) ومعلوم أن الهدى في أصل الدين وأحكام الشرع جميعا.
فإن قيل: المراد به الامر بالاقتداء بهم في أصل الدين فإنه مبني على ما تقدم من قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل) إلى قوله (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) إلى قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله) والدليل عليه أنه قد كان في المذكورين من لم يكن نبيا فإنه قال (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) ومعلوم أن الامر بالاقتداء في أحكام الشرع لا يكون في غير الانبياء وإنما يكون ذلك في أصل الدين، ولانه قد كان في شرائعهم الناسخ والمنسوخ، فالامر باللاقتداء بهم في الاحكام على الاطلاق يكون آمرا بالعمل بشيئين مختلفين متضادين وذلك غير جائز.
قلنا: في الآية تنصيص على الاقتداء بهداهم وذلك يعم أصل الدين وأحكام الشرع، ألا ترى إلى قوله تعالى: (آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) أنه يدلنا على أن الهدى كل ما يجب الاتقاء فيه وما يكون المهتدي فيه متقيا، وقال تعالى:
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون) والحكم إنما يكون بالشرائع، ولما سئل مجاهد عن سجدة ص قال: سجدها داود وهو ممن أمر نبيكم بأن يقتدي به، وتلا قوله تعالى: (فبهداهم اقتده) فبهذا تبين أن هذا أمر مبتدأ غير مبني على ما سبق فعمومه يتناول أصل الدين والشرائع جميعا.
وقوله: فيها ناسخ ومنسوخ، قلنا: وفي شريعتنا أيضا ناسخ ومنسوخ ثم لم يمنع ذلك إطلاق القول بوجوب الاقتداء علينا برسول الله

صلى الله عليه وسلم في شريعته.
وقوله: قد كان فيهم من ليس بنبي، لا كذلك فقد ألحق به من البيان ما يعلم به أن المراد الانبياء وهو قوله تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم أولئك الذين آتيناهم الكتاب) مع أن الامر بالاقتداء يعلم أنه لا يتناول إلا من يعلم أنه مرضي الطريقة، مقتدي به من نبي أو ولي، والاولياء على طريقة الانبياء عليهم السلام في العمل بشرائعهم، فبهذا يتبين أن المراد هو الامر بالاقتداء بالانبياء عليهم السلام، ومعلوم أنه ما أمر بالاقتداء بهم في دعاء الناس إلى شريعتهم وإنما أمر بذلك على أن يدعو الناس إلى شريعته، فعرفنا بهذا أن ذلك كله صار شريعة له، بمنزلة الملك ينتقل من المورث إلى الوارث فيكون ذلك الملك بعينه مضافا إلى الوارث بعدما كان مضافا إلى المورث في حياته، وإلى ذلك وقعت الاشارة في قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فأما قوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) قد عرفنا يقينا أنه ليس المراد به المخالفة في المنهاج في الكل بل ذلك مراد في البعض وهو ما قام الدليل فيه على انتساخه.
وقوله: (هدى لبني إسرائيل) لا يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم، كقوله تعالى: (هدى للمتقين) والقرآن
هدى للناس أجمع، وأيد هذا دعاء رسول الله عليه الصلاة والسلام بالتوراة وطلب حكم الرجم منه للعمل به، وقوله: أنا أحق من أحيا سنة أماتوها فإن إحياء سنة أميتت إنما يكون بالعمل بها، فعرفنا أن التوراة هدى لبني إسرائيل ولغيرهم، وأيد جميع ما ذكرنا قوله تعالى: (مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) ولا معنى لذلك سوى أن ما فيه يصير شريعة لنبينا بما أنزل عليه من الكتاب إلا ما ثبت نسخه، وهذا هو القول الصحيح عندنا، إلا أنه قد ظهر من أهل الكتاب الحسد وإظهار العداوة مع المسلمين فلا يعتمد قولهم فيما يزعمون أنه من شريعتهم وأن ذلك قد انتقل إليهم بالتواتر، ولا تقبل شهادتهم في ذلك لثبوت كفرهم وضلالهم فلم يبق لثبوت ذلك طريق سوى نزول القرآن به أو بيان الرسول له، فما وجد فيه هذا الطريق فعلينا فيه الاتباع والعمل به حتى يقوم دليل

النسخ، وأيد ما ذكرنا قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) .
(فأولئك هم الظالمون) ومعلوم أنهم ما كانوا يمتنعون من العمل بأحكام التوراة وإنما كانوا يمتنعون من العمل به على طريق أنه شريعة رسولنا فإنهم كانوا لا يقرون برسالته وقد سماهم الله كافرين ظالمين ممتنعين من الحكم بما أنزل الله.
وكذلك قال تعالى: (وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) وإنما سماهم فاسقين لتركهم العمل بما في الانجيل على أنه شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فبهذا يتبين أن ذلك كله قد صار شريعة لنبينا عليه السلام وأنه يجب اتباعه والعمل به على أنه شريعة نبينا.
وفي قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) تنصيص على أنه
معمول به.
وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) إلى قوله: (أن أقيموا الدين) والدين اسم لكل ما يدان الله به فتدخل الاحكام في ذلك، ويظهر أن ذلك كله قد صار شريعة لنبينا فيجب اتباعه والعمل به إلا ما قام دليل النسخ فيه.
فصل: في تقليد الصحابي إذا قال قولا ولا يعرف له مخالف حكى أبو عمرو بن دانيكا الطبري عن أبي سعيد البردعي رحمه الله أنه كان يقول: قول الواحد من الصحابة مقدم على القياس يترك القياس بقوله، وعلى هذا أدركنا مشايخنا.
وذكر أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: أرى أبا يوسف يقول في بعض مسائله: القياس كذا إلا أني تركته للاثر، وذلك الاثر قول واحد من الصحابة.
فهذه دلالة بينة من مذهبه على تقديم قول الصحابي على القياس.
قال: وأما أنا فلا يعجبني هذا المذهب.
وهذا الذي ذكره الكرخي عن أبي يوسف موجود في كثير من المسائل عن أصحابنا، فقد قالوا في المضمضة والاستنشاق: إنهما سنتان في القياس في الجنابة والوضوء جميعا تركنا

القياس لقول ابن عباس وقالوا في الدم إذا ظهر على رأس الجرح ولم يسل فهو ناقض للطهارة في القياس تركناه لقول ابن عباس، وقالوا في الاغماء: إذا كان يوما وليلة أو أقل فإنه يمنع قضاء الصلوات في القياس تركناه لفعل عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وقالوا في إقرار المريض لوارثه إنه جائز في القياس تركناه لقول ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال: أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيمن اشترى شيئا على أنه (إن) لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فالعقد فاسد في القياس تركناه لاثر يروى عن ابن عمر.
وقال أبو حنيفة: إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على قدره شرط لجواز السلم بلغنا نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، وخالفه
أبو يوسف ومحمد بالرأي.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا ضاع العين في يد الاجير المشترك بما يمكن التحرز عنه فهو ضامن لاثر روي فيه عن علي رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه، فأخذ بالرأي مع الرواية بخلافه عن علي.
وقال محمد: لا تطلق الحامل أكثر من واحدة للسنة بلغنا ذلك عن ابن مسعود وجابر رضي الله عنهما.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف بالرأي: إنها تطلق ثلاثا للسنة.
فعرفنا أن عمل علمائنا بهذا في مسائلهم مختلف.
ول لشافعي في المسألة قولان كان يقول في القديم: يقدم قول الصحابي على القياس، وهو قول مالك، وفي الجديد كان يقول: يقدم القياس في العمل به على قول الواحد والاثنين من الصحابة، كما ذهب إليه الكرخي.
وبعض أهل الحديث يخصون بترك القياس في مقابلة قولهم الخلفاء الراشدين، ويستدلون بقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وبقوله عليه السلام: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فظاهر الحديثين يقتضي وجوب اتباعهما وإن خالفهما غيرهما من الصحابة، ولكن يترك هذا الظاهر عند ظهور الخلاف بقيام الدليل، فبقي حال ظهور قولهما من غير مخالف لها على ما يقتضيه الظاهر.
وأما الكرخي فقد احتج بقوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الابصار) والاعتبار هو العمل بالقياس والرأي فيما لا نص فيه، وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) يعني إلى الكتاب والسنة، وقد دل عليه

حديث معاذ حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم تقضي ؟ قال: بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: بسنة رسول الله.
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: اجتهد رأيي.
فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله فهذا دليل على أنه ليس بعد الكتاب والسنة شئ يعمل به سوى الرأي.
قال: ولا حجة لكم في قوله عليه السلام: أصحابي كالنجوم بأيهم
اقتديتم اهتديتم لان المراد الاقتداء بهم في الجري على طريقهم في طلب الصواب في الاحكام لا في تقليدهم وقد كانت طريقتهم العمل بالرأي والاجتهاد، ألا ترى أنه شبههم بالنجوم وإنما يهتدي بالنجم من حيث الاستدلال به على الطريق بما يدل عليه لا أن نفس النجم يوجب ذلك، وهو تأويل قوله: اقتدوا بالذين من بعدي وعليكم بسنة الخلفاء من بعدي فإنه إنما يعني سلوك طريقهم في اعتبار الرأي والاجتهاد فيما لا نص فيه، وهذا هو المعنى، فقد ظهر من الصحابة الفتوى بالرأي ظهورا لا يمكن إنكاره، والرأي قد يخطئ فكان فتوى الواحد منهم محتملا مترددا بين الصواب والخطأ، ولا يجوز ترك الرأي بمثله كما لا يترك بقول التابعي، وكما لا يترك أحد المجتهدين في عصر رأيه بقول مجتهد آخر.
والدليل على أن الخطأ محتمل في فتواهم ما روي أن عمر سئل عن مسألة فأجاب فقال رجل: هذا هو الصواب.
فقال: والله ما يدري عمر أن هذا هو الصواب أو الخطأ ولكني لم آل عن الحق.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه فيما أجاب به في المفوضة: وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
فعرفنا أنه قد كان جهة الخطأ محتملا في فتواهم، ولا يقال هذا في إجماعهم موجود إذا صدر عن رأي ثم كان حجة، لان الرأي إذا تأيد بالاجماع تتعين جهة الصواب فيه بالنص، قال عليه السلام: إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة ألا ترى أن إجماع أهل كل عصر يجعل حجة بهذا الطريق وإن لم يكن قول الواحد منهم مقدما على الرأي في العمل به، ولانه لم يظهر منهم دعاء الناس إلى أقاويلهم، ولو كان قول الواحد منهم مقدما على الرأي لدعا الناس إلى قوله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى العمل بقوله، وكما كانت الصحابة تدعو الناس إلى العمل بالكتاب والسنة وإلى العمل

بإجماعهم فيما أجمعوا عليه، إذ الدعاء إلى الحجة واجب، ولان قول الواحد
منهم لو كان حجة لم يجز لغيره مخالفته بالرأي كالكتاب والسنة، وقد رأينا أن بعضهم يخالف بعضا برأيه فكان ذلك شبه الاتفاق منهم على أن قول الواحد منهم لا يكون مقدما على الرأي.
ولا يدخل على هذا إجماعهم، فإن مع بقاء الواحد منهم مخالفا لا ينعقد الاجماع، وبعد ما ثبت الاجماع باتفاقهم لو بدا لاحدهم فخالف لم يعتد بخلافه أيضا على ما بينا أن انقراض العصر ليس بشرط لثبوت حكم الاجماع، وأن مخالفة الاجماع بعد انعقاده كمخالفة النص.
وجه ما ذهب إليه أبو سعيد البردعي وهو الاصح أن فتوى الصحابي فيه احتمال الرواية عمن ينزل عليه الوحي، فقد ظهر من عادتهم أن من كان عنده نص فربما روى وربما أفتى على موافقة النص مطلقا من غير الرواية، ولا شك أن ما فيه احتمال السماع من صاحب الوحي فهو مقدم على محض الرأي، فمن هذا الوجه تقديم قول الصحابي على الرأي بمنزلة تقديم خبر الواحد على القياس، ولئن كان قوله صادرا عن الرأي فرأيهم أقوى من رأي غيرهم، لانهم شاهدوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الحوادث وشاهدوا الاحوال التي نزلت فيها النصوص والمحال التي تتغير باعتبارها الاحكام، فبهذه المعاني يترجح رأيهم على رأي من لم يشاهد شيئا من ذلك، وعند تعارض الرأيين إذا ظهر لاحدهما نوع ترجيح وجب الاخذ بذلك، فكذلك إذا وقع التعارض بين رأي الواحد منا ورأي الواحد منهم يجب تقديم رأيه على رأينا لزيادة قوة في رأيه، وهكذا نقول في المجتهدين في زماننا، فإن على أصل أبي حنيفة إذا كان عند مجتهد أن من يخالفه في الرأي أعلم بطريق الاجتهاد، وأنه مقدم عليه في العلم فإنه يدع رأيه لرأي من عرف زيادة قوة في اجتهاده، كما أن العامي يدع رأيه لرأي المفتي المجتهد لعلمه بأنه متقدم عليه فيما يفصل به بين الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، وعلى قول أبي يوسف
ومحمد لا يدع المجتهد في زماننا رأيه لرأي من هو مقدم عليه في الاجتهاد من أهل عصره لوجود المساواة بينهما في الحال وفي معرفة طريق الاجتهاد، ولكن هذا لا يوجد فيما بين المجتهد منا والمجتهد من الصحابة، فالتفاوت بينهما في الحال لا يخفى

وفي طريق العلم كذلك فهم قد شاهدوا أحوال من ينزل عليه الوحي وسمعوا منه، وإنما انتقل إلينا ذلك بخبرهم وليس الخبر كالمعاينة.
فإن قيل: أليس أن تأويل الصحابي للنص لا يكون مقدما على تأويل غيره ولم يعتبر فيه هذه الاحوال فكذلك في الفتوى بالرأي ؟ قلنا: لان التأويل يكون بالتأمل في وجوه اللغة ومعاني الكلام، ولا مزية لهم في ذلك الباب على غيرهم ممن يعرف من معاني اللسان مثل ذلك.
فأما الاجتهاد في الاحكام إنما يكون بالتأمل في النصوص التي هي أصل في أحكام الشرع، وذلك يختلف باختلاف الاحوال ولاجله تظهر لهم المزية بمشاهدة أحوال الخطاب على غيرهم ممن لم يشاهد، ولا يقال هذه أمور باطنة وإنما أمرنا ببناء الحكم على ما هو الظاهر، لان بناء الحكم على الظاهر مستقيم عندنا ولكن في موضع يتعذر اعتبارهما جميعا، فأما عند المقابلة لا إشكال أن اعتبار الظاهر والباطن جميعا يتقدم على مجرد اعتبار الظاهر (وفي الاخذ بقول الصحابي اعتبارهما وفي العمل بالرأي اعتبار الظاهر) فقط هذا مع ما لهم من الفضيلة بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه في الدين سماعا منه، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالخيرية بعده وتقديمهم في ذلك على من بعدهم بقوله: خير الناس قرني الحديث، وقال: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه فعرفنا أنهم يوفقون لاصابة الرأي ما لا يوفق غيرهم لمثله فيكون رأيهم أبعد عن احتمال الخطأ من رأي من بعدهم، ولا حجة في قوله تعالى: (فاعتبروا) لان تقديم قولهم بهذا الطريق نوع من الاعتبار فالاعتبار يكون بترجيح أحد الدليلين بزيادة قوة فيه،
وكذلك قوله تعالى: (فردوه إلى الله والرسول) لان في تقديم فتوى الصحابي رد الحكم إلى أمر الرسول عليه السلام، لان الرسول عليه السلام قد دعا الناس إلى الاقتداء بأصحابه بقوله بأيهم اقتديتم اهتديتم وإنما كان لا يدعو الواحد منهم غيره إلى قوله لان ذلك الغير إن أظهر قولا بخلاف قوله فعند تعارض القولين منهما تتحقق المساواة بينهما وليس أحدهما بأن يدعو صاحبه إلى قوله بأولى من الآخر، وإن لم يظهر منه قول بخلاف ذلك فهو لا يدري

لعله إذا دعاه إلى قوله أظهر خلافه فلا يكون قوله حجة عليه، فأما بعدما ظهر القول عن واحد منهم وانقرض عصرهم قبل أن يظهر قول بخلافه من غيره فقد انقطع احتمال ما ثبت به المساواة من الوجه الذي قررنا فيكون قوله حجة، وإنما ساغ لبعضهم مخالفة البعض لوجود المساواة بينهم فيما يتقوى به الرأي، وهو مشاهدة أحوال التنزيل ومعرفة أسبابه.
ولا خلاف بين أصحابنا المتقدمين والمتأخرين أن قول الواحد من الصحابة حجة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه، وذلك نحو المقادير التي لا تعرف بالرأي، فإنا أخذنا بقول علي رضي الله عنه في تقدير المهر بعشرة دراهم، وأخذنا بقول أنس في تقدير أقل الحيض بثلاثة أيام وأكثره بعشرة أيام، وبقول عثمان بن أبي العاص في تقدير أكثر النفاس بأربعين يوما، وبقول عائشة رضي الله عنها في أن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين، وهذا لان أحدا لا يظن بهم المجازفة في القول، ولا يجوز أن يحمل قولهم في حكم الشرع على الكذب، فإن طريق الدين من النصوص إنما انتقل إلينا بروايتهم، وفي حمل قولهم على الكذب والباطل قول بفسقهم، وذلك يبطل روايتهم فلم يبق إلا الرأي أو السماع ممن ينزل عليه الوحي ولا مدخل
للرأي في هذا الباب، فتعين السماع وصار فتواه مطلقا كروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أنه لو ذكر سماعه من رسول الله لكان ذلك حجة لاثبات الحكم به فكذلك إذا أفتى به ولا طريق لفتواه إلا السماع، ولهذا قلنا: إن قول الواحد منهم فيما لا يوافقه القياس يكون حجة في العمل به، كالنص يترك القياس به، حتى إن في شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن أخذنا بقول عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم رضي الله عنه وتركنا القياس، لان القياس لما كان مخالفا لقولها تعين جهة السماع في فتواها، وكذلك أخذنا بقول ابن عباس رضي الله عنهما في النذر بذبح الولد إنه يوجب ذبح شاة لانه قول يخالف القياس فتتعين فيه جهة السماع، وأخذنا بقول ابن

مسعود رضي الله عنه في تقدير الجعل لراد الآبق من مسيرة سفر بأربعين درهما، لانه قول بخلاف القياس وهو إطلاق الفتوى منه فيما لا يعرف بالقياس فتتعين جهة السماع.
فإن قيل: هذا المعنى يوجد في قول التابعي، فإنه لا يظن المجازفة في القول بالمجتهد في كل عصر، ولا يجوز حمل كلامه على الكذب قصدا، ومع ذلك لا تتعين جهة السماع لفتواه عند الاطلاق حتى لا يكون حجة فيما لا يستدرك بالقياس كما لا يكون حجة فيما يعرف بالقياس.
قلنا: قد بينا أن قول الصحابي يكون أبعد عن احتمال الغلط وقلة التأمل فيه من قول غيره، ثم احتمال اتصال قولهم بالسماع يكون بغير واسطة، فقد صحبوا من كان ينزل عليه الوحي وسمعوا منه، واحتمال اتصال قول من بعدهم بالسماع يكون بواسطة النقل وتلك الواسطة لا يمكن إثباتها بغير دليل وبدونها لا يثبت اتصال قوله بالسماع بوجه من الوجوه، فمن هذا الوجه
يقع الفرق بين قول الصحابي وبين قول من هو دونه فيما لا مدخل للقياس فيه.
فإن قيل: قد قلتم في المقادير بالرأي من غير أثر فيه، فإن أبا حنيفة قدر مدة البلوغ بالسن بثماني عشرة سنة أو سبع عشرة سنة بالرأي، وقدر مدة وجوب دفع المال إلى السفيه الذي لم يؤنس منه الرشد بخمس وعشرين سنة بالرأي، وقدر أبو يوسف ومحمد مدة تمكن الرجل من نفي الولد بأربعين يوما بالرأي، وقدر أصحابنا جميعا ما يطهر به البئر من النزح عند وقوع الفأرة فيه بعشرين دلوا، فهذا يتبين فساد قول من يقول إنه لا مدخل للرأي في معرفة المقادير، وأنه تتعين جهة السماع في ذلك إذا قاله صحابي.
قلنا: إنما أردنا بما قلنا المقادير التي تثبت لحق الله ابتداء دون مقدار يكون فيما يتردد بين القليل والكثير والصغير والكبير، فإن المقادير في الحدود والعبادات نحو أعداد الركعات في الصلوات مما لا يشكل على أحد أنه لا مدخل

للرأي في معرفة ذلك فكذلك ما يكون بتلك الصفة مما أشرنا إليه فأما ما استدللتم به فهو من باب الفرق بين القليل والكثير فيما يحتاج إليه، فإنا نعلم أن ابن عشر سنين لا يكون بالغا وأن ابن عشرين سنة يكون بالغا، ثم التردد فيما بين ذلك فيكون هذا استعمال الرأي في إزالة التردد، وهو نظير معرفة القيمة في المغصوب والمستهلك ومعرفة مهر المثل والتقدير في النفقة فإن للرأي مدخلا في معرفة ذلك من الوجه الذي قلنا، وكذلك حكم دفع المال إلى السفيه فإن الله تعالى قال (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) وقال: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) .
فوقعت الحاجة إلى معرفة الكبير على وجه يتيقن معه بنوع من الرشد وذلك مما يعرف بالرأي، فقدر أبو حنيفة ذلك بخمس وعشرين سنة
لانه يتوهم أن يصير جدا في هذه المدة، ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى في الاصلية فيتيقن له بصفة الكبر ويعلم إيناس الرشد منه باعتبار أنه بلغ أشده، فإنه قيل في تفسير الاشد المذكور في سورة يوسف عليه السلام إنه هذه المدة، وكذلك ما قال أبو يوسف ومحمد فإنه يتمكن من النفي بعد الولادة بساعة أو ساعتين لا محالة ولا يتمكن من النفي بعد سنة أو أكثر، فإنما وقع التردد فيما بين القليل والكثير من المدة فاعتبر الرأي فيه بالبناء على أكثر مدة النفاس.
فأما حكم طهارة البئر بالنزح فإنما عرفناه بآثار الصحابة، فإن فتوى علي وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذلك معروفة، مع أن ذلك من باب الفرق بين القليل من النزح والكثير، وقد بينا أن للرأي مدخلا في معرفة هذا كله في قول ظهر عن صحابي ولم يشتهر ذلك في أقرانه، فإنه بعدما اشتهر إذا لم يظهر النكير عن أحد منهم كان ذلك بمنزلة الاجماع وقد بينا الكلام فيه، وما اختلف فيه الصحابة فقد بينا أن الحق لا يعدو أقاويلهم حتى لا يتمكن أحد من أن يقول بالرأي قولا خارجا عن أقاويلهم، وكذلك لا يشتغل بطلب التاريخ بين أقاويلهم ليجعل المتأخر ناسخا للمتقدم كما يفعل في الآيتين والخبرين، لانه لما ظهر الخلاف بينهم ولم نجز المحاجة بسماع من صاحب الوحي فقد انقطع احتمال التوقيف فيه وبقي مجرد القول بالرأي والرأي

لا يكون ناسخا للرأي، ولهذا لم يجز نسخ أحد القياسين بالآخر، ولكن طريق العمل طلب الترجيح بزيادة قوة لاحد الاقاويل، فإن ظهر ذلك وجب العمل بالراجح، وإن لم يظهر يتخير المبتلي بالحادثة في الاخذ بقول أيهما شاء بعد أن يقع في أكثر رأيه أنه هو الصواب، وبعد ما عمل بأحد القولين لا يكون له أن يعمل بالقول الآخر إلا بدليل، وقد بينا (لك) هذا في باب المعارضة.
هذا الذي بينا هو النهاية في الاخذ بالسنة حقيقتها وشبهتها ثم العمل بالرأي بعده، وبذلك يتم الفقه
على ما أشار إليه محمد بن الحسن في أدب القاضي فقال: لا يستقيم العمل بالحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم العمل بالرأي إلا بالحديث.
وأصحابنا هم المتمسكون بالسنة والرأي في الحقيقة، فقد ظهر منهم من تعظيم السنة ما لم يظهر من غيرهم ممن يدعي أنه صاحب الحديث، لانهم جوزوا نسخ الكتاب بالسنة لقوة درجتها، وجوزوا العمل بالمراسيل، وقدموا خبر المجهول على القياس، وقدموا قول الصحابي على القياس، لان فيه شبهة السماع من الوجه الذي قررنا، ثم بعد ذلك كله عملوا بالقياس الصحيح وهو المعنى الذي ظهر أثره بقوته.
فأما الشافعي رحمه الله حين لم يجوز العمل بالمراسيل فقد ترك كثيرا من السنن، وحين لم يقبل رواية المجهول فقد عطل بعض السنة أيضا، وحين لم ير تقليد الواحد من الصحابة فقد جوز الاعراض عما فيه شبهة السماع، ثم جوز العمل بقياس الشبه وهو مما لا يجوز أن يضاف إليه الوجوب بحال، فما حاله إلا كحال من لم يجوز العمل بالقياس أصلا، ثم يعمل باستصحاب الحال فحمله ما صار إليه من الاحتياط على العمل بلا دليل وترك العمل بالدليل.
وتبين أن أصحابنا هم القدوة في أحكام الشرع أصولها وفروعها، وأن بفتواهم اتضح الطريق للناس إلا أنه بحر عميق لا يسلكه كل سابح، ولا يستجمع شرائطه كل طالب، والله الموفق.

فصل: في خلاف التابعي هل يعتد به مع إجماع الصحابة لا خلاف أن قول التابعي لا يكون حجة على وجه يترك القياس بقوله، فقد روينا عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ما جاءنا عن التابعين زاحمناهم.
ولا خلاف أن من لم يدرك عصر الصحابة من التابعين أنه لا يعتد بخلافه في إجماعهم، فأما من أدرك عصر الصحابة من التابعين كالحسن وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي رضي الله عنهم فإنه يعتد بقوله في إجماعهم عندنا حتى لا يتم إجماعهم مع خلافه،
وعلى قول الشافعي لا يعتد بقوله مع إجماعهم.
وعلى هذا قال أبو حنيفة لا يثبت إجماع الصحابة في الاشعار، لان إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عصر الصحابة فلا يثبت إجماعهم دون قوله.
وجه قول الشافعي أن إجماع الصحابة حجة بطريق الكرامة لهم ولا مشاركة للتابعي معهم في السبب الذي استحقوا به زيادة الكرامة، وذلك صحبة رسول الله عليه السلام، ومشاهدة أحوال الوحي، ولهذا لم نجعل التابعي الذي أدرك عصرهم بمنزلتهم في الاحتجاج بقوله، فكذلك لا يقدح قوله في إجماعهم كما لا يقدح قول من لم يدرك عصر الصحابة في إجماعهم، ولان صاحب الشرع أمرنا بالاقتداء بهم، وندب إلى ذلك بقوله عليه السلام: بأيهم اقتديتم اهتديتم وهذا لا يوجد في حق التابعي وإن أدرك عصرهم فلا يكون مزاحما لهم، وإنما ينعدم انعقاد الاجماع بالمزاحم.
وحجتنا في ذلك أنه لما أدرك عصرهم وسوغوا له اجتهاد الرأي والمزاحمة معهم في الفتوى والحكم بخلاف رأيهم قد صار هو كواحد منهم فيما يبتني على اجتهاد الرأي، ثم الاجماع لا ينعقد مع خلاف واحد منهم، فكذلك لا ينعقد مع خلاف التابعي الذي أدرك عصرهم، لانه من علماء ذلك العصر، فشرط انعقاد الاجماع أن لا يكون أحد من أهل العصر مخالفا لهم.
وبيان هذا أن عمر وعليا رضي الله عنهما قلدا شريحا القضاء بعدما ظهر منه مخالفتهما في الرأي، وإنما قلداه القضاء ليحكم برأيه.
فإن قيل: لا كذلك، بل قلداه القضاء ليحكم بقولهما أو بقول بعض الصحابة

سواهما.
قلنا: قد روي أن عمر كتب إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسول الله، فإن لم تجد فاجتهد برأيك.
فإن قيل: معنى قوله: (فاجتهد برأيك) في آرائنا وأقاويلنا.
قلنا:
هذه زيادة على النص وهي تنزل منزلة النسخ فلا يكون تأويلا، وقد صح أن عليا رضي الله عنه تحاكم إلى شريح وقضى عليه بخلاف رأيه في شهادة الولد لوالده ثم قلده القضاء في خلافته، وابن عباس رضي الله عنهما رجع إلى قول مسروق في النذر بذبح الولد فأوجب عليه شاة بعدما كان يوجب عليه مائة من الابل، وعمر رضي الله عنه أمر كعب بن سور أن يحكم برأيه بين الزوجين فجعل لها ليلة من أربع ليال وكان ذلك خلاف رأي عمر.
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: تذاكرنا مع ابن عباس وأبي هريرة عدة مرات عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس: تعتد بأبعد الاجلين، وقلت: تعتد بوضع الحمل، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، وعن مسروق أن ابن عباس رضي الله عنهما صنع طعاما لاصحاب عبد الله بن مسعود فجرت المسائل، وكان ابن عباس يخطئ في بعض فتاويه فما منعهم من أن يردوا عليه إلا كونهم على طعامه.
وسئل ابن عمر عن مسألة فقال: سلوا عنها سعيد بن جبير فهو أعلم بها مني.
وكان أنس بن مالك إذا سئل عن مسألة فقال سلوا عنها مولانا الحسن.
فظهر أنهم سوغوا اجتهاد الرأي لمن أدرك عصرهم ولا معتبر بالصحبة في هذا الباب، ألا ترى أن إجماع أهل كل عصر حجة وإن انعدمت الصحبة لهم، وأنه قد كان في الصحابة الاعراب الذين لم يكونوا من أهل الاجتهاد في الاحكام فكان لا يعتبر قولهم في الاجماع مع وجود الصحبة، فعرفنا أن هذا الحكم إنما يبتنى على كونه من علماء العصر، وممن يجتهد في الاحكام ويعتد بقوله.
ثم الصحابة فيما بينهم كانوا متفاضلين في الدرجة،

فإن درجة الخلفاء الراشدين فوق درجة غيرهم في الفضيلة ولم يدل ذلك على أن الاجماع الذي هو حجة يثبت بدون قولهم، وكما أمر رسول الله بالاقتداء بالصحابة فقد أمر بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لسائر الصحابة بقوله عليه السلام: عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء من بعدي وأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر بقوله عليه السلام: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ثم هذا لا يدل على أن إجماعهم يكون حجة قاطعة مع خلاف سائر الصحابة.
فصل: في حدوث الخلاف بعد الاجماع باعتبار معنى حادث فمذهب علمائنا أن الاتفاق متى حصل في شئ على حكم ثم حدث فيه معنى اختلفوا لاجله في حكمه، فالاجماع المتقدم لا يكون حجة فيه.
وقال بعض العلماء ذلك الاجماع حجة فيه يجب التمسك به حتى يوجد إجماع آخر بخلافه.
وبيان هذا في الماء الذي وقع فيه نجاسة ولم يتغير أحد أوصافه، فإن الاجماع الذي كان على طهارته قبل وقوع النجاسة فيه لا يكون حجة لاثبات صفة الطهارة فيه بعد وقوع النجاسة فيه، وعند بعضهم يكون حجة.
وكذلك المتيمم إذا أبصر الماء في خلال الصلاة فالاجماع المنعقد على صحة شروعه في الصلاة قبل أن يبصر الماء لا يكون حجة لبقاء صلاته بعدما أبصر الماء، وعند بعضهم يكون حجة.
وكذلك بيع أم الولد فالاجماع المنعقد على جواز بيعها قبل الاستيلاد لا يكون حجة لجواز بيعها بعد الاستيلاد عندنا، وعند بعضهم يكون حجة.
ويقولون: قد انعقد الاجماع على حكم في هذا العين فنحن على ما كنا عليه من الاجماع حتى ينعقد إجماع آخر له، لان الشئ لا يرفعه ما هو دونه ولا شك أن الخلاف دون الاجماع، يوضحه أن التمسك باليقين وترك المشكوك فيه أصل في الشرع، فإن النبي عليه السلام أمر الشاك في الحدث بأن لا ينصرف من صلاته حتى يستيقن بالحدث، لانه على يقين من الطهارة وهو في شك من الحدث.
وكذلك أمر الشاك في الصلاة بأن يأخذ بالاقل لكونه متيقنا به.
وكذلك في الاحكام نقول اليقين لا يزال بالشك حتى إذا شك في طلاق امرأته لم يقع الطلاق عليها.
وكذلك الاقرار بالمال لا يثبت مع الشك، لان براءة الذمة يقين باعتبار الاصل

فلا يزول المتيقن بالشك، وهذا لان اليقين كان معلوما في نفسه ومع الشك لا يثبت للعلم فلا يجوز ترك العمل بالعلم لاجل ما ليس بعلم.
وأصحابنا قالوا: هذا مذهب باطل، فإن الاجماع كان ثابتا في عين على حكم لا لانه عين وإنما كان ذلك لمعنى وقد حدث معنى آخر خلاف ذلك ومع هذا المعنى الحادث لم يكن الاجماع قط فكيف يستقيم استصحابه ؟ وبه نبطل نحن على ما كنا عليه، فإنا لم نكن على الاجماع مع هذا المعنى قط.
ثم لا يخلو: إما أن تكون الحجة نفس الاجماع، أو الدليل الذي نشأ منه الاجماع قبل حدوث هذا المعنى فيه، فإن كان نفس الاجماع فبعد الخلاف الاجماع، وفي الموضع الذي لا إجماع لا يتحقق الاحتجاج بنفس الاجماع وإن كان الدليل الذي نشأ منه الاجماع، فما لم يثبت بقاء ذلك الدليل بعد اعتراض المعنى الحادث لا يتحقق الاستدلال بالاجماع.
ثم يحتج عليهم بعين ما احتجوا به فنقول: قد تيقنا بالحدث المانع من جواز أداء الصلاة في أعضاء المحدث قبل استعمال هذا الماء الذي وقعت فيه النجاسة، فنحن على ما كنا عليه من اليقين، والاجماع لا يترك بالخلاف عند استعمال هذا الماء، واتفقنا على أن أداء الصلاة واجب على من أدرك الوقت فنحن على ذلك الاتفاق لا نتركه بأداء يكون منه بالتيمم بعدما أبصر الماء، لان سقوط الفرض بهذا الاداء مشكوك فيه، واتفقنا على أن الامة بعد ما حبلت من مولاها قد امتنع بيعها، فنحن على ذلك الاتفاق لا نتركه بالخلاف في جواز بيعها بعدما انفصل الولد عنها، وكل كلام يمكن أن يحتج به على الخصم بعينه في إثبات ما رام إبطاله به فهو باطل في نفسه، وهو نظير احتجاجنا على من يقول لا دليل على النافي في أحكام الشرع، وإنما الدليل على المثبت كما في الدعاوى، فإن البينة تكون على المثبت دون النافي، فنقول: من قال لا حكم فهو يثبت صحة اعتقاد نفي الحكم، وهذا منه إثبات حكم شرعي، وخصمه ينفي صحة هذا الاعتقاد فينبغي
أن تكون الحجة عليه للاثبات لا على خصمه فإنه ينفي، وسنقرر هذا الكلام في موضعه، ثم نستدل بقوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) وفي هذا تنصيص على ترك العمل بما كان متيقنا به عند حدوث معنى

آخر وإن لم يكن ذلك المعنى متيقنا به، فإن كفرها قبل الهجرة كان متيقنا به وزوال ذلك بعد الهجرة إنما نعرفه بغالب الرأي لا باليقين، وليس هذا نظير ما استشهدوا به، لان هناك عند الشك في الطلاق لا نجد دليلا نعتمده في حكم الطلاق سوى ما تقدم، وكذلك عند الشك في وجوب المال لا نجد دليلا نعتمده سوى ما تقدم، وكذلك عند الشك في الحدث وعند الشك في أداء بعض الصلاة حتى إذا وجدنا فيه دليلا وهو التحري نقول بأنه يجب العمل بذلك الدليل، وهنا قد وجدنا دليلا نستدل به على الحكم بعد حدوث المعنى الحادث في العين فيجب العمل بذلك الدليل، ولا يجوز المصير إلى استصحاب ما كان قبل حدوث هذا المعنى، فاليقين إنما كان قبل وجود الدليل المغير، ومثله لا يكون يقينا بعد وجود الدليل المغير، وعلى هذا الاصل استصحاب العموم بعد حدوث الدليل المغير للحكم، فإنه لا يجوز لاحد أن يستدل على إباحة قتل المستأمن بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) لان حكم هذا العام كان ثابتا قبل وجود الدليل المغير فلا يجوز الاستدلال به بعد ذلك في موضع فيه خلاف، وهو أن المستأمن إذا جعل نفسه طليعة للمشركين يخبرهم بعورات المسلمين فإنه لا يباح قتله استدلالا بقوله تعالى: (فاقلتوا المشركين) عندنا، وعند بعضهم يجوز قتله باعتبار هذه الحجة، والكلام في هذا مثل الكلام في الفصل الاول، والله أعلم.
باب القياس قال رضي الله عنه: مذهب الصحابة ومن بعدهم من التابعين والصالحين والماضين
من أئمة الدين رضوان الله عليهم جواز القياس بالرأي على الاصول التي تثبت أحكامها بالنص لتعدية حكم النص إلى الفروع جائز مستقيم يدان الله به، وهو مدرك من مدارك أحكام الشرع ولكنه غير صالح لاثبات الحكم به ابتداء، وعلى قول أصحاب الظواهر هو غير صالح لتعدية حكم النص به إلى ما لا نص فيه والعمل باطل أصلا في أحكام الشرع.
وأول من أحدث هذا القول إبراهيم النظام، وطعن في السلف لاحتجاجهم بالقياس ونسبهم بتهوره إلى خلاف ما وصفهم الله به، فخلع به ربقة الاسلام من عنقه، وكان ذلك منه إما للقصد إلى إفساد طريق المسلمين عليهم،

أو للجهل منه بفقه الشريعة، ثم تبعه على هذا القول بعض المتكلمين ببغداد، ولكنه تحرز عن الطعن في السلف فرارا من الشنعة التي لحقت النظام، فذكر طريقا آخر لاحتجاج الصحابة بالقياس هو دليل على جهله، وهو أنه قال: ما جرى بين الصحابة لم يكن على وجه الاحتجاج بالقياس وإنما كان على وجه الصلح والتوسط بين الخصوم وذكر المسائل لتقريب ما قصدوه من الصلح إلى الافهام.
وهذا مما لا يخفى فساده على من تأمل أدنى تأمل فيما نقل عن الصحابة في هذا الباب.
ثم نشأ بعده رجل متجاهل يقال له داود الاصبهاني فأبطل العمل بالقياس من غير أن وقف على ما هو مراد كل فريق ممن كان قبله، ولكنه أخذ طرفا من كل كلام ولم يشتغل بالتأمل فيه ليتبين له وجه فساده، قال: القياس لا يكون حجة، ولا يجوز العمل به في أحكام الشرع وتابعه على ذلك أصحاب الظواهر الذين كانوا مثله في ترك التأمل، وروى بعضهم هذا المذهب عن قتادة ومسروق وابن سيرين، وهو افتراء عليهم، فقد كانوا أجل من أن ينسب إليهم القصد إلى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما هو طريق أحكام الشرع بعد ما ثبت نقله عنهم.
ثم قال بعض نفاة القياس: دلائل العقل لا تصلح لمعرفة شئ من أمور الدين بها والقياس يشبه ذلك.
وقال بعضهم: لا يعمل بالدلائل العقلية في أحكام الشرع أصلا وإن كان يعمل بها في العقليات.
وقال بعضهم: لا يعمل بها إلا عند الضرورة ولا ضرورة في أحكام الشرع لامكان العمل بالاصل الذي هو استصحاب الحال.
وهذا أقرب أقاويلهم إلى القصد فيحتاج في تبين وجه الفساد فيه إلى إثبات أن القياس حجة أصلية في تعدية الاحكام لا حجة ضرورية، وإلى أنه مقدم في الاحتجاج به على استصحاب الحال.
ولكن نبدأ ببيان شبهتهم، فإنهم استدلوا بظاهر آيات من الكتاب، منها قوله تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) وفي المصير إلى الرأي لاثبات حكم في محل قول بأن الكتاب غير كاف.
وقال

تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) وقال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقال تعالى: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ففيها بيان أن الاشياء كلها في الكتاب إما في إشارته أو دلالته أو في اقتضائه أو في نصه، فإن لم يوجد في شئ من ذلك فبالابقاء على الاصل الذي علم ثبوته بالكتاب وهو دليل مستقيم، قال تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) الآية، فقد أمره بالاحتجاج بأصل الاباحة فيما لا يجد فيه دليل الحرمة في الكتاب، وهذا مستمر على أصل من يقول الاباحة في الاشياء أصل، وعلى أصلنا الذي نقول: إنما نعرف كل شئ بالكتاب، وهذا معلوم بقوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا) فإن الاضافة بلام التمليك تكون أدل على إثبات صفة الحل من التنصيص على الاباحة فلم يبق الرأي بعد هذا إلا لتعرف الحكمة والوقوف على المصلحة فيه عاقبة وذلك مما لا مجال للرأي في معرفته، فإن المصلحة في العاقبة عبارة عن الفوز والنجاة، وما به الفوز والنجاة
في الآخرة لا يمكن الوقوف عليه بالرأي، وإنما الرأي لمعرفة المصالح العاجلة التي يعلم جنسها بالحواس ثم نستدرك نظائرها بالرأي، وهذا مثل ما قلتم إن تعليل النصوص بعلة لا يتعدى إلى الفروع باطل، لانها خالية عن إثبات الحكم بها فالحكم في المنصوص ثابت بالنص فلا يكون في هذا التعليل إلا تعرف وجه الحكمة والوقوف على المصلحة في العاقبة والرأي لا يهتدي إلى ذلك.
ومنها قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) وقال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (الظالمون) (الفاسقون) والعمل بالرأي فيه تقدم بين يدي الله ورسوله وهو حكم بغير ما أنزل الله، فإن طريقة الاستنباط بآرائنا وما يبدو لنا من آرائنا لا يكون مما أنزل الله في شئ، إنما المنزل كتاب الله وسنة رسوله، فقد ثبت أنه ما كان ينطق إلا عن وحي، كما قال تعالى: (إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) وإنما الحكم بالرأي من جملة ما قال الله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) الآية، واستدلوا بآثار: فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لم يزل بنو إسرائيل على طريقة مستقيمة حتى كثر فيهم أولاد السبايا، فقاسوا ما لم يكن بما

قد كان فضلوا وأضلوا وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعمل هذه الامة برهة بالكتاب ثم برهة بالسنة ثم برهة بالرأي، فإذا فعلوا ذلك ضلوا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين، أعيتهم السنة أن يحفظوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إياكم وأرأيت وأرأيت ! فإنما هلك من كان قبلكم في أرأيت وأرأيت.
وقال النبي عليه السلام: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وإنما أراد به إعمال الرأي للعمل به في الاحكام، فإن إعمال الرأي للوقوف على معنى النص من حيث
اللسان فقه مستقيم، ويكون العمل به عملا بالنص لا بالرأي.
وبيان هذا فيما اختلف فيه ابن عباس وزيد رضي الله عنهم في زوج وأبوين فقال ابن عباس: للام ثلث جميع المال، فإن الله تعالى قال: (فلامه الثلث) والمفهوم من إطلاق هذه العبارة ثلث جميع المال.
وقال زيد: للام ثلث ما بقي، لان في الآية بيان أن للام ثلث ما ورثه الابوان، فإنه قال: (وورثه أبواه فلامه الثلث) وميراث الابوين هو الباقي بعد نصيب الزوج فللام ثلث ذلك.
هذا ونحوه عمل بالكتاب لا بالرأي فيكون مستقيما.
ومن حيث المعقول يستدلون بأنواع من الكلام: أحدها من حيث الدليل وهو أن في القياس شبهة في أصله، لان الوصف الذي تعدى به الحكم غير منصوص عليه ولا هو ثابت بإشارة النص ولا بدلالته ولا بمقتضاه، فتعيينه من بين سائر الاوصاف بالرأي لا ينفك عن شبهة، والحكم الثابت به من إيجاب أو إسقاط أو تحليل أو تحريم محض حق الله تعالى، ولا وجه لاثبات ما هو حق الله بطريق فيه شبهة، لان من له الحق موصوف بكمال القدرة يتعالى عن أن ينتسب إليه العجز أو الحاجة إلى إثبات حقه بما فيه شبهة، ولا وجه لانكار هذه الشبهة فيه، فإن القياس لا يوجب العلم قطعا بالاتفاق وكان ذلك باعتبار أصله، وعلى هذا التقرير يكون هذا استدلالا بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وبقوله تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) ولا يدخل على هذا أخبار الآحاد، فإن

أصله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موجب للعلم قطعا، وإنما تتمكن الشبهة في طريق الانتقال إلينا، وقد كان قول رسول الله حجة قبل الانتقال إلينا بهذا الطريق، فلشبهة تتمكن في الطريق لا يخرج الحديث من أن يكون حجة موجبة للعلم، وهو كالنص المؤول، فإن الشبهة تتمكن في تأويلنا، فلا يخرج النص
من أن يكون حجة موجبة للعلم.
ومنهم من قرر هذا الكلام من وجه آخر وقال: تعيين وصف في المنصوص بالرأي لاضافة الحكم إليه يشبه قياس إبليس لعنه الله على ما أخبر الله تعالى عنه: (أأسجد لمن خلقت طينا) وكذلك التمييز بين هذا الوصف وسائر الاوصاف في إثبات حكم الشرع أو الترجيح بالرأي يشبه ما فعله إبليس كما أخبر الله تعالى عنه: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فلا يشك أحد في أن ذلك كان باطلا ولم يكن حجة، فالعمل بالرأي في أحكام الشرع لا يكون عملا بالحجة أيضا.
ونوع آخر من حيث المدلول فإنه طاعة لله تعالى ولا مدخل للرأي في معرفة ما هو طاعة لله، ولهذا لا يجوز إثبات أصل العبادة بالرأي، وهذا لان الطاعة في إظهار العبودية والانقياد، وما كان التعبد مبنيا على قضية الرأي بل طريقه طريق الابتلاء، ألا ترى أن من المشروعات ما لا يستدرك بالرأي (أصلا) كالمقادير في العقوبات والعبادات، ومنه ما هو خلاف ما يقتضيه الرأي وما هذه صفته فإنه لا يمكن معرفته بالرأي فيكون العمل بالرأي فيه عملا بالجهالة لا بالعلم، وكيف يمكن إعمال الرأي فيه والمشروعات متباينة في أنفسها يظهر ذلك عند التأمل في جميعها، والقياس عبارة عن رد الشئ إلى نظيره، يقال: قس النعل بالنعل: أي احذه به.
فكيف يتأتى هذا مع التباين ؟ يوضحه أن العلل التي تعدى الحكم بها من المنصوص عليه إلى غيره متعددة مختلفة ولاجلها اختلف العلماء في طريق التعدية، وما يكون بهذه الصفة فإنه يتعذر تعيين واحد منها للعمل إلا بما يوجب العلم قطعا وهو النص، ولهذا جوزنا العمل بالعلة المنصوص عليها، كما في قوله عليه السلام: الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات فأثبتنا هذا الحكم في غيرها من حشرات البيت لان العلة

منصوص عليها، فأما بالرأي فلا يمكن الوقوف على ما هو العلة عينا فيكون العمل به
باطلا.
ولا يدخل عليه الاخبار فإنه لا اختلاف فيها في الاصل، لانه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بينا أنه قال ذلك عن وحي، وقد علمنا بالنص أنه لا اختلاف فيما هو من عند الله، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وإنما الاختلاف في الاخبار من جهة الرواة، والحجة هو الخبر لا الراوي.
وما كان الاختلاف فيما بين الرواة إلا نظير اشتباه الناسخ من المنسوخ في كتاب الله فإن ذلك متى ارتفع بما هو الطريق في معرفته يكون العمل بالناسخ واجبا.
ويكون ذلك عملا بالنص لا بالتاريخ، فكذلك في الاخبار.
وتحت ما قررنا فائدتان بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين: إحداهما المحافظة على نصوص الشريعة، فإنها قوالب الاحكام.
والثاني التبحر في معاني اللسان فإن معانيه جمة غائرة لا يفضل عمر المرء عن التأمل فيها إذا أراد الوقوف عليها، ولا يتفرغ للعمل بالهوى الذي ينشأ منه الزيغ عن الحق والوقوع في البدعة، وما يحصل به التحرز عن البدع واجبا أحكام الشرع فلا شك أن قوام الدين ونجاة المؤمنين يكون فيه.
ولا يدخل على شئ مما ذكرنا إعمال الرأي في أمر الحرب وقيم المتلفات ومهر النساء والوقوف على جهة الكعبة.
أما على الوجه الاول فلان هذا كله من حقوق العباد، ويليق بحالهم العجز والاشتباه فيما يعود إلى مصالحهم العاجلة فيعتبر فيه الوسع ليتيسر عليهم الوصول إلى مقاصدهم، وهذا في غير أمر القبلة ظاهر وكذلك في أمر القبلة، فإن الاصل فيه معرفة جهات أقاليم الارض وذلك من حقوق العباد.
وعلى الثاني فلان الاصل فيما هو من حقوق العباد ما يكون مستدركا بالحواس، وبه يثبت علم اليقين كما ثبت بالكتاب والسنة، ألا ترى أن الكعبة جهتها تكون محسوسة في حق من عاينها، وبعد البعد منها بإعمال الرأي يمكن تصييرها كالمحسوسة.
وكذلك أمر الحرب، فالمقصود صيانة النفس عما يتلفها أو قهر الخصم وأصل ذلك محسوس، وما هو إلا نظير التوقي
عن تناول سم الزعاف لعلمه أنه متلف، والتوقي عن الوقوع على السيف

والسكين لعلمه أنه ناقض للبنية، فعرفنا أن أصل ذلك محسوس، فإعمال الرأي فيه للعمل يكون في معنى العمل بما لا شبهة في أصله.
ثم في هذه المواضع الضرورة تتحقق إلى إعمال الرأي، فإنه عند الاعراض عنه لا نجد طريقا آخر وهو دليل العمل به، فلاجل الضرورة جوزنا به العمل بالرأي فيه، وهنا الضرورة لا تدعو إلى ذلك لوجود دليل في أحكام الشرع للعمل به على وجه يغنيه عن إعمال الرأي فيه وهو اعتبار الاصل الذي قررنا.
ولا يدخل على شئ مما ذكرنا إعمال الرأي والتفكر في أحوال القرون الماضية وما لحقهم من المثلات والكرامات، لان ذلك من حقوق العباد، فالمقصود أن يمتنعوا مما كان مهلكا لمن قبلهم حتى لا يهلكوا، أو أن يباشروا ما كان سببا لاستحقاق الكرامة لمن قبلهم حتى ينالوا مثل ذلك، وهو في الاصل من حقوق العباد بمنزلة الاكل الذي يكتسب به المرء سبب إبقاء نفسه، وإتيان الاناث في محل الحرث بطريقه ليكتسب به سبب إبقاء النسل.
ثم طريق ذلك الاعتبار بالتأمل في معاني اللسان، فإن أصله الخبر وذلك مما يعلم بحاسة السمع، ثم بالتأمل فيه يدرك المقصود وليس ذلك من حكم الشريعة في شئ، فقد كان الوقوف على معاني اللغة في الجاهلية وهو باق اليوم بين الكفرة الذين لا يعلمون حكم الشريعة.
وعلى هذا يخرج أيضا ما أمر به رسول الله عليه السلام من المشورة مع أصحابه، فإن المراد أمر الحرب وما هو من حقوق العباد، ألا ترى أن المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شاورهم في ذلك ولم ينقل أنه شاورهم قط في حقيقة ما هم عليه ولا فيما أمرهم به من أحكام الشرع، وإلى هذا المعنى أشار بقوله عليه السلام: إذا أتيتكم بشئ من أمر دينكم فاعملوا به، وإذا أتيتكم بشئ من أمر دنياكم فأنتم أعلم
بأمر دنياكم أو كلاما هذا معناه.
وهذا بيان شبه الخصوم في المسألة.
والحجة لجمهور العلماء دلائل الكتاب والسنة والمعقول، وهي كثيرة جدا قد أورد أكثرها المتقدمون من مشايخنا، ولكنا نذكر من كل نوع طرفا مما هو أقوى في الاعتماد عليه.

فمن دلائل الكتاب قوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الابصار) حكي عن ثعلب قال: الاعتبار في اللغة هو: رد حكم الشئ إلى نظيره ومنه يسمى الاصل الذي يرد إليه النظائر عبرة، ومن ذلك قوله تعالى (إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار) والرجل يقول: اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب أي سويته به في التقدير، وهذا هو حد القياس، فظهر أنه مأمور به بهذا النص.
وقيل الاعتبار: التبيين ومنه قوله تعالى: (إن كنتم للرؤيا تعبرون) : أي تبينون، والتبيين الذي يكون مضافا إلينا هو إعمال الرأي في معنى المنصوص ليتبين به الحكم في نظيره.
فإن قيل: الاعتبار هو التأمل والتفكر فيما أخبر الله تعالى مما صنعه بالقرون الماضية.
قلنا: هذا مثله ولكنه غير مأمور به لعينه بل ليعتبر حاله بحالهم فيزجروا عما استوجبوا به ما استوجبوا من العقاب، إذ المقصود من الاعتبار هو أن يتعظ بالعبرة، ومنه يقال السعيد من وعظ بغيره.
وبيان ما قلنا في القصاص، فإن الله تعالى يقول: (ولكم في القصاص حياة) وهو في العيان ضد الحياة، ولكن فيه حياة بطريق الاعتبار في شرعه واستبقائه، أما الحياة في شرعه وهو أن من قصد قتل غيره فإذا تفكر في نفسه أنه متى قتله قتل به انزجر عن قتله فتكون حياة لهما، والحياة في استبقائه أن القاتل عمدا يصير حربا لاولياء القتيل لخوفه على نفسه منهم، فالظاهر أنه يقصد قتلهم ويستعين على ذلك بأمثاله من السفهاء ليزيل
الخوف عن نفسه، فإذا استوفى الولي القصاص منه اندفع شره عنه وعن عشيرته فيكون حياة لهم من هذا الوجه، لان إحياء الحي في دفع سبب الهلاك عنه، قال تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وإذا تبين هذا المعنى فنقول: لا فرق بين حكم هو هلاك في محل باعتبار معنى هو كفر، وبين حكم هو تحريم أو تحليل في محل باعتبار معنى هو قدر وجنس، فالتنصيص على الامر بالاعتبار في أحد الموضعين يكون تنصيصا على الامر به في الموضع الآخر.
فإن قيل: الكفر في كونه علة لما استوجبوه منصوص عليه، وكذلك القتل في كونه علة للقصاص، ونحن لا ننكر هذا الاعتبار في العلة التي هي منصوصة

فذلك نحو ما روي أن ماعزا رضي الله عنه زنا وهو محصن فرجم، فإنا نثبت هذا الحكم بالزنا بعد الاحصان في حق غير ماعز، وإنما ننكر هذا في علة مستنبطة بالرأي نحو الكيل والجنس فإنكم تجعلونه علة الربا في الحنطة بالرأي، إذ ليس في نص الربا ما يوجب تعيين هذا الوصف من بين سائر أوصاف المحل دلالة ولا إشارة.
قلنا: نحن لا نثبت حكم الربا في الفروع بعلة القدر والجنس إلا من الوجه الذي ثبت حكم الرجم في حق غير ماعز بعلة الزنا بعد الاحصان، فإن ماعزا إحصانه كان موجودا قبل الزنا ثم لما ظهر منه الزنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إحصانه فلما ظهر إحصانه عنده أمر برجمه، فعرفنا يقينا أن علة ما أمر به هو ما ظهر عنده، والزنا يصلح أن يكون علة لذلك، لان المأمور به عقوبة والزنا جريمة يستوجب بها العقوبة، والاحصان لا يصلح أن يكون علة، لانها خصال حميدة، وبها يستفيد المرء كمال الحال وتتم عليه النعمة، فلا يصلح علة للعقوبة، ولكن تتغلظ الجناية بالزنا بعد وجودها، لان بحسب زيادة النعمة يزداد غلظ الجريمة، ألا ترى أن الله تعالى هدد نساء رسوله بضعف ما هدد به سائر النساء فقال تعالى: (من يأت منكن بفاحشة) الآية وكان
ذلك لزيادة النعمة عليهن، وبتغلظ الجريمة تتغلظ العقوبة فيصير رجما بعد أن كان جلدا في حق غير المحصن، فعرفنا أن الاحصان حال في الزاني يصير الزنا باعتباره موجبا للرجم فكان شرطا، وبمثل هذا الطريق تثبت علة الربا في موضع النص ثم تعدى الحكم به إلى الفروع، فإن النص قوله عليه السلام: الحنطة بالحنطة: أي بيعها، وقوله: مثل بمثل تفسير على معنى أنه إنما يكون بيعا في حال ما يكون مثلا بمثل (والفضل ربا): أي حراما بسبب الربا، فيثبت بالنص أن الفضل محرم، وقد علمنا أنه ليس المراد كل فصل، فالبيع ما شرع إلا للاستفضال والاسترباح، وإنما المراد الفضل الخالي عن العوض، لان البيع المشروع المعاوضة فلا يجوز أن يستحق به فضلا خاليا عن العوض، ثم خلو الفضل عن العوض لا يظهر يقينا بعدد الحبات والحفنات، ولا يظهر إلا بعد ثبوت المساواة قطعا في الوصف الذي صار به محلا للبيع وهو المالية، وهذه المساواة إنما يتوصل إلى معرفتها شرعا وعرفا، والشرع إنما أثبت هذه المساواة

بالكيل لا بالحبات والحفنات، فإنه قال: (كيلا بكيل) وكذلك في عرف التجار إنما يطلب المساواة بين الحنطة والحنطة بالكيل، وعند الاتلاف يجب ضمان المثل بالنص ويعتبر ذلك بالكيل، فثبت بهذا الطريق أن العلة الموجبة للحرمة ما يكون مؤثرا في المساواة حتى يظهر بعده الفضل الخالي عن المقابلة فيكون حراما، بمنزلة سائر الاشياء التي لها طول وعرض إذا قوبل واحد بآخر وبقي فضل في أحد الجانبين يكون خاليا عن المقابلة.
ثم المساواة من حيث الذات لا تعرف إلا بالجنس، ومن حيث القدر على الوجه الذي هو معتبر شرعا وعرفا.
لا يعرف إلا بالكيل، وهذه المساواة لا يتيقن إلا بعد سقوط قيمة الجودة، فأسقطنا قيمة الجودة منها عند المقابلة بجنسها
بالنص، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (جيدها ورديئها سواء) وبدليل شرعي وهو حرمة الاعتياض عنها بالنص، فإنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة رديئة ودرهم على أن يكون الدرهم بمقابلة الجودة لا يجوز، وما يكون مالا متقوما يجوز الاعتياض عنه شرعا إلا أن إسقاط قيمة الجودة يكون شرطا لا علة، لانه لا تأثير لها في إحداث المساواة في المحل، والحكم الثابت بالنص وجوب المساواة، فكان بمنزلة الاحصان لايجاب الرجم، والمساواة التي هي الحكم لما كان يثبت بالقدر والجنس عرفنا أن هذين الوصفين هما العلة، وقد وجد التنصيص عليها في حديث الربا بمنزلة الزنا فإنه منصوص عليه في حديث ماعز، وهو مؤثر في إيجاب الحكم، فعرفنا أنه علة فيه، ثم بعد ما ثبت المساواة قطعا في صفة المالية باعتبار القدر إذا كان في أحد الجانبين فضل فهو خال عن العوض فيكون ربا حراما لا يجوز أن يكون مستحقا بالبيع، وإذا جعل مشروطا في البيع يفسد به البيع، وهذا فضل ظهر شرعا، ولو ظهر شرطا بأن باع من آخر عبدا بعبد على أن يسلم إليه مع ذلك ثوبا قد عينه من غير أن يكون بمقابلة الثوب عوض فإنه لا يجوز ذلك البيع، فكذلك إذا ثبت شرعا، ألا ترى أنه لما ثبت شرعا استحقاق صفة السلامة عن العيب بمطلق البيع فإذا فات ذلك يثبت حق الرد، بمنزلة ما هو ثابت شرطا بأن يشتري عبدا على

أنه كاتب فيجده غير كاتب، وبهذا تبين أن ما صرنا إليه هو الاعتبار المأمور به، فإنه تأمل في معنى النصوص لاضافة الحكم إلى الوصف الذي هو مؤثر فيه، بمنزلة إضافة الهلاك إلى الكفر الذي هو مؤثر فيه، والرجم إلى الزنا الذي هو مؤثر فيه، وكل عاقل يعرف أن قوام أموره بمثل هذا الرأي، فالآدمي ما سخر غيره ممن في الارض إلا بهذا الرأي، وما ظهر التفاوت بينهم في الامور العاجلة إلا بالتفاوت في
هذا الرأي فالمنكر له يكون متعنتا.
ومنها قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) والاستنباط ليس إلا استخراج المعنى من المنصوص بالرأي.
وقيل المراد بأولي الامر أمراء السرايا، وقيل المراد العلماء وهو الاظهر، فإن أمراء السرايا إنما يستنبطون بالرأي إذا كانوا علماء، واستنباط المعنى من المنصوص بالرأي إما أن يكون مطلوبا لتعدية حكمه إلى نظائره وهو عين القياس، أو ليحصل به طمأنينة القلب وطمأنينة القلب إنما تحصل بالوقوف على المعنى الذي لاجله ثبت الحكم في المنصوص، وهذا لان الله تعالى جعل هذه الشريعة نورا وشرحا للصدور فقال: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه) والقلب يرى الغائب بالتأمل فيه، كما أن العين ترى الحاضر بالنظر إليه، ألا ترى أن الله تعالى قال في بيان حال من ترك التأمل: (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ثم في رؤية العين لا إشكال أنه يحصل به من الطمأنينة فوق ما يحصل بالخبر، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ليس الخبر كالمعاينة ونحن نعلم أن الضال عن الطريق (العادل) يكون ضيق الصدر، فإذا أخبره مخبر بالطريق واعتقد الصدق في خبره يتبين في صدره بعض الانشراح، وإنما يتم انشراح صدره إذا عاين أعلام الطريق العادل، فكذلك في رؤية القلب، فإنه إذا تأمل في المعنى المنصوص حتى وقف عليه يتم به انشراح صدره، وتتحقق طمأنينة قلبه، وذلك بالنور الذي جعله الله في قلب كل مسلم، فالمنع من هذا التأمل والامر بالوقوف على مواضع النص من غير طلب المعنى فيه يكون نوع حجر ورفعا

لتحقيق معنى انشراح الصدر وطمأنينة القلب الثابت بقوله تعالى: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) .
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وعندكم القياس لا يوجب العلم والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب ؟ قلنا: نعم ولكن يحصل له بالاجتهاد العلم من طريق الظاهر على وجه يطمئن قلبه وإن كان لا يدرك ما هو الحق باجتهاده لا محالة، فهو نظير قوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) فإن المراد به العلم من حيث الظاهر.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وأكثر المشروعات بخلاف المعهود المعتاد بين الناس ؟ قلنا: نعم هو بخلاف المعهود المعتاد عند اتباع هوى النفس وإشارتها، وأما إذا ترك ذلك ورجع إلى ما ينبغي للعاقل أن يرجع إليه فإنه يكون ذلك موافقا لما هو المعهود المعتاد عند العقلاء، فباعتبار هذا التأمل يحصل البيان على وجه يطمئن القلب إليه في الانتهاء، واعتقاد الحقية في النصوص فرض حق، وطلب طمأنينة القلب فيه حسن كما أخبر الله تعالى عن الخليل صلوات الله عليه: (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) .
ومنها قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) فقد بينا أن المراد به القياس الصحيح، والرجوع إليه عند المنازعة، وفيه بيان أن الرجوع إليه يكون بأمر الله وأمر الرسول.
ولا يجوز أن يقال المراد هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، لانه علق ذلك بالمنازعة، والامر بالعمل بالكتاب والسنة غير متعلق بشرط المنازعة، ولان المنازعة بين المؤمنين في أحكام الشرع قلما تقع فيما فيه نص من كتاب أو سنة، فعرفنا أن المراد به المنازعة فيما ليس في عينه نص، وأن المراد هو الامر بالرد إلى الكتاب والسنة بطريق التأمل فيما هو مثل ذلك الشئ من المنصوص، وإنما تعرف هذه المماثلة بإعمال الرأي وطلب المعنى فيه.
ثم الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في هذا
الباب أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تخفى.

فوجه من ذلك ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق المقايسة، على ما روي أنه قال لعمر حين سأله عن القبلة في حالة الصوم: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك ؟ وهذا تعليم المقايسة فإن بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة، ولا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة، كما أن بإدخال الماء في الفم يفتتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب.
وقال للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضينه ؟ فقالت: نعم، قال: فدين الله أحق وهذا تعليم المقايسة وبيان بطريق إعمال الرأي.
وقال للذي سأله عن قضاء رمضان متفرقا، أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم والدرهمين أكان يقبل منك ؟ قال: نعم، فقال: الله أحق بالتجاوز وقال للمستحاضة: إنه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صلاة فهذا تعليم للمقايسة بطريق أن النجس لما سال حتى صار ظاهرا ووجب غسل ذلك الموضع للتطهير وجب تطهير أعضاء الوضوء به.
وقال عليه السلام: الهرة ليست بنجسة لانها من الطوافين عليكم والطوافات وهذا تعليم للمقايسة باعتبار الوصف الذي هو مؤثر في الحكم فإن الطوف مؤثر في معنى التخفيف، ودفع صفة النجاسة لاجل عموم البلوى والضرورة، فظهر أنه علمنا القياس والعمل بالرأي كما علمنا أحكام الشرع، ومعلوم أنه ما علمنا ذلك لنعمل به في معارضة النصوص، فعرفنا أنه علمنا ذلك لنعمل به فيما لا نص فيه.
ووجه آخر أنه عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه بذلك، فإنه قال لمعاذ رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمن: بم تقضي ؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: بسنة رسول الله.
قال فإن لم
تجد في سنة رسول الله ؟ قال: اجتهد رأيي.
قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله وقال لابي موسى رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمين: اقض بكتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسول الله، فإن لم تجد فاجتهد رأيك وقال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: اقض بين هذين قال: على ماذا أقضي ؟ فقال على أنك إن اجتهدت فأصبت

فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة فلو لم يكن اجتهاد الرأي فيما لا نص فيه مدركا من مدارك أحكام الشرع لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته.
ووجه آخر أنه عليه السلام كان يشاور أصحابه في أمور الحرب تارة، وفي أحكام الشرع تارة، ألا ترى أنه شاورهم في أمر الاذان والقصة فيه معروفة، وشاورهم في مفاداة الاسارى يوم بدر حتى أشار أبو بكر رضي الله عنه عليه بالفداء وأشار عمر رضي الله عنه بالقتل فاستحسن ما أشار به كل واحد منهما برأيه حتى شبه أبا بكر في ذلك بإبراهيم من الانبياء حيث قال: (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) وبميكائيل من الملائكة فإنه ينزل بالرحمة، وشبه عمر بنوح من الانبياء عليهم السلام حيث قال: (لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) وبجبريل من الملائكة فإنه ينزل بالعذاب، ثم مال إلى رأي أبي بكر.
فإن قيل: ففي ذلك نزل قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم) الآية، ولو كان مستحسنا لما عوتبوا عليه.
قلنا: العتاب ما كان في المشورة بل فيما نص الله عليه بقوله: (لمسكم فيما أخذتم) ثم هذا إنما يلزم من يقول إن كل مجتهد مصيب ونحن لا نقول بهذا، ولكن نقول إعمال
الرأي والمشورة مستحسن، ثم المجتهد قد يخطئ وقد يصيب كما في هذه الحادثة، فقد شاورهما رسول الله واجتهد كل واحد منهم رأيه، ثم أصاب أحدهما دون الآخر، وبهذا تبين أن قوله: (وشاورهم في الامر) ليس في الحرب خاصة، ولكن يتناول كل ما يتأتى فيه إعمال الرأي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي بكر وعمر رضي الله عنهما يوما وقد شاورهما في شئ: قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما وقد تركهم رسول الله على المشاورة بعده في أمر الخلافة حين لم ينص على أحد بعينه مع علمه أنه لا بد لهم من ذلك، ولما شاوروا فيه تكلم كل واحد برأيه إلى أن استقر الامر على ما قاله عمر بطريق المقايسة والرأي، فإنه قال: ألا ترضون لامر

دنياكم بمن رضي به رسول الله لامر دينكم.
يعني الامامة للصلاة، واتفقوا على رأيه، وأمر الخلافة من أهم ما يترتب عليه أحكام الشرع، وقد اتفقوا على جواز العمل فيه بطريق القياس، ولا معنى لقول من يقول إن كان هذا قياسا فهو منتقض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف عبد الرحمن بن عوف ليصلي بالناس ولم يكن ذلك دليل كونه خليفة بعده، وذلك لان عمر رضي الله عنه أشار إلى الاستدلال على وجه لا يرد هذا النقض وهو أنه في حال توفر الصحابة وحضور جماعتهم ووقوع الحاجة إلى الاستخلاف، خص أبا بكر بأن يصلي بالناس بعدما راجعوه في ذلك وسموا له غيره، كل هذا قد صار معلوما بإشارة كلامه وإن لم ينص عليه، ولم يوجد ذلك في حق عبد الرحمن ولا في حق غيره.
ثم عمر جعل الامر شورى بعده بين ستة نفر، فاتفقوا بالرأي على أن يجعلوا الامر في التعيين إلى عبد الرحمن بعدما أخرج نفسه منها فعرض على علي أن يعمل برأي أبى بكر وعمر فقال:
أعمل بكتاب الله، وبسنة رسول الله، ثم أجتهد رأيي، وعرض على عثمان هذا الشرط أيضا فرضي به فقلده، وإنما كان ذلك منه عملا بالرأي لانه علم أن الناس قد استحسنوا سيرة العمرين، فتبين بهذا أن العمل بالرأي كان مشهورا متفقا عليه بين الصحابة، ثم محاجتهم بالرأي في المسائل لا تخفى على أحد، فإنهم تكلموا في مسألة الجد مع الاخوة، وشبهه بعضهم بواد يتشعب منه نهر، وبعضهم بشجرة تنبت غصنا، وقد بينا ذلك في فروع الفقه.
وكذلك اختلفوا في العول وفي التشريك فقال كل واحد منهم فيه بالرأي، وبالرأي اعترضوا على قول عمر رضي الله عنه في عدم التشريك حين قالوا: هب أن أبانا كان حمارا، حتى رجع عمر إلى التشريك، فعرفنا أنهم كانوا مجمعين على جواز العمل بالرأي فيما لا نص فيه، وكفى بإجماعهم حجة.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى برأيي.
وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي.
وقال علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إياكم وأرأيت

وأرأيت.
قلنا: أما القول بالرأي عن أبي بكر رضي الله عنه فهو أشهر من أن يمكن إنكاره، لانه قال في الكلالة: أقول قولا برأيي، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان.
وما رووا عنه قد اختلفت فيه الرواية فقال في بعضها: إذا قلت في كتاب الله تعالى بخلاف ما أراد الله.
ولئن ثبت ما رووا فإنما استبعد قوله بالرأي فيما فيه نص بخلاف النص، وهذا لا يجوز منه ولا من غيره ولا يظن به.
وأما عمر رضي الله عنه: فالقول عنه بالرأي أشهر من الشمس، وبه يتبين أن مراده بذم الرأي عند مخالفة النص أو الاعراض
عن النص فيما فيه نص والاشتغال بالرأي الذي فيه موافقة هوى النفس، وإلى ذلك أشار في قوله: أعيتهم السنة أن يحفظوها.
والقول بالرأي عن علي رضي الله عنه مشهور، فإنه قال: اجتمع رأيي ورأي عمر على حرمة بيع أمهات الاولاد ثم رأيت أن أرقهن.
وبهذا يتبين أن مراده بقوله: لو كان الدين بالرأي: أصل موضوع الشرع، وبه نقول، فإن أصل أحكام الشرع غير مبني على الرأي ولهذا لا يجوز إثبات الحكم به ابتداء.
وقد اشتهر القول بالرأي عن ابن مسعود حيث قال في المفوضة: أجتهد رأيي.
فعرفنا أن مراده ذم السؤال على وجه التعنت بعدما يتبين الحق أو التكلف فيما لا يحتاج المرء إليه، وهو نظير قوله عليه السلام: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم والآثار التي ذكرها محمد في أول أدب القاضي كلها دليل على أنهم (كانوا) مجمعين على العمل بالرأي، فإنه بدأ بحديث عمر حين كتب إلى أبي موسى: اعرف الامثال والاشباه وقس الامور عند ذلك.
وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لقد أتى علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هنالك.
الحديث.
فاتضح بما ذكرنا اتفاقهم على العمل بالرأي في أحكام الشرع.
فأما من طعن في السلف من نفاة القياس لاحتجاجهم بالرأي في الاحكام فكلامه كما قال الله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا)

* لان الله تعالى أثنى عليهم في غير موضع من كتابه كما قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه) الآية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم خير الناس فقال: خير الناس قرني الذين أنا فيهم والشريعة إنما بلغتنا بنقلهم، فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للاسلام دواؤه السيف إن لم يتب.
ومن قال منهم إن القول بالرأي كان من الصحابة على طريق التوسط والصلح
دون إلزام الحكم فهو مكابر جاحد لما هو معلوم ضرورة، لان الذين نقلوا إلينا ما احتجوا به من الرأي في الاحكام قوم عالمون عارفون بالفرق بين القضاء والصلح فلا يظن بهم أنهم أطلقوا لفظ القضاء فيما كان طريقه طريق الصلح بأن لم يعرفوا الفرق بينهما أو قصدوا التلبيس، ولا ينكر أنه كان في ذلك ما هو بطريق الصلح، كما قال ابن مسعود حين تحاكم إليه الاعرابي مع عثمان: أرى أن يأتي هذا واديه فيعطي به ثم إبلا مثل إبله وفصلانا مثل فصلانه.
فرضي بذلك عثمان.
وفي قوله فرضي به، بيان أن هذا كان بطريق الصلح، فعرفنا أن فيما لم يذكر مثل هذا اللفظ أو ذكر لفظ القضاء والحكم فالمراد به الالزام، وقد كان بعض ذلك على سبيل الفتوى، والمفتي في زماننا يبين الحكم للمستفتي ولا يدعوه إلى الصلح إلا نادرا، فكذلك في ذلك الوقت، وقد كان بعض ذلك بيانا فيما لم يكن فيه خصومة أولا تجري فيه الخصومة كالعبادات والطلاق والعتاق، نحو اختلافهم في ألفاظ الكنايات، واعتبار عدد الطلاق بالرجال والنساء وما أشبه ذلك، فعرفنا أن قول من قال لم يكن ذلك منهم إلا بطريق الصلح والتوسط، منكر من القول وزور.
ومنهم من قال: كانوا مخصوصين بجواز العمل والفتوى بالرأي كرامة لهم، كما كان رسول الله مخصوصا بأن قوله موجب للعلم قطعا، ألا ترى أنه قد ظهر منهم العمل فيما فيه نص بخلاف النص بالرأي وبالاتفاق ذلك غير جائز لاحد بعدهم، فعرفنا أنهم كانوا مخصوصين بذلك.
وبيان هذا فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لصلح بين الانصار فأذن بلال وأقام فتقدم أبو بكر رضي الله عنه للصلاة، فجاء رسول الله وهو في الصلاة - الحديث، إلى أن قال:

فأشار على أبي بكر أن أثبت في مكانك، ورفع أبو بكر رضي الله عنه يديه
وحمد الله ثم استأخر وتقدم رسول الله، وكانت سنة الامامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم معلوما بالنص، ثم تقدم أبو بكر بالرأي، وقد أمره أن يثبت في مكانه نصا، ثم استأخر بالرأي.
ولما أراد رسول الله أن يتقدم للصلاة على ابن أبي المنافق جذب عمر رضي الله عنه رداءه، وفي رواية استقبله وجعل يمنعه من الصلاة عليه والاستغفار له وكان ذلك منه بالرأي، ثم نزل القرآن على موافقة رأيه، يعني قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) ولما أراد علي أن يكتب كتاب الصلح عام الحديبية كتب: هذا ما صالح محمد رسول الله وسهيل بن عمرو على أهل مكة.
قال سهيل: لو عرفناك رسولا ما حاربناك، اكتب محمد بن عبد الله، فأمر رسول الله عليا أن يمحو رسول الله فأبى علي رضي الله عنه ذلك حتى أمره أن يريه موضعه فمحاه رسول الله بيده وكان هذا الاباء من علي بالرأي في مقابلة النص.
وقد كان الحكم للمسبوق أن يبدأ بقضاء ما سبق به ثم يتابع الامام، حتى جاء معاذ يوما وقد سبقه رسول الله ببعض الصلاة فتابعه فيما بقي ثم قضى ما فاته، فقال له رسول الله: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: وجدتك على شئ فكرهت أن أخالفك عليه.
فقال: سن لكم معاذ سنة حسنة فاستنوا بها وكان هذا منه عملا بالرأي في موضع النص ثم استصوبه رسول الله في ذلك.
وأبو ذر حين بعثه رسول الله مع إبل الصدقة إلى البادية أصابته جنابة فصلى صلوات بغير طهارة إلى أن جاء إلى رسول الله الحديث إلى أن قال له: التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء وكان ذلك منه عملا بالرأي في موضع النص.
وكذلك عمرو بن العاص أصابته جنابة في ليلة باردة فتيمم وأم أصحابه مع وجود الماء وكان ذلك منه عملا بالرأي في موضع النص ثم لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فعرفنا أنهم كانوا مخصوصين بذلك.
وكذلك ظهر منهم الفتوى بالرأي فيما لا يعرف بالرأي
من المقادير نحو حد الشرب كما قال علي رضي الله عنه فإنه ثبت بآرائنا.
ولا وجه لذلك إلى الحمل على معنى الخصوصية.

والجواب أن نقول: هذا الكلام عند التأمل فيه من جنس الطعن عليهم لا بيان الكرامة لهم، لان كرامتهم إنما تكون بطاعة الله وطاعة رسوله، فالسعي لاظهار مخالفة منهم في أمر الله وأمر الرسول يكون طعنا فيهم، ومعلوم أن رسول الله ما وصفهم بأنهم خير الناس إلا بعد علمه بأنهم أطوع الناس له، وأظهر الناس انقيادا لامره وتعظيما لاحكام الشرع، ولو جاز إثبات مخالفة الامر بالرأي لهم بطريق الكرامة والاختصاص بناء على الخيرية التي وصفهم بها رسول الله لجاز مثل ذلك لمن بعدهم بناء على ما وصفهم الله به بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) الآية، ولو جاز ذلك في فتاويهم لجاز فيما نقلوا إلينا من أحكام الشرع، فتبين أن هذا من جنس الطعن، وأنه لا بد من طلب التأويل فيما كان منهم في صورة الخلاف ظاهرا بما هو تعظيم وموافقة في الحقيقة.
ووجه ذلك بطريق الفقه أن نقول: قد كان من الامور ما فيه احتمال معنى الرخصة والاكرام أو معنى العزيمة والالزام، ففهموا أن ما اقترن به من دلالة الحال أو غيره مما يتبين به أحد المحتملين، ثم رأوا التمسك بما هو العزيمة أولى لهم من الترخص بالرخصة، وهذا أصل في أحكام الشرع.
وبيان هذا في حديث الصديق، فإن إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأن يثبت في مكانه كان محتملا معنى الاكرام له ومعنى الالزام، وعلم بدلالة الحال أنه على سبيل الترخص والاكرام له، فحمد الله تعالى على ذلك، ثم تأخر تمسكا بالعزيمة الثابتة بقوله تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) وإليه أشار بقوله: ما كان لابن
أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك كان تقدمه للامامة قبل أن يحضر رسول الله، فإن التأخير إلى أن يحضر كان رخصة، ومراعاة حق الله في أداء الصلاة في الوقت المعهود كان عزيمة، فإنما قصد التمسك بما هو العزيمة لعلمه أن رسول الله عليه السلام كان يستحسن ذلك منه، فعرفنا أنه ما قصد إلا تعظيم أمر الله وتعظيم رسول الله فيما باشره

بالرأي.
وكذلك فعل عمر رضي الله عنه بالامتناع من الصلاة على من شهد الله بكفره وهو العزيمة، لان الصلاة على الميت المسلم يكون إكراما له وذلك لا يشك فيه إذا كان المصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن التقدم للصلاة عليه كان بطريق حسن العشرة، ومراعاة قلوب المؤمنين من قراباته، فجذب عمر رداءه تمسكا بما هو العزيمة، وتعظيما لرسول الله لا قصدا منه إلى مخالفته.
وكذلك حديث علي فإنه أبى أن يمحو ذلك تعظيما لرسول الله وهو العزيمة، وقد علم أن رسول الله ما قصد بما أمر به إلا تتميم الصلح لما رأى فيه من الحظ للمسلمين بفراغ قلوبهم، ولو علم علي أن ذلك كان أمرا بطريق الالزام لمحاه من ساعته، ألا ترى أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك ستبعثني في أمر أفأكون فيه كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فبهذا تبين أنه عرف بأن ذلك الامر منه لم يكن إلزاما ورأى إظهار الصلابة في الدين بمحضر من المشركين عزيمة فتمسك به، ثم الرغبة في الصلح مندوب إليه الامام بشرط أن يكون فيه منفعة للمسلمين، وتمام هذه المنفعة في أن يظهر الامام المسامحة والمساهلة معهم فيما يطلبون، ويظهر المسلمون القوة والشدة في ذلك، ليعلم العدو أنهم لا يرغبون في الصلح لضعفهم، فلاجل هذا فعل علي رضي
الله عنه ما فعله، وكأنه تأويل قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا) وكذلك حديث معاذ رضي الله عنه، فإن السنة التي كانت في حق المسبوق من البداية بما فاته، فيها احتمال معنى الرخصة ليكون الاداء عليه أيسر، فوقف معاذ على ذلك وعرف أن العزيمة متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعتقاد الغنيمة فيما أدركه معه، فاشتغل بإحراز ذلك أولا تمسكا بالعزيمة لا مخالفة للنص.
وكذلك حديث أبي ذر إن صح أنه أدى صلاته في تلك الحالة بغير طهارة، فإن في حكم التيمم للجنب بعض الاشتباه في النص باعتبار القراءتين (أو لامستم) (أو لامستم النساء) فلعله كان عنده أن

المراد المس باليد وأنه لا يجوز التيمم للجنب كما هو مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ثم رأى أن بسبب العجز يسقط عنه فرض الطهارة في الوقت، وأن أداء الصلاة في الوقت عزيمة، فاشتغل بالاداء تعظيما لامر الله وتمسكا بالعزيمة.
وكذلك حديث عمرو بن العاص، فإنه رأى أن فرض الاغتسال ساقط عنه لما يلحقه من الحرج بسبب البرد أو لخوفه الهلاك على نفسه، وقد ثبت بالنص أن التيمم مشروع لدفع الحرج، فعرفنا أنه ليس في شئ من هذه الآثار معنى يوهم مخالفة النص من أحد منهم، وأنهم في تعظيم رسول الله كما وصفهم الله به.
وأما حد الشرب فإنما أثبتوه استدلالا بحد القذف، على ما روي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعمر: يا أمير المؤمنين إذا شرب هذي وإذا هذي افترى، وحد المفترين في كتاب الله ثمانون جلدة.
ثم الحكم الثابت بالاجماع لا يكون محالا به على الرأي، وقد بينا أن الاجماع يوجب علم اليقين والرأي لا يوجب ذلك، ثم هذا دعوى الخصوصية من غير دليل، ومن لا يرى إثبات شئ بالقياس
فكيف يرى إثبات مجرد الدعوى من غير دليل والكتاب يشهد بخلاف ذلك، فالناس في تكليف الاعتبار المذكور في قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الابصار) سواء، وهم كانوا أحق بهذا الوصف، وهذا أقوى ما نعتمده من الدليل المعقول في هذه المسألة، فإنه لا فرق بين التأمل في إشارات النص فيما أخبر الله به عن الذين لحقهم المثلات بسبب كفرهم كما قال تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) الآية، لنعتبر بذلك وننزجر عن مثل ذلك السبب، وبين التأمل في إشارات النص في حديث الربا ليعرف به أن المحرم هو الفضل الخالي عن العوض، فثبت ذلك الحكم بعينه في كل محل يتحقق فيه الفضل الخالي عن العوض مشروطا في البيع كالارز والسمسم والجص وما أشبه ذلك وقد قررنا هذا، يوضحه أن التأمل في معنى النص الثابت بإشارة صاحب الشرع بمنزلة التأمل في معنى اللسان

الثابت بوضع واضع اللغة، ثم التأمل في ذلك للوقوف على طريق الاستعارة حتى يجعل ذلك اللفظ مستعارا في محل آخر بطريقه، جائز مستقيم من عمل الراسخين في العلم، فكذلك التأمل في معاني النص لاثبات حكم النص في كل موضع علم أنه مثل المنصوص عليه، وهذا لنوعين من الكلام: أحدهما أن الله تعالى نص على أن القرآن تبيان لكل شئ بقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) ولا يتمكن أحد من أن يقول كل شئ في القرآن باسمه الموضوع له في اللغة، فعرفنا أنه تبيان لكل شئ بمعناه الذي يستدرك به حكمه، وما ثبت بالنص فإما أن يقال هو ثابت بصورة النص لا غير، أو بالمعنى الذي صار معلوما بإشارة النص، والاول باطل، فإن الله تعالى قال: (فلا تقل لهما أف) ثم أحد لا يقول إن هذا نهي عن صورة التأفيف
دون الشتم والضرب.
وكذلك قوله تعالى: (ولا يظلمون نقيرا) وقوله تعالى: (من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار) فعرفنا أن ثبوت الحكم باعتبار المعنى الذي وقعت الاشارة إليه في النص.
ثم ذلك المعنى نوعان: جلي، وخفي، ويوقف على الجلي باعتبار الظاهر، ولا يوقف على الخفي إلا بزيادة التأمل وهو المراد بقوله: (فاعتبروا) وبعدما ثبت لزوم اعتبار ذلك المعنى بالنص وإثبات الحكم في كل محل قد وجد فيه ذلك المعنى يكون إثباتا بالنص لا بالرأي وإن لم يكن صيغة النص متناولا، إلا ترى أن الحكم بالرجم على ماعز لم يكن حكما على غيره باعتبار صورته ولكن باعتبار المعنى الذي لاجله توجه الحكم عليه بالرجم كان ذلك بيانا في حق سائر الاشخاص بالنص.
والثاني أنه ما من حادثة إلا وفيها حكم لله تعالى من تحليل أو تحريم أو إيجاب أو إسقاط، ومعلوم أن كل حادثة لا يوجد فيها نص، فالنصوص معدودة متناهية ولا نهاية لما يقع من الحوادث إلى قيام الساعة، وفي تسميته حادثة إشارة إلى أنه لا نص فيها، فإن ما فيه النص يكون أصلا معهودا.
وكذلك الصحابة ما اشتغلوا باعتماد نص في كل حادثة (طلبا أو رواية، فعرفنا أنه لا يوجد نص في كل حادثة)

وقد لزمنا معرفة حكم الحادثة بالحجة بحسب الوسع فإما أن يكون الحجة استنباط المعنى من النصوص، أو استصحاب الحال كما قالوا، ومعلوم أنه ليس في استصحاب الحال إلا عمل بلا دليل ولا دليل جهل، والجهل لا يصلح أن يكون حجة باعتبار الاصل، وهو أيضا مما لا يوقف عليه، فمن المحتمل أن لا يكون عند بعض الناس فيه دليل ويكون عند بعضهم، والقياس من الوجه الذي قررنا حجة وإن كان لا يوجب علم اليقين، ألا ترى أن الشرع جوز لنا الاقدام على المباحات لقصد تحصيل المنفعة، يعني المسافرة للتجارة والمحاربة للعدو والغلبة على الاعداء
بغالب الرأي، والاجتهاد في أمر القبلة والاشتغال بالمعالجة لتحصيل صفة البرء، وكل ذلك إقدام من غير بناء على ما يوجب علم اليقين، ثم هو حسن في بعض المواضع واجب في بعض المواضع.
وكذلك تقويم المتلفات، واعتقاد المعروف في النفقات والمتعة، فإن ذلك منصوص عليه، ثم الاقدام عليه بالرأي جائز فكان ذلك عملا بالحجة، فتبين أن القياس من نوع العمل بما هو حجة في الاصل ولكنه دون الثابت من الحكم بالنص، فلا يصار إليه إلا في وضع لا يوجد فيه نظر.
فأما استصحاب الحال فهو عمل بالجهل فلا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة المحضة بمنزلة تناول الميتة.
وسنقرر هذا في بابه إن شاء الله تعالى.
فبهم التقرير يتبين أن نفاة القياس يتمسكون بالجهل، وأن فقهاء الامصار يعلمون بما هو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: (أو لم يكفهم ؟) قلنا نحن نقول بأن ما أنزل من الكتاب كذلك ولكن الاحتجاج بالقياس مما أنزل في الكتاب إشارة وإن كان لا يوجد فيه نصا فإنه الاعتبار المأمور به من قوله تعالى: (فاعتبروا) وبهذا يتبين أن الحكم به حكم بما أنزل الله فيضعف به استدلالهم بقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) وبه يتبين أنه من جملة ما تناوله قوله تعالى: (تبيانا لكل شئ) وقوله تعالى: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وقد قيل المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، وبهذا يتبين أن العمل بالقياس

لا يكون تقدما بين يدي الله ورسوله بل هو ائتمار بأمر الله وأمر رسوله، وسلوك طريق قد علم رسول الله أمته بالوقوف به على أحكام الشرع، وهذا لانا إنما نثبت الحكم في الفروع بالعلة المؤثرة، والعلة ما صارت مؤثرة بآرائنا بل بجعل الله إياها مؤثرة، وإنما إعمال الرأي في تمييز الوصف المؤثر من سائر
أوصاف الاصل وإظهار التأثير فيه فلا يكون العمل فيه عملا بالرأي، إنما التقدم بين يدي الله ورسوله فيما ذهب إليه الخصم من القول بأن العمل بالقياس باطل، لانه لا يجد ذلك في كتاب الله نصا، وهو لا يجوز الاستنباط ليقف به على إشارة النص فيكون ذلك قولا بغير حجة، ثم يكون عاملا في الاحكام بلا دليل، وقد بينا أن هذا لا يصلح أن يكون حجة أصلية.
وأما قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم) فالمذكور هو علم منكر في موضع النفي والنكرة في موضع النفي تعم، فاستعمال الرأي يثبت نوع علم من طريق الظاهر وإن كان لا يثبت علم اليقين، وبالاتفاق علم اليقين ليس بشرط لوجوب العمل ولا لجوازه، فإن العمل بخبر الواحد واجب ولا يثبت به علم اليقين، والعمل بالرأي في الحرب جائز، وفي باب القبلة عند الاشتباه واجب، وفي المعالجة بالادوية جائز وإن كان شئ من ذلك لا يوجب علم اليقين، وهذا لان التكليف بحسب الوسع وليس في وسعنا تحصيل علم اليقين في حكم كل حادثة، والحرج مدفوع، ففي إثبات الحجر عن إعمال الرأي في الحوادث التي لا نص فيها من الحرج ما لا يخفى.
ثم لا إشكال أن ما يثبت من العلم بطريق القياس فوق ما يثبت باستصحاب الحال، لان استصحاب الحال إنما يكون دليلا عندهم لعدم الدليل المغير، وذلك مما لا يعلم يقينا، قد يجوز أن يكون الدليل المغير ثابتا وإن لم يبلغ المبتلى به، ولهذا لا تقبل البينة على النفي في باب الخصومات وتقبل على الاثبات باعتبار طريق لا يوجب علم اليقين، فإن الشهادة بالملك لظاهر اليد أو اليد مع التصرف تكون مقبولة وإن كانت لا توجب علم اليقين.
فأما قوله تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) قلنا ما يظهر عند استعمال الرأي بالوصف المؤثر حق في حقنا وإن كنا لا نعلم أنه هو الحق عند الله تعالى، ألا ترى أن المتحري في باب القبلة يلزمه التوجه إلى الجهة التي يستقر عليها الرأي، ومعلوم أنه لا يلزمه مباشرة ما ليس بحق أصلا،

فعرفنا أنه حق عندنا وإن كنا لا نقطع القول بأنه الحق عند الله تعالى، فقد يصيب المجتهد ذلك باجتهاده وقد يخطئ، ثم التكليف بحسب الوسع وليس في وضعنا الوقوف على ما هو حق عند الله لا محالة، وإنما الذي في وسعنا طلبه بطريق الاعتبار الذي أمرنا به وبعد إصابة ذلك الطريق يلزمنا العمل به فكذلك في الاحكام، وما أشاروا إليه من الفرق بين ما هو محض حق الله تعالى وبين ما فيه حق العباد ليس بقوي، لان المطلوب هنا جهة القبلة لاداء ما هو محض حق الله تعالى والله تعالى موصوف بكمال القدرة، ومع ذلك أطلق لنا العمل بالرأي فيه، إما لتحقيق معنى الابتلاء، أو لانه ليس في وسعنا ما هو أقوى من ذلك بعد انقطاع الادلة الظاهرة، وهذا المعنى بعينه موجود في الاحكام، ثم الاحتمال الذي يبقى بعد استعمال الرأي بمنزلة الاحتمال في خبر الواحد، فإن قول صاحب الشرع موجب علم اليقين وإنما يثبت في حقنا العلم والعمل به إذا بلغنا ذلك، وفي البلوغ والاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم احتمال، فكذلك الحكم في المنصوص ثابت بالنص على وجه يوجب علم اليقين، وفيه معنى هو مؤثر في الحكم شرعا ولكن في بلوغ الآراء وإدراك ذلك المعنى نوع احتمال، فلا يمنع ذلك وجوب العمل به عند انعدام دليل هو أقوى منه، ولهذا شرطنا للعمل بالرأي أن تكون الحادثة لا نص فيها من كتاب ولا سنة، فتبين أن فيما قلنا مبالغة في المحافظة على النصوص بظواهرها ومعانيها، فإنه ما لم يقف على النصوص لا يعرف أن الحادثة لا نص فيها وما لم يقف على معاني النصوص لا يمكنه أن يرد الحادثة إلى ما يكون مثلها من النصوص، ثم مع ذلك فيه تعميم المعنى في الفروع وتعظيم ما هو حق الله تعالى، فإن اعتقاد الحقية في الحكم المنصوص ثابت بالنص، ومعنى شرح الصدر وطمأنينة
القلب ثابت بالوقوف على المعنى.
ولا معنى لاستدلالهم باختلاف أحكام النصوص، لانا إنما نجوز استعمال الرأي عند معرفة معاني النصوص وإنما يكون هذا فيما يكون معقول المعنى، فأما فيما لا يعقل المعنى فيه فنحن لا نجوز إعمال الرأي لتعدية الحكم إلى ما لا نص فيه، وسيأتيك بيان هذا في شرط القياس، ويتبين بهذا أن مراد رسول الله

صلى الله عليه وسلم بذم الرأي فيما رووا من الآثار الرأي الذي ينشأ عن متابعة هوى النفس، أو الرأي الذي يكون المقصود منه رد المنصوص نحو ما فعله إبليس، فأما الرأي الذي يكون المقصود به إظهار الحق من الوجه الذي قلنا لا يكون مذموما، ألا ترى أن الله تعالى أمر به في إظهار قيمة الصيد بقوله: (يحكم به ذوا عدل منكم) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك أصحابه والصحابة عن آخرهم أجمعوا على استعماله من غير نكير من أحد منهم على من استعمله، فكيف يظن بهم الاتفاق على ما ذمه رسول الله أو جعله مدرجة الضلال، هذا شئ لا يظنه إلا ضال، والله أعلم.
فصل: في بيان ما لا بد للقياس من معرفته قال رضي الله عنه: وذلك معنى القياس لغة، فالصورة بلا معنى يكون فاسدا من الدعوى، ثم شرطه فإن وجود الشئ على وجه يكون معتبرا شرعا لا يكون إلا بوجود شرطه، ثم ركنه فقوام الشئ يكون بركنه، ثم حكمه فإن الشئ إنما يخرج من حد العبث والسفه إلى حد الحكمة بكونه مفيدا، وذلك إنما يكون بحكمه، ثم بالدفع بعد ذلك فإن تمام الالزام إنما يتبين بالعجز عن الدفع.
فأما الاول فهو معرفة القياس لغة، فنقول: للقياس تفسير هو المراد بصيغته، ومعنى هو المراد بدلالته، بمنزله فعل الضرب فإن له تفسيرا هو المعلوم بصورته
وهو إيقاع الخشبة على جسم، ومعنى هو المراد بدلالته وهو الايلام.
فأما تفسير صيغة القياس فهو التقدير، يقال: قس النعل بالنعل: أي قدره به، وقاس الطبيب الجرح إذا سبره بالمسبار ليعرف مقدار غوره، وبهذا يتبين أن معناه لغة في الاحكام: رد الشئ إلى نظيره ليكون مثلا له في الحكم الذي وقعت الحاجة إلى إثباته، ولهذا يسمى ما يجري بين المناظرين مقايسة، لان كل واحد منهما يسعى ليجعل جوابه في الحادثة مثلا لما اتفقا على كونه أصلا بينهما، يقال: قايسته مقايسة وقياسا، ويسمى ذلك نظرا أيضا إذ لا يصاب إلا بالنظر عن إنصاف، ويسمى ذلك اجتهادا مجازا أيضا لان ببذل المجهود يحصل هذا المقصود.

وأما المعنى الذي هو المراد بدلالته، وهو أنه مدرك من مدارك أحكام الشرع، ومفصل من مفاصله، وإنما يتبين هنا ببسط الكلام فنقول: إن الله تعالى ابتلانا باستعمال الرأي والاعتبار، وجعل ذلك موضوعا على مثال ما يكون بين العباد مما شرعه من الدعوى والبينات، فالنصوص شهود على حقوق الله تعالى وأحكامه بمنزلة الشهود في الدعاوى، ومعنى النصوص (شهادته، بمنزلة) شهادة الشاهد، ثم لا بد من صلاحية الشاهد بكونه حرا عاقلا بالغا، فكذلك لا بد من صلاحية النص لكونه شاهدا بكونه معقول المعنى، ولا بد من صلاحية الشهادة بوجود لفظها، فكذلك لا بد من صلاحية الوصف الذي هو بمنزلة الشهادة، وذلك بأن يكون ملائما للحكم أو مؤثرا فيه على ما نبين الاختلاف فيه، ولا بد مما هو قائم مقام الطالب فيه وهو القائس، ولا بد من مطلوب وهو الحكم الشرعي، فالمقصود تعدية الحكم إلى الفروع، ولا بد من مقضي عليه وهو عقد القلب ليترتب عليه العمل بالبدن إن كان يحاج نفسه، وإن كان يحاج غيره فلا بد
من خصم هو كالمقضي عليه من حيث إنه يلزمه الانقياد له، ولا بد من قاض فيه وهو القلب بمنزلة القاضي في الخصومات، ثم بعد اجتماع هذه المعاني يتمكن المشهود عليه من الدفع كما في الدعوى المشهود عليه يتمكن من الدفع بعد ظهور الحجة فإن تمام الالزام إنما يتبين بالعجز عن الدفع، وربما يخالفنا في بعض هذا الشافعي وغيره من العلماء أيضا.
فصل: في تعليل الاصول قال فريق من العلماء: الاصول غير معلولة في الاصل ما لم يقم الدليل على كونه معلولا في كل أصل.
وقال فريق آخر: هي معلولة إلا بدليل مانع، والاشبه بمذهب الشافعي رحمه الله أنها معلولة في الاصل إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل مميز، والمذهب عند علمائنا أنه لا بد مع هذا من قيام دليل يدل على كونه معلولا في الحال، وإنما يتبين هذا في مسألة

الذهب والفضة، فإن استدلال من يستدل من أصحابنا على كون الحكم الثابت فيهما معلولا بأن الاصول في الاصل معلولة لا يكون صحيحا حتى يثبت بالدليل أن النص الذي فيهما معلول في الحال.
وحجة الفريق الاول أن الحكم في المنصوص قبل التعليل ثابت بصيغة النص وفي التعليل تغيير لذلك الحكم حتى يكون ثابتا بالوصف الذي هو المعنى في المنصوص، فيكون ذلك بمنزلة المجاز من الحقيقة، ولا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل، بل أولى، فالمجاز أحد نوعي اللسان والمعنى الذي يستنبط من المنصوص ليس من نوع اللسان في شئ، يوضحه أن المعاني تتعارض في المنصوص وباعتبار المعارضة لا يتعين وصف منها بل كل وصف يحتمل أن يكون هو المعنى الموجب للحكم فيه والمحتمل لا يكون حجة، ولا بد من ترجيح
بعض الاوصاف عند الاشتغال بالتعليل، والترجيح بعد المعارضة لا يكون إلا بالدليل، على أنا نفهم من خطاب الشرع ما نفهم من مخاطباتنا، ومن يقول لغيره أعتق عبدي، هذا لم يكن له أن يصير إلى التعليل في هذا الامر، فكذلك في مخاطبات الشرع لا يجوز المصير إلى التعليل حتى يقوم الدليل.
وحجة الفريق الثاني أن الدليل الذي دل على صحة القياس وجواز العمل به يكون دليلا على جواز التعليل في كل أصل، فإن ما هو طريق التعليل وهو الوقوف على معنى النص والوصف الذي هو صالح لان يكون علة للحكم موجود في كل نص، فيكون جواز التعليل أصلا في كل نص، وتكون صفة الصلاحية أصلا في كل وصف، فيكون التعليل به أصلا ما لم يظهر المانع، بمنزلة العمل بالاخبار، فإن وجوب العمل بكل خبر ثبت عن صاحب الشرع هو الاصل حتى يمنع منه مانع، ولا تتحقق المعارضة الموجبة للتوقف بمجرد اختلاف الآثار عند إمكان العمل بالكل، فكذلك لا تثبت المعارضة الموجبة للتوقف عند كثرة أوصاف الاصل مع إمكان العمل بالكل إلا أن يمنع من ذلك مانع، وليس هذا نظير خطاب العباد في معاملاتهم، فإن ذلك مما لا نشتغل فيه

بطلب المعنى، لجواز أن يكون خاليا عن معنى مؤثر وعن حكمة حميدة بخلاف خطاب الشرع، ألا ترى أن هناك وإن كان التعليل فيه منصوصا لا يصار إلى التعدية، فإنه لو قال أعتق عبدي هذا فإنه أسود لم يكن له أن يعدي الحكم بهذا التعليل إلى غيره، وفي خطاب الشرع فيما يكون التعليل منصوصا يثبت حكم التعدية بالاتفاق، كقوله عليه السلام: الهرة ليست بنجسة لانها من الطوافين عليكم والطوافات ودعواهم أن في التعليل تغيير الحكم كلام باطل، فإن الحكم في المنصوص بعد التعليل ثابت بالنص كما كان قبل التعليل، وإنما
التعليل لتعدية الحكم إلى محل آخر لا نص فيه على ما نبينه في فصل الشرط، فعرفنا أن أثر التعليل في المنصوص من حيث شرح الصدر وطمأنينة القلب، وذلك تقرير للحكم لا تغيير كالوقوف على معنى اللسان.
وقولهم إن في كل وصف احتمالا، قلنا: لا كذلك بل الاصل في النصوص وجوب التعليل لتعميم الحكم على ما قررنا، فبعد هذا في كل وصف احتمال أنه ليس بمراد بعد قيام الدليل على كونه حجة (وما ثبت حجة بالدليل فإنه لا يخرج بالاحتمال من أن يكون حجة) وإنما يثبت ذلك بالدليل المانع.
وأما الشافعي فإنه يقول: قد علمنا بالدليل أن علة النص أحد أوصافه لا كل وصف منه، فإن الصحابة اختلفوا في الفروع باختلافهم في الوصف الذي هو علة في النص، فكل واحد منهم ادعى أن العلة ما قاله، وذلك اتفاق منهم أن أحد الاوصاف هو العلة، ثم ذلك الوصف مجهول والمجهول لا يصلح استعماله مع الجهالة لتعدية الحكم فلا بد من دليل التمييز بينه وبين سائر الاوصاف حتى يجوز التعليل به، فإنه لا يجوز التعليل بسائر الاوصاف لاتفاق الصحابة على ذلك وعلمنا ببطلان التعليل في مخالفة الاجماع.
ثم على أصله التعليل تارة يكون للمنع من التعدية، وتارة يكون لاثبات التعدية، ولا شك أن الوصف الذي به يثبت الحجر عن التعدية غير الوصف الذي يثبت به حكم التعدية، فما لم يتميز أحد الوصفين من الآخر بالدليل لا يجوز تعليل النص.

وأما علماؤنا فقد شرطوا الدليل المميز، ولكن بطريق آخر سوى ما ذكره الشافعي على ما نذكره في بابه (إن شاء الله) وشرطوا قبل ذلك أن يقوم الدليل في الاصل على كونه معلولا في الحال، لان النصوص نوعان: معلول، وغير معلول، والمصير إلى التعليل في كل نص، بعد زوال
هذا الاحتمال، وذلك لا يكون إلا بدليل يقوم في النص على كونه معلولا في الحال.
وإنما نظيره مجهول الحال إذا شهد، فإنه ما لم نثبت حريته بقيام الدليل عليه لا تكون شهادته حجة في الالزام، وقبل ثبوت ذلك بالدليل الحرية ثابتة بطريق الظاهر، ولكن هذا يصلح للدفع لا للالزام، فكذلك الدليل الذي دل في كل نص على أنه معلول ثابت من طريق الظاهر وفيه احتمال، فما لم يثبت بالدليل الموجب لكون هذا النص معلولا لا يجوز المصير إلى تعليله لتعدية الحكم إلى الفروع، ففيه معنى الالزام، وهو نظير استصحاب الحال، فإنه يصلح حجة للدفع لا للالزام لبقاء الاحتمال فيه.
فإن قيل: أليس أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله جائز ما لم يقم الدليل المانع، وقد ظهرت خصوصيته في بعض الافعال، ثم لم يوجب ذلك الاحتمال في كل فعل حتى يقال لا يجوز الاقتداء به إلا بعد قيام الدليل ؟ قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام مقتدى به، ما بعث إلا ليأخذ الناس بهديه وهداه، فيكون الاقتداء به هو الاصل وإن كان قد يجوز أن يكون هو مخصوصا ببعض الاشياء، ولكن الخصوصية في حقه بمنزلة دليل التخصيص في العموم والعمل بالعام مستقيم حتى يقوم دليل التخصيص، فكذلك الاقتداء به في أفعاله.
فأما هنا فاحتمال كون النص غير معلول ثابت في كل أصل مثل احتمال كونه معلولا، فيكون هذا بمنزلة المجمل فيما يرجع إلى الاحتمال، والعمل بالمجمل لا يكون إلا بعد قيام دليل هو بيان، فكذلك تعليل الاصول، يوضحه أن هناك

قد قام الدليل الموجب لعلم اليقين على جواز الاقتداء به مطلقا، وهو قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وههنا الدليل هو صلاحية الوصف الموجود في النص، وذلك إنما يعلم بالرأي فلا ينعدم به احتمال كون النص غير
معلول، لانا قد بينا أن في تعليل النص معنى الابتلاء، والابتلاء بما يكون غير معلول من النصوص أظهر، وبعدما تحققت المساواة في معنى الابتلاء لا بد من قيام الدليل في المنصوص على أنه معلول للحال.
وبيان هذا في الذهب والفضة، فإن حكم الربا ثابت فيهما بالنص وهو معلول عندنا بعلة الوزن.
وأنكر الشافعي هذا فيحتاج إلى أن يثبت بالدليل أنه معلول.
وفيه نوعان من الدليل: أحدها قوله عليه السلام: يد بيد ففيه إيجاب التعيين وهو متعد إلى الفروع لانه لا بد من تعيين أحد البدلين في كل عقد، فإن الدين بالدين حرام بالنص وذلك ربا، كما قال عليه السلام: إنما الربا في النسيئة ثم وجوب التعيين في البدل الآخر هنا لاشتراط المساواة، فالمساواة في البدلين عند اتفاق الجنس شرط بقوله عليه السلام: مثل بمثل وعند اختلاف الجنس المساواة في العينية شرط بقوله عليه الصلاة والسلام: وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد وهذا حكم متعد إلى الفروع، فإن الشافعي يشترط التقايض في بيع الطعام بالطعام مع اختلاف الجنس بهذا النص، ونحن لا نجوز بيع قفيز من حنطة بعينها بقفيز من شعير بغير عينه غير مقبوض في المجلس وإن كان موصوفا وحل التفاضل بينهما، لان بترك التعيين في المجلس ينعدم المساواة في اليد باليد، وشرطنا القبض في رأس مال السلم في المجلس لتحقيق معنى التعيين، فعرفنا أنه معلول، والتعليل بالثمنية يمنع التعدية، فباعتبار كونه معلولا يكون متعديا إلى الفروع، فالوصف الذي يمنع التعدية لا يقدح فيه ولا يخرجه من أن يكون شاهدا، بمنزلة صفة الجهل في الشاهد فإنه لا يكون طعنا في شهادته لانه لا يخرج به من أن يكون أهلا للولاية، والشهادة تبتنى على ذلك، بخلاف صفة الرق فإن الطعن به يمنع العمل بشهادته حتى تثبت حريته بالحجة، لانه يخرج به من أن يكون أهل الولاية والصلاحية للشهادة تبتنى على

ذلك.
ومثال هذا أيضا ما قاله الشافعي في تحريم الخمر إنه معلول من غير قيام الدليل فيه على كونه معلولا، بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول، وهو قوله عليه السلام: حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب وإثبات الحرمة وصفة النجاسة في بعض الاشربة المسكرة لا يكون تعدية للحكم الثابت في الخمر، ألا ترى أنه لا يثبت على ذلك الوجه حتى لا يكفر مستحله، ولا يكون التقدير في النجاسة فيه كالتقدير في الخمر، وإنما تلك حرمة ثابتة باعتبار نوع من الاحتياط، فلا يتبين به كون النص معلولا.
ثم تعليل النص قد يكون تارة بالنص، نحو قوله تعالى: (كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم) وقول النبي عليه السلام لبريرة: ملكت بضعك فاختاري وقد يكون بفحوى النص كقول النبي عليه السلام في السمن الذي وقعت فيه فأرة: إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا ما بقي، وإن مائعا فأريقوه فإن في هذا إشارة إلى أنه معلول بعلة مجاورة النجاسة إياه.
وكذلك خبر الربا من هذا النوع كما بينا، وقد يكون بالاستدلال بحكم النص كقوله عليه السلام في دم الاستحاضة: إنه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صلاة.
وقد يكون على اتفاق القائلين بالقياس على كونه معلولا، فعند وجود شئ من هذه الادلة في النص سقط اعتبار احتمال كونه غير معلول.
فصل: في ذكر شرط القياس وإنما قدمنا الشرط لان الشرعيات لا تصير موجودة بركنها قبل وجود الشرط، ألا ترى أن من أراد النكاح فلا بد له من أن يبدأ بإحضار الشهود، ومن أراد الصلاة لم يجد بدا من البداية بالطهارة وستر العورة.
وهذه الشروط خمسة: أحدها أن لا يكون حكم الاصل مخصوصا به بنص
آخر، والثاني أن لا يكون معدولا به عن القياس، والثالث أن لا يكون التعليل للحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه حتى يتعدى به إلى فرع هو نظيره ولا نص

فيه، والرابع أن يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله، والخامس أن لا يكون التعليل متضمنا إبطال شئ من ألفاظ المنصوص.
أما الاول: فلان التعليل لتعدية الحكم، وذلك يبطل التخصيص الثابت بالنص، فكان هذا تعليلا في معارضة النص لدفع حكمه والقياس في معارضة النص باطل.
وأما الثاني: فلان التعليل يكون مقايسة والحكم المعدول به عن القياس الثابت بالنص لا مدخل للقياس فيه على موافقة النص، ولا معتبر بالقياس فيه على مخالفة النص، لان المقصود بالتعليل إثبات الحكم به في الفرع والقياس ينفي هذا الحكم، ولا يتحقق الاثبات بحجة النفي كما لا يتحقق التحليل بما هو حجة التحريم.
وأما الثالث: فلان المقايسة إنما تكون بين شيئين ليعلم به أنهما مثلان فلا تصور له في شئ واحد ولا في شيئين مختلفين لا تتحقق المماثلة بينهما، فإذا لم يتعد الحكم بالتعليل عن المنصوص عليه يكون شيئا واحدا لا تتحقق فيه المقايسة، وإذا كانا مختلفين لا يصيران بالتعليل مثلين، ومحل الانفعال شرط كل فعل وقول كمحل هو حي فإنه شرط ليكون صدمه ضربا وقطعه قتلا، واشتراط كونه حكما شرعيا، لان الكلام في القياس على الاصول الثابتة شرعا، وبمثل هذا القياس لا يعرف إلا حكم الشرع، فإن الطب واللغة لا يعرف بمثل هذا القياس.
وأما الرابع: فلان العمل بالقياس يكون بعد النص، وفي الحكم الثابت بالنص
لا مدخل للقياس في التغيير كما لا مدخل له في الابطال، فإذا لم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله كان هذا بيانا مغيرا لحكم النص أو مبطلا له، ولا معتبر بالقياس في معارضة النص.
وأما الخامس: فلان النص مقدم على القياس بلفظه ومعناه، فكما لا يعتبر

القياس في معارضة النص بإبطال حكمه لا يعتبر في ممارسته بإبطال لفظه.
وفي بعض هذه الفصول يخالفنا الشافعي رحمه الله على ما نبينه.
فأما المثال الاول وهو أن العدد معتبر في الشهادات المطلقة بالنص، وقد فسر الله تعالى الشاهدين برجلين أو رجل وامرأتين وذلك تنصيص على أدنى ما يكون من الحجة لاثبات الحق، ثم خص رسول الله صلى الله عليه وسلم خزيمة رضي الله عنه بقبول شهادته وحده، فكان ذلك حكما ثبت بالنص اختصاصه به كرامة له، فلم يجز تعليله أصلا حتى لا يثبت ذلك الحكم في شهادة غير خزيمة ممن هو مثله أو دونه أو فوقه في الفضيلة لان التعليل يبطل خصوصيته.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بأن حل له تسع نسوة فقد ثبت بالنص أن الحل بالنكاح يقتصر على الاربعة ثم ظهرت خصوصية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالزيادة بنص آخر فلم يكن ذلك قابلا للتعليل.
وكذلك ظهرت خصوصيته بالنكاح (بغير مهر بالنص فلم يكن ذلك قابلا للتعليل.
وقال الشافعي: قد ظهرت خصوصيته بالنكاح) بلفظ الهبة بالنص وهو قوله تعالى: (خالصة لك من دون المؤمنين) فلم يجز التعليل فيه لتعدية الحكم إلى نكاح غيره.
ولكنا نقول: المراد بالنص الموجب للتخصيص ملك البضع نكاحا بغير مهر، فإنه ذكر فعل الهبة وذلك يقتضي مصدرا، ثم قوله تعالى: (خالصة لك) نعت ذلك المصدر: أي إن وهبت
نفسها للنبي هبة خالصة، بدليل قوله تعالى: (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) : أي من الابتغاء بالمال المقدر، فالفرض عبارة عن التقدير وذلك في المال يكون لا في لفظ النكاح والتزويج، أو المراد اختصاصه بالمرأة حتى لا تحل لاحد بعده فيتأدى هو بكون الغير شريكا له في فراشها من حيث الزمان، وعليه دل قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) ألا ترى أن معنى الكرامة بالاختصاص إنما تظهر فيما يتوهم فيه الحرج بإلزامه إياه وذلك

لا يتحقق في اللفظ، فقد كان أفصح العرب لا يلحقه الحرج في لفظ النكاح والتزويج.
ومن هذه الجملة اشتراط الاجل في السلم، فإنه حكم ثابت بالنص في هذا العقد خاصا، وهو قوله عليه السلام: من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.
فلا يجوز المصير فيه إلى التعليل حتى يجوز السلم حالا بالقياس على البيع بعلة أنه نوع بيع، لان الاصل في جواز البيع اشتراط قيام المعقود عليه في تلك العاقد والقدرة على التسليم، حتى لو باع ما لا يملكه ثم اشتراه فسلمه لا يجوز، ثم ترك هذا الاصل في السلم رخصة بالنص وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم وهذا لان المسلم فيه غير مقدور التسليم للعاقد عند العقد، ولا يصير مقدور التسليم له بنفس العقد، لان العقد سبب للوجوب عليه وقدرته على التسليم يكون بما له لا بما عليه، ولكنه محتاج إلى مباشرة هذا العقد لتحصيل البدل مع عجزه عن تسليم المعقود عليه في الحال، وقدرته على ذلك بعد مضي مدة معلومة بطريق العادة
إما بأن يكتسب أو يدرك غلاته بمجئ أوانه، فجوز الشرع هذا العقد مع عدم المعقود عليه في ملكه رخصة لحاجته، ولكن بطريق يقدر على التسليم عند وجوب التسليم عادة وذلك بأن يكون مؤجلا، فلم يجز التعليل فيه لكونه حكما خاصا ثبت الخصوصية فيه بالنص كما بينا.
وكذلك قلنا: المنافع لا تضمن بالاتلاف والغصب، لان وجوب الضمان يستدعي المالية والتقوم في المتلف وذلك لا يسبق الاحراز ولا تصور للاحراز في المنافع، ثم ثبوت المالية والتقوم فيها بالعقد حكم خاص ثبت بالنص، فلم يكن قابلا للتعليل.
وكذلك إثبات المعادلة بينهما وبين الاعيان في موجب العقد الفاسد، والصحيح حكم خاص فيها، لانه لا مماثلة بين المنافع وبين الاعيان باعتبار الاصل، فالعين جوهر يقوم به العرض، والمنفعة عرض يقوم بالجوهر،

والمنافع لا تبقى وقتين والعين تبقى، وبين ما يبقى وبين ما لا يبقى تفاوت، فعرفنا أن ثبوت المساواة بينهما في مقتضى العقد حكم خاص ثابت بالنص فلا يقبل التعليل.
وكذلك إلزام العقد على المنافع قبل وجودها حكم خاص ثبت للحاجة أو للضرورة، من حيث إنه لا يتصور العقد عليها بعد الوجود، لان الموجود لا يبقى إلى وقت التسليم، وما لا يتأتى فيه التسليم بحكم العقد لا يكون محلا للعقد، فلا يجوز تعدية هذا الحكم بالتعليل إلى المحل الذي يتصور العقد عليه بعد الوجود، وهو نظير حل الميتة عند المخمصة، فإن ثبوته لما كان بطريق الضرورة لم يجز تعليله لتعدية ذلك الحكم إلى محل آخر.
ومثال الفصل الثاني ما قال أبو حنيفة رحمه الله في جواز التوضي بنبيذ التمر، فإنه حكم معدول به عن القياس بالنص فلم يكن قابلا للتعليل حتى لا يتعدى ذلك الحكم (إلى سائر الانبذة، ووجوب الطهارة بالقهقهة في الصلاة
حكم معدول به عن القياس بالنص فلم يكن قابلا للتعليل حتى لا يتعدى الحكم) إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، لان النص ورد في صلاة مطلقة وهي ما تشتمل على جميع أركان الصلاة.
وكذلك بقاء الصوم مع الاكل والشرب ناسيا، فإنه معدول به عن القياس بالنص، لان ركن الصوم ينعدم بالاكل مع النسيان، والركن هو الكف عن اقتضاء الشهوات، وأداء العبادة بعد فوات ركنها لا يتحقق، فعرفنا أنه عن معدول به عن القياس فلم يجز تعدية الحكم فيه إلى المخطئ والمكره والنائم يصب في حلقه بطريق التعليل.
فإن قيل: قد عديتم حكم النص إلى الجماع، وقد ورد في الاكل والشرب وكان ذلك بطريق التعليل.
قلنا: لا كذلك بل قد ثبت بالنص المساواة بين الاكل والشرب والجماع في حكم الصوم، وإن ركن الصوم هو الكف عن اقتضاء الشهوتين جميعا فيكون الحكم الثابت (بالنص)

في أحدهما ثابتا في الآخر بالنص أيضا لا بالمقايسة، لانه ليس بينهما فرق في حكم الصوم الشرعي سوى اختلاف الاسم، فإن الاقدام على كل واحد منهما فيه تفويت ركن الصوم، لانه جناية على محل الفعل من بضع أو طعام، وهو نظير جزء الرقبة مع شق البطن فإنهما فعلان مختلفان في الاسم، وكل واحد منهما قتل موجب للقود بالنص لا بالقياس.
وكذلك من به سلس البول يتوضأ لوقت كل صلاة كالمستحاضة، وكان الحكم في كل واحد منهما ثابتا بالنص لا بالقياس، لان النص ورد عند استدامة العذر.
وعلى هذا قلنا: من سبقه الحدث في خلال الصلاة بأي وجه سبقه فإنه يتوضأ ويبني على صلاته بالنص، وذلك حكم معدول به عن القياس، وإنما ورد النص في القئ
والرعاف، ثم جعل ذلك ورودا في سائر الاحداث الموجبة للوضوء ولم يجعل ورودا في الحدث الموجب للاغتسال لتحقق المغايرة فيما بينهما.
فإن قيل: فكذلك نقول في المكره والخاطئ، فالمساواة بينهما وبين الناسي ثابت من حيث إن كل واحد منهما غير قاصد إلى الجناية على الصوم.
قلنا: نعم ولكن هذا إنما يستقيم إذا ثبت أن القصد معتبر في تفويت ركن الصوم، وإذا كان القصد لا يعتبر في تحقق ركن الصوم حتى إن من كان مغمى عليه في جميع النهار يتأدى ركن الصوم منه، فكذلك ترك القصد لا يمنع تحقق فوات ركن الصوم، وكذلك مع عدم القصد قد يتحقق فوات ركن الصوم وانعدام الاداء به، فإن من أغمى قبل غروب الشمس وبقي كذلك إلى آخر الغد فإنه لا يكون صائما، وإن انعدم منه القصد إلى ترك الصوم، ثم لا مساواة أيضا بين الخاطئ والمكره وبين الناسي فيما يرجع إلى عدم القصد، فإن الخاطئ إنما انعدام القصد منه باعتبار قصده إلى المضمضة، وإنما ابتلي بالشرب خطأ بطريق يمكن التحرز عنه.
وأما الناسي فانعدم القصد منه لعدم علمه بالصوم أصلا وذلك بنسيان لا صنع له فيه، وإليه أشار عليه السلام في قوله: إن الله أطعمك وسقاك ولما كان سبب العذر ممن له الحق على وجه لا صنع للعباد فيه استقام أن يجعل الركن باعتباره

قائما حكما، فأما في المكره والنائم سبب العذر جاء من جهة العباد، والحق في أداء الصوم لله فلم يكن هذا في (معنى) سبب كان ممن له الحق، ألا ترى أن المريض يصلي قاعدا ثم لا تلزمه الاعادة إذا برأ، والمقيد يصلي قاعدا ثم تلزمه الاعادة إذا رفع القيد عنه.
وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: الذي شج في صلاته لا يبني بعد الوضوء، والذي ابتلي بقئ
أو رعاف يبني على صلاته بعد الوضوء، لما أن ذلك حكم معدول به عن القياس بالنص فلم يجز التعليل فيه، وما يبتنى على صنع العباد ليس نظير ما لا صنع للعباد من كل وجه.
ومن هذه الجملة قلنا: حل الذبيحة مع ترك التسمية ناسيا حكم معدول به عن القياس بالنص، فلم يجز تعليله لتعدية الحكم إلى العامد ولا مساواة بينهما، فالناسي معذور غير معرض عن ذكر اسم الله تعالى، والعامد جان معرض عن ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة.
ومن أصحابنا من ظن أن المستحسنات كلها بهذه الصفة وليس كما ظن، فالمستحسن قد يكون معدولا به عن القياس، وقد يكون ثابتا بنوع من القياس إلا أنه قياس خفي على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى.
ومن أصحابنا من ظن أن في الحكم الذي يكون ثابتا بالنص فيه معنى معقول، إلا أنه يعارض ذلك المعنى معان أخر تخالفه، فالجواب فيه كذلك، إلا أنه لا يجوز التعليل فيه وليس كذلك، فإن الاصل بمنزلة الراوي والوصف الذي به تعلل بمنزلة الحديث، وفي رواية الاخبار قد يقع الترجيح باعتبار كثرة الرواة على ما بينا، ولكن به لا يخرج من أن تكون رواية الواحد معتبرا، فعرفنا أنه متى كان النص معقول المعنى فإنه يجوز تعليله بذلك المعنى ليتعدى الحكم به إلى فرع، وإن عارض ذلك المعنى معان أخر في الاصل، فإنه ليس من شرط التعليل للتعدية اعتبار جميع معاني الاصل.
وأما الفصل الثالث: فهو أعظم هذه الوجوه فقها، وأعمها نفعا، وهو شرط واحد اسما ولكن يدخل تحته أصول.

فمنها: أن الكلام متى كان من معنى اللغة فإنه لا يجوز المصير فيه إلى
الاثبات بالقياس الشرعي.
وبيان هذا في اليمين الغموس، فإن علماءنا قالوا إنها لا تنعقد موجبة للكفارة، لانها ليست بيمين معقودة ووجوب الكفارة بالنص في اليمين المعقودة، وكان الاشتغال في الحكم بالتعليل بقوله يمين بالله مقصودة باطلا من الكلام، لان الكلام في إثبات الاسم حقيقة، فعندنا هذه ليست بيمين حقيقة، وإنما سميت يمينا مجازا، لان ارتكاب هذه الكبيرة كان باستعمال صورة اليمين كبيع الحر يسمى بيعا مجازا وإن لم يكن بيعا على الحقيقة، وإذا كان الكلام في إثبات اسم اليمين حقيقة وذلك لا يمكن معرفته بالقياس الشرعي كان الاشتغال به فضلا من الكلام، ولكن طريق معرفته التأمل في أصول أهل اللغة، وهم إنما وضعوا اليمين لتحقيق معنى الصدق من الخبر، فعرفنا أن ما ليس فيه توهم الصدق بوجه لا يكون محلا لليمين لخلوه عن فائدة، وبدون المحل لا يتصور انعقاد اليمين، ولذلك قال أبو حنيفة في اللواطة إنها لا توجب الحد، لانها ليست بزنا واشتغال الخصوم بتعليل نص الزنا لتعدية الحكم أو إثبات المساواة بينه وبين اللواطة يكون فاسدا، لان طريق معرفة الاسم النظر في موضوعات أهل اللغة لا الاقيسة الشرعية.
وكذلك سائر الاشربة سوى الخمر لا يجب الحد بشرب القليل ما لم يسكر، واشتغال الخصم بتعليل نص الخمر لتعدية الحكم أو لاثبات المساواة فاسد، لان الكلام في إثبات هذا الاسم كسائر الاشربة.
فإن قيل: اعتبار المعنى لاثبات المساواة في الاسم لغة لا شرعا، فالزنا عند أهل اللغة اسم لفعل فيه اقتضاء الشهوة على قصد سفح الماء دون النسل، ولهذا سموه سفاحا وسموا النكاح إحصانا، واللواطة مثل الزنا في هذا المعنى من كل وجه.
وكذلك الخمر اسم لعين تحصل مخامرة العقل

بشربه ولهذا لا يسمى العصير به قبل التخمر ولا بعد التخلل، وهذه الاشربة مساوية للخمر في هذا المعنى.
قلنا هذا فاسد، لان الاسماء الموضوعة للاعيان أو للاشخاص عند أهل اللغة المقصود بها تعريف المسمى وإحضاره بذلك الاسم لا تحقق ذلك الوصف في المسمى، بمنزلة الاسماء الموضوعة للرجال والنساء كزيد وعمر وبكر وما أشبهه، فكذلك أسماء الافعال كالزنا واللواطة وأسماء الاعيان كالخمر، وما هذه الدعوى إلا نظير ما يحكى عن بعض الموسوسين أنه كان يقول: أنا أبين المعنى في كل اسم لغة أنه لماذا وضع ذلك الاسم لغة لما يسمى به.
فقيل له: لماذا يسمى الجرجير جرجيرا ؟ فقال: لانه يتجرجر إذا ظهر على وجه الارض، أي يتحرك.
فقيل له: فلحيتك تتحرك أيضا ولا تسمى جرجيرا ! فقيل له: لماذا سميت القارورة قارورة ؟ قال: لانه يستقر فيها المائع.
فقيل له: فجوفك أيضا يستقر فيه المائع ولا يسمى قارورة !.
ولا شك أن الاشتغال بمثل هذا في الاسماء الموضوعة يكون من نوع الجنون.
فإن قيل: الاحكام الشرعية إنما تبتنى على الاسامي الثابتة شرعا وذلك نوع من الاسامي لا يعرفه أهل اللغة كاسم الصلاة للاركان المعلومة، واسم المنافق لبعض الاشخاص.
وما أشبه ذلك.
قلنا: الاسماء الثابتة شرعا تكون ثابتة بطريق معلوم شرعا كالاسماء الموضوعة لغة تكون ثابتة بطريق يعرفه أهل اللغة، ثم ذلك الاسم لا يختص بعلمه واحد من أهل اللغة، بل يشترك فيه جميع أهل اللغة لاشتراكهم في طريق معرفته، فكذلك هذا الاسم يشترك في معرفته جميع من يعرف أحكام الشرع، وما يكون بطريق الاستنباط والرأي فإنما يعرفه القايس، فبهذا يتبين أنه لا يجوز
إثبات الاسم بالقياس على أي وجه كان، وعلى هذا لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النباش بالسارق في حكم القطع، لان القطع بالنص واجب على السارق، فالكلام في إثبات اسم السرقة حقيقة وقد قدمنا البيان في نفي التسوية

بين النباش والسارق في فعل السرقة، وهذا لان الاسماء نوعان: حقيقة، ومجاز.
فطريق معرفة الحقيقة هو السماع من أهل اللغة، وطريق معرفة المجاز منه الوقوف على استعارة أهل اللغة، ونحن نعلم أن طريق الاستعارة فيما بين أهل اللغة غير طريق التعدية في أحكام الشرع، فلا يمكن معرفة هذا النوع بالتعليل الذي هو لتعدية حكم الشرع.
وعلى هذا قلنا: الاشتغال بالقياس لتصحيح استعارة ألفاظ الطلاق للعتق يكون باطلا، وإنما نشتغل فيه بالتأمل فيما هو طريق الاستعارة عند أهل اللغة.
وكذلك الاشتغال بالقياس لاثبات الاستعارة في ألفاظ التمليك للنكاح يكون اشتغالا بما لا معنى له.
وكذلك في إثبات استعارة لفظ النسب للعتق.
وكذلك الاشتغال بالقياس في تصحيح إرادة العدد من لفظ الطلاق.
والاشتغال بالقياس لاثبات الموافقة بين الشاهدين إذا شهد أحدهما بمائة والآخر بمائتين أو شهد أحدهما بتطليقة والآخر بنصف تطليقة فإنما يكون من نوع هذا (فالحاجة فيه إلى إثبات الاسم وطريق الوقوف عليه التأمل في طريقه عند أهل اللغة) فكان الاشتغال بالقياس الشرعي فيه اشتغالا بما لا يفيد.
وكذلك الاطعام في الكفارات فإن اشتراط التمليك فيه بالقياس على الكسوة باطل، لان الكلام في معنى الاطعام المنصوص عليه ولا مدخل للقياس الشرعي في معرفة معنى الاسم لغة، وإنما الطريق فيه التأمل في معنى اللفظ لغة وهو فعل متعد فلازمه طعم وحقيقته فيما يصير المسكين به طاعما، وذلك بالتمكين من الاطعام، بمنزلة الايكال، ثم يجوز التمليك فيه بدلالة النص، فأما الكسوة
فهو عبارة عن الملبوس دون فعل اللبس ودون منفعة الثوب وعين الملبوس لا يصير كفارة إلا بالتمليك من المسكين، فأما الالباس فهو تمكين من الانتفاع بالملبوس.
ومن هذه الجملة: الاختلاف في شرط التعدية، والمذهب عندنا أن تعليل النص بما لا يتعدى لا يجوز أصلا.
وعند الشافعي هذا التعليل جائز ولكنه لا يكون مقايسة، وعلى هذا جوز هو تعليل نص الربا في الذهب والفضة

بالثمينة وإن كانت لا تتعدى، فنحن لا نجوز ذلك.
والمذهب عندنا أن حكم التعليل هو تعدية حكم الاصل إلى الفروع، وكل تعليل لا يفيد ذلك فهو خال عن حكمه، وعلى قوله حكم التعليل ثبوت الحكم في المنصوص بالعلة ثم تتعدى تلك العلة إلى الفروع تارة فيثبت بها الحكم في الفروع كما في الاصل، وتارة لا تتعدى فيبقى الحكم في الاصل ثابتا وبه يكون ذلك تعليلا مستقيما بمنزلة النص الذي هو عام مع النص الذي هو خاص.
احتج وقال لان التعليل بالرأي حجة لاثبات حكم الشرع فيكون بمنزلة سائر أنواع الحجج، وسائر الحجج من الكتاب والسنة أينما وجدت يثبت الحكم بها، فكذلك التعليل بالرأي إلا أن سائر الحجج تكون ثابت بغير صنع منا، والتعليل بالرأي إنما يحصل بصنعنا، ومتى وجد ذلك كان ثبوت الحكم مضافا إليه سواء تعدى إلى الفروع أو لم يتعد، وهذا لان الشرط في الوصف الذي يتعلل الاصل به قيام دلالة التمييز بينه وبين سائر الاوصاف، وهذا المعنى يتحقق في الوصف الذي يقتصر على موضع النص وفي الوصف الذي يتعدى إلى محل آخر، وبعد ما وجد فيه شرط صحة التعليل به لا يثبت الحجر عن التعليل به إلا بمانع، فكونه غير متعد لا يصلح أن يكون مانعا
إنما المانع ما يخرجه من أن يكون حجة، وانعدام وصف التعدي فيه لا يخرجه من أن يكون حجة كالنص.
والجواب عن هذا الكلام بما هو الحجة لنا، وهو أن الحجج الشرعية لا بد أن تكون موجبة علما أو عملا، والتعليل بالرأي لا يوجب العلم بالاتفاق، فعرفنا أنه موجب للعمل وأنه باعتباره يصير حجة، والموجب للعمل ما يكون متعديا إلى الفروع، لان وجوب العمل بالعلة إنما يظهر في الفرع، فأما الاصل فقد كان موجبا للعمل في المحل الذي تناوله قبل التعليل، فإذا خلا عن التعليل لم يكن موجبا شيئا فلا يكون حجة شرعا.

فإن قيل: وجوب العمل في الاصل بعد أن التعليل يصير مضافا إلى العلة كما أن في الفرع بعد التعدية يصير وجوب العمل مضافا إلى العلة.
قلنا: هذا فاسد، لان قبل التعليل كان وجوب العمل بالنص، والتعليل لا يجوز على وجه يكون مغيرا حكم الاصل، فكيف يجوز على وجه يكون مبطلا حكم الاصل وهو إضافة وجوب العمل إليه، ألا ترى أن وجوب العمل به لما كان مضافا إلى النص قبل التعليل بقي مضافا إليه بعد التعليل، وبه يتبين أن النص أقوى والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي، فيكون الحكم وهو وجوب العمل في الاصل مضافا إلى أقوى الحجتين وهو النص بعد التعليل كما كان قبله.
واعتباره الاصل بالفرع في أن الحكم فيه يكون مضافا إلى العلة في نهاية الفساد، لان الفرع يعتبر الاصل، فأما الاصل لا يعتبر بالفرع في معرفة حكمه بحال.
فإن قيل مع هذا: التعليل صحيح ليثبت به تخصيص الاصل بذلك الحكم.
قلنا: وهذا ثابت قبل التعليل بالنص، ثم تعليل الاصل بوصف لا يتعدى
لا يمنع تعليله بوصف آخر يتعدى إذا وجد فيه ما هو شرط العلة، لانه كما يجوز أن يجتمع في الاصل وصفان كل واحد منهما يتعدى إلى فروع وأحدهما أكثر تعدية من الآخر يجوز أن يجتمع وصفان يتعدى أحدهما ولا يتعدى الآخر، فبهذا تبين أن هذا التعليل لا يوجب تخصيص الاصل أيضا.
وكيف يقال هذا وبالاجماع بيننا وبينه انعدام العلة لا يوجب انعدام الحكم على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى، وإنما يكون التعليل بما لا يتعدى موجبا تخصيص الاصل إذا كان الحكم ينعدم بانعدام العلة كما يوجد بوجودها.
ومن هذه الجملة: تعليل الاصل لتعدية الحكم إلى موضع منصوص، فإن ذلك لا يجوز عندنا، نص عليه محمد السير الكبير، وقال: النص الوارد في هدي المتعة لا يجوز تعليله لتعدية حكم الصوم فيه إلى هدي الاحصار، لان ذلك منصوص عليه وإنما يقاس بالرأي على المنصوص ولا يقاس المنصوص

على المنصوص.
والشافعي يجوز هذا التعليل لاثبات زيادة في حكم النص الآخر بالتعليل، ولهذا قال: يجوز تعليله على وجه يوجب زيادة في حكم النص الآخر لا على وجه يوجب ما هو خلاف حكم النص الآخر، لان وجوب الزيادة به إذا كان النص الآخر ساكتا عنه يكون بيانا، والكلام وإن كان ظاهرا فهو يحتمل زيادة البيان، ولكنه لا يحتمل من الحكم ما هو خلاف موجبه، والتعليل ليحصل به زيادة البيان، فلهذا جوزنا تعليل النص بوصف يتعدى إلى ما فيه نص آخر لاثبات الزيادة فيه، ولكنا نقول: الحكم الثابت بالتعليل في المحل الذي فيه نص إما أن يكون موافقا للحكم الثابت فيه بذلك النص أو مخالفا له، وعند الموافقة لا يفيد هذا التعليل شيئا، لان الحكم في ذلك الموضع مضاف إلى النص الوارد فيه فلا يصير
بتعليل نص آخر مضافا إلى العلة، كما لا يصير الحكم في النص المعلول مضافا إلى العلة بعد التعليل كما قررنا، وإن كان مخالفا له فهو باطل، لان التعليل في معارضة النص أو فيما يبطل حكم النص باطل بالاتفاق، وإن كان زائدا فيه فهو مغير أيضا بحكم ذلك النص، لان جميع الحكم قبل التعليل في ذلك الموضع ما أوجبه النص الوارد فيه وبعد التعليل يصير بعضه والبعض غير الكل، فعرفنا أنه لا يخلو هذا التعليل من أن يكون مغيرا حكم النص، وتبين بهذا أن الكلام في هذا الفصل بناء على ما قدمنا أن الزيادة على النص عندنا بمنزلة النسخ، فكما لا يجوز إثبات نسخ المنصوص بالتعليل بالرأي فكذلك لا يجوز إثبات الزيادة فيه.
ثم بيان قولنا: إن شرط التعليل تعدية حكم النص بعينه في مواضيع، منها أنا لا نجوز تعليل نص الربا في الاشياء الاربعة بالطعم، لان الحكم في النصوص كلها إثبات حرمة متناهية بالتساوي، وصفة الطعم توجب تعدية الحكم إلى محال تكون الحرمة فيها مطلقة غير متناهية، وهي المطعومات التي لا تدخل تحت المعيار، فعرفنا أن هذا الوصف لا يوجب تعدية حكم النص بعينه، إذ الحرمة المتناهية غير الحرمة المؤبدة، ألا ترى أن الحرمة الثابتة بالرضاع والمصاهرة غير الحرمة الثابتة بالتطليقات الثلاث، ولهذا قلنا:

إن النقود لا تتعين في العقود بالتعيين، بخلاف ما يقوله الشافعي إنها متعينة في الملك وتعيينها في العقد مفيد فتتعين بالتعيين كالسلع.
وهذا لان هذا التعليل لا يوجب تعدية حكم الاصل بعينه، فحكم البيع في السلع وجوب الملك به فيها لا وجودها في نفسها، ولهذا لا بد من قيامها في ملك البائع عند العقد ليصح العقد، وحكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها بالعقد،
ولهذا لا يشترط قيام الثمن في ملك المشتري عند العقد لصحة العقد، ويجوز العقد بدون تعيينه لا على اعتبار أنه بمنزلة السلع، ولكن يسقط اعتبار وجوده بطريق الرخصة، فإن هذا الحكم فيما وراء موضع الرخصة ثابت حتى يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولا يجب جبر النقص المتمكن فيه عند عدم التعيين بذكر الاجل ولا بقبض ما يقابله في المجلس بخلاف السلم، فعرفنا أن الحكم الاصلي في الثمن ما بينا، وفي التعيين تغيير لذلك الحكم وجعل ما هو الركن شرطا، وأي التغيير أبلغ من هذا.
فتبين بهذا أنه ليس في هذا التعليل تعدية حكم النص بعينه بل إثبات حكم آخر في الفرع، ولهذا قلنا إن إظهار الذمي باطل، لان حكم الظهار في حق المسلم أنه يثبت به حرمة متناهية بالكفارة، فتعليل هذا الاصل بما يوجب تعدية الحكم إلى الذمي يكون باطلا، لانه لا يثبت به حكم الاصل بعينه وهو الحرمة المتناهية، فإن الذمي ليس من أهل الكفارة مطلقا.
وبيان قولنا: إلى فرع: هو نظيره في فصول، منها ما بينا أنه لا يجوز تعليل النص الوارد في الناسي بالعذر ليتعدى الحكم به إلى الخاطئ والمكره، لان الفرع ليس بنظير للاصل، فعذرهما دون عذر الناسي فيما هو المقصود بالحكم، لان عذر الخاطئ لا ينفك عن تقصير من جهته بترك المبالغة في التحرز، وعذر المكره باعتبار صنع هو مضاف إلى العباد فلا تجوز تعدية الحكم للتعليل إلى ما ليس بنظير به.
وكذلك قلنا: شرط النية في التيمم لا يجوز تعليله بأنه طهارة حكمية ليتعدى الحكم به إلى الوضوء، فإن الفرع ليس بنظير الاصل في كونه طهارة، لان التيمم باعتبار الاصل تلويث وهو لا يكون رافعا للحدث بيقين بخلاف الطهارة بالماء، ولهذا أمثلة كثيرة.

فإن قيل: فقد أوجبتم الكفارة بالاكل والشرب في رمضان على طريق تعدية حكم النص الوارد في الجماع إليه مع أن الاكل والشرب ليس بنظير للجماع لما في الجماع من الجناية على محل الفعل، ولهذا يتعلق به الحد رجما في غير الملك وذلك لا يوجد في الاكل والشرب، وأثبتم حرمة المصاهرة بالزنا بطريق تعدية الحكم من الوطئ الحلال إليه وهو ليس بنظير له فلان الاصل حلال يثبت به النسب والزنا حرام لا يثبت به النسب، وكذلك أثبتم الملك الذي هو حكم البيع بالغصب وهو ليس بنظير له، فالبيع مشروع والغصب عدوان محض وهو ضد المشروع.
قلنا: أما في مسألة الكفارة فنحن ما أوجبنا الكفارة بطريق التعليل بالرأي، فكيف يقال هذا ! ومن أصلنا أن إثبات الكفارات بالقياس لا يجوز خصوصا في كفارة الفطر فإنها تنزع إلى العقوبات كالحد، ولكن إنما أوجبنا الكفارة بالنص الوارد بلفظ الفطر، وهو قوله عليه السلام: من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر ثم قد بينا أنهما نظيران في حكم الصوم فإن ركن الصوم هو الكف عن اقتضاء الشهوتين، ووجوب الكفارة باعتبار الجناية على الصوم بتفويت ركنه على أبلغ الوجوه لا باعتبار الجناية على المحل، وفي الجناية على الصوم هما سواء، ووجوب الكفارة باعتبار الفطر (المفوت) لركن الصوم صورة ومعنى، والجماع آلة لذلك كالاكل والشرب.
وما هذا إلا نظير إيجاب القصاص في القتل بالسهم والسيف، فإن القصاص يجب بالقتل العمد والسيف آلة لذلك الفعل، كالسهم، فلا يكون ذلك بطريق تعدية الحكم من محل إلى محل، إنما التعدية فيما قاله الخصم إن الكفارة تجب بجماع الميتة والبهيمة.
وعندنا هذا التعليل باطل، لان جماع الميتة والبهيمة ليس نظير جماع الاهل في تفويت ركن الصوم، فإن فوات الركن معنى بما تميل إليه
الطباع السليمة لقصد قضاء الشهوة، وذلك يختص بمحل مشتهى وفرج الميتة والبهيمة ليس بهذه الصفة، فكان هذا تعليلا لتعدية الحكم إلى ما ليس

بنظير للاصل فكان باطلا.
فأما مسألة الزنا فالاصل في ثبوت الحرمة ليس هو الوطئ بالولد الذي يتخلق من الماءين إذا اجتمعا في الرحم، لانه من جملة البشر له من الحرمات ما لغيره من بني آدم، ثم تتعدى تلك الحرمة إلى الزوجين باعتبار أن انخلاق الولد كان من مائهما، فيثبت معنى الاتحاد بينهما بواسطة الولد، فيصير أمهاتها وبناتها في الحرمة عليه كأمهاته وبناته، ويصير آباؤه وأبناؤه في كونها محرمة عليهم كآبائها وأبنائها، ثم يقام ما هو السبب لاجتماع الماءين في الرحم وهو الوطئ مقام حقيقة الاجتماع لاثبات هذه الحرمة، وذلك بوطئ يختص بمحل الحرث، ولا معتبر بصفة الحل في هذا المعنى، ولا أثر لحرمة الوطئ في منع هذا المعنى الذي لاجله أقيم هذا السبب مقام ما هو الاصل في إثبات الحرمة، إلا أن إقامة السبب مقام ما هو الاصل فيما يكون مبنيا على الاحتياط وهو الحرمة والنسب ليس بنظيره في معنى الاحتياط، فلهذا لا يقام الوطئ مطلقا مقام ما هو الاصل حقيقة في إثبات النسب، ولا يدخل على هذا أن هذه الحرمة لا تتعدى إلى الاخوات والعمات على أن يجعل أخواتها كأخواته في حقه، لان أصل الحرمة لا يمكن إثباته بالتعليل بالرأي، وإنما يثبت بالنص، والنص ما ورد بامتداد هذه الحرمة إلى الاخوات والعمات، فتعدية الحرمة إليهما تكون تغييرا لحكم النص، وقد بينا أن ذلك لا يجوز بالتعليل.
وعلى هذا فصل الغصب، فإنا لا نوجب الملك به حكما للغصب، كما نوجبه بالبيع، وإنما نثبت الملك به شرطا للضمان الذي هو حكم الغصب، وذلك الضمان حكم مشروع كالبيع، وكون الاصل مشروعا
يقتضي أن يكون شرطه مشروعا.
وبيان قولنا: ولا نص فيه: في فصول، منها أنا لا نجوز القول بوجوب الكفارة في القتل العمد بالقياس على القتل الخطأ، لانه تعليل الاصل لتعدية الحكم إلى فرع فيه نص على حدة.
ولا نجوز القول بوجوب الدية في العمد المحض بالقياس على الخطأ لهذا المعنى.
ولا نوجب الكفارة في اليمين الغموس بالقياس على اليمين المعقودة على أمر في المستقبل لهذا المعنى أيضا.
ولا نشترط صفة الايمان فيمن تصرف إليه الصدقات سوى الزكاة بالقياس على الزكاة،

لما فيه من تعليل الاصل لتعدية الحكم إلى ما فيه نص آخر.
ولا نشترط الايمان في الرقبة في كفارة الظهار واليمين بالقياس على كفارة القتل، لان فيه تعليل الاصل لتعدية الحكم به إلى محل فيه نص آخر، وفيه تعرض لحكم النص الآخر بالتغيير فإن الاطلاق غير التقييد، وبعد ما ثبتت الرقبة مطلقا في كفارة اليمين والظهار فإثبات التقييد فيه بالايمان يكون تغييرا، كما أن إثبات صفة الاطلاق في المقيد يكون تغييرا، فإن الحرمة في الربائب لما تقيدت بالدخول، كان تعليل أمهات النساء لاثبات صفة الاطلاق في حرمة الربائب يكون تغييرا لا يجوز المصير إليه بالرأي، فكذلك إثبات التقييد فيما كان مطلقا بالنص.
وبيان الفصل الرابع، وهو ما قلنا: إن الشرط أن يبقى حكم النص بعد التعليل في الاصل على ما كان قبله، فلانه لما ثبت أن التعليل لا يجوز أن يكون مغيرا حكم النص في الفروع ثبت بالطريق الاولى أنه لا يجوز أن يكون مغيرا حكم الاصل في نفسه، ففي كل موضع لا يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله، فذلك التعليل يكون باطلا، لكونه مغيرا لحكم
الاصل، ولهذا لم نجوز التعليل في قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة بالقياس على المحدود في سائر الجرائم بعلة أنه محدود في كبيرة، لان بعد هذا التعليل لا يبقى حكم النص الوارد فيه على ما كان قبله.
فإن قيل: هذا التعليل يكون هو ساقط الشهادة بالنص أبدا ويكون ذلك متمما لحده، وبعد التعليل يتغير هذا الحكم، فإن الجلد قبل هذا التعليل يكون بعض الحد في حقه وبعده يكون تمام الحد، فيكون تغييرا على نحو ما قلنا في التغريب: إن الجلد إذا لم يضم إليه التغريب في زنا البكر يكون حدا كاملا، وإذا ضم إليه التغريب يكون بعض الحد.
وكذلك تعليل الشافعي في إبطال شهادته بنفس القذف بالقياس على سائر الجرائم باطل، لانه تغيير للحكم بالنص، فإن مدة العجز عن إقامة أربعة من الشهداء بعد القذف ثابت بالنص لاقامة

الجلد وإسقاط الشهادة، فكان إثباته بنفس القذف بدون اعتبار تلك المدة بطريق التعليل باطلا، لان حكم النص لا يبقى بعد التعليل على ما كان قبله.
وكذلك القول بسقوط شهادة الفاسق أصلا بالقياس على المحدود في القذف أو على العبد والصبي باطل، لان الحكم الثابت بالنص في حق الفاسق التوقف في شهادته، وبعد تعيين جهة البطلان فيه لا يبقى التوقف، فحكم النص بعد هذا التعليل لا يبقى على ما كان قبله.
وكذلك قلنا: الفرقة بين الزوجين لا تقع بلعان الزوج، لان الحكم الثابت بالنص اللعان من الجانبين، وهي شهادات مؤكدة بالايمان وليس فيه ما يوجب الفرقة بينهما، وقد ثبت بالنص أنهما لا يجتمعان أبدا، وذلك أيضا لا يقتضي زوال الملك به كما بعد إسلام المرأة قبل إسلام الزوج، فإثبات حكم الفرقة بقذف الزوج عند لعانه لا يجوز بطريق التعليل، لانه لا يبقى حكم النص بعد هذا التعليل على ما كان قبله، فقبله المذكور جميع الحكم،
وبعده يكون بعض الحكم، إلا أن بعد ما فرغا من اللعان يتحقق فوات الامساك بالمعروف ما داما مصرين على ذلك، واستحقاق الفرقة عند فوات الامساك بالمعروف يثبت موقوفا على قضاء القاضي به كما بعد إسلام أحد الزوجين إذا أبى الآخر الاسلام.
وكذلك قلنا: إذا كذب الملاعن نفسه وضرب الحد جاز له أن يتزوجها، لان الثابت بالنص أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وبعد الاكذاب لا يكون متلاعنا، بدليل أنه يقام عليه حد القذف فلا يجتمع اللعان والحد بقذف واحد، فمن ضرورة القول بإقامة الحد عليه أن لا يبقى ملاعنا، ولهذا لو أكذب نفسه قبل اللعان فإنه يقام الحد عليه ولا يلاعنها، فإذا خرج من أن يكون ملاعنا بإكذابه نفسه قلنا إن كان قبل قضاء قاضي بالفرقة لم يفرق بينهما، وإن كان بعد القضاء جاز له أن يتزوجها، لانا لو بقينا الحرمة بالقياس على الحرمة الثابتة بالرضاع والمصاهرة لم يبق حكم النص بعد التعليل على ما كان قبله، فإن قبل التعليل كان الثابت بالنص




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1. وج2. . كتاب : روضة الناظر وجنة المناظر المؤلف : عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

 ج1. وج2. . كتاب : روضة الناظر وجنة المناظر المؤلف : عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي     ج1 وج.كتاب : روضة الناظر وجنة المناظر المؤلف : ع...