
ج1 وج2. وح3. كتاب : أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
كتاب أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على رسول الأمين وعلى آله المطهرين وبعد فهذا شرح لطيف على منظومة الكافل المسماة بغية الآمل وقد كان شرحها تلميذنا العلامة المحقق إسماعيل بن محمد بن إسحاق قدس الله روحه في الجنة شرحا نفيسا بسيطا وكان ما كتبه عرضه على شيخه الناظم فليحق به ما يراه ويضرب على ما لا يحتاج إليه من لفظه أو معناه حتى كمل شرحا بديعا سماه الفواصل شرح بغية الآمل إلا أنه طال واتسع فيه مجال المقام فطلب مني بعد وفاته بعض طلبة العلم اختصاره والإتيان بأقوى أدلة المسألة وتوضيح العبارة والاقتصار على الأدلة المختارة والأقوال المرتضاة عند المهرة النظارة فأجبت إلى ذلك مستمدا للهداية والإعانة من الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وسميته إجابة السائل شرح بغية الآمل قال الناظم ... قال فقير ربه محمد ... أعانه الله على ما يقصد ... أحمد حمدا يكون شاملا ... وبالأصول والفروع كافلا
هذا هو مقول القول والحمد هو الثناء بالجميل الاختياري وحمدا مصدر تأكيدي وبوصفه عاد نوعيا والشامل من شمله الشيء إذا عمه أي شاملا لأنواع الحمد وأنواع المحمود عليه والشامل اسم كتاب في الأصول للإمام يحيى وفي ذكر الأصول والفروع والكافل براعة الاستهلال مع التورية ... وأستزيد المنتهى من عنده ... والمجتبى من فضله لعبده ...
استزاد طلب الزيادة لما حمد مولاه طلب الزيادة من نعمائه ومنتهى الشيء غايته وفضل الله لا غاية له ولا انتهاء وهو أيضا اسم لكتاب الآمدي في الأصول ففيه تورية والمجتبى بالجيم واجتباه إذا اختاره ومن فضله يتنازع فيه المنتهى والمجتبى وهو اسم كتاب في الأصول أيضا والحديث للنسائي ففيه ما في الذي قبله من التورية ... ثم صلاة الله تغشى المصطفى ... وآله سفن النجاة الحنفا
عطف الدعاء لرسول الله صلى الله عليه و سلم على حمده لربه عطف اسميه على فعليه وتغشى من غشية الشيء شمله وعمه ومنه والليل إذا يغشى والمصطفى من اصطفاه اختاره وهو من أوصافه صلى الله عليه و سلم التي اشتهر بها حتى إذ أطلقت لا يتبادر سواه والآل على المختار هم من حرمت عليهم الزكاة كما فسرهم بذلك زيد بن أرقم كما في رواية مسلم وسفن النجاة اقتباس من حديث أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس والحنفاء جمع حنيف كشهداء في شهيد وهو المائل واشتهر في المائل إلى الدين المحمدي لقوله صلى الله عليه وآله
وسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ولم يأت بالسلام مع الصلاة هنا لأنه يأتي به في آخر النظم وهو كلام واحد ... وبعد فالكافل في الأصول ... مختصر قد خص بالقبول ...
أي بعد الحمد والصلاة حذف المضاف إليه وبنى بعد على الضم لما عرف في النحو
والكافل هو تأليف العلامة محمد بن يحيى بهران رحمه الله تعالى تلقاه الناس بالقبول وشرحه جماعة من العلماء ودرسوا فيه لما أفاده قوله ... لأنه مهذب موضح ... محرر محقق منقح
ومن هذبه نقاه وأخلصه وأصلحه كما في القاموس وموضح من وضح الأمر يضح وضوحا بان وظهر وتحرير الكتاب وغيره تقويمه والمحقق من الكلام الرصين ومنقح من نقح الشيء هذبه وكان طلب نظمه مني بعض الطلبة أيام قراءته علي ... وقد نظمت ما حوى معناه ... نظما يلذ للذي يقراه ...
قوله معناه إعلام بأن ألفاظه لم ينظمها وقد يتفق نظم بعضها ... لأن حفظ النظم في الكلام ... أسرع ما يعلق بالأفهام ...
تعليل لنظمه فإنه لا ريب أن حفظ النظم أسرع من حفظ النثر ولذا فإن العلماء لا يزالون ينظمون كتب العلم من نحو وفقه وعلوم القراءات وعلوم مصطلح أهل الحديث وغيرها حتى السير النبوية كالهمزية ... وأسأل الله به أن ينفعا ... لأنه بأصله قد نفعا ...
كما قررناه من أنه رزق القبول عند العلماء ... واستمد اللطف والهداية ... بمبتدا ذلك والنهاية ...
اللطف بضم اللام لغة الرأفة والرفق وعبر به هنا عما يقع به صلاح العبد والهداية دلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب وقيل سلوك طريق توصل إلى المطلوب نسأل الله أن يوصلنا بهدايته ورحمته إلى سواء السبيل وأن يخلص الأعمال لوجهه الكريم من كل دقيق وجليل
وأعلم أنه استحسن العلماء رحمهم الله قبل خوضهم في مقاصد ما يؤلفونه من المؤلفات في أي فن من فنون العلم تقديم مقدمة يذكر فيها ثلاثة أشياء
تعريف الفن وموضوعه وغايته قالوا لأن الشرع في الفن بوجه الخبرة وفرط الرغبة يتوقف عليها كما قاله السعد في التهذيب وقد وقع الاقتصار في المنظومة صريحا على تعريف العلم تبعا لاقتصار الأصل المنظوم ... فأول الكلام فيما ينظم ... حد أصول الفقه فهو الأقدم ...
أول مبتدأ خبره قوله حد أصول الفقه قوله فهو الأقدم تعليل لأوليته في النظم قاضية بأولويته فيه وإنما كان الحد أولى بالتقديم مما بعده لأنه بحد العلم يحصل تميزه عما عداه فيعرف الطالب حقيقة مطلوبه من أول الأمر ولأن بمعرفته يعرف موضوع العلم وغايته لأنه إذا قيل إنه علم باحث عن أحوال كذا من حيث إنه يفيد كذا علم الموضوع والغاية من ذلك بالاستلزام وسنذكرهما آخرا مفسرين وإذا عرفت أن الحد أول ما ينظم ... فالحد علم بأصول وصلة ... بها لإخراج عن الأدلة ... أحكامنا الشرعية الفرعية ... وقيدت تلك بتفصيلية ...
اعلم أنه لا بد للحد من محدود فقوله الحد التعريف فيه عهدي أي حد أصول الفقه لتقدمه ذكرا وهذا هو المحدود ومعناه فحد أصول الفقه وقد ذكر في الكتب الأصولية أن أصول الفقه لقب لهذا الفن وكلامنا الآن في حده اللقبي وهو منقول عن مركب إضافي وقد تكلم العلماء في مبسوطات الفن على تعريف كل واحد من جزئيه باعتبار الإضافة والأهم هنا معرفة معناه اللقبي إذ هو المدون له الكتاب
واعلم أن التعريف يشتمل في الغالب على جنس وفصول فقوله علم جنس الحد والعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق الثابت وهذا هو معناه الأخص
وقد يقال على ما يشمل الظن وكثيرا ما يستعمله الفقهاء في هذا الأخير وهو معناه الأعم والمراد به هنا ما يشمل المعنيين جميعا أي الاعتقاد الجازم الخ والظن فقط فإن كان لفظ العلم مشتركا بينهما فاستعمال المشترك في معنييه وإن كان مهجورا في التعاريف فالمقام هنا مشعر بالمراد فتزول به الجهالة وإن كان ليس بمشترك كما أفاده في المواقف فإنه قال إن
تسمية الظن علما وجعله مندرجا فيه كما ذهب إليه الحكماء مخالف لاستعمال اللغة والعرف والشرع فقد قيل عليه إنه لا مانع من إطلاقه عليه مجازا والتعريف بالمجاز المشهور قد أجازوه
فإن قلت فيحمل هنا العلم على معناه الأول وهو الذي يسمونه الأخص قلت يمنع عن حمله هنا عليه أنه قد تقرر أن من قواعد هذا الفن ما هو ظني وقد أوضحناه في رسالة مستقلة ويأتي التنبيه عليه في مواضع فلا تغتر بقولهم مسائل أصول الفقه قطعية وقد أشار في الفصول إلى هذا فقال بعد تعريفه لأصول الفقه بالقواعد التي يتوصل بها إلى آخر ما هنا لفظه وقيل العلم بها أو الظن فأشار بقوله أو الظن إلى أن قواعد أصول الفقه ما هو ظني وأراد بلفظ العلم في عبارته المعنى الأخص فلذا عطف عليه الظن وقد استشكل الشيخ لطف الله في شرحه عليه عطفه الظن
عليه ولا وجه لاستشكاله كما عرفت
وقوله بأصول جمع أصل وهو لغة ما يبنى عليه غيره وترادفه القاعدة وعرفوها بأنها قضية كلية تعرف أحكام جزيئات موضوعها نحو قولك هنا الأمر للوجوب مثلا فإنه يدخل تحته جزيئات تعرف منه أحكامها نحو أقم الصلاة وآت الزكاة وحج البيت وغير ذلك هذا ولما كانت الأصول ترادف القواعد وقد عرفه ابن الحاجب بقوله العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى آخره وقوله هناك وصلة بها لإخراج هو صفة لقوله بأصول أي يتوصل بها إلى إخراج الأحكام الخمسة الآتية عن أدلتها كما ستعرفه فالباء سببية واللام في لإخراج بمعنى إلى مثلها في قوله تعالى سقناه لبلد ميت كل يجري لأجل وحذف فاعل لإخراج للعلم به إذ فاعل المصدر يجوز حذفه أي إخراج الأصول أو المجتهد
وقوله عن الأدلة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فبها أي الأصول أو القواعد يخرج المجتهد الأحكام عن هذه الأدلة والأحكام المراد بها الخمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة وما يتعلق بها والتعريف فيها وفي الأدلة للعهد الخارجي لأنها معلومة بين أهل الأصول فلا يتوهم أن في التعريف جهالة
وقوله أحكامنا مفعول المصدر جمع حكم وعرفوه بأنه القضايا والنسب
التامة نحو قولنا الحج واجب فخرجت التصورات وقوله لإخراج أولى من قولهم لاستخراج ولاستنباط لما عرف أن السين للطلب غالبا والمراد هنا الإخراج نفسه لا طلبه وبهذا القيد خرج علم العربية بأقسامه وعلم الكلام فإن قوله بها أي بسببها المراد به السبب القريب فإنها أي الباء ظاهرة فيه وإضافة التوصل إلى غير أصول الفقه مما هو سبب بعيد لأنه يتوصل به لكن بالواسطة وعبر ابن الإمام في الغاية بقوله الموصلة لذاتها الخ لئلا يرد أنه قد يتوصل بغيرها من قواعد العربية والكلام لأنهما من مبادىء علم الأصول لكن التوصل بهما لإخراج الأحكام ليس لذاتها فإن علم العربية ونحوه وإن كان يتوصل به إلى إخراج الأحكام لكنه توصل بعيد إذ يتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولتها الوضعية وبواسطة ذلك يتوصل بها إلى إخراج الأحكام وأما علم الكلام فإنه يتوصل بقواعده إلى ثبوت الكتاب والسنة وصدقهما وبه يتوصل إلى ذلك
وقوله الشرعية يخرج به العلم بالأحكام العقلية كقبح الظلم وحسن العدل
وقوله الفرعية تخرج الشرعية غير الفرعية من الأحكام الشرعية الأصلية
وقوله وقيدت تلك أي الأدلة بتفصيلية بيان للواقع لا إنه لإخراج الأدلة الإجمالية ككون الكتاب حجة فإنه لا يستنبط منه حكم حتى يحتاج إلى إخراجه ولا خلل في زيادة قيد في الحد للإيضاح والبيان فإن مثله واقع في التعريفات مع أنه ينبغي أن يعلم أن هذه الحدود إنما هي من التعريفات
وليست بحدود حقيقية وسيأتي بيان الفرق بين الأمرين في آخر الكتاب حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى وفي قوله وقيدت إشارة إلى عدم الحاجة إلى التقييد وفي شرح المحلي أنه قيد بتفصيلية لإخراج اعتقاد المقلد فإنه لا يسمى علما
واعلم ان هذا التعريف لأصول الفقه مأخوذ من تعريف ابن الحاجب بمختصره المنتهى ومبني على أن أصول الفقه هو العلم بالقواعد ومن الأصوليين من جعله القواعد بنفسها وقد ذكر في الفصول التعريفين معا وقدم الثاني وحكى الأول بقيل قال الشيخ لطف الله في شرحه وكأنه اختار الأول أي في عبارته وهو القواعد لما قيل من أنه أرجح لوجوه
أحدها أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من بيانية تلك القواعد وإن لم يعرفه الشخص
وثانيها أن أهل العرف يجعلون أصول الفقه للمعلوم ويقولون هذا كتاب في أصول الفقه
وثالثها أن الأصول في اللغة الأدلة والقواعد أدلة للفقه إذ ينبني عليها فجعله اصطلاحا نفس الأدلة أقرب إلى المدلول اللغوي انتهى
وقال بعض المحققين العلامة المقبلي في نجاح الطالب الحق أن يقال
أن أصول الفقه ونحوه نفس القواعد فإن العلم المتعلق بها الحال بقلب زيد ليس هو حقيقة الأصول كما تقوله في سائر الحقائق فليس السيف العلم بالحديد المخصوص بل نفسه فعلى هذا لا يتحقق الوجود الخارجي لهذه الحقائق المحدودة كما هو شأن سائر الماهيات لكن هذه ليس لها جزء خارجي كما لماهية الفرس مثلا لأنها أشخاص ومسمى أصول الفقه مثلا مجموع قواعد بمنزلة مائة وألف وكون الأمر للوجوب والنهي للحصر مثلا كأفراد المائة والألف مثلا جزء لمسمى جزئي ذلك اللقب ومسمى اللقب الملتئم من أجزاء كلها عقلية عقلي انتهى وهو كلام حسن هذا
وأما حده مضافا في الاصطلاح فالأصل الدليل والفقه فيه العلم أو الظن للأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وقد استفيد من القيود خروج العلم بغير الأحكام كالذوات والصفات والأحكام التي لم تؤخذ من الشرع بل من العقل كالعلم بأن العالم حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع وخرج العلم بالأحكام النظرية الشرعية اعتقادية أو أصولية مثل الإيمان واجب والإجماع حجة أصولية وخرج بقوله عن أدلتها التفصيلية علم المقلد على القول بأنه يسمى علما وذلك لأن حرف الجر متعلق بمحذوف صفة للعلم أي العلم الحاصل عن الأدلة وعلمه غير حاصل عنها فلذا لا تسمى أقوال المفرعين المجردة عن الأدلة فقها كما حقق في محله
واعلم أنه قد سبقت إشارة إجمالية إلى موضوع هذا الفن وهو ان موضوعه الأدلة السمعية الكلية وهي ما عرفت الكتاب العزيز والسنة
النبوية والإجماع والقياس فعنها وقع بحثهم في هذا الفن من حيث دلالتها على الأحكام إما مطلقا أو من حيث تعارضها أو استنباطها منها وأما غايته فالعلم بأحكام الله تعالى وبها ينال الفوز في الدارين ... وانحصرت أبوابه في عشره ... تأتي على الترتيب في ماذكره ...
انحصار أبوابه في ذلك ليس بحاصر عقلي اقتضاه بل وقع التدوين كذلك تمييزا بين أبحاث أقسام الموضوع والضمير عائد إلى نظم الكافل لأن أبوابه كذلك وليس عائدا إلى العلم نفسه لأن الباب الأول المشتمل على الأحكام وتوابعها ليس من موضوع العلم فلا يصح عوده إليه إلا بنوع تأويل كالتغليب
الباب الأول في الأحكام الشرعية ... أولها أحكامنا الشرعية ... تتبعها توابع مرعية ...
هذا أول الأبواب والضمير لها والأحكام جمع حكم تقدم تفسيره آنفا وإضافتها إلينا لكوننا المأمورين بها وجمعها لأنها خمسة كما عرفت قريبا ووصفها بالشرعية لما مر ونسبت إلى الشرع لثبوتها به إما بنقله عن أصله أو بتقريره على أصله على حد لو نقل بدلا عن إمساكه لصح كما ورد المنع عن ذبح ما لا يحل أكله فإن الشرع هنا قرر ما في العقل بخلاف ما ورد به الشرع مطابقا للعقل مما يقضي العقل فيه بقضية لا يصح أن يغيرها الشرع كوجوب قضاء الدين ورد الوديعة وقبح الظلم ونحو ذلك فإن هذا لا يسمى شرعيا وقوله تتبعها أي الأحكام توابع مرعية المراد ما يتبعها من الصحة والبطلان بل ومن تقسيم الواجب إلى مخير وموسع ونحوها فإن هذه توابع الأحكام والأصل في البحث هو الأحكام لذاتها وهذه أقسام وصفات لها ملاحظة بالتبعية
واعلم أن الأحكام لها نسبة إلى الحاكم وإلى ما فيه الحكم وهو الفعل فتسمى بالنظر إلى الأول إيجابا مثلا وتسمى إذا نسبت إلى الثاني وجوبا فهما متحدان ذاتا مختلفان اعتبارا ومن هنا تراهم يجعلون أقسام الحكم الإيجاب والتحريم تارة والوجوب والحرمة أخرى كما وقع هنا وقد رسمت باعبتار صفة الحاكم وباعتبار متعلقاتها والناظم رسمها بالاعتبار الثاني موافقة لأصله
فقال ... وهي وجوب حرمة والندب ... كراهة إباحة يا ندب ...
في القاموس الندب الخفيف في الحاجة الظريف النجيب
ولا يخفى حسن الجناس ... وعرفوها بالتي تعيقت ... بها فخذ رسومها كما أتت ...
أي تعلقت بها قال في الأصل وتعرف بمتعلقاتها ... فما استحق الفاعل الثواب ... بفعله وتركه العقابا ... فواجب وعكسه الحرام ...
هذا هو تعريف الواجب والحرام كقوله فما استحق مبتدأ وكلمة ما موصولة و الجملة صلتها والعائد أغنى عنه تعريف الفاعل وأصله فاعله أو محذوف أي عليه وقوله فواجب خبره دخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولك تقديره فهو واجب والمراد بالفاعل المكلف والثواب الجزاء كما في القاموس والمراد به هنا ما وعد الله به عباده من الجزاء على فعل الواجبات على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم واستحقاق الفاعل له
بوعد من لا يخلف الميعاد بإثابته والمراد ما من شأنه أن يستحق عليه الثواب فيدخل فيه فرض الكفاية والمخير وبهذا القيد خرج الحرام والمكروه والمباح لأنها قد دخلت في قوله والحكم فإنه مقدر أي فالحكم الواجب ما استحق إلى آخره ضرورة أنه جنس للخمسة فهو مراد ولأن كلمة ما في قوله ما استحق بمعنى فعل أي فعل استحق فدخلت فيه وقوله وتركه العقابا هو من العطف على معمولي عاملين مختلفين على رأي الفراء وبفعله يتعلق بالثواب وهو مصدر يتعلق به الظرف وتركه معمول العقاب وتقديمه عليه جائز من باب فلما بلغ معه السعي وبهذا القيد خرج المندوب والمباح وبهما كان التعريف جامعا مانعا إن قلت كان يكفي استحقاق العقاب بتركه قلت زيادة قيد الثواب بفعله احتيج إليه ليتم الاختصار بقوله وعكسه الحرام ويعرف به المراد ولو حذف ما عرف المراد بالعكس وهو وجه إيراده في الأصل كذلك والناظم يعتمد عبارة ما نظمه فلا يرد أنه كان يكفي أن يقال الواجب ما استحق تاركه العقاب والحرام بالعكس على أن العبارة قد اشتملت على لطف المقابلة بين الفعل والترك والعقاب والثواب وفيها من الإشارة إلى الترغيب والترهيب ما يزيدها حسنا ولطفا ولأنه لا بد من ذكر ذلك في المندوب والمكروه والمباح فحسن الإتيان بهذا في الواجب والحرام ليكون الكل على منوال واحد والمراد بالعكس اللغوي أي ما يستحق الثواب بتركه والعقاب بفعله فهو الحرام فيخرج بالقيد الأول الواجب والمندوب وبالثاني المكروه والمباح والمراد أن من شأنه عقاب فاعله كما أن من شأن تارك الواجب عقابه فلا ينافيه جواز العفو فإن ذلك مقتض
للعقاب ما لم يمنع مانع العفو والتوبة والشفاعة واعلم أنه لا يشمل الحد التروك عند من يجعلها أفعالا ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
فائدة واعلم أن كل فعل طلب الشارع تركه أو ذم فاعله أو مقته أو لعنه أو نفى محبته إياه أو محبة فاعله أو نفي الرضا به أو الرضا عن فاعله أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين أو جاء له مانعا للهدى أو استعاذ الأنبياء عليهم السلام منه أو جعله سببا لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل أو نسبه الله تعالى أو رسوله إلى عمل الشيطان أو تزيينه أو لعداوة الله أو محاربته أو الاستهزاء به أو سخريته أو دعا إلى التوبة منه أو وصف فاعله بخبث أو بضلالة أو بأنه ليس من الله في شيء أو بأنه ليس من الرسول صلى الله عليه و سلم أو أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا أو أخبر ان من فعله قيض الله له شيطانا فهو له قرين أو جعل فعله سببا لإزاغة قلب فاعله أو لصرفه عن آياته وفهم آلائه أو يسأل الله تعالى عن علة الفعل لم فعل تصدون عن سبيل الله من آمن لم تلبسون الحق بالباطل مامنعك أن تسجد فهذه كلها ونحوها تدل على المنع من الفعل ودلالتها على التحريم أظهر من دلالتها على الكراهة وأما نحو يكرهه الله ورسوله فدلالتها على التحريم أظهر فاكثر ما يستعمل في المحرم ... وبعده المندوب يا همام ...
الهمام كغراب العالي الهمه كما في القاموس والمندوب لغة المدعو إليه يقال ندبته لكذا فانتدب وأصله المندوب إليه فتوسع فيه بحذف حرف الجر فاستتر فيه الضمير ثم صار إسما لهذا القسم من الأحكام ورسموه بقوله ... ما يستحق الأجر فيه إن فعل
خرج به الحرام والمكروه والمباح وبقي الواجب أخرجه بقوله ... ولا عقاب إن يكن عنه غفل ...
فالمندوب ما استحق فاعله الثواب ولم يستحق تاركه العقاب
واعلم أن كل فعل عظمه الله تعالى أو رسوله أومدحه أومدح فاعله لأجله أو فرح به أو أحبه أو أحب فاعله أو رضي به أو رضي عن فاعله أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لشكره أو لهدايته إياه أو لرضاه عنه أو لمغفرة ذنبه أو لتكفير سيئاته أولقبوله أو لنظره إليه أو لنصره أو وصفه بأنه قربة أو أقسم به أو بفاعله كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها وضحك الرب سبحانه من فاعله أو إعجابه به فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب
والرابع والخامس ما في قوله ... وعكسه المكروه والمباح ... ما فقدا فيه فلا جناح ...
فالرابع المكروه ما استحق تاركه الثواب ولم يستحق الفاعل عليه العقاب وهذا الذي يسميه الفقهاء بأنه مكروه تنزيها ويسمونه خلاف الأولى وأما المكروه كراهة حظر فإنه داخل في قسم الحرام وليس قسما
مستقلا والمراد بغفل عنه تركه عمدا فلا يتوهم من لفظ غفل أنه من لم يعلم به إذ الغافل لا يكلف بشيء من الأحكام والقرينة على الإرادة المقام فبالفصل الأول يخرج الواجب والمندوب والمباح وبالفصل الثاني الحرام والخامس المباح المرسوم بقوله ما فقدا فيه أي فعل فقد فيه الإثابة على فعله والعقاب على تركه ولذا قيل فلا جناح أي لا حرج على فاعله وتاركه وضمير فيه للمباح والمراد فقدا فيه فعلا وتركا
واعلم أنها تستفاد الإباحة من كلام الشارع من لفظ الإحلال ورفع الجناح والإذن والعفو وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها من الأفعال نحو من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ونحوه من السكوت عن التحريم ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي وهو نوعان إقرار الرب وإقرار رسوله صلى الله عليه و سلم فمن إقرار الرب حديث جابر كنا نعزل والقرآن ينزل ومن إقرار الرسول صلى الله عليه و سلم قول حسان لعمر كنت أنشد وفيه من هو خير منك
واعلم أن المراد من قوله ما استحق فاعله الخ أي ما صار حقا على فعله الإثابة وصار حقا على تركه العقوبة والحق عليه تعالى وهو وإن كان يوافق رأي المعتزلة لكنا قد أشرنا إلى توجيهه وكان الأوفى بمقام الأدب أن يقال الواجب ما وعدنا بالإثابة على فعله وتوعدنا بالعقاب على تركه وعكسه الحرام ولك أن تكتفي بما توعد على تركه وعكسه الحرام
هذا وقد أورد الجلال في النظام وسبقه إليه غيره بأنه دور فلا يعرف
الاستحقاق إلا بعد معرفة الوجوب ولا الوجوب إلا بعد معرفة الاستحقاق وأجيب بأن استحقاق الإثابة والعقاب يعرف بتعريف الشارع إما بنصه على ذلك وذلك يعرف باستقراء الأدلة وحينئذ فلا يتوقف معرفة الاستحقاق على معرفة الوجوب ثم إنه لو رسم الأمران بقوله في الأول الواجب ما أمر به الشارع والحرام ما نهى عنه مع تقريرهم أن الأصل في الأمر الوجوب وفي النهي الخطر لكان رسما صحيحا سالما عما أورده على غيره ... والفرض والواجب قد ترادفا ... والناصر الاطروش فيه خالفا ...
الخلاف بين الجمهور والناصر والحنفية فذهب الأولون إلى ترادف اللفظين أي يتحدان معنى كاتحاد ليث وأسد وذهب الآخرون إلى أنهما متغايران فما كان دليله قطعيا سندا ودلالة سموه فرضا وما كان ظنيا سندا ودلالة أو أحدهما سموه واجبا وقد يستعملون أحدهما مكان الآخر وفي شرح المختصر إن الخلاف لفظي وقيل معنوي وإن تارك الفرض يفسق بخلاف تارك الواجب هذا وأما الحرام فإنه يرادفه المحظور ويسمى معصية وذنبا ومزجورا عنه ومتوعدا عليه ثم أشار إلى تقسيم الواجب إلى أقسامه فالقسمة الأولى هي المشار إليها بقوله ... وانقسم الواجب في الدرايه
بكسر الدال المهملة درى يدري أي علم ويستعمل لما فيه ضرب من الحيلة وهو يقابل الرواية عند إطلاقه ... إلى فروض العين والكفاية ...
انقسام الواجب له جهتان الأولى بالنظر إلى المحكوم عليه وهو المكلف فإن كان الفعل المطلوب من المكلف لا يسقطه عنه فعل مكلف آخر ففرض عين أو يسقطه ففرض كفاية فالأول كالصلاة والثاني كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعلم أن سنة الكفاية كفرضها قال في جمع الجوامع وسنة الكفاية كفرضها قال الزركشي هذا يقتضي انقسام السنة إلى كفاية وعين والفرق بينهما أن سنة الكفاية يكون النظر فيها إلى الفعل من غير نظر إلى الفاعل كتشميت العاطس وابتداء السلام والأضحية في حق البيت الواحد والجهة الثانية أفادها قوله ... ثم إلى التعيين والتخيير ...
وهذا بالنظر إلى المحكوم فيه وهو الفعل فإنه إن كان المطلوب منه إيقاعه بعينه كالصلوات الخمس فمعين وإلا فمخير بين إفراده كخصال الكفارة ثم له تقسيم آخر باعتبار إيقاع الفعل هو المفاد بقوله ... ومطلق و الغير في تحبير ...
التحبير مصدره حبره تحبيرا إذا حسنه
فالواجب انقسم إلى مطلق وهو ما لم يعين وقته كالنذر المطلق وقضاء صوم رمضان وإلى معين وقته وذلك كالصلوات الخمس والحج والصيام وقوله ... مؤقت مضيق أو وسعا
بدل من الغير أو بيان له أتي به لبيان المراد بالغير أي غير المطلق وإدخال آلة التعريف عليه شائع في عبارات العلماء غير وارد في كلام العرب أي والواجب المؤقت ينقسم أيضا إلى مضيق وقته وموسع فالأول هو ما لا يتسع الوقت المقدر له شرعا إلا لفعل الواجب وذلك مثل الصيام والثاني وهو ما يزيد وقته على فعل الواجب وذلك كالصلوات الخمس وهذا هو الذي أفيد بقوله مضيق او وسعا فمضيق مجرور صفة لمؤقت وقد يعبر عنه بالواجب الموسع والواجب المضيق على سبيل المجاز وإنما المضيق والموسع صفة للوقت ولما فرغ من تقسيم الواجب بتلك الاعتبارات أخذ في بيان ترادف بعض الألفاظ عند بعض أهل الأصول فقال ... والمستحب رادف التطوعا ... ورادف المندوب المسنون ... أخص من كليهما يكون ...
ها هنا ألفاظ حكموا عليها بالترادف فقالوا المندوب والمستحب والتطوع مترادفة معنى كل منهما معنى الآخر فهي ما يستحق الثواب بفعلها ولا عقاب في تركها وقوله والمسنون مبتدأ خبره أخص من كليهما فإنهم
رسموه بما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم وواظب عليه فزادوا فيه قيد المواظبة وأرادوا بما أمر به أمر ندب فلا يرد الواجب فكل مسنون مندوب ولا عكس وعبر عن ذلك في الغاية بقوله ما أمر به عليه السلام ندبا فإن واظب عليه فمسنون وإلا فمستحب وفي جمع الجوامع أنه يرادف المندوب أيضا وإن الكل معناه الفعل المطلوب طلبا غير جازم ونقل عن القاضي حسين أنه يقول في المسنون بمثل كلام الناظم وأنه أخص لأخذ المواظبة فيه واعلم أن التقسيم الذي في الواجب يجري في المندوب أيضا فيشبه فرض العين التوجه فإنه مشروع في الصلاة بألفاظ مخصوصة ولا يسقط بفعل مكلف آخر فمن تركها أو بدلها فقد خالف السنة ومثلها أيضا الأذكار المعينة عقيب الصلوات وفيها ومندوب الكفاية كالسلام ابتداء من جماعة والتشميت للعاطس منهم على قول من لم ير وجوبه على كل من السامعين وإن كان حديث إذا عطس أحدكم فحمد الله كان حقا على كل من سمعه أن يقول له يرحمك الله أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن حبان يقتضي وجوب تشميت كل عاطس حامد على كل سامع والمعين كسنة الفجر مثلا فالمطلوب إيقاعها بخصوصها والمخير كالقراءة ب قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد أو الآيتين من سورة البقرة وآل عمران والمطلق كصلاة النافلة من حيث هي والذكر من حيث هو والمؤقت كصيام البيض ويكون مضيقا كهذا الصيام وموسعا كرواتب الفراض ... هذا وما وافق أمر الشارع ... فهو الصحيح أول التوابع
تقدمت إشارة إلى توابع الأحكام هذا أولها وهو تقسيم للواجب بالنظر إلى إيقاعه على وقف شروطه وأسبابه المعتبرة شرعا أعم من أن تكون عبادة أو معاملة فانقسم بهذا الاعتبار إلى صحيح وباطل الأول الصحيح وهو لغة السليم واصطلاحا ما أفاده النظم بأنه الفعل الذي وافق أمر الشارع أي ما كملت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع كالصلوات بشرائطها من الطهارة وستر العورة وغيرهما وهذا رسمه باعتبار العبادة وأما باعتبار المعاملة فالصحة فيها ترتب الأثر المطلوب منها عليها وفي جمع الجوامع أن الصحة موافقة الفعل ذي الوجهين الشرع وقيل في العبادة إسقاط القضاء وفي العقود ترتب أثره عليه وهو ما شرع العقد له كحل الانتفاع في البيع
واعلم أنه خص في الأصل التوابع بما ذكر مع أن تقسيم الواجب الذي تقدم آنفا هو من صفات الحكم فلو عد من التوابع لكان صحيحا وهو امر سهل فإنه اصطلاح والقسم الثاني الباطل أفاده مع الفاسد قوله ... نقيضه الباطل أما الفاسد ... فقيل قد رادفه فواحد ...
الباطل لغة الذاهب واصطلاحا نقيض الصحيح ويجري في العبادات والمعاملات أيضا فهو فيهما عدم ترتب الأثر المقصود من الفعل عليه ففي العبادة عدم موافقة أمر الشارع أو عدم سقوط القضاء وفي المعاملة عدم حل الانتفاع بالمبيع وأما الفاسد ففيه خلاف منهم من يقول إنه مرادف للباطل فمعناه معناه كما أفاده قوله فواحد أي فمعناهما واحد ومن لم يقل بترادفهما رسمه بقوله ... وقال في تعريفه من ينفي ... ما شرع الأصل بدون الوصف ...
أي أنه عرفه من ينفي الترادف بينه وبين الباطل ويجعله قسما مستقلا بأنه المشروع بأصله الممنوع بوصفه وهو قول من يثبت الواسطة بين الباطل
والصحيح إلا أنه ينبغي أن يعلم أنهم متفقون في العبادات سوى الحج أنه لا واسطة فيها بل إما صحيحة أو بطالة والحاصل أن من فسر الفاسد بعدم ارتفاع وجوب القضاء كان كالباطل ومن قال إنه المشروع بأصله الممنوع بوصفه كان واسطة فيقول في العبادات مثلا صوم العيدين الصوم مشروع بأصله ولكن الوصف وهو كونه في ذلك اليوم مثلا منعه الشارع وفي المعاملات كبيع درهم بدرهمين إن البيع مشروع بأصله ولكن الوصف وهو اشتمال أحد الجانبين على الزيادة ممنوع فهو عنده خلل يوجب ترتب بعض الآثار فالبيع الفاسد يوجب جواز الفسخ وعدم الملك إلا بالقبض بإلاذن والقيمة لا الثمن وأما الباطل فلا يترتب على عقد البيع عليه شيء وجعل الفاسد واسطة هومذهب الهدوية والحنفية وأما الناصر والشافعية فهم قائلون بالترادف وعدم الواسطة ولهم في المطولات أمثلة لا نطول بذكرها
تنبيه لم يتعرض في الأصل للإجزاء وهو عندهم كالصحة فرسمه رسمها إلا أنه يختص بالعبادات واجبة كانت أو مندوبة وقيل يختص بالواجب ومنشأ الخلاف وروده في الحديث النبوي في الأضاحي ومن قال إنها سنة قال تتصف به السنة والواجب لحديث لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن أخرجه الدارقطني وصححه وقيل لا يختص بالعبادات بل يجرى في المعاملات كرد الوديعة فإنه إذا حجر على المودع ما أودعه لم يجز الرد عليه بخلاف إذا لم يحجر عليه ورد بأنه ليس فيها إلا تسليمها لمستحق التسليم فليس رد الوديعة يجري على وجهين مجز وغير مجز
ويطلق الجائز في المباح ... وممكن والكل في اصطلاح ... كذا على المشكوك ثم ما استوى ... الفعل والترك به ولا سوى ...
هذا في ذكر الجائز وما يطلق عليه فإنه يطلق على المباح فكلمة في بمعنى على مثل قوله تعالى لأصلبنكم في جذوع النخل فالنظم قد أفاد أنه يطلق الجائز على أربعة أشياء
الأول مما يطلق عليه المباح المعرف بما تقدم من رسمه
الثاني الممكن وهو إما ما لا يمتنع شرعا أي ما لا يحرم وهو شامل للأربعة الأحكام الواجب والمندوب والمباح والمكروه وأما ما لا يمتنع عقلا كأن يقال كون جبريل في أرض جائز أي لا مانع منه في العقل ومثلوا ما لا يمتنع شرعا كأن يقال الأكل بالشمال جائز أي لا مانع عنه شرعا كذا مثلوه به وفيه نظر
الثالث أن يطلق على ما استوى فعله وتركه عقلا كفعل الصبي وكذلك شرعا كالمباح
والرابع المشكوك فيه وهو ما تعارضت فيه أمارات الثبوت والانتفاء أمارة تقضي ثبوته وأخرى تقتضي نفيه في العقل أو الشرع ومثلوه في العقل بمن يتوقف في أصل الأشياء هل على الحظر أو الإباحة فإنه يقول بأنه جائز الأمرين أي الحظر وعدمه لاستوائهما عند تعارض دليليهما وفي الشرع كمن يتوقف في لحم الأرنب ووجوب صلاة العيدين لتعارض أمارتي الأمرين فيوصف بأنه جائز بهذين الاعتبارين فهذه الأربعة المعاني التي أفادها النظم
وللجائز أربعة معان باعتبار المشكوك فيه استوفاها في الفواصل فلا نطيل بذكرها لعدم مساس الحاجة إليها ثم من توابع الحكم باعتبار إيقاع الفعل وهو يختص بالعبادات ما تضمنه قولنا
وما أتى في وقته منك ابتدا ... مقدرا شرعا له فهو الأدا ...
اعلم أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أو لا الثاني لا يوصف بأداء ولا قضاء ولا إعادة كالنوافل المطلقة والأذكار التي لم توقت والأول وهو ما له وقت معين إما أن يكون وقته المعين محدود الطرفين أو لا الثاني يوصف بالأداء لا غير كالحج ولا يوصف بالقضاء إلا مجازا لأجل المشابهة للمقضي في الاستدراك كما قيل والأول يوصف بالثلاثة
إذا عرفت هذا فالأداء قد رسمه الناظم بما سمعته فقوله مقدرا حال من وقته أي الفعل الذي أتى منك في وقته المقدر له ابتداء هو الاداء وحمل الأداء على قوله ما أتى صحيح لأن المصدر بمعنى المفعول قيل وقد صار إطلاقه عليه هنا حقيقة عرفيه وابتداء منصوب بمقدر المذكور أي فعل في وقته المقدر له ابتداء فخرج بقوله في وقته النوافل المطلقة وبقوله المقدر له ابتداء القضاء كصلاة الظهر مثلا فإن وقتها الأول هو الأداء والثاني وقت ذكرها إذا نسيها أو نام عنها فإذا أوقعها فيه فليست بأداء قلت ولك أن تقول ابتداء منصوب بأتى فلا تخرج عن الأداء فإنه فعلها ابتداء عند ذكرها في وقتها وقد قال الشارع إنه لا وقت لها إلا ذلك فهو من قسم الأداء ولم يفعل ثانيا
وقوله شرعا يخرج ما إذا عين المكلف للقضاء الموسع وقتا وكذا الزكاة إذا عين الإمام لقبضها شهرا فهو عرفي لا شرعي وعلى هذا التقدير فالإعادة من قسم الأداء وهو الذي قرره العضد وتبعه الجلال في شرح الفصول وهذا على تقدير تعلق ابتداء بمقدر وقيل إنه يتعلق بأتى أي وما أتى منك
ابتداء فتخرج الإعادة وقوله في وقته مقدرا تخرج النوافل المطلقة وعلى هذا بنى الشيخ لطف الله في شرح الفصول وعليه اعتمد صاحب الغاية فيه
واعلم أن ظاهر الرسم خروج صلاة أدرك منها فاعلها ركعة في وقتها ثم خرج الوقت وأتى بباقيها خارجة وحديث الصحيحين من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة يقضي بأنها أداء ولهذا عرف الأداء في جمع الجوامع بقوله والأداء فعل بعض وقيل كل ما دخل وقته قبل خروجه وإذا عرفت مما ذكرناه آنفا أن هناك ثلاث صفات للفعل فقد قدمنا رسم الأول منها وهو الاداء ورسم الآخرين أفاده قولنا ... وما فعلت بعده استدراكا ... لواجب مطلقه عراكا ... فهو القضا في الشرع للعباده ...
فهذا هو ثاني الثلاثة وهو القضاء وضمير بعده عائد إلى الوقت أي ما فعلته بعد وقت الاداء استدراكا إلى آخره وقيد مطلقا في قوله مطلقه أي مطلق الوجوب ليوافق قوله في الأصل استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا قال شارحه وقوله مطلقا قيد للوجب أي سواء كان على القاضي أو على غيره فيدخل في ذلك قضاء الحائض للصوم لأنه وإن لم يسبق له وجوب عليها فقد سبق على غيرها وحكى ابن الحاجب أن بعض الأصوليين في حده للقضاء يحذف مطلقا فعليه لا يسمى صوم الحائض قضاء وعلى الأول يسمى قضاء
وقد ثبت حديث عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم لا الصلاة والمراد به الأداء وهو معناه لغة والخلاف لفظي لأن حالة العذر يجب عليها ترك الصوم وحالة عدمه يجب عليه الإتيان به اتفاقا وعرفت أنه خرج بقوله بعد الأداء والإعادة وبقوله استدراكا الصلاة المؤداة خارج الوقت قضاء ثم أعادها بجماعة على القول بأنها تكون أي الأولى نافلة
فإن قلت من مات فحج عنه يكون من الأداء أو القضاء قلت قد جعلوا الحج من المؤقت ووقته العمر فما فعل بعده كان قضاء وأما من فسد حجه فأتى به صحيحا فلا يسمى قضاء إلا مجازا كما يطلق عليه الفقهاء
واعلم أن لفظ النسخة من النظم الأولى التي شرحها مؤلف الفواصل رحمه الله كانت بلفظ السابق وجوبه علاكا بحذف قيد الإطلاق فخرج منها صوم الحائض عن أن يسمى قضاء وهو قول بعض الأصوليين إلا أنا حولنا إلى ما هنا ليوافق الأصل فإنه قيد بالإطلاق لإدخال ذلك وأما السبق فإنه وإن فات في الذي عوضناه فقوله بعده يغني عن ذلك وقيد استدراكا قيل لا حاجة إليه لأنه ليس من مفهوم القضاء وإن كان عرضا لأن العرض للشيء خارج عن ذاته
والثالث وهو الإعادة أشار إليه قولنا ... وخذ هديت الرسم للإعادة ... بما فعلت ثانيا وقت الأدا ... لخلل فيما أتى في الإبتدا ...
الإعادة هي ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الفعل الأول فقوله ثانيا يخرج الأداء وقوله وقت الأداء يخرج القضاء وقوله خلل في الأول أي من فوات ركن أو شرط يخرج ما ليس كذلك كالمنفرد إذا صلى ثانية مع
الجماعة يعني فلا تسمى إعادة وبعضهم رسم الإعادة بما فعل ثانيا في وقته لعذر من خلل أو نقصان فضيلة وهو أعم من الأول لشموله إعادة المنفرد مع الجماعة ولا يخفى أن هذا إنما يتمشى على رأي من يجعل الفريضة هي الفعل الثاني وعلى صحة الرفض شرعا وتجدد الطلب بعده وذلك مما لا دليل عليه كما بيناه في حواشي ضوء النهار وغيره هذا وللحكم تقسيم آخر باعتبار وصفه بالرخصة والعزيمة أشار إليه قولنا ... والرسم للرخصة والعزيمة ... ما شرعت وما اقتضى تحريمه ... باق لعذر فهو رسم الأولى ... وعكسها قرينها في الإملا ...
هذا بيان العزيمة والرخصة فالعزيمة لغة القصد المؤكد ومنه عزمت على فعل كذا والرخصة لغة التيسير والتسهيل ومنه رخص السعر إذا تيسر وتسهل وهذا تقسيم للحكم باعتبار مشروعيته فإما أن يشرع لعذر مع بقاء مقتضى التحريم لولاه أو لا الأول الرخصة والثاني العزيمة فرسم الرخصة قوله ما شرعت فما الموصولة مبتدأ وقوله فهو رسم الأولى خبره وقوله ما شرعت أي ما شرع الله للمكلف فعله كأكل الميتة أو تركه كترك الصوم وهذا جنس الحد وقوله وما اقتضى تحريمه باق فصل ثان يخرج ما نسخ تحريمه أي شرعت ودليل التحريم باق وقوله وما اقتضى تحريمه ما موصولة واقتضى صلتها وفاعله ضمير للموصول وتحريمه مفعول وباق خبر الموصول أي ما شرعت والدليل المقتضي لتحريمه باق وهذا القيد يخرج به ما نسخ من الأحكام لعذر كوجوب ثبات الواحد للعشرة
وقوله لعذر فصل أول والمراد به أمر طارىء في حق المكلف فخرج
الحكم ابتداء ومنه وجوب الإطعام في كفارة الظهار عند فقد الرقبة لأنه الواجب ابتداء على فاقد الرقبة كما أن الإعتاق هو الواجب ابتداء على واجدها واعلم أنه قد زاد في مختصر ابن الحاجب في الرسم لفظ لولا العذر وحذفها في الأصل الذي نظمناه وحذفه في جمع الجوافع أيضا ووجه حذفه أنه قد تم الرسم من دون ذكره ووجه ذكره ممن ذكره رفع إيهام اجتماع الضدين في حالة واحدة وهو بقاء مقتضى التحريم ومشروعيته للعذر ولا خفاء أن دفع الإيهام ليس من وظيفة الرسم هذا
وقد قسموا الرخصة إلى واجبة كأكل الميتة للمضطر ومندوب ومباح ومكروه وبيانها وأمثلتها في المطولات إلا أن ظاهر عبارة النظم والأصل أنها لا تجري إلا في الواجب والمحرم وقد زاد في الفصول مع بقاء المحرم أو الموجب ثم لا يخفى أن رسم الرخصة بما شرع إلى آخره هو الواقع في غالب كتب الأصول وفيه تسامح لا يخفى لأن الذي شرع هو الفعل لا الرخصة فإنها رفع التحريم أو الكراهة عن نحو أكل الميتة لعذر الجوع وأما العزيمة فقد أفاد رسمها بقوله
وعكسها قرينها في الإملا ... فهي ما شرعت لا لعذر مع بقاء ...
مقتضى التحريم هذا هو الذي يقتضيه ظاهر العكس وإلى هنا انتهى الكلام في الحكم التكليفي وتوابعه ولما أهمل مصنف الأصل الحكم الوضعي مع عموم الحاجة إليه زاده الناظم بقوله ... وهما هنا زيادة في الحكم ... أهملها في أصل هذا النظم ... قد قسموا الحكم إلى تكليف ... وهو الذي قد مر في تأليف ... ثم إلى الوضعي وهو المانع ... والشرط والأسباب هذا جامع ...
أي جامع لأقسامها وهي ثلاثة الأول الشرط أشار إلى تعريفه بقوله ... فإن يؤثر عدمه في العدم ...
الأول بسكون الدال المهملة والثاني بتحريكها مفتوحة ... فالشرط أو وجوده فلتعلم ...
قوله فالشرط جزاء قوله فإن يؤثر أي حقيقة الشرط ان يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود الحكم ومثلوه بالحلول في وجوب الزكاة وقوله أو وجوده عطف على قوله عدمه أي وإن أثر وجوده وجوابه ما يأتي في قوله ... بأنه إن أثر العدم فقد ... سموه بالمانع ثم ما ورد
فهو الثاني وهو المانع ورسموه بأنه ما أثر وجوده عدم الحكم وذلك كالأبوة في منع القصاص وقوله ... مؤثرا وجوده الوجودا ... وعدمه في عدم فقودا ...
يريد فقودا مصدر فقدت الشيء فقودا نحو قعدت قعودا مؤثرا حال من فاعل ورد أي والذي ورد من المعرفات وهي الأحكام الوضعية مؤثرا وجوده وجود الحكم عدمه الحكم فعدمه عطف على قوله وجوده أي ومؤثرا عدمه عدم الحكم وفقودا مفعول مؤثرا المقدر أي مؤثرا في عدم الحكم فقوده وقوله ... فالسبب المعروف كالزوال ... لواجب الظهر بلا مقال ...
خبر لقوله ما ورد فهذا هو ثالت الأحكام الوضعية وهو السبب فتحصل من هذا ان ما أثر عدمه عدم الحكم فهو الشرط وما أثر وجوده عدم الحكم فهو المانع وما أثر وجوده وجودا لحكم وعدمه عدمه فهوالسبب فهذه الثلاثة هي الأحكام الوضعية وهي مقابلة للخمسة التكليفية ومن قال بإدراجها فيها فقد تكلف ولا غنى لطالب هذا الفن من معرفتها تفصيلا
فأولها على ترتيب ذكرها في النظم الشرط وهو يطلق على انواع المراد منها هنا ما يؤثر عدمه في عدم الحكم المشروط ومثلوه بالحول لوجوب الزكاة وبالطهارة في صحة الصلاة وإن كان قد نوقش في هذا المثال الآخر ويطلق على الشرط اللغوي وهو ما علق بأحد حروف الشرط وهو الذي يأتي في باب التخصيص ويطلق على جعل الشيء شرطا لشيء آخر كشراء الدابة بشرط كونها حاملا وهو من أبحاث علم الفروع والمراد هنا الأول الذي رسموه بما أشرنا إليه ويعبرون عنه في رسمه بأنه وصف ظاهر منضبط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته واقتصرنا في النظم على
القيد الذي يتحقق به كونه شرطا وهو عدم الحكم المشروط به لعدمه لأنه كاف في تمييزه عن أخويه وهما السبب والمانع ولعلماء الأصول في الشرط تفصيل وأمثلة في إيرادها تطويل
والثاني المانع المشار إليه بأنه ما أثر وجوده العدم فإنهم رسموه أيضا في الأصول بقولهم إنه وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده عدم الحكم وقد قسموه إلى مانع الحكم ومانع سبب الحكم ومانع السبب تقدم مثاله بالأبوة في مانع القصاص ومنعه هنا لحكمة وهي أن الأب سبب لوجود الابن
فلا يكون الابن سببا في عدم أبيه ولهم هنا تطويل وذكر أمثلة إذا عرفت القاعدة عرفت
الثالث السبب وقد رسموه أيضا بأنه وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ومثلوه بالزوال لوجوب صلاة الظهر كما أشرنا إلى ذلك كله فهذا بيان لما ذكره مما أهمله صاحب الأصل وفي هذه الثلاثة الأحكام الوضعية تفاصيل وإيرادات في بيان الفروق بينها قد أتى بها في الفواصل ونقل أقوال العلماء في ذلك مما لا يخلو عن تطويل ولا يصفو عن كدر فلا يروى الغليل وفيما أشرنا إليه ما يكفي أهل التحصيل
فقد تحصل أن الأحكام ثمانية خمسة تكليفية وثلاثة وضعية وتوابع الأولى الأداء والإعادة والقضاء والرخصة والعزيمة والصحة والبطلان فهذه المعاني المبحوث عنها فيما سلف خمسة عشر وأما الفاسد فالحق أنه الباطل وليس قسما برأسه
الباب الثاني في الأدلة ... وجاء في الثاني من الأبواب ... أدلة السنة والكتاب ...
أي ما دلا على حكمه أو على دليليته فدخل الإجماع والقياس كما هو مبين فيما سيأتي من فصول هذا الباب هذا والأدلة جمع دليل والدليل في اللغة المرشد وهو العلامة الهادية وناصبها وذاكرها قالوا إنه يطلق على كل واحد من الثلاثة قال فالله تعالى دليل لأنه ناصب الأدلة وذاكرها في كتابه وإن كان إطلاق الدليل عليهما لا يكون إلا مجازا لما تقرر من أن حقيقة الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر وعلى رأي من يشترط في حقيقة إطلاق المشتق وجود معناه لا يكون الدليل أيضا هو نفس المنصوب والمذكور بل الدليل هو العلم بوجه دلالتها كما يقتضيه رسم الدلالة المذكور وهذا الذي ذكروه في معناه لغة لم أجده في القاموس كما ذكروه وأما معناه اصطلاحا فهو ما أشار إليه قولنا ... دليلنا ما يمكن التوصل ... بالنظر الصحيح فهو الموصل ... لنا إلى العلم وبالأماره ... ظن وقد يدعى به استعاره ...
أضاف الدليل إلى نفسه وإلى غيره من العلماء إرشادا إلى أن المراد رسم
معناه الاصطلاحي وأتى بقيد الإمكان للإشارة إلى أن الدليل من حيث هو دليل يكفي فيه التوصل بالقوة لا بالفعل فلا يخرج الدليل عن كونه دليلا بأن لا ينظر فيه أصلا ولو اعتبر فيه وجود التوصل لخرج من التعريف ما لم ينظر فيه أحد أبدا وقوله التوصل قال المحلي هو الوصول بكلفة وقوله بالنظر النظر لغة الانتظار وتقليب الحدقة والرؤية وبهذا المعنى يتعدى بالام وبهذا المعنى يتعدى بإلى واالتأمل والاعتبار وبهذا المعنى يتعدى بفي وهو في الاصطلاح الفكر المطلوب به علم أو ظن والفكر انتقال النفس بالمعاني انتقالا بالقصد ويفسر بأنه ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول وقد يفسر الفكر بأنه حركة النفس في المعقولات بانتقاله فيها انتقالا قصديا تدريجيا والمراد بالنظر ما يتناول النظر في الدليل نفسه وفي صفاته وأحواله فيشمل المقدمات التي هي بحيث إذا ركبت أدت إلى المطلوب والمفرد الذي من شأنه أنه إذا نظر إلى أحواله أوصل إليه كالعالم وقيده بالصحيح وهو المشتمل على شرائطه مادة وصورة لأن الفاسد لا يمكن أن يتوصل به إلى المطلوب
إذ ليس هو في نفسه سببا للتوصل ولا آلة له ومعرفة النظر الصحيح من الفاسد يعرف من علم الميزان المؤلف لمعرفة شرائط الأدلة من حيث المادة والصورة ونحوهما
وقوله فهو الموصل أي أنه لا يوصل إلى النظر الصحيح إيصالا مطردا والفاسد وإن اتفق الوصول به نادرا لا اعتداد به وقوله إلى العلم قد حذف متعلقه وهو مطلوب خبري فالمراد الموصل إلى العلم بمطلوب خبري وهو من تمام الرسم وحذفه للعلم به فلا يرد دخول القول الشارح في التعريف وبهذا القيد أخرجه في الفصول
واعلم أن هذا التعريف جار على اصطلاح المتكلمين في أنه لا بد في الدليل من إفادته العلم فيخرج ما يفيد الظن فلا يسمى دليلا عندهم ويسمى أمارة وقد أشار إليها قوله بالأمارة أي والتوصل بالأمارة يفيد الظن لا العلم لزوما عاديا لا عقليا كما إذا أغيم الهوى بالغيم الرطب فإنه يحصل ظن حدوث المطر وقد يتخلف ولو كان عقليا لما تخلف هذا كلام الجمهور وقد اختلف فيه على قولين الأول ما سمعته من عدم اللزوم الثاني أنه لازم وهو قول الملاحمية قال في نظام الفصول هو الحق لأن الأمارة إنما سميت أمارة بدلالتها على مدلولها ظنا فما لم تدل على مدلولها رأسا لا تسمى أمارة وحاصله أن ظن المطر في المثال المذكور ملازم لظن رطوبة الغيم بحيث
لا ينفك أحدهما عن الآخر كما لا ينفك العلم الحاصل عن الدليل عن العلم بوجه دلالة الدليل فإذا زال ظن المطر كشف زواله عن زوال ظن الرطوبة فإنه هو الأمارة لا نفس الغيم فإنه مشاهد لا مظنون ولا نفس الرطوبة فإنها في حيز المجهولات لعدم تحققها إلا بتحقق المطر نعم بين العلم والظن فرق فإن العلم لا ينفك عن متعلقه بخلاف الظن انتهى بتلخيص وخلاف الملاحمية لم يذكره ابن الحاجب ولا شراح كلامه بل أطبقوا على القول الأول وقال العضد في تعليله إنه ليس بين الظن وبين شيء علاقة لانتفائه مع بقاء سببه قال عليه المقبلي في نجاح الطالب ولا يسع عقلي ذلك فإنه إذا كان الغيم الرطب والبرق والرعد والوابل الذي بينك وبينه مثلا مائة ذراع متزاحفا إليك بسرعة يحصل معك الظن قطعا وربما انكشف عدم وصول المطر إلى حيزك ثم قال وعلى الجملة فكل صورة حصل عنها الظن فإنه يحصل عند مساويها وكل عاقل راجع نفسه لا ينكر ذلك والذي أظنه أن موجب تطبيقهم بسبب انتقال ذهني من أمارة الظن إلى الظن ومع هذا فهو بعيد على الجمهور وتحقيقه أن الدليل يلزم عنه العلم والعلم يلزمه مطابقة المعلوم ولا يجوز عدم المطابقة إذ حقيقته ذلك والأمارة يلزم عنها الظن كلزوم العلم سواء وهما عاديان لا يفترقان لكن ليس من لازم الظن المطابقة ولهذا قد يحصل الظن ولا يحصل المظنون ولا يجوز حصول العلم ولا يحصل المعلوم وهذا الافتراق غير ذلك الاتفاق وكأنه اتفق للنظار التباس أحد الأمرين بالآخر وقد بحثت عن هذا جهدي في كلام الرازي وأبو الحسين وغيرهما
قلت وكأنه ما عرف خلاف الملاحمية وقد وافقه كلام النظام والحق معهما وهذا مما تركه الأول للآخر والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء قوله وقد يدعى به استعارة أي أنه قد يسمى أي الظن علما فإنه قد يطلق لغة على اليقين نحو الذي يظنون أنهم ملاقو ربهم وعن الخليل بن أحمد أنه قال الظن شك ويقين وظاهر كلامه أنه مشترك فقوله استعارة ليس المراد الاستعارة الاصطلاحية بل المراد أنه لغة يكون بأحد معنييه بمعنى العلم ثم لما ذكر العلم بالدليل أخذ في ذكر حقيقته فقال ... والعلم معنى يقتضي السكونا ... لنفس من قام به يقينا ... بأن ما يعلمه كما اعتقد ...
اعلم أن كلامنا هنا في العلم بالمعنى الأخص الذي لا يشمل الظن لأنه قسيمه كما عرفت هنا وتعرفه مما يأتي في تعريف الظن وإذا عرفت هذا فاعلم أنه قد اختلف العلماء هل يحد العلم أو لا فقيل يحد وقيل لا يحد لتعسر معرفة جنسه وفصله وقيل بل لجلائه ووضوحه فهو ضروري وعلى القول الأول فله تعريفات كثيرة قد أودعت شرح مختصر ابن الحاجب وغيره وقد أشرنا إلى رسمه بما أشار إليه في الأصل فقوله معنى جنس الحد شامل لجميع أنواع التصورات والتصديقات وقوله يقتضي السكونا لنفس من قام به فصل يخرج الظن والشك والوهم والتبخيت والتقيلد وقوله بأن ما يعلمه كما اعتقد أي لا يمكن تغيره ولا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه فصل ثان يخرج به الجهل المركب إذ هو معرض للزوال لاحتمال أن يعرف صاحبه حقيقة الأمر فاندفع
ما قيل من أنه لا حاجة إلى هذا القيد ولا يحترز به عن شيء بل الحاجة إليه ضرورية فإنه لا يخرج الجهل المركب إلا به فإنه يشمله قوله معنى يقتضي سكون النفس
فإن قلت علم الله غير داخل في الحد فإن سكون النفس يختص بعلم الإنسان قلت لا ضير في خروجه لأن الرسم للعلم الكاسب والمكتسب وذلك إنما هو علم المخلوق من الملك والجن والإنس بخلاف الخالق فإنه لذاته لا لسبب من الأسباب وعلم الله تعالى قديم لا يوصف بضرورة ولا كسب ثم إن التعريف إنما يراد به تعميم إفراد ما يحتاج إلى معرفته بحسب الحاجة ولا ضرورة ملحة إلى دخول علمه تعالى في الرسم لا يقال الرسم دوري لأنه أخذ العلم في رسم نفسه لأنه يقال المأخوذ في التعريف هو المعلوم والمحدود العلم وهذا كاف في المغايرة في الجملة ولقد تعددت العبارات في رسمه وما خلا شيء عن مقال
ثم إن ينقسم إلى ضروري وكسبي وكل منهما له حقيقة تخصه فأشار إلى ذلك قولنا ... وهو ضروري أتى بغير كد ... خلافه الكسبي ثم الأول ... ماليس للتكشيك فيه مدخل ...
هذا رسم الضروري لأنه ما أتى بغير كد أي بلا طلب واكتساب كعلم أحدنا بنفسه
وأما البديهي فقال في المواقف وشرحه البديهي إنما يثبته مجرد العقل أي يثبته بمجرد التفاته إليه انتهى من غير استعانة بحس أو غيره تصورا كان أو تصديقا فهو أخص من الضروري وقد يطلق مرادفا له والكسبي هو الحاصل بالكسب وهو مباشرة الأسباب بالاختيار كصرف
العقل والنظر في المقدمات والاستدلالات والإصغاء وتقليب الحدقة ونحو ذلك في الحسيات
وفي النسفية وشرحها أن أسباب العلم ثلاثة الحواس الخمس السليمة والخبر الصادق والعقل وقال السعد لا تنحصر في الثلاثة بل هاهنا أشياء أخر مثل الوجدان والحدس والتجربة ونظر العقل بمعنى ترتيب المبادىء والمقدمات والضروري يقال تارة في مقابلة الكسب ويفسر بما لا يكن تحصيله مقدورا للمخلوق وتارة في مقابلة الاستدلالي ويفسر بما يحصل بدون فكر ونظر في دليله ومن هنا جعل بعضهم العلم الحاصل بالحواس اكتسابيا أي حاصلا بمباشرة الأسباب بالاختيار وبعضهم جعله ضروريا أي حاصلا بدون استدلال نص عليه السعد في شرح العقائد
واعلم أن انقسام العلم إليهما لا يحتاج إلى الاستدلال بل يعرف بالوجدان فكم بين العلم بأن الشمس مشرقة والنار محرقة وبين العلم بأن العالم حادث فالأول ضروري والثاني كسبي نظري وقوله ما ليس للتشكيك فيه مدخل خبر عن قوله ثم الأول أو عن مبتدأ محذوف والكل خبر عن الأول فالضروري ما لا يقبل التشكيك فإن قيل النظري بعد النظر الصحيح لا يقبل أيضا التشكيك كعلمنا بأن العالم حادث فإنه لا يقبل التشكيك بأنه غير حادث قط فما الفرق أجيب بأن الضروري لا يقبل التشكيك البتة بخلاف الكسبي فإنه يدخل عليه التشكيك في الجملة وينفيه تصحيح النظر وتجديده وحين فرغ من تعريف العلم أخذ في تعريف الظن بقوله ... والظن تجويز يكون راجحا
أي إذعان نفس المجوز بوقوع أحد الأمرين بعينه دون الآخر سواء كان الحال كذلك في الواقع أو لا والمراد بالأمرين طرفا الممكن كوجود زيد وعدمه إذ كل من الواجب والممتنع لا يتصور فيه التجويز المذكور ... والوهم مرجوح فخذه واضحا ...
الوهم تجويز مرجوح فهو الطرف المقابل للظن الذي أذعنت النفس لتجويز وقوعه وفي قوله فخذه واضحا لطف لا يخفى ... والاستوا شك والاعتقاد ...
أي استواء طرفي الممكن والمراد إذعان النفس بإمكان وقوع كل من الأمرين بدلا عن الآخر لا مزية لأحدهما عن الآخر تقتضي رجحان وقوعه دون الآخر عند المجوز هو الشك وقد يطلق لغة علىالظن وقوله والاعتقاد مبتدأ خبره قوله ... جزمك بالشيء كما أفادوا ...
فخرج من قوله جزمك الظن والوهم إذ لا جزم فيهما وهو مبني على أن الاعتقاد قسم ثالث مقابل للعلم وللظن وقد يطلق على ما يشملهما مع غيرهما فهو كالعلم بمعناه الأعم وقد يطلق على العلم بالمعنى الأخص وقوله ... لا تسكن النفس به فإن غدا ...
جملة لا تسكن النفس صفة لموصوف محذوف أي جزمك بالشيء جزما لا تسكن النفس به وجملة كما أفادوا جملة اعتراضية جيء بها لإصلاح النظم وفيها إشارة إلى أن في كلامهم شيئا لأن أخذ عدم سكون النفس خلاف المطلوب إذ يرد عليه بأن الجزم بالشيء ينافي عدم سكون النفس فلا يمكن الجزم مع عدم سكونها وقد يجاب بأن المراد الجزم هنا في الجملة بمعنى أن طرفي الأمر المعتقد مما يجوز في نفس الأمر أن يكون على خلاف ما اعتقد ولا يمتنع حينئذ أن ينتفي سكون النفس أو يكون في نفس الأمر كما أعتقده ولكن
لا يمتنع أن ينتفي ذلك الجزم والاعتقاد معه بانتقاله إلى خلاف ما كان عليه كما يتفق في كثير من الاعتقادات فكأنه قيل الاعتقاد هو الجزم الذي يقبل التشكيك في الجملة أشار إليه السعد في حواشي شرح العضد
ثم إنه ينقسم الاعتقاد إلى صحيح وفاسد كما أفاده قولنا ... مطابقا فهو الصحيح أو عدا ...
ذلك هو فاسد وجهل فالصحيح من الاعتقاد ما طابق الواقع والفاسد بخلافه فالأول كاعتقاد المقلد بمشروعية رفع اليدين في تكبيرة الإحرام في الصلاة مثلا والثاني كاعتقاد الملاحدة أن العالم قديم فهو اعتقاد فاسد ويقال له جهل مركب أيضا إذ هو جهل لما في الواقع وجهل بكونه جاهلا
واعلم أن مطابقته للواقع قد تكون معلومة بالدليل لنا كاعتقاد حدوث العالم لقيام الأدلة عليه التي يمكن معها معرفة مطابقة الاعتقاد للواقع ومثل مسألة رفع اليدين فيما مثل وقد لا يعلم بالأدلة ولا ضير في ذلك لأن حقيقة الاعتقاد الصحيح مطابقته للواقع لا الاطلاع عليها كما قلناه في المجتهد المصيب للحق المأجور أجرين لأنه لا يعرف إصابته للحق إلا يوم الجزاء أو بخبر الرسول صلى الله عليه و سلم وقد فقد الوحي وإذا عرفت هذا فلا يرد الترديد الذي أورده الجلال في شرح الفصول من أنه إن أريد الواقع في نفس الأمر فكيف السبيل إلى ذلك ولا يتم إلا في ما طريقه التواتر أو كان ضروريا وإن أريد ما هو حاصل عند المعتقد فكذلك الفاسد
ولا يخفى أن المعتقد ليس عنده مطابقة واقع ولا عدمها فكيف يجعله قسيما لما طابق في نفس الأمر فالتحقيق أنه ليس المراد إلا مطابقة ما في نفس الأمر ولا يلزم الاطلاع عليها في المغيبات ولا في غيرها فمن اعتقد أن زيدا في الدار لأمارة دلت على ذلك وسكنت إليه نفسه وانكشف أنه فيها فاعتقاده صحيح وإن لم يكن فيها فهو فاسد
واعلم أنه قد تحصل من قوله والعلم معنى يقتضي السكونا إلى هنا تعريف الأقسام كلها فالعلم هو المعنى الذي اقتضى سكون النفس بما علمته وهو الذي يعبرون عنه بانه التصديق الجازم المطابق مع سكون النفس والاعتقاد الصحيح هو التصديق الجازم المطابق مع عدم سكونها والاعتقاد الفاسد هو التصديق الجازم غير المطابق والظن هو الإدراك الراجح غير الجازم والوهم هو الإدراك غير الجازم المرجوح والشك هو الإدراك غير الجازم المستوي الطرفين وبقي من الأقسام المشار إليها في النظم الجهل وهو قسمان مركب وبسيط فأشار إلى الأول قولنا ... مركب جاء بهذا النقل ...
صفة لقوله جهل فالجهل المركب هو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع وإنما سمي مركبا لأنه جهل المدرك ما في الواقع فهذا جهل أول وجهل أنه جاهل فهذا جهل ثان فكان مركبا وهو الاعتقاد الفاسد ومثاله المثال المتقدم وسواء كان هذا الإدراك مستندا إلى شبهة أو تقليد قال المحققون إن هذا الجهل يختص بالتصديقات ولا يجري في التصورات بناء على ما هو عندهم من الحق من أن التصورات لا تحتمل عدم المطابقة بخلاف التصديقات قال في شرح المواقف لا يوصف التصور بعدم المطابقة أصلا فإنا إذا رأينا من بعيد شبحا هو حجر مثلا وحصل منه في أذهاننا صورة إنسان فتلك الصورة صورة إنسان وعلم تصوري له والخطأ إنما هو في حكم العقل بأن هذه الصورة للشبح المرئي إنسان فالتصورات كلها مطابقة له موجودا كان أو معدوما أو ممتنعا وعدم المطابقة في أحكام العقل المقارن لتلك التصورات
فهذا هو القسم الأول من قسمي الجهل والثاني منه ما في قولنا ... والفقد للعلم يسمى جهلا ... وهو البسيط فاتبع ما يملا
والفقد هو العدم فقده يفقده فقدا وفقدان وفقودا عدمه قاله في القاموس فالمراد عدم العلم بالشيء عمن من شأنه أن يكون عالما فخرج الجماد والبهيمة ولا يتصفان بالجهل وفي جمع الجوامع أنه انتفاء العلم بالمقصود قال فخرج الجماد والبهيمة لأن انتفاء العلم إنما يقال فيمن من شأنه العلم وخرج بقوله بالمقصود ما لا يقصد كأسفل الأرض وما فيه فلا يسمى انتفاء العلم به جهلا ودخل في عدم العلم بالشيء السهو والغفلة والذهول قال الآمدي الذهول والغفلة والنسيان عبارات مختلفة لكن يقرب أن تكون معانيها متحدة وكلها مضادة للعلم بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه
وفي جمع الجوامع وشرحه السهو الذهول أي الغفلة عن المعلوم الحاصل فينبهه له أدنى تنبيه بخلاف النسيان فهو زوال المعلوم فيستأنف تحصيله ... فصل حوى الأدلة الشرعية ... وهي أصول ما أتت فرعية ...
بعد تعريف الدليل وما تفرع عنه من العلم وأقسامه أخذ في ذكر الأدلة الشرعية وهي الكتاب العزيز والسنة النبوية والإجماع والقياس فهذه أصول المسائل الفرعية
ووجه الحصر في الأربعة أن الدليل إما أن يكون صادرا عن النبي صلى الله عليه و سلم أو لا والأول إما أن يكون قولا فقط مع قصد الإعجاز فهو الكتاب أو لا يكون كذلك يعني بل أعم من القول مع عدم قصد الإعجاز فالسنة والثاني إما أن يكون صادرا عن جماعة معصومة فهو الإجماع أو لا فالقياس ولم يجعل الاستدلال قسما مستقلا لكونه عائدا إلى الأربعة كما يأتي تحقيقه ولما كان الكتاب أصل الأدلة قدم البحث فيه فقال ... أولها الكتاب فهو المنزل ... على الذي أوصافه لا تجهل ... محمدا قصدا لإعجاز البشر ... بسورة منه كأقصر السور
الكتاب لغة اسم المكتوب غلب في عرف الشرع على القرآن كما غلب في عرف العربية على كتاب سيبويه فهو علم بالغلبة للمجموع الشخصي المؤلف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس إلا أنه لا يخفى أنه لا بحث للأصولي عنه من هذه الجهة بل بحثه عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذلك إفراد آياته بل جمله الصادق عليها بعض آية فالمراد منه عند الأصولي المفهوم الكلي الصادق على المجموع وعلى أي بعض منه وتعريف الناظم هنا صادق على هذا المعنى كما أنه صادق على المعنى العلمي
وقوله وهو المنزل أي الكلام المنزل فالكلام جنس الرسم وقوله المنزل فصل يخرج ما لم ينزل من اللوح المحفوظ وقوله على الذي أوصافه لا تجهل فصل يخرج ما أنزل على غير محمد صلى الله عليه و سلم من الكتب السماوية وقوله لإعجاز البشر قيد تخرج به الأحاديث القدسية وغيرها من الوحي وقوله البشر ليس لإخراج غيرهم كالجن مثلا بل لأن الخطاب ظاهر في أن طلب التحدي وقع لهم غالبا وإن وقع للجميع أيضا في قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله وقوله بسورة من تمام الفصل الثالث بتحقيق المراد من التعريف ولبيان القدر الذي يكون به الإعجاز فإنه لو أطلق لتوهم أن الإعجاز بكله ومراده بقوله بسورة أي بقدر سورة من كلامهم لا أنها نفسها فإنه لا يعجز عن الإتيان بها ووضوح المراد كفى عن بيانه كما أن وضوحه في قوله منه أي من مثله لا منه كفى وضوحه عن بيانه وقد اتفقت كلمة الأصوليين على هذا الرسم وقد أفاد تميز القرآن عن غيره وهو المراد من الرسوم
وقد أوردت عليه أسئلة وأجوبة اشتمل عليها الفواصل لا حاجة إلى التطويل بها ومما أورد ولم يذكره فيها أن تعليل الإنزال بالإعجاز لم يثبت في كتاب ولا سنة وأنه وإن وقع التعجيز بمثله فلذلك آية من آياته لا علة لتنزيله
قلت جوابه أنه قد طلب تعالى من عباده المعاندين أن يأتوا بسورة من مثله وبعشر سور من مثله فيصح منا أن نعلل إنزاله بأنه إنزال لإعجازهم وإن لم يات التعليل لإنزاله بذلك فإنه صالح للعلية في نفس الأمر لوقوع العجز عنه ولا ينافي ذلك أنه تعالى علل إنزاله بقوله كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب فإنها تعددت العلل للإنزال ولا مانع من التعليل نصا أو استنباطا وقد علله تعالى بأنه أنزله تبيانا لكل شيء ومنه بيان عجزهم عن معارضته إذا عرفت هذا الرسم وأنه لمفهومه الكلي الصادق على المجموع وعلى أي بعض منه فقد قال السعد في التلويح ثم كل من الكتاب والقرآن يطلق عند الأصوليين على المجموع وعلى كل جزء منه لأنهم إنما يبحثون عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذاك آية لا مجموع القرآن فاحتاجوا إلى تحصيل صفات مشتركة بين الكل والجزء مختصه بهما ككونه معجزا منزلا على الرسول مكتوبا في المصاحف منقولا بالتواتر فاعتبر بعضهم في تفسيره جميع الصفات لزيادة التوضيح وبعضهم التنزيل والإعجاز لأن الكتبة والنقل ليسا من لوازم القرآن لتحقق القرآن بدونهما في زمن النبي صلى الله عليه و سلم وبعضهم اعتبر الإنزال والكتبة والنقل لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحي ولم يدرك زمن النبي صلى الله عليه و سلم وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتبة في المصاحف لا ينفك عنهما في زمانهم فهما بالنسبة إليهم من أبين اللوازم وأوضحها دلالة علىالمقصود بخلاف الإعجاز فإنه ليس من اللوازم البينة ولا الشاملة لكل جزء منه إذ المعجزة هو السورة أو مقدارها أخذا من قوله فأتوا بسورة من مثله
ورسموا السورة بأنها الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث أيات كما في الكشاف ولا يقال إنه رسم دوري لتوقف معرفة القرآن على السورة ومعرفة السورة على القرآن لأخذ كل واحد منهما في رسم الآخر لأنا
نقول قد عرفت أن قوله بسورة منه ليس من فصول الرسم ولا من تمامه بل جيء به لإيضاح المعجوز عنه نعم قد قدمنا لك أنه أورد على رسم القرآن أسئلة وأجوبة ولم تكد تصفو عن كدر وأقول إنه لو قيل بتعذر رسم القرآن لشهرته كما قالوه في العلم على ما سلف من أنه لا يحد لجلائه ووضوحه لكان حسنا فإنه لا أوضح من القرآن ولا أشهر منه عند كل إنسان ممن يعرف الشرعيات إذ هو المراد في هذه العلوم فلا يلتبس القرآن عنده بغيره حتى يرسم له فإنه لا يزيده رسمه عنده إلا خفاء ولما زاد بعضهم تواترا في رسم القرآن كما عرفته من كلام السعد وهو الذي في الفصول وقد اعترضه في النظام فلهذا لم يدخله الناظم فيه بل ذكره شرطا للقرآنية كما في أصله فقال ... وشرطه في نقله التواتر ... فما أتى بغيره لا ينظر ...
أي أنه يشترط في كونه قرآنا تواترا نقله وهو نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب مع استواء الوسط والطرفين وأن يكون مستندا إلى أحد الحواس كما يأتي فما أتى نقله آحاديا فإنه لا تثبت له قرآنية فلذا قال فما أتى بغيره أي بغير التواتر لا ينظر أي لا ينظر إلى أنه قرآن وإن كان ينظر إليه من جهة آخرى في الاستدلال كما يأتي قلت هكذا أطبق العلماء عليه وعندي فيه توقف لأنا نعلم قطعا أنه كان يأتي جبريل إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فيلقي إليه الوحي بالقرآن فإذا سري عنه صلى الله عليه و سلم طلب واحدا ممن كان يكتب الوحي فيأمره بكتب ما أنزل الله تعالى فهذا هو الطرف الأول ثم يتناقله الصحابة بينهم ويحفظونه ويعرفه جماعة فالطرف هذا آحادي قطعا عن خبر من هو معلوم صدقه بالمعجزة وقد يكون آحاديا من الطرف الثاني وهو أن لا يبلغ الصحابة الذين يبلغون الوحي من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكونوا جماعة يحيل العادة إلى آخره ومن
عرف كتب الحديث والتفسير وأسباب النزول علم هذا علم يقينا ولماجمع أبو بكر القرآن أمر زيد بن ثابت أنه من أتى إليه بآية ومعه شاهدان أن يكتبها وأنه وجد زيد بن ثابت آخر أية في سورة براءه مع خزيمة بن ثابت وحده فأثبتها لأنه صلى الله عليه و سلم جعل شهادته بشهادة رجلين وعلل الجمهور شرطية التواتر في ذلك ما أشار إليه قوله ... لأنها تقضي بهذا العاده ... قطعا كما قرر في الإفاده ...
فهذا دليل الدعوى بأنه لا يثبت قرآنا إلا ما تواتر قالوا وذلك لأن القرآن لإعجازه الناس عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه مما تتوافر الدواعي على نقله تواترا وقوله كما قرر في الإفادة إشارة إلى أن هذا كلام أئمة الأصول الذين قرروه وفيه نزاع طويل قد أوضحناه في حواشي شرح الغاية ولا يخفى أنه الآن ومن قبل الآن قد صار كون القرآن ما حواه دفتا المصحف
إجماعا قطعيا لا يدخله تشكيك وأنه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... وحرموا بما عدا السبعية ... قراءة الذكر على البرية ...
قال في الأصل وتحرم القراءة بالشواذ وهي ما عدا السبع يريد قراءة نافع وأبي عمرو والكسائي وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة قالوا فهذه السبع متواترة وإنما أضفنا التحريم إليهم لما يأتي لنا من البحث في ذلك وقال الحافظ السيوطي في الإتقان عند الكلام على المتواتر والمشهور والآحاد وغيرها ما لفظه وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه أبو الخير بن الجزري قال في أول كتابه النشر كل قراءة
وافقت العربية ولو بوجه ووافقت إحدى المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أو العشرة أو غيرهم من الأئمة المقبولين ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عن من هو أكثر منهم هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق كما صرح بذلك مكي والداني والمهدوي وأبو شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد خلافه انتهى
وقال فعرفت من كلامه أن السبع لا يعتبر بها حتى توافق الثلاث القواعد التي ذكرها وإن ما وافقها فهو القرآن من السبع كان أو من غيرها وادعى ابن الجزري أن هذا مذهب سلف الأمة كما سمعته وقد قال الحافظ السيوطي إنه أحسن من تكلم في ذلك وفي قوله بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن جمل منه لحديث أنزل القرآن على سبعة أحرف على القراءات وهو قول من قريب أربعين قولا ذكرها في الإتقان وهجن على من قاله إنه أريد به القراءات السبع المعروفة الآن التي أشير إليها في النظم وفي أصله
ثم إن ها هنا بحثين الأول قد عرفت أن الدليل أنه لا يكون القرآن إلا ما تواتر هي العادة التي أشرنا إليها وليس لهم دليل غيرها وقد تعقب بعض المحققين هذا الدليل وقال مثال العادة طلوع الشمس من المشرق وغروبها من المغرب واستمرار الجبل حجرا ثم قال فهذه العادة التي يحال على مثلها وعمدتها حصول العلم بمقتضاه ويترتب على العلم بمتقضاها العلم بمكابرة منكرها وهذه العادة التي ذكرت هنا المسلم منها لزوم تواتر في الجملة وجمهور التفاصيل وقد وقع بفضل الله تواتر أكثر مما تقضي به العادة من ذلك وأما ما ادعوه هنا فلا قضى به عقل ولا ساعده الواقع وكثير من الناس العقلاء العلماء لا سيما المختصون بعلم القرآن على خلاف هذه الدعوى وتهجينها وقد ذكروا ذلك وأقرب شيء من الكتب المحيطة المتداولة النشر لابن الجزري ومن ادعى على الناس أنهم منكرون للتواتر الضروري الذي يراجع كل منصف نفسه بعد مبالغته في البحث فيحكم على دعواهم بالبطلان فمنزلة هذا المدعي الإهمال انتهى
فهذا البحث الأول في قولهم وكل ما لم يتواتر فإنه ليس بقرآن الذي أشار إليه قوله فما أتى بغيره لا ينظر البحث الثاني على قول ابن الجزري الذي نقله في الإتقان واستحسنه من أن كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها إلى آخر كلامه فإنه قد أورد عليه ذلك المحقق أن الذي اشترطه غير صحيح أما موافقة خط المصحف فلا دليل على ذلك كيف وقد خولف المصحف في مواضع لم يقرأ أحد على مقتضاه فيها فهل قرأ أحد أو لاأذبحنه ولا أوضعوا خلالكم ونحو ذلك ولا نسلم استقرار خط المصحف على قانون والعمدة إنما هو النقل والمصاحف وضعت لضبط الجملة
ولا وقع عليها إجماع بل ربما لم يطلع عليها جمهور سادات الصحابة وحفاظهم كأبي وابن مسعود المشهور لهم بجودة القراءة وكذلك وغيرهم وذلك لا يخفى على الباحث
وكذلك اشتراط وجه في العربية غير صحيح وإن كان عليه تصرف الزمخشري وكثير وهل يقضي بما صح من امرىء القيس على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو العربي حقا المتلقي له عن جبريل عن الله تعالى وأما العربي فإنما نعمل بكلامه لظننا أنه تكلم على حسب الوضع ولذا إذا شذ لم يعمل بقوله إذا عارضه الجمهور حتى نجوز تغليظه لظننا في بعض المواد أنه تكلم على غير الوضع وقد ذكر هذا ابن الحاجب توجيها لقول سيبويه إن بعض العرب يغلطون ثم يقال لهؤلاء المدعين أتشكون في هذا الجمهور من سادات الصحابة كأبي وابن مسعود وابن عباس
وعلي بن أبي طالب وفاطمة في قراءة من أنفسكم بفتح الفاء وعائشة في مثل تلقونه بألسنتكم ومن لا يحصى من أكابرهم منهم من روي عنه القراءة والقراءتان ومنهم المكثر جدا كأبي وابن مسعود ومنهم المتوسط ثم كذلك التابعين وتابع التابعين فإن شككتم في روايتهم وأنهم غلطوا فقد شككتم في جملة الدين فإنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه و سلم وبيننا وما رووه قرآنا أحق بالاحتياط والتحفظ وإن كان شككتم في من بعدهم فكذلك يلزم تعطيل الشريعة لأنهم رواتها
وأما قولهم إنه يجوز أن يدخل أحدهم مذهبه في مصحفه ويجعله في نظم القرآن مع كثرة ذلك في مصحف أبي وابن مسعود وسائر من رويت عنهم القراءات فرميهم بهذا لا يجوز ولا يجوز فيهم فهم خير القرون وهم حملة الدين والسفرة بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأمة فما أسمج هذا التجويز وأوقح وجه من جوزه انتهى
قلت وبهذين البحثين يعرف الحق ثم لا يخفى أن كلام ابن الجزري الذي استحسنه السيوطي ونقله في الفصول قاض بعدم القول بوجوب تواتر
أفراد القرآن لقوله صح سندها فإن المتواتر لا ينظر في سنده أصلا ولذا قال ابن الجزري بعد ذلك ما لفظه وقولنا وصح سندها نعني أن يروى تلك القراءة العدل الضابط عن مثله هكذا حتى ينتهي وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن غير معدودة عندهم من الغلط أو ما شذ بها بعضهم قال وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ماجاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن قال وهذا لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من رسم وغيره إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن الرسول صلى الله عليه و سلم وجب قبوله وقطع فيه بكونه قرآنا سواء كان موافقا للرسم أم لا وإذا شرطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابتة عن السبعة ذكره في الإتقان
فتحصل من مجموع ما ذكر عدم تمام دعوى تواتر السبع وعدم تحريم القرءاة بغيرها كما في الأصل والنظم وهو أيضا غالب ما في كتب الأصول أو كلها والنظم إنما يأتي بما في الأصل وإن كان الناظم يختار خلافه وقد أشرنا إلى ذلك بقولنا وجزموا وأما حكم ما عدا السبعة فقد أشار إليه قولنا ... وهي نظير الخبر الآحادي ... يلزم ما فيها على العباد ...
أي أن القراءة الخارجة عن السبع في حكمها كالخبر الآحادي وحكمه وجوب العمل به فكذلك الشاذة هذا مختار الجمهور قالوا فيعمل بقراءة ابن مسعود في قوله فصيام ثلاثة أيام متتابعات ويجب التتابع قالوا وإنما يعمل بها في الأحكام العملية لا العلمية لأن الآحاد لا تفيد العلم واستدلوا على ذلك بأنه لا يخلو من أن يكون قرآنا أو سنة لأن الغرض أن نقلها عنه صلى الله عليه و سلم صحيح وترك شيء من صحيح القرآن أو السنة لا يجوز وخالف الشافعي وجماعة فقالوا قد اتفقنا على شرطية تواتر القرآن وقد
انتفت قرآنيتها لعدم تواترها وبكونها نقلت قرآنا انتفت عنها السنية وأجيب بأن العمل بها ليس لوصفها أعني القرآنية أو السنية بل لذاتها التي هي صحة نسبتها إلى الشارع في الأول والخطأ في الوصف بالقرآنية إن سلم وجوب التواتر لايستلزم الخطأ في نسبة الذات التي هي نسبة الحكم إلى الشارع ولم يشترط في الرواي أن لا يخطىء رأسا بل يكفي رجحان ضبطه على سهوه والفرض أن الرواي كذلك والندرة لا تبطل الرجحان ... وآية من صدر كل سورة ... لفظة بسم الله في المشهورة ...
وفي المشهور صفة لموصوف محذوف أي في الأقوال المشهورة واعلم أنه لا خلاف في ثبوت البسملة خطأ في أوائل السور وأنها قرآن في سورة النمل أعني قوله إنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وإنما الخلاف في كونها قرآنا منزلا أوائل السور فمن ناف لقرآنيتها في جميعها ومن مثبت ثم المثبتون اختلفوا هل هي آية مستقلة أنزلت للفصل بين كل سورتين أو آية من الفاتحة فقط أو آية منها بعض آية من غيرها من السور فالذي رجحه الجمهور ما أشار إليه النظم من أنها آية من أول كل سورة واستدلوا على ذلك بإجماع أهل البيت حكاه في حواشي الفصول وحكاه ابن عطية النجراني في تفسيره وبأنها وردت الأحاديث بذلك المحصلة للتواتر المعنوي فإنه نقل السيوطي في الإتقان ثلاثة عشر حديثا ثم قال فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنوي بكونها قرآنا منزلا أوئل السور وزاد عليها ابن الإمام في شرح الغاية حتى بلغت سبعة وثلاثين حديثا بما ذكره في الإتقان
قلت لكن من نظر بعين الإنصاف في تلك الأحاديث علم أنها بمراحل
عن إفادة التواتر المعنوي الدال على كونها قرآنا منزلا في أوائل كل سورة وقد صرح القاضي سيلان في حاشيته على شرح الغاية بأنه لا شيء منها يدل على المطلوب غير ما أخرجه الثعلبي عن علي عليه السلام موقوفا أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص وكان يقول هي تمام السبع المثاني فقوله إذا افتتح السورة هي أعم من الفاتحة وغيرها وقوله هي تمام السبع المثاني دال على أنه يرى أنها آية من الفاتحة ومن غيرها من السور والأحاديث في جهره صلى الله عليه و سلم بها في صلاته وعدمه متعارضة وغير ناهضة على إثبات المدعي وهي أحاديث كثيرة قد ساقها النووي في شرح المهذب وأطال
قال في الفواصل وأحسن الأدلة إجماع الصحابة على تجريد المصاحف عما لم يكن قرآنا وبالمبالغة في ذلك حتى لم يثبتوا آمين ومنع بعضهم العجم أي الإعجام وكون البسملة سنة مشهورة في كل أمر ذي بال لا يسوغ كتابتها في المصاحف وإلا لكتبت الاستعاذة فهي آكد السنن عند تلاوته بل قد قيل بوجوبها كما هو ظاهر الأمر بقوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله
وأيضا قد تواتر ثبوتها في أول كل سورة في المصاحف وهذا كاف في تواترها قرآنا حيث قد ثبت إجماع الصحابة على أن لا يكتبوا إلا ما كان قرآنا إلا أنه إذا التفت نظرك إلى الأحاديث الدالة على إنزالها أول كل سورة للفصل ولتعريف النبي صلى الله عليه و سلم بانقضاء السورة عرفت أنه وجه نير لكتابتها في المصاحف وعذر واضح في عدم النكير من الصحابة رضي الله عنهم وحينئذ فلا يتم الاستدلال على المدعى بدليل قطعي وقد بسطنا البحث في حواشي البحر المسماة بالاستظهار
مسألة في المحكم والمتشابه ... وما أتى متضحا معناه ... فمحكم وما الخفا حواه ... خلافه وليس فيه ما لا ... معنى له حاشاه عمن قالا ...
اشتمل النظم على أمرين الأول أن في آيات القرآن محكما ومتشابها كما أفاده نص كلام الله تعالى حيث قال منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وقد وصف الله تعالى القرآن بأن آياته كلها محكمة في قوله كتاب أحكمت آياته ووصفها كلها بالمتشابه الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها فالوصف لكل آية بالإحكام مراد به إتقان نظمه والوصف كلها بالمتشابه مراد به تماثله بلاغة وفصاحة وإعجازا فعلى هذا المعنى كل محكم متشابه وكل متشابه محكم وأما المقصود هنا فهو ما في الآية الأولى وقد سمعت تفسير المحكم بأنه ما كان معناه متضحا والمتشابه بخلافه وقد فسرهما الطيبي بذلك حيث قال والمراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه بخلافه لأن اللفظ الذي يقبل المعنى إما أن يحتمل غيره أو لا الثاني النص والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى أرجح أو لا الأول هو الظاهر والثاني إما أن تكون معانيه متساوية أو لا
والأول هو المجمل والثاني هو المؤول فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه انتهى ما نقله السيوطي عنه في الإتقان
فقول الناظم معناه أي المراد ما عني به فيخرج المؤول من تعريف المحكم إذ هو من المتشابه وإن صدق عليه أنه متضح المعنى المستفاد من الوضع فليس هذا هو المعني وكذا في المتشابه ليس المراد بالمعنى إلا ما عني به فيدخل المؤول فيه فإنه وإن لم يكن معناه خفيا من حيث الوضع فإنه خفي من حيث المعنى المقصود منه
وفي ترجيح أساليب القرآن أن المتشابه يطلق على معنيين لغوي وشرعي أما اللغوي فهو ما لا يمكن فهم المراد منه وهو المسمى بالمجمل في أصول الفقه وقد يكون في المفرد كالقرء للحيض والطهر والمختار اسم الفاعل واسم المفعول وفي المركب نحو أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
والقسم الثاني من المتشابه الشرعي هو ما لا يتضح في العقل حكمته أو صحته أو معناه كالحروف في أوائل السور وإنما انقسم المتشابه إلى القسمين لأن التشابه تفاعل من أشبه هذا ذلك ولما كانت الأمثال والأشباه يلتبس بعضها ببعض كثيرا صار الاشتباه من ملزومات الالتباس فكأنه قال تعالى منه آيات بينات لا لبس فيها وأخر محل لبس ولا يخفى أن اللبس يصدق على ما بلغ غايته فيه بأن لا يفهم معناه العارف باللسان أصلا وذلك كالحروف المقطعة أوائل السور فإنه لم يأت فيها دليل قاطع على تعيين معنى من المعاني التي قالوها وقد بلغت قريب عشرة أقوال كلها تظنين وتخمين وكل من
قال بقول قائل بأنه يجوز أن يريد الله معنى لا يعرفه المكلف فكونها لا يعرف لها معنى معين قطعا اتفاق بين الأمة وهذا مقتضى قراءة الوقف على الجلالة والوقف عليها يروى عن أربعة من علماء الصحابة وعن جماهير القراء وهذا القسم هو الذي سلف أنه متشابه شرعي لأن تشابهه ليس من حيث اللغة إذ لم تأت عن أهل اللغة هذه الأحرف المقطعة على هذا الأسلوب إذا عرفت هذا القسم فحظ المؤمن أن يقف على الجلالة وأن يقول آمنا به كل من عند ربنا واعتقاد أنه لا يعلم تأويله إلا الله وليس هذا القسم من مباحث أصول الفقه إنما من مباحثه القسم الثاني وهو ما فيه لبس دون ذلك فقد قدما أمثلته وهو مما يفهم معناه ويزال لبسه بالرد إلى المحكم بالأدلة ولذا كانت الآيات المحكمات أم الكتاب لأنه يرد إليها المتشابه فإن قيل يلزم على هذا التقدير أن ضمير تأويله عائد على أحد قسمي المتشابه وهو خلاف الظاهر قلت هذا لا ضير فيه فقد جاء نظيره في القرآن قال تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى ان قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك فإن المطلقات شامل للبائنات وضمير بعولتهن للرجعيات ووهن بعض المطلقات وهذا هنا نظيره
واعلم أن هذه الآية من المتشابه لأنه لا يتضح معناها إلا بعد ردها إلى المحكم فإن ضمير تأويله يتبادر عوده إلى المتشابه من حيث هو الظاهر وإنما صرفناه إلى أحد قسميه بالدليل وهو أن من المعلوم أن ذلك القسم الذي يرد إلى المحكم وهو ام الكتاب أنزله الله تعالى للعمل به وفهم معناه والتكليف بالبحث عنه كما في قوله أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه غير متضح المعنى لتردده بين الزوج والولي فيجب إرجاعه إلى أم الكتاب حتى يتضح المراد لأنه أنزل للعلم به فلا بد من إرجاعه إلى المحكم فهذا الأمر الأول مما اشتمل عليه النظم والأمر الثاني قوله وليس فيه ما لا معنى له فإنه إشارة إلى رد قول الحشوية بسكون الشين المعجمة كما قاله الزركشي نقلا عن
ابن الصلاح قال وفتحها كثير على الألسنة وهو غلط قال لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فلما أنكر ما قالوا قال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها وعن ابن الصلاح إجازة الفتح
ومن أقوالهم المنكورة تجويز أن يكون في القرآن ما لا معنى له أصلا قال الزركشي فإنهم قالوا يجوز بل هو واقع كمثل كهيعص ونحوها من الحروف المقطعة أوائل السور ومثل كأنه رؤوس الشياطين ثم قال والصحيح أن ذلك ممتنع إذ اللفظ بلا معنى هذيان لا يليق بالعاقل فكيف بالباري سبحانه إلى آخر كلامه ثم ذكر بعد ذلك تنبيها فقال إن خلاف الحشوية فيما له معنى لكن لم نفهمه كالحروف المقطعة وآيات الصفات ثم قال أما ما لا معنى له أصلا فباتفاق العلماء لا يجوز وروده في كلام الله تعالى وما ذكره في التنبيه فهو إشارة إلى الاعتراض على ابن السبكي حيث قال في جمع الجوامع ولا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة خلافا للحشوية وكلام ابن السبكي ككلام الناظم والمسألة نقلية ولم يأت أحد الرجلين بالبرهان على ما جعله محل النزاع ولو كان محله ما قاله الزركشي لما كان لتخصيصه بالحشوية معنى لأن القول بأن الحروف المقطعة أوائل السور وآيات الصفات مما له معنى لا يفهم كلام جماعة من أئمة التحقيق كما أشرنا إليه قريبا قال الزركشي إن الحاق الحديث يريد قول الجمع أي جمع الجوامع
والسنة ذكره صاحب المحصول وقال الأصفهاني في شرحه لم أره لغيره
وقوله حاشاه عمن قالا أي أنزه القرآن أو الرب تعالى عن قول من قال إن فيه ما لا معنى له
مسألة في أنه لم يأت في القرآن ما لا يعني به غير ظاهره بغير دليل كما أفاده قولنا ... ولا به يعني خلاف الظاهر ... بلا دليل فاستمع وذاكر ...
عطف على قوله وليس فيه ما لا معنى له أي ليس فيه يعني القرآن لفظ يراد به خلاف ظاهره من غير دليل يقوم على حمله عليه وهذا أشار إلى رد خلاف المرجئة بالهمزة من الإرجاء وهو التأخير وقد تخفف الهمزة بمثناة تحتية وقال في القاموس أرجأ الأمر أخره ومنه سميت المرجئة ويقال المرجية بالياء مخففة
واعلم أن المرجية ست فرق كما في الملل والنحل فعد منهم فرقة تقول إن آيات الوعيد خاصة بمستحل الحرام دون من يفعله معتقدا للتحريم وفرقة قطعت بغفران ما دون الكفر وأن الفاسق لا يعاقب قطعا فهاتان الفرقتان ينبغي أن تكونا مراد الأصوليين في هذه المسألة لأنهم حملوا آيات الوعيد على خلاف ظاهرها من غير دليل قال أئمة الأصول ردا عليهم الصحيح أن
ذلك لا يجوز لأن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه فهو كالمهمل واحترز بقوله بغير دليل عن ورود العموم وتأخر الخصوص ونحوه
قلت واعلم أنه نقل الشارح التلميذ رحمه الله عن شرح الشيخ لطف الله للفصول أن المرجئة الذين يجوزون في آيات الوعيد شروطا واستثناء بلا دليل قالوا في نحو قوله تعالى إن الفجار لفي جحيم المعنى إن أراد الله عذابهم أو إلاأن يعفو عنهم أو إن كانوا كفارا ونحو ذلك وقد أجيب عليهم بأنه مع كونه لا دليل عليه يلزم مثله في الأمر والنهي والوعد فيقال في مثل أقيموا الصلاة إن المراد إن اخترتم ذلك أو إن لم يشغلكم أرب أو نحو ذلك وأنه يؤدي إلى الانسلاخ من الدين وتجويز أنا غير مكلفين بما أمرنا به ونهينا عنه وأنا على غير ثقة مما وعدنا به من الجنة هذا حاصل ما نقله
وقد أورد عليه أن القائل بعدم إدراك المتشابه قائل بأنه أريد به غير ظاهره بلا دليل يبين المراد منه وإن قولكم إن المرجئة قالوا ذلك بلا دليل غير صحيح لأنكم إن أردتم بلا دليل أصلا فقد استدل المرجئة لما زعموه بأدلة معروفة وإن أردتم بلا دليل صحيح فإن أردتم صحيح في نفس الأمر فلا يلزمهم لاحتمال الخطأ في الأدلة لما في نفس الأمر وإن أردتم الصحة عندهم وبحسب معتقدهم فما قالوه إلا وهو عندهم صحيح قطعا وإذا عرفت هذا عرفت أن الأولى أن يراد بالمرجئة من ذكرنا من فرقهم وأنه كان الأولى أن يقول أهل الأصول خلافا لبعض فرق المرجئة على أنه لا يتم أن الفرقتين قالوا ما قالوه لا عن دليل ولذا قلنا فاستمع وذاكر إشارة إلى أن المسألة لا تصفو عن كدر ولا تخلو عن نظر
ولما نجز الكلام على الدليل الأول وهو الكتاب أخذ في الكلام على الدليل الثاني وهو السنة فقال ... فصل وأما سنة المختار ... محمد صلى عليه الباري ...
كأنه قال أما الكتاب فكذا وأما السنة فلأنها قسيمته كذا في نسخ
جرى عليها قلم المؤلف ولعل ما في هذه النسخة أظهر والله أعلم وذلك لأنها قسيمته في الدليلية أي في كون كل واحد منهما دليلا
واعلم أن السنة لغة الطريقة المعتادة قال الله تعالى سنة الله التي قد خلت أي طريقته وعادته ومنه حديث عشر من سنن المرسلين أي من طرائقهم وسماها في القرآن بالحكمة كما قال أئمة التفسير في قوله تعالى ويعلمه الكتاب والحكمة إن المراد بالحكمة هي السنة وتطلق على الخير والشر ومنه حديث من سن في الإسلام خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به الحديث أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم والضياء عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه
وتطلق في عرف المتشرعين على ما يقابل الفرض وعلى ما صدر عنه صلى الله عليه و سلم من أقواله وأفعاله وتقريرارته وهذا هو المراد هنا كما يفيده قوله ... فإنها الأقوال والأفعال ... كذلك التقرير فالأقوال ...
فإنه اشتمل النظم على ذكر أقسامها الثلاثة وهكذا عد أقسامها أكثر أئمة الأصول ولم يذكروا الترك لأن التروك داخلة في الأفعال لأنها كف والكف فعل ولا يقال والتقرير كف أيضا فلا حاجة إلى ذكره لأنا نقول إنما قلنا بدخول التروك في الأفعال توجيها لما وقع منهم كعبارة الغاية بلفظ ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير نعم عبارة جمع الجوامع بلفظة السنة
أقوال محمد صلى الله عليه و سلم وأفعاله قال شارحه والتقرير داخل في الأفعال لأنه كف ومثلها عبارة أصل النظم إذا عرفت هذا فالأقوال هي أقواله صلى الله عليه و سلم الصادرة عنه بعبارته فالقرآن خارج عنها وكذلك الأحاديث القدسية لأنها من قول الله تعالى ولما اشتركت الثلاثة في كونها سنة وأدلة أشار إلى التفاضل بينها في القوة بقوله فالأقوال وهو مبتدأ خبره قوله ... أقوى من الاثنين والمختار ... بأن ما يفعله المختار ...
المختار الأول مبتدأ خبره الجملة بعده والمراد بالمختار الأول القول وبالثاني الرسول صلى الله عليه و سلم فإن من أوصافه المختار لأن الله اختارة لرسالته واصطفاه وفي البيت جناس تام وكون الأقوال أقوى من الأفعال والتقارير وهو المختار وذلك لاستقلالها بالدلالة على تعدي حكمها إلينا فلا يحتاج معها إلى غيرها بخلاف الأفعال فلا يستدل بها بدون القول ولعمومه فإن القول يدل على الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس بخلاف الفعل فإنه يختص بالموجود المحسوس إذ المعقول والمعدوم لا يمكن مشاهدتهما وللاتفاق على أن القول دليل بخلاف الفعل فإن من الناس من يقول إن الأفعال لا يستدل بها ولا تكون بيانا فهذه ثلاثة وجوه لكون الأقوال أقوى من الأفعال وإذا كانت أقوى من الأفعال فبالأولى أن تكون أقوى من التروك
واعلم أنه قال الزركشي إنه كان ينبغي لصاحب جمع الجوامع أن يزيد وهمه أي يجعل همه صلى الله عليه و سلم بالفعل من من أقسام سنته كالقول والفعل قال وقد احتج الشافعي في الجديد على استحباب تنكيس الرداء في خطبة الاستسقاء بجعل أعلاه أسفله بحديث أنه صلى الله عليه و سلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها
فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه فجعلوا ما هم به ولم يفعله سنة انتهى قلت وفي الخلافيات للبيهقي برجال ثقات وهو عن أبي داود من حديث عائشة وفيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلت أو حول رداءه وعند أحمد أنه حول الناس معه قال ابن دقيق العيد في الإمام إن إسناده على شرط الشيخين ففيه انه وقع منه صلى الله عليه و سلم التحويل فعلا على أنه قد تعقب أبو زرعة كلام الزركشي قائلا بأن الهم امر خفي لا بد أن يقترن بقول أو فعل فيعود إليهما
ولما كانت أفعالة صلى الله عليه و سلم تنقسم إلى أربعة أقسام جبلي وخاص به وما ليس كذلك وبيان المجمل أشار إليهما الناظم بقوله ... إن لم يكن من واضح الجبلة ... أو كان خاص فيه بالأدلة ...
قوله من واضح الجبلة بالجيم والموحدة في القاموس أنها كطمرة الخلقة والطبيعة انتهى والجبلي كالقيام والقعود والأكل والشرب أي أنفسهما لا هيئاتهما من الأكل باليمين واختصار اللقمة وإطالة المضغ والقعود غير متربع وفي الشرب ثلاثة أنفاس وغير ذلك من حيث كونها من ضروريات البشر لا من حيث لها تعلق التشريعات
والثاني ما قام الدليل على انه من خواصه صلى الله عليه و سلم وذلك كإيجاب الوتر والمشاروة والنكاح بلا شهود وحل الجمع بين تسع نسوة
والثالث وهو ما ليس جبليا ولا مختصا به يأتي حكمه فالأولان لا يشرع التأسي به صلى الله عليه و سلم فيها بل يحرم في الثاني والثالث يأتي حكمه وأما الرابع وهو الفعل الذي قصد به البيان وقد أشرنا إليه بقولنا ... أما إذا كان بيان المجمل ... فهو كما بين والأمر جلي ...
في أن حكمه حكم ما بينه من وجوب أو غيره وذلك نحو أفعال الحج مع قوله خذوا عني مناسككم فإن أفعاله صلى الله عليه و سلم فيه بيان لمجمل قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم في الصلاة صلوا كما رأيتموني أصلي فإن أفعاله في الصلاة بيان لمجملها في القرآن والسنة وهذا الرابع لم يذكره في أصل المنظومة فهو من الزيادات عليه والحكم فيه له جهتان كما قاله الزركشي من حيث البيان فهو تابع لما بينه ومن حيث التشريع واجب مطلقا أي يجب عليه صلى الله عليه و سلم البيان وإن كان حكم المبين الندب واتباع التأسي إنما هو في الأول وفلأ قوله واضح الجبلة إشارة إلى أن ما لم يتضح فيه أمر الجبلة بل تردد بين الشرعي والجبلي أنه لا يجزم بأنه جبلي كما قاله في جمع الجوامع ومثله في الحج راكبا قال ففيه تردد هل
يحمل على الجبلي لأن الأصل عدم التشريع أو على الشرعي لأنه عليه السلام بعث مبينا للشرعيات قال وقد حكى الرافعي الوجهين في مسألة ذهابه صلى الله عليه و سلم إلى العيد في طريق ورجوعه في أخرى وقال إن الأكثرين على التأسي فهذه أحكام الثلاثة من أفعاله وأما الرابع وهو ما عداها وقد جعلناها ثالثا فيما سلف لما عرفت من أنه في أصل المنظومة كذلك فالحكم فيه ما أفاده قولنا ... كان التأسي واجبا علينا ...
وهو خبر قوله بأن ما يفعله المختار إلا أنه لما قيد صلة اسم إن بقوله إن لم يكن إلى آخره ووقع الاعتراض بين اسم إن وخبرها بقوله إن لم يكن إلى آخره طال الفصل بينهما وهو جائز إذا أدى إليه ارتباط الكلام وأخذ بعضه ببعض كما هنا والمعنى أن الذي يفعله المختار صلى الله عليه و سلم يجب علينا التأسي به فيه إذا لم يكن فعله ذلك جبليا أو خاصا أو بيانا لمجمل فإن الأولين لا تأسي فيهما والثالث حكمه حكم ما بينه من الأقوال فهو في التحقيق عائد حكمه إلى حكم القول فكأنه قول لا فعل فعرفت أن التأسي مفتقر إلى بيان حقيقته وقد أبانها قوله ... ورسمه فيما انتهى إلينا ... فعلك أو تركك فعل الغير ... متابعا في الوجه والتصوير ...
الأسوة لغة القدوة كما في القاموس وهنا رسمها الأصوليون بما سمعته قال عضدالدين معنى التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله انتهى
فقوله فعلك أو تركك لأنه يجري التأسي في الترك وقوله فعل الغير أي مثل فعل الغير وقرينة حذف مثل واضحة عقلية إذ لا يمكن فعل فعل الغير نفسه حتى يتوهم أن مفعول الغير مفعول فعلك وقوله تركك مثله وقوله متابعا في الوجه المراد من الوجه الحكم من وجوب أو ندب أونحوهما وفي نسخة أخرى من النظم في الحكم والنسخة الأولى متابعة لعبارتهم وقوله والتصوير أي مشابهة الفعل لفعل الغير في الصورة وقد أفاده قوله فعل الغير وإنما هو تأكيد وتفهيم وقد أبان الوجه المذكور بقوله ... فما علمنا وجوبا يجب ... وما علمنا حسنه فيندب ... إن كان للقربة فيه قصد ... ما لم فقل إباحة لما عدا ...
اعلم أن في حكم هذا القسم خلافا بين أئمة أهل الأصول وقد عرفت أنه ينقسم إلى قسمين الأول ما عرف وجهه وصفته والثاني ما لم يعلم فالأول إن كان الوجه هو الوجوب فأمته مثله في الوجوب قالوا للقطع بأن الصحابة كانوا يرجموه إلى فعله المعلوم وجهه وذلك يقتضي علمهم بالتشريك عادة ولقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهي الفعل على الوجه كما عرفت ولقوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا إلى قوله لكي لا يكون على المؤمنين حرج فلولا التشريك لما علل تزويج النبي صلى الله عليه و سلم بذلك في حق المؤمنين هذا إن علم وجه ذلك الفعل وإذا لم يعلم فينظر إن ظهر قصد القربة بالفعل ثبت رجحانه وهو مفاد الندب كما أفاده عجز البيت الأول وبتقييده بقوله إن كان للقربة خرج المباح فإنه حسن لكنه خرج بذلك القيد وأما الواجب فإنه وإن صدق عليه أنه حسن وأنه
يقصد به القربة فالسياق مناد على أنه غير مراد وإن لم تظهر القربة فيما فعله فإنه يدل على جوازه أي ما لم يظهر قصد القربة فذاك جائز لما عدا أي لما عدا ما عرف وجوبه ولما لا يعرف قصد القربة فيه فإنه يكون مباحا وهو الذي اختاره ابن الحاجب وذلك لفقد المعصية والوجوب والندب زيادة لم تثبت فتعين الجواز وقيل بل الوقف والدليل على الوقف أن الفعل متردد بين الوجوب والندب والإباحة ومجرد الفعل لا ينهض على معين منها فلم يبق إلا الوقف عن تعيين الحكم ومع جواز فعله للإباحة الأصلية لا تتحقق الإباحة الشرعية بل لعدم تحقق الحكم قلت لو قيل إنه لا يتحقق في حقه في فعله صلى الله عليه و سلم الإباحة فلا يتحقق مجهول الوجه لكان قويا لما عرف من أن المباحات تنقلب مندوبات بحسن النيات وهو صلى الله عليه و سلم أحق خلق الله بأن لا يفعل فعلا إلا بنية القربة فليس في أفعاله مجهول الصفة بل أقلها ما يكون وجهه الندب ولعله الذي حمله من قال بذلك في مجهول الصفة أي صفة الحسن لكنه رده ابن الحاجب بأنه لو كان للندب أو للإباحة لوجب التبليغ لأنها أحكام شرعية والفرض أنه ليس الموجود إلا مجرد الفعل ولذا عدل الناظم عن عبارة الكافل فإن عبارته وإلا فإباحة وقد عد أهل الأصول في المطولات صورا وأمثلة مما تدل على وجه الفعل فلا نطول بها ثم ذكرنا ما ذكره في الأصل بقولنا ... وتركه ما كان آمرا به ... ينفي الوجوب فاتبع وانتبه ...
هذه المسألة لم يذكرها ابن الحاجب ولا صاحب جمع الجوامع في هذا البحث والمراد أن تركه لشيء قد أمر به يدل على عدم وجوبه عليه وعلينا وذلك كتركه قسمة أرض مكة وسبي أهلها مع أن الحق أنها فتحت عنوة وهذا مما لا يقم عليه دليل على أنه خاص به كتركه القسم بين أزواجه قلت ولا يخفى أن التمثيل بأرض مكة في ذلك يقال عليه إن أريد أن أرض مكة لو فتحت مرة أخرى عنوة فلا تجب قسمتها فهذا لا معنى له لأنه حرم القتال
فيها ما دامت الدنيا وإنما أحلت له صلى الله عليه و سلم ساعة من نهار وعادت حرمتها إلى يوم القيامة وإن أريد أنه إذا فتح الإمام ! أرضا جاز له ترك قسمتها فمسألة أخرى ... وفعله الأمر الذي عنه نهى ... إباحة قال به أولوا النهى ...
أي أن فعله صلى الله عليه و سلم للأمر الذي نهى عنه يقتضي الإباحة ولا تخفى لطافة ذكر الأمر والنهي ومثلوه بنهيه صلى الله عليه و سلم عن استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي كما ثبت ذلك في الأمهات وغيرها ثم رآه ابن عمر وقد استدبر القبلة عند قضاء الحاجة كما ثبت ذلك في الأمهات أيضا قالوا فإن فعله صلى الله عليه و سلم المتأخر دال على إباحة ما نهى عنه وهو مجرد مثال وإن كان في المسألة أقوال وقد بسطناها في سبل السلام بسطا شافيا وإنما جزموا بأن فعله لما كان نهى عنه يقتضي الإباحة لأنها لا تجوز عليه المعصية فيماطريقه التبليغ فيحكم بأنه مباح لا حرج في فعله وتركه
مسألة وأما تقريره صلى الله عليه و سلم فأفاده قوله ... سكوته مع علمه بما جرى ... وهو على إنكاره مقتدرا ... ولم يكن من غيره إنكار وليس مما يفعل الكفار ...
هذه شروط أربعة للسكوت الذي يكون تقريرا
الأول علمه صلى الله عليه و سلم بوقوع فعل أو قول من أي فاعل
مكلف أو غير مكلف والتعميم بالقول والفعل صرح به في الفصول إذ لا فرق بين الأقوال والأفعال في ذلك وتعميم الفاعل الدال على عدم اشتراط أن يكون من أقر صلى الله عليه و سلم فعله أو قوله مكلفا هو الذي تقتضيه عبارة الأصل وعبارة جمع الجوامع حيث قال فإذا لا يقر محمد أحدا ونصره صاحب الآيات البينات واستدل له بأن الباطل قبيح شرعا وإن صدر من غير مكلف إذ لا يجوز تمكين غير المكلف منه وإن لم يأثم به إذ يوهم من جهل حكم ذلك الفعل جوازه وعليه يدل كلام الهادوية في الفروع وشرطية علمه صلى الله عليه و سلم هي عبارة الأصل وقيل لا يشترط تحقق علمه بل يكفي إذا انتشر الخبر انتشارا يبعد أن لا يعلمه صلى الله عليه و سلم ونقل عن الشافعي فيه قولان
الشرط الثاني كونه صلى الله عليه و سلم مقتدرا على إنكاره فما لم يقتدر على إنكاره لا يكون سكوته صلى الله عليه و سلم تقريرا لفاعله دالا على إباحته هكذا جزم به ابن الحاجب ومن تابعه على هذا الشرط واعترضه الجلال في نظام الفصول فقال الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا إلا للتبيلغ فلا يجوز عليهم السكوت قط لأنه ترك للتبيلغ وقد ثبت عصمتهم اتفاقا وسبقه إلى هذا البرماوي في شرح منظومته قائلا إن من خصائصه صلى الله عليه و سلم أن وجوب الإنكار عليه لا يسقط عنه بالخوف على نفسه قلت ومن طالع سيرته صلى الله عليه و سلم علم هذا فإنه كان يجاهد صناديد قريش وفجارهم بتقبيح ما هم عليه في مواطن لا يأمن على نفسه
منهم وأما دخوله بعد عوده من الطائف في جوار المطعم بن عدي بعد وفاة عمه أبي طالب فلزيادة التقوى وزجر السفهاء عن التعرض له وقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم خاف أول الأمر وقال إني أخاف أن يتلفوا رأسي فأمنه الله بما وعده به من النصر والفتح وحينئذ فقد يقال لا يتم في حقه أن يخاف على نفسه وهذا كله قبل نزول قوله تعالى والله يعصمك من الناس وأمابعدها فلا كلام فيه
الشرط الثالث قوله ولم يكن من غيره إنكار فإنه لو أنكر غيره بحضرته لم يكن سكوته تقريرا لاكتفائه بنكار الغير فإنه لو كان إنكاره في غير موضعه لما قرر صلى الله عليه و سلم يشكله ولأنكر عليه إنكاره ما ليس بمنكر ويدل عليه ما ثبت في قصة كعب بن مالك فإنه صلى الله عليه و سلم لما سأل في تبوك ما فعل كعب بن مالك قال بعض من حضر شغله النظر في عطفيه فقال بعض الحاضرين عنده صلى الله عليه و سلم والله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت صلى الله عليه و سلم مقررا للبعض في رده عليه غيبة كعب وإنكاره على من اغتابه
الرابع قوله وليس مما يفعل الكفار أي أنه إن كان سكوته عن ش علمه إنكاره كمضي كافر إلى كنيسة فإن سكوته عليه لا يكون تقريرا له وإباحة لفعله سواء قدر على إزالته أو لا فإذا جمع سكوته هذه الشروط فالحكم فيه ما يفيده قوله ... يبيح ما هذا يكون حاله
وهذه الجملة خبر قوله سكوته وهي بيان لحكم التقرير المذكور وأنه إباحة الفعل والقول الذي سكت صلى الله عليه و سلم عليهما ومرادهم بالإباحة ما يستوي معها الطرفان وقد أورد عليه أن غاية ما أفاده السكوت ورفع الحرج عما سكت عليه فمن أين الدلالة على الجزم بالإباحة المقتضية لاستواء الطرفين وكأنه أراد المورد أن هذا السكوت يكون كالفعل الذي جهل فيه قصد القربة وقد منع المحققون دلالته على الإباحة كما عرفت بل قالوا يدل على الجواز وقيل بالوقف وكل هذا فيما لم يسبق له تحريم عقلي أو شرعي أما لو كان قد سبق له تحريم فالسكوت ناسخ أو مخصص وقد قيل إن من ذلك سكوته على لبس الزبير الحرير للعلة وهذا مثال وإلا فإنه قد عرف أنه قد ثبت الإذن منه صلى الله عليه و سلم بالقول لإباحة لبس الزبير الحرير
مسألة في عدم تعارض أفعاله صلى الله عليه و سلم ... ولم تعارض أبدا أفعاله ...
جزم أئمة الأصول بأن أفعاله صلى الله عليه و سلم لا تتعارض إذ حقيقة التعارض بين الشيئين تقابلهما وحيث يمنع كل واحد منهما مقتضى الآخر وذلك لا يتصور بين فعلين بحيث يمنع كل واحد منهما مقتضى الآخر لأنهما إن لم يتناقض حكمهما كصلاتين في وقتين فلا تعارض وإن تناقضا كصوم يوم وإفطار ذلك اليوم بعينه فكذلك أيضا لجواز أن يكون الفعل واجبا في وقت وفي الوقت الآخر بخلافه من غير أن يكون مبطلا لحكم الفعل الأول
لانه لا عموم في الأفعال وهذا الذي عليه الجمهور ونقل فيه خلاف لا يتحقق إلا بين قرائن الأفعال لا في الأفعال نفسها وكلامنا فيها من غير نظر إلى قرائنها وأما بين أفعاله صلى الله عليه و سلم وأقواله أو بين أقواله فإنه يقع التعارض وأشار إلى ذلك بقوله ... فإن تعارض قوله والفعل ... أو كان في قولين كان الفعل ... بأن ما كان أخيرا ناسخا ... أو كان تخصيصا إذا ما أرخا ...
اعلم أن الفعل إذا تقدم وقام الدليل على تكراره ثم وقع القول بخلافه وقع حينئذ التعارض وإذا وقع فلا بد من أحد أمرين إما الجمع بينهما أو الترجيح وقد أشار في النظم إلى ذلك بقوله كان الفعل أي العمل في الجمع بين المتعارضين فلفظ الفعل هنا غيره في صدر البيت وبينهما جناس تام ومثلوا ذلك بأن ينقل إلينا استقباله صلى الله عليه و سلم بالحاجة وقد نهى عن ذلك فالجمع بينهما أنه إن علم التاريخ فالأخير ناسخ هذا إن تأخر مدة تتسع للعمل كما ياتي أنه شرط في النسخ وإن جهل التاريخ كان تخصيصا مثاله أن يقول صلى الله عليه و سلم صوم يوم الجمعة واجب علينا فيفطر فيه قبل صومه فهذا يكون تخصيصا له صلى الله عليه و سلم لامتناع حمله على النسخ على المختار فالمراد من قولنا ناسخا أنه يرفع مقتضى الحكم لا النسخ بالمعنى المصطلح فإنه ليس الآخر ناسخا على كل حال
ولك أن تقول مقابلته بالتخصيص قرينة قوية على أن المراد بالنسخ الحقيقي إن كملت شروطه وإلا فالتخصيص وقد قالوا في الحديث الوارد في النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة عند قضاء الحاجة لما عارضه حديث
ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم يقضيها مستقبلا للشام مستدبرا للقبلة إنه تخصيص له صلى الله عليه و سلم عن عموم النهي أو إنه تخصيص للعمران
وقوله إذا ما أرخ قيد لناسخا وما زائدة أي إذا أرخ ومع التاريخ يعلم تقدمه أو تأخره فإن جهل التاريخ فالحكم قوله ... أو جهل التاريخ فالترجيح ...
أي إن جهل تاريخ المتقدم من المتأخر مع تعذر الجمع بين الفعل والقول فإنه يرجع إلى الترجيح ويأتي في باب الترجيح وتقد إشارة إليه أن القول أرجح وقد طولت المسألة في المطولات وكثرت فيها المقالات المفروضات ولا حاجة إلى ذلك بعد معرفة القاعدة
مسألة في طريق نقل الأحاديث والرواية للسنة النبوية التي يثبت بها صحة المنقول بسند إليه صلى الله عليه و سلم والرواية منحصرة في قسمين لا غير التواتر والآحاد وإليهما أشار بقوله ... ثم طريق نقلها الصحيح ... تواتر الأخبار والآحاد ... فما روى جماعة أفادوا ... بنفسه العلم بصدق ما روي ... فأنه الأول والقول القوي ... فقد اعتبار العدد المحصور ... بل ما أفاد علمنا الضروري ...
الطريق لغة ما يوصل إلى المطلوب الحسي واستعير هنا لما يوصل إلى المطلوب المعنوي والطريق تذكر وتؤنث والصحيح صفة له على الأول أو لأن
إضافته إلى النقل تكسبه التذكير وإنما قيده بالصفة لأن الصحيح هو المعتبر وإن كان التدوين لأعم من ذلك والأخبار جمع خبر أريد به هنا النسبة الثبوتية أو السلبية والآحاد جمع أحد بمعنى الواحد كبطل وأبطال
والتواتر لغة تتابع الشيء مع تراخ واصطلاحا أفاده قوله فما روى جماعة إلى آخره وهو تعريف للمتواتر لأنه المقصود بالبحث وهو مبتدأ خبره قوله فإنه الأول ودخول الفاء لتضمن المبتدأ لمعنى الشرط ونسبة الإفادة إلى الجماعة وإن كانت الإفادة القريبة لخبرهم لأنهم السبب البعيد وقوله بنفسه يتعلق بأفادوا والمراد أفادوا بنفس خبرهم وهو احتراز عما يفيد ذلك بالقرائن من أخبار الآحاد عند من يقول به وقد حققناه في شرح التنقيح فخرج أخبار جماعة لا يفيد العلم وخبر الواحد الذي يفيده بالقرينة
ولما اختلف أئمة الأصول هل يشترط عدد الجماعة الذين يحصل بخبرهم التواتر أو لا ذهب قوم إلى اشتراطه ثم اختلفوا فيه فقيل أربعة وهو أقل ما قيل وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر وهو أكثر ما قيل وبينهما أقوال في تعيين أعدادهم وكلها أقوال لا ينهض على شيء منها الاستدلال فلذا قلنا إن فقد عدم اعتبار عدد محصور برتبة معينة هو القول القوي وإنما ضابطه حصول العلم إلا أن إفادته العلم تختلف باختلاف المخبرين في التدين والجزم والتنزه عن الكذب وتباعد الأقطار وارتفاع تهم الأغراض والاطلاع من المخبرين على المخبر به عادة كدخاليل الملك إذا أخبروا عن أحواله الباطنة وتختلف باختلاف السامع فكم من سامع يحصل له العلم بخبر جماعة لا يحصل لآخر بذلك الخبر لاختلافهم في تفرس أخبار الصدق وانتفائها والإدراك والفطنة وتختلف باختلاف المخبر عنه كأن يكون خبرا خفيا أو غريبا أو ظاهرا أو مبتذلا
إذ لا يخفى على الذكي أن الاختلاف فيه موجب للاختلاف بخبر أقل أو أكثر وهذا حاصل مع ما في العضد وحواشيه
هذا وقد ذكر للتواتر شروط لازمة له منها تعدد المخبرين بحيث يمتنع عادة توافقهم وتواطؤهم على الكذب بأن يكون خبرهم مستندا إلى الحس من مشاهدة أو سماع ونحوها ذكره الرازي والآمدي وأتباعه والذي صرح به الأقدمون اشتراط كونه عن ضرورة قالوا وإنما شرط استناده إلى الحس لجواز الغلط لو استند إلى غيره
وتعقب بأن الحس قد يقع الغلط فيه وأجيب بأنه يمتنع وقوعه عادة من الجمع المعتبر هنا
واحترزوا بالمحسوس عن الأخبار بالمعقولات فإن أخبار عدد التواتر عن حدوث العالم مثلا لا يفيد بنفسه العلم ما لم يؤيد بالنظر
والثالث استواء الطرفين والوسط في حصول العلم بخبر الرواة لا في العدد والمراد أن لا ينقص العدد لا أن لا يزيد فالزيادة مرادة ولعل هذه الشروط تتبعها من الخبر الذي أفاد بنفسه العلم وأنها لازمة له لا تفارقه وإلا فالمعتبر عندهم ليس إلا إفادته العلم ثم الأكثر على أن العلم المستفاد من التواتر ضروري لا نظري لحصوله لمن ليس له أهلية النظر كالعامي إذ النظر ترقب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون والعامي ليس له أهلية ذلك فلو كان نظريا لما حصل لهم واعلم أنها قد ذكرت له شروط زينها المحققون وأشار إلى دفع بعضها بقوله
وحاصل بفاسق وكافر ...
فإنه رد لمن شرط العدالة في رواة التواتر فلا يقع من الفساق أو الإسلام فلا يقع من الكفار قال من اشترط ذلك لأن الكفر والفسق مظنة الكذب فعدمها يكون شرطا ولأنه إخبار أمة من اليهود بقتل المسيح ولم يحصل بخبرهم العلم بقتله ورد بأنه لو أخبر أمة من الفساق بخبر كقتل ملك بلدتهم لحصل العلم بصدق خبرهم ضرورة ولأنه أخبر أمة من اليهود بقتل المسيح ولم يحصل بخبرهم العلم بقتله ورد بأنه لو أخبر أمة من الفساق بخبر كقتل ملك بلدتهم لحصل العلم بصدق خبرهم ضرورة وبأن خبر اليهود بقتل عيسى حصل به العلم لتواتره بروايتهم وحصول شرط التواتر لكنه تعالى أكذبهم في كتابه العزيز فنفى ما حصل من العلم بخبرهم ليس لخلل في شروط التواتر بل لأمر خارق سماوي وليس ذلك لكون الرواة كفارا وقد زيدت شروط غير هذين وقد ردها أئمة الأصول فلا حاجة إلى ذكرها
مسألة في انقسام التواتر إلى اللفظي والمعنوي ... واللفظ لا يختص بالتواتر ... بل جاء في المعنى كإقدام الوصي ... كرم ربي ذلك الوجه الرضي ...
التواتر ينقسم إلى لفظي وهو اتفاق الرواة على لفظ واحد عمن يروونه عنه ومن أمثلته حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
فإنه ذكر البزار في مسنده أنه رواه عنه صلى الله عليه و سلم إثنان وسبعون نفسا من الصحابة منهم العشرة المشهود لهم بالجنة قال وليس في الدين حديث اجتمع على روايته العشرة غيره ولا نعرف حديثا يروى عن اكثر من ستين نفسا من الصحابة سوى هذا الحديث انتهى
قلت وفي تنقيح الأنظار أن منه حديث رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام بالصلاة فإنه روي من طرق كثيرة قال ابن عبد البر رواه ثلاثة عشر من الصحابة وقال ابن كثير نيف وعشرون وجمع زين الدين العراقي رواته فبلغوا خمسين صحابيا منهم العشرة ومنه حديث المسح على الخفين قال صاحب الإلمام عن ابن المنذر أنه قال روينا عن الحسن البصري أنه قال حدثني سبعون من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أنه مسح على الخفين وقال زين الدين رواه أكثر من ستين نفسا من أصحاب محمد صلى الله
عليه وآله وسلم منهم العشرة رضي الله عنهم وبه يعرف عدم صحة دعوى البزار وأنها محمولة على ما عرفه
والتواتر واللفظي في أول ما سقناه مجزوم به وفيماعداه الأظهر تواتر لفظه أيضا وإلا فلا يخفى أن الناقلين لرواية رفع اليدين ! عند تكبيرة الإحرام رووا فعله صلى الله عليه و سلم لذلك وأنهم رأوه يرفعهما ! لا أنهم رووا أنه قال صلى الله عليه و سلم ارفعوا أيديكم فهي من رواية الفعل تواترا فيحسن أن يقال والتواتر يجري في أقسام السنة من فعل وقول وتقرير ومثال تواتر الفعل مسألة رفع اليدين والمسح على الخفين وكلام أهل الأصول على هذا محمول فإنهم فسموا طريق نقل السنة النبوية مطلقا إلى تواتر وآحاد فيدخل تحت القسمة أنواع السنة الثلاثة
وأما التواتر المعنوي وهو اختلاف ألفاظ المخبرين عن خبر رووه واتفقت ألفاظهم على معناه فإنه كثير واسع وعليه مدار غالب التواتر ويفيد تواتر القدر المشترك ومثاله تواتر شجاعة علي عليه السلام فإن الأخبار تواترت عن وقائعه في حروبه من أنه فعل في بدر كذا وكذا وفي أحد كذا وهزم يوم خيبر كذا ونحو ذلك فإنها تدل بالالتزام على تواتر شجاعته ومن ذلك حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فإن له مائة وخمسين طريقا قال العلامة المقبلي بعد سرد بعض طرق هذا الحديث ما لفظه فإن لم يكن هذا معلوما فما في الدنيا معلوم وجعل هذا الحديث في الفصول من المتواتر لفظا وكذلك حديث المنزلة وهو قوله صلى الله عليه و سلم لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة
هارون من موسى الحديث وعدها ابن الإمام في شرح الغاية من المتواتر معنى وأقر الجلال كلام الفصول في تواتر حديث الغدير ولم يسلمه في حديث المنزلة وإنما قال إنه صحيح مشهور لا متواتر وذكر الحافظ السيوطي في كتابه تدريب الراوي أنه ألف كتابا في هذا النوع لم يسبق إلى مثله سماه الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ولخصته في جزء لطيف سميته قطف الأزهار
واعلم أن التواتر المعنوي لا يفيد علما بخصوصية جزئي من جزيئات ما روي فيه وفي جواهر التحقيق ما لفظه والتحقيق أن الأخبار الجزئية المتعلقة بخصوصيات الوقائع لها حالتان حالة الانفراد وحالة الاجتماع ففي حالة الانفراد لا تفيد علما قطعيا أصلا بخصوصية الشجاعة مثلا ولا بالشجاعة المطلقة التي هي القدر المشترك لأنها باعتبار الانفراد من جملة أخبار الآحاد وهي لا تفيد علما قطعيا وفي حالة الاجتماع تفيد علما قطعيا بالشجاعة المطلقة التي هي القدر المشترك ولا تفيد علما قطعيا بخصوصية شيء من جزيئات الشجاعة لأنها بهذا الاعتبار من جملة الأخبار المتواترة بالنسبة إلى الشجاعة المطلقة ومن جملة الأخبار الآحادية بالنسبة إلى خصوصيتها فليتأمل انتهى ببعض اختصار
واعلم أنه مثل في شرح الغاية بشجاعة علي عليه السلام وجود حاتم وجعل دلالة الوقائع المتعددة في المثال الأول دالة على شجاعة علي عليه السلام بالالتزام قال وذلك لأن الشجاعة من الملكات النفسية فيمتنع أن يكون نفس الهزم المحسوس أو جزءا منه لكن الشجاعة لازمة لجزيئات الهزم والقتل في الوقائع الكثيرة فتكون دلالة الهزم ونحوه في الوقائع الكثيرة على الشجاعة
بطريق الالتزام وجعل الثاني من الدلالة التضمنية قال فإن ما يحكى من عطاياه من الإبل والخيل والعين وغيرها يدل بالتضمن على جوده قال لأن الجود يطلق في الظاهر على الأثر الصادر عن الملكة النفسانية التي هي الحقيقة للجود وقد أريد بالجود هنا ما هو الظاهر وهو إعطاء ما ينبغي لا للعوض مطلقا فيكون جزء من الإعطاءات المخصوصة فتكون دلالة كل واحدة من خصوصيات الإعطاء عليه بطريق التضمن ولو أريد بالجود الملكة النفسانية لم يكن إلا من الدلالة الالتزامية
قلت ولا يخفى أن الفرق بين المثالين غير تام بل هما معا من الدلالة الالتزامية فإن تلك الأفعال خارجة عن مسمى الشجاعة والجود فليست بجزء منها حتى تكون من دلالة التضمن كما أنها ليست نفسها حتى تكون من دلالة المطابقة والقول إن الجود يطلق على الملكة النفسانية ويطلق في الظاهر على الأثر الصادر عنها الذي فسره بما ذكر اي الجود فيكون جزءا من كل إعطاء مخصوص بأحد الاعتبارين سجود يرى بعينه في الشجاعة فإنها كما أنها تطلق على الملكة النفسانية تطلق على الأثر الصادر عنها وهو القتل والهزم فتكون الشجاعة جزءا من كل قتل وهزم ودعوى الظهور في إطلاق الجود على الأثر الصادر دون الشجاعة ممنوع فلا فرق بين المثالين ولذا اقتصر في النظم على أحدهما على أن ابن الهمام صرح في التحرير بنفي الدلالة التضمنية والالتزامية بالمعنى الأخص فقال
وليس شيء منهما يدل على السجية ضمنا إذ ليس الجود من مفهوم إعطاء الألف تضمنا ولا التزاما إلا بالمعنى الأعم لجواز أن يتغفل قاتل ألفا
بلا حضور معنى الشجاعة فما قيل المعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام تساهل انتهى
قلت ولا يخفى أن نفيه لكونه لازما غير صحيح واستدلاله بجواز الغفلة غير ناهض لتصريحهم أنه لا يلزم المتكلم استحضار لوازم كلامه عند تكلمه بل صرحوا بأنه لا تكفير بالالتزام لأن المتكلم كثيرا ما يلقى كلامه غير قاصد للازمه ولا منتبه له وإنما اللفظ يدل عليه ولا يلزم قصد المتكلم دلالته عليه وإنما شرطوه في المزايا واللطائف والنكات البيانية
وإذا عرفت أن الأخبار انقسمت إلى التواتر والآحاد وعرفت التواتر بقسميه فاعلم أن الآحاد أيضا ينقسم إلى قسمين كما دل على قوله ... وانقسم الآحاد فهو مسند ... ومرسل والظن منه يوجد ...
اشتمل البيت على مسألتين الأولى تقسيم الحديث الآحادي وقد عرفت أن الآحادي قسيم المتواتر فيدخل في الآحادي المتلقى بالقبول والعزيز والمشهور وهو المستفيض فهذه من الآحاد وتحقيقها في علوم أصول الحديث وقد حققنا ذلك بحمد الله في نظم النخبة المسمى بقصب السكر وفي شرحها المسمى بإسبال المطر وبسطناه في شرح تنقيح الأنظار بسطا ينتفع به النظار وقد انقسم الآحاد كما قال فالآحاد ينقسم إلى مسند ومرسل
فالأول المسند وهو في اصطلاح الأصوليين ما اتصل من راويه إلى النبي
صلى الله عليه و سلم وهو التفسير الذي قطع به الحاكم أبو عبدالله وهو قول لأهل الحديث
والثاني المرسل وهو عندهم أيضا ما سقط من إسناده راو أو أكثر من أي موضع فدخل فيه المعلق والمنقطع والمعضل وهي أنواع من المرسل مبينة في علوم الحديث
الثانية في ما يفيده الخبر الآحادي وقد جزم في النظم أنه يفيد الظن وهو اتفاق إنما الخلاف في إفادته العلم فالضمير في قوله منه عائد إلى الآحاد وحاصل القول فيما يفيده الخبر الآحادي ثلاثة أقوال أشار إليها في جمع الجوامع حيث قال خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة وقال الأكثر لا مطلقا أحمد يفيد العلم مطلقا انتهى
فالقول بأنه لا يفيد العلم هو قول الجمهور من أئمة الأصول وعرفت أن من الآحاد المتلقى بالقبول وهو الذي تكون الأمة ما بين عامل به ومتأول له فهو لا يفيد العلم لأنه من الآحاد إلا أن يجعل التلقي بالقبول من القرائن التي حفت الخبر فأفاد العلم معها على من يقول إن الآحاد إذا حفته القرائن أفاد العلم
واعلم أنا قد بحثنا في شرح التنقيح في علوم الحديث في هذه القاعدة وهي إفادة الآحاد الظن أو العلم بأنه يختلف باختلاف أحوال المخبر والمخبر اسم فاعل والمخبر اسم مفعول فمنه ما يفيد العلم ومنه ما يفيد الظن فليست إفادته العلم وعدم إفادته حكما كليا وإلى عدم إفادته العلم ووجوب العمل به في الفروع قلنا ... لا غيره واجب في الفرعي ... قبوله لا في الدليل القطعي ...
قوله لا غيره عطف على قوله والظن منه يوجد أي لا غير الظن وهو العلم لقرينة المقام وإن كان لفظ غيره أعم وقول من قال أنه يفيد العلم إذا حفته القرائن لا يناسب البحث إذ النفي باعتبار النظر إلى الآحاد من حيث هي فلا ينافيه أن الآحادي المحفوف بالقرائن يفيد العلم فإن الإفادة ليست من الخبر الآحادي بل مما انضم إليه وإذا عرفت أنه قد اتفق على إفادته الظن فقوله وواجب في الفرع إشارة إلى مسألة ثالثة تتعلق بوجوب العمل بالخبر الآحادي فإذا كان يفيد الظن فقد عرفت أنه يجب العمل بالظن في الأحكام الفرعية كما عرفته من بحث الدليل ورسمه وقد عرفت مما سلف أن الظن يعمل به في مسائل الأصول كما قررناه في رسم أصول الفقه فقولنا هنا لا في الدليل القطعي إشارة إلى كلام الجمهور أنه لا يقبل في مسائل الأصول إلا الأدلة القطعية موافقة لما في الأصل الذي نظمناه وإلا فمختارنا خلافه
فقولنا لا في الدليل القطعي أي أنه لا يجب قبول الآحادي في الأدلة القطعية التي تشترط في مسائل الأصول
ثم لما كان قد وقع الخلاف في قبول أخبار الآحاد أشار إلى دليل ما أفاده قولنا ... لبعثه المختار للآحاد ... وما أتى عن صحبه الأمجاد ...
الجار يتعلق بقوله وواجب قبوله والبيت تضمن الإشارة إلى دليلين على وجوب قبول خبر الآحاد هما عمدة أدلة المسألة
الأول أنه تواتر عنه صلى الله عليه و سلم تواترا معنويا وعلم ذلك من ضرورة سيرته بعثه الآحاد إلى كثير من العباد لطلب الإسلام وإبلاغ الأحكام كإرساله إلى قيصر وكسرى وصاحب مصر وغيرهم وكإرساله معاذ بن جبل وأبي موسى إلى اليمن وأمره معاذا بأنهم إذا لم يسلموا عاقبهم بأخذ الجزية ورتب صلى الله عليه و سلم على ذلك قبول إسلامهم وعدمه وعاقب من امتنع بالقتال والدعاء عليه كما دعا على كسرى حينما مزق كتابه بتمزيق ملكه ورتب علىعدم إسلام هرقل غزوه وتجهيز جيش مؤتة إلى بلاده وتواتر أنه صلى الله عليه و سلم قبل خبر الآحاد ورتب عليه كما ذكروا كقبوله خبر الوليد بن عقبة في أن بني المصطلق ارتدوا وهم بغزوهم لولا أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ وهذه الأدلة قاضية بوجوب العمل وقاضية بقبول الآحاد في أصول الشرائع وغيرها وما قيل من أن إرساله الآحاد من المحفوف بالقرائن لأنه لم يرسلهم إلا وقد شاعت دعوته وذاعت وبلغت الآفاق فلا يتم الاستدلال بذلك على وجوب قبول الآحاد مطلقا ضعيف لأنا نقول هذه القرائن لا تفيد أن من
جاءهم بكتابه صلى الله عليه و سلم مثلا وهو رسول منه وأن الكتاب كتابه وإنما هذا الشيوع بالبعثة يفيد خير من يخبر أن محمدا صلى الله عليه و سلم ادعى النبوة فيقال قد حف خبره قرينة شيوع الدعوة فهو صادق في خبره وأما إفادة أن هذا كتابه صلى الله عليه و سلم وأنا رسوله فلا تفيده قرينة الشيوع شيئا بل لا يستفاد أنه كتابه وأنه رسوله إلا من خبره
والدليل الثاني ما أفاده قوله وما أتى عن صحبه الأمجاد وهو إشارة إلى ما تواتر عن الصحابة من العمل بالآحاد وهو أمر لا ينكره إلا من يجهل أحوالهم وسيرتهم وقد ذكر في المطولات قصص كثيرة من ذلك لا حاجة إلى التطويل بها
وقد أورده على هذا الدليل أن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة حتى رواه معه محمد بن مسلمة وأن عمر بن الخطاب لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه معه أبو سعيد قلت لا يخفى أنه غير وارد لأنه لم يخرج بانضمام من ذكر إلى من توقف في روايته عن الآحادي فإن الاثنين من الآحاد ولعله إنما توقف بما ذكر من تلك الروايات عن الواحد تثبتا وبزيادة اطمئنان لأن تلك الأخبار مما لا تخفى ولا يكاد يتفرد بها فرد من الرواه سيما مثل الاستئذان الذي تعم به البلوى كل إنسان والاستثبات في رواية الفرد مثل ذلك لا يدل على رده فإنه صلى الله عليه و سلم لما قال له ذو اليدين
أقصرت الصلاة أم نسيت استثبت وقال أحقا ما يقول ذو اليدين فإنه لما انفرد بذلك والحاضرون في الصلاة أعيان الصحابة قد سكتوا كان محلا للاستثبات وإلا فقد قبل صلى الله عليه و سلم أخبار الآحاد في عدة وقائع ومن هنا تعلم أن المراد من قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم العلم الأعم الشامل للظن وهو الذي أريد به أيضا في قوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فهو نهي عن العمل بلا علم ولا ظن فلا يتم الاستدلال بها لمن قال لا يعمل بالآحاد لأنها لا تفيد إلا الظن كما لا يتم له أيضا الاستدلال بقوله تعالى إن يتبعون إلا الظن قال فإنه تعالى ذمهم على اتباع الظن فدل على أنه لا يعمل به ووجه أنه لا يتم الاستدلال بالآية أن الظن لغة يطلق على الشك كما في القاموس الظن التردد الراجح فجعل التردد وهو الشك أول معنييه وقيام الأدلة على العمل بالراجح هي القرينة أنه أريد بالمذموم الشك ومنه إن الظن لا يغني من الحق شيئا بعد قوله إن يتبعون إلا الظن
واعلم أنه قد أفاد قوله في النظم أنه يفيد الظن أنها إفادة عامة للمسند والمرسل وأنه يجب قبول الكل وفي المرسل خلاف وتفاصيل مودعة في الفصول وغيره من مطولات الفن وقد ألم به في الفواصل والذي
نختاره قبول المراسيل لشمول دليل قبول الآحاد ما لم تحصل ريبة نائشة من تساهل المرسل وقد حققنا البحث في شرحنا على تنقيح الأنظار تحقيقا شافيا قوله لا في الدليل القطعي عطف على قوله وواجب قبوله في الفرعي أي أنه يجب قبول الآحاد في غير المسائل التي تطلب فيها الأدلة القطعية وزاده بيانا قوله ... وفي الأصول أهملوا الآحادا ... إهمال ما يشملنا اعتقادا ...
فإن المراد بالأصول أصول الفقه وبقوله يشملنا اعتقادا مسائل أصول الدين اقتضى النظم هذا التعداد وإلا فالكل أصول وإن كان عند الإطلاق للفظ الأصول لا يتبادر إلا أصول الفقه وهذا هو ما ذهب إليه الجمهور فإنهم قالوا لا يقبل الآحاد في الأصول لأن المطلوب فيها اليقين وقد أشرنا إلى خلاف ما ذهبوا إليه في شرح رسم أصول الفقه وحققنا أن غالب مسائله
ظنية وقد حققنا وجوب العلم بالظن فيما رسموه أصول الدين في رسالة لنا مستقلة بل بينا أن قسمة المسائل الشرعية إلى أصول وفروع بدعة لم تأت بها سنة كقسمة الصوفية للدين إلى شريعة وطريقة أو حقيقة كل هذا ابتداع ... أو عملا لكن لهم خلاف ... فيه وفي أمثاله اختلاف ...
أي أو كان الخبر الآحادي ما يشملنا أيها الأمة عملا فإن في قبوله والعمل به خلافا وهذه هي المسألة التي يترجمها أئمة الأصول بأن الآحاد لا يقبل فيما تعم به البلوى عملا قال الجلال في نظام الفصول إن كلامهم فيها غير منقح لأن التكاليف كلها مما تعم به البلوى إما من جهة المحكوم عليه وهو المكلف أو فيه قال في الفواصل إنه كشف ابن الهمام القناع عن محل النزاع وحاصله أنه إذا ورد خبر الواحد فيما يحتاج إليه المكلف ويكثر تكرر وقوعه منه فإنه لا يثبت به الوجوب عند الحنفية إلا إذا اشتهر أو تلقي بالقبول فمحل النزاع حينئذ فيما يثبت به الوجوب على المكلف بشرط أن يحتاج إليه ويكثر تكرره من ذلك كحديث من مس ذكره فليتوضأ قال الجمهور على قبوله والعمل به ولاخلاف فيه لعامة الحنفية كما قاله ابن الهمام واحترر ابن الهمام بقوله يثبت به الوجوب عن مثل ما قيل من الآحاد في سنن الصلاة
ويشترط التكرار عن النادر كقبولهم الآحاد في نقض الوضوء بالقهقهة في
الصلاة وبالحجامة والفصد ووجوب الغسل من التقاء الختانين فكل هذا مقبول عند الحنفية إذ ليست مما تعم به البلوى على ما قرره ابن الهمام والمسألة أصلها للحنفية وتبعهم فيها بعض الهدوية والاكثر منهم أنه يقبل فيما تعم به البلوى عملا وإنما لم يعملوا بحديث مس الذكر لأنه ضعيف عندهم ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو اكثرهم عملا وحديث انتقاض الوضوء من مس الذكر مروي عن عدة من الصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأبي أيوب وجابر وأم حبيبة وقيس بن طلق وجماعة قد سردناهم في سبل السلام شرحنا لبلوغ المرام وحققنا ما فيه وفيما عارضه من حديث ما هو إلا بضعة منك
واعلم أنه زاد في أصل النظم أي وكذا فيما تعم به البلوى علما وكذا لا تقبل الآحاد فيما تعم به البلوى علما أي اعتقادا قال كخبر الإمامية أي في النص على اثني عشر إماما معينين والبكرية في الخبر الذي رووه في إمامة أبي بكر فلم نشر إليه في النظم لأنه قد دخل في قولنا اعتقادا كما قاله
في القسطاس أنه لا خفاء أن هذا داخل في صدر المسألة لأن مسائل أصول الدين مما تعم به البلوى علما انتهى وهو كما قال فلذا لم نفرده بالذكر كما فعله في الأصل وإذا عرفت ما ذكرناه في خبر الآحادي فإن للراوي له شروطا أشار إليها قولنا ... واشترطوا عدالة في المخبر ... وضبطه لما روى في الخبر ...
فهذا إشارة إلى مسألتين الأولى أنه يشترط في المخبر اسم الفاعل العدالة ورسمها أئمة الأصول بأنها ملكة تمنع من ارتكاب الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة ورذائل المباحات مما يدل على دناءة الهمة كالأكل في السوق وكثرة السخرية والمجون وقال ابن الحاجب هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة وفي الغابة لابن الإمام أن العدالة ملكة في
النفس تمنعها من اقتراف الكبائر والرذائل وعبارة أهل الأصول متطابقة على هذا المعنى وكذلك أئمة أصول علوم الحديث ويزيدون قيد عدم البدعة كما في شرح النخبة لابن حجر
واذا عرفت أن العدالة ما ذكر فلا حاجة إلى ذكر قيد التكليف والإسلام إذ لا يتصف بها إلا من كان كذلك
واعلم أنا قد بحثنا في رسالة ثمرات النظر في علم الأثر وفي شرح التنقيح ومنحة الغفار في هذا الرسم الذي تطابقوا عليه ولم يأتوا بدليل عليه بل خلت كتب الأصول المطولات عن الاستدلال عليه كأنه أمر قطعي معلوم من ضرورة الدين قلت ولا يرتاب عارف أن هذا الرسم بالملكة التي هي كيفية راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة يمتنع بها عن الإتيان بكل فرد من الكبائر وصغائر الخسة ليس معها بدعة فهذا تشديد لا يتم وجوده إلا في حق المرسلين المعصومين وإن هذا ليس معنى العدالة لغة بل قد صرحوا أن معناها لغة التوسط في الأمر وفي القاموس العدل ضد الجور وفي الصحاح العدل خلاف الجور وفسره الجوهري بأنه الميل عن القصد وفي النهاية العدل الذي لا يميل به الهوى وللمفسرين في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل أقوال في تفسيره قال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب إنه عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله تعالى ! إن الله يأمر بالعدل قال شهادة أن لا إله إلا الله وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه عن علي بن أبي طالب
أنه قال العدل الإنصاف فهؤلاء أهل اللسان العربي ومن نزل القرآن بلغتهم وشاهدوا نزوله وقد فسر الصحابة الاستقامة في قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بعدم الرجوع إلى عبادة الأوثان وأنكر أبو بكر على من فسرها بعدم الإتيان بذنب وقال حملتم الآمر على الشدة وفسرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالإتيان بالفرائض وإذا عرفت هذا فهذا بحث لغوي لم يخرجه الشرع عن معناه
فالعدل هو المتوسط في الأمور الذي يغلب خيره على شره ويطمئن القلب إلى خبره وقد بسطنا البحث في ثمرات النظر وغيرها مما ذكرناه وفي هذا كفاية ولم نجد أحدا نبه عليه مع وضوحه بل تابع الآخر الأول فيه
وها هنا ذكر أئمة الأصول تعريف الكبيرة وعدد أفرادها ولهم في رسمها وعدها خلاف لا حاجة إلى ذكره هنا وقد أوضحنا في ثمرات النظر الخلاف بينهم أنه هل الأصل الإسلام أو الفسق وذكرنا أدلة ذلك وهنا أصل آخر وهو هل الأصل في المعصية الصغر أو الكبر قال بالأول الشافعية وبالثاني من أهل البيت الناصر والمنصور وغيرهما والمختار تجويزها حتى يقوم دليل أفاد
معناه في الفصول وفي شرحه للجلال الأولى أن يقال الأصل براءة الذمة عن المعصية فإذا قام عليها دليل فإن كان قطعيا وانضم إليه قرائن الكبيرة فكبيرة وإلا فملتبسة وإن لم يكن قطعيا فالأصل البراءة عن موجب الفسق وهو الكبر لعدم القطع بالمعصية أو لأنها مظنونة ويكون الأصل في المعصية المظنونة الصغر لأنه الأقرب إلى ماهيتها كما في مخالفة الواجبات الظنية انتهى
المسألة الثانية مما تضمنه النظم هو ضبط الراوي لما رواه وهو أن يكون الغالب على حاله الضبط لا أنه يكون في أعلى درجات الحفظ والإتقان وهو قسمان ضبط الصدر وهو الحفظ وضبط المسطور فإذا كان الراوي ضبط سماعه من كتاب وقابله على نسخة شيخه أو على ما قوبل عليها وأمن من التغيير صح تحديثه ويعرف إما باستشهاره أو بموافقة الحفاظ له وقد حققنا ذلك في شرح التنقيح وذكرنا من استوى حفظه وعدمه ومن كان حفظه أغلب وعكسه فليراجعه من أحب ذلك والشرط الثالث من شروط قبول خبر الآحاد أشار إليه قوله ... ولا يرد قاطعا قد علما ... ولم يكن لشهرة مستلزما ...
هذان شرطان لقبول الخبر الآحادي الأول أن لا يصادم قاطعا عقليا فيقطع بكذب كل خبر قضى بتشبيه أو جبر لم يمكن تأويله أو بوهم راويه كبعض أحاديث الصفات ونحوها هذا لفظ الفصول قال في شرحه
الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز و جل النظام ما لفظه مثل حديث إن الجبار يضع قدمه في النار حتى تقول قط قط وحديث فحج آدم وموسى إلا أن الحكم بوهم الراوي في مثل ذلك لا وجه له إذ مثل ذلك موجود في القرآن نحو بل يداه مبسوطتان وما تشاؤون إلا أن يشاء الله وذلك من الكناية التي لا تستلزم وجود المعنى الحقيقي انتهى قلت الآية الأولى جعلها أئمة البيان من الكناية عن الجود والكرم وأما الثانية فلا إشكال فيها لأن مفعول المشيئة والاستقامة الدال عليها قوله تعالى قبلها لمن شاء منكم أن يستقيم ثم إنه يمكن تأويل الحديثين بل قد صرح شراح الحديث بتأويلهما على أن الأحوط الإيمان بما ورد وتفويض بيان معناه إلى الله وهذا لا بد منه في كل صفة له تعالى ثابتة بالنصوص القرآنية والأحاديث الثابتة فإن صفة القادر والعالم وغيرهما كلها لا يعرفها من خوطب بها إلا في الأجسام وقد آمنوا بها وأطلقوها عليه تعالى من غير تشبيه فليطلق عليه ما ثبت وروده وصح سنده وتفوض كيفية معناه إلى الرب تعالى وقد بينا هذا بيانا شافيا في كتاب إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة فهذا شرح الشرط الأول
والثاني الذي تضمنه المصراع الثاني من البيت وهو أن لا يكون مدلول الخبر الآحادي الذي روي مستلزما للشهرة فإنه إذا ورد عن الواحد وكان مستلزما لها ورد خبره قالوا لأن العادة تقضي باشتهاره واستفاضته وذلك
كخبر الواحد بقتل خطيب على المنبر فإنه يرد خبره حيث تفرد به من بين الجمع الكثير ونحوه مما توفر الدواعي على نقله وقد سبقت إشارة إليه في شرح قوله أو عملا لكن لهم خلاف إلا أنها في حكمه وهذا في بيان كونه عندهم شرطا لقبول الخبر الآحادي
ولما كانت العدالة شرطا في قبول الراوي وهي أمر صار لا يعرف إلا بطريق النقل أشار إليه قولنا ... هذا وهم قد أثبتوا العدالة ... بقول عدل صادق المقالة ... أو حكم من يشرطها في الشاهد ... أو عمل الحبر بقول الواحد ...
فهذه أربع طرق للتعديل الأولى قول العدل من أئمة التعديل إنه ثبت أنه حجة أو ثبت حافظ وعدوا في علوم الحديث رتب التعديل أربعا بالنظر إلى ألفاظ الائمة المعدلين محلها هناك الثانية قد دخلت تحت الأولى وإن جعلها أئمة الأصول رتبة ثانية وذلك قول المزكي هو عدل لكذا أي لأني صحبته سفرا وحضرا فما أتى بشيء يخرم العدالة فهذا قد شمله قوله بقول عدل صادق المقالة بل قد اعترض عدها رتبة غير الأولى
الثالثة قوله حكم من يشرطها في الشاهد أي أنه إذا حكم حاكم بشهادة الراوي فإن حكمه بها تعديل له وقولنا من يشرطها أي العدالة في الشاهد ضبط للفظ الأصل ومثلها عبارة الفصول وقد اعترض عليه
شيخه بأن شرط عدالة الشاهد إجماع فلا حاجة إلى قولهم عند من يشرطهما في الشاهد
الرابعة قوله أو عمل الحبر بفتح الحاء المهملة وتكسر العالم فإن عمله برواية الراوي تعديل له ولا حاجة إلى تقييده بالذي لا يقبل المجهول لأن من يقبله ليس معدودا في الناظرين في العدالة وطرقها لأن قبوله المجهول أسقط عنه البحث عن ذلك فلا يدخل فيمن عقدت لهم القاعدة
واعلم أنه لا بد في كون حكم الحاكم تعديل أن لا يكون له مستند في حكمه إلا الشهادة وأن لا تكون الشهادة إلا قدر نصابها وهم الاثنان أو الرجل والمرأتان ولا بد في كون عمل العالم تعديلا أن لا يكون له مستند سوى تلك الرواية عن ذلك الراوي ومن شرط عمله بها أن يكون في تحليل أو تحريم لا في الفضائل فإنه نقل البرماوي عن ابن تيمية أن الحديث إذا كان من أحاديث الفضائل فلا يكون عمل العامل به تعديلا لراويه لتساهلهم في أحاديث الفضائل واعلم أنهم عدوا من طرق التعديل ما فيه ضعف فأشرنا إليه وإلى ضعفه بقولنا ... قيل وأن يروي عنه عدل ... وهو ضعيف قاله الأقل ...
وللعلماء في المسألة ثلاثة أقوال الأول أن رواية العدل عن غيره لا تكون تعديلا مطلقا وهو أقواها الذي أشير إليه في النظم وذلك لما علم يقينا من رواية الأئمة عن الضعفاء حتى البخاري ومسلم مع أنهما أعز العلماء شرطا كما قيل وقد وجد في رواتهما ضعفاء كما أوضحناه في شرح التنفيح فكيف بغيرهما وبه تعرف ضعف هذا القول
القول الثاني أنه تعديل مطلقا
الثالث التفصيل وهو أنه كان لا يروى عن عدل فروايته تعديل
وإلا فلا واختار هذا التفصيل أئمة من الأصوليين وأهل الحديث وقد قيل إنه شرط الشيخين وقد وجد في رجالهما جماعة ضعفهم الأئمة من حيث العدالة كما أشرنا إليه وإذا عرفت أن التعديل من باب الرواية ومثله الجرح احتيج إلى ذكر الخلاف هل يكفي عدل واحد كما لوح به قولنا بقول عدل صادق أو لا يكفي فقلنا ... ويكتفى في الجرح والتعديل ... بواحد ولو بلا تفصيل ...
إشارة إلى مسألتين الأولى أنه يكفي الواحد في الإخبار بالعدالة والإخبار بالجرح وهذا فيه خلاف ذهب قوم أنه لا بد من نصاب الشهادة في الجرح والتعديل قال في تشنيف المسامع في الاكتفاء بجرح الواحد وتعديله في الرواية والشهادة مذاهب أحدها الاكتفاء به فيهما وبه قال القاضي أبو بكر في التقريب وعبارته في التقريب وهذا القول قريب ولا شيء عندنا يفسده انتهى وقال الإمام المهدي في المعيار وهو الأصح إذا القصد الظن وهما خبر لا شهادة
الثاني يكفي في الرواية لا الشهادة ونسب للأكثر قال الزركشي لأن شرط الشيء لا يزيد على أصله بل قد ينقص كالإحصان يثبت باثنين وإن لم يثبت الزنى إلا بأربعة فإذا قبلت رواية الواحد فلأن تقبل تزكية الواحد وجرحه أولى لأن غاية مرتبة الشرط أن يلحق بمشروطه فإذا لم يقبل في الشهادة إلا اثنان لم يقبل في تزكيتهما أقل من اثنين
قلت إن أراد أنه لا بد لكل شاهد من مزكيين ليكون للشاهدين أربعة مزكين فقد زاد الشرط على المشروط وإن أراد أنه لا بد لكل شاهد من مزك فهو لا يخرج من قول قابل الواحد غايته أن قابل الواحد يقول يكفي في الشاهدين جارح أو مزك فالحق قول قابل الواحد في الأمرين أي الشهادة والرواية كما قواه المهدي إذ هو من باب الإخبار ويلزم من شرط الاثنين مذهب الجبائي في عدم خبر الفرد الواحد
المسألة الثانية التي تضمنتها الإشارة بقوله ولو بلا تفصيل فإنها إشارة إلى الخلاف بين العلماء في الإخبار بالجرح والتعديل هل يكفي فيه الإجمال أو لا بد من التفصيل وفيها أقوال قيل يكفي فيهما الإطلاق ولا يجب ذكر السبب لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية وإن كان بصيرا فلا معنى للسؤال وهذا رأي الباقلاني والثاني يجب ذكر سببهما للاختلاف في أسباب الجرح والمبادرة إلى التعديل بالظاهر الثالث يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر والرابع عكسه يجب في الجرح دون التعديل وهو قول الشافعي إذ قد يجرح ما لا يكون جارحا لاختلاف المذاهب فيه بخلاف العدالة إذ ليس لها إلا سبب واحد قلت وهذا أحسن الأقوال وقد أوضحناه في شرح التنقيح
واعلم أنه لا بد في الجارح والمزكي أن يكون عارفا بصيرا بأسباب الأمرين ذا خبرة طويلة بالرجلين كما صرح به المهدي في البحر في كتاب الشهادات ولم يأت بقيد عارف للعلم بأنه لا يقبل الأمران إلا من عارف بأسبابهما وإلا لم يعتد به إذ مع الجهل بهما لا يعد تعديلا ولا جرحا وفي الفروع قول فيه تفصيل وهو أنه إن كان الجرح قبل الحكم كفى فيه الإجمال وإن كان بعد الحكم فلا بد فيه من التفصيل ثم إذا تعارض الجرح والتعديل ففيه أقوال أشرنا إلى الراجح منها بقولنا ... والجارح الأولى على الصحيح ... وإن يزد عدا على الترجيح ...
اختلف أهل الأصول في هذه المسألة فالفحول على أن الجارح أولى وإن زاد عدد المعدلين على الجارح فضمير يزد يعود إلى المعدل الدال عليه السياق ووجه أرجحية هذا القول أن قبول الجرح جمع بين كلامي الجارح والمعدل لأن قول المعدل هو عدل معناه لا أعلم جارحا وقول الجارح بخلافه معناه علمت فيه ما يخرم عدالته فكان قبول الجارح تصديقا لهما وهذا إذا أطلق وكان مذهبهما واحدا في أسباب الجرح والتعديل وقد قيد هذا الإطلاق لأن ذلك فيمن كان محتملا للأمرين لا لو كان المجروح ممن علمت
عدالته واشتهرت نزاهته كعلي بن الحسين زين العابدين وإبراهيم بن ادهم فلا يسمع الجرح فيهما وقد حققنا هذا في ثمرات النظر
القول الثاني الترجيح بين خبر الجارح وخبر المعدل وهو ظاهر كلام ابن الحاجب
الثالث التعديل مطلقا لأن الجارح قد يجرح بما ليس بجارح في نفس الأمر والمعدل لا يعدل حتى يتحقق بطريقة ظنه سلامته من كل جارح وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف
الرابع تقديم التعديل إذا كان أكثر لأن لكثرة تأثيرا في قوة الظن وإذا تعارض القياس وخبر الواحد فيها خلاف أشار إليه قولنا ... وكلما نافى القياس يقبل ... وهو له عند الكثير مبطل ...
هذه المسألة تعارض القياس وخبر الآحاد مع تعذر الجمع بينهما ولذا قلنا نافي القياس فهو محل النزاع أما مع إمكان الجمع بين الخبر والقياس
فليس من محل النزاع فالضمير في قوله وهو يعود إلى الخبر المراد بفظ ما في كلما المدلول عليه بالسياق كما عاد إليه ضمير نافي وفي له للقياس وقد اختلف العلماء في ذلك هل يرجع القياس أو خبر الآحاد الذي ذهب إليه الجمهور من أئمة الآل وغيرهم أنه يقدم الخبر ويطرح القياس وروي عن مالك أنه يقدم القياس وقيل إنه محل اجتهاد فما غلب على ظن المجتهد اتبعه ودليل الأولين أن الصحابة تركوا الاجتهاد أي القياس عند وجود خبر الآحاد وقد عدوا في المطولات قضايا من ذلك للشيخين وغيرهما هجروا فيها القياس لأجل خبر الآحاد وبأنه وقع في حديث معاذ تقديم الخبر على القياس ويأتي خبر معاذ في القياس وأقر صلى الله عليه و سلم معاذا على ذلك وبأن خبر الواحد أصل للقياس ومستقل بنفسه كنص الكتاب فالقياس فرع عليه فلو قدم عليه لكان من تقديم الفرع على الأصل وبأن مقدماته أقل من مقدمات القياس فإن مقدماته عدالة الراوي ودلالة الخبر بخلاف القياس فإنه يتوقف على مقدمات حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعيين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع وهذا إذا لم يكن أصل القياس خبرا آحاديا وإلا وجب الاجتهاد في الأمور الستة وفي الأمرين الأولين اللذين هما مقدمة خبر الآحادي فإذا قدم القياس عليه كان تقديما للأضعف على الأقوى وهو باطل إجماعا وذلك لأن ما يجتهد فيه في مواضع أكثر فاحتمال الخطأ فيه أقوى والظن الحاصل به أضعف فهذه أربعة أدلة لتقديم الخبر الآحادي على القياس وقد عارضها من اختار تقديم القياس بما لا يقاومها ولهذا جزمنا في النظم بهذا القول وأشرنا إلى قول من قدم القياس وهم الأقل بقولنا وهو له عند الكثير مبطل أي أن الجمهور قدموا الخبر الآحادي وأبطلوا به حكم
ما عارضه من القياس فأفهم أنه عند الأقل غير مبطل وإذا كان لا يبطله فهو معمول به فهذا حكم الخبر الآحادي إذا خالف القياس وأما حكمه إذا خالف الأصول فهي مسألة أخرى تضمنها قوله ... ورد ما خالف ما قد قررا ... من الأصول فاستمع ما حررا ...
اعلم أن معنى رد الحديث عدم العمل به في غير مورده لا الحكم بكذبه ويكون ما أفاده مما فعله صلى الله عليه و سلم قضية عين موقوفة على محلها لا تتعداها وهذه مسألة ذكرت في الأصل وذكرها في الفصول وجعلوا الآحادي هنا قسمين ما خالف الأصول نفسها وفسروها بالكتاب والسنة والإجماع المعلومة لا المنظونة فإن المنظون ليس بأصل ومخالفة الآحادي لها بأن يقضي بخلاف مقتضاها كأن تقضي بالتحليل لعين ما قضت فيه بالتحريم وهو الأول والثاني أن يخالف مقتضاها فان يقضي فيما لم يوجد فيها حكم بعينه بخلاف حكم نظيره قالوا فالأول يرد فيه خبر الآحاد إذ لا يقوى على مقاومة القطعي وهذا هو الذي تضمنه النظم فلذا قلنا من الأصول بيان لما قد قرر وأما ما خالف مقتضاها فقال في الفصول إنه يقبل ووقع الخلاف في أحاديث آحادية وردت بأحكام هل هي مخالفة للأصول نفسها أو لمقتضاها كخبر القرعة الذي أخرجه مسلم وغيره في إقراعه صلى الله عليه و سلم بين السنة العبيد الذين أعتقهم من لا يملك غيرهم فأعتق صلى
الله عليه وآله وسلم اثنين وأرق أربعة وخبر المصراة المتفق عليه بأن من ابتاعها وفسخها بعد أن حلبها ردها وصاعا من تمر ذهبت طائفة إلى قبول هذه الأخبار لأنها إنما خالفت مقتضي الأصول لا الأصول نفسها وقال أبو عبدالله الكرخي إنها خالفت الأصول أنفسها فلا تقبل قال لنقل الأول الحرية عن الثلث الذي ينفذ في كل واحد لأن العتق في مرض الموت حكمه حكم الوصية وعن الثلثين الباقيين بعد الثلث أيضا إذ العتق قد تسرى إليهما والإجماع منعقد على أنه لا يطرأ عليها الرق ولمخالفة الثاني أي خبر المصراة ما أجمع عليه من ضمان المتلف بمثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان قيميا ثم مثل لما خالف مقتضى الأصول بما لا حاجة بنا إلى ذكره إذ النظم لم يشر إلا إلى القسم الأول ونقل أن الشافعي جعل الحديثين مما خالف مقتضى الأصول فقبلهما وقال بحكمهما قلت وهو الحق وقد أوضحناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار وفي العدة حاشية شرح العمدة وإنما اقتصرنا علة ما ذكرنا لأن النظم تابع للأصل كما قد نبهنا عليه على أن في الأمثلة كما قال في نظام الفصول بحثا وهو أن الأصل الذي خولف فيها هو الإجماع والإجماع لم يكن في عصره صلى الله عليه و سلم حجة وبعده يستلزم نسخ الحديثين بالإجماع والإجماع لا ينسخ به كما علم قلت إلا أنا
نمنع تحقق الإجماع هنا كيف وهذا الشافعي يخالف في محل النزاع فالحق أن الآحاد من الأصول وكون الكتاب ومتواتر السنة قطعي المتن فهو ظني الدلالة فهو الآحاد فيها واعلم أنه اختلف الأئمة في جواز الرواية للحديث بالمعنى فأشرنا إليه بقولنا ... هذا وقد جوزت الرواية ... للفظ بالمعنى لذي الدرايه ...
فهذه مسألة رواية الحديث بالمعنى وهي مسألة خلاف فالجمهور على جواز رواية الحديث بالمعنى من عارف بأساليب الكلام يمكنه تأدية المراد والوفاء به كما قال لذي الدراية والمراد به العدل العارف الضابط أما العدالة فشرطها قد عرف من حيث أنه خبر ولا يقبل إلا من عدل وأما العرفان بمعاني الألفاظ وضبطها فكامل الدراية لا يتم وصفه بها إلا بهما وقد دل للجواز ما أخرجه الخطيب في الكفاية عن يعقوب بن عبدالله بن سليمان الليثي عن أبيه عن جده قال أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا بآبائنا وأمهاتنا إنا لنسمع منك الحديث ولا نقدر على تأديته كما سمعناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس وقد أخرجه الحكيم والطبراني وابن عساكر وأخرجه الحكيم أيضا عن أبي هريرة فقد نبه صلى الله عليه و سلم على أن الملاحظ هو إصابة المعنى وقد استدل أيضا بإجماع الصحابة فإنه كان يروي من يروي
منهم حديث الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير مناكرة ولا ريب أن الأولى هو المحافظة على اللفظ النبوي ما أمكن إلا أن هذا الإطلاق مخصوص بما ورد من ألفاظ الصفات الإلهية فإنه لا يجوز تبديلها بلفظ آخر وقد نبهنا عليه في كتابنا إيقاظ الفكرة وكذلك ما كان من جوامع الكلم وكذلك الأدعية فإنه يتحرى فيها الألفاظ الواردة لأن ألفاظ الدعاء مقصودة والإخلال بها إخلال بالمعنى وهو اللفظ الذي قصد ولأن الأدعية مما تتوفر الدواعي إلى حفظها والحرص عليها والغالب على الأدعية النبوية الإيجاز في ألفاظها أي فلا يعسر حفظها ويدل على المنع في الأدعية ما أخرجه جماعة من الأئمة أحمد والبخاري والترمذي من حديث البراء بن عازب قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول قولوا هذه الكلمات عند المضطجع ويعلمناهن اللهم إني وجهت وجهي إليك الحديث وفيه قال فرددتهن لأستذركهن فقلت وآمنت برسولك الذي أرسلت فقال قل آمنت بنبيك الذي أرسلت فرد عليه وقد كان صلى الله عليه و سلم علمه لفظ نبيك وغيره هو بلفظ رسولك فرد عليه وأخذ منه أنه لا يؤتي في الأدعية النبوية إلا باللفظ
ولما اختلف العلماء في بعض الرواة ممن جمع صفات القبول إلا أنه نقل عنه اعتقاد يلزم منه كفره أو فسقه تأويلا قلنا ... واختلفوا في كافر التأويل ... وفاسق التأويل في القبول ...
هذه مسألة قبول فساق التأويل كفاره في الرواية واعلم أن كافر التصريح وفاسقه كشارب الخمر لا يقبلان في الرواية بالاتفاق وإنما الخلاف في
كافر التأويل وهو من أتى من أهل القبلة ما يوجب كفره غير معتمد كذا قاله في الفصول ومثله بالمشبه فإنه يتضمن رد القرآن وهو قوله تعالى ليس كمثله شيء قلت وينبغي أن يراد بالمشبه من جزم به في قوله كمن قال إنه تعالى جسم صفته كذا مثله كذا لا أنه من أتى بقول فألزمه خصمه التشبيه فإن التحقيق أن لازم المذهب ليس بمذهب واعلم أنه قد تساهل الناس في هذه المسألة تساهلا كبيرا وهو أمر خطير على أنا وجماعة المحققين لا نثبت كفر التأويل وقد أوضحناه في غير هذا الموضع في رسالة مستقلة ولذا قلنا ... والحق عندي أنه مقبول ... وقاله الأئمة الفحول ...
إذا عرفت هذا فإنه قال المنصور بالله والإمام يحيى وغيرهما إنها تقبل رواية كافر التأويل وادعى الإجماع على ذلك وعند جماعة من أهل البيت والمعتزلة وغيرهم وآخرين أنها لا تقبل روايته وادعى الإجماع على هذا كما ادعي على خلافه واستدل الأولون بأنه صلى الله عليه و سلم حكم بإيمان الجارية التي قالت إن الله تعالى في السماء أخرجه مسلم وغيره وهو مستلزم للجهة التي تستلزم الجسمية والعرضية ولأن الأصل في من علم قيامه بفرائض الإيمان عدم ما يرفع الإيمان واستدل المانعون لقبوله بقياسه على كافر
التصريح وأجيب بأنه قياس مع الفارق وأي فارق أعظم من القيام بالإيمان ووظائفه وأما فاسق التأويل فهو من أتى من اهل القبلة ما يوجب فسقه غير متعمد ومثلهم في الفصول بالخوارج قال الجلال في شرحه وأشار بالتمثيل بالخوارج إلى ما أشار بالمشبهة في كفر التأويل لأن معنى كفر التأويل كما قدمناه لك استلزام القول عدم الإيمان بدين ضروري ومعنى فسق التأويل استلزام الاجتهاد عدم العمل بدين ضروري وإن كان مؤمنا بشرعيته فالخوارج مؤمنون بحرمة أموال المسلمين ودمائهم وإنما انتهكوها لشبهة عرضت لهم هي توهم أن المعاصي كفر الشرك انتهى
قلت وفي فتح الباري ذكر أقوال في حكم الخوارج على أمير المؤمنين علي عليه السلام ومنهم كفرهم تكفيرا صريحا والأدلة مستوفاة هناك
واعلم أنه نقل السيد محمد بن إبراهيم في العواصم والروض الباسم وفي التنقيح نقل الإجماع على قبول فساق التأويل عن عشرة من أئمة الإسلام وعلماء الدين من أهل البيت وغيرهم وأطال النفس في الاستدال لذلك ما يقارب أربعين دليلا وقد وفينا المقام حقه في شرحنا لتنقيح الأنظار وأول الأدلة له إجماع الصحابة فإنه لما ظهرت فيهم الفتن وتفرقوا وتحزبوا وانتهى أمرهم إلى القتل والقتال لم يعلم من أحد منهم الرد لرواية وهذا ناهض على قبول رواية فساق التأويل لا كفاره لأنه لم يقع التكفير بالتأويل في عصر الصحابة ولكن قد نقل الإجماع على قبول كفار
التأويل المنصور بالله والقاضي زيد وجماعة ثم إن الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد لم تفصل فهي شاملة لأهل التأويل ثم إن الاعتماد عندنا على صدق الرواي بعد تحقق إسلامه كما قررناه في ثمرات النظر وغيرهما ولما كان الصحابة رضي الله عنهم هم أول الرواة للشريعة النبوية وعنهم تلقاها الأمة احتيج إلى بيان حقيقة الصحابي وعدالته فقلنا ... ومن يطل للمصطفى المجالسة ... متبعا لشرعه مذ جالسه ... فهو الصحابي وهم عدول ... إلا الذي يأيى وهم قليل ...
اشتمل البيتان على مسألتين الأولى في حقيقة الصحابي والمراد به هنا من صحب النبي صلى الله عليه و سلم وثبتت له أحكام الصحبة ولفظ الصحابي قد صار عند الإطلاق كالعلم بالغلبة لا يتبادر منه إلا من صحبه صلى الله عليه و سلم فالمراد بالصحابي في النظم الشخص المنسوب إلى صحبته صلى الله عليه و سلم فيشمل المرأة الصحابية ولما صار كالعلم بالغلبة فلا بد من اعتبار طول المجالسة والملازمة إذ الغلبة إنما تكون بكثرة الاستعمال في الشيء حتى إنه يصير مختصا به من بين أفراد ما يطلق عليه ولا يحتاج إلى قرينة عند الإطلاق فهو كالإضافة ولا عهد إلا لمن طالت مجالسته له صلى الله عليه و سلم فقولك صاحب رسول الله عليه وآله وسلم وصحابي مستويان في أنه يشترط فيهما طول الملازمة بحيث لا يحتاج إلى قرينة عند الإطلاق فظهر بهذا صحة اشتراط طول الملازمة في الصحابي كما هو نص النظم وهذا الكلام كله لفظ الصاحب فإنه لغة يطلق لأدنى ملابسة ولو بينه وبين الجماد نحو يا صاحبي السجن وكذلك
أصحاب الجنة وأصحاب النار وقيل إنه لا بد من اشتراط طول الملازمة فإنهما إنما سمى صاحبي السجن لطول الملازمة وإلا لسمي يوسف صاحب السجن وكذلك أصحاب الجنة وأصحاب النار فالملازمة معتبرة في لغة وفي اشتراطها هنا خلاف فالمحدثون لا يشترطونها قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر إن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه و سلم مؤمنا به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة في الأصح انتهى
وأما اشتراط أن يروي عنه وأن يغزو معه فمما لا يدل عليه المعنى اللغوي وإن كان اصطلاحا فلا مشاححة فيه لكن مع تحقيق الأدلة وتحرير محل النزاع تجد في البحث خبطا وقد وضحه في الفواصل وقد نقل ابن الصلاح عن أبي المظفر السمعاني أن اسم الصحابي من حيث اللغة والظاهر يقع على كل من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه و سلم وكثرت مجالسته على طريق التبع له
المسألة الثانية عدالة الصحابي قد أفاد النظم أن كل الصحابة عدول وهذا هو الأصل إلا من أبي وهذا اللفظ اقتباس من الحديث النبوي وهو ما أخرجه البخاري مرفوعا كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى انتهى
والصحابة داخلون تحت عموم اللفظ وقد ثبت أحاديث أنه يذاد جماعة منهم عن الحوض كما قال السيد محمد رحمه الله في العواصم إن الأحاديث
في أنه يذاد عن الحوض جماعة من الصحابة وردت من طرق صحيحة متعددة متكاثرة أو متواترة انتهى
وأئمة الحديث وإن أطلقوا بأن الصحابة كلهم عدول فقد بينوا أنه من العام المخصوص وخرجوا جماعة منهم مثل الوليد بن عقبة وغيره كما بينه السيد محمد في التنقيح وزدناه توضيحا في شرحنا في التوضيح وأما الأدلة على عدالة الصحابة فكثيرة جدا قد استوفيناه في التوضيح أيضا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية
واعلم أن الذي نختاره أن الأصل عدالة الصحابة إلا من ظهر
اختلالها منه بارتكاب مفسق وهم قليل كما أفاده النظم وهذا الذي ذهب إليه أئمة أهل البيت والمعتزلة واختاره المهدي في شرح المعيار وهو كلام الباقلاني من الأشعرية ولفظ الفصول أئمتنا والمعتزلة وهم عدول إلا من ظهر فسقه
وهذا بعينه هو مذهب المحدثين كما قرره السيد محمد في العواصم والتنقيح لما كانت الرواية للأحاديث لها طرق متعددة ألم بها النظم جملة في قولنا ... هذا هو المختار فيما قد مضى ... وللرويات طريق ترتضى ...
الإشارة بقوله هذا هو المختار إلى ما مضى إلى مسألة الصحابي رسما وحكما كما قررناه في الشرح لا أنه يعود إلى جميع ما سلف في باب الأخبار فقد عرفت أنا أخترنا في الشرح أشياء تخالف ما في النظم فتذكر وهذه مسألة طرق الروايات أشرنا إليها بقولنا وللروايات طريق ترتضي إفراد الطريق لإرادة الجنس وإلا فلها طرق والطريق لغة ما يوصل إلى محسوس واستعمل فيما يوصل إلى المعقول وهذه المسألة تحقيقها في علوم الحديث ولنذكر هنا ما يفيد الناظر
فاعلم أنهم جعلوا للصحابي سبع مراتب فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه و سلم
الأولى سمعته يقول أو حدثني أو أخبرني أو قال لي مما يدل على الاتصال ولا يتطرق إليه الاحتمال
الثانية قوله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو خطب أو وعظ وهذه تحتمل الواسطة فيكون مرسل صحابي
الثالثة أمر رسول الله عليه وآله وسلم أو رخص ونحوهما فهذه دون الثانية لأنه يزيد مع احتمال الإرسال احتمال أنه ظن الصحابي أن ما ليس بأمر أمرا
الرابعة قوله أمرنا بكذا أو امر بصيغة البناء للمفعول أو نهينا عن كذا فإنه يحتمل أن الأمر غير رسول صلى الله عليه و سلم من أحد الخلفاء أو أنه استنباط من الصحابي وأنه سمع النهي فاستنبط منه الأمر بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده
الخامسة قوله من السنة كذا فإنه يحتمل أنها سنة الخلفاء أو طريق المسلمين فكل هذا خلاف الظاهر عند الجمهور
السادسة قوله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه يحتمل عدم السماع منه صلى الله عليه و سلم
السابعة كانوا يفعلون وكنا نفعل فإنه قيده بعهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمختار أنه مرفوع كما أن المختار في الطريقة الأولى والتي بعدها ذلك على تفصيل في بعضهما معروف في مطولات الفن وقد استوفى ذلك التلميذ رحمه الله في الفواصل وقد جمعنا هذه الطرق في قولنا ... لفظ الصحابي إذا روى خبرا ... عن البشير النذير خير بشر ... حدثنا ثم قال ثم أمر ... ثم أمرنا وقيت كل ضرر ... ثم من السنة ثم عنه وقل ... كنا وكانوا مقيدا بخبر ...
ولم يتعرض لهذه الطرق بخصوصها في النظم إلا أنها قد دخلت فيه إجمالا كما تعرفه من قولنا ... جملة ما في الأصل منها أربع ... قراءة الشيخ على من يسمع ...
أي قراءة الشيخ هو المبتدأ وخبره تقدم وهو قوله منها وهو الجار والمجرور واعلم أن هذه الأربع باعتبار صنيع الأداء تسمى مراتب وتسمى باعتبار الأخذ عن الشيوخ طريقا
فالأولى من الأربع قراءة الشيخ والرواي يسمع سواء كانت قراءته من حفظه أو من كتابه قاصدا للتحديث أولا وهنا يقول الراوي حدثنا وأخبرنا وقال لنا إذا كان معه غيره وإن كان معه غيره وإن كان منفردا بالسماع أفرد الضمير
الثانية قوله ... أو من روى أو غيره لديه ...
أي أو قراءة من روى عن الشيخ وهو التلميذ أو قراءة غيره أي غير التلميذ مع كون الراوي حاضرا لدى الشيخ أي حاضرا في سماع قراءة ذلك الغير فقيد لديه قيد لمحضره وبحضرته الذي أتى به في الأصل وغيره وشرطوه لتحقيق سماعه لما قرأه ذلك الغير على الشيخ إذ ليس مجرد قراءة الغير
مع عدم تحقق السماع كافية ويسمون هذه الطريقة عرضا ويختارون أن يقول الراوي بها حدثنا قراءة أو اخبرنا قراءة عليه أو نحوه بشرط التقيد بالقراءة إذ نسبة الأخبار والتحديث إليه بدون ذلك القيد كذب إذ لا تحديث من الشيخ ولا إخبار فإنه لا يشترط في هذه الطريقة تقرير من الشيخ باللفظ ولا بتحريك رأسه بل يكفي سكوته من غير إكراه له ولا غفلة إذ سكوته تقرير لا يجوز إلا مع صحة ما قرىء عليه وسلامته من التحريف والغلط ولو كان كذلك كان قادحا في عدالته
الثالثة من الطرق قولنا ... أو ناول المسموع من يديه ...
ضمير ناول للشيخ أي إذا كان طريق الرواية أن الشيخ ناول تلميذه ما سمعه أو قوبل على ما سمعه وكذلك يدخل فيه ما إذا أتاه التلميذ بنسخة فتأملها بلا غلفة ولا إكراه ثم يقول هذا مسموعي من طريق كذا والتقييد بقوله من يديه يخرج ما إذا أشار إلى كتاب معين وقال أجزت لك رواية هذا عني وهو سماعي من فلان فهذا يكون خروجا عن هذه الطريق إلى طريق الإجازة كما يراه أهل الحديث فإن اشتراط المناولة من اليد هو الذي عليه أئمة الحديث وقد خالف الغزالي وغيره وقالوا لا تشترط المناولة والأولى ما قاله المحدثون لأن هذا قسم يسمى المناولة فلا بد منها باليد وإذا لم تكن باليد خرج منها إلى قسم الإجازة وهذه الطريق خالف في جوازها بعض أهل العلم والمختار الجواز وبه قال الجمهور وادعى
القاضي عياض الإجماع على جوازها ويقول التلميذ في الرواية بها أخبرنا مناولة أو ناولني ونحوها
الرابعة من الطرق أشار إليها قولنا ... كذا إذا أجاز ما يرويه ... والأول الأقوى وما يليه ...
وهذه آخر الطرق المذكورة هنا وهي الإجازة مصدر أجزت إجازة أي سوغت له وأبحت والإجازة أنواع إما الخاص في خاص كأجرت لك أو لكم رواية الكتاب الفلاني أو خاص في عام كأجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي وإما عام في خاص نحو أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي رواية الكتاب الفلاني وإما عام في عام نحو أجزت لأهل العصر رواية جميع مسموعاتي ولها أنواع عديدة قد بيناها في شرح تنقيح الأنظار وفي جوازها أقاويل وتفاصيل هنالك مستوفاة والأصح جوازها من الموجود للموجود وعليها الناس قديما وحديثا ويقول التلميذ أخبرني فلان بالإجازة أو أجازني أو نحوها وبقي طريقان الوجادة والمكاتبة وقد استوفاهما في الفواصل وهما مستوفاتان مع بقية الأبحاث في علوم الحديث ... وجاز أن يروي من تيقنا ... سماعه أي كتاب عينا ... وإن أضاع ذهنه التفصيلا
الراوي إما أن يتيقن سماعه تفصيلا لكتاب على شيخ فلا كلام في جواز الرواية لذلك عن شيخه كما أنه لا خلاف في عدم جوازها إذا تيقن عدم سماعه وإنما الكلام فيما إذا تيقن السماع جملة لا تفصيلا فهذا محل الخلاف فإنه نقل الخلاف في جوازه عن أبي حنيفة وفي الفصول حكى الإجماع على جوازه وأما إذا ظن السماع جملة مع سلامة النسخة من التغيير فهذا فيه الخلاف كما حكاه ابن الصلاح قال بجوازه أكثر أهل الحديث بشرط أن يكون السماع بخطه أو بخط من يوثق به والكتاب مصون من تطرق التحريف ولا بد من كون النسخة معينة كما أشار إليه النظم لأنه يقوي الظن بذلك والأصح ما ذهب إليه الجمهور فإنه إذا وجد سماعه بخطه أو بخط من يثق به وحصل له ظن جازت الرواية والعمل ودليله عمل الصحابة بكتبه صلى الله عليه و سلم ككتاب عمرو بن حزم وغيره فإنهم عملوا بها ورووها عنه لحصول الظن بنسبتها إليه صلى الله عليه و سلم إذ مدار ذلك على حصول الظن للمجتهد في ذلك
فائدة هل يجوز النقل من الكتب الموجودة المنسوبة إلى مؤلفيها نسبة اشتهار لمن لا إجازة له فيها ولا قراءة أن ينقل منها وينسب ما نقل إليها وأن هذا قول فلان أعني مؤلف الكتاب وقد تكلم في هذا البحث الإمام المهدي فقال ما لفظه اعلم أن لنا كلاما في جواز الأخذ عن الكتب الموضوعة والرواية عنها لم يذكره غيرنا وها نحن ذاكروه لأن هذا موضعه فنقول اعلم أن الكتب الموضوعة في الإسلام لا تخلو إما أن تكون في العلوم العقلية أو النقلية
أما التي في العقلية فلا كلام أنه يجوز الأخذ عنها وإن لم تقرأ على مصنفها بشروط ثلاثة
الأول أن يحصل للناظر فيها العلم اليقيني بما نظر فيه منها من تصحيح أو فساد وله أن يحكيه عن منصفه إن تيقن أنه المؤلف له أو غلب في ظنه
ما لم يغلب في ظنه أنه قد حصل فيه تحريف أو تصحيف أو زيادة أو نقصان إذ الأصل السلامة وقد صح له أنه كتابه فجاز له الإضافة إليه وليس له أن يحكيه مذهبا لمصنفه إلا حيث علم أو غلب في ظنه أنه لا قول له سواه
الثاني أن لا يجوز على نفسه تصحيف ما يحكيه ومعرفة ذلك ممكنة لا سيما في العقليات
الثالث أن لا يغلب في ظنه أن المصنف لا يرضى بحكاية ذلك القول عنه بل يكره ذلك لغرض ديني أو دنيوي فإنه حينئذ يكون بمنزلة من استودع أخاه سرا فأذاعه اللهم إلا أن يكون في كتمه مفسدة أو تدليس أو أي وجه من وجوه التلبيس المخلة بالدين فإنه لا يجوز حينئذ كتمانه
وأما الكتب الموضوعة في العلوم النقلية فاعلم أن كل من تصدى لتصنيف كتاب في العلوم الدينية فإنما يريد بتصنيفه إفادة المسلمين وهدايتهم فإذا كان كذلك فإما أن يعلم من قصده أنه لم يحجر أحدا من المسلمين عن روايته عنه بل أراد منهم أن يأخذوا به ويرووه عنه فهو في حكم المجيز لكل المسلمين أن يرووه عنه بشرط أمان التصحيف والتحريف فإذا عرفت ذلك فلكل أحد أن يأخذ عن ذلك الكتاب بشروط ثلاثة
الأول أن يكون الناظر فيه من أهل البصيرة الوافية فيما تضمنه الكتاب من الفنون ليأمن من الغلط في نقله للمعنى المأخوذ
الثاني أن لا يروي ما أخذه من ذلك الكتاب على وجه التحديث عنه بل يقول قال في الكتاب الفلاني أو رواه فلان في كتابه الفلاني وله أن يرويه مذهبا له حيث تيقن أنه المصنف ولو جوز أن له قولا آخر ما لم يغلب في ظنه أنه قول القديم
الثالث أن يكون آمنا فيما نقله من ذلك الكتاب إذا رواه من كون غيره قد ضبط تلك الألفاظ ضبطا يخرج به عن مراد المصنف وذلك لا يخفي على ذي
البصيرة الوافية في ذلك الفن فما تردد في بعض ألفاظه أو في بعض مقاصده فليس له أن يرويه عنه إلا أن يشعر بالترديد والاحتمال فحصل من المجموع ما ذكرناه أنه لا حجر عن الأخذ عن الكتب الموضوعة في الإسلام والرواية عنها على الوجه الذي لخصناه مهما عرف من تنسب إليه ولم يكن من الكتب التي لم يتواتر تعيين مصنفها ولا اشتهر ولا نقله عدل ولم يظهر الخلل في نقلها وضبطها ويكفي المقلد في جواز التقليد لمصنفها ما نقله الآخذ الجامع للشروط التي ذكرناها فهذا هو الذي يترجح لنا في ذلك إذ لا دليل على تحريمه ولا أمارة تثمر الظن ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو متجاهل وإنما ذكرنا هذا لئلا يقال إن من جمع مصنفا من كتب له فيها سماع ولا إجازة فلا يوثق بما جمعه انتهى بأكثر ألفاظه وهو كلام حسن وعليه عمل الناس قديما وحديثا وهذا عند الفراغ من مباحث السنة وما يتعلق بها اخذنا في بيان تعريف الخبر وبيان أحكام يعرف بها صحة الدليل وفساده فقلنا ... ودونك التنبيه يا نبيلا ...
اختلف العلماء في تعريف الخبر كاختلافهم في تعريف العلم فقيل لا يعرف لأن العلم به ضروري والضروري لا يحد إذ الحد إنما هو لتعريف المجهول والفرض أنه ضروري وقيل لا يحد لعسر تحديده واختار الجمهور تعريفه ومنعوا دعوى ضرورية معرفة حقيقته وعرفوه بتعاريف اخترنا في النظم ما أفاد قولنا ... والخبر الكلام ذو الإسناد ... حيث له من خارج مفاد
فقولنا ذو الاسناد أي الكلام الذي يحسن من المتكلم السكوت عليه فصل يخرج المركبات الناقصة فإن المراد بالإسناد الإسناد الأصلى المقصود لذاته وهو النسبة الواقعة بين طرفي الجملة بإفادة تامة وقولنا حيث له من خارج مفاد قيد يخرج به الكلام في الإنشائي ومفاد صفة لخارج أي خارج مفاد عن النسبة من غير نظر إلى وجودها في الخارج حقيقة أو لا والمراد بالخارج أن يكون للنسبة من حيث هي وجود خارجي مفاد عنها ثم إنه ينقسم الخبر إلى الصدق والكذب فأشرنا إلى ذلك بقولنا ... يكون صدقا إن هما تطابقا ... ما لم فكذب إن هما تفارقا ...
ضمير يكون عائد إلى الخبر وضمير هما عائد إلى الإسناد والخارج والمراد أنه إذا تطابق الإسناد والخارج كان الخبر صدقا وإن تفارقا بأن لم يتطابقا كان كذبا وذلك بأن تكون النسبة على خلاف ما في الخارج وقولنا كذب بكسر الكاف وسكون الذال قال في القاموس كذب يكذب كذبا كذبا كذبة انتهى فهي أحد اللغات فيه وأشرنا إلى أنها تختلف أسماؤه بقولنا ... وسمه قضية وجمله ... فإن أتى جزءا من الأدلة ... فإنها عندهم مقدمة ...
في التلويح أن المركب التام من حيث اشتماله على الحكم قضية ومن حيث احتماله الصدق والكذب خبر ومن حيث إفادته إخبار ومن حيث كونه جزءا من الدليل مقدمة ومن حيث يطلب الدليل نتيجة فالذات واحدة واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات وهنا أشير إلى بعض الإطلاقات
وهي أنها إذا كانت جزءا من الدليل سميت مقدمة وهو عرف أهل المنطق في القياس الاقتراني والاستثنائي فتقول في مثل قولك العالم متغير وكل متغير حادث أن كل جملة تسمى مقدمة الأولى يقال لها الصغرى والثانية يقال لها الكبرى والتقاسيم هنا كثيرة لا حاجة إلى استيفائها ولما ذكر في الأصل من أحكام الأخبار التناقض أشرنا إليه بقولنا ... هذا ومن أحكامه المترجمة ...
المراد بالترجمة ما سمي باسم خاص كالتناقض والعكس ونحو ذلك وقوله من أحكامه خبر مقدم بقوله ... تناقض القضيتين أن يختلفا ... نفيا وإثباتا وأن يأتلفا ... في وحدات قدرت ثماني ... وراجح الأقوال في الميزان ... بحيث يأتي صدق كل منهما ... عن كذب الأخرى فخذ ما رسما ...
هذا من تمام حد التناقض فقوله بحيث يتعلق بقوله أن يختلفا والمراد بقوله يأتي يلزم وهو اللزوم الذاتي كما قال في الغاية بحيث يلزم لذاته من صدق كل كذب الأخرى وإنما قيدوه بقولهم لذاته احتراز عن اختلافهما لأجل واسطة نحو زيد إنسان زيد ليس بناطق فإنه إنما يقتضي صدق إحداهما وكذب الأخرى بواسطة أن كل إنسان ناطق وإنما الذي يكون لذاته زيد إنسان زيد ليس بإنسان واعلم أن هذا البيت كان ينبغي أن يتقدم على قوله في وحدات الخ ليتصل بما يتعلق به لكن اقتضى النظم تأخيره ثم عبارة التهذيب ولا بد من اختلاف في الكيف والكم والجهة والاتحاد فيما عداها والمصنف في أصل النظم اقتصر على الاختلاف نفيا وإثباتا
فتبعه الناظم في ذلك وزاد الناظم الائتلاف في الثمان الوحدات وهذا ابتداء كلام في بعض أحكام القضايا وهو التناقض فقولنا نفيا وإثباتا يخرج اختلافهما بالاتصال والكلية والجزئية ونحو ذلك فإنه وإن كان اختلافا فلا يسمى تناقضا والتناقض المحقق في مثل قولك زيد إنسان زيد ليس بإنسان ولكن لا بد من الاتفاق في وحدات ثمان كما ذكرنا بقولنا وإن يأتلفا أي يتفقا وهذه الوحدات تحقيقها في علم الميزان وهو المنطق فهذه الأبحاث دخيلة هنا وهي من مباحثه لا من مباحث أصول الفقه وحاصله أنه لا بد في تحقيق التناقض من اتحاد اختلاف فالاختلاف يكون في الكم أي الكلية والجزئية والكيف أي الإيجاب والسلب والجهة أي الضرورة والإمكان مثلا وغيرهما من الجهات والاتحاد فيما عداها وبعد ذكرنا التناقض أشرنا إلى العكس المستوى وعكس النقيض فإنهما من أحكام الخبر المترجمة فقلنا ... والعكس أعنى المستوى لك البقا ... تحويل جزئي جملة مع بقا ... صدقهما والعكس للنقيض ... تحويل كل منه بالتعريض ... فتجعل المقدم الموخرا ... من بعد أن تنقض كلا ظاهرا ...
المراد بجزئي الجملة المبتدأ والخبر على اصطلاح النحاة والموضوع والمحمول على عرف أهل المنطق ومن التحويل أن يجعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا نحو كل إنسان حيوان عكسه مستويا بعض الحيوان إنسان وإنما قلنا بعض لأنا قد شرطنا بقاء الصدق ولا يصدق إلا في بعض الحيوان إنسان ولو قلت كل حيوان إنسان لكان كذبا وذلك لأن عكس القضية لازم لها ويستحيل صدق الملزوم بدون لازمه وتحقيقه في علم الميزان وأما عكس النقيض فإليه الإشارة بقولنا والعكس للنقيض أي من أحكامه المترجمة عكس النقيض وضمير منه عائد على جزئي الجملة كما ينادي له
السياق وإفراده باعتبار كل جزء منها أي تحويل كل واحد من جزئي الجملة بنقيضه وزيادة نقيضه تفهم من قولنا من بعد أن تنقض كلا والمراد من التحويل أن تجعل نقيض الموضوع مكان المحمول وبالعكس كما يفيده قوله فتجعل المقدم المؤخر وحذف من النظام تمام التعريف وهو قولهم على وجه يصدق اكتفاء بما سبق من ذكره بالعكس المستوى لاشتراكهما في شرطية بقاء الصدق في الجزئين ولم يأت إلا بما تخالفا فيه وهو تحويل نقيض كل منهما ومثاله كل إنسان حيوان ينعكس إلى كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان وله تفاصيل في علم الميزان باعتبارات في السور والجهات وإنما أشار في الأصل إلى العكسين باختصار فتبعناه في ذلك وبعد استيفاء الكلام على الكتاب والسنة أخذ في ذكر الدليل الثالث وهو الإجماع فقال ... فصل وأما ثالث الأدلة ... فهو اتفاق العلماء الجلة ...
بالجيم المكسورة قال في القاموس وقوم جلة بالكسر عظماء سادة ذوو أخطار انتهى
... مجتهدي العدول منهم لا سوى ... في أي عصر بعد عصر المصطفى ...
فقوله اتفاق هو جنس الحد وقوله العلماء فصل يخرج به اتفاق العامة وقوله مجتهدي العدول يخرج به من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من العلماء والفاسق والكافر المجتهدان وفي أي عصر بيان لتحقيق معنى الاتفاق وبعد عصر المصطفى لإخراج اتفاق مجتهدي الصحابة في حياته صلى الله عليه و سلم على فرض وقوعه وقد خرج به الإجماع الواقع بالأمم السالفة فإنه على فرض وقوعه وكونه حجة إنما كان قبله صلى الله عليه وآله
وسلم ولعلماء الأمة خلاف كثير طويل شهير في الإجماع منهم من قال بعدم إمكان وقوعه وإن من يدعيه كاذب ومنهم من قال بإمكان وقوعه ولكنه ليس بحجة ومنهم من قال بإنه واقع وإنه حجة وهذا الأخير قول الجمهور الذي عدوه من الأدلة وعليه وقع نظمنا واستدل القائلون بأنه حجة لأدلة عقلية ونقلية وكلها أدلة مدخولة غير ناهضة وأسد الأدلة قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا قولوا ووجه الاستدلال بها توعد الله سبحانه على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه و سلم فدل على حرمة مخالفتهم وهو المطلوب في كون الإجماع حجة واعترض عليه بأن وضع الإضافة بقول سبيل المؤمنين للعهد كما صرح به أئمة النحو والبيان وقد تتعمل في غيره مجازا ولا يعدل إليه مع إمكان الحقيقة وإجماع المؤمنين عند نزول الآية غير معهود إذا لإجماع في عصره صلى الله عليه و سلم والمعهود عند نزولها هو الإيمان واتباع الكتاب والسنة وقد اعترض هذا الدليل باعتراضات كثيرة ولهذا صرح شارح غاية السؤال ومن قبله الإمام المهدي في المعيار بأن الآية حجة ظنية وقد تقرر أنه لا يثبت هذا الأصل بالأدلة الظنية وقد استدلوا بالأحاديث النبوية وهي كثيرة بالغة حد التواتر المعنوي منها أنها لا تجتمع أمتي على ضلالة
وحديث يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض ومن فارق الجماعة شبرا دخل النار وفي معناها عدة أحاديث إلا أنه لا يخفي أن نفي اجتماع الأمة على الضلالة لا يدل على وقوع الإجماع الذي نحن بصدده ولا عدمه على أن الضلالة هي الكفر فهو إخبار بأن الأمة لا ترتد كما تفيده أحاديث أخر والتوعد بالنار لمن فارق الجماعة دليل على أن المراد به فارقهم بالخروج عن الإسلام وغاية ما تدل عليه الأحاديث بعد الإغماض عن الاحتمالات أن تدل على الإجماع والمدعي دلالة ظنية والأصوليون لا يكتفون بها في إثبات الأصول وإن رجحنا نحن أنه يكتفي بها إلا أن على صحة ثبوته من بعد عصر الصحابة بحثا واضحا وهو أنه بعد انتشار نطاق الإسلام وتباعد أقطاره وكثرة علمائه يستحيل أن يثبت عنهم إجماع فإن من أنصف من نفسه علم أنه لا سبيل إلى الإحاطة بأشخاص فضلا عن معرفة قول كل فرد منهم في المسألة الفلانية فالحق ما قاله بعض أئمة التحقيق الجلال من المتأخرين أنه لم يقع الإجماع إلا على ضروري كأركان الإسلام والدليل الضرورة ولو فرضنا وقوعه لما علمناه لمحالات عادية إما في وقوعه فلأن مستنده إن كان ضروريا استحال عدم نقله إلى من بعدهم وإن كان ظنيا استحال الاتفاق عليه لاختلاف القرائح
وقد أجيب عن الأول بأنه يستغنى بنقل الإجماع عن نقل القاطع لارتفاع الخلاف المحوج إلى نقل القاطع وهو جواب باطل لأن الاستغناء بالإجماع فرع
ثبوت حجيته وهي محل نزاع ثم إن الحاجة إلى نقل القاطع ليس هو الحاجة إلى دفع الخلاف بل نفس ضروريته من الدين التي لا يمكن خفاؤها على مسلم فضلا عن مجتهد وعن الثاني لأن الدليل الظني قد يكون جليا فلا يبعد الاتفاق على مدلوله وأجيب بأن جلاء المدلول لا يستلزم جلاء السند للخلاف في شروط الراوي والرواية ومقدار الرواة والمذاهب في الجرح والتعديل وغير ذلك فيستحيل الاتفاق منها على غير ضروري استحالة بعض العلوم العادية وأما في نقله عنهم لوقوع فمستحيل أيضا لخفاء بعضهم أو انقطاعه أو أسره أو خموله أو كذبه أو عدم نظره أو الرجوع عن النظر قبل قول الآخر ثم النقل
أما الآحاد فلا يفيد وأما التواتر فبعيد وقد أجيب بعدم الاستحالة مسندا بالوقوع أيضا للقطع بإجماعهم على تقديم النص القاطع على المضمون وهذا جواب باطل لأن تقديم القاطع على المظنون بضرورة العقل والنزاع في الشرعيات والحجة الضرورة كما علمت لا الإجماع ومن تتبع كلام القائلين لثبوت الإجماع علم أنه لا يتم الدليل على دليليته ولا على وقوعه وتحققه وأما قول بعضهم بإثبات الوقوع أنهم أجمعوا على استقبال الكعبة فهذا مما علم أنهم أجمعوا عليه ولنا علم بضرورة العقل والشرع وهو علمنا بأنهم عقلاء وأنهم أيضا لا يكذبون الشارع لأن رد الضرورة الشرعية بمنزلة التكذيب ولهذا يكفرون من جحد ضروريا من الدين فيما أبعد دعوى وقوع الإجماع المحقق في الصحابة وأكذبها ممن بعدهم فلو ساءلت مدعي وقوع الإجماع المحقق عن محال المسلمين وبلدانهم بل أوسع من ذلك من خطط الأرض الإسلامية
لم يحط بها علما كيف بإفراد الخليقة ثم بصفاتهم ثم باستقرارها ريثما يحصل الإجماع
ولذا قال ابن حنبل إنه يقطع بكذب ناقله وزاد غيره ويكون ناقله مجروح العدالة إذا عرفت هذا فالأحاديث الواردة في مثل ذلك عليكم بالسواد الأعظم ونحوه مما جعلوه أدلة للإجماع وقد علمت تعذره لا يبعد حملها على ما قاله بعض المحققين من المتأخرين إن المراد بهم الأكثر قال فإنا إذا جمعنا المستدلين من أهل العصر الأول والأخر من عصر الصحابة إلى وقتنا فلا شك أن الأكثر مظنة الإصابة ولذا ترجح الأدلة بعمل الأكثر ومثاله خلاف ابن عباس بالحمر الأهلية وعلي عليه السلام في بيع أمهات الأولاد ثم إن المظنات إنما تعتبر عند عدم البرهان الذي يجب عليه العمل والاعتماد إذ لا معنى للمظنة مع حصول المئنة مع أنها هناك إنما تكون مرجحة كما ذكرنا لا دليلا مستقلا فشد يديك بهذه النكتة
وقال ابن تيمية إن الإجماع ثلاثة أنواع
الإحاطي وهو الإحاطة بأقوال العلماء جميعا في المسألة وهذا علمه متعدد مطلقا
الثاني الإجماع الإستقرائي وهو أنك تتبعت أقوال العلماء فلم تجد مخالفا وهذا يحتاج إلى استقراء قول عامة المجتهدين وهذا إذا أمكن في غاية الصعوبة وأسهل منه
الثالث وهو الإجماع الإقراري وهو لا يعلم أن الأمة أقرت عليه إلا بعد البحث التام هل أنكر ذلك القول منكر وغايته العلم بعدم المنازع والمنكر وهو صعب جدا ولا يعلمه إن علمه إلا الأفراد انتهى
قلت وهذا الإقراري هو الذي يسمونه السكوتي واعلم أن الأحاديث التي سبق إليها إشارة استدل بها الجمهور وادعوا أنها تواترت معنى ووردت بألفاظ كقوله الله عليه وآله وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة يد
الله مع الجماعة لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدا فاتبعوا السواد الأعظم يد الله على الجماعة من شذ شذ في النار يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض من خالف الجماعة شبرا دخل النار ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال وغير ذلك من الأحاديث مما يؤدي معنى ما ذكرنا وقد أجيب على الاستدلال بها على حجية الإجماع المدعى بعدم تمام تطبيقها على المدعى وذلك أن حديث لا تجتمع أمتي وما في معناه إنما يدل على نفي اجتماع الأمة على ضلالة ولا يلزم منه وقوع الإجماع وثبوته أيضا فالوعيد بأن من فارق الجماعة فهو في النار إنما يدل على مخالفة الإجماع القطعي وقد عرفت أن القطعي ليس إلا ما كان في ضروري من الدين والوعيد مبتدأ بدخول النار لترك خبره الضروري من الدين ولئن سلم ان في الإجماع ما هو قطعي فالاستدلال بأحاديث الإجماع أعم من ظنى وقطعي وأيضا فالوعيد بدخول النار دليل على أن المراد من فارق الجماعة جماعة أهل الإسلام والحاصل أن من أنصف عرف أن الأحاديث لا تتم دليلا على هذا المدعى بخصوصه وكيف تحمل على أمر يعز تحقيقه أو يتعذر وإنما معناها والله أعلم بشرى هذه الأمة إنها لا تفارق الحق ولا ترتد على أدبارها وإنها لا تزال طائفة منهم على الإسلام
قال ابن تيمية في بعض رسائله إن السلف إنما كانوا ينكرون على من شذ عن الجماعة في مبايعة الإمام ولزوم جماعة المسلمين وعلى من يعتزل الجمعة والجماعة كما أنكروا على سعد تخلفه عن بيعة أبي بكر وعمر وكما سئل ابن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يشهد جمعة ولا جماعة فقال هو في النار وهذا هو معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وقال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والناجية فإنما ذلك أمر باجتماع المسلمين على أمر دينهم ودنياهم وأن لا يتفرقوا ويتباغضوا بالتفرق والتهاجر بل عليهم أن يوالي بعضهم بعضا ويتحابوا ويتناصحوا انتهى
فحمل الأحاديث على ما تراه ونعم ما قال ... وليس بالشرط انقراض العصر ... وفقد سبق بخلاف يجري ...
هذه إشارة إلى مسألتين الأولى أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين بل إذا اتفقوا على حكم كان حجة عليهم وعلى غيرهم ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته والدليل على هذا ما سبق من أدلة ثبوت حجية الإجماع من دون شرط انقراض أهل عصره
والمسألة الثانية أنه لا يشترط في انعقاده عدم سبق خلاف يجري بين الأمة وذلك نحو أن يفترق أهل عصر على قولين فيأتي أهل العصر الآخر
فيجمعون على أحد القولين فإن هذا الأخير إجماع لا تجوز مخالفته وهو رأي الجمهور لشمول أدلة الإجماع له وسبق الخلاف لا يؤثر فيه ولعلماء الأصول أقوال في هذا اشتملت عليها مطولات الفن وليس ها هنا إلا الإتيان بعيون المسائل التي اكتحلت بأنوار الواضح من الدلائل ... هذا ولا بد له من مستند ... وإن جهلناه وإن كان السند ...
أي الأمر والشأن هو ما ذكرناه والحالة أنه لا بد للإجماع من دليل يستند إليه أهل الإجماع فلا يقع إلا عن دليل شرعي لما علم من أن الأحكام الشرعية لا تكون إلا عن مستند فإنه لا يقدم مجتهد والأمة على حكم لا مستند له ولكنه لا يلزمنا معرفة مستندهم لأنه إنما يلزمنا معرفة دليل الحكم مثلا وقد قام الإجماع على الحكم الواقع فيه الإجماع وحينئذ فلا يلزمنا إلا معرفة الإجماع لأنه قد صار الدليل في ذلك الحكم ولذا قلنا وإن جهلناه ثم المستند يكون من الكتاب العزيز أو السنو النبوية أو القياس إلا الإجتهاد كما أشار إليه قولنا ... قياسنا والاجتهاد فيه ... وباطل لسبق ما ينفيه ...
فالقياس ظاهر والمراد بالاجتهاد أن يكون السند صادرا عن دلالات النصوص التي لا تثبت إلا بالاجتهاد كالمفاهيم وغيرها وقيل المراد بالقياس ما له أصل معين وبالاجتهاد ما لا يكون له أصل معين وفي المسألة خلاف وجدال في صحة كون مستنده القياس ولكن بعد ما عرفت من تعذر الإجماع لا نطيل بذكر ما في فروعه من النزاع
وأما قولنا وباطل لسبق ما ينفيه فهو إشارة إلى أنه لما تقرر عصمة الأمة عن الخطأ كان تعارض الإجماعين باطلا فإذا انعقد الإجماع على حكم شيء
بعينه لم يصح إجماع على نفيه لا يتأتى وقوعه فمعنى النظم أن الإجماع الآخر إن فرض وقوعه فهو باطل لسبق ما ينفيه من الإجماع وفيه خلاف يأتي في باب النسخ ... وما له بالخلفا انعقاد ... وليس بالشيخين يستفاد ...
أي أن الإجماع لا ينعقد وتقوم به الحجة بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم إذ هم بعض الأمة والأدلة إنما قامت على حجية إجماع مجتهديها الجميع وخالف فيه احمد فيما روي عنه وأبو خازم بالخاء والزاي المعجمتين عبد العزيز بن عبد الحميد الحاكم في خلافة المعتضد فإنه حكم بذلك وكتب إلى الآفاق برد أموال من المواريث على ذوي ارحام بعد أن صارت إلى بيت المال عملا بإجماع الخلفاء الأربعة ولم يلتفت إلى قول زيد بن ثابت واستدلوا بقوله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي عضوا عليها بالنواجذ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم وقال على شرطهما
وأجيب عن الاستدلال بالحديث بأنه لا دلالة فيه على تعيين الأربعة بل هو عام لكل خليفة اتصف بتلك الصفة التي صرح بها الحديث وقولهم الدليل على تعيين الأربعة حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا أخرجه أبو داود والترمذي وقد كانت ثلاثون هي خلافة الأربعة
ومدة خلافة الحسن عليه السلام ولكنها لما لم تطل ولم تظهر آثارها لم يعتد بها ورد بأنه باطل لأنه من جملة الخلفاء بالنص على المدة ولا تكتمل إلا بالاعتداد بخلافته وبأنه لم يعرف في الصحابة القول إن ما اتفق عليه الأربعة خلفاء فهو إجماع بل خالف ابن عباس جميع الصحابة في عدة مسائل وكذلك ابن مسعود وغيرهما ولم يقل أحد إنهما خالفا إجماع الخلفاء فالحديث محمول على بيان أن الخلفاء أهل للاقتداء بهم ثم إن ها هنا دقيقة لم يتفطن لها المستدلون بهذا الحديث ولا يعرفه إلا أفراد الناظرين وهو أن الاقتداء حقيقة هو أن تعمل مثل عمل من اقتديت به ولذا قال أئمة الأصول إن شرطه موافقته حتى الموافقة في النية فلو صلى النبي صلى الله عليه و سلم ركعتين بنية الفرض وصليناهما بنية النفل لم نكن مقتدين ولذا قال العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله في أبياته الدالية ... من قلد النعمان أضحى شاربا ... لمثلث رجس خبيث مزبد ... ولو اقتدى بأبي حنيفة لم يكن ... إلا إماما راكعا في المسجد ...
يريد النعمان أبا حنيفة فإنه قال بجواز شرب المثلث ولم يشربه فمن شربه لم يكن مقتديا بأبي حنيفة وإن كان مقلدا له فالاقتداء غير التقليد وكذلك من ترك السنن النبوية واشتغل بالمباحات لم يكن مقتديا برسوله صلى الله عليه و سلم وإن كان صلى الله عليه و سلم هو الذي أباحها وإلى مثل كلامه رحمه الله قلنا في ذم التقليد في الأبيات النجدية ... وشتان ما بين المقلد في الهدى ... ومن يقتدي والضد يعرف بالضد ... فمن قلد النعمان أصبح شاربا ... نبيذا وفيه القول للبعض بالحد ... ومن يقتدي أضحى إمام معارف ... وكان أويسا في اعبادة والزهد
فمقتديا في الحق كن لا مقلدا ... وخل أخ التقليد في الأسر بالقد ...
إذا عرفت هذا فالأحاديث أمرت بالاقتداء بالخلفاء الأربعة وسلوك طرائقهم بإقامة الدين وردع المبتدعين وجهاد الكفار والباغين والزهد في زهرة هذه الدار والإقبال على ما ينفع في دار القرار لا أنهم حجة ولا أن إجماعهم في الشرعيات حجة فقد كمل الله الدين على لسان سيد المرسلين صلوات الله عليه و على آله الطاهرين وقال تعالى في آخر ما أنزل اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ثم الأمر بالاقتداء بهم أمر بمكرمة ينالها العبد في دينه فإنهم السابقون الأولون الذين أقاموا قناة الدين وكانوا في جهاد أعداء الله وأعلى كلمته أساطين وليس بواجب كما قررناه آنفا من ترك السنن والاشتغال بغيرها وليس هذه الأحاديث إلا كأحاديث اهتدوا بهدي عمار ونحوه مما حث فيه على اتباع خصلة غير خص بها بعض الصحابة كما خص أبا عبيدة بأنه أمين هذه الأمة وخزيمة بأنها تقوم شهادته مقام شهادتين فوضع أحاديث الاقتداء في أدلة الإجماع خير موافق لمدلوله وبهذا يعرف أنه لا يتم الاستدلال بحديث اقتدوا بأبي بكر وعمر على حجية قولهما كما استدل به من قال
بذلك فلا نطيل بذكر ما في ذلك من قال وقيل لأن هذا في المدعي هو عمدة الدليل
وأما قول الصحابي إذا انفرد فقال ابن القيم إنه حجة وإنه ذهب إلى ذلك مالك وأبو حنيفة وهو نص أحمد وقول الشافعي وأطال في ذلك المقال وبسط الاستدلال واختاره لنفسه ومن تأمل الأدلة التي ساقها بعين الإنصاف علم أنه قول لا ينهض عليه الدليل وقد تكلمنا على أدلته وما فيها مما لا يقم على صحة ما ذهب إليه والله أعلم ... ولا بسكان جوار أحمد ...
أي ولا له أي الإجماع انعقاد بسكان المدينة النبوية إذ هم بعض الأمة والأدلة التي استدل بها الجمهور على إجماع الأئمة إنما دلت على إجماعهم لا على إجماع أهل بقعة معينة وقد نسب القول بأن إجماع أهل المدينة حجة إلى مالك وأتباعه وأنكر جماعة من المحققين أنه قول مالك وحملوا ما نسب إليه بأنه إنما أراد تقديم روايتهم على غيرهم وحمله آخرون على أنه يريد في المنقولات المستمرة المتكررة كالأذان والإقامة ما تقضي العادة أن تكون في زمن النبي صلى الله عليه و سلم ويبعد تغيرها عن ما كانت عليه وفي حمل كلامه على غير ظاهره أقوال أخر منها ما يقضي به استدلال ابن الحاجب أنه أراد الصحابة والتابعين وتابعيهم وبالجملة فالنزاع في أصل الاجماع كما عرفت فكيف بإجماع بعض الأمة فلا نطيل بأدلة هذه الدعوى ... قيل ولا بالآل أهل الرشد ...
أي قال جمهور الأمة إنه لا انعقاد للإجماع بأهل البيت بمعنى أنهم إذا
أجمعوا على انفرادهم على حكم فإنه لا يكون إجماعهم حجة على الأمة كإجماع الأمة وذهب أكثر الآل إلى أنه حجة وقد أشرنا إلى أدلته وأحقيته بقولنا ... والحق فيما قاله الأجله ... حجته لقوة الأدله ...
والأدلة من الكتاب العزيز والسنة النبوية التي أشرنا إليها بقولنا ... كيذهب الرجس وأهل بيتي ... وما عليها عدنا لا يأتي ... وكم أتت في فضلهم من آية ... وانظر إذا ما شئت شرح الغاية ... فإنه قد حقق الدراية ... وجاء في الأمرين بالنهاية ...
هذه مسألة إجماع أهل البيت مسألة جليلة استوفى شارح غاية السؤل أدلتها وبيان وجه دلالتها كما أشرنا إليه فالدراية بيان وجه ودلالة تلك الأدلة على المدعي والرواية ما سرده من متون الآيات والأحاديث وقولنا في الأمرين أي الرواية والدراية وإن لم يتقدم لفظ الرواية فالسياق مناد به
ولنشر إلى خلاصة ما فيها وفي غيرها من الأدلة فنقول قد استدل أهل البيت بحجية إجماعهم بالكتاب والسنة أما الكتاب فقد أشرنا إلى أنهض الآيات في ذلك وهو قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت فإنه الدليل الذي ارتضاه المحققون من علماء الآل وقرروا أوجه الاستدلال بأنه تعالى أخبر مؤكدا بأداة الحصر بإرادته إذهاب الرجس عنهم وطهارتهم عنه ولا بد من وقوع ما أراده الله تعالى من أفعاله قالوا فثبت بلا ريب أنه مطهر لهم أكمل تطهير وأتمه كما يدل عليه التأكيد بالمصدر ولما كان الرجس بمعنى الأقذار غير مراد في المقام تعين أن المراد تطهيرهم عن الأرجاس المنافية للأمور الدنية إلا أنه لما كان ظاهر الحال بأن المعاصي والخطايا واقعة من أفراد أهل البيت على سبيل الجملة ولم يتنزه عنها كل فرد منهم تعين أن يكون المراد تطهير جماعتهم عن تلك الأرجاس المنافية للديانات وعصمتهم عنها وإذا ثبت ذلك ثبت أنهم لا يجمعون على باطل
وأن الذي يجمعون عليه هو الحق الذي لا تجوز مخالفته هذا هو المطلوب هذا تقريرهم في الاستدلال ويأتي بما ناقش فيه من خالف في حجية إجماعهم
وأما السنة فأحاديث واسعة ولأنواع كل خير جامعة سردها في شرح الغاية وأتى بما فيه النهاية والهداية منها أحاديث أنهم قرناء الكتاب وأنهم لا يفارقونه إلى ورود الحوض في يوم الحساب وأنهم أمان للأمة من الاختلاف وأن الأمة لا تضل إذا تمسكت بكتاب الله وعترته وانه إذا أخبره ربه عز و جل أنهما لا يفترقان إلى أحاديث جمة نقلها من المحدثين عيون الأئمة
قال في نجاح الطالب للعلامة المقبلي عند قول ابن الحاجب ولا ينعقد بأهل البيت خلافا للشيعة ما لفظه هذا ينافي حكايته عن الشيعة نفي حجية الإجماع والمشهور الذي لا يجهله إلا مقلد في النقل لا يصح تقليده أن الشيعة يقولون بحجية إجماع الأمة وحجة إجماع أهل البيت فالرافضة لدخول المعصوم في الموضعين وأما الزيدية فلا يقولون بالعصمة في الإمام ولا باشتراطها والنقل عنهم باشتراط ذلك باطل ولكن يقولون بإجماع الأمة بمثل أدلة غيرهم وبإجماع أهل البيت لأحاديث تواترت معنى أن أهل البيت والكتاب لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض لكثرة طرقها منها عند من التزم الصحة كمسلم والحاكم وابن حبان وعند غيرهم كأحمد والطبراني والخطيب وابن أبي شيبة والدارمي وأبي يعلى الموصلي وغيرهم من أحاديث جماعة
من الصحابة قد ذكرناهم في العلم الشامخ وزعم البرزنجي أنه بلغ بهم إلى خمسة وعشرين صحابيا ويشهد له حديث مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق أخرجه الحاكم وابن جرير والخطيب والطبراني والبزار وكذا أخرج أحمد حديث النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس ومن أنصف علم أن هذا الدليل أقوى من أدلة إجماع الأمة بمراتب ولكن إهمال المصنف وكذا غيره لدليلهم يريد به ابن الحاجب في مختصر المنتهى كالجواب عليه صلى الله عليه و سلم لقوله فانظروا ا كيف تخلفوني فيهما وهل يترك مثل هذا ويقول بحجية قول أهل المدينة مع عدم تحققه كما بيناه لأنه عزي إلى مالك ويطول المصنف ذلك التطويل فخذها عبرة إن كنت ممن يعتبر واعبد الله ولا تعبد الأسلاف انتهى بلفظه
واعلم أنه قد قرر الأدلة الإمام الحسن بن عزالدين في شرح المعيار
ثم قال ما لفظه وقد اعترض الأول بمثل أن أهل البيت هم أزواجه صلى الله عليه و سلم اللاتي في بيوته لأن أول الآية وآخرها فيهن ولو سلم فإنما يثبت ذلك في حق علي وفاطمة والحسنين لأن الخطاب إنما وجه إليهم فلا يتم وما أردتم ولو سلم فالرجس هو ما فحش من المعاصي ولو سلم فلا نسلم تناوله للخطأ المعفو عنه ولو سلم فغايته الظهور وحجية الإجماع أصل كلي لا يثبت بالظاهر على أن قولكم في تبرير الاستدلال في الآية ولا بد من وقوع ما أراده الله من أفعاله قد أجيب عنه لأن ذلك فيما لم يعلقه باختيار المكلفين لا كما هنا فإنه يردي تطهيرهم عن الرجس باختيارهم لا بإجباره لهم عليه وإلا لم يوجد فيهم عاص وهو خلاف المعلوم وأما الاستدلال بالأحاديث فإنه قال الإمام الحسن أيضا إنه أورد عليه أن لا نسلم تواترها لا لفظا وهو ظاهر ولا معنى إذ لم يحصل لنا الجزم بمعناه وكونه حصل لكم لا يفيدنا ولو سلم فلا يقتضي خطأ المخالف لأنه فرع ثبوت المفهوم ولا نقول به ولو سلم فغايته الظن وهو لا يجدي فيما نحن بصدده ولو سلم فهو متروك الظاهر لأن مقتضا خطأ اتباع الكتاب وحده لإفادة الواو الجمعية وهو خلاف الإجماع ولو سلم فإنما يفيد وجوب الاتباع حيث اتفق الكتاب وقول العترة والحجة حينئذ إنما هو الكتاب ولو يسلم فغايته الظهور فلا يثبت به أصل كلي ثم قال وللأصحاب أجوبة عن بعض ذلك وليس فيها ما يخرج تلك الأدلة عن حيز الظهور إلى حيز القطع انتهى بأكثر ألفاظه
وأقول بعد هذا إنه لا يخفى أن أهل البيت قد نشر الله منهم الكثير الطيب في جميع أقطار الدنيا بحيث لا يخلو منهم قطر بل هم رؤوس الناس في أقطار الإسلام فهم ملوك اليمن كابرا عن كابر من ثلاثمائة سنة إلى يومنا هذا ونحن في القرن الثاني عشر وإن تخلل تغلب البعض من غيرهم بإمارة وهم أيضا ملوك مكة في الغالب وهم ملوك العجم في الغالب وملوك العرب وتضم في جميع الأقطار الرومية التي ملكها صاحب الروم نقباء الأشراف ولا ريب أن في كل قطر علماء منهم أئمة محققون وبالجملة تفرقهم في الآفاق كتفرق الأمة الإسلامية في الأقطار وقد اتسعت لأهل البيت عليهم السلام دولة
قوية في الجبل والديلم مدة طويلة وإذا عرفت أن الإحاطة بمعرفة أقوال مجتهديهم متعذرة لا سيما ومنهم شافعية وحنفية ومالكية وحنابلة كل أهل قطر على رأي من ينشؤون في أرض مذهبه ومنهم من أحال الاجتهاد بعد الأربعة المذاهب وفيهم قائلون بهذا وبهذا يتقرر أنه لا سبيل إلى معرفة إجماعهم أصلا وقد تقول طائفة ممن شارف على علوم الآل في قطر من الأقطار كأهل اليمن ورأى كتابا من كتبهم فيه أن هذه المسألة أجمع عليها العترة كما يدعونه في المسح على الخفين أنه أجمع العترة على عدم شرعيته أو على نسخه والحال أنه ثبت وصح القول بالمسح عليهما عن إمام العترة بل إمام المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام فتراه أي من اطلع على دعوى إجماع أهل البيت يجادل به بما يضلل ويضلل من خالفه ويقول خالف إجماع أهل البيت وهذا من الغباوة والجهل بحقيقة إجماع الآل بل الجهل بالآل فإنه لم يخرج الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام إلى اليمن إلا وقد تفرق أئمة الآل وعلمائهم في الأقطار الشاسعة والبلدان الواسعة وقد وصل الغرب الأقصى أئمة منهم لا تعرف أقوالهم كالإمام إدريس بن عبدالله وذريته ووصل أولاد محمد بن عبدالله النفس الزكية بعد قتله إلى الهند إلى أرض كابل فليتق الله عبد
وجد دعوى إجماعهم عن القول به والتضليل لمن خالفه والتفسيق لمن أنكره فقد ولع الجهال من أتباع أئمة المذاهب والتضليل لمن خالفه والتفسيق لمن أنكره فقد ولع الجهال من أتباع أئمة المذاهب بدعوى إجماع الأئمة ودعوى إجماع الآل من غير تقدير ولا هدى ولا كتاب منير كما قررناه فيما سلف من إحالة معرفة إجماع الأمة بل إحالة وقوعه وكذب ناقله ومدعيه نقوله هنا أيضا فإن قلت فإذا لم تقم الآيات والأحاديث أدلة على إجماعهم وأنه حجة ومعلوم أن أقوال أفرادهم غير حجة وقد ثبت في الأحاديث الأمر باتباعهم وأنهم قرناء القرآن لا يفارقونه فماذا تكون فائدة تلك الأدلة قلت قد بسطنا الجواب عن هذا في حاشيتنا على كتاب تيسير الوصول المسماة بالتحبير على التيسير بما فيه الشفا بحمد الله فلينظره من أراده
مسألة ... وإن أتى لأمة المختار ... قولان في عصر من الأعصار ... فجائز إحداث ما لم يرفع ... كذا دليل ثالث ورابع ... كذلك التعليل والتأويلا ...
هذا إلمام بمسائل تتصل ببحث الإجماع الأولى أنه إذا اختلف أهل عصر على قولين فهل يجوز إحداث قول ثالث ففي المسألة لعلماء الأصول إطلاقان وتفصيل وذكر القولين ترجيح منا لما ترجح منا كما في ذلك القيل
المسألة الثانية التي أشار إليها قولنا كذا دليل ثالث أي كذا جائز إحداث دليل ثالث ورابع وذلك أنه إذا استدل أهل العصر على مسألة بدليلين مثلا فإنه قد قيل لا يجوز إحداث غير ما استدلوا به لأنه خروج عن سبيلهم وهذا قول ضعيف لأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها والممنوع مخالفة الحكم لا مخالفة الدليل وقيل بل يجوز إحداث ذلك وهذا الذي أفاده النظم بقوله دليل ثالث فإن الإشارة بقوله كذا إلى جواز لا إلى التفصيل السابق في البيت الأول إذ لا يتصور جريانه فيما نحن فيه والتقييد بقولنا ثالث تبع للأصل وأصله المعيار وكأنهما أرادا مثلا فإن الخلاف واقع من غير شرطية تقديم دليلين فلو اتفق أهل العصر على دليل جاء الخلاف في إحداث دليل غيره والدليل لما اخترناه من الجواز أن إحداث دليل غير دليلهم لا مخالفة فيه لما أجمعوا عليه ولا رفع لما أحدثوه ثم إن المطلوب من الأدلة أحكامها كما عرفت وحكي عن
ابن حزم المنع إذا كان الدليل الذي أحدث الاستدلال به من تأخر نص لم يعرفه الأولون لا إذا لم يكن كذلك فيجوز وكأنه ناظر إلى مسألة هل يجوز عدم علم الأمة بدليل راجح عملوا بما اقتضاه فقيل لا يجوز لأن الراجح سبيل المؤمنين فيلزم من عملهم بغير سلوكهم غير سبيل المؤمنين وهو لا يجوز عليهم وجوابه إنا لا نسلم أنه يتعين إطلاعهم على الدليل الراجح فلم يكن في عدم اطلاعهم عليه مخالفتهم سبيل المؤمنين لأن الذي توعد على مخالفته سبيلهم هو ما اتفقوا عليه وسلكوه والدليل الراجح الذي جهلوه لم يتحقق كونه سبيلا للمؤمنين قد سلكوه نعم من شأنه أن يكون سبيلا لهم وفرق بين صلاحيته بأن يكون سبيلا لهم وبين كونه قد ثبت وتحقق أنه سبيلهم
المسألة الثالثة إذا اختلفوا في تعليل حكم بعلة فهل يجوز لمن بعدهم إحداث علة أخرى لذلك الحكم المختار جواز ذلك أيضا إذ لا مخالفة لمن سبق تقضي ببطلان تعليلهم واقتصار الأولين على علة لا يقضي بالمنع من إحداث غيرها ومن قال لا يجوز علل ذلك ببيت العنكبوت كما عرف في موضعه ولما كان الإجماع ينقسم إلى قولي وفعلي وسكوتي فلا بد من طريق توصل إلى معرفة وقوعه أشار النظم إلى الأولين فقال ... فأسلك إلى العلم به سبيلا ... سماع ما قالوه والمعاينه ... والنقل عن كل على ما عاينه
قولنا سماع بدل من سبيلا وهذه هي الطريق الأولى أعني سماع قول كل مجتهد وهي أعلاها وأعزها وجودا والثانية المعاينة وهي أن يعاين أهل الإجماع يفعلون فعلا من الأمور الشرعية أو يتركونه ويعرف بقرائن المقال مرادهم فإنه يكون إجماعا وهوالمسمى بالإجماع الفعلي
وإلى الثالث بما أفاده قوله ... أو بعضهم مع الرضا ممن سكت ...
قوله أو بعضهم عطف على قوله كل أي أو ينقل عن بعضهم وهذا هو الإجماع المعروف بالسكوتي وهو أن ينقل عن بعض أهل الإجماع قولا أو فعلا أو تركا يقوله ذلك المجتهد مع رضاء الباقين من أهل الاجتهاد بما قاله من الحكم ورضاهم يعرف بأحد أمور ثلاثة أشار إليها قوله ... واعرفه منهم بامور قد أتت ... بفقد إنكار مع اشتهار ... وما لهم عذر من الإنكار ... وكونه مما المحق فيه ... فرد وهذا عند مثبتيه ...
الأول من الثلاثة التي يعرف بها رضى أهل الإجماع فقد الإنكار أي عدم إنكارهم مقالة ذلك البعض ولكن لا يكفي في ذلك فقد الإنكار إلا بشرط اشتهار المسألة وانتشارها كما قيدناه به إذ لو لم تشتهر لم يدل السكوت على الرضا لجواز أنهم ما عرفوها
الثاني أنه يشتهر ولا يكون لهم عذر من الإنكار كخوفهم من الفرقة والفتنة وغيرهما مما يبيح السكوت عن الإنكار وهو التأدية إلى أنكر منه أو عدم قبوله
الثالثة أن تكون المسألة من المسائل القطعية كما أشار إليه قوله مما المحق فيه فرد إذ المخطىء فيه آثم فلو لم يكن السكوت عن رضى لأنكروه لوجوبه ولو لم ينكروه مع ذلك لكانوا قد أجمعوا على ضلاله
وهم معصومون عنها فما سكتوا إلا لموافقتهم له فيما قاله فكان إجماعا وهذا في المسائل القطعية لا الاجتهادية إذ القائلون بأن الحق فيها مع واحد يقولون إن مخالفه مخطىء لكنه مأجور فلا ينكر عليه والقائلون بالتصويب اختلفوا في كونه إجماعا ثم إنهم قيدوا أصل المسألة بأن يكون قبل انتشار المذاهب إذ بعد تقررها قد جرت العادة بعدم النكير على من خالفها وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل يكون إجماعا أولا فقال جماعة إنه ليس بإجماع ولا حجة وهو مختار الإمام يحيى وقال إنه الذي عليه أئمة الزيدية وأكثر المعتزلة ومال إليه أهل الظاهر وارتضاه الغزالي وبه قال الباقلاني وادعى أنه آخر القولين للشافعي إذ قال الشافعي لا ينسب إلى ساكت قوله ونسب إلى إمام الحرمين وإليه يشير قول الناظم وهذا عند مثبتيه فإنه مشعر بأنه لا يقول به وهو هكذا عندنا غير إجماع ولا حجة وذلك لكثرة احتمال السكوت من التقية والتروي في المسألة وعدم تقرر النظر أو يرى أنه لو انكر لما التفت عليه وأن من لا يرى النكير في المسائل الخلافية إن كانت منها وغير ذلك مما لا يبقى لاحتمال رضاهم معه مجال وقد أوضحنا ذلك في رسالة تطهير الاعتقاد إيضاحا لا يبقى معه شك عند النقاد وبينا أن الإجماع الذي يسمونه
سكوتيا لا يدخل في مداخل الأدلة ولا يحوم حول حمى من أحمتها عند الجلة
وذهب الأكثر من الحنفية إلى أنه إجماع قالوا لأنه لو شرط السماع عن كل مجتهد لتعذر وقوعه خلاف ما قد تقرر أي من علم تعذر وقوعه قلت وفيه ما عرفته من عدم نهوض الدليل على وقوعه وثبوته وذهب جماعة من علماء العترة إلى أنه حجة ظنية لا إجماع واختارة الرازي والآمدي وابن الحاجب قالوا لأن السكوت مع انتشار الفتيا انتشارا يبعد معه أن يخفي على المجتهد من أهل العصر ولم يقع من أحد مخالفة ظاهرة في الموافقة قالوا تلك الاحتمالات لا تدفع الظهور قالوا وأقل مراتبه أن يكون كالقياس وظواهر الآحاد ولا يتم هذا إذ الآحاد والقياس قد قام الدليل على التعبد بهما بخلاف الإجماع السكوتي وقد ذكرنا هذا الذي يسمونه سكوتيا وصرحنا به في قولنا ... يدعى سكوتيا فأما الأول ... فإنه القولي فيما أصلوا ...
قد عرفت أن طرق معرفة الإجماع قوليا كان أو سكوتيا سماع ما قالوه من اتفاقهم على الحكم وهذا طريق قولي مستند إلى سماع أقوالهم إن كان الإجماع قوليا أو المعاينة لما يفعله أهل الإجماع إن كان فعليا أو معاينة تركهم إن كان تركا وأما السكوتي فطريقة النقل عن البعض أو فعله أو تركه مع رضى الباقين من المجتهدين بما قاله أو فعله أو تركه ومعرفة رضاه لما عرفته آنفا والنقل طريق لغير السكوتي والسكوتي إنما الفرق أنه في غير السكوتي يؤخذ عن قولهم الجميع وفيه عن قول بعضهم وقوله ... وهو من الأدلة الظنية ... ولو أتى من طرق قطعية ...
الضمير للسكوتي أي أنه بعد تقرير ثبوته دليلا يكون من الأدلة الظنية ولو كانت طرق وصوله إلينا قطعية تكون تواترية واعلم أن النظم وقع فيه ما وقع في أصله من اشتراط أن يكون مما الحق فيه مع واحد ! وذلك في
المسائل القطعية ثم قال ها هنا إنه من الأدلة الظنية إلا أنه لما تدافع كلام الأصل أشرنا بقولنا عند مثبتيه فإنه إشارة إلى أن من الناس من ينفيه ونفيه إنما يكون في المسائل الاجتهادية والقطعية فإنه اتفاق كما عرفت فقولنا وهو من الأدلة الظنية أي السكوتي الذي فيه الخلاف إثباتا ونفيا وليس إلا ما في المسائل الاجتهادية والحاصل أن السكوتي مع حصول شرائطه يكون إجماعا في المسائل القطعية بلا خلاف وأما في الاجتهادية فهو دليل ظني عند المثبتين ! له ولك أن تقول إن الحكم يكون من الأدلة الظنية لا ينافي كون الكلام أي كلام الأصل فيه بالنظر إلى المسائل القطعية فإن استفادة القطع من أمور خارجة وهي وقوعه فيها لا لذاته وفي هذا دفع لما يقال كيف يصح إثبات المسائل القطعية في السكوت وهو ظني فإنه إذا وقع فيها كان قطعيا بقرائن المقام ... وأجمعت أصحابه من بعده ... على خطا من مال بعد عقده ... ومثلهم لا يجمعون إلا ... عن قاطع في مثله قد دلا ...
هذا دليل ثان بعد الأدلة السمعية السابقة على حجية الإجماع وهو كما في النظم إن الصحابة قد أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف والعادة قاضية بأنهم لا يجمعون إلا على دليل قاطع وذلك لما لهم من الصفات الحميدة وتزكية رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم بأنهم خير القرون وثناء الله عليهم في القرآن بمثل كنتم خير أمة أخرجت للناس و محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم الآية فلذا قال ومثلهم أي من كان بتلك الصفات وليس إلا هم وبه يعرف أنه لا يرد إجماع اليهود على عدم نسخ شريعة موسى وإجماع النصارى على قتل عيسى وذلك أنه قد أبان الله حقيقة حالهم وباطن أمرهم وما هم عليه من التحريف والتبديل والكذب وغيرها من الصفات القاضية ببطلان إجماعهم وبالجملة فإنما يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرنا من القيود وانتفاؤه ظاهر وقوله في مثله أي مثل الحكم بخطأ من خالف الإجماع بعد انعقاده من
الأمور الشرعية إشارة إلى دفع النقص بإجماع الفلاسفة على قدم العالم فإنه عن نظر عقلي باطل لا عن دليل شرعي وإنما قلنا في النظم أصحابه ولم نقل أمته كما وقع في بعض كتب الأصول لأنه أورد عليه أن من الأمة من أنكر ثبوت الإجماع كالنظام والخوارج ودفعه أن الاعتداد بخلافهم لا يسمع فإنهم من الأمة كما قدمناه وقد أورد على هذا الدليل بأن لا نسلم ثبوت إجماع الصحابة إلا على تخطيط مخالف الضرورة كالخارج عن ملة الإسلام والنزاع في غير ذلك سلمنا ثبوته لكن لا بد من تواتره نقلا حتى يتم الاستدلال فيه على إثبات أصل من أصول الشريعة ونحن نطالبكم بإثباته عنهم بطريق الآحاد فضلا عن التواتر وقد أورد على هذا الدليل إيرادات كثيرة تشتمل عليها المطولات ولذا صرح في شرح الغاية بضعف الأدلة العقلية قال وهذا أشفها عندهم
تنبيه إذا عرفت جميع ما سقناه علمت أنه لا يتم نهوض الأدلة على حجية الإجماع ولو فرض أنها دلت عليه لما قامت على وقوعه ولو قامت عليه لما قامت على نقله تواترا فلا يشتغل الناظر لدينه بالبحث عنه وعن الأدلة عليه وما قيل فيها وقد أشار قولنا ... وإن أتى القولي آحاديا ... فإنهم يرونه ظنيا ...
إلى طريق نقل الإجماع القولي وأنها إما أن تكون آحادية وقد عرفت أن الآحادي لا يفيد إلا الظن كما عرفت إلا إذا حفته قرائن كما أشرنا إليه سابقا والظني حجة ظنية وهذا مما لا خلاف فيه وإما أن يكون نقله بالتواتر فقد أشار إليه قولنا ... وإن يكن طريقه التواترا ... فحجة قاطعة بلا مرا ...
أي فإما أن يكون طريق نقل الإجماع القولي التواتر الذي عرفت حقيقته فإنه يكون الإجماع حينئذ حجة قطعية بلا شك وأشار إلى حكم مخالف القطعي وإلى أدلة حجية الإجماع بقوله
بفسق من خالفه لما أتى ... من قوله ويتبع وما روى ... أئمة الآثار عن خير الورى ... من الأحاديث فسائل من ترى ...
فصدر البيت يشير إلى حكم من خالف الإجماع القطعي وهو المنقول تواترا بأنه بمخالفته إياه يكون فاسقا والفاسق من له منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة أي منزلة الإيمان ومنزلة الكفر وحكمه في الدين معروف لا تقبل له رواية ولا شهادة ولا يصلى خلفه وغير ذلك وفي الآخرة إن مات وهو غير تائب أنه من أهل النار خالدا فيها مخلدا والمسألة مقررة في علم الكلام واعلم أن كون الإجماع حجة قطعية إن روي تواترا مسألة خلاف وتفصيل فإن كان مما علم ضرورة كالصلوات الخمس مثلا وإن كان وجوبها علم من ضرورة الدين لا من باب الإجماع بخصوصه فمخالف هذا لا خلاف في كفره وليس من محل النزاع وإنما وقع به التمثيل لاستيفاء ما قيل وإن لم يكن مما علم من الدين ضرورة فقيل يكفر مخالفه ونسب إلى الحنفية وقال الجمهور لا يكفر لكنه يفسق قالوا لأنه تعالى توعده بالإصلاء في النار وأقل أحواله أن يكون فاسقا
قلت والمسألة عائدة إلى تحقيق معنى الكبيرة والخلاف مبسوط في محله فإن فسرت بما توعد عليه بالنار ثم الاستدلال بالآية لا يتم على التفسيق إلا بتقرير كون الآية قطعية الدلالة على الإجماع وقد أورد عليه المهدي في شرح المعيار وغيره من الخدش في دلالتها على ذلك بما كاد يخرجها عن مرتبة الظن فضلا عن القطع والمراد بالآية ما أشار إليه الناظم بقوله ويتبع فهو إشارة إلى قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ووجه الاستدلال بها أنه تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد مشاققة الرسول صلى الله عليه و سلم فدل على تحريم مخالفتهم وهو المطلوب ولكن قد قدمنا في أول بحث الإجماع تحقيق الكلام على الآية وأنها لا تنهض دلالتها على حجة الإجماع ولا على فسق من يخالفه
فتذكر وقد أشرنا إلى ما ورد من الأحاديث الدالة على حجية الإجماع وهي أحاديث واسعة ساقها أئمة الأصول إلا أنها وإن تواترت فمدلولها ظني وكما كان لك فليس بقطعي والحاصل أنها لا تنهض الأدلة من الكتاب والسنة على قطعية حجية الإجماع فلا يفسر مخالفه على أنه على تقدير قطعيته فإنه ليس بين الفسق والقطع ملازمة بل الفسق ملزوم لكن المعصية كبيرة ولم يقم دليل على كبر مخالفة الإجماع فهذا في الأدلة السمعية وهنا انتهى بحث الإجماع
وهذا بحث القياس قال الناظم ... فصل وهذا مبحث القياس ... وهو دليل ثابت الأساس ...
هذا هو رابع الأدلة الشرعية وعليه تدور أكثر المسائل الفرعية وهو في اللغة بمعنى التقدير وأما في الاصطلاح فهو ما أفاده ... وعرفوا معناه في العلوم ... بحمل معلوم على معلوم ...
في حكمه بجامع وينقسم
ضمير عرفوا إلى أئمة الأصول واللام في العلوم للعهد أي علم الأصول لأن السياق فيه وهو تعريف رسمي فالحمل كالجنس للمحدود ما بعده فالفصل له ولا بد للقياس من أربعة أركان أصل وفرع وعلة وحكم والباقي جامع تعلق بحمل وهي سببية وقد شمل ذلك النظم فقوله معلوم الأول هو الفرع ومعلوم الثاني هو الأصل وفي حكمه المراد به أحد الأحكام الخمسة وهو ثالث الأركان وبجامع رابعها ويسمى هذا القياس القياس التمثيلي ومرادنا من المعلوم ما هو أعم من المعلوم والمظنون ولم يقيد الحكم بالشرعي ليشمل العقلي واللغوي عند من أثبته ويذكر الجامع خرج ما كان ثبوت الحكم في شيئين بالنص كالبر والشعير المشتركين في حكم الربا فإن الحكم ثابت بالنص لا بجامع واعلم
أولا أن هذا هو رسم القياس التمثيلي ويطلق القياس على الاستثنائي
والاقتراني وهو القطعي المنطقي وحجيته قطعية بخلاف التمثيلي
وثانيا أن المراد بالجامع ما هو أعم من الصريح والضمني ويدخل قياس الدلالة في الرسم ومثاله إلحاق النبيذ بالخمر بجامع الرائحة المشتدة فالعلة الباعثة على الحكم هي الشدة المطربة وهي غير مذكورة صريحا إلا أنها مذكورة ضمنا لإشعار الرائحة مشتدة بالشدة المطربة
وأما قياس العكس وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في علة الحكم فإنه من باب الملازمة وإنما يذكر القياس لبيانها ومثلته الحنفية والهادوية بقولهم لو لم يكن الصوم شرطا في صحة الاعتكاف لم يصر شرطا له بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لم تكن شرطا لصحة الاعتكاف لم تصر شرطا له بالنذر فالأصل الصلاة والفرع الصوم والحكم في الأصل عدم وجوبها بالنذر والعلة فيه كونها لم تجب بالنذر والحكم في الفرعي كون الصوم شرطا في صحة الاعتكاف والعلة فيه وجوبه بالنذر فافترقا حكما وعلة فلا يصح دخوله في الرسم للقياس فيلزم أن حد القياس غير جامع والجواب أنه ليس من القياس بل من الملازمة وبيان أنه منها أن المثال المذكور راجع إلى قولنا لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف لم يكن واجبا بالنذر لكنه قد وجب بالنذر فيكون شرطا فهذا تمثيل بين التلازم ولما كانت دعوى الملازمة تحتاج إلى دليل بينت بالقياس المستعمل عند الفقهاء المراد ! إدخاله في الحد بأن ما لم يكن شرطا لشيء لم يكن شرطا له بالنذر كالصلاة فإنها لما لم تكن شرطا للاعتكاف لم تكن شرطا بالنذر وخلاصته أن قياس العكس يشتمل على الأمرين على الملازمة وعلى القياس الذي لبيانها المراد إدخاله في الحد فإن أراد المعترض خروج قياس الملازمة فنحن نسلم خروجه ولا يضرنا وإن أراد خروج القياس الذي لبيانها فلا نسلم خروجه
وفي الفصول فإن أريد جمعها القياس أي قياس الطرد وقياس العكس بحد واحد قيل تحصيل مثل حكم الأصل أو نقيضه في الفرع لاشتراكهما في علة الأصل أو لافتراقهما فيها ولما كانت للقياس أقسام أشار إليها قولنا ... ستة أقسام على ما قد علم ... إلى جلي وخفي وإلى ... طرد وعكس فاتبع ما مثلا ...
للقياس أقسام كثيرة اشتملت عليها مبسوطات الفن وقد ذكرناها هنا منها ما هو الأهم
فالأول الجلي وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل وفرعه وذلك كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق الثابت في العبد في الصحيحين ويسمى أيضا قطعيا على أحد المعنيين في تفسيره ويسمى قياسا في معنى الأصل بالنظر إلى إلغاء الفارق أعم من أن يكون عن قطع أو لا
والثاني الخفي وهو ما قابل الأول وهو ما لم يقطع فيه بنفي الفارق كقياس النبيذ على الخمر لاحتمال أن يكون بخصوصية المحل اعتبار في العلة
والثالث قياس الطرد وهو ما كان في المساواة بين الأصل والفرع في الحكم والعلة على جهة التحقيق
والرابع قياس العكس وهو ما كانت العلة فيه على جهة الفرض والتقدير وهذا على ما قررناه من شمول اسم القياس لقياس العكس ثم أشار إلى بقية الأقسام الستة بقوله ... وعلة دلالة فاستملي ... أمثالها من أي حبر يملي ...
هذا التقسيم باعتبار الجامع وهو العلة فالأولى قياس العلة وهو ما صرح فيه بالنص نحو أن يقال النبيذ حرام لإسكاره كالخمر والثاني ما لم يصرح بها فيه بل ذكر ما يدل عليها من لازمها أو أثرها أو حكمها فهو قياس الدلالة
مثال الأول أن يقال النبيذ حرام للرائحة المشتدة كالخمر إذ الرائحة المخصوصة دالة على الشدة المطربة ويرجع إلى الاستدلال بالرائحة التي توجب الإسكار على الإسكار وبالإسكار على التحريم الذي يوجبه الإسكار فاكتفى بذكر الرائحة عن التصريح بالإسكار
ومثال الثاني أن يقال القتل بالمثقل إثم يوجب القصاص كالقتل بالمحد فالإثم هو أثر العلة التي هي العمد العدوان ولما كان الأثر يدل على المؤثر اكتفي بذكره
ومثال الثالث أن يقال في قطع الأيدي باليد قطع يقتضي وجوب الدية
على القاطعين فيجب كما يجب القصاص في قتل الجماعة بواحد فإن وجوب الدية ليس هو العلة الموجبة للقصاص بل حكم من أحكامها بل العلة الموجبة له القتل وهو يقتضي وجوب الدية أو القصاص فالقطع قد شاركه القتل الموجب لأحد الأمرين في أحدهما وهو وجوب الدية وإيجاب الشارع لأحد الأمرين بالقتل لحكمة الزجر وقد وجد في القطع أحدهما وهو الدية فيوجد الآخر وهو القصاص لأنهما متلازمان بالنظر إلى اتحاد العلة والحكمة من دون نظر إلى عدم الملازمة باعتبار الخطأ والعمد وعفو الأولياء عن القصاص
وعند الفراغ من ذكر هذه الأقسام أشرنا إلى الخلاف في كون القياس من الأدلة الشرعية أولا والجمهور على أنه منها كما أشار إليه قوله ... ومن يقل ليس من الأدله ... فإنه قد خالف الأجله ...
اختلف العلماء في القياس هل يجوز التعبد به أم لا ثم القائلون بالأول اختلفوا هل هو واقع أم لا واعلم أن مسمى القياس خمسة أنواع تحقيق المناط وتنقيح المناط وتعيين المناط وتخريج المناط وإلغاء المناط وفي كل واحد وقع الخلاف في كونه دليلا متعبدا به أو لا ومعنى التعبد أنه يكلف المجتهد بطلب المناط بالحكم الشرعي ليحكم في محاله بحكمه فالأكثر على أنه غير ممتنع عقلا وواقع شرعا ويجب العمل به وعن النظام والظاهرية أنه يمتنع شرعا التعبد به وذلك لأن الشريعة مبنية على الجميع بين المختلفات كالتسمية في الفدية بين قتل الصيد خطأ أو عمدا والتسوية بين الزنى للمحصن والردة في إيجاب القتل والوطء في الصوم والظهار في إيجاب الكفارة ومن التفريق بين المتماثلات كإيجاب الغسل بخروج المني دون البول والغسل من بول الجارية دون الصبي وقطع السارق دون الغاصب وإن عصب أضعاف نصاب السرقة وغير ذلك والقياس على خلاف هذا فيستحيل التعبد به وأجيب عنه بأن القياس بجامع والمختلفات يجوز اجتماعها في صفة مشتركة
تصلح أن تكون هي الداعي والمقتضي للحكم وتشريكها فيه ثم إن من المتماثلات ما يجوز افتراقها لعدم صلاحية الجامع أو وجود معارض في الأصل أو في الفرع يقضي بعدم التماثل بينهما وخلاصته أن للقياس شروطا واعتبارات لا بد من ملاحظتها في نظر المجتهد فليس مجرد التماثل في ظاهر الأمر يوجب الجمع ولا مجرد الاختلاف يقضي بالافتراق وقد استدل الأكثر بأدلة من الكتاب والسنة كلها ظنية الدلالات على التعبد بالقياس وقد بسطت في الكتب المطولة هي وردودها وهذه المسألة أصل من الأصول لا يكفي فيها إلا الدليل القاطع وأشف الأدلة عندهم هو ما أشار إليه قولنا ... كيف وقد أجمعت الصحابة ... وهذه قطعية الإصابة ... وشاع فيهم عملا وذاعا ... فكان إذ لم ينكروا إجماعا ...
فقوله فشارع فيهم الخ عطف تفسيري لقوله أجمعت وبيان له وقوله إذ لم ينكروا إشارة إلى أنه إجماع سكوتي وهو ظني الدلالة فأشرنا إلى دفع هذا بقولنا وهذه قطعية الإصابة ومعناه أن مثل هذا الأصل الذي يدور عليه أكثر الأحكام الشرعية تقضي العادة بأنه لا يكون إلا عن وفاق منهم وإلا لأنكروه هذا تقرير مرادهم أصل النظم وقد أورد عليه أنه يثبت ذم القياس عن الخلفاء الأربعة وابن عباس وابن مسعود وأجيب بأنه ثبت عن علي عليه السلام القياس بمحضر من الصحابة حين شاورهم عمر في زيادة الجلد على الأربعين فقال علي أنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد الفرية قالوا هذا قاله بمحضر من الصحابة وعمل به عمر وأجيب بأن هذا لا يصح عن علي عليه السلام كيف ومعناه غير واضح بالمراد فإن الهاذي غير مكلف ولا حد في قذفه إذا أريد بالافتراء القذف وإلا فهو أعم منه وقد أورد على هذا
الأثر المنسوب إلى علي عليه السلام بأن ليس كل من شرب الخمر يسكر فشارب الجرعة لا يسكر وهو يحد وليس كل شارب يهذي ولا من يهذي يفتري ولا كل من يفتري يلزمه الحد فقد يفتري المجنون والنائم فلا يحدان ثم إن كان يجلد لفرية لم تصدر منه فهو ظلم بإجماع الأمة ولا خلاف بين اثنين في أنه لا يحل لأحد أن يعاقب أحدا بما لم يفعله لجواز أنه يفعله ثم من المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات فهنا يقام بلا شبهة ثم إنه إن كان الحد للفرية فأين حد الخمر وإن كان حد الخمر فأين حد الفرية ولا يجوز ثبوت حد بإقامة آخر ثم إنه أيضا إذا سكر هذى وإذا سكر سرق وزنى وقتل وأفسد في أموال الناس وأقر لغيره في ماله أفتلزمونه هذه الأحكام هذا مما لا تقولونه وإن قلتم به في شيء دون شيىء فهذا هو التحكم الذي لا يقوله عارف بأحكام الشريعة وبهذا يعلم أنه كذب افتراء موضوع على علي كرم الله وجهه ويدل أنه غير صحيح أنه صح حده للوليد بن عقبة أربعين في خلافة عثمان وأمر علي عليه السلام عبدالله بن جعفر بجلده وهو يعد إلى الأربعين فهذا يؤكد كذب هذا المروي وأنه لم يقله قط فقد نزهه الله عن مثل هذا ولا تغتر بتطابق كتب الأصول وغيرها على نسبته إلى علي رضي الله عنه فما كل منسوب إلى عالم يصح عنه وإن قيل إنه صحيح فلا بد من صحة معناه ومعرفة المراد
والمتشابه لا يكون إلا في كلام الله الذي لم يتعبدنا بمعرفته قيل ويقع في كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما كلام العلماء فلا يقول به أحد
والأبحاث والإيرادات على القائلين بالقياس والرادين عليهم كثيرة وقد بسطت في مطولات الفن
وأما عمر فإنه في حد الخمر إنما عمل بقول عبدالرحمن بن عوف حيث قال له أخف الحدود ثمانون فجعله ثمانين كما في الصحيحين إن قيل هذا أيضا قياس قلنا ليس بالقياس المصطلح فإنه لا جامع بين السكر والقذف وإنما هو رأي محض وبالجملة ادعاء الإجماع في هذا غير صحيح ولهذا خالف جماعة من الائمة واختاروا أن حد الشارب أربعون وكونهم أجمعوا على القياس لا دليل عليه على أنه لو سلم فغاية الواقع منهم جواز العمل به لا وجوبه الذي هو المدعى قالوا بل أوجبوا الأحكام الثابتة به على العباد ولو كان العمل به غير واجب لما جاز لهم إلزام العباد بأحكام بنيت عليه
واعلم أن التحقيق أن القياس لم يقم الدليل على التعبد به إلا فيما كانت علته منصوصة بأي طرق النص كما يأتي تحقيقه وغيرها من المسالك الآتية ستعلم أنه لم يقم عليها دليل التعبد بالعمل به ويأتي إن شاء الله تحقيقه وقد بسطناه في رسالتنا المسماة الاقتباس في معرفة الحق من أنواع القياس
ولما اختلف في جريان القياس في الأحكام كلها أو عدمه أشرنا بقولنا ... وليس بالجاري في الأحكام ... جميعها في نظر الأعلام ... فإن ما معناه منها يجهل ... فليس في باب القياس يدخل ...
النفي في قوله وليس بالجاري متوجه إلى القيد أعني لفظ جميعها والمراد أن القياس لا يكون جاريا الاستدلال به في إثبات كل حكم شرعي لأنه
قد تقرر أن من الأحكام ما لم يدرك معناه الذي هو الداعي والمفضي للحكم بل قد يكون تعبديا والذي في كتب الأصول مسألتان إحداهما هذه وهو أنه اختلف في جريان القياس في جميع الأحكام الشرعية والمختار نفيه لأنه ثبت في الأحكام ما لا يعقل معناه كفرض الدية على العاقلة وإجراء القياس في مثله تعذر لما عرف من أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل وهذا ذكره ابن الحاجب والعضد
قلت وهذه المسألة قليلة الجدوى عديمة الفائدة إذ قد علم أنها إن تكاملت شرائط القياس وارتفعت موانعه كان دليلا على أي مسألة وإلا فليس بدليل لفوات شرائطه أو وجود موانعه
والمسألة الثانية أنه هل يجري القياس في الحدود والكفارات فقال الجمهور يجري فيهما وقالت الحنفية لا يجري فيهما واستدل الجمهور بأن دليل التعبد بالقياس شامل لهما فإذا عقل المعنى وجب فيه الحكم بالقياس كما قيس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد وقطع النباش على قطع السارق فالعلة والحكم فيهما معلومان وأما ما لا يعلمان فيه فلا يجري فيه القياس وكذلك اختلف في جريانه في الأسباب أو لا والكلام فيه مستوفى في المطولات والناظم هنا ما تعرض إلا لما في الأصل ثم أشار بقوله ... ثبوت حكم الأصل بالدليل ... كاف لدى الأكثر لا القليل ... فإنه يشترط الإجماعا ... أو اتفاقا من يرى النزاعا ...
إلا أنه يكفي في صحة القياس إثبات حكم الأصل المقيس عليه بالدليل من نص أو إجماع ثم تثبت العلة بمسلك من مسالكها التي تأتي وهذا رأي
الجمهور المشار إليهم بالأكثر وخالف بشر المريسي وهو المراد بالقليل أنه لا يكفي في صحة القياس مجرد قيام الدليل على حكم الأصل بل لا بد مع ذلك من الاتفاق إما من الأمة وهو قوله فإنه يشترط الإجماع أو بين الخصمين المتنازعين وهذا الذي نسب إلى المريسي يؤخذ من عبارة جمع الجوامع أنه رأي الجمهور فإنه قال في شروط حكم الأصل وكون الأصل متفقا عليه قيل بين الأمة والأصح بين الخصمين ثم لما كان للقياس أركان أشار إليها فقال ... هذا وأركان القياس أربعه ... أصل وفرع حكمه والجامعه ...
أركان الشيء أجزاؤه التي تتألف منها ماهيته مثاله أن تقول النبيذ حرام لأنه مسكر كالخمر فقد ركبت القياس هذا من أربعة أركان أعني المقيس عليه وهو الخمر وفرع وهو النبيذ وحكم وهو التحريم وجامع أي علة جمعت بين الأصل والفرع في الحكم وهو الإسكار وحقيقتها في عرف أهل الأصول ما ثبت الحكم الشرعي لأجله باعثا أو كاشفا كما يأتي وأما حكم الفرع وهو تحريم النبيذ فلا يعد من الأركان لأنه يتوقف على معرفة القياس وركن الشيء لا يتوقف عليه وإنما هو ثمرة القياس ولكل واحد من أركان القياس من الأربعة الأركان شرط فبدأ بشروط الأصل فقال ... فشرط حكم ما يعمد أصلا ... أن لا يكون النسخ فيه حلا ...
جعل هذا الشرط في أصل النظم شرطا للأصل ولكنه لما كانت شرطيته
إنما هي باعبتار الحكم فإنه الذي يرد عليه النسخ زدنا لفظ الحكم إعلاما بأنه المراد بالنسخ ولذلك تجد كثيرا من الأصوليين يقتصرون على شروط الحكم ولا يجعلون للأصل شرطا وإنما شرط أن لا يدخل النسخ حكم الأصل لما عرفت من المراد من القياس إلحاق حكم الفرع بحكم الأصل فإذا كان قد نسخ فلا حكم فلا إلحاق وهذا تتابع على ذكره الأصوليين ولكن لا حاجة إليه إذا ما نسخ حكمه فقد رفع التعبد به وطوي بساط الإلحاق عليه والشرط الثاني قوله ... ولا يكون خارجا عن السنن ... كشفعة الجار على ما في السنن ...
السنن الأول بفتح السين المهملة والثانية بالضم جمع سنة والمراد ما جاء في السنة من إثبات الشفعة للجار ومعنى عدم خروجه عن سنن القياس أن يعقل المعنى أي العلة في الحكم ويوجد في محل آخر يمكن تعديته إليه وذلك لأن القياس فرع تعقل العلة كما تقدم فلا يصح القياس والخارج عنه نوعان
الأول أن يكون مما خفي معناه المقتضي للحكم وذلك كالشفعة والقسامة لأنهما معدولان عن سنن القياس الشرعي فإن القسامة تجب على
من لا يدعي عليه ولي الدم القتل ويجب فيها تحليف من لم يثبت الحق عليه والقياس أن لا تجب إلا على من ادعى عليه وكذلك الشفعة مطلقا مخالفة للقياس لأنها أخذ مال الغير من غير رضاه بلا عقد وهذا النوع هو الذي أشار إليه الناظم
والثاني أن يكون معناه ظاهرا لكن منع من إلحاق نص الشارع بالخصوصية كإجزاء أبي بردة في التضحية بالجذع من المعز وقصره عليه بقوله صلى الله عليه و سلم ولا تجزىء غيرك وهذا الثاني لم يشر إليه النظم لعدم ذكره في أصله
الشرط الثالث قوله ... ولا يكون الحكم بالقياس ... قال بهذا جلة الأكياس
أي من شروط صحةالقياس أن لا يكون حكم الأصل ثابتا بالقياس فإنه لا يجوز القياس عليه على المختار واستدلوا لذلك بأن العلة في القياس إما أن تتحد أو تختلف إن اتحدت كقياس التفاح على السفرجل في الربويات مع قياسه على البر كان تطويلا للمسافة بلا فائدة للاستغناء بقياس التفاح على البر وإن اختلفت العلة لزم فساد القياس لعدم الاتحاد في العلة بين القياسين ومثلوه بأن يقال الجذام عيب يفسخ به البيع كما يفسخ به النكاح قياسا على الرتق فيقول الغير لا نسلم أن الرتق يفسخ به النكاح فيثبته المستدل بالقياس على الجب بجامع فوات الاستمتاع فيقول هذا القياس فاسدا لاختلاف الجامع بين الأصل والفرع الذي قصد إثبات الحكم به إذ العلة في الجذام كونه عيبا ينفسخ به البيع والعلة في الرتق هي فوات الاستمتاع فبطل القياس هكذا قاله الجمهور ولا يخفى أن ما ذكره في الأول من المثالين مناقشة لفظية لا تقتضي بطلان القياس المذكور وما ذكره في الثاني دل على انه بطل القياس لعدم الاتحاد في العلة لا لأنه قياس على مقيس فهذه شرط الأصل الذي جعلها صاحب أصل النظم شروطا للأصل
وأما شروط الفرع فثلاثة الأول منها موافقته في أمور ثلاثة أشار إليها بقوله ... واشترطوا في فرعه الموافقه ... في الحكم والعلة والمطابقه ... للأصل في التغليظ والتخفيف ...
هذا هو الشرط الأول للفرع وهو وجودي والشرطان الآخران عدميان وإنما جعلوا هذا شرطا واحدا لأنه مساواة الفرع لأصله وذلك في ثلاثة أمور الأول في الحكم بأن يتحدا في الحكم المستفاد من العلة وهذا في الحقيقة مأخوذ في ماهية القياس كما عرفت في رسمه
والثاني مساواته في العلة وذلك بأن يوجد في الفرع علة أصله كالكيل في الربويات عند معتبره فتقاس النورة عليها لوجود علتها فيها بخلاف ما لو قيل العلة هي الطعم فإنها لا توجد في النورة فلا يصح القياس
والثالث الموافقة في التغليظ والتخفيف فلا يصح قياس التيمم على الوضوء في التثليث لأن التخفيف ينافي التغليظ فيكون ذلك أمارة الفرق فلا تتحقق المشاركة التي تقتضي الإلحاق وليس الجمع لوجود الجامع أولى من الفرق لوجود الفارق وهذا الشرط اعتبره المهدي وجماعة
وذهب الأكثر إلى عدم اشتراطه قالوا لأنهما وصف للحكم والحكم إذا ثبت في الأصل على أحدهما من التغليظ والتخفيف ثبت في الفرع كذلك فإن ثبت المانع بنص كان بطلان القياس لأجله لا لمجرد المخالفة في التخفيف والتغليظ
الثاني من شروط الفرع الثلاثة وهما شرطان عدميان أشار إليها قوله ... ولم يكن في حكمه المعروف ... شرعية من قبل حكم الأصل ... ولا أتى في ذاك نص نقلي ...
هذا الشرط الأول أن لا نقدم شرعية الفرع على حكم الأصل ومثاله قياس الوضوء على التيمم في شرعية وجوب النية فإن وجوب النية في التيمم
ظاهر من نص قوله تعالى فتيمموا وشرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء فلا يقاس إيجاب النية في الوضوء على التيمم
والثاني منهما ما أفاده قوله ولا أتى في ذاك نص نقلي أي أنه يشترط في القياس أن لا يأتي على حكم الفرع نص نقلي أي دليل ظاهر دال على ثبوت حكم الفرع إذ يكون دليله النص لا القياس إلا أنه يجوز الاستدلال بالقياس استظهارا وتقوية ومعاضدة
وأما شروط الحكم فهو ما أشار إليه قوله ... وأن يكون حكمه شرعيا ... لا لغويا كان أو عقليا ...
هذا شرط للحكم الذي ثبت بالقياس هنا وهو أن لا يكون الحكم عقليا ولا لغويا وهذا شرطه في هذا الفن إذ قد يجري في غيره القياس العقلي كما في أصول الدين والمراد بكونه شرعيا أي من الأحكام الخسمة فإنه لا يهتدي إليها العقل إلا بالأدلة الشرعية والمراد بنفي اللغوي نفي أن يكون الثابت بالقياس الشرعي حكما لغويا نحو أن يقال في اللواط وطء وجب فيه الحد فيسمى فاعله زانيا كواطىء المرأة فهذا لا يصح لأن الأسماء لا تثبت إلا بالوضع اللغوي لا بالقياس الشرعي وبنفي كونه عقليا أنه لا يثبت بالقياس الشرعي حكم عقلي نحو أن يقال في نقل العين المغصوبة استيلاء
حرمه الشرع فيجب كونه ظلما كالغاصب الأول فهذا لا يصح لأن الظلم إنما يصح إذا حصل وجهه وهو كونه ضررا عاريا عن نفع ودفع واستحقاق
وأما شروط العلة فقد أفادها قوله ... وقد أتى عندهم للعلة ... شرائط قد جمعت في ستة ...
العلة هي الوصف الذي علق عليه الحكم الشرعي ويسمى الباعث على الحكم ولها ستة شروط
الأول قوله ... لا تصدم النص ولا إجماعا ...
بأن يكون ما أثبتته في الفرع مخالفا لهما مثال الأول قول الحنفي المرأة مالكة بضعها فيصح نكاحها بغير إذن وليها قياسا على بيع سلعتها فإنه قياس صادم قوله صلى الله عليه و سلم أيما امراة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل أخرجه أبو داود وغيره ومثال الثاني قياس صلاة المسافر على صومه في عدم الوجوب بجامع السفر فإنه مخالف للإجماع على وجوب أدائها
الشرط الثاني من الستة قوله ... ولا يكون جزؤها مضاعا ...
أي ملغى عن الاعتبار كما بينه قوله من غير تأثير فإنه بيان لمعنى إضاعته ... من غير تأثير له في الحكم ...
ومعناه أن العلة إذا كانت متعددة الأوصاف عند من قال به فشرطها أن لا يكون في أوصافها ما لا تثير له في الحكم بحيث لو قدر عدم ذلك الوصف لم يعدم الحكم فيه مثاله أن نقول في تحريم التفاضل في النورة مثلا مثلي ليس بلبن المصراة فيضمن بمثله فقوله ليس بلبن المصراة وصف
ملغى غير معتبر لا يصح أن يكون باعثا على الحكم ولا أمارة فلا فائدة فيه حينئذ وليس ذلك بدافع للنقض كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى حتى يقال هو الفائدة
الثالث من شروطها أفاده قولنا ... ولا يكون الوصف نفس الإسم ...
ويعني به الجامد المشتق مثال الجامد التعليل في حرمة الخمر بكونه خمرا وتعليل تحريم الربا في البر بكونه برا فإنه لا تأثير له في الحكم بل هو وصف طردي غير معتبر وإلى هذا أشرنا بقولنا فإنه ليس له تأثير
قال المهدي في شرح المعيار إنه لا يعلم خلافا في ذلك وقال الرازي قد وقع الاتفاق على عدم الجواز أيضا قال فإنا نعلم بالضرورة أنه لا أثر في تحريم الخمر لتسميته خمرا قلنا دعوى الاتفاق غير صحيحة فإنه قد حكى في جمع الجوامع الخلاف ونسبه إلى أبي اسحاق الشيرازي فإنه قال يجوز أن يكون وصف العلة صفة كالطعم في البر أو اسما كقولنا تراب وما قال لان كل معنى جاز أن يعلق الحكم عليه من جهة النص جاز أن يستنبط من النص ويعلق الحكم عليه كالصفات قال الزركشي والصحيح هو الجواز
قال وقد استعمله الشافعي في بول ما يؤكل لحمه قال لأنه بول شابه بول الآدمي وينسب إلى أحمد بن حنبل القول به هذا وإنما قيدنا بالجامد لان المشتق كالسارق والزاني جائز التعليل به اتفاقا إلا أنه قال الزركشي في شرح الجمع إنه منع بعضهم التعليل بالاسم مطلقا نقله سليم الرازي في التقريب
والشرط الرابع أشار إليه قولنا ... والطرد شرط قاله الكثير ...
الطرد للعلة مرادنا به أنها كلما وجدت العلة وجد الحكم وعدمه هو تخلف الحكم عنها في بعض الصور وهو المسمى بالنقض ولا يخفى أن هذا في الأصل هو الخامس لأنه جعل عدم مخالفة العلة الحكم تغليظا وتخفيفا شرطا ونحن اكتفينا بما مضى في شروط الفرع أن لا يخالط أصله تغليطا وتخفيفا فإنه يعلم أن العلة يشترط فيها ذلك وإنما قلنا في النظم في شروط العلة ستة باعتبار كلام الأصل ولذا قلنا عندهم أي لا عندنا
واعلم أن العلة إما أن تثبت بنص قطعي أو ظني أو استنباط فالتخلف إما أن يكون لمانع أو عدم شرط أو لا وقد اختلف العلماء في اشتراط الاطراد لصحة العلة على أقوال الأول ما أشرنا إليه من اشتراط ذلك مطلقا إلا لمانع أو عدم شرط فيجوز ذلك لأن الحكم الشرعي لا بد له من باعث عليه وقد جزم صاحب الآيات البينات بان تخلفها لا مانع ولا عدم شرط محال
واستدل مشترط الاطراد مطلقا أن الحكم لا يتخلف عن علته إلا لمانع أو عدم شرط قالوا فيكون عدم المانع ووجود الشرط من أجزاء العلة فوجود بعض أجزائها حينئذ في محل الحكم بدون الحكم دليل على أن ذلك البعض ليس هو العلة بمجرده وإلا لوجد الحكم في ذلك المحل مثاله لو ورد أن علة تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلا هو الوزن ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مع وجود الوزن فيه تبين لنا أن العلة في منع بيع الحديد بالحديد كونه موزونا مع كونه ليس بأبيض أو مع أنه أسود فانتفاء المانعية وهو البياض أو وجود الشرط وهو السواد قد صار جزءا من أجزاء العلة فبطل حينئذ أن تكون العلة هي الوزن على انفراده فهذا دليل مشترطي الاطراد مطلقا وللمخالفين أقوال مسطورة في مطولات الفن وإليه أشير بمفهوم قولنا قاله الكثير أي ونازع فيه القليل فقالوا لا يشترط الاطراد وإلى الشرط الخامس من شروط العلة أشار قولنا ... والعكس عند البعض ثم قد أتى ... نفيا وفي الأغلب جاء مثبتا ...
فقوله والعكس هو الشرط الخامس ومعناه انتفاء الحكم عند انتفاء العلة وهذا الشرط مبني على عدم جواز تعليل الحكم بعلتين فيكون عدم انعكاس العلة قدحا لا يصح معه عليتها لأنه لا يصح ثبوت الحكم بدون العلة والمراد انتفاء العلم او الظن بالحكم لأنه لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول لجواز أن يثبت بدليل آخر
وكون الحكم يجوز تعليله بعلتين مسألة خلاف بين أئمة الأصول فمن قال بجوازه قال لا يشترط انعكاس العلة كما أشير إليه بقوله في النظم عند البعض والمختار تعدد العلل المستقلة بإثبات الحكم بمعنى أنها إذا وجدت منفردة ثبت بها الحكم ومثاله وجوب القتل فإنه حكم ثابت بعلة القصاص وبعلة الردة وبعلة ترك الصلاة وبعلة الزنى من المحصن فكل واحدة علة مستقلة يثبت بها الحكم وقال المانع إن المثال متردد الحكم لا العلة قال فالقتل بالقصاص غيره بالردة مستدلا بأنه ينتفي القتل بالقصاص عند العفو مثلا ويبقى القتل بالردة ولو كان متحدا لانتفاء القتل من حيث هو وأجيب بأن تعدد الإضافة لا يوجب الاختلاف الذاتي وإلا لزم تعدد الواحد بالشخص باعتبار الاضافات كالأبوة والبنوة والأخوة وأما ارتفاع بعضها دون بعض كما في الصورة المذكورة فلا يضرنا لأنه لمقتض أوجب ذلك ولا يلزم منه ثبوت تعدد الحكم في كل ما وقع فيه النزاع ألا ترى أن الغسل إذا وجب بالحيض والوطء كفى غسل واحد ولو تعدد لتعدد العلل ما كفى ذلك وهذا شرح صدر البيت
وأما عجزه فإنه لما لم يكن من شروط العلة بل بحث آخر أتى بثم إشارة إلى أنه حكم آخر مترتب على ما قبله وهو حكم من أحكام العلة وقدم النفي لكونه الأصل فإن الوجوب طار على العدم والمصدر بمعنى اسم المفعول أي منفيا كما يدل له المقابلة بقوله مثبتا ثم إن التعليل بالمثبت والأغلب كما دلت له العبارة وعليه وقع الاتفاق وفي التعليل بالعدم خلاف فالحنفية لا يجوزون التعليل به والحق جوازه ووقوعه قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و لكي لا يكون دولة بين الأغنياء و لكي لا تأسوا على ما فاتكم قالوا النفي بمعنى الإثبات وهو الكف وهو أمر محقق وجودي قلنا عاد الخلاف لفظيا على أن المعلوم لغة أنه لا يفهم من قوله لعبده لم يمتثل إلا سلب ما دخلت عليه آلة النفي لا لأنه قعد أو كف نفسه فدعوى ما ذكرتم افتراء على اللغة إذ آلة النفي الداخلة على الفعل إنما تفيد سلبه ثم لا يخفى أن الصور أربع
الأولى أن يكون الوصف ثبوتيا والحكم كذلك كتعليل تحريم الخمر بكونه مسكرا
الثانية أن يكونا عدميين معا كتعليل عدم نفاذ بيع الصبي والمجنون بعدم العقل
الثالثة أن يكون الوصف وجوديا والحكم الثابت عنه عدمي كتعليل عدم نفاذ التصرف من المسرف بالإسراف
والرابعة عكسها وذلك كتعليل جواز ضرب الزوجة بعدم الامتثال ثم أشار إلى بعض أحكام الوصف وهو العلة الجامعة بقوله ... ومفردا كما أتى مركبا ...
أي وأتى الوصف مفردا كالإسكار في باب الخمر ولا خلاف في جواز التعليل بالمفرد وأتى مركبا يعني أنه يكون الوصف متعددا كالقتل العمدي العدوان في القصاص فالمختار وعليه الجمهور جوازه إذ لا مانع منه وقد وقع والوقوع دليل الصحة وخالف فهي من خلاف بلا دليل ناهض وقوله ... وخلقه كالطعن في باب الربا ...
بكسر الخاء العجمية أي يكون وصفا حقيقيا خلقيا في محل الحكم يدرك بالحس ويعقل باعتبار نفسه لا بوضع عرفي كالشرف والحسب في باب الكفاءة ولا شرعي كالنجاسة والطعم لا يتوقف على شيء مما ذكر بل يدرك بالحس ثم نظم مسائل تتعلق بالوصف يذكرها الأصوليون وهي اربع كونه شرعيا وكونه يقارنه مثله وكونه يعقبه وكون الأوصاف تعارض فيرجع إلى الترجيح أشار إلى الأولى فقال ... وجاء شرعيا وعنه قد حصل ... حكمان شرعيان ثم في العلل ... تقارن قد صح والتعاقب ... كذلك الترجيح حكم لازب ...
فقوله وجاء أي وجاء الوصف شرعيا سواء كان لجلب مصلحة أو لدفع مفسدة كما يفيده الإطلاق وهو رأي الجمهور وفي المطولات خلاف
وتفاصيل لا حاجة إلى تفصيلها وذلك كما يعلل عدم صحة بيع الكلب لكونه نجسا فإن النجاسة حكم شرعي وقوله وعنه أي عن الوصف الواحد قد حصل حكمان شرعيان أو أكثر ومثاله تعليل تحريم دخول المسجد وقراءة القرآن والصلاة والصوم والوطء بالحيض فهذه أحكام متعددة عن وصف واحد وكالسرقة يترتب عليها حكمان شرعيان القطع والفسق
والثاني قوله تقارن أي يصح تقارن العلل المتعددة لحكم واحد وذلك كالقتل للردة والزني إذا تقارن وجودهما فإنهما علتا القتل وقد تقدم في بحث العكس
والثالث قوله والتعاقب أي تعاقبها بأن يقتضي وصف حكما ثم يقتضي وصف آخر ذلك الحكم ومثاله تعليل تحريم الوطء بالحيض فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء بالحيض فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء أما ترجيح بعض العلل على بعض الذي أشير إليه فهو عند تعارض العلل وسيأتي بيانه وأمثلته في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى
وحين انتهى بنا الكلام في شروط العلة أخذنا في بيان طرق معرفتها ومسالك إثباتها فقلنا ... مسالك العلة فيها أربع ... أولها عندهم أن يجمعوا ...
حذف التاء من أربع لكونه قد أضيف إلى مؤنث وهو العلة فأجرى عليه حكم المعدود المؤنث وجعلها أربعة هو الذي اختاره ابن الحاجب وغيره بإدخال تنبيه النص وإيمائه في مسلك النص ومن عدها ستة جعلهما مسلكين وأولى الأربعة الإجماع وقدم لكونه أقوى ولأن مسلك النص منتشر ومعناه
أن تجمع الأمة على تعليل حكم بعلة معينة ومثل الذي أجمع على عليته بالصغر فإنه علة في الولاية على المال والمراد بالإجماع هنا أن يجمعوا على أن الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني من غير نظر إلى تعدي العلة ووقوع القياس فاندفع ما قيل إنه كيف يتصور الإجماع مع نفاة القياس لأن الكلام في إثبات علة الحكم والدليل عليها أعم من أن يحصل عنها قياس أو لا ويدل عليه قوله في متعلق أن يجمعوا ... بأن هذا علة والثاني ... نص وقد عد له قسمان ...
والمراد بالنص ما دل على العلية من نص كتاب أو سنة سواء كان صريحا وهو ما دل بوضعه أو غير صريح وهو ما لزم من مدلول اللفظ فهذا هو ما أردناه بقولنا وقد عد له قسمان ثم بين الأول بقولنا ... فما أتى فيه بحرف العلة ... فهو صريح النص بالأدلة ... كاللام والباء وكي والفاء ... وما بمعناها من الأسماء ...
أي الذي أتى فيه بحرف يدل على العلة وضعا فهو صريح النص في الدلالة عليها ومعنى الصراحة هنا هو أن الحرف الفلاني يدل على العلية وضعا سواء احتمل غيرها أو لا فدخل فيها الظاهر فهو من قسم النص الصريح في هذا الإطلاق فإن كانت تنحصر دلالته عليها فهو النص وفي العلية بالمعنى الأخص وإن احتمل غيرها فهو الظاهر إذا عرفت هذا فأقواها ما انحصرت دلالته على العلية ككي ومن أجل كذا وإذا أكل قال تعالى كي تقر عينها ومن أجل ذلك كتبنا وإذا لأذقناك ومن السنة كما قال صلى الله عليه و سلم إنما جعل الاستئذان من أجل النظر وغير ذلك
ثم بعده في الدلالة على العلية ما يحتمل غيرها احتمالا مرجوحا بكونه يطلق على غيرها مثل اللام لأنه تأتي لغير التعليل نحو ... ولدوا للموت وابنوا للخراب ...
ظاهرة كانت نحو لتخرج الناس من الظلمات إلى النور أو مقدرة نحو أن كان ذا مال وبنين أي لأن كان وهذا على رأي من لا يجعل أن للتعليل فأما من يجعلها له فلا يقدر اللام
ومن ذلك إن المكسورة المشددة مثل إن النفس لأمارة بالسوء وفي الحديث إنها ليست بنجس إنها من الطوافين وهو كثير في الكتاب والسنة وبكونها للتعليل صرح الرازي والآمدي
ومن ذلك الباء نحو جزاء بما كانوا يعملون
ثم الفاء إذا دخلت على العلة نحو زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون الحديث في الشهداء وأما الفاء الداخلة على الحكم نحو السارق والسارقة فاقطعوا فليست للتعليل وقد صرح أئمة العربية أن الفاء تكون للسببية فلذا عدها الأصوليون حرف علة
وقوله وما بمعناها من الأسماء يدخل من أجل ذلك ونحوها وإن كان يمكن إدراكها فيما قبلها وهذا في الصريح من النص الدال بوضعه على العلية وأما الثاني وهو غير الصريح وهو الدال عليها بلازم وضعه فقد أفاده قوله ... وغيره ما أفهم التعليلا ... من غيرها وراجع التمثيلا
أي وغير النص ما أفهم العلية من لازم لفظه لا من وضعه وخص أئمة الأصول هذا القسم بالتسمية بتنبيه النص وإيمائه كما قال ... وسمه تنبيه نص واعرف ... أنا هنا لما سيأتي تكتفي ...
يريد في باب المنطوق فإنه يأتي بيان أقسام التنبيه والإيماء وأما قوله في البيت الأول وراجع التمثيلا فهو إحالة على ما في الأصل من الأمثلة
واعلم ان حقيقة التنبيه والإيماء هو أن يقترن الوصف الملفوظ به بحكم ولو مستنبط لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل عن ذلك الاقتران بعد وقوعه من الشارع لمعرفته بأساليب الكلام ومطابقة مقتضى الحال وجعلوا منه اقتران النظير كخبر الخثعمية وهو قولها يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أينفعه إذا حججت عنه فقال صلى الله عليه و سلم أرأيت لو كان على أبيك دينا فقضيته أكان ينفعه قالت نعم أخرجه الستة فذكر صلى الله عليه و سلم لها نظيرا ما سألته عنه ليثبت له ما ثبت لنظيره أي فكما ثبت نفع الميت بقضاء دينه ثبت نفعه بالحج عنه وأما مثال اقتران الوصف فمثاله خبر المواقع في نهار رمضان ولفظه عند ابن ماجه واقعت أهلي في رمضان فقال صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم له أعتق رقبة أخرجه الستة فأمره بالإعتاق بعد ذكره الوقاع دال بالإيماء والتنبيه على أنه علة الحكم فكان في قوة إذا واقعت فكفر ومن الأمثلة إذا منع نهي الشارع عما يمنع من إيجاد واجب بعد تقديم الأمر به نحو قوله تعالى وذروا البيع فإن
النهي عن البيع بعد الأمر بالسعي فيه تنبيه وإيماء إلى أن علة ذلك هو الأمر بالسعي ولولا ذلك لكان اقترانه به بعيدا في كلام الشارع لعدم الفائدة
ومن ذلك أن يفرق بين حكمين بصفة نحو للراجل سهم وللفارس سهمان كذا يمثل به الأصوليون وإن كان ليس لفظ الحديث فهو في معناه فقد ذكر حكمان في الحديث أحدهما للراجل والآخر للفارس وفرق بينهما بالفروسبة والرجولية تنبيها وإيماء إلى نفي العلة في ذلك الحكم وقد يذكر أحد الوصفين دون الآخر نحو قوله صلى الله عليه و سلم القاتل عمدا لا يرث فإنه لم يتعرض لغير قاتل العمد وقد فصل بين الوارثين بالقتل وعدمه فلولا أن الصفة هي العلة في عدم الإرث لما كان لذكرها فائدة
ومن مراتب الإيماء والتنبيه أن يفرق بين الحكمين بغاية مثل قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرهن فإنه فرق في الحكم بين الحيض والطهر أو فرق بينهما بالاستثناء نحو قوله تعالى فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون ففرق بين العافية وغيرها بسقوط المهر بالعفو أو يفرق بشرط نحو حديث فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم وكالاقتران بالاستدراك نحو قوله تعالى لا يؤاخذكم الله بالغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان
ومن مراتبه أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا له نحو قوله
لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه فيه تنبيها على أن الغضب علة عدم جواز الحكم لأنه مشوش للنظر وموجب للاضطراب وأمثلة هذا كثيرة في المطولات
ولما بينا المسلك الثاني أخذنا في بيان الثالث بما حواه قولنا ... ثالثها السير مع التقسيم ... وتارة يطلق في العلوم ... بحجة الإجماع وهو الحصر ... لكل وصف ثم يأتي السبر ... إبطالها إلا الذي تعينا ... بما به من الوجوه بينا ...
التقسيم هو حصر الأوصاف والسبر إبطال بعضها فقوله إبطالها من السبر وهو لغة الاختبار فالسبر تابع للتقسيم لا يكون إلا بعده وعبارة النظم قد أرشدت إلى هذا للإتيان بمع التي يكون مدخولها في الغالب متبوعا وهي أولى من قولهم السبر والتقسيم لخلوصها عن المناقشة بأن السبر لا يكون إلا بعد التقسيم وضمير هو عائد إلى ما دل عليه الكلام وهذا تعريف للسبر والتقسيم فالتقسيم هو الحصر لكل وصف يصلح في بادىء الرأي للعلية ثم يأتي السبر أي اختبار الأوصاف فيبطل ما لا يصلح للعلية ويستبقى ما يصلح لها ومثال ذلك قياس الذرة على البر في تحريم الربا بجامع التقدير والجنس مثلا وإبطال ما عداهما من الطعم والكيل والادخار بما يأتي من دليل الإبطال فإذا منع الحصر الذي ذكره المستدل في تحصيل ظن العلة كفى ان نجيب
بحثت فلم أجد غيرها أي الأوصاف التي حصرها والأصل عدم غيرها فيقبل قوله لعدالته وديانته وقوله بحجة الإجماع أي الحجة المستندة إلى الإجماع كما يقال دليل الكتاب ودليل السنة وخص هذا المسلك بهذا الاسم وإن كان غيره من المسالك دليل الإجماع كما قال في شرح المعيار سمي حجة الإجماع لأن المعلل فيه يعود في تعيين الوصف الذي اختار كونه علة إلى الاحتجاج بالإجماع على أنه لا بد من علة فلما كان الإلغاء لما عدا الوصف المستبقي مفتقرا إلى طريق يعرف به كيفية بعد الإشارة إليه بقوله أو لا بما به من الوجوه بينا قال ... أما ثبوت حكمه بدونه ... أو كونه طرديا أو بكونه ... مناسبا للحكم غير ظاهر ...
فهذا بيان للوجوه التي بين بها الإبطال وضمير حكمه عائد على المتعين المفهوم من البيت الأول وفي بدونه إلى البعض المحذوف وقرينة السياق دالة على ذلك فالأول من الوجوه هو ثبوت الحكم في محل الوصف المستبقى بدونه أي بدون بعض الأوصاف المحذوفة بأن يقول في المثال لا يصلح أن تكون العلة الطعم ولا القوت لأن الملح ربوي بالنص وليس بالطعم ولا قوت فتعين أن العلة التقدير والجنس ونحو ذلك من الأمثلة والثاني ما أفاده قوله أو كونه طرديا أي كون المحذوف طرديا والطردي الوصف الذي لم يعتبره الشارع إما مطلقا كالطول والقصر فإنه لم يعتبره في شيء من الأحكام لا في القصاص ولا الكفارة ولا العتق ولا في شيء من الأحكام فلا يعلل بهما حكم أصلا أو في محل دون محل كالأنوثة والذكورة فإنه اعتبرها في باب الشهادة ولم يعتبرها في العتق في الأجزاء وإن كان اعتبارها فيه في الثواب وإنما ألغى الطرد لعدم كونه مناسبا فهو داخل في الطريق الثالثة وهي ما أشار إليه قوله أو بكونه أي بكون الوصف المحذوف غير مناسب أي ليس بظاهر في المناسبة ويكفي في ذلك قول المستدل بحثت فلم أجد إذ هو عدل فيصدق
فإن قال المعترض المستبقى غير مناسب أيضا فيكفيه إبانة وجه المناسبة بحسب ظنه ولما كان لهذه الطريق والطريق الأخرى شرطا قاله العلماء أوضحه قوله ... والشرط في ذا والطريق الآخر ... إجماعهم بأنه في الجملة ... معلل لا أن هذا العلة ...
أراد بالطريق الآخر المناسبة ولم يذكر غيرهما من المسالك أي السبر والمناسبة من المسالك لما تبين من عدم صحة العمل به ومعين قوله بأنه في الجملة أي أن الحكم في نفس الأمر معلل وإن ذلك معتبر في كل فرد من أفراد الأحكام ... رابعها يوسم في المخاطره ... إخالة وتارة مناسبه ...
الإخالة بكسر الهمزة والخاء المعجمة وهي مصدر أخال بمعنى ظن والهمزة للصيرورة كأغد البعير أي صار ذا غدة فمعنى أخال الوصف صار ذا مخيلة أي مظنة للبعث على الحكم وقوله يوسم أي يسمى ويدعى بمعنى يسم ولذا عداه بنفسه وقوله وثالثا مناسبة إشارة إلى أنه كما يسمى إخالة يسمى أيضا مناسبة ويسمى استخراجها تخريج المناط
كما قال ... كذلك التخريج للمناط ... من جملة الألقاب بالتواطي
أي تواطؤ أئمة الأصول إذ هي أوضاع عرفية والمناط مصدر ميمي من أناط الشيء إناطة ومناطا والمناط سار اسما بما يعلق عليه الشيء ولما كانت العلة تعلق بها الأحكام سميت مناط الحكم ولما كانت المناسبة تستنبط بها علة تسمى الوصف المناسب للحكم بينها بقوله ... ثم هي التعيين للأوصاف ... بغير ما مر من الأطراف ... بل كونها ذاتية كالشدة ... للخمر في الحكم له بالحرمة ...
وقوله التعيين للأوصاف كالجنس يدخل فيه سائر مسالك العلة ومراده بالأوصاف اللغوية ليشمل ما يصلح للعلة من الحكم الشرعي وغيره وقوله بغير ما مر كالفصل لأخراج ما مر من تعيين العلة بالسبر مع التقسيم أو بالنص ولما كان لا يخرج ما سيأتي من الشبه والطرد قال بل بكونها ذاتية أي بكون المناسبة ذاتية بالمناسب فخرج بهذا القيد جميع المسالك من نص وإجماع وغيرهما ولذا عبر ب بل إذ تعيين العلة في كل ما ذكر ليست بالمناسبة بل بغيرها والمراد بالمناسبة الملاءمة في أنظار العقلاء للحكم وقد أوضح المراد بالمثال تنبيها على أن التعريف كالتقريب لتصوير المناسبة وإلا فإن تعيين الأوصاف ليس هو المناسبة قطعا إذا عرفت هذا فالشدة المسكرة في الخمر وصف مناسب لتعليق الحكم عليه فإن من نظر في المسكر وما يترتب عليه من إزالة العقل المتعين حفظه في كل ملة ظهر له مناسبة تعليق الحكم على ذلك الوصف وهذا هو الاستنباط القياسي الذي عظم فيه الخلاف وأنكره الظاهرية وغيرهم من نفاة القياس ولما كان الوصف المناسب لا يعتبر مطلقا بل إذا تجرد عما يفيده قولنا ... واعلم هديت أنها تنخرم ... إن كان عن إثباته يسلتزم ... مفسدة ترجح أو تساوي
اختلف أئمة القياس في انخرام الوصف المناسب أي عدم اعتباره إذا اشتمل على مفسدة راجحة على المصلحة أو مساوية هل يكون مع ذلك معتبرا أولا فالمختار أن المناسبة تنخرم لعدم اعتبارها حينئذ لوجود مانع اعتبارها وهو وجود المفسدة المذكورة وذلك لما تقرر من أن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح عند المساواة فكيف إذا كانت المفسدة أرجح ويدل له أن العقلاء قاطبة يعدون فعل ما فيه مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عبثا وسفها وذلك كمن استأجر إنسانا بعشرة دراهم ليقبض له مثلها من المحل الفلاني ثم أخذنا في البيان المناسب لقولنا ... وخذ له الحد الصحيح الحاوي ... قل هو وصف ظاهر منضبط ... يقضي به العقل وعنه يضبط ...
ضمير له للوصف المناسب باعتبار معناه الأعم لا بالمعنى السابق ففي النظم استخدام ومعناه الأعم وما يشمل النص والإجماع والاستنباط فالتعريف للمناسب باعتبار ما يصلح لنفسه للتعليل سواء كان بنص أو غيره وقيد الوصف بالظهور والانضباط لأنه إذا كان خفيا أو غير منضبظ اعتبرت فيه المظنة كما يأتي ويتعين كون ما اعتبرت فيه المظنة قسيما للمناسب المحدود هنا لا قسما منه كما هو الظاهر من صنيع الأصولين حيث فرعوا على الحد المذكور ما اعتبرت فيه المظنة وذلك لوضوح خروجه من هذا الحد وقوله يقضي به العقل إلى آخره أي يقضي بسببه ولأجله العقل بأنه الباعث فقوله ... بأنه الباعث للمعبود ... على الذي ألقاه للعبد
يتعلق بيقضي أي يقضي العقل بأن هذا الوصف الظاهر المنضبط وهو وجه الحكمة الموجبة للحكم الباعث عليه تذلك ! كالإسكار في تحريم الخمر وذلك لأن ترتب الحكم على الوصف يوافق عادة العقلاء فيقصي العقل بأنه الباعث على ثبوت الحكم وإلقائه منه تعالى على العباد فتحريم الخمر لإزالته العقل بإسكاره وافق عادة العقلاء في إيجاب حفظ العقل ولم يقيد الباعث بجلب مصلحة أو دفع مفسدة لظهور إرادة ذلك كما يرشد إليه معنى الباعث
واعلم أن هذا التعريف للمناسب إنما هو باعتبار ما يصلح بنفسه للتعليل كما سبقت إشارة إليه فيكون قسيما لما اعتبرت فيه المظنة ولهذا لم يفرع الناظم عليه ذلك بل عطف في النظم بالواو فقال ... وحيث ذاك عنده لم يظهر ... أو ليس بالمنضبط المؤثر ... اعتبروا ملازما للوصف ... ملقبا مظنة في العرف ...
الضمير في عنده للعقل والمؤثر قيد للمنضبط والمراد به ما يصلح اعتباره سواء كان عن نص أو إجماع أو استنباط فلا يتوهم قصره على ما كان عن نص أو إجماع كما هو المعروف في الاصطلاح والمراد أنه حيث لا ينضبط الوصف اعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الذي يحصل المقصود من ترتب الحكم عليه ملازمة عقلية أو عرفية أو عادية بمعنى أن ذلك الوصف يوجب بوجود ملازمة الظاهر المنضبط فيجعل الملازم معرفا للحكم ويعبر عندنا بالمظنة وقد مثله الناظم بقوله ... كالسفر اللازم للمشقة ... وغيره من أيما مظنة ...
والمراد أن المشقة مناسبة لترتب الترخيص عليها تحصيلا لمقصود الشارع أي التخفيف ولا يمكن اعتبار المشقة بعينها إذ هي غير منضبطة إذ هي ذات
مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان ولا يتعلق الترخيص بالكل ولا يمتاز البعض لنفسه وحينئذ فيتعلق الحكم وهو الترخيص بما يلازمها وهو السفر
وقوله وغيره إشارة إلى القسم الذي يعده الأصوليون خفيا وذلك نحو القتل العمد العدوان فإنه وصف مناسب لترتب الحكم عليه أعني القصاص دفعا لانتشار الفساد لكن العمد أمر نفسي لا يدرك فاعتبرت المظنة وهو استعمال الجارح في المقتل فإنه مظنة العمد فإنه معرف للعمدية والعدوان قيل ولكن في تعريفه له بعد لأنها إنما تعلن بانتفاء دليل عدمه من الخطأ والمدافعة والاستحقاق
واعلم أنها اتفقت كلمة الأصوليين أن الوصف الباعث على شريعة القصر للمسافر والإفطار هو المشقة ولكن لاختلاف مراتبها نيطت بما يلازمها وهو السفر وقد أورد عليهم أنها لو كانت المشقة الباعثة في الترخيص في الأمرين لكان الترخيص بهما في حق من هو مقيم يزاول أعمالا شاقة في الحظر في أيام الحر الشديد كالحداد والعمار أولى من المسافر فإن الملك الذي يسافر في المحفة وعنده كل ما يريده ويسير كل يوم بمسيرة فرسخ أو أقل لا مشقة عليه في سفره قد أجيب بما لا يشفي والتحقيق عندي أن الترخيص للمسافر في الأمرين ليس للمشقة بل لما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وقد سأله عمر أنهم قد أمنوا فما بال القصر كأنه فهم من قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الله رخص لهم القصر لأجل مخافة فتنة الذين كفروا فأجاب عليه بأنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فأخبر صلى الله عليه و سلم أن هذه الرخصة صدقة من الله تعالى يجب قبولها وتقر في
محلها فليس لنا أن نقيس عليها بتخفيف واجب أو تأخيره ولم يتعرض صلى الله عليه و سلم للمشقة وإنما هذه صدقة على المسافر الذي يضرب في الأرض لا لغيره وإن كان في أشق الأعمال وأشدها فقولهم إن مقصود الشارع في شرعية هذه الرخصة التخفيف صحيح وقد أشار إليه تعالى في ترخيصه للمريض والمسافر في ترك صوم رمضان وصيامه في أيام أخر حيث عقب ذلك بقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولإحاطته تعالى بكل شيء علما رخص لمن ذكر لا غير ولم يلاحظ المشقة في غيره وإلا فغير من لم يرخص له ممن ذكرناه من أهل الأعمال الشاقة في الحظر أحوج إلى التخفيف بالنسبة إلى ما نظنه لكن حكمة أرحم الراحمين أجل من أن يحاط بها فله حكمة فيمن خصه بالرخصة لا نحيط بها فلذا قلنا إن المشقة من حيث هي غير ملاحظة له تعالى فنقف على من رخص له لا غير وبعد هذا رأيت في الفواصل نقلا عن ابن الهمام والجلال شيئا يقرب مما ذكرناه إلا أنه عقبه بعد أن أورد النقص بأن التعليل بما لا ينضبط واقع كالمرض فإنها لا تنضبط مراتبه وقد جعل هو الوصف المناسب للترخيص وغير ذلك من الأمثلة واعلم أن للمناسب تقسيما آخر باعتبار قوته وضعفه أفاده قوله ... وقسم المناسب الأعلام ... أربعة جاء بها النظام ...
اعلم أن أئمة الأصول قسموا المناسب بهذا الاعتبار إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل قالوا لأنه إما غير معتبر شرعا أو معتبر والمعتبر إما أن يعتبر بنص أو إجماع أو لا بل لمجرد المناسبة ترتب الحكم على وفقه أي ثبوت الحكم معه في المحل فقط فهذه ثلاثة أقسام غير معتبر رأسا معتبر بنص أو إجماع معتبر بمجرد ترتب الحكم على وفقه الأول هو المرسل وقسموه إلى ثلاثة ما علم إلغاؤه وما لم يعلم منقسما أيضا إلى قسمين ملائم علم اعتباره بالجملة بأي الثلاثة الاعتبارات وغريب لم يعلم فيه أحدها فالغريب ومعلوم الإلغاء مردودان اتفاقا والملائم هو المصالح المرسلة كما سيأتي والثاني هو المؤثر والثالث ينقسم إلى ما علم اعتباره بأحد الثلاثة الاعتبارات وإلى
ما لا يعلم وهو الغريب فصارت الأقسام ستة مؤثر وملغي ولا لبس بينهما وملائم المعتبر وملائم غير المعتبر وغريب معتبر وغريب غير المعتبر ويأتيك بيانها كلها ولكل قسم منا اسم يخصه أفاده قوله ... مؤثر ملائم غريب ... ومرسل هذا هو الترتيب ...
أي الذي رتبه الأصوليون بتقديم الأقوى فالأقوى لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو لا فالمعتبر شرعا يكون على ثلاثة أنواع بيان الأولين منها في قوله ... فما بنص كان أو إجماع ... إثباته فهو بلا نزاع ...
أي ما ثبت اعتبار الشاعر إما بنص أو إجماع عين الوصف في عين الحكم فهو الأول ولا نزاع في كونه أعلى المراتب وأقواها ولذا سمي المؤثر لظهور تأثيره فيما اعتبر به ولا يحتاج إلى تطلب مناسب بعد النص والإجماع على كونه علة مثال النص قوله صلى الله عليه و سلم كل مسكر حرام فإن عين السكر قد أثر في عين التحريم بالنص ولا فرق بين النص والإيماء ومثال الإجماع اعتبار عين الصغر في عين ولاية المال بالإجماع وهذا هو الذي أفاده بقوله ... أولها وهو اعتبار العين ... في العين والثاني خلا عن ذين ...
وقوله والثاني أي من الأربعة الأقسام وهو المسمى الملائم والمراد من ذين هما النص والإجماع فالملائم ما خلا عنهما في اعتبار العين في العين وإنما استفيد اعتبار العين في العين بترتب الحكم على وفقه وهو الذي أردناه بقولنا
بل إنما ترتب الحكم على ... وصف به هذا القياس عللا ...
وينقسم أي الملائم ثلاثة أنواع اعتبار العين في الجنس واعتبار الجنس في العين أو الجنس في الجنس بالنص أو الإجماع مع اعتبار عينه في عينه بترتب الحكم على وفقه في كل من الاعتبارات الثلاثة بخلاف المؤثر فإنه اعتبار العين في العين بنص أو إجماع من غير نظر إلى مناسبة وهذه الأنواع شملها قوله ... إن صح بالنص أو الإجماع ... فيه اعتبار أي ذي الأنواع ...
فسرها وبينها الإبدال منها بقوله ... العين في الجنس كذا بالعكس ... أو اعتبار جنسه في الجنس ...
سمي هذا الجنس ملائما لأن عليته إنما ثبتت بالمناسبة والموافقة بترتب الحكم عليه في اعتبار العين في العين لا بنص ولا إجماع على ان هذه علة ولذا قلنا فيما سلف وصف به هذا القياس عللا أي دلا دليل عليه إلا ترتب الحكم على وفقه أي بسبب وجوده معه في المحل مثال الأول من أمثلة ملائم المعتبر وهو ما اعتبر فيه عين العلة في جنس الحكم التعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في إثبات الولاية الذي هو الحكم فإن عين الصغر معتبر في جنس الولاية فإنها تنوع بتنوع ما أضيفت إليه كما يقال ولاية مال وولاية نكاح فثبوتها في جنس النوعين بالإجماع بمعنى أنهم أجمعوا على كون الصغر علة في
مطلق الولاية غير مقيد بولاية مال ولا نكاح وليس المراد أنهم أجمعوا أن عين الصغر علة في ولاية النكاح وإلا لكان ذلك من المؤثر لا من الملائم
ومثال الثاني وهو ما اعتبر فيه جنس العلة في عين الحكم التعليل بالحرج في حمل رخصة الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر عليه بالسفر فإن جنس الحرج معتبر في رخصة الجمع وإن لم يكن حرج المطر معتبرا في عين رخصة الجمع بالنص بل يترتب الحكم على وفقه أي وجود الحكم في المحل مع الوصف ولو فرض نص أو إجماع على أن المطر هو العة لكان من المؤثر لا من الملائم
ومثال الثالث وهو اعتبار الجنس في الجنس التعليل بجناية العمد العدوان في حمل المثقل على المحدد في القصاص فإن الجناية جنس يشمل الجناية بالمحدد والمثقل وهذا الجنس معتبر في جنس الحكم الذي هو القصاص لأنه يتنوع بإضافته إلى أنواعه كالأطراف كالنفس وغيرها كما يقال قصاص نفس قصاص عين ونحو ذلك فهذه الثلاثة الأمثلة التي تضمنها البيت
هذا وأما الغريب من المعتبر فهو ما أفاده قوله ... وما عليه حكمه ترتبا ... لوفقه ولم يكن مستصحبا ... لغيره من تلكم الأقسام ... فإنه الثالث في النظام ...
أي والوصف الذي يثبت اعتباره بمجرد ترتب الحكم على وقفه ولم يثبت معه أحد الأمور الثلاثة كما ثبت في الملائم والمراد قولنا ولم يكن مستصحبا لغيره من تلكم الأقسام أي الثلاثة الثابتة في الملائم فهذا هو الثالث مما سبق في قولنا مؤثر ملائم غريب فهذا هو الغريب لما سيأتي عن قريب وحاصله أنه إنما يقف الحكم على الوصف المعين في المحل المعين بدون ثبوت شيء من التقادير الثلاثة المعتبرة في الملائم وهذا القسم هو الذي يثبت بطريق السبر والتقسيم والدوران والمناسبة ولا بد من المناسبة في الجميع ليتم أخذها من ترتب الحكم على وفقه ويقوى في ظن المجتهد مع ذلك مثاله قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار على تقدير أنه لم يرد نص في العلة وإلا فإنه قد ورد النص بأن الإسكار علة
والرابع من الأقسام ما أفاده قولنا ... رابعها المرسل وهو ما خلا ... عنها جميعا فلهذا أرسلا ...
أي خلا عن جميع ما ذكر في المؤثر والملائم والغريب فلذا قال عنها جميعا وقوله فلها فلهذا أرسلا إشارة إلى وجه تسميته بأنه أرسل عن
الاعتبارت كلها ثم المرسل ينقسم في نفسه إلى قسمين إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لا يعلم إلغاؤه وإليها أشار قوله ... فبعضه مؤثر ويلغى ... منه الغريب عندهم والملغى ...
الأول الملغى والثاني ينقسم إلى ملائم قد علم اعتبار جنسه في جنسه أو عينه في جنسه أو العكس لكن لا شيء من تلك الاعتبارات السابقة بل النظر إلى ثبوته في الجملة من دون أصل معين يلائم رده إليه ويقرب من جنسه وإلى ما لا يعلم أن الشارع اعتبره بشيء من ذلك وهو الغريب وقد اشتمل النظم عليها وبدا منها بالملائم فقال ... فالأول الملائم الصدر ... ليس له أصل به يعتبر ...
أي صدر به البحث في قوله فبعضه مؤثر وقيد النفي بقوله ... معين لكنه مطابق ... لمقصد الشرع له موافق ...
لإفادة أنه ليس له أصل معين يعتبره الشارع للإعلام بأنه وإن رد إلى أصل بعيد لا يلائمه ولا يقرب من جنسه فإنما هو للاستظهار بكونه معتبرا في الجملة ومن ذلك كقتل المسلمين المترس بهم عند الضرورة فإنه إذا تترس الكفار بالمسلمين وقصدونا جاز لنا قتل من تترسوا به لمصلحة وهي أن يسلم أكثر منهم من المسلمين وقد دعت الضرورة إليه وهي المدافعة عن أرواح المسلمين فجاز قتلهم ولا دليل على الجواز إلا القياس المرسل ورعاية الأصلح في الجملة لأهل الإسلام ولا أصل له معين يرده إليه وإنما يرده إلى حملي هي رعاية مصالح الإسلام وقال ... لبعض ما يقصده في الجملة ... متعلق بقوله موافق ... وليدع بالمصالح المرسلة
فإن المصالح المرسلة لا تحتاج إلى أصل معين في اعتبار الحكم ... أمثالها معروفة مشتهره ... والحق فيها أنها معتبره ...
أي مثال المصالح المرسلة منها القول بتحريم النكاح على العاجز عن الوطء لما فيه من تعريض الزوجة للزنى وقد تتبعنا مقاصد اشارع فرأيناه يحرم ما فيه ذريعة إلى فعل القبيح وهو داع إليه كتحريمه قليل المسكر قطعا لتناول الكثير والخلوة بالأجنبية دفعا عن الزنى إذ من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه فهل الأصل الذي لوحظ عند من يحكم بتحريم النكاح المذكور ليس المقصود منه إثبات الحكم بل الاستظهار بحصول المناسبة في الحكم لتحريم ما يدعو إلى القبيح وإن هذا أمر يلاحظه الشارع وهذا من اعتبار الجنس البعيد وهو مطلق التحريم في الجنس البعيد وهو سد الذريعة إلى فعل القبيح والأمثلة كثيرة وإلى الثاني أشار بقوله ... والثاني الغريب مما أرسلا ... وذلك الأول مما أهملا ...
أي والثاني من أقسام المرسل وهو الغريب المرسل فلا بد في إطلاقه من تقييده بالإرسال ولذا قلنا مما أرسلا لإخراج غريب المعتبر وهو مردود بالاتفاق وقيل فيه خلاف مالك وحقيقته قوله ... وهو الذي ليس له نظير ... في الشرع مما قاله الجمهور ... لكنها تستحسن العقول ... لأجله الحكم وذا معقول
أشار بنسبته إلى الجمهور بأن جعل غريب المرسل قسما مستقلا إنما هواصطلاح ابن الحاجب ومن تبعه من المتأخرين ولا فغيره إنما ينقسم المرسل إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لا يعلم مثاله التعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في قياس البات للطلاق في مرضه على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض قصده وهو حرمانه من الإرث في صورة القاتل وتوريث الزوجة في الفرع والجامع مع كون فعلها محرما لأجل غرض فاسد وليس في هذا اختلاف في الحكم بالنظر إلى أنه معارض وإذا اختلفت الجهة في الأصل وفرعه وإنما كان هذا غريبا مرسلا لأنه لم يعتبر الشارع عين القتل المحرم لغرض فاسد في عين المعارضة ولا جنسه في عينها ولا جنسه في جنسها ولم يثبت ولا إجماع اعتبار عينه في جنس المعارضة بنقيض المقصود ولا قريبا ولا بعيدا وقد نوقش في المثال ولكنه لا يضر في القاعدة والقسم الثالث من المرسل قوله ... والثالث الملغى الذي يصادم ... نصا ولكن جنسه يلائم ...
هذا القسم الثالث من المرسل وقد عرفه النظم تعريفا واضحا بقوله ... في نظر الشرع وذا مطرح ... مثل الغريب فاتبع ما صححوا ...
ومثال ذلك تعيين الصوم ابتداء في كفارة الوقاع في نهار رمضان على من ظن أنه يسهل عليه العتق فإن تعيين الصوم مناسب للزجر بالنظر إلى من يسهل عليه العتق لكنه مصادم للنص فإنه لم يوجبه إلا على من لا يجد مايعتق روي أن يحيى بن يحيى صاحب مالك عالم الأندلس أفتى الأمير
عبدالرحمن بن الحكم الأموي صاحب الأندلس وكان قد نظر إلى جارية يحبها حبا شديدا ولم يملك نفسه أن وقع عليها في نهار رمضان ثم سأل الفقهاء عن توبته وكفارته فقال له يحيى بن يحيى يصوم شهرين متتابعين فلما بدر يحيى العلماء بالصيام سكتوا فلما خرجوا قالوا ليحيى ما لك لا تفتيه بمذهب مالك وهو التخيير بين العتق والإطعام والصيام فقال لو فتحنا هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود فهذا يستحسنه العقل فلذا قلنا لكنها تستحسن العقول
واعلم أنه قد سبق في الأبيات أن المصالح المرسلة معتبرة وهو أحد أقوال العلماء ولهم فيها ثلاثة مذاهب
الأول قبولها مطلقا وهو المنسوب إلى مالك
والثاني ردها مطلقا وهو قول البلاقلاني وابن الحاجب ومن تبعهما
الثالث التفصيل وهو مختار أكثر أهل البيت والجمهور من غيرهم وهو قبوله بشرط إذا كان المصلحة غير مصادمة لنصوص الشرع وإن تكون ملائمة لقواعد أصوله خالصة عن معارض لا أصل لها معين هكذا قاله في الفصول وقال الغزالي بقبوله بشرط اشتماله على مصلحة ضرورية قطعية كلية وذلك كما لو تترس الكفار بأسارى المسلمين حال التحام الحرب وقطعنا بأنه لو لم نقتل الترس لاستولوا على المسلمين فإنه وإن كان قتل المسلم بلا ذنب غريب لم يشهد له أصل معين لكنا نعلم قطعا أن حفظ المسلمين أقرب إلى مقاصد الشرع وإنه يؤثر الكلية على الجزيئة فإذا فات شيء من الشروط
المذكورة لم يصح قبوله مثاله أن يقتل الترس من المسلمين لأجل فتح قلعة إذ لا ضرورة ولا يرمى واحد منهم لظن الاستئصال بل لا بد من القطع ولا يرمى في البحر بعض أهل السفينة لسلامة الباقين فيها إذ ذلك ليس كل المسلمين واعلم أن هذه الصور التي جمعت القيود لا ينبغي وقوع خلاف فيها ولما أراد الناظم بعد الفراغ من المسالك الأربعة التنبيه على ما قد عد من المسالك غيرها وليس بمعتبر قال ... فهذه المسالك المرتبه ... لا غيرها وقيل فيها الشبه ...
بفتح الشين المعجمة والموحدة ومعناه الشبيه يقال هذا شبه هذا وشبهه وشبيهه كما يقال مثله ومثله ومثيله وعرفناه بقولنا ... وذاك وصف يوهم المناسبة ... في الحكم والتحقيق لا المناسبة ... بأن يدور مع ذا الحكم ... وجوده بوجده والعدم ... بعدمه مع التفات الشارع ... إليه في شيء من المواضع ...
فقوله يوهم المناسبة خرج به المؤثر والملائم وخرج بقوله بأن يدور الشبه والتقسيم للدخول في القيد إذ الوصف المستبقى فيه يكفي فيه مجرد الصلاحية وقوله مع التفات الشارع يخرج به الطرد فإنه لا يتلفت إليه الشارع في شيء من الأحكام
والشبه له معنيان أعم وهو ما يرتبط الحكم به على وجه يمكن القياس
عليه وهذا يعم العلل كلها والأخص هو المراد هنا فهذه ثلاثة مسالك الشبه والدوران والطرد فقد أشرنا إلى ضعفها بمجردها كما يتضح لك
واعلم أن الشبه في عرف جماعة أئمة الأصول منهم المهدي في المعيار ليس بمسلك مستقل كما وقع في غيره والناظم جرى على ما في الأصل وليس مقصده إلا التقريب بنظمه من غير بيان مرجوح عنده من راجح غالبا فقد تبع ما في المعيار من أن مسلك الشبه الدوران وقوله مع التفات الشارح إليه في بعض المواضع وذلك بإن يكون قد اعتبره في بعض الأحكام وبيان كونه من طرق العلة أن الوصف كما أنه قد يكون مناسبا فيظن أنه العلة في التحريم كذلك قد يكون شبيها فيفيد ظنا ما بالعلية الخ وهو هكذا في شرح الكافل لابن لقمان ومثلوه في الكيل في تحريم التفاضل على رأي من جعله هو العلة في التحريم مثلا فإن التعليل به لم يثبت بنص ولا تنبيه نص ولا إجماع ولا حجة إجماع وإنما ثبت لكون الحكم يثبت بثبوته وينتفي بانتفائه
قلت وكذلك من جعل عليه تحريم الربا الاتفاق في الجنس والتقدير وهم الهادوية والحنفية والجنس والطعم وهم الشافعية أو الجنس والاقتيات وهم المالكية فإن هذه العلل لم تثبت بنص ولا إجماع ولا غيرهما وإنما ثبتت بكونه دار عليها الحكم وجودا وعدما فالعلة شبيه وقد بسطنا القول في رسالة
سميناها القول المجتبى في تحقيق مسائل الربا أثبتنا فيها أنه لا دليل على تحريمه في غير الستة التي ورد بها النص
ولما كان الأصوليون قد اعتادوا ذكر أبحاث الاعتراض في آخر بحث القياس وكان أصل النظم قد ذكر تنبيها في ذلك وذكر عدم الاحتياج إلى مثلها وأنها راجعة إلى شيئين إلى منع أو معارضة وأن من أتقن ما سلف من شرائط القياس لا يحتاج إليها قال الناظم ... تنبيه أما الاعتراضات فلا ... فصاحب الأصل لها قد أهملا ... وقال من حقق ما قد سلفا ... فهو لها بما مضى قد عرفا ... مرجعها منع أو المعارضه ... موضوعة للبحث والمناقضه ... أبحاثها تبسط في الشروح ... يعرفها ذو النظر الصحيح ...
قوله أما الاعتراضات اللام للعهد الخارجي لأنه قد عرفت بين الأصوليين لا تخلو عنها مطولات تأليفهم وأنهوه إلى خمسة وعشرين اعتراضا وهي في التحقيق من علم الجدل وقد وضعت فيه علوم آداب البحث فلا حاجة للأصول من حيث هو أصول إلى تفاصيلها إذ من حقق شرائط الأصل والفرع والعلة التي سلفت استغنى عنه فلذا قلنا فهو لها بما مضى قد عرف فمن عرف شرائط أركان القياس وعلله وأنواعه استغنى عن تفاصيل معرفة الاعتراضات
مثاله الاعتراض بفساد الوضع وهو أحد الخمسة والعشرين قد
عرف من اشتراط كون العلة لا تصادم نصا وكذلك الاعتراض بالفرق أو باختلاف الضابط يفهم من اشتراط مساواة الفرع للأصل في العلة والحكم عينا وجنسا فإن الاعتراض بما ذكر إنما يتوجه إذا ظن المساواة فيما ذكر وعلى هذا فمن أتقن الشرائط للقياس وأركانه عرف أن الاعتراضات كلها راجعة إلى أمرين المنع والمعارضة بل بعضهم أرجعها إلى المنع فقط لأن المعارضة منع للعلة عن الجريان فيما أراده المستدل كما ذكرنا وعلى هذا أكثر الجدليين
وأما الأصوليون فأبلغوها خمسة وعشرين غير متداخلة وداخلها في المعيار حتى عدها بأحد عشر وذكر أن ابن الحاجب عدها خمسة وعشرين وبيان رجوعها إلى الأمرين المنع والمعارضة هو أن غرض المستدل وهو القياس إثبات دعواه بدليله ولا يكون إلا بصحة مقدمات الدليل ليصح شهادته له على دعواه و سلامته عن المعارضةلينفذ سهم إلى مطلوبه و غرض المعترض رد شهادته كرد الخصم شهادة خصمة عند الحاكم وذلك بجرحها كذلك هنا المعترض بجرح الشهادة بالقدح في صحة الدليل لمنع مقدمته أومعارضته بما يقاومه فإن أتى بشيء خارج عن الأمرين فإنه لا يسمع ولا يشتغل المدعي بجوابه إذ هو خروج عن محل النزاع واشتغال بما لا يعني وتشويش للبحث وقصور عن إقامة حدود الجدل
وقولنا موضوعه للبحث والمناقضة إشارة إلى أنه لا يجب معرفتها على المجتهد كما قدمنا الإشارة إليه في الشرح إذ الذي يحتاج إليه المجتهد في استنباطه الفروع الجزئية عن الأدلة التفصيلية قد تكفل به القياس وشرائطه فالزيادة عليه ليس من طريقة الأصول من حيث هو أصول
واعلم أن أهم ما يعرفه المجادل والمناظر وما يوصي به قبل خوضه في المناظرة مع الأحياء أو مع نظره في كلام الأموات من العلماء هو تقوى الله عز و جل وإشعار النفس الخوف ومجاهدتها على قبول الحق من أي متكلم عظيم أو حقير صغير أو كبير وأن لا ينحاز إلى مركز من مراكز المذاهب فيناضل عنه ويجاهد دونه بل لا يكون همه إلا معرفة الحق وقبوله ولا يأنف من رد كلامه وتضعيفه ولا يقصد مباهة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة وإن يكون مقبلا على الغير متواضعا متأملا لما يلقيه وأن يلقي سمعه حتى يفرغ من كلامه ولا يجاذبه أطراف البحث قبل فراغه ثم يتوقف في الجواب وإبانة الصواب بأقصر عبارة وأوضحها وألطفها فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه والفحش ما كان في شيء إلا شانه فمن استعمل في المناظرة هذه الآداب لا معترض ومجيب وفق للإصابة وفاز بالإثابة ودخل تحت الامر بمشروعية الجدال الدال عليه قوله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في المسائل العلمية والمناظرة هذا ولما ذكر الأصوليون أنواعا من الاستدلال خارجة عما تقدم أشار إليها قولنا ... فصل وقد زيد دليل خامس ... ليس له فيما مضى مجانس ...
قد عرفت أنه قد سلف أربعة أدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس وزاد أكثر العلماء دليلا عليها خامسا وسماه الاستدلال كما قال ... وهو بالاستدلال في العرف اشتهر ...
الاستدلال لغة طلب الدليل أو اتخاذه دليلا كاستأجر يعني اتخذ أجيرا وفي الاصطلاح يطلق على إقامة الدليل مطلقا أي سواء كان نصا أو إجماعا أو غيرهما وعلى نوع خاص منه وهو المراد في المقال ولذا قال ليس له
فيما مضى مجانس أي ليس من جنس ما مضى وقد عد العلماء له انواعا يتحقق فيها
أفاده قوله ... أنواعه كثيرة والمعتبر ... ثلاثة أولها التلازم ... من غير تعليل لما يلازم ... ما بين حكمين كمن صح الشرا ... عنه يصح بيعه بلا مرا ...
أي أنواع الاستدلال كثيرة عند العلماء من حيث اختلافهم في تشخيص أنواعه والمعتبر منها ثلاثة
الأول التلازم بين الحكمين من دون تعيين علة وإلا كان من قياس العلة وقد سلف ولذا قلنا من غير تعليل وأقسام التلازم أربعة لأنه لا يكون إلا بين حكمين فصارت أقسامه أربعة تلازم بين ثبوتين أو بين نفيين أو بين نفي وثبوت بمعنى أنه يكون الثبوت ملزوما والنفي لازما أو بين ثبوت ونفي عكس ما قبله في التلازم مثال الأول وهو التلازم بين ثبوتين كما ذكرناه في النظم من صح شراؤه صح بيعه ودليل التلازم الطرد وهو أننا تتبعنا هذا فوجدناه كذلك مطردا من دون نظر إلى علة ويقوى الطرد بالعكس وهو انا تتبعنا فوجدنا كل من لا يصح شراؤه لا يصح بيعه والطرد وحده كاف في التلازم إنما يؤتى بالعكس لتقويته وهذا العكس هو مثال تلازم النفيين
وأما من لم يجعله قسما مستقلا من الأدلة فإنه أرجعه إلى أحد الأدلة الشرعية التي تقدمت لأن التلازم إنما يثبت بالاسقراء وهو في الامور العقلية ظاهر محسوس وأما في الشرعيات التي بحثنا فيها فإنما يعرف من جهة الشارع فمن لم يعلم التلازم من جهة اتجه له منعه ويصير الحكم في حيز الدعوى
فلا يتم له جعله دليلا مستقلا تثبت به الأحكام الشرعية إلا برجوعه إلى أحدها وإلى الثاني من الثلاثة أشار قوله ... والثاني استصحاب حال الحكم ... في أي وقت قبله للعدم ...
الاستصحاب مؤكد من الصحبة والاستفعال طلب الفعل نحو استسقى طلب السقيا فالاستصحاب طلب الصحبة ومعنى ذلك أن العقل إذا فهم ثبوت شيء اقتضى صحبته واقترانه معه في المستقبل فالاستصحاب دوام التمسك بالدليل حتى يأتي ما يغيره قال المهدي هو دوام التمسك بدليل عقلي شرعي حتى يرد ما يغيره حال الحكم أي دليله وقولنا للعدم أي استصحبناه لعدم ما يغيره وقولنا بأي وقت هو معنى قولهم دوام التمسك وفسره ابن فرشته من أئمة الحنفية في كتابه في أصول الفقه بقوله هو إبقاء ما كان على ما كان قال الجلال في شرح الفصول مستدلا بالقول به ما لفظه بقاء ما تحقق وجوده في حال ولم يظن طرد معارض يزيله فإنه يلزم ظن بقائه هذا ضروري لا يدفع إذ الفرض لم يتحقق عليه إلا الزمان والحكم ليس مما تفنيه الأزمنة ولو كان تجدد الأزمنة بمجرده يفني هذا الظن لما ساغ لعاقل مراسلة من فارقه ولا الاشتغال بما يستدعي زمانا كالحراثة والتجارة لأن ذلك يكون سفها لأنه عمل مع انتفاع المقتضي ومع وجود المانع وأيضا يحرم الاستمتاع لمن لم يتيقن أنها زوجه إجماعا ويحل الاستمتاع لمن تيقن كونها زوجه إجماعا ولا فرق بين الصورتين إلا باستصحاب الأول ليكون هو مستند الإجماع ويكون القول بعدم العمل به مخالفة للإجماع انتهى إذا عرفت هذا فالتمسك به يستمر حتى يأتي ما يغيره كما قال
لصالح التغيير نحو من غدا ... مصليا بالترب ثم وجدا ... ماء فلا يخرج من صلاته ... وقيل لا صحة في إثباته ...
فقوله لصالح يتعلق بقوله للعدم أي لعدم صالح واللام للتقوية وقوله نحو من غدا إلى آخره إبراز للمسألة في صورة المثال الذي به تظهر فائدة الاختبار وذلك أن القائلين بأن الاستصحاب دليل وهم بعض الشافعية قالوا إن من تيمم لعدم الماء ثم دخل في صلاته ثم رأى في أثنائها الماء فإنه يستمر في صلاته ولا تبطل برؤية الماء استصحابا للحال الأولى لإنه قد كان عليه المضي في صلاته قبل رؤية الماء للتغير والإجماع قائم على صحتها قبل رؤية الماء وأجيب عنه بأن الإجماع الذي ذكره دليلا للمدى إنما كان قبل رؤية الماء فاستصحابه لصحة الصلاة بعد رؤية الماء مغالطة فإنه بعد الرؤية لا إجماع إذ الإجماع مشروط بعدم الرؤية وإن كان الراجح صحة الصلاة مع رؤية الماء لكن لا للإجماع بل لعدم الدليل على كون رؤية الماء تفسد الصلاة
إذا عرفت هذا فقد اختلف العلماء في أن الاستصحاب دليل قال الإمام يحيى بن حمزة إن الذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة وأئمة الأشعرية أنه دليل مستقل بنفسه لكنه متأخر عن الأدلة المتقدمة وهو آخر قدم يخطو بها المجتهد إلى تحصيل حكم الواقعة والحاصل أن المخالف قائل إنه يعمل بالاستصحاب لا على أنه دليل بل لأنه عائد إلى ما تقدم من الأدلة الشرعية لأن مجرد الوجود لا يدل على الاستمرار فاستمرار
البقاء الذي هو معنى الاستصحاب إنما يثبت بدليل شرعي لا بمجرد الوجود وخلاصته أن الاستصحاب إنما يثبت بدليل شرعي أي الدليل وذلك أنا قد علمنا أن الأدلة يجب العمل بمقتضاها حتى يرد ما يغيرها ومن ذلك ربط الأحكام بأدلتها فإذا ثبت الحكم بدليل شرعي وجب البقاء عليه حتى يرد ما يغيره وبعد هذا يعود الخلاف لفظيا بين النفاة والمثبتين
والتحقيق عندي أنه إن أريد أنه دليل فرسم الدليل هو ما يمكن التوصل بالنظر الصحيح فيه إلى مطلوب خبري واستصحاب الدليل أي التمسك به حتى يأتي ما يرفعه لا يصدق عليه رسم الدليل وإن أريد العمل باستصحاب الدليل فلا ريب في أن العمل به متعين لا يجوز خلافه حتى يأتي رافعه فهذا هو الحق وما وقع من النزاع والجدال كان غفلة عن حقيقة الدليل فتأمل ... ثالثها شرع الذي تقدما ... من رسل الله فقال العلما ... الحق أن المصطفى محمدا ... ما كان مأمورا بشرع أبدا ...
اختلف العلماء في تعبده صلى الله عليه و سلم قبل بعثته هل تعبد بشرع نبي من الأنبياء أو لا فنفاه جماعة وعليه دل النظم وقال جماعة إنه صلى الله عليه و سلم كان متعبدا بما ثبت أنه شرع عنده من شريعة أي نبي لا أنه تعبد بشريعة معين فما صح له أنه من أحكام رسل الله عليهم السلام لزمه العمل به قالوا والدليل أن الله قد أرسل رسله إلى عباده ولم ينقطع التكليف من بعثة آدم ونوح عموما أو خصوصا كإبراهيم ومن بعث من ولده ولم يترك تعالى عباده هملا قال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
================================ج2222222222222222---------------------
ججج 22222.
كتاب : أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
فكل من وجد من عباد الله مأمور بطاعة من بلغه شرعه قبل البعثة فإن أهمل كان مفرطا آثما بل يجب عليه تطلب ذلك وقد كان صلى الله عليه و سلم يحج على ما كان عليه شرع إبراهيم ويقف في المواقف الشرعية ويخالف قريشا وأهل بلدته وقد كان يتحنث أي يتعبد قبل بعثته فقيل يتعبد بما بلغه من الشرائع
وأما بعد البعثة فأشار إليه قوله ... من قبل ان يبعث لا من بعده ... فإنه كشرعنا في حده ...
فإنه كما تعبد بالشرع الذي بعثه الله به ونسبه الناظم إلينا لأنا مأمورون بالعمل به ولم يقيده بما لم ينسخ لأنه إذا قد نسخ فقد خرج عن محل النزاع وبطل كونه شرعا متعبدا به فهو كشرعنا يجب العمل به ما لم ينسخ ففي قوله كشرعنا كفاية عن التقييد بما لم ينسخ والدليل على تعبده صلى الله عليه و سلم بشرع من قبله بعد البعثة قوله تعالى بعد أن عد قريبا من عشرين رسل الله فبهداهم اقتده وثبت الاستدلال من كافة العلماء بقوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية على القصاص في هذه الأمة وهي من شرع بني إسرائيل والمراد منه ما ذكره الله في كتابه إذ لا تقبل روايتهم لكفرهم ولما حكاه الله من تحريفهم وإذا ثبت تعبده صلى الله عليه و سلم بشرع من قبله فنحن أيضا متعبدون به هذا كلام الجمهور وقد خالفناهم وبينا الدليل على خلاف ما اختاروه في بحث مستقل
ولذلك قال الناظم ... وهو لنا أيضا دليل يرتضى ... وليس الاستحسان إلا ما قد مضى ...
هذه إشارة إلى نفي ما قاله بعض أئمة الأصول إن الاستحسان دليل رابع وقد كثر خوض العلماء فيه والإنكار على مثبتيه حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع وعند التحقيق ليس هناك محل يصلح للنزاع لأنه ليس الخلاف في إثبات الاحكام بالتشهي وميل النفس إلى شيء بلا دليل شرعي ولا في إطلاق لفظه إذ قد ورد في القرآن واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم وفي كلام ابن مسعود ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولم يصح أنه حديث مرفوع بل الخلاف راجع إلى معنى اصطلاحي عند مثبتيه
وقد عرفه في مختصر المنتهى وغيره بتعاريف تدل على أنه لا يتحقق استحسان انفرد به المخالف بل تدل على أنه راجع إلى أحد الأدلة الماضية ولذا قلنا وليس الاستحسان غير ما مضى أي ما هو إلا راجع إلى حد الأدلة الماضية وقد أطال ابن الحاجب ذكر التعريفات له وردها كلها بإدخالها فيما مضى وعدم تحقق المعرف بها قسما مستقلا ولا حاجة هنا إلى سردها فإن ذكر ما لا يفيد ليس مما يغير المستفيد ولما وقع الخلاف بين العلماء في حجية قول الصحابي أبانه بقوله ... أما الصحابي فعند الجله ... مذهبه ليس من الأدله ... وكالنجوم يقبل التأويلا ... لو صح في إسناده لقيلا
قد تقدم نحو هذا في بحث الإجماع عند قولنا وما له بالخلفا انعقاد إلا أن هذه المسألة غير تلك فتلك في جعل اتفاق الخلفاء إجماعا وهذه في كون مذهب الصحابي ورأيه حجة لا روايته ولذا قال مذهبه فإنه غلب عرفا على الآراء الاجتهادية ففي حجيته خلاف قال ابن الحاجب ليس حجة على صحابي آخر اتفاقا والمختار ولا على غيره وذكر غير المختار وأدلته وردها كلها وقولنا لو صح في إسناه إشارة إلى عدم صحة حديث أصحابي كالنجوم فإنه روي من طرق عن أنس وجابر وأبي هريرة وعمرو بن العاص وابنه عبدالله ولكنه لم يصح شيء من طرقه كما صرح به الإمام أحمد وقال أبو محمد بن حزم في رسالته الكبرى إنه مكذوب موضوع وقوله ... بأنه في حق من يقلد ...
يتعلق بالتأويل أي أنه لو صح لما دل على المدعى من أن مذهب الصحابي ورأيه حجة بل هو إرشاد للمقلد أنه إذا قلد أي صحابي فإنه قد اهتدى ولما فرغ الناظم من الأدلة الشرعية الأربعة وما ادعى إلحاقه بها وأنه ليس منها أخذ في بيان دليل العقل وجعله خاتمة نظرا إلى إثبات الأحكام العقلية قل ورود الشرع فقال ... خاتمة بها السعيد يسعد ...
وصفها الناظم بما ذكر إشارة إلى أنها مبنية على قاعدة إثبات التحسين والتتبيح العقليين وهي من أمهات قواعد الدين وتقريرها ومن مهمات المتيقن من المحققين وهذه مسألة قد طار شرر نار الخلاف فيها في الآفاق وتجاذبتها أكف الجدال والشقاق وخبط الجميع في موضع النزاع وتعب في إثباتها وردها كل فكر ويراع فنقول في بيان حقيقة المسألة إنه ما زال الناس في كل ملة
كافرهم ومؤمنهم وأهل الأقطار قاطبة يمدحون المحسن ويذمون المسيء بعقولهم من دون معرفة الشرائع بل من ميز من الصبيان مدح من أحسن وذم من أساء وهل مدح أهل الجاهلية لحاتم إلا لإحسانه وكرمه الذي أدركت عقولهم حسنه وهل ذموا مادرا في جاهليتهم إلا لبخله الذي أدركت عقولهم قبحه وهل مدحوا محمدا صلى الله عليه و سلم في جاهليتهم قبل بعثته وسموه الصادق الأمين إلا لأنها أدركت عقولهم حسن الصدق وأنه يمدح من اتصف به وهل ذموا عرقوبا إلا لكذبه وخلف مواعيده التي أدركوا بعقولهم قبحه ثم جاء الإسلام مقررا لهذه الفطرة السليمة لا ينازع فيها أحد حتى تفرق أهل الإسلام شيعا كما تفرقت الأمم ونشأت العداوات وشب التعصب وشاخ الإنصاف بل مات فقال فرقة من الأشعرية نحن نسلم أن العقل يدرك الحسن وهو صفة كمال ويدرك القبيح وهو صفة نقص فحاتم متصف بصفة كمال عقلا ومادر متصف بصفة نقص عقال وقد اعترف محققوهم بأن صفة النقص هي القبح العقلي لما أورد عليهم مخالوفهم أنه حيث لا يدرك العقل حسنا ولا قبحا فيجوز أن يبعث الله رسلا كذابين فقالوا هذه صفة نقص لا تجوز على الله قلنا وافقتم من خالفتم في إثبات القبح العقلي فلم يجدوا جوابا لكنهم قالوا
إنكم أيها الطوائف الذين أبيتم الحسن والقبح عقلا قلتم إن العقل يدرك حكم من اتصف بالحسن وأنه يستحق المدح عاجلا والإثابة آجلا ويدرك أن من اتصف بالقبيح يستحق الذم عاجلا والعقاب آجلا ونسبتم إلى العقل إدراكه لهذين الأمرين ونحن نخالفكم ونقول لا يعرف العقل إلا أن المحسن اتصف بصفة كمال والمسيء اتصف بصفة نقص فلما خلطوا في محل النزاع زيادة المدح عاجلا والإثابة آجلا انفتح باب الجدال وجاءت جيوش كل قبيلة وقال وشنت الأشعرية على المعتزلة الغارات وأتوا بدقائق العبارات وقبائح الإلزامات فشمر المعتزلة ومن إليهم الساق ونشروا ألوية الحرب والشقاق وجاء المتأخرون من المثبتين فقلدوا في تحرير محل النزاع النافين وذلك كمؤلف شرح غاية السؤال ومن قبله مؤلف الفصول وغيرهم
ممن أخذ تحرير البحث من مختصر المنتهى ونحوه ولم يرجعوا كلام قدماء المثبتين وينظوا كتب الماضين منهم من المحققين فخبطوا خبط عشواء لما صدقوا خصومهم في الدعوى حتى نبه الله بعض المنصفين المحققين من المتأخرين فحرر محل النزاع وإن المثبتين لا يدخلون المدح عاجلا والإثابة آجلا في محل النزاع وكتب المتقدمين منهم منادية بهذا نداء يملأ الأسماع قلت فراجعنا كتب المتقدمين من المثبتين فإذا هي كما قاله ذلك المصنف من المحققين فقلنا نصوصهم في حواشي شرح الغاية المسماة بالدراية وذكرنا فيه
أن التحقيق أنه لا خلاف بين الفريقين ولا شقاق ولكن عدم الإنصاف أقام الحرب على ساق وتحقيقه أن النافين أثبتوا إدراك العقل لصفة الكمال وصفة النقص ومن المعلوم أن معنى كونها صفة كمال أنه يمدح من اتصف بها وكونها صفة نقص أنه يذم من اتصف بها والمراد مدحه وذمه من العباد إذ الغرض أن هذا قبل ورود الشرائع وهذا هو عين ما قاله من أثبت التحسين والتقبيح العقلي فإنه قال الحسن ما يستحق من اتصف به المدح ويستحق من اتصف بالقبح والذم وغاية الخلاف أن المثبت قال حسن وقبيح والنافي قال صفة كمال وصفة نقص وهذا أي المدح والذم يصح تسميته إثابة عاجلا لأنه مكافأة للمحسن وللمسيء على إساءته فإن أهل الجاهلية ما كانوا يقصدون إلا الثناء من العباد بما يفعلونه من المكارم ولذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابنة حاتم لما قالت إن أباها كان يطعم الطعام إن أباك رام أمرا فأدركه وهو المدح على أن المثبتين لم يصرحوا في كتبهم بالإثابة عاجلا
ولا بالعقاب آجلا إنما جاءت هذه العبارة في كلام النفاة بما نسبوه إلى المثبتين فقلنا نحن إنه يصح تسمية المدح بالحسن إثابة من العباد لمن أحسن وليس المراد الإثابة من الله قطعا إذ المسألة مفروضة في كل شريعة شرعها الله ولذا لم يقل أحد من المثبتين إن العقل يدرك العقاب آجلا إذ لا تعرف أحكام الآجل إلا من رسل الله بعد التشريع
وإنما العقل يدرك قبح الظلم بمعنى أنه يستحق فاعله الذم من العباد لاتصافه بالقبيح أو بصفة النقص أو بصفة الكمال والشرع جاء مقررا لهذا ومخبرا بالعقاب الأخروي والثواب الأخروي والأول للأول والثاني للثاني وبهذا عرفت اتفاق الفريقين المثبتين والنفاة على إدراك العقل لما ذكر ولذا قلنا ... لو انصف النظار لم يصبحوا ... في كل بحث فرقا شتى ... إن طريق الحق معروفة ... لا عوج فيها ولا أمتا ...
أنشدناهما بعد تحرير هذه المسألة في الرسالة المسماة بالأنفاس اليمنية التي أرسلناها إلى المدينة النبوية سنة 1129ه وأما بسطها وبسط أدلة الفريقين مع الوهم في تحرير محل النزاع فقد أودعناه في حاشية الغاية لأنه بسط هناك الأقوال ونشر ألوية الجلاد
واعلم أن المثبتين أكثر الأمة ليس هم المعتزلة خاصة بل قال بالتحسين والتقبيح الحنابلة والحنفية الماتريدية وعامة المحققين من الأشعرية والكلام في ذلك معروف فلا نطيل نقله لكنها اشتهرت المسألة بأن المعتزلة يثبتونها والأشعرية ينفونها والتحقيق ما أسلفناه من الاتفاق والتوفيق بيد الخلاق ولعله يعجب من يرى هذا الكلام من تهويلنا في المسألة ممن لا يعرف غور نفيها فإنه كما قال بعض أئمة المحققين إن نفيها يفتتح سد يأجوج ومأجوج يخرج منه كل
بلاء من نفي حكمه الله ونفيها نفي الشريعة من أصلها إذا عرفت هذا فاعلم أنه لم يبق بعد تقرر الشريعة لمسألة الخلاف في التحسين والتقبيح فائدة إذ بعد حكم الشرع لم يبق للعقل مجال في إثباته لشيء من الأحكام إنما هذه الأبحاث فرضية مبنية على انفراد العقل عن الشرع وقد عرفناك أنها لا تخلو أمة من شريعة وإن من أمة إلا خلا فيها نذير نعم تخلو عن معرفة أحكام شرعها كلها بإعراضها عن التعلم كما وقع في الجاهلية الجهلاء وكم ترى في كل ملة حتى ملة الإسلام من إعراض كثير عن تعلم أحكام الإسلام فلذا قدمنا لك أن الجاهلية مدحوا من اتصف بالحسن وذموا من اتصف بالقبيح بعقولهم لغفلتهم عن الشرائع إلا أنا لم نذكر من حكم العقل إلا ما يليق بالأصل من الاختصار فقلنا ... إذا دليل الشرع في الحكم انتفى ... كان دليل العقل عنه خلفا ...
قد عرفت أنه بعد ورود الشرع لم يبق للعقل إلا تحسين ما حسنه وتقبيح ما قبحه وقد جاء مقررا لما كان يدركه العقل من الحسن والقبيح وصفة الكمال والنقص وزاد بأنه العقاب والإثابة ثم فصل الشرع الأحكام الخمسة فكانت على مقتضى العقل بعد إقراره بالشريعة فإنه عرفه بمصالح الأعمال ومفاسدها مما كان جاهلا لها فعرفه أن العقل إذا اشتمل على مفسدة فإن فعله حرام أو في تركه مفسدة فواجب وإن لم يشتمل أحد طرفيه فعلا أو تركا على مفسدة فإما أن يشتمل على مصلحة أو لا الثاني المباح والأول إما أن يعرفه في فعله مصلحة وليس في تركه مفسدة فهو المندوب أو في تركه مصلحة وليس في فعله مفسدة فهو المكروه فالمباح بعد تفصيل الشرع الأحكام باق عند العقل على ما كان عليه من قبل وروده لأن فاعله لا يدرك العقل فيه حسنا ولا كمالا إن فعل ولا قبحا ولا نقصا إن ترك كالتظلل تحت الأشجار والتفرج على جري الأنهار لا لزيادة التوحيد والاعتبار فهذا لا يقضي فيه العقل بشيء كما لا يقضي فيه الشرع بشيء وبهذا يعرف أن المباح ليس من قسم الحسن ولا من صفة الكمال ولا من قسم ما يقابلهما فإذا فقد حكم الشرع كان حكم العقل تبعا له وخلفا عنه في فقد الحكم أي الاتصاف بأحد الأمرين وإلا
فمما للعقل حكم غير ما ذكرناه من إدراكه الوصفين فهذا البيت لا يفيد إلا أن حكم المباح شرعا وعقلا واحد من أنه لما انتفى حكم الشرع بالإيجاب والتحريم والندب والكراهة بقي حكم العقل فيه بعد الشرع كما كان قبله في الحكم أنه لا حكم له فيه بحسن ولا قبح
وأوردنا بالحكم في قولنا في الحكم انتفاء الحكم بما فيه مصلحة فعلا فيشمل الواجب والمندوب أو عقوبة أو مصلحة تركا فيشمل الحرام والمكره لأنه الحكم الشرعي الذي أبانه الشرع وفصله وأما الإباحة فالشرع لم يحكم فيها بشيء بل يقابلها على حكم العقل بأنها ليس فيها حكم وإن عدها الأصوليون أحد الأحكام فإنما هو لحصر الأقسام فلذا قلنا في بيان ذلك ... فكلما ينفع من غير ضرر ... فهو مباح الحكم عقلا في النظر ...
بمعنى أن الشرع سكت عما ينفع البشر من غير إضرار فلم يحكم عليه بأحد الأحكام التي فيها مصلحة أو مفسدة فعلا أو تركا بل تركه مسكوتا عنه فالعقل يقضي أنه باق على ما كان عليه قبل وروده وقد كان قبل وروده لا يتصف فاعله بحسن ولا كمال ولا تاركه بنقص ولا قبح كما مثلناه فهو مباح سابقا ولاحقا وما لا فقد عرفناك أن العقل لا حكم له بإيجاب ولا تحريم ولا غيرهما إنما يحكم بأن فاعل الحسن يستحق المدح من العباد وفاعل القبيح عكسه يستحق عكسه منهم وليس المراد أنه يستحق أن يكون حقا عليهم واجبا يأثمون بتركه فإن التأثيم لازم للواجب الشرعي والفرض أنه لا شرع وأنه لا يعرف إلا من الشرع بل معنى استحقاقه أن العباد بعقولهم يرون مدح من اتصف بالكمال والحسن بمقتضى العقل وعكسه في عكسه وليس هنا حكم من العقل كالأحكام الخمسة الشرعية بل حكمه هو إدراكه لما ذكر لمن اتصف بأحد الصفتين ولكن سرى التخليط إلى المثبتين فقالوا العقل حاكم كالشرع وقالوا في الظلم محرم عقال وهو غلط أو تعبير باللازم عن ملزومه شرعا فإن الظلم قبيح عقلا وصفة نقص لكن التحريم بالمعنى الشرعي وهو أنه يستحق فاعله الذم والعقوبة أي من الله وتاركه المدح والمثوبة أي منه تعالى لا يعرف
إلا من جهة الشرع اتفاقا وإلا لما احتيج إلى رسول الله ولخالف قوله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل نعم نهيه تعالى عن الظلم لقبحه عقلا وأمره بالعدل لحسنه عقلا ولذا قلنا إن التحريم مثلا ملزم للقبيح عقلا لكن لما خلطوا محل النزاع وقلدوا في نقله من كتب خصومهم جروا في التفريع عليه وهو تفريع على تخليط
واعلم أن هذا التحقيق لا تجده في كتاب على هذا التدريج والبيان لأن تخليط البحث قديم ومشى عقبه كل محقق فيهم بسبب تقليد الخصوم وإحسان الظن بهم وأنهم لا ينقلون عن خصومهم إلا حقا وهذا شيء لا أصل له ولا ينبغي لناظر لنفسه ومتأهب لحلول رمسه أن يقلد الخصوم في النقل عن خصومهم فكم رأينا من تخليط في الدعوى والاستدلال ولذا حرم الله قبول شهادة الخصم على خصمه ونقل المذاهب والإخبار عنها وعن أدلتها شهدة قال الله تعالى في الذين قالوا إن الملائكة إناثا سنكتب شهادتهم ويسألون لما قال وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وإنما أخبروا بذلك فكل خبر شهادة
ولقد طال الكلام إلا من عرف المسألة في كتب الأصوليين لا يراه طويلا بل يراه قد أحيى من الحق قولا كان قتيلا
وإذا عرفت هذا فهذا الحكم من العقل هو عدم الحكم شرعا وهو البراءة الأصلية وهو الاستصحاب العقلي ثم نشأ عن هذا الاختلاف اختلاف في حكم العقل قبل ورود الشرع فيما لا يقضي فيه العقل بمدح ولازم وهو المسمى بالمباح لغة لا شرعا إلى ثلاثة أقوال الأول ما أسلفناه من أنه لا حكم له فيه بل هو مباح والثاني والثالث أشرنا إليه بقولنا ... وقيل بالحظر أو الوقف لنا ... إنا علمنا حسنه كعلمنا ... بحسن الانصاف وقبح الظلم ... هذا الذي قرره ذوي العلم ...
قد عرفت ان المسألة مفروضة على انفراد العقل من الشرع والحظر الشرعي الذي من لازمه العقاب الأخروي لا يعرف إلا من الشرع فلا بد أن
يراد بالحظر هنا القبح العقلي أو صفة النقص في مقابلته بقولنا علمنا حسنه ما يدل لذلك القائلون بأن الاستظلال تحت الأشجار قبح عقلي لا ينهض لهم دليل إذ القبح العقلي لازمه أو معناه حسن ذم العقلاء له بما فعله ومعلوم أن هذا الاستظلال من حيث هو لا يستحسن عاقل أن يذم فاعله ولا يعده صفة نقص ولا صفة كمال وأما استدلال من قال إن الأصل الحظر وهو منسوب إلى الإمامية وجماعة غيرهم بأنه تصرف في حق الغير بغير إذنه فجوابة أن العقل لا يقضي بقبح هذا الاستظلال ولا يعده تصرفا بل يعد من يمنع المستظل فاعل قبيح ومرادهم بالغير هو الرب تعالى فإنه المالك للأكوان وما فيها على أن هذا مبني على أن المعارف ضرورية وإلا فقيل مجيء الشرع ما قد عرف العقل أن الأرض لله وأنه تعالى مالكها ومالك ما فيها وما أظن هذا الدليل إلا قاله من لم يحرر محل النزاع
وأما الواقف فقوله مشكل لأن العقل من حيث هو لا يتوقف في وصف شيء بحسن أو قبح أو بعدمهما فإن حكمه بالأوصاف جبلي فطري والمتوقف إنما يتوقف عند تعارض الأدلة عنده فهذا من قبيل المسألة الأولى
وأما القول بأنه مباح وهو أولى الأقوال كما عرفت فإن القائلين به وهو الذي اختاره في أصل النظم قالوا إن مثل ذلك حسن عند العقل فمعناه أو لازمه أنه يستحسن العقلاء الثناء على فاعله والرفع من شأنه ونحن نقول إن كون زيد يستظل تحت الشجرة أو يتمشى في البرية لا يستحسن العقلاء فعله ولا يستقبحونه فلا يمدح به ولا يذم فاعله ألا يصدق عليه حقيقة الحسن ولا القبيح فلا بد من تأويل قول إنه حسن أي ليس بقبيح لا أن له ماهية الحسن وإن كان قوله كعلمنا بحسن الإنصاف لا يساعد هذا التأويل إذ حسن الإنصاف يصدق عليه حقيقة الحسن عقلا وقبح الظلم يصدق عليه حقيقة القبح عقلا وهما صفتا كمال ونقص بلا ريب فأين التمشي في البراري
من ذلك ولذا قلنا هذا الذي قرره ذو العلم ونسبناه إلى قائله حيث لا نرتضيه
إذا عرفت هذا فالأشياء قبل الشرع لا حكم فيها شرعي ضرورة أنها مفروضة قبل وروده والعقل حكمه استحسان الحسن بالرفع من شأن فاعله ومدحه واستقباح القبيح بالوضع من شأن فاعله وذمه وليس له حكم يستلزم عقابا أخرويا فعندهم من ظلم زيدا بأخذ ماله وسبي حريمه فاعل قبيح يستحسن العقلاء ذمه والانتصاف منه والمحسن إلى زيد بأي إحسان على عكسه وأما أنه هل يوجب شيئا إيجابا شرعيا أو يحرمه تحريما شرعيا فهذا شيء لا يعرفه العقل إلا من جهة الشرع والفرض أنه لا شرع إذ من لازم الإيجاب الإثابة والعقاب فعلا أو تركا ومن لازم التحريم ذلك كذلك فإذا قالوا واجب عقلي فلا يحمل إلا على أنه حسن عند العقل والحسن عنده يقضي بالحث على فعله والاتصاف به لأن الاتصاف بما يقتضي حسن الذكر والثناء عند العباد محمود عند العقلاء قطعا وهو صفة كمال بلا ريب والاتصاف بخلافه فهذا معنى الإيجاب عقلا وكل هذا مبني على التحقيق لا على ما قاله كل فريق من المتنازعين فإنها قد شبت العصبية نار الغضب حتى لا ينظر فريق من كلام فريق إلا بعين الرد والإزراء وغلا كل فيما قد مهدت له شيوخ مذهبه ولقد غلت المعتزلة في المسألة غلوا عجيبا حتى جعلوا الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية وغير ذلك وقابلهم فريق الأشعرية فقالوا لا يدرك العقل حسنا ولا قبحا ولا حكم له أصلا وتفرع عن هذا دواهي من نفي الحكمة ولو نظر كل فريق نظر الإنصاف وقرروا محل النزاع لكانوا على طريقة واحدة ومنهاج قويم وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ومؤلف الفواصل رحمه الله قد أشار إلى ما حققناه جملة وسلك في شرح الأبيات وبيانها بكلام الجمهور هذا
ولما نجز الكلام ببحث أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس أخذنا في أبحاث تتعلق بالدليل وبدأنا بالمنطوق منها والمفهوم فقلنا
الباب الثالث في المنطوق والمفهوم ... ثالثهما المنطوق والمفهوم ... منطوقها ما دل يا فهيم ... عليه لفظ في محل النطق ...
أي ثالث العشرة الأبواب التي رتب عليها الكتاب المنطوق والمفهوم بالمعنى الاصطلاحي لا بمعنى ما يفهمة السامع من الخطاب فإنه شامل لهما وقدم المنطوق لكونه أقوى دلالة فقوله منطوقها أي الدلالة وهو إشارة إلى أنهما من أقسام الدلالة كما بنى عليه ابن الحاجب ومن تبعه فكلمة ما مصدرية عبارة عن الدلالة على هذا أي دلالة اللفظ على المدلول حال كونه حاصلا في محل النطق فالضمير في عليه يعود إلى المدلول المفهوم من المقام وفي محل النطق ظرف مستقر حال من ضمير المدلول والإضافة بيانية أي محل هو اللفظ المنطوق والمراد بكون المعنى مدلولا عليه بمحل النطق أنها لا تتوقف استفادته من اللفظ إلا على مجرد النطق لا على الانتقال من معنى آخر إليه فالمعنى فيما أفاده النظم أن المنطوق دلالة اللفظ على معنى في محل النطق ومحل النطق هو اللفظ
فلذا يفسرونه بكونه حكما للفظ وحالا من أحواله والقول بأن النطق حركة اللسان فاللسان محل النطق صحيح واللفظ أيضا محل للمعنى ولذا يقال الألفاظ قوالب المعاني فاللسان محل النطق والنطق محل المعنى فهو محل ثان فيصح جعله محلا ويصح أن يقال النطق بمعنى المنطوق به وهو اللفظ وهو محل قطعا ثم إنهم أرادوا بالدلالة ما يشمل المطابقة والتضمنية والالتزامية كما ستعرفه وإن الكل من قسم المنطوق وستعرف إن شاء الله ما فيه
واعلم أن الدلالة المطابقية هي دلالة اللفظ على كل معنى وذلك كدلالة لفظ إنسان على الحيوان الناطق فهذه مطابقية طابق اللفظ فيها المعنى أي ساواه فلم ينقص اللفظ عن معناه ولا المعنى عنه وهذه دلالة اللفظ على حقيقة معناه وهي المتبادرة عند إطلاق الدلالة وعند إطلاق اللفظ وقد يراد به الدلالة على جزء معناه كأن يطلق لفظ إنسان على حيوان فقط أو على ناطق فقط فهذه هي الدلالة التضمنية دلالة اللفظ على جزء ما وضع له وهي من أقسام المجاز لأنه أطلق الكل وهو لفظ إنسان وأريد به جزؤه وهو أحد الجزئين وأهل الأصول يجعلون دلالة التضمن وضعية وأهل المعاني والبيان يسمونها عقلية وعلى كل تقدير فهو من المجاز ولا بد له من العلاقة والقرينة فالعلاقة قد ذكرناها آنفا وأما القرينة فأنواعها معروفة وقد يراد باللفظ الدلالة على لازم معناه كما إذا أطلق إنسان وأريد به ضاحك مثلا فإنه لازم له ودلالته عليه عقلية عند الفريقين وهو مجاز أيضا من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم وتفاصيل هذه الأبحاث في علم المنطق وما ذكرناه كاف لما نحن بصدد بيانه إن شاء الله ثم قسم ما يفيده اللفظ إلى قسمين أشار إليهما قوله ... وخذه قسمين على ما ألقيا ...
الأول قوله ... فإن أفاد اللفظ معنى واحدا ... لا غيره فسمه مساعدا ... نصاله الدلالة القطعية
أي حد المنطوق حال كونه قسمين الأول أن يقال إن أفاد اللفظ في دلالته معنى واحدا لا يحتمل غيره فسمه نصا لارتفاعه على غيره من الدلالات وقوته أخذا من قولهم نصت الظبية جيدها أي رفعته وهذا المعنى للفظ يقابله الظاهر الذي هو القسم الثاني وقد يطلق النص في مقابل الإجماع والقياس فيراد به الكتاب والسنة فيدخل تحته الظاهر فيسمى نصا ومن ذلك ما قدمناه من تقسم العلة إلى النص والإجماع والاستنباط ويطلق ويراد به ما دل على معنى ظاهر وهو غالب في استعمال الفقهاء كقولهم نص الشافعي على كذا وقولهم لنا النص والقياس ومثال النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا الأعلام الشخصية نحو زيد في دلالته الذات المعينة في قولك هذا زيد فإنه لا يتحمل معنى غير ذاته وإن قال النحاة أنه يؤكد بعينه ونفسه لدفع توهم التجوز فقد يقال إن التوهم ليس باحتمال فإن كونه أريد بهذا زيد هذا غلام زيد من باب الحذف وهم بعيد فدفع بعينه ونفسه والاحتمال يكون أقوى من الوهم هذا جمع بين القولين وقوله له الدلالة القطعية أي يحصل بدلالته على معناه القطع فلا ينتفي بشك ولا شبهة وقوله ... أولا فظاهر له الظنية ...
إشارة إلى القسم الثاني من قسمي المنطوق إلى دلالته أي أولا يدل على معنى واحد
بل تردد بين معان تحمل المقصود وغيره فإنه يسمى الظاهر أي ما كان أحد معانيه أظهر من غيره ولا ينافي الاحتمال والتردد وهذا تسمى دلالته ظنية أي تفيد الظن لدلالته على الاحتمال الراجح من الاحتمال المرجوح ... قيل ومنه العام ثم النص ... قسمان أيضا فالصريح نص ...
قال قوم من جملة الظاهر العام في دلالته على إفراده قبل تخصيصه لاحتماله له ويأتي تحقيق ذلك في بحثه ثم إن أهل الأصول قسموا النص إلى قسمين صريح وغيره قسموه كما قسموا المنطوق إلى قسمين ولذا قلنا أيضا وإن كان قد بعد فالقرينة تنادي بالمراد ثم بين قسمي النص بقوله ... بأنه ما وضع اللفظ له ... خاصا به وغيره ما دله ... بالتزام فالتزم ما أملي ...
فقوله بأنه متعلق بنص وقوله بانه أي الصريح في دلالته ما وضع اللفظ له يعني بالمطابقة والتضمن كما دل له المقابلة بالالتزام وخاصا حال من اللفظ أي حال كون اللفظ خاصا به بمعنى أنه مستفاد من اللفظ لا من أمر خارجي فالتقييد بالخاص إشارة إلى أن دلالة اللفظ على جزء معناه وهي التضمنية لفظية فهذا هو القسم الأول وهو الصريح
وأما الثاني فقد أفاده قوله وغيره ما دله أي ما دل عليه اللفظ بالالتزام فهو من باب الحذف والإيصال وفي عدوله عن قوله ما وضع له إلى ما دله الإشارة إلى أن دلالة اللفظ على لازم معناه عقلية لا وضعية وفيه خلاف إلا أن أهل الأصول يكتفون بمطلق اللزوم أي من أي جهة عرف أو وضع وأهل المنطق يشترطون اللزوم البين بحيث متى أطلق اللفظ بعد
العلم بوضعه فهم منه المعنى ثم إنه قسم أئمة الأصول غير الصريح وهو الدال بالالتزام إلى ثلاثة أنواع في قوله ... وخذ هنا أقسامه من نقلي ...
أي خذ أقسام الدلالة الالتزامية وذلك لأنها إما مقصودة للمتكلم فهي قسمان لأنه إما أن يقف الصدق عليه أو الصحة عقلا أو نقلا فهو دلالة الاقتضاء أول الثلاثة المدلولة لقوله ... أن يقف الصدق عليه عقلا ... أو صحة فالاقتضا أو نقلا ...
عقلا ونقلا تمييز عن قوله أن يقف الصدق ومعناه أن الكلام إذا كان ظاهره الكذب الذي لا يجوز على الشارع عقلا تعين طلب ما يخرجه إلى حيز الصدق وأشار إلى الأمثلة بقوله ... نحو رفع عن أمتي وأعتق ... عبدك عني واسألن واصدق ...
اقتباس من قوله صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه أخرجه الطبراني من حديث ثوبان باللفظ المذكور وقد روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة فلا بد في صدقه من تقدير المؤاخذة والعقوبة وإلا كان كاذبا لأنهما لم يرفعا أنهما واقعان من الأمة ففي البيت اقتباس واكتفاء وهذا مثال ما توقف الصدق عليه عقلا وأما مثال
ما توقف الصحة عليه عقلا فنحو قوله تعالى واسأل القرية أي أهلها وإليه أشار قوله واسألن إذ لو لم يقدر ذلك لما صح سؤال الجماد فهو من مجاز الحذف وأما توقف الصحة الشرعية الذي إليه أشار بقوله أو نقلا فمثاله قول الرجل الآخر اعتق عبدك عني أي مملكا لي فلا بد من تقديره لأنه لا يصح العتق شرعا إلا من مالك فهذه دلالة الاقتضاء سميت بذلك لأنه الحاجة إلى صون الكلام عن الفساد العقلي والشرعي اقتضت ذلك فهي في حكم المنطوق وإن كان محذوفا فلذا عدوه من أقسام المنطوق والقسم الثاني مما هو أيضا مقصود المتكلم ولم يتوقف عليه صدق ولا صحة عقلية ولا شرعية أشار إليه قولنا ... أو يقترن باللفظ ما لو لم يفد ... تعليله لكان عنه مبتعد ... كقلوه كفر وليست بسبع ... ولو تمضمضت بماء فاتبع ...
أي أو يقترن بالحكم وصف لو لم يفد ذلك الوصف تعليله أي كونه علة للحكم لكان ذلك الاقتران بعيدا عن فصاحة الشارع ووضعه للكلام موضعه وقد أشرنا إلى الأمثلة الواقعة في كلامه صلى الله عليه و سلم الأول حديث المجامع في نهار رمضان أنه قال يا رسول الله جامعت أهلي في نهار رمضان فقال صلى الله عليه و سلم أعتق رقبة الحديث فلو لم يكن الجماع في نهار رمضان عليه إيجاب الإعتاق لكان ذلك الاقتران بعيدا عن فصاحة الشارع والحديث تقدم في القياس وهو متفق عليه بين الشيخين
وإلى المثال الثاني أشار قوله وليست بسبع يعني الهرة فإنه صلى الله عليه و سلم قاله جوابا لما قيل له إنك تدخل بيت فلان وفيه هرة لما
امتنع عن دخول بيت آخر فيه كلب والحديث أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة قال كان صلى الله عليه و سلم يأتي دار فلان من الأنصار دونهم فشق عليهم ذلك فقالوا يا رسول الله إنك تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا فقال إن في داركم كلبا فقالوا يا رسول الله وفي دارهم سنور فقال صلى الله عليه و سلم السنور ليس بسبع
وقوله ولو تمضمضت أشار إلى جوابه صلى الله عليه و سلم على عمر لما قال له إني قبلت في رمضان فقال أرأيت لو تمضمضت في ماء وقد تقدم في القياس جميع هذا والقسم الأول كما سموه دلالة الاقتضاء فهذا سموه بما أفاده قوله ... واسمه التنبيه والإيماء ...
أي أن دلالته تسمى دلالة التنبيه والإيماء تفرقه بين الأقسام بالأسماء مع المناسبة في تخصيص كل بما يسمى به فهذه أقسام ما قصده المتكلم من القسمين وإما غير مقصوده أي دلالة اللازم من كلامه أي لم يعلم قصده لأنه لو علم عدم قصده لم يعتبر فهو الذي قال فيه
وإن يكن لقصده ما شاء ... فإنه دلالة الإشاره ... كناقصات العقل في العباره ...
أي وإن يكن غير الصريح المدلول عليه فالالتزام غير مقصوده للمتكلم فإنه يقال له دلالة الإشارة وأشار إلى مثاله في الحديث النبوي وكل هذه الأمثلة اقتباس واكتفاء أو تلميح وهو قوله صلى الله عليه و سلم النساء ناقصات عقل ودين قلنا وما نقصان دينهن قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي فقد استدل به الشافعي على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما مع أنه غير مقصود لأن لفظ الشطر يدل عليه بالالتزام لأنه سبق للمبالغة في نقصان دينهم فيقتضي أن أكثر ما يتعلق به زمان الحيض ذلك فلو كان زمان الحيض أكثر من ذلك لذكره وهذا الحديث أورده الأصوليون وأهل الفروع بهذا اللفظ وقال أئمة الحديث من حفاظه إنه لا أصل له بهذا اللفظ ثم هو لو صح بمراحل عن الدلالة بأن أكثر الحيض خمسة عشر يوما لأن الشطر على فرض أنه حقيقة في النصف لا يتم الاستدلال به حتى يتم الدليل على أن أقل الطهر خمسة عشر يوما ولا دليل لعليه والمراد بيان أن الحديث لا أصل
له وأنه لو صح لما كان دلالة الإشارة في شيء وإنما أتى به الناظم متابعة لأهل الأصول نعم الأمثلة من القرآن كثيرة في ذلك منها قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم فإن دلالة الإشارة فيها في موضعين الأول قوله ليلة الصيام فإنه دال على صحة صوم من أصبح جنبا للزومه المقصود من حل جماعهن بالليل الصادق على آخر جزء منه والثاني من قوله فالآن باشروهن إلى آخر الآية فإنه دال على أن إباحة المباشرة ممتدة إلى طلوع الفجر فيلزم منه جواز الإصباح جنبا
واعلم أن جعلهم اللازم في دلالة الإشارة غير مقصود للمتكلم محل نظر وكيف يحكم على شيء يؤخذ من كلام الله أنه لم يقصده تعالى وتثبت به أحكام شرعية ومن أين الاطلاع على مقاصد علام الغيوب فإن أرادوا قياس كلامه على كلام العباد فإنه قد يستلزم كلامهم ما لا يريدونه ولا يقصدونه ولا يخطر لهم ببال ولذا جزم المحققون بأن لازم المذهب ليس بمذهب لأنه لا يقطع بأنه قصده قائله بل لا نظن وكذلك التخاريج على كلام أئمة العلم لا تكون مذهبا لمن خرجوه عنه وذلك لقصور البشر وأنه لا يحيط علمه عند نطقه بلوازم كلامه قطعا ولا يقصده بخلاف علام الغيوب فهو يعلم بلوازم كلام العباد وما تطلقه ألسنتهم وما يكنه الفؤاد فكيف ما يتكم عز و جل به وقد ذاكرت بعض شيوخي بهذا ومن أتوسم فيه الإدراك فما وجدت ما يشفي مع هذا الاتفاق من أئمة الأصول عليه وقد كنت كتبت على الفواصل شيئا من هذا وأشار إليه مؤلفها رحمه الله تعالى
واعلم أنهم قسموا المنطوق إلى صريح وغير صريح وجعلوا الصريح ما دل على معناه مطابقة أو جزئه تضمنا وجعلوا غير الصريح ما دل بالالتزام فاستغرق المنطوق الدلالات الثلاث وقد قسموا اللفظ الدال على منطوق ومفهوم في أول البحث فالمفهوم دال على معنى لكنهم لم يبقوا من الدلالة قسما له
ولنذكر سؤالا وصل إلينا عند تأليف هذا ونحن في أثنائه فأجبنا عليه ورأينا نقلهما هنا باختصار لأنها لا تخلو كتب الفن المتداولة كالمختصر لابن الحاجب وشروحه والغاية وشرحها عن هذا التقسيم وتبعهم صاحب أصل النظم
وحاصل السؤال قد قسم أئمة الأصول اللفظ الدال إلى قسمين منطوق ومفهوم ثم قسموا المنطوق إلى قسمين صريح وهو ما دلالته مطابقة أو تضمنا وغير الصريح وهو مادل بالالتزام وليس لنا في العلوم إلا الدلالات الثلاث وقد جعلوا قسمي المنطوق مستغرقة لها ثم قالوا في المفهوم إنه ما دل لا في محل النطق فأي دلالة يريدون إذ بأي دلالة دل اللفظ فهو منطوق فالمراد بيان الدلالة عند القائل بالمفهوم من أي أقسام الدلالات هي
وحاصل الجواب قد تنبه سعدالدين في حواشي العضد للإشكال هذا فقال الفرق بين المفهوم وغير الصريح من المنطوق محل تأمل لم يزد على هذا ثم بحثنا كثيرا من كتب الأصول فلم نجد ما يزيل الإشكال وذلك أنهم قالوا دلالة المفهوم التزامية قيل لهم قد جعلتم ما دل بالالتزام منطوقا غير صريح وإن قلتم إنها مطابقة أو تضمنا فقد جعلتموها منطوقا صريحا ثم لا تساعدكم قواعد العلوم على أن دلالة اللفظ على مفهومه من أحد القسمين ثم رأيت في الآيات البينات ما يدل أو فائدة على أنه لا جواب للإشكال على هذا التقسيم فإنه قال إن هذا التقسيم اختص به ابن الحاجب ولفظه قد كشفت كثيرا من كتب المتقدمين المعتبرة الجامعة كالبرهان لإمام الحرمين
والقواطع لابن السعان ولم يسمح الزمان بمثلهما ولا نسج عالم على منوالهما والمستصفى لحجة الإسلام الغزالي والمحصول للإمام فخر الدين الرازي والمنهاج للعلامة البيضاوي وشرحيه للأسنوي والمصنف يريد به ابن السبكي وناهيك بهما والإحكام للآمدي فلم أر فيها تعرضا لهذا الرأي ولا إشارة إليه يريد رأي ابن الحاجب ومن تبعه في تقسيم المنطوق إلى صريح وغير صريح ثم قال إمام الحرمين في البرهان ما نصه ما يستفاد من اللفظ نوعان أحدهما ما يتلقى من المنطوق به المصرح بذكره والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو مسكوت لا ذكر له على نصيه التصريح ثم قال وأما ما ليس منطوقا به ولكن المنطوق مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم انتهى
قال صاحب الآيات فانظر هذا التصريح من هذا الإمام حيث حصر ما يستفاد من اللفظ في نوعين المنطوق والمفهوم وفسر المنطوق بما يتلقى من المنطوق به المصرح بذكره فإن هذا التفسير لا يشمل إلا المعنى المصرح بلفظه فليس في كلامه تعرضا لغير المنطوق الصريح بل كلامه كالصريح في عدم إثبات منطوق غير الصريح ونقل كلام غير غير إمام الحرمين بمثل كلامه ثم
قال وبالجملة إن ما قاله ابن الحاجب ليس من كلام القوم بل هو اصطلاح له وإن تبعه الهندي وأطال المقال وقد حصل المراد من أن الإشكال متوجه على ابن الحاجب ومن تبعه كصاحب الفصول وغاية السؤال والكافل ونظمه الجامع لما فيه ثم لما فرع من أقسام المنطوق أخذ في أقسام المفهوم فقال
فصل في المفهوم ... وإن يدل لفظه المعلوم ... لا في محل النطق فالمفهوم ...
أي إن اللفظ الدال على معنى إما أن يدل بمحل النطق وقد مضى بأقسامه أو يدل لا في محل النطق كما عرفت فإنه المعنى المراد الموسوم بالمفهوم وقد قسمه الأصوليون إلى قسمين افادهما قوله ... وإنه نوعان فالموافقة ... للحكم فالمنطوق والمطابقة ...
أي القسم الأول أن يوافق حكم المفهوم المنطوق ولا يخالفه فلذا سمي بمفهوم الموافقة وهو قسمان الأول أرشد إليه قوله ... إن كان ما يسكت عنه أولا ... فإنه الفحوى وهذا الأولى ...
هذا هو أول قسمي مفهوم الموافقة ويسمى فحوى الخطاب أي إن كان ما سكت عنه أي لم يلفظ به أولا بالحكم الذي دل عليه اللفظ فهو فحوى الخطاب قال الزركشي إن الفحوى ما يفهم من الكلام بطريق القطع وقد مثلناه بقولنا
كقوله سبحانه ولا تقل ...
اقتباس من آية سبحان في قوله تعالى ولا تقل لهما أف فإن الذي سكت عنه هو تحريم الضرب أولا بالحكم وهو التحريم من التأفيف الدال عليه المنطوق وكالجزاء بما فوق مثقال الذرة من قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكعدم تأدية القنطار في قوله تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وهذه الأمثلة من قسم التنبيه بالأدنى على الأعلى وعكسه الحكم بتأدية الدينار المفهوم من قوله ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك فإنه يدل على تأدية الدينار بطريق الفحوى ولذا قلنا إنه من التنبيه بالأعلى على الأدنى وعبارة النظم شاملة للأمرين فإن المسكوت فيهما أولى بالحكم من المنطوق أي أكثر مناسبة في الحكم فإن الأذية بالضرب أكثر مناسبة للتحريم منها بالتأفيف ومثله فيما عداه من الأمثلة والقسم الثاني من قسمي مفهوم الموافقة أشار إليه قوله ... وإن يكن من غير أولى ويدل ...
أي إن يكن غري أولى بل تساوى ما دل عليه المنطوق في الحكم وما أفهمه المسكوت عنه ... فإنه لحن الخطاب اسما ...
أي فإنه يسمى عندهم لحن الخطاب فاسما منتصب على التمييز من الجملة الخبرية وخص بهذا الاسم لأن دون قسميه في الدلالة لما فيه من الخفي واللحن لغة العدول بالكلام عن الوجه المعروف إلى وجه لا يعرف إلا صاحبه وهذا اصطلاح للفرق بين القسمين ومثاله تحريم إحراق مال اليتيم وإغراقه المفهوم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى فإن دل على تحريم ذلك لمساواته للأكل في الإتلاف
واعلم أنه قد اختلف أئمة الأصول في مفهوم الموافقة هل هو بنوعيه من المفهوم أو من القياس أو ليس من المفهوم إلا ما هو منه بطريق الأولى
فقيل إنه بنوعيه من القياس لصدق حده عليه فإنه إلحاق معلوم بجامع منهما وهذا اختاره صاحب الفصول وحكاه عن الجمهور
وقيل بل هو من المفهوم فإنه يفهم ذلك منه من لا يعرف القياس الشرعي ولذا قال به كثير من نفاة القياس
وقيل في التفصيل وهو أن القسم الأول منه وهو الأولى من المفهوم لا المساوي وهذا مذهب ابن الحاجب ووافقه آخرون قالوا للقطع بفهم هذه المعاني من هذه الصيغ فإن العرب إنما يريدون بمثل هذه العبارات المبالغة في التأكيد للحكم في الموضع المسكوت عنه فيقولون لا تعطه مثقال ذرة فيكون أبلغ من المنع عما فوقها وهذا يعرفه كل من يفهم اللغة من دون نظر واجتهاد قالوا بخلاف القسم الثاني وهو المساوي فلخفائه في الدلالة يحتاج إلى نظر واجتهاد في دلالته على حكم المسكوت عنه والنظر هو بالقياس الشرعي
وقد قيل الخلاف لفظي وإنه لا تنافي بين القول بأنهما من القياس أو من المفهوم ثم اختلف من أي الأقسام دلالة مفهوم الموافقة على مدلولها فقيل إنه حقيقة عرفية بمعنى أنه في الأصل موضوع للمذكور لا غير ذلك
لكن صارت اللفظة اللفظة في العرف تدل عليه وعلى المسكوت معا وقيل دلالته عليه مجاز إذا فهمت دلالته من السياق والقرائن فتكون من إطلاق الأخص على الأعم وهو رأي الغزالي والآمدي وتحقيقه أنه أطلق التأفيف وأريد به الأذية الشاملة له وللضرب وغيرهما مما يدخل تحته وأورد عليه بأن بين التأفيف والضرب التباين لا الخصوص والعموم وأجيب بأن قرينة إرادة تعظيم الأبوين مثلا وتكريمهما قرينة تمنع أن يراد مجرد التأفيف بل يراد به تحريم الاذية بأي وجه كانت وفي هذه كفاية وفي المطولات زيادات لا تحتمل هنا ثم أشار إلى القسم الآخر من المفاهيم فقال ... ثم خذ الآخر منها قسما ...
والآخر هو مفهوم المخالفة ولذا قال ... واسمه المفهمم للمخالفه ... لأنه باينه وخالفه ...
بيان لوجه التسمية وهو أن المفهوم باين ما دل عليه المنطوق وخالفه فسمي به كما يسمى الأول بالموافقة لما وافق ما دل عليه المنطوق ويسمى أيضا دليل الخطاب كما قال ... واسمه الدليل للخطاب ...
لأن دلالته من جنس دلالة الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه
وهو ستة أقسام كما دل له قوله ... أقسامه الستة في الكتاب ...
اللام للعهد الخارجي أي الكتاب الكافل الذي هو أصل النظم ثم ذكرها وبدا بمفهوم اللقب ترقيا من الأضعف إلى الأقوى فقال
أضعفهاالمفهوم للألقاب ... أهملها جماعة الأصحاب ...
المراد من اللقب ما يشمل العلم كزيد والجنس كغنم وقد يعبر عنه بمفهوم الاسم وأكثر العلماء على عدم العمل به وخالف فيه جماعة
قال إمام الحرمين القول باللقب صار إليه طوائف من أصحابنا ونسب إلى احمد ومالك
قال ابن دقيق العيد اللقب ليس بحجة إذا لم يوجد فيه رائحة من التعليل فإن وجدت كان حجة وذلك كما في قوله صلى الله عليه و سلم وإذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها فإنه يحتج به على أن للرجل أن يمنعها إذا أستأذنته إلى غير المسجد لأن تخصيص عدم المنع بالخروج إلى المسجد قد اشتمل على معنى مناسب وهو كونه محلا للعبادة بخلاف غيره والأظهر أن فائدة تخصيص الشارع بذكر اللقب هو ربط الحكم وتعليقه به دون غيره مما يفهم منه فلم يحكم عليه بنفي ولا إثبات مثاله قوله تعالى اسجدوا لآدم تعليق بالأمر للسجود لآدم دال على أن غيره ليس بمأمور للسجود له ولا منهي عنه وهذا هو كفائدة تخصيص ذكر الصفة في القول في الغنم السائمة زكاة ويأتي تحقيق ذلك بأنه إذا لم يظهر لها فائدة غير تعليق الحكم عليها تعينت لذلك ولا ينهض دليل على غير هذا كما يأتي في الاستدلال على العمل ببقية المفاهيم إن شاء الله تعالى ثم أخذ في ذكر بقية المفاهيم فقال ... فالوصف ثم الشرط ثم الغايه ... والعد ثم الحصر في الدراية ...
أحاط النظم بخمسة أنواع من مفهوم المخالفة فالأول الصفة والمراد
هنا بها لفظ مقيد لآخر غير منفصل عنه يفيد نقص الشيوع أو تقليل الاشتراك ليس بشرط ولا استثناء ولا غاية ولاعدد فيدخل التقيد بطرف الزمان نحو الحج أشهر معلومات إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة والمكان لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
واعلم أن حقيقة الصفة ما وضع ليدل على الذات باعتبار معنى ذلك المعنى هو المقصود ويقابلها ما يكون المقصود أولا وبالذات هو الذات ولا يلاحظ سواه من حيث كونها مقصودة ولا تخرج الصفة عن هذا المعنى سواء كانت بطريق التوصيف أو الحالية أو الإضافة وهذا مراد أهل الأصول من قولهم هي لفظ مقيد لآخر لأن الصفة قيد من القيود للمحكوم عليه والقيود هي المعاني التي وضعت لتقييد الذوات فالمراد من قولهم لفظ مقيد لآخر ما يصلح أن يكون قيدا وليس ذلك إلا فيما يدل على الذات باعتبار معنى هو المقصود وقولهم لآخر أعم من أن يكون ذلك الآخر ملفوظا أو مقدرا لما علم من أن المقدر كالملفوظ مع القرينة ولأجلها يحذف الموصوف تارة والصفة أخرى كما هو مقرر في موضعه وإذا عرفت هذا عرفت أنه لا فرق بين قولنا في الغنم السائمة زكاة أو قولنا في سائمة الغنم زكاة فإن مفهومها أنه لا زكاة في معلوفة الغنم وتعرف أن تفرقة ابن السبكي بينا لماثلية أن
المقيد في المثال الأول الغنم بوصف السوم وفي الثانية السائمة بوصف كونها من الغنم وأن مفهوم الأول عدم وجوب الزكاة في الغنم العلوفة التي لولا التقييد بالسوم لشملها لفظ الغنم ومفهوم الثاني عدم الوجوب في سائمة غير الغنم كالبقر مثلا التي لولا تقييد السائمة بإضافتها إلى الغنم لشملها ويزيده وضوحا ان لقولنا في الغنم السائمة زكاة منطوقا ومفهوم الصفة ومفهوم لقب وهو بقولنا بسائمة الغنم زكاة منطوقا ومفهوم الصفة ومفهوم لقب منطوقهماواحد هو وجوب الزكاة في السائمة من الغنم ومفهوم الصفة فيهما مختلف فمفهوم الأول عدم الوجوب في الغنم المعلوفة ومفهوم الثاني عدم الوجوب في غير الغنم ومفهوم اللقب فيهما مختلف أيضا فإن مفهوم الأول عدم الوجوب في غير الغنم ومفهوم الثاني عدم الوجوب في غير السائمة غير صحيحة لأن قولنا في السائمة زكاة مما حذف فيه الموصوف كما عليه الجمهور وأصله في الغنم السائمة فجعل الصفة في سائمة الغنم ولفظ الغنم من تقليب المفاهيم وتعكيس الكلام وكذا جعله للسائمة زكاة من مفهوم اللقب باطل لأن الموصوف مقدر لأن السائمة في نفسها يتعين أن تكون صفة فإن السوم حال من أحوال الغنم ضرورة لغوية وعقلية وقد وقع بحث في هذه المسألة بين مؤلفي الفواصل رحمهم الله تعالى وبين شيخه وأبان شيخه هذا التحقيق واستحسنه ورد به على ابن السبكي وقد بسطه في موضع آخر
إذا تقرر هذا فقد اختلف في كون مفهوم الصحة حجة على أقوال
الأول للأكثر أنه حجة لشرائط ستأتي ومعناه أنه إذا ورد من الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم نص معلق بصفة ما أو زمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد يجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص فإن تعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها وذلك إذا ذكرت الصفة مع موصوفها لا إذا ذكرت مفردة نحو في السائمة زكاة ففيه اختلاف والشرط في العمل بها أن لا يكون لها فائدة سوى نفي الحكم
والقول الثاني ليس بحجة وهو قول كثير من أئمة الزيدية
الثالث التفصيل لأنها إن كانت الصفة مناسبة للحكم فحجة نحو في الغنم السائم زكاة لا إذا لم تكن مناسبة نحو في الغنم العفر زكاة
الرابع تفصيل أيضا هذا وهو أنه حجة في صور ثلاث الأولى أن يرد الخطاب للبيان الثانية أن يرد للتعليم أي ابتداء حكم لم يسبق ذكره مجملا ولا مفصلا الثالثة ان يكون ما عدا الصفة داخل تحتها بشرائط ستأتي
وقال بعدم حجيته مطلقا جماعة من الأئمة وغيرهم ومن أهل البيت المنصور والإمام يحيى قال وهو الذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة ومحققو الأشعرية كالجويني والغزالي والرازي والباقلاني وغيرهم قال الأولون لو لم يعتبر لخلي ذكره عن الفائدة وذلك يمتنع من الحكيم فهو أولى بالاعتبار من دلالة التنبيه وقد قلتم باعتبارها
ورد بأن فائدته تشخيص مناطق الحكم فهو لتحصيل أصل المعنى فهو كاللقب فإن قولك أكرم زيدا التميمي أوقعت الأمر بالإكرام على زيد المقيد بكونه تميما وليس على زيد فقط وللموصوف بالصفة فهي داخلة في مفهومه فلا يلزم من إيقاع الأمر عليه اختصاصه به كما هو المدعي بل غايته
بقاء غير المذكور في حيز الاحتمال فإن كل قضية وخطاب فإنما يعطيك ما فيه من حكم فقط ولا يعطيك حكما في غيره بأنه موافق له أو مخالف بل ذلك موقوف على دليليه فقول الجمهور إذا لم يعتبر المفهوم لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة باطل إذ فائدة ذكر الصفة تعيين من أريد بالأمر بإكرامه في المثال الذي ذكرنا وكيف تطلب فائدة زائدة على فائدة الوضع ألا ترى أن زيد القيسي مثلا بالنسبة إلى مثالنا يحتمل ثلاثة أحوال الأمر بإكرامه أو النهي عن إكرامه أو السكوت عنه ليس مأمورا بإكرامه اتفاقا ومدعي المفهوم بقول هو منهي عن إكرامه ولا دليل عليه إذا وضع الصفة لتقليل الاشتراك وقد حصل فلو أن زيدا القيسي مسكوت عنه وبهذا يعرف أن مفهوم الصفة كمفهوم اللقب وأنه يختل الكلام عند إسقاط الصفة لأن المأمور به إكرام زيد التميمي لوجود هذه الصفة فلا يتم امتثال الأمر إلا بهما وإلا لاختل الكلام ومثله إذا قلت جاءني زيد الطويل فإنه ليس المسند إليه مسمى زيد فقط بل الموصوف بالطويل فالصفة داخلة في مفهوم المسند إليه فهي لتحصيل معنى يختل الكلام من دونه ولا تدل على اختصاصه بالمجيء وإن زيدا القصير مثلا ما جاء بل هو مسكوت عن الحكم عليه يحتمل أنه جاء وأنه لن يجيء وأنه لم يخطر بالبال مجيئه وعدمه
الثاني في البيت مفهوم الشرط والمراد به ما علق من الحكم على شيء بأداة شرط وهو الشرط اللغوي واعلم أنه لا خلاف في أنه يثبت المشروط عند ثبوت الشرط بدلالة إن عليه وفي أنه يعدم المشروط عند عدم الشرط وإنما الخلاف في أن عدم المشروط مستفاد من دلالة إن عليه أو هو منتف بالأصل كمن قال بالمفهوم انتفى بدلالة إن على انتفائه ومن لم يقل به قال الأصل العدم ولذا يقال المعلق بالشرط عدم قبول وجود الشرط
والثالث منه مفهوم الغاية وهو مد الحكم إلى غاية بإلى وحتى ومثاله وأتموا الصيام إلى الليل ولا تقربوهن حتى يطهرن
قال الزركشي نص الشافعي في الأم على القول به ومنهم من أنكره وقال هو نطق لما قبل الغاية وسكوت عما بعدها فيبقى على ما كان عليه
الرابع منه مفهوم العدد نحو قوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة فالقائل به يقول أفاد تحريم الزيادة عليها وفيه خلاف بين العلماء منهم من لم يقل به ويقول تحرم الزيادة على الثمانين معلوم من أن الأصل حرمة المسلم وتحريم ضربه
الخامس منه مفهوم الحصر نحو إنما الصدقات للفقراء و إنما الولاء لمن اعتق اختلف فيه فنفاه قوم وقال آخرون إنه منطوق فإن المثال الثاني أفاد إثبات الولاء للمعتق بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم ومنه النفي بما أو لا والاستثناء نحو لا عالم إلا زيد وما علم إلا زيد صريح في نفي العلم عن غير زيد ويقتضي إثبات العلم له وجانب الإثبات فيه أظهر فلذا جعلوه منطوقا فيفيد الإثبات منطوقا والتقي مفهوما وقد أنكره قوم كما يأتي في بحث الاستثناء وقوم قالوا إنه منطوق والأكثر قالوا إنه مفهوم
ومن طرق الحصر ضمير الفصل نحو زيد هو القائم ويفيد إثبات القيام له ونفيه عن غيره ومنه فالله هو الولي بعد قوله أم اتخذوا من دونه أولياء وقوله إن شانئك هو الأبتر ذكره أئمة علم البيان
ومن طرقه تقديم المعمول نحو إياك نعبد وإياك نستعين أي نخصك بالعبادة والاستعانة
وله طرق أخر معروفة في علم البيان ومطولات الفن قال في جمع الجوامع إن أعلاه لا عالم إلا زيد أي النفي والاستثناء وأشرنا ان قوما يجعلون مفهوم الحصر منطوقا وقال آخرون إن العدد أيضا منه فأشار إليه قوله ... وقيل منطوقان عند البعض ... وهو لدى التحقيق غير مرض ...
عبارة أصل النظم وقيل هما أي المقدم ذكرهما في كلامه وهو العدد والحصر بإنما من المنطوق فضميرهما في كلام الأصل للعدد والحصر بإنما قيل ولم يقل أحد بأن مفهوم العدد منطوق فلا يصح كلام أصل النظم وإنما الخلاف في الحصر بما وإلا قال بعض الجدليين إنه منطوق بدليل أنه لو قال ما له علي إلا دينار كان إقرارا بالدينار حتى يؤاخذ به فلولا أنه منطوق لما ثبتت المؤاخذة به لأن دلالة المفهوم لا تعتبر في الأقارير بالاتفاق وأشار في جمع الجوامع أنه قيل إنه منطوق أيضا
واعلم أن ترتيبها عندهم في القوة كما رتبناه نظما وفيه بعد ذلك خلاف وأنه لا بد للعمل بالمفهوم عند القائلين به من شروط تضمنها قوله ... هذا وشرط الأخذ بالمفهوم ... ما قد أتى فخذه من منظوم ... أن لا يكون مخرجا للأغلب ... ولا جوابا لسؤال أجنبي
أي للأخذ بالمفهوم والعمل به شرائط
الأول ألا يكون خرج مخرج الأغلب لأنه يكون كالوصف الكاشف نحو الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله فإنه لا مفهوم لهذه الصفات ومثل الأصوليون ذلك بقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم التقييد بالوصف وهو الكون في الحجر لكونه الأغلب في الربيبة ومثله إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فالتقييد بالسفر يكون عدم وجدنا الكاتب فيه هو الغالب فيصح الرهن في الحضر قال في شرح الأصل لم يرد في ذلك أي قيد الكون في الحجور أن الربائب إذا لم يكن في الحجر كان حلالا للإجماع على تحريم الربيبة مطلقا انتهى وليس كذلك فإنه فيه خلاف داود ومالك وفيه رواية عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنها إذا كانت بعيدة حلت له ذكره ابن عطية وغيره مسندا وفيه خلاف كثير لجماعة من المحققين وخالف في هذا الشرط إمام الحرمين وابن عبدالسلام
الثاني من الشروط أن لا يكون جوابا لسؤال سائل كما أشار إليه عجز البيت وذلك كأن يقول السائل في الغنم السائمة زكاة فيجاب عليه بأن في الغنم السائمة زكاة فلا يؤخذ منه أن المعلوفة لا زكاة فيها
والثالث منه قوله ... ولا أتى في حادث تجلدا ... وليس في جهالة قد وردا
أي من شرط الأخذ بالمفهوم أن لا يأتي بسبب حادثة تجددت كأن يقال في حضرته صلى الله عليه و سلم لفلان غنم سائمة فيقول فيها زكاة فإنه لا يعمل بهذا المفهوم ومثال الثاني أن يعتقد المكلف أن في المعلوفة زكاة ولم يعلمها في السائمة فيقول صلى الله عليه و سلم في السائمة زكاة فلا يؤخذ بهذا المفهوم قالوا لأنه صلى الله عليه و سلم لم يرد في الأول التقييد بل أراد مطابقة السؤال
وفي الثاني بيان أنها في السائمة كما في المعلوفة قالوا ولما كانت دلالة المفهوم من أضعف الدلالات تصرفها أدنى فائدة تظهر بخلاف اللفظ العام إذا ورد على سبب خاص أو حادثة فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن العام قوي الدلالة على إفراده حتى ادعت الحنفية أنه قطعي الدلالة على كل فرد من أفراده فهذه الأربعة الشروط كما ذكره تنبيها على فوائد القيود وأنها إذا تعينت فائدة منها لم يبق على اعتبار المفهوم دليل
قالوا ومن شرط الأخذ به أن لا يكون للمتكلم غرض غير المفهوم فيؤخذ به لئلا يخلو كلام الحكيم عن حكمة وغرض وفائدة
قال في نجاح الطالب يقال لهم الوحي مختص بعلام الغيوب وما عندنا من معرفة حكمه الأمثل ما يأخذ المخيط من البحر قل لو كان البحر مداد لكمات ربي الآية لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام فإذا كان هذا حالنا الذي لا نفك عنه فكيف نعلم أو نظن نفي جميع حكمه في أمر ما هذا إلا حالة على المحال انتهى قلت ونعم ما قال وكان الأحسن أن يقول معرفة الله مراد الله للشيء لا تكون
إلا بالوحي ومعرفة عدم إرادة العباد لا يعرفها إلا خالقهم ولما كانت الفوائد لا تنحضر فيما ذكرناه أتى النظم بضابط فقال ... وغيره مما اقتضى التخصيصا ... لذكره فاتبع التنصيصا ...
أي وغير ما ذكرنا مما اقتضى تخصيص الحكم المذكور بالقيد كزيادة الامتنان في قوله لتأكلوا منه لحما طريا فلا يدل على نفي الأكل من القديد والتهويل مثل لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فلا يفيد حل أكله إذا لم يكن كذلك والتعبير للمخاطب نحو قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا بأنه من ليس بأهل للعفة قد أرادها دون أهلها وكقصد التكثير فالألف والسبعين كقولك جئتك ألف مرة أو سبعين ولم يرد إلا التكثير فالألف لا حقيقة العدد فقولهم أسماء العدد نصوص فيما وضعت له المراد إذا لم تقم قرينة تصرفها عنه
والحاصل أنه لا يعتبر المفهوم إلا بأن لا يظهر للقيد فائدة تقتضي تخصيصه بالذكر سوى نفي الحكم وعلى هذا اقتصر جماعة من أئمة الأصول
واعلم أن للناس ثلاثة أقوال في المفهوم الأول القول به حتى مفهوم اللقب قال به الدقاق والصيرفي والثاني عدم القول به وهو رأي جماعة كثيرة منهم الظاهرية قال ابن حزم كل خطاب وكل قضية فإن ما تعطيك ما فيها فقط ولا تعطيك حكما في غيرها لأن ما عداها موافق لها ولأنه مخالف لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله فنفى مفهوم الموافقة
ومفهوم المخالفة وأطال في رد الأمثلة ووافق الحنفية فإنهم ينكرونه لكن لهم تفاصيل أخر
واعلم أنه لما شاع عن الحنفية نفي المفاهيم هجن عليهم من لم يحقق مرادهم بأنه يلزمه أن تكون كلمة التوحيد غير دالة على إثبات الإلهية لله تعالى وهذا يخالف ما أتفق عليه من إثباتها له تعالى أمر لا نزاع فيه فرايت أن أنقل نصهم من المنار وشرحه ليعرف مرادهم قال والاستثناء يمنع التكلم بحكمه أي مع حكمه بقدر المستثني
أي يمنع في المستثنى نظرا إلى الظاهر لعدم الدليل الموجب له مع صورة التكلم بقدر المستثني فيسير التكلم به عبارة عما وراء المستثنى فيكون الاستثناء مانعا للموجب والموجب جميعا بقدر المستثنى فينعدم الحكم فالاستثناء لانعدام الدليل الموجب له من صورة التكلم فيجعل الاستثناء تكلما بالباقي بعده أي بعد المستثنى وعند الشافعي يمنع الحكم بطريق المعارضة يعني الموجب لا الموجب كما في التعليق وعندنا يمنع كليهما كما في التعليق فصار تقدير قول الرجل لفلان علي ألف إلا مئة عندنا ثبت لفلان علي تسع مئة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المئة وعنده أي الشافعي إلا مئة فإنها ليست علي فإن صدر الكلام يوجبه والاستثناء ينفيه فتعارضا فتساقط بقدر المستثنى واستدل الشافعي ومن معه بإجماع أهل اللغة على أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وهذا دليل على أن حكمه يعارض حكم المستثنى منه ولأن
قوله لا إله إلا الله للتوحيد أي وضع لإفادته ومعناه النفي والإثبات فلو كان تكلما بالباقي لكان نفيا لغيره أي نفيا لما سوى الله تعالى لأنه هو الباقي بعد الاستثناء لإثباته للألوهية لله فيصح من كونها كلمة التوحيد بالإجماع أن معنى قولنا إلا الله أنه الإله بطريق المعارضة ولنا قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الإيجاب يكون أي الإنشاء يثبت لا في الأخبار لأنه لو ثبت حكم الألف بجملته ثم عارضه الاستثناء في الخمسين لزم كونه نافيا لما أثبته أولا فلزم الكذب في أحد الأمرين تعالى الله عن ذلك ومن أدلتهم أي الحنفية أن أهل اللغة قالوا الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي الثنيا أي المستثنى كما قالوا إنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وإذا ثبت الوجهان وجب الجمع بينهما لانه هو الأصل
وقالت الحنفية نقول إنه تكلم بالباقي بوضعه أي بحقيقته وعبارته لأنه هو المقصود الذي سيق الكلام لأجله ونفي وإثبات بإشارته لأنهما فهما من الصيغة من غير أن يكون سوق الكلام لأجلهما لأنهما غير مذكورين في المستثنى قصدا لكن لما كان حكمه خلاف حكم المستثنى منه ثبت النفي والإثبات ضرورة لأنه حكمه يتوقف بالاستثناء كما يتوقف بالغاية فإذا لم يبق بعد الاستثناء ظهر النفي لعدم علة الإثبات وسمي نفيا مجازا
تحقيق ذلك أن الاستثناء بمنزلة الغاية من المستثنى منه لكون الاستثناء بيانا أنه ليس مرادا من الصدر كما أن الغاية بيان أنها ليست مراده من المغيا
فكما أن الاستثناء يدخل على النفي فينتهي بالوجود وعلى الإثبات فينتهي بالنفي فكذلك الغاية ينتهي بها الحكم السابق إلى خلافه وهذا المجموع ثابت بحسب اللغة لكن لما كان الصدر مقصودا جعلناه عبارة والثاني لما لم يكن مقصودا بل ليتم به الصدر جعلناه إشارة ولذلك اختير في كلمة التوحيد لا إله إلا الله ليكن إثبات الألوهية لله تعالى إشارة ونفيها قصدا لأن المهم في كلمة التوحيد نفي الشريك مع الله تعالى لأن المشركين أشركوا معه غيره فيحتاج إلى النفي قصدا وأما إثبات الألوهية لله تعالى فمفروغ منه غير محتاج إلى اثباته بالقصد لأن كل عاقل معترف به قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فيكفي في إثبات ذلك الإشارة وهذا الحصر من قبيل قصر الإفراد
ولقائل أن يقول الاستثناء نص في خروج حكم المستثنى من حكم المستثنى منه حتى لا يصح إثبات مثل حكمه معه بخلاف الغاية فإنه ليس كذلك حتى يصح سرت إلى البصرة وجاوزته ولا يصح أن تقول جاءني القوم إلا زيدا فإنه جاء هكذا أورده شارح المنار على أصحابه ولم يجب عنه ثم قال والجواب عما قال الشافعي إنما يكون بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل كالنسخ فإن نسخ الكل جائز كبعضه ولم يستو الكل والبعض في الاستثناء فإن استثناء الكل باطل اتفاقا لا يقال إنما لا يصح استثناء الكل لأنه رجوع بعد الإقرار لأنا نقول لا يصح استثناء الكل فيما يصح فيه الرجوع كالوصية فإنه يصح الرجوع عنها ومع هذا لا يصح استثناء الكل فلو قال أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي فالاستثناء باطل لأنه لم يبق بعد الاستثناء شيء يكون الكلام عبارة عنه
ولقائل أن يقول إنما لا يصح استثناء الكل لأنه يؤدي إلى التناقض وهو غير معقول بخلاف نسخ الكل فإنه لا يؤدي إليه لاختلاف الزمان انتهى
وأقول قد اتفق الفريقان بأن كلمة لا إله إلا الله قد دلت على نفي الألوهية عما سواه وإثباتها له لكن إثباتها له تعالى سماه الحنفية إشارة وسموا
النفي عبارة نظرا إلى المقصود بالكلام وانه لم يسق أصالة إلا لنفي الألوهية عن غيره تعالى واما إثباتها له فغير مقصود من الكلام لأن كل عاقل يعتقده
قلت ولذا قالوا في الأصنام إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فلم يكونوا نافين له بل أثبتوا معه غيره فخوطبوا بكلمة التوحيد والقصد نفي الألوهية عن غيره تعالى ولذا قال إنه قصر إفراد وعلى رأي من أثبت المفهوم إنهما أي النفي والإثبات قصدا سواء النفي والإثبات وأنها أفادت إثبات الأولهية له تعالى كما أفادت نفيها عما سواه لكن الأول سموه مفهوم قصر والثاني منطوق والقصد فيهما سواء إلى إثبات الحكم ونفيه إنما اختلفت طريقة الدلالة وفي مثل له علي ألف إلا مئة الحكم منصب إلى تسع مئة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المئة فقد اتفق الفريقان أنه لا يلزمه إلا تسع مئة فالحكم في المستثنى منعدم لانعدام الدليل الموجب له في صورة التكلم به
واعلم أن مثبت الحكم هنا للمفهوم إنما يقول به في الاستثناء المتصل وبه يعرف بطلان قول من قال إنها تظهر فائدة الخلاف فيما إذا استثنى خلاف الجنس كقوله لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إلى آخر كلامه فإن هذا استثناء منقطع وليس الكلام فيه
واعلم أن الاستدلال بإجماع أئمة العربية بأنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وقد قدح فيه بأن الكوفيين لا يقولون بذلك كما نقله الزركشي في شرح الجمع ونقله ابن عقيل وغيره عن الكناني بأن جاءني القوم إلا زيدا معناه القوم المخرج منهم زيد دون نظر إلى الحكم على زيد بالمجيء أو عدمه ولا بد إن شاء الله من زياد تحقيق يأتي في التخصيص بالاستثناء
واعلم أنه أثبت القول بالمفاهيم مخالفة وموافقة جماعة كما عرفت ونفاه الظاهرية جملة حتى الموافقة نحو دلالة فلا تقل لهما أف على النهي عن الضرب فقالوا لا يدل عليه
قال أبو محمد بن حزم هذا مكان عظيم فيه أخطأ كثير من الناس وفحش جدا واضطربوا فيه اضطرابا شديدا وذلك أن طائفة قالت إذا ورد النص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه و سلم معلقا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفات وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص وتعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها
وقالت طائفة أخرى وهم جمهور أصحابنا الظاهرية وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه بل يكون ذلك موقوفا على دليله
قال أبو محمد وهذا هو الذي لا يجوزغيره لأن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها فقط ولا تعطيك حكما في غيرها لا على أن ما عداها مخالف لها ولا أنه موافق لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله
ثم قال أما قول الله تعالى فلا تقل لهما أف فلم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربها ولا قتلهما ولما كان فيها إلا تحريم قول أف فقط ولكن لما قال الله تعالى في هذه الآية نفسها وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني
صغيرا اقتضت هذه الألفاظ من الظاهر حذف من من الإحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل لهما والرحمة بهما والمنع من الانتهار لهما وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق فهذه الألفاظ والأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى والمنع من كل ضرب وعقوق بأي وجه كان لا بالنهي عن قول أف ولا بألفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرأ منهما او منعهما رفده في أي شيء كان في غير الحرام فلم يحسن إليهما ولا خفض لهما جناح الذل من الرحمة ولو كان النهي عن قول أف مغنيا عما سواه من وجوه الأذى إذا لما كان لذكره تعالى في الآية نفسها مع النهي عن قول اف النهي عن النهر والأمر بالإحسان وغيرهما فائدة فلما لم يقتصر على الأف وحده بطل قول من ادعى ان يذكر الأف علم ما عداه وصح ضرورة أن لكل لفظة من ألفاظ الآية معنى غير معنى سائر ألفاظها
إلى أن قال ومن البرهان الضروري على أن نهي الله عن أن يقول الإنسان لوالديه أف ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عن ما عدا الأف أنه متى حدث عن إنسان أنه قتل آخر وضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود وقد بصق في وجهه فيشهد عليه من شاهد ذلك كله فقال الشاهد إن زيدا يعني القاتل والقاذف والضارب قال لعمرو أف أعني المقتول أو المقذوف أو المضروب لكان بإجماع منه ومنهم كاذبا آفكا شاهدا بالزور مردود الشهادة
قال أبو محمد فكيف يدين هؤلاء القوم أن يحكم بما يقرون أنه كذب وكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله الحكم بما يشهدون أنه كذب ونحن نعوذ بالله أن نقول نهى الله عن قول اف للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب والقذف لهما أو القتل والقذف فإذا لا شك عند كل من له معرفة بشيء من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شيء من ذلك أف ثم
تكلم عن كل مثال من تلك الأمثلة وأطال المقال في ذلك بما لا تحتمله هذه الإجابة والله يهدينا إلى كل توفيق وإصابة
فإن قلت فيجوز على كلامه من عدم القول بمفهوم الموافقة وأنه لا نهي إلا عن الأف أن يقول لأبويه هما فاجران أو فاسقان لأنه إنما نهى عن الأف ويجوز ضربهما ونحوه
قلت من اين هذا الجواب فإن هذا أعني اللفظ من الفاجر والفاسق منهي عنه في حق كل مسلم نهيا متيقنا من تحريم الأعراض كما أن الضرب منهي عنه كذلك من تحريم ضرب المسلم وإن ظهر المؤمن حمى والتأفيف محرم أيضا بالتحريم الأصل إنما نص عليه الشارع لأن الولد عند بلوغ أبويه الكبر أو أحدهما يتضجر من طول صحبتهما وغالب ألفاظ المتضجر والمتبرم من أمر أن يقول أف لهذا الأمر كما قال ... وإذا الشيخ قال أف فما م ... ل حياة ولكن الضعف ملا ...
فإن قلت هم لا يقولون إن قوله لا تقل لهما أف نهي عن الضرب والقذف إلى آخر ما هجن به عليه
قلت بل هم قائلون إن دلالة هذه العبارة القرآنية على النهي عن الضرب والقتل أولى من دلالتها على التأفيف لكنهم لا يقولون الأف موضوع لغة للنهي عن الضرب والقتل وغيرهما حتى إذا قال القائل لا تقل لزيد أف أنه نهي عن ضربه مأخوذ من صيغته بل يقولون إنه يفهم بكون المتكلم حكيما لا ينهى عن أدنى الأذية مع الإذن في أعلاها بل إذا نهى عن أدناها أفاد نهيه عن أعلاها بقرينة المقام وإنه لو قال لا تقل لزيد أف واضربه لعد غير موافق لطريقة اللغة والحكمة والكمال
وبعد الفراغ من بيان المفهوم والمنطوق أخذنا في بيان الحقيقة والمجاز بقولنا
الباب الرابع حقيقة الكلام مع المجاز ... باب حوى حقيقة الكلام ... مع المجاز فاستمع نظامي ...
الحقيقة فعلية من حق الشيء بمعنى ثبت ومن قوله تعالى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وهي إما بمعنى الفاعل أي الثابت فالتاء فيها للتأنيث أو بمعنى المثبت من حققت الشيء أحقه بمعنى أثبته فالتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالنطحية ولذا لا يقال بهيمة نطيحة وقد نقلت إلى اللفظ الموضوع بالمعنى الاصطلاحي الذي يفيده قولنا ... وعرفت بالكلمة المستعمله ... في الاصطلاح فالذي توضع له ...
عرفها أئمة البيان وغيرهم بالكلمة المستعملة بما وضعت له في اصطلاح التخاطب فخرج بالأول المهملة وما وضع ولم يستعمل فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز وخرج بقيد اصطلاح التخاطب الصلاة إذا استعملها المتكلم باصطلاح الشرع في الدعاء فإنها مجاز بالنظر إليه ودخلت في الحد بالنظر إلى استعمالها بالعرف الشرعي في الصلاة الشرعية فإنها حقيقة ولما كانت لها أقسام أفادها قولنا
أقسامها أصلية عرفية ... تعم أو تخص والشرعية ...
قسم العلماء الحقيقة إلى لغوية وهي ما يكون واضعها واضع اللغة وضعا أصليا وعرفية وهي ما تغلب في العرف في غير معناها الأصلي وهي قسمان إن لم يتعين ناقلها فعرفية عامة ومثلوها بلفظ الدابة فإنها في اللغة بكل ما يدب فخصصها العرف العام بذوات الأربع أو تعين ناقلها فهي الخاصة وذلك كألفاظ اصطلاحات أهل العلوم وغيرهم كالرفع وتخفض لألقاب الإعراب وكل أهل فن لهم ألفاظ مصطلحة فالعموم والخصوص في العرفية من حيث تعين الناقل وعدمه والشرعية هي ما استفيد وضعها من الشارع كالصلاة لذات الأركان والأذكار والزكاة لأخراج جزء معين بتعيين الشارع من المال ومنها الدينية وهذه ما نقلت إلى أصول الدين كالإيمان والفسق والمؤمن والفاسق ونبه النظم عليها بقوله فيما يأتي دينية منها للإشارة إلى أنها ليست بقسم مستقل بل هي داخلة في الشرعية وإنما جعلها المتأخرون قسما مستقلا وإلا فهي شرعية والمتقدمون أدمجوها فيها ثم للحقيقة تقسيم آخر وهو باعتبار تعدد اللفظ والمعنى أو اتحادهما فهذه أربعة أقسام
الأول أفاده قولنا ... دينية منها فإن تعددت ... لفظا ومعنى فبذا تباينت ...
الضمير للحقيقة أي تعددت الحقيقة لفظا ومعنى أو الكلمة الدالة عليها قرينة الكلام وهو أولى لأن المعروف عندهم تقسيم الكلمة إلى ذلك أعم من كونها حقيقة أو مجازا وهو أولى لأن المعروف عندهم تقسيم الكلمة إلى ذلك أعم من كونها حقيقة أو مجازا وذلك كالإنسان والفرس والسواد والبياض وتسمى متباينة لتباينها دلالة ولفظا كما أشار إليه قولنا فبذا تباينت وهذا القسم الأول
والثاني وهو باعتبار الاتحاد لفظا ومعنى أفاده بقوله ... ما لم فإن يتحدا فمنفرد ...
أي ما لم يتعدد لفظا ومعنى وهو ينقسم أيضا فإن اتحد اللفظ والمعنى بأن وجد المراد في لفظ واحد لا تعدد فيه البتة فإنه المنفرد فيدخل فيه الجزئي الحقيقي كزيد والإضافي كالإنسان بالنظر إلى الجنس فإن مفهومه واحد من هذه الجهة فالمتواطىء والمشكك ليس بداخلين تحت هذا القسم بل هما قسم مستقل ومن الناس وهو الأكثر من يجعلهما من هذا القسم المتحد لفظا ومعنى
القسم الثالث قوله ... وإن تعدد لفظه ويتحد ... معناه منها فهو بالترادف ...
معناه منها أي ما تعدد لفظه واتحد معناه فهو القسم المعروف بالترادف أي يسمى به وهو معنى قولنا في صدر البيت الآتي يدعى وهو في عرف الأصوليين توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد وذلك كالإنسان والبشر والأسد والليث وفوائده كثيرة منها أنه قد يضطر إلى لفظ ليوافق القافية والروي ويحتاج إليه في رواية الحديث بالمعنى وغير ذلك
والقسم الرابع ما أفاده قوله ... يدعى واما عكسه فاستأنف ...
أي عكس ما قبله وهو ما اتحد لفظه وتعددت معانيه بحيث لا يمنع تصور معناه من وجود الشركة فيه وقوله فاستأنف جواب إما أي استأنف تقسيمه فهذا تقسيم مستأنف وهو قسمان
الأول وهو المراد من قوله ... إن وضع اللفظ بأمر كلي ... فيه اشتركن فاستمع ما أملي ...
أي إن وضع اللفظ بتلك المعاني باعتبار أمر كلي اشتركن أي المعاني فيه ... فإنه مشكك للنظر ... إن كان بعض منه أولى فانظر ...
أي فإنه يسمى مشككا إن تفاوتت أفراده بأولية أو أولوية كما أفاده قولنا إن كان بعض منه أولى ومثاله قوله ... مثاله الموجود للرحمن ... سبحانه وللحديث الفاني ...
فإن لفظة موجود تطلق عليه تعالى وتطلق على المخلوق المحدث فالباري بها أحق وأولى لأن معناه في حقه أقدم وأتم وقولنا إن كان بعض منه أولى يشمل ما ذكر ويشمل ما كانت الأولوية باعتبار الشدة والضعف كالبياض يطلق على الثلج والعاج مثلا فإنه أشد منه في الثلج وأقوى من العاج وهذا أول القسمين وهو المشكك سمي بذلك لأنه أوقع الناظر في الشك هل هو متواطىء نظرا إلى اشتراك الأفراد في أصل المعنى أو مشترك نظرا إلى التفاوت المذكور
والثاني أفاده قولنا ... وإن يكن يطلق بالسويه ... فهوالتواطؤ بغير مريه ...
أي وإن لم تتفاوت افراده بالأولوية بل أطلق عليها بالسوية فإنه يسمى بالمتواطىء وذلك كالإنسان فإن دلالته على أفراده متساوية فإن الإنسانية في زيد ليست بأولى منها في عمرو ولا أقدم ولا أتم ويسمى متواطئا أخذا من التواطؤ وهو التوافق وإذا عرفت هذا فإنه دخل تحت القسم الرابع وهو ما اتحد لفظه وتعددت معانيه ثم فيه أقسام يفيدها قولنا
أو تختلف حقائق المعاني ... فالجنس أولى فتراه الثاني ...
أي ما اتحد لفظه وتعددت معانيه لا يخلو ما إن تختلف حقائق المعاني الداخلة تحته فهو الجنس فإن حقيقته المقول علىالكثرة المختلفة الحقائق في جواب ما هو مثاله الحيوان فإنك إذا قلت ما الفرس والإنسان مثلا كان السؤال عن تمام الماهية المشتركة بينهما فيقال في جوابه حيوان وهذا هو أحد الكليات الخمس المعروفة في فن المنطق
والثاني من أقسام ما نحن بصدده أشار إليه قوله أولى فتراه الثاني أي ولا تختلف حقائق ما تحته فهو القسم الثاني ويسمى نوعا كما يفيده قولنا الآتي أعني به النوع وعرفوه بما يقال على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو وذلك كالإنسان فإنك إذا قلت ما زيد وما عمرو مثلا كان سؤالا عن تمام الماهية المشتركة بينهما فيقال إنسان لأنه النوع الذي طولب بالسؤال لأنه سؤال عن طلب الحقيقة فأجيب بما يطابقه فتحقيق هذه موضعه علم المنطق وقد عرفت معنى صدر قولنا ... اعني به النوع وبعض يعكسه ... أمثالها واضحة لا تلبس ...
وهذه إشارة إلى أن الذي سلف عرف أهل علم المنطق وأما الأصوليون وهو المراد بالبعض فإنهم يعكسون فيقولون للجنس النوع وللنوع الجنس فيجعلوه المندرج جنسا والمندرج تحته نوعا وهذا اصطلاح لا مشاحة فيه وإلى هنا تقاسيم المشترك المعنوي الداخل تحت قوله إن وضع اللفظ بأمر كلي وهو من القسم الرابع كم عرفت وهو المتحد لفظا المتعدد معنى وما اتحد لفظه وتعددت معانيه فهو القسم الذي أفاده قولنا ... وإن وضعت اللفظ للمعاني ... لكن لفظ منه وضع ثاني ...
وهذا القسم المشترك اللفظي وهو قسيم المشترك المعنوي الذي عرفته إذ هما معا داخلان تحت مقسم واحد وهو المتحد لفظا المتعدد معنى كما عرفناك ولذا قلنا
فإنه المشترك اللفظي ... ودونك المجاز يا مرضي ... إلى اشتراك بينها مرعيا ... فسمه مشتركا لفظيا ...
فقوله إن وضعت أي اللفظ الواحد كما دل قوله بكل لفظ ودخل المنفرد في هذا وخرج بقولنا للمعاني لأن المعنى فيه متحد كما عرفت وقوله لكل لفظ منه وضع ثان فصل يخرج به المشكك والمتواطىء وقوله مرعيا إيضاح يراد به أن الاشتراك المقصود هو ما روعي في أصل الوضع ولوحظ بخلاف الاشتراك في مجرد اللفظ وليس مما يراعي في أصل الوضع ويستقل بالإفادة
ومثال ما جمع القيود لفظ العين يطلق على الباصرة وعلى الفوارة وعلى عين الشمس وعين الذهب وكالقرء للطهر والحيض وعسعس لأقبل وأدبر فكل واحد من هذه وضع لكل معنى على انفراده وضعا مستقلا من غير اشتراك بينها في أمر روعي
وللعلماء خلاف في وقوعه فالجمهور عليه وخالف أئمة وقالوا لا يقع قالوا لأن الغرض من وضع الألفاظ فهم المعنى المقصود للمتكلم والاشتراك يخل بذلك فيكون وضعه سببا للمفسدة والواضع حكيم لا يجوز عليه ذلك وأجيب بأن قرائن السياق والمقام تحصل غرض المتكلم ومع القرائن تذهب المفسدة ولا نسلم خلو المقام والسياق من قرينة وهو واقع فيما مثلناه
قال المانع من وقوعه هذه الأمثلة محمولة على أنها من باب الحقيقة والمجاز وأجيب بأنه يستعمل القرء في الحيض والطهر على سبيل البدل من غير ترجيح وما كان كذلك فهو مشترك والقول بخلاف هذا وإطالة الردود قول بخلاف الظاهر وأما إطلاق المشترك على جميع معانيه ففيه أبحاث في مطولات الفن لا يتسع هذا المختصر بتطويله بها والمقصود من الحقيقة وأقسامها قد وفى به ما أسلفناه نظما ونثرا
وعند الفراغ منه أخذنا في المجاز فقلنا
فصل حوى الكلام في المجاز ... مختصرا لمقتضى الإيجاز ...
المجاز لغة العبور والانتقال نقل إلى ما ذكر من استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بشرط القرينة لأن المجاز باعتبار معناه الأصلي طريق إلى معناه المستعمل فيه ورسمه اصطلاحا أفاده قوله ... ورسمه اللفظ الذي يستعمل ... في غير موضوع له قد نقلوا ... في عرف من يطلق للعلاقة ... قد صحبت قرينة إطلاقه ...
أي حقيقة المجاز هو اللفظ الذي يستعمل في غير موضوع في عرف من يطلقه للعلاقة مع قرينه فقولنا اللفظ الذي يستعمل في غير موضوع خرج به اللفظ قبل الاستعمال بعد الوضع فإنه ليس بمجاز ولا حقيقة والظرف متعلق بيستعمل فخرجت الحقيقة وقوله في عرف من يطلق أي يطلق اللفظ يدخل به الصلاة في عرف الشرع إذا استعملت في الدعاء مجازا فإنه وإن كان استعمالا فيما وضع له أصالة فليس بمستعمل في عرف من يطلقه اعني الشارع وخرج به أيضا لفظ الصلاة إذا استعملت في عرف الشرع وقولنا للعلاقة يخرج الغلط نحو خذ هذا الكتاب مشيرا به إلى فرس فإنه وإن صدق عليه أنه استعمل في غير ما وضع له لكن ليس لعلاقة والعلافة بالفتح تطلق على المعاني كعلاقة الحب وبالكسر على الأعيان كعلاقة السيف والمراد بها هنا تعلق ما للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي
واعلم أنه لا بد لكل مجاز من علاقة وقرينة فالعلاقة هي المجوزة للاستعمال والقرينة هي الموجبة للحمل عليه وقوله مع قرينة أي مفيدة للمعنى المجازي صارفة للفظ عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي وبه تخرج الكناية لأنها مستعملة في غير ما وضع اللفظ له مع جواز إرادة المعنى الحقيقي قإن قلت ما الفرق بين قرينة المجاز وقرينة المشترك قلت الفرق
واضح لأن قرينة المشترك معينة للمعنى المراد من اللفظ الحقيقي وقرينة المجاز صارفة عن إرادته أي المعنى الحقيقي ومقيدة له إن قلت تعيين القرينة أحد معاني المشترك صارفة أيضا للمعنى الآخر قلت ليس المقصود منها إلا التعيين وإن استلزمت الصرف فليست فيه مقصودة لأجل الصرف بل لأجل التعيين والحاصل أن المشترك موضوع للدلالة بنفسه وإنما حصل الإيهام من الاستعمال فكانت قرينته لتعيينه بخلاف قرينة المجاز فإنها محصلة لأصل المعنى المجازي صارفة عن المعنى الحقيقي ثم اعلم أن العلاقة المشار إليها قد تكون المشابهة وقد تكون غيرها فانقسم بسببها المجاز قسمين مجاز مرسل واستعارة أشار إلى الأول بقوله ... وإنه نوعان منها المرسل ... كاليد للنعمة فيما مثلوا ...
هذا هو النوع الأول وهو المجاز المرسل وهو ما كانت علاقته المصححة لإطلاقه غير المشابهة بين المعنى الحقيقي والمجازي ولذا سمي مرسلا لإرساله عن التقييد بالمشابهة كما قيد بها قسيمه ومثلوه بإطلاق اليد على النعمة في قولهم لفلان عندي يد بعلاقة هي كون اليد الجارحة بمنزلة العلة الفاعلية للنعمة من حيث أنها منها تصدر وتصل إلى المقصود بالنعمة كما تصل باليد إلى ما يراد والعلاقة تسمى السببية أو الملازمة والعلاقات قد عدت في فن البيان بلا زيادة على عشرين علاقة ولا حاجة إلى استيفائها هنا لأن لها فنا آخر هو علم البيان وقد استكمل عددها في شرح الغاية الثاني من نوعه قوله ... ثانيهما يدعونه استعاره ... كأنشب الموت به أظفاره
سموه استعارة لانك مع قصدك التشبيه كأنك استعرت له الصفة التي أردت اتصاف المشبه بها وهي مجاز لغوي وهو قول الجمهور وبعضهم يجعلها مجازا عقليا وهي أنواع منها الاستعارة بالكناية وبها مثل الناظم وهو أن المتكلم شبه الموت بالسبع بجامع اغتيال النفوس ورمز إليه بما هو من لازمه والمثال إشارة إلى قول الشاعر ... وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ...
وهو الأظفار وقوله أنشبت ترشيح للاستعارة وإثبات الاظفار استعارة تخييلية والقسم الثاني من الاستعارة الاستعارة المصرحة مثل رأيت أسدا في الحمام فإنه استعير لفظ أسد الشجاع وأطلق عليه استعارة وأتى بالقرينة وهي قوله في الحمام
واعلم أن أهل الأصول يطلقون المجاز على ما يشمل الكناية وهي نحو فلان طويل النجاد كناية عن طول القامة ولكنهم يحذفون لفظ القرينة من تعريف المجاز فتعريفنا في النظم على رأي أهل البيان فإنهم يجعلون الكناية قسما مستقلا ليس بحقيقة ولا مجاز وقد وقع التقييد بما قيدنا به في بعض كتب الأصول ثم اعلم أنه قد يطلق المجاز على ما يشمل المفرد والمركب والإسناد وإليه يشير قوله ... ويدخل التركيب والإفرادا ... كما تراه يدخل الإسنادا ...
أي ويقع المجاز في المركب وحقيقته اللفظ المستعمل فيما يشبه بمعناه الأصلي نحو أراك تقدم رجلا وتأخر أخرى حيث يراد به تشبيه المتردد في أمر بصورة من قام يذهب إلى حاجة فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة
لا يريد فيؤخر أخرى فاستعمل الكلام من غير تغيير شيء منه سواء نقله إلى هذه الصورة تشبيها بتلك الصورة وتسمى الاستعارة التمثيلية
وقوله والإفراد أي أنه يقع المجاز في المفرد وتقدمت أمثلته فالمراد من التركيب في عبارة النظم والإفراد المركب والمفرد فهما مصدران بمعنى اسم المفعول بقرينة قوله يدخل الإسناد فإن المجاز الإسنادي هو مجاز التركيب ومجاز الإسناد هو المسمى بالمجاز العقلي وحقيقته إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير من قام به عند المتكلم نحو أنبت الربيع البقل وجرى النهر ونحو ذلك مما يعرف من علم البيان تفاصيله ولما عقد الأصوليون مسألة معنوية بأنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز حمل على المجاز أشار إليه الناظم بقوله ... فما احتمل الشركةو المجازا ... فبالمجاز عندهم قد فازا ...
كلمة ما شرطية جوابها فبالمجاز وذلك أنهم قالوا إذا احتمل اللفظ الشركة والمجاز حمل على المجاز ومثلوه بلفظ النكاح إذا علم كونه حقيقة في أحد معنييه كالعقد مثلا واحتمل أنه حقيقة في الآخر وهو الوطء فيكون مشتركا أو لا فيكون مجازا فالحمل على المجاز أولى فإن قلت إن وجدت قرينة المجاز فلا يتصور حمله على الحقيقة وألا توجد فلا يتصور حمله على المجاز قلت أجيب بأن المراد مع القرينة إلا أن الغرض أنه قد علم أن أحدهما حقيقة وإنما التردد في المعنى الآخر هل هو حقيقة فيكون مشتركا أو لا فيكون مجازا وإنما تردد اللفظ لجواز أن القرينة قرينة تعيين المشترك لأحد أفراده هكذا قيل ولا يخلو عن تأمل
إذا عرفت هذا وقد عرفت أن كلا من الاشتراك والمجاز يوقع الخلل في فهم السامع للمراد بسببهما قالوا فيحمل على ما هو أقرب وأولى إلى تقريب المراد إلى الفهم وفي المسألة مع تشابهما أقوال واسعة لا يتسع لها هذا التعليق وهي من أبحاث المطولات وقد طولها في الفواصل وقيل بل يحمل على الاشتراك قلت بل ترجيح المجاز على الاشتراك أولى لأنه من إلحاق الفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب في الاستعمال فإن المجاز أغلب من الاشتراك بل قيل إنه غالب اللغة ولما كان للمجاز علامات وخواص يعرفانه ويتميز بها عن الحقيقة وقد أعدها أئمة الأصول ببحث المجاز قال الناظم ... خاصته بأنه لا يطرد ... في كل ما يصلح منه أن يرد ...
هذه العلامة الأولى الخاصة قالوا إن من خواص المجاز عدم اطراده في مدلوله قالوا النخلة فإنها تطلق مجازا على إنسان طويل ولا تطلق علىغيره مما فيه طول بخلاف الحقيقة فإنها تطرد في مدلولها وأورد عليه ان هذا يوجب أنه لا بد من سماع آحاد المجاز كالحقيقة وقد قرروا أنه موضوع وضعا نوعيا وبأن من الحقائق ما لا يطرد فلا يكون خاصا بالمجاز كالقارورة لا تطلق إلا على الزجاجة لا كل ما يقر وأجابوا في المطولات بأجوبة غير ناهضة والعلامة الثانية الخاصة قوله ... وأنه يصدق حين ينفى ... وغيره والله حسبي وكفى ...
هذه الخاصة مثلوها بقولهم للبليد ليس بحمار فإنه حقيقة مع أنه يطلق عليه ذلك مجازا وقولنا وغيره أي غير ما ذكر مثل نص أئمة اللغة أن هذا اللفظ مجاز أو سبق غيره إلى الفهم لولا القرينة وقد بسط في مطولات الفن فإنما ذكر أئمة الأصول مهمات من قواعد الفنون كالمنطق وعلم البيان وعند الفراغ من هذا الفصل أخذ في شرح الخامس من الأبواب فقال
الباب الخامس في الأمر والنهي ... فخامس الأبواب فيه النشر ... للأمر والنهي فأما الأمر ...
هذا الباب يذكر فيه الأمر والنهي وغيرهما وخامس الأبواب مبتدأ أو فيه النشر خبره والبحث هنا في مقامين وهما الأمر من جهة لفظه أي ألف ميم راء فاختلفا في ألف ميم را على أقوال أولها أنه حقيقة في القول المخصوص أي أفعل مجاز في الفعل نحو فلان في أمر عظيم وقوله أتعجبين من أمر الله
وثانيهما أنه مشترك بينه وبين الشأن نحو إن وراء الموت أمرا عظيما والغرض نحو لأمر ما جدع قصير أنفه وعدت له معان أخر لا يهمنا في هذا الفن أمرها إذ المراد هنا ثاني المقامين وهو النظر في مدلول الأمر ورسمه وحدوده باعتبار الكلام النفسي وباعتبار الكلام اللفظي وليس بحث الأصولي إلا عن اللفظي فلذا رسمه الناظم بقوله ... فهو كما في الأصل قول القائل ... لغيره لا زلت خير فاعل ... افعل وما شابهه وشاكله ... مستعليا يريد ما تناوله ...
فقوله قول القائل جنس يدخل فيه جميع أنواع الكلام وقوله لغيره
فصل يخرج به امر القائل لنفسه نحو قوله صلى الله عليه و سلم قوموا فلأصل لكم ونحو قوله تعالى حكاية عن الكفار في خطابهم للمؤمنين ولنحمل خطاياكم فإنه ليس بأمر حقيقة بل مجاز إذ من شرطه الاستعلاء ولا يتصور من الأمر نفسه
وقوله افعل وما شاكله فصل يخرج به طلب الفعل نحو أنا طالب منك كذا وأوجبت عليك ودخل فيما شاكله لتفعل وصه ونزال ونحوها مما يدل على الطلب الإنشائي
وقوله مستعليا فصل ثالث يخرج به الالتماس وهو طلب الشيء ممن يساويك رتبة بلا استعلاء والدعاء وهو طلب على جهة الخضوع والتذلل ومرادهم بالاستعلاء عد الآمر نفسه عاليا سواء كان في نفس الأمر كذلك أولا فيشمل أمر الإعلاء لمن دونه والأدنى لمن فوقه وقد زاد في الفصول فصلا رابعا وهو التحتم بناء على أن التعريف بمدلول الأمر لغة فلا بد حينئذ من قيد التحتم ومن حذفه كما هنا فهو بناء على أن أمر الندب وغيره داخل في التعريف ويأتي تحقيقه
واعلم أن الحد قد اشتمل على مسائل يذكرها أئمة الأصول مستقلة منفردة اكتفينا بالإشارة إليها في ضمن الحد إذ الكتاب مختصر وأصله كذلك فلنشر إليها
الأولى قولنا افعل وما شاكله إشارة إلى مسألة أن لفظ الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلب الطلب سواء كان عربيا أو فارسيا أو من أي لغة فإنه طلب الفعل بأي صيغة إنشائية ويحتمل أنه أريد بما شاكله أي من الألفاظ العربية الدالة على الطلب إنشاء وهذه المسألة ذكرها صاحب المحصول والإمام يحيى في الحاوي وقال الحق إنه موضوع للفظ الدال
على مطلق الطلب لا باعتبار كونه عربيا ولا فارسيا فإن العبارات الدالة على المعاني إنما وضعت بإجراء المعاني الذهنية ألا ترى إلى أوامر الله في كتبه المنزلة كيف تختلف عباراتها باختلاف اللغة فصيغ الأمر التي في التنزيل ليس هي التي في التوراة والإنجيل
المسألة الثانية قوله مستعليا يشير إلى الخلاف في الأمر هل يعتبر في العلو والاستعلاء أو لا فيه أقوال
والأول يعتبر الاستعلاء وإليه ذهب جماهير أئمة الأصول قالوا ودليله ذم العقلاء لمن قال لمن هو فوقه رتبة افعل على جهة الاستعلاء ويصفونه بالحمق والجهل ولولا كونه عد نفسه عاليا على الأعلى منه واعتقد ذلك وتفرع عليه أمره له لما ذموه ووصفوه بالجهل والحمق
والثاني أنه يعتبر العلو فقط ومعناه كون الآمر أرفع رتبة من المأمور وهذا مذهب أكثر المعتزلة ونقل عن جماهير العلماء وأهل اللغة واستدل لهم باستقباح العقلاء لقول القائل أمرت الأمير وعدمه عندهم إذا قال سألته وطلبته ورد بأنه عليهم لا لهم لأن الاستقباح دليل أنه قد وقع الأمر ولولا وقوعه لما استقبح فلو كان العلو شرطا لما كان ذلك للأمير أمرا وإلا لما استقبح ما ذاك إلا لأن العلو غير شرط وقد أجيب عنه
ثالثهما يعتبران معا العلو والاستعلاء وهو لجماعة
والرابع عكسه قاله الرازي في المحصول مستدلا بقول فرعون لقومه فماذا تأمرون مع أنه أعلى رتبة وقول عمرو بن العاص لمعاوية ... أمرتك أمرا حازما فعصيتني
وقول دريد بن الصمة لمن هم فوقه ... أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ...
قال فهذه الأمور دالة على عدم اعتبار العلو والاستعلاء وأجيب بأن الاستعلاء معتبر لغة وهذه الأمثلة جارية على ذلك فإن فرعون ما خاطب قومه إلا وقد عدهم أعلن منه رأيا في هذه الحالة وأنه طالب أن يأمروه بأمرهم وكذلك عمرو ما خاطب معاوية إلا مخالفته أمره لأنه كان يأخذ برأيه ويطلب مشورته وينزل نفسه منزلة المأمور وكذلك دريد خاطب قومه لأنهم أخرجوه ليقتدوا برأيه فلم يمتثلوا أمره وقد أمروه على نفوسهم والذي يقوي عندي هو اعتبار الأمرين العلو وهو كون رتبة الآمر أعلى من رتبة المأمور عنده ولا بد من الاستعلاء وهو عد الأمر نفسه عاليا بالنظر إلى المأمور في اعتقاده لذلك واستفعل هنا من باب واستكبر واستعظم عد نفسه كبيرا عظيما وهو أحد معانيه في كتب التصريف فقول الحجاج للأمير مثلا افعل كذا وقول الطبيب للخليفة اشرب كذا أمرا لا التماسا اعتقد استعلاءه عليه وطلب امتثاله لأمره وقول الرجل لولده افعل ولخادمه أمر لأن له علوا عندهما والحاصل أنه لا بد من استعلاء الأمر فيما يؤمر به فإن كان له علو عند المأمور فلا إنكار لما صدر عنه ويلومه العقلاء على عدم امتثاله وهو الذي شمله النظم
والعجب من العراقي وغيره في إبطالهم الاستعلاء مستدلين بأن كثيرا من أوامر الله في غاية اللطف ونهاية الاستجلاب لاقترانها بتذكير نعمه نحو قوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا الآية ونحو فاتبعوني يحببكم الله وغيرهما مما لا يحصى
ووجه التعجب أن أوامر الله كلها صادرة عن العلو رتبة بلا ريب وعن الاستعلاء فإنه الأحق بذلك إلا أنه لا يقال في تفسيره عد نفسه عاليا واعتقدها كذلك بل بمعنى أنه أهل لذلك الاستحقاق وأما قرنه أوارمه بتذكير نعمه فليس لأنه ولا استعلاء بل ذكر ذلك عقب الأمر من باب بل الأمر وقع بلفظ افعلوا ثم اتبعه بدليل يزيدهم بعثا على طاعته وإبانة لمنافع ما أمر به
وقول الناظم يريد ما تناوله إشارة إلى مسألة معروفة وذلك أن صيغة افعل وردت للتهديد والالتماس والدعاء والأمر قالوا فبماذا يصير الأمرا أمرا فاختلف قي ذلك و الذي اختاره الناظم أن مرجع الأمر إلى حدوث الصيغة وإرادة محدثها المأمور به فيعين كونه أمرا إرادة المأمور به حتما ويكفي الصيغة في كونه أمرا لأنها حقيقة فيه وفي المطولات تطويل قليل التحصيل لوما اختلف العلماء في صيغة الأمر هل وضعت للإيجاب أو لغيره فأشار إلى ذلك قولنا ... وهو مفيد للوجوب شرعا ... على الذي تختاره ووضعا ...
هذا التصريح بأنه وضع حقيقة للوجوب لغة وبه وردت الشريعة وهذا قول الجمهور وفيه إثنا عشر قولا مبسوطة في المطولات والذي اخترناه هو الأقوى دليلا كما أفاده قوله ... فالعقلاء تذم من لم يمتثل ... أمرا لمولاه وأيضا نستدل ... بأنه ما زال هذا في السلف ... فكان إجماعا تلقاه الخلف ...
تقرير الدليل أن العقلاء من أهل اللسان العربي قبل ورود الشرع يذمون العبد إذا لم يمتثل أمر سيده ويصفونه بالعصيان وبلغتهم نزل القرآن ووردت السنة النبوية والذم والوصوف بالعصيان إمارة اللزوم والثبوت ولا يراد
من الوجوب إلا ذلك وهذا دليل عقلي لأن إدراك حسن هذا الذم عقلي وإن استفيد من موارد اللغة فلهذا نسب الذم إلى العقلاء إشارة إلى أنه عقلي
ثم أشرنا إلى الدليل الشرعي بقولنا وأيا نستدل أي ونرجع بعد إقامة الدليل الأول إلى إقامة الدليل الثاني وهو الشرع وتقريره أنه تكرر من الصحابة الاستدلال بأوامر الشرع على الوجوب وتكرره أمر لا ينكره إلا مباهت وشيوعه بينهم كذلك وهو المراد من الإجماع والقول بأنه إجماع سكوتي قد سلفت فيه المناقشة وجوابه أنه يفيد الظن في إثبات هذا الأصل بلا تردد ولا فرق بين إثبات الأصول بالدليل الظمني و القطعي من حيث و جوب العمل و قد قررناه في مواضع و الدليل الفرق وهذا أمر معروف عند كل عاقل من متشرع وغيره بأنه إذا أمر الرجل من له أمره وخالفه ذمه كل واحد واستحسنوا تأديب الآمر لمن عصاه وهذا شيء يكاد أن يكون فطريا يعرفه من يميز قبل تكليفه واستدل بآيات قرآنية مثل قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك أي بقولنا اسجدوا لآدم فإنكاره تعالى على إبليس وذمه ولعنه وطرده دليل على أن افعل ونحوه إذا اطلق يفقد الإيجاب ولما قررناه أن الأمر للإيجاب حقيقة واخترناه أبنا أنه يستعمل في معان كثيرة مجازا ... وقد أتت صيغته مجازا ... في غيره قد تركت إيجازا ...
لما ذكر أئمة الأصول أنها تأتي صيغة الأمر لمعان مجازية وتعرضوا في المطولات لذكرها حتى بلغ بها الفاضل البرماوي في منظومته وشرحها إلى أكثر من ثلاثين نوعا وعد أمثلتها أشرنا إجمالا إليها وتركنا التفاصيل للإيجاز كما قلنا ولأنه قد علم من القواعد أن المجاز موضوع بالنوع فإذا وجدت العلاقة والقرينة جاز استعماله فالتعرض لعد أفراده بعد ذلك شغل للأوراق
بتفاصيل الأمثلة قد أغنت عنها القاعدة بالاتفاق فلذا لم نتعرض لشيء من الأمثلة فإنها لا تهم الأصولي من حيث إنه باحث عن القواعد التي تستنبط منها الاحكام إنما يهم الأصولي معرفة مثل هل هو للتكرار أو المرة كما أفاده قولنا ... وما على المرة والتكرير ... يدل فيما اختير للجمهور ...
فإنها مسألة اختلف فيها فيما إذا أورد الأمر مطلقا عن قيد المرة والتكرير فقيل لا يدل على مرة ولا تكرار بل يدل على مجرد الطلب من غير دلالة على شيء زائد إلا أنه لا يتم الامتثال وإخراج المطلوب إلى حيز الوجود إلا بالمرة فهي من لوازم الامتثال لأنه يدل عليها الأمر بلفظه ووضعه وهذا هو ما اختاره الناظم وعليه جماهير أئمة التحقيق من الفرق كلها ولذا عزاه الناظم إلى الجمهور والدليل على المختار أن الأوامر المطلقة الشرعية ترد تارة للتكرار كأوامر الصلاة وأخرى بالمرة كالحج وهكذا الأوامر العرفية نحو قولك ادخل الدار فإه يراد مرة واحدة ونحو احفظ الدابة فإن غرضه دوام الحفظ لها فإذا تقرر هذا فإنه يكون موضوعا بالقدر المشترك بين المرة والتكرار وهو طلب إيقاع مطلق الفعل مع قطع النظر عنهما دفعا للاشتراك إذا كان حقيقة فيهما وللمجاز إذا كان حقيقة في أحدهما إذ كل منهما خلاف الأصل و قد أورد عليه أنه إذا كان وضعه لمطلق الطلب ثم استعمل في أحدهما كان مجازا إذ هو خلاف المدعي وأجيب عنه بأنه قد تقرر أن استعمال المطلق في المقيد ليس بمجاز وإلا لزم أن يكون إطلاق الضمائر وغيرها من الموضوعات الكلية واستعمالها في خاص من المجاز ولا قائل به لأن
الوضع وإن كان عاما فالموضوع له خاص فاستعماله في بعض أفراده استعمال فيما وضع له ومن الأدلة على المختار أن الأوامر الشرعية إذا أريد منها التكرار قيدها صلى الله عليه و سلم كالأوامر الواردة في الصلاة فإنه يقيدها بذكر كل يوم وليلة حيث أريد تكررها وكذلك أهل اللسان من العرب لا يفهمون إلا إيجاد الفعل ألا ترى أنه لما أمر صلى الله عليه و سلم بإيجاب الحج سألوه ألعامنا هذا نحو ذلك مما أقرهم صلى الله عليه و سلم ومنها وهو لابن الحاجب أن مدلول الصيغة طلب مطلق الفعل والمرة ونحوها خارجان عن حقيقته فيجب حصول الامتثال لإيجاد الحقيقة مع أيهما كانت ولا يتقيد بأحدهما دون الآخر وإلا كان تحكما واعترض بأن الدليل غير الدعوى إذ لم يقع النزاع إلا في ذلك فإيراده المصادرة وأورد أيضا ابن الحاجب دليلا آخر للجمهور وهو معترض أيضا وفيما ذكرناه غنية في ظهور كلام الجمهور فإنه أقرب الأقوال دليلا فأتى فيه أربعة أقوال الأول ما ذكرناه والثلاثة معروفة في المطولات ... ولا على فور ولا تراخي ... قال بهذا جلة الأشياخ ...
عطف على قوله وما على المرة الخ أي ولا تدل صيغة الأمر على طلب فعل المأمور به فورا أي عقب بلوغ صيغة الأمر إلى المأمور ولا على خلافه وقد اختلف في ذلك فقال الإمام يحيى والمهدي والقرشي إنه لا يدل على غير مطلق الطلب يعني طلب الفعل وإليه ذهب الرازي والآمدي وابن الحاجب
وقالت المالكية وبعض الحنفية والحنابلة وجماعة من الشافعية قال القاضي حسين وهو الصحيح من مذهبيهم وإليه ذهب الهادي وجماعة من الآل إنه يدل على الفور فيجب فعله في أول أوقات الإمكان بعد سماع الأمر وفهم المراد به وإن أخر وجب فعله في الوقت الثاني وكان بالتأخير آثما
ومن قال إنه للتراخي فمعناه أنه لا يجب الفور لا بمعنى أنه يجب التراخي حتى لو أتى به فورا لم يكن ممتثلا قال البرماوي بعد نقله هذا القول مقتضاه أنه لا يكون المبادر ممتثلا أو يتوقف فيه وهذا بعيد وكلام أكثر النقلة أن المراد بالتراخي عدم الفور فهو راجع إلى القول الأول إنه لا يقتضي فورا ولا تراخيا والأول هو الراجح من الأقوال كما أطلقه الناظم ودليله هو ما تقدم من الدليل على المختار في عدم دلالته على التكرار وحاصله أنه لا يفيد سوى طلب مطلق الفعل من دون إشعار لمرة وتكرار أو فور أو تراخ وإذا استفيد شيء من ذلك فبقرائن خارجية واستدل القائلون بالفور وأنه لو جاز التأخير لكان إما إلى غاية معينة وهذا خروج عن محل النزاع إذ يصير من المقيد أو إلى غاية محدودة بظن المأمور فوات الأمر إن لم يفعل المطلوب وهذا قد لا يقع لكثير لغلبة الأمر وهجوم الأجل فيؤدي إلى خروج الواجب عن مقتضاه وهو التحتم وإما أن يجوز تأخيره إلى غير غاية من غير بدل كان تكليفا بما لا يطاق لجهالة الوقت أو مع بدل وهو إما العزم وقد عرف في الواجب الموسع أنه لا يجب أو الوصية وهي لا تعم جميع الواجبات الشرعية فكثير من العبادات لا تصح الوصية بها وإذا بطل كل هذه الأطراف التراخي وتعين الفور وأجيب بأنه يختار الطرف الثالث ولا يلزم أنه من تكليف ما لا يطاق لأنا لم نقل بوجوب التأخير مع جهالة الوقت حتى يجب التعيين بل نقول بجواز تأخيره ولا يلزم منه ذلك إذ يمكنه امتثال الأمر في أي وقت شاء
قلت وفيه تأمل قيل والتحقيق في المسألة أنه قد ثبت أن الأمر للوجوب ومن شأنه الذم على تركه والقول بالتراخي يقتضي ارتفاع الذم إلا في حالات نادرة وهو ظن الموت ويلزم ارتفاع الوجوب عن أكثر الأوامر
وهو ينافي كون الأمر للوجوب على ما هو المختار فالحق أنه إذا ثبت كون الأمر للوجوب ثبت أنه للفور لا من حيث الوضع بل لكونه من لوازمه كما قيل في دلالته على المرة لأن الوجوب يستلزم الذم بالترك كما يستلزم المدح بالفعل ولا نسلم ارتفاع الذم مع التراخي وإن لم يحصل ظن الموت كما يقضي بذلك استدلالهم بذم أهل اللسان من لم يمتثل أمر سيده كذا أفاده بعض محققي المتأخرين وأقول لا يخفى أنه قد يقال الترك الملزوم للذم هو ترك العازم على أن لا يفعل ما أمر به وأما التارك لأن وقت الطلب لا يتعين بل مسافته العمر فإنه غير مذموم ولا هذا هو الترك المأخوذ في رسم الواجب فيتأمل
والحق أنه لا يخلو أمر عن القرينة الدالة علىأحد الأمرين مثل أمر الكافر أن يقول كلمة التوحيد وإلا ضرب عنقه فوري بلا ريب وأمره بإقامة الصلاة إن كان قبل دخول وقتها فهو أمر مقيد بدخوله وإن كان بعده ففوره فعلها في آخر وقتها الموسع ويجري مثله في الصوم والزكاة فهذه كلها من الأمر المقيد وليس من محل النزاع وكذلك الحج على المستطيع من المؤقت يجب عند دخول أو شهوره مضيق على من لم يبلغ قضاء مناسكه إلا بسفره من أول يوم من شوال موسع لمن لم يدركه ولو في ثامن الحجة كالمكي فيتضيق في الثامن أو التاسع إذ أول مناسكه له الوقوف بعد الإحرام وهو يدركه في التاسع وقس سائر الأوامر عليه ولذا قلنا ... لكن له قرائن تفيد ...
استدراكا من الأربعة المنفية والمعنى أن المختار في الأمر المطلق
هو ما ذكرناه من عدم الدلالة من حيث هو على أحد الأربعة أي الفور والتراخي والمرة والتكرار لكن إذا قيد الأمر بما يقتضي أحد الأربعة عمل به وقرائن الكل واسعة فللتكرار نحو التعليق على علة نحو قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا فإنه يقتضي التكرار اتفاقا للإجماع على اتباع العلة المنصوصة وذلك إذا كانت العلة مناسبة كالآية بخلاف قوله إن دخلت هند الدار فطلقها فإنه يقع الطلاق من المأمور مرة واحدة فلو تكرر دخولها وطلقها في كل مرة لم يقع اتفاقا وذلك لأنه ينحل الشرط ويرتفع الأمر بارتفاع المأمور به ولا يتكرر لو أتى بكل ما أو متى على رأي وأما الآية فمقتضى التكرار إنما هو ما علم من الحكم الشرعي أن الجنابة توجب التطهير ثم عطف قوله ... ولا القضا من ذاك نستفيد ...
على قوله وما على المرة وهذا حكم من أحكام الأمر المقيد بالوقت والمراد أن القضاء للمأمور به المؤقت لا يستفاد من الأمر الذي ثبت به الحكم بمعنى أنه إذا خرج وقته يجب قضاؤه بل إنما يستفاد مما أفاده قولنا ... لكنه يعلم عند الناظر ... ويستفاد من دليل آخر ...
أي إن القضاء يعلمه الناظر ويستفيده من دليل غير دليل الأداء وعدم استفادته من دليل الأداء هو رأي الجمهور بل يستفاد من دليل آخر من نص أو قياس أو غيرهما وذهبت الحنابلة والحنفية والرازي وآخرون إلى استفادته من دليل الأداء واستدل الأولون بأن من قال لغيره صم يوم الخميس ولا يدل على صوم يوم الجمعة ولا غيرها بشيء من الدلالات فإثبات القضاء به إثبات لحكم شرعي بلا دليل وبطلانه واضح أجيب بأن قوله صم يوم الخميس تضمن شيئين طلب الصيام وكونه يوم الخميس فإذا فات الوقت بقي الأمر بالصيام فقد تضمنه الأمر الأول ودل عليه فلا يخرج المكلف عن عهدة الطلب إلا بالإتيان به وهو المطلوب
قلنا ليس الأمر بمجرد الصوم بل مقيدا بالوقت فإذا فات وقته كان موجبا لفواته لاستحالته الاستدراك المؤقت المطلوب فيه الفعل وأما ما قيل إن هذا مبني على أن الوقت قيد للمطلوب وليس كذلك بل قيد للطلب فإنه كلام باطل فإن الطلب لا بد وأن يتقدم زمنا على إيقاع المطلوب فما معنى تقييد الطلب بيوم الخميس مثلا وإن أريد أن طلب تنجيزه مقيد بيوم الخميس قلنا هذا أول المسألة فإنه إذا فات اليوم الذي طلب تنجيزه فيه فات المطلوب إذ قد صار اليوم جزءا منه هذا فيما إذا ورد الأمر بغير تكرر العطف وأما إذا تكرر الأمر بحرف العطف فهي مسألة أخرى أشار إليها الناظم بقوله ... وإن تكرره بحرف العطف ... أفاد تكريرا بغير خلف ...
أي بالاتفاق بين أئمة الأصول وذلك مثل أن يقول صل ركعتين وصل ركعتين وأما إذا قيل صل ركعتين وصل الركعتين فهما في الأول غيران لاقتضاء العطف المغايرة ولأنه حمل للكلام على التأسيس وهو أولى من التأكيد ولأن الشيء لا يعطف على نفسه إلا لتأكيد والتأسيس خير منه بخلاف الثاني فإنه تعارض فيه أمران كون اللام للعهد لتقدم المرجع ذكرا فيقتضي عدم التغاير وواو العطف تقتضيه ويأتي تحقيقه في شرح قولنا ما لم تقم قرينة التعريف
وقولنا بغير خلف هذا هو الذي نقله الأكثر ونقل صاحب الجمع والبرماوي في شرح منظومته خلافا في ذلك وما ذكرناه فالمراد أنه الأصل والمتبادر فإذا قامت قرينة على خلافه قدم ما قامت عليه نحو قولك اسقني ماء واسقني ماء واقتل زيدا واقتل زيدا فإن القرينة وهي اندفاع الحاجة إلى الشرب بمرة واحدة وعدم تعدد قتل زيد تقضي بأنه للتأكيد هذا إذا كان بحرف العطف أما إذا كان مع عدمه فقد أشار إليه قولنا ... أو كان تكريرا بغير عاطف ... على الذي يختار ذو المعارف
أي أو كان تكرير الأمر بغير حرف عطف أفاد أيضا تكرير المأمور به وهذا رأي الإمام يحيى والرازي قال الإسنوي ونقله في المستوعب عن عامة أصحاب الشافعي لأن كل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء ما تضمنه وهذا كله فيما لم يمنع مانع من الحمل على التأسيس وإلا فالحكم ما أشار إليه قولنا ... ما لم تقم قرينة التعريف ... أو غيرها فوفها واستوفى ...
أي حمل الأمر على التكرير إذا كان بحرف العطف أو بغيره إنما هو مقتض فإذا عارضه المانع وهو القرينة بالتعريف أو غيره كالعادة والعقل والشرع فالحكم هو الترجيح أو أنه لا يفيد التكرار بل يحمل على التأكيد وعبارة النظم تحتمل الأمرين وإن كان الثاني هو الأظهر بمناسبة التصريح بالتكرير فما سبق فالنفي متوجه إليه
ثم اعلم أن هذا النفي عائد إلى مسألتين معا وهما فيما كان بعطف أو بغيره ومثال ما قامت قرينة عقلية على عدم التأسيس قولك اقتل زيدا اقتل زيدا والشرعية أعتق سعدا أعتق سعدا فإن الثاني تأكيد بلا خلاف فإنه يستحيل التأسيس هنا عقلا وشرعا وأما ما لا يستحيل تكريره فقسموه إلى شيئين
الأول أن يكون بحرف العطف وله صور مع الأولى أن يتكرر الأمر بحرف التعريف في متعلقه نحو صل ركعتين وصل الركعتين فهنا قد تعارضا دلالة حرف العطف على التأسيس لإفادته المغايرة ودلالة التعريف العهدي على التأكيدي وحينئذ فيرجع إلى الترجيح فإن نظرنا إلى البراءة الأصلية رجحنا دلالة التعريف فيكون الثاني تأكيدا وإن اعتبرنا تحصيل مقصود الواجب رجح دلالة حرف العطف ومن هنا اختلف العلماء فقال
الجمهور إنه للتأكيد قالوا وقول من رجح خلافه لأجل تحصيل مقصود الواجب ترجيح للشيء بنفسه إذ تحصيل مقصود الواجب هو معنى التأسيس الذي حملوه عليه فكيف يرجح الشيء بنفسه قالوا وأما ترجيحنا بالبراءة الأصلية فإنه دليل مستقل وقال الرازي بل يحمل على التأسيس وتوقف أبو الحسين في ذلك للتعارض عنده
الثاني أن يكون الأول خاصا والثاني عاما نحو صم الجمعة وصم كل يوم اقتل زيدا الكافر واقتل كل كافر
والثالث عكسه واختلف فيه أيضا فقيل يحمل على التأكيد لأن الخاص قد شمله العام فلا يبقى للحمل على التغاير فائدة وفائدة الإتيان بالخاص منفردا العناية بشأنه والاهتمام بحكمه كما عرف في المعاني وقيل بل يكون تأسيسا لاقتضاء عطف المغايرة ولا فرق بين الأول وهذا إلا من حيث إرادة الخاص وقصده في صيغة العام هل تتناوله أولا وإلا فكل من القولين قد وجب معه ما تضمنه الأمران وتوقف أبو الحسين وتابعه الرازي في الوقف في هذا الظرف وهذا كله مع حرف العطف وأما مع عدمه فالحكم ايضا فيه ما في الذي مع حرف العطف من الخلاف
وإن كان الرازي هنا لا يتوقف بما إذا كان احدهما عاما والآخر خاصا بل حمله على التأكيد نعم يأتي في بناء الخاص على العام في مباحث العام ما يعطف عنان القول إلى هذه الأمثلة
وأما مسألة الأمر بالمطلق وهي مسألة ما لا يتم الواجب إلا به وأنه يجب بوجوبه فقد أفادها قولنا
والأمر إن وفا إلينا مطلقا ... من غير شرط فاتبع لك البقا ... محصلا ما أنت مأمور به ... بشرطه المقدور فلتنتبه ... فإنه ما لا يتم الواجب ... إلا به فمثله قد أوجبوا ...
اعلم أن هذه المسألة ترجمها الأصوليون من الفريقين بقولهم ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا يجب كوجوبه وفيها أمران
الأول إن الأولى أن يقال ما لا يتم الواجب إلا به يجب بدليل أصله فإنه مرادهم ولم تفده عبارتهم
الثاني قولهم وكان مقدورا لا يحتاج إليه إلا من يقول بجواز تكليف ما لا يطاق ولا يقدر عليه والمعتزلة ومن على رأيهم لا يقولون به وقد نبهنا على هذا في حواشي شرح الغاية
هذا وإنما عدلنا في الترجمة إلى قولنا والأمر إلخ من قولهم ما لا يتم الواجب إلا به لأن تقييدهم للواجب بالمطلق حيث قالوا ما لا يتم الواجب المطلق وفسروا الإطلاق بما لا يكون مقيدا بما يتوقف الوجوب عليه قالوا فخرج بقولهم المطلق المقيد بما يتوقف الوجوب على نحو ذلك إن ملكت النصاب وحج إن استطعت فالتقيد بذلك لا يقتضي إيجاب تحصل ملك النصاب وشرط الاستطاعة فورد عليهم أنه لا معنى لإخراج ما ذكر لأنه لم يدخل فإن الكلام فيما لا يتم الواجب إلا به كما هو عنوان الترجمة لا فيما لا يتم الوجوب إلا به فلم يدخل حتى يخرج بخلاف قولنا والأمر فإنه شامل لهما كما لا يخفى فيكون للتقييد فائدة وهو قولنا مطلقا وقولنا من غير شرط بيان لمعنى مطلقا
وإذا عرفت هذا فالذي يتوقف عليه الواجب ويحصل الامتثال بفعله قد يكون جزءا من المطلوب كالسجود والركوع في الأمر بالصلاة فهذان يجبان
بما وجبت به اتفاقا إذ هما من ماهيتها وقد يكون خارجا عنه وذلك كالسبب والشرط وهما محل الخلاف ففيه أقوال
الأول الذي أفاده النظم وهو وجوب المقدمات التي لا يتم الواجب إلا بها بما وجب به السبب والشرط اللذان هما الأصل في الطلب قالوا سواء كان شرطا عقليا أو عاديا أو شرعيا وذلك كالوضوء للصلاة بعد العلم بأنها لا تصح إلا به فإذا ورد أمر بالصلاة ساكتا عن الوضوء وجب الوضوء بإيجابها ثم اختلفوا هل دلالته عليه تضمنية أو التزامية ذهب إلى الأول إمام الحرمين واستبعد وإلى الثاني الجمهور وقد أشار إليه النظم بقوله فإنه ما لا يتم إلى آخره وتقريره أن إيجاب الشيء يقتضي المنع من تركه وعدم إيجاب ما لا يتم حصوله على الوجه المطلوب إلا بحصوله يقتضي جواز تركه والفرض أنه ممتنع هذا خلف ودلالته عليه بطريق اللزوم إذ طلب المشروط الذي لا يتم إيجاده إلا بوجود الشرط يستلزم طلب الشرط ومثله السبب يجري فيه هذا التقرير
الثاني أنه لا يجب شيء من المقدمات لأن دليل الإيجاب ساكت عنه
الثالث يجب السبب دون الشرط وهو تفريق بلا دليل
الرابع يجب الشرط الشرعي دون غيره
وقد أطال صاحب الفواصل نقله أدلة هذه الأقوال والردود عليها وقد كنا عند عرضه رحمه الله لما يكتبه من شرحه علينا كتبنا ما لفظه
اعلم أن هذه المسألة طالت من غير طائل وإن أثبتها كل إمام فاضل فإنه لا يخفى أن كون الشرط الشرعي لشيء شرطا والسبب له سببا لا تثبت شرطيته ولا سببيته إلا بدليل مستقل دال على الشرطية والسببية اتفاقا وإلا كان من إثبات ما لا دليل عليه وإذا قام الدليل على ذلك لم نفتقر بعد ذلك إلى النظر
في أن دليل المشروط والمسبب يشمله أو لا فإنه على تقدير شموله له لم يدل عليه إلا بأضعف الدلالات وقد أغنانا الله تعالى بالدليل الصحيح المطابقي عن دليل ضعيف لا يعدل إليه كما لا يعدل إلى التراب مع وجود الماء فإنه غاية ما فصله بحث الأفاضل أن دليل الإيجاب للأصل يشمله إيجاب شرطه وسببه بدلالة الإشارة واللزوم فما أقل جدوى هذه الأبحاث فإنه لو لم يقم دليل خارج على الشرطية والسببية ما علمنا للمطلوب شرطا ولا سببا ولذا قالوا فيما قدمنا في الشرط الشرعي كالوضوء بعد العلم بأنها لا تصح أي الصلاة إلا به انتهى
وإذا تكرر هذا فلا حاجة إلى استيفاء ما قيل بل لا حاجة إلى ذكرها بالإيجاز فضلا عن التطويل وقد أقره تلميذنا رحمه الله تعالى في شرحه في آخر البحث كما رقمناه وهذه مسألة كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعكسه والخلاف فيهما أشار إليه قولنا ... ولا يكون الأمر نهيا ذكرا ... عن ضده والنهي ليس أمرا ...
اختلف في الأمر المعين هل يكون نهبا عن ضده الوجودي يعنى المستلزم للترك لا الترك مطلقا وبالعكس ولا يتوهم أن الخلاف في لفظهما فإنه معلوم بالضرورة أنهما غيران للقطع بالفرق بين لا تفعل وافعل ولا في مفهومهما بمعنى أن صيغة لا تفعل موجودة في افعل للقطع بالتغاير أيضا وإنما الخلاف في أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الوجودي ويدل عليه مثلا نحو لا تسكن هل هو في قوة تحركه وبعكسه سواء كان له ضد واحد أو متعدد ولا ريب انه إذا قال السيد لعبده قم وهو قاعد فاستمر على قعوده وقال لم تنه عن القعود لامه العقلاء وعدوه عاصيا وعدوا الولد بذلك إن أمره أبوه عاقا وهذا هو الدليل على الذي جعلوه قاضيا بأن الأمر في الأصل للإيجاب فما لاموه وحسن لومه عند العقلاء إلا لأن أمره بالقيام يستلزم نهيه عن القعود ولذا قيدنا ذلك بقولنا ذكرا فإنه من حيث الذكر ليس هنا نهي قطعا ومفهومه أنه من حيثية أخرى هي الاستلزام
ثم إنه لا يعزب عنك أن محل الخلاف في الأمر الفوري كما صرح به جماعة من المحققين فينحصر في الواجب المضيق ولم يقيد الناظم الأمر بالمعين لتبادره وإنما قيده في الشرح بالوجودي ليخرج به الترك مطلقا إذ لا خلاف في أن الأمر نهي عن تركه ولا شك في كون الترك ضدا له ولكنه غير مراد في المقام بل المراد الضد الذي يحصل معه ترك المأمور من الأمور الوجودية لا الترك مطلقا إذ لا بد من ملاحظته بلا خلاف
وقد أطال في الفواصل بذكر ما في المسألة من الخلاف ولا حاجة إلى تفصيله بعد ظهور الأقوى بدليله وفي نجاح المطالب إن هذه المسألة مبنية عن القول بأنه لا تكليف إلا بفعل لا على القول بأنه يصح التكليف بنفي الفعل
وهذه إشارة إلى مسألة اختلف فيها العلماء وهي هل التكليف في النهي بفعل أو لا فقال الجمهور بالأول وإنه كف النفس وقيل إنه فعل ما يضاده فلا تضرب معناه إفعل ما يضاد الضرب وأما القول بأنه نفي الفعل فهو عائد إلى الأول
واستدل الأولون بأن التكليف إنما يتعلق بما هو مقدور ونفي الفعل عدم وهو حاصل قبل توجه النهي وطلب تحصيل الحاصل محال
وأجيب بأن المطلوب استمرار ذلك العدم وهو استمرار واقف على اختيار المكلف وليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي بل عدم مخصوص يصح أن يتوقف على الاختيار ويتعلق به إثر قدرته فإن المكلف قادر يتمكن من أن لا يفعل فيستمر العدم أو يفعل فلا يستمر فصح أن العدم من هذه الجهة إثر قدرته إذ الاستمرار الموقوف على اختياره ليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي بل هو عدم مخصوص متوقف على اختياره فليس هو عدما محضا ومن هنا تعرف أنه لا فرق بين كون مطلوب النهي الكف أو نفي الفعل إذ النفي
المراد هو الموقوف على اختيار الفاعل ولا يكون إلا بانتهائه وامتناعه عنه وقوله ... هذا الذي رجح كل فاضل ...
إشارة إلى ما سلف وأنه الراجح عند أفاضل النظار
ولما فرع الناظم من باب الأمر أخذ في النهي فقال ... فصل وحد النهي قول القائل ... لغيره لا تفعلن مستعليا ...
قد تبين لك فوائد القيود مما قدمناه في شرح رسم الأمر فلا نكرره ... يكره ما عنه نهي مقتضيا ...
ضمير يكره عائد على القائل وهو النهي وهو بيان لعلة النهي وإنها كراهة هيئة إيقاع المنهي عنه وهو لا يخلو عن فائدته وكان غير محتاج إليه قولهم مقتضيا حال من النهي أو من لا تفعلن وقولنا ... مطلقه الدوام لا المقيد ...
هو فاعل مقتضيا ولا المقيد عطف على مطلقه والكل إشارة إلى مسألتين
الأول اقتضاء النهي الدوام وأنه يخالف الأمر في ذلك فإنه تقدم اختيار أن الأمر لا يدل على التكرار والفور بخلاف النهي المطلق فإنه دال على الدوام المختار وإذا دل عليه اقتضاء التكرار والفور واقتصر على التعبير بالدوام لإغنائه عن التصريح بالتكرار فإن اقتضاء الدوام يلزمه إفادة التكرار والفور ولم يقل دالا عوضا عن مقتضيا إشارة إلى أن ذلك من ضرورة النهي ولازمه لا أنه من صيغته ألا ترى إذا قلت لزيد لا تسافر فقد منعته من إدخاله ماهية السفر في الوجود فلا يتحقق امتثاله إلا بعدم إتيانه بجميع
ما يصدق عليه ماهية السفر فلو وقع في الخارج أي فرد من ذلك كان مخالفا لمقتضاه نهيه ولا يخفى أنه من الدلالة الالتزامية وهي عقلية عند الجمهور ولذا قلنا مقتضيا ولم نقل دالا من الدلالة اللفظية ومن جعله منها عبر بدالا
فإن قيل النهي المطلق يعم الأزمان والاحوال جميعا فلا يفيد الدوام إذ الامتناع في الجملة يحقق الامتثال بصدقه بأنه قد امتنع عنه وأما دوام الامتناع فإنما يقتضيه لو قيد بالدوام قلنا صيغة لا تسافر في قوة لا توجد سفرا فهو في معنى النكرة في سياق النفي تفيد العموم كما يأتي
وقد استدل ابن الحاجب ومن تبعه بالإجماع فإنه لا يزال العلماء يستدلون بالنهي على الترك مع اختلاف الأوقات لا يخصونه بلفظ دون لفظ وشاع بينهم وذاع ولم ينكر فكان إجماعا ولولا أنه يقتضي الدوام لما صح ذلك
واعلم أن هذا مختار الجمهور للدليل الذي عرفته وذهب الأقل إلى أن النهي لا يقتضي الدوام إلا بقرينة ثم اختلفوا أيضا فقيل إنه كالأمر في اقتضاء المرة واستدلوا بأنه قد يراد به التكرار نحو لا تقربوا الزنا وقد يراد به المرة كما يقول الطبيب لمريض شرب الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة قالوا والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون النهي حقيقة في القدر المشترك ورد بأن ما ذكرتم من المثال إنما اقتضى عدم التكرار وجود القرينة فهو مجاز ومع ظهور القرينة يتعين الحمل عليه وإلا لامتنع وجود المجاز واستدل الجلال في شرح الفصول للقول المرجوح بأن النهي لدفع المفسدة في الفعل والمفاسد كالمصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص وإلا لما جاز نسخ المناهي ولا تبديل الشرائع وأجيب عنه بأنه ليس المدعى أنه يقتضي الدوام البتة حتى
يمكن التبديل والتحويل بل ذلك بحسب ظاهره فلا ينافيه النسخ لاختلاف الأحوال والأزمان بل قد يقال هذا النسخ والتبديل دال على اقتضاء النهي الدوام هذا كله في النهي المطلق
وقولنا لا المقيد إشارة إلى المسألة الثانية وهي أن النهي يكون مطلقا كما عرفت ومقيدا بشرط أو صفة ونحو ذلك فإذا قيد لم يقتض الدوام نحو لا تكرم زيدا إن كان جاهلا ولا تهن العالم واختلف العلماء أيضا هنا فمال جماعة كأبي عبدالله البصري والمهدي في المعيار إلى هذا وذهب الجمهور إلى أن المقيد يفيد الدوام أيضا إذ التقييد لا يخرجه عن مقتضى وضعه وفي شرح المعيار للمهدي ما يقتضي أنه اختار هذا فإنه قال والأقرب عندي في المطلق أنه يقتضي التأبيد من جهة اللفة كما تقدم تحقيقه وأما المقيد فالأقرب أن الشرط إذا تضمن معنى التعليم اقتضى معنى الدوام نحو لا تدخل الحمام ان لم يكن صعك مئزر فإنا نفهم ان العلة فيه هو كراهة كشف العورة فيستمر ذلك مهما حصلت العلة وان لم يفهم معنى التعليم نحو لا تدخل المسجد إن كان زيد في الدار اعتمد على ما فهم من مقصد الشارط فإن لم يفهم شيئا فالظاهر الدوام كالمطلق إذ تقديره لا يكن منك إيجاد دخول المسجد وزيد في الدار وهذا يقتضي عموم الأوقات فكذلك ما في معناه وهذا التفصيل عائد إلى تصحيح ما قاله الأكثر من أنه للدوام إلا لقرينة انتهى والذي قاله الجمهور هو الأظهر لأن التقييد لا يخرجه عن الدوام وأما المثالان المذكوران فإن النهي فيهما لا يقتضي الدوام بل هو مقرون بوجود العلة التي عللت عليه
وهو على القبح دليل يوحد ...
هذه مسألة أن النهي يدل على قبح المنهي عنه فكلمة على متعلقة بدليل وهو معنى أنه للتحريم ولذا عبرنا بالقبح لأن الكلام في مقتضاه لغة كما ستعرفه من دليل هذا القول بخلاف التحريم فهو شرعي وإن كان هو لا بد له لكن الكلام في مقتضاه لغة وكونه للقبح هو كلام الجمهور مستدلين بذم العقلاء من أهل اللسان العربي إذ العبد خالف نهي سيده وإجماع السلف على الاستدلال للتحريم بمجرد النهي إذا تجرد عن القرائن وتقدم تحقيقه في بحث الأمر
وقيل بل النهي حقيقة في الكراهة توهما من قائله أنه إنما يدل على مرجوحية ترك النهي عنه لا على سبيل التحتم وهذا لا يقتضي التحريم وجوابه أن الذم من خصائص القبح والمكروه لا ذم على من أتاه ولأن السابق إلى فهم اللسان العربي بحسب الظاهر عند التجرد عن القرائن هو القبح المستلزم للذم ومن ثم يستدل به على التحريم وقيل مشترك بينهما لاشتراكهما في رجحان الترك فجعله لأحدهما دون الآخر تحكم ورد بما سمعته قريبا ... في ذلك المنهي لا الفساد ... واختار ذا جمع من النقاد ...
وقولنا في ذلك المنهي يتعلق بيوجد أي يوجد القبح في المنهي عنه بعينه وقوله لا الفساد عطف على القبح أي لا أنه دليل على فساد المنهي عنه وهذه مسألة أن النهي هل يدل على فساد المنهي أو لا وهي مسألة خلاف بسيطة التقاسيم والأطراف والذي في النظم أنه عند نقاد العلماء لا يدل النهي على فساد المنهي عنه في العبادات ولا المعاملات وهذا القول ذهب إليه جماعة ونقل عن أكثر أهل الأصول ودليلهم أنهم قالوا معنى الصحة في العبادات أنها فعلت على وجه لايجب معه القضاء ومعنى الفساد فيها وجوب قضائها لفعلها على غير ذلك الوجه
وأما في المعاملات فمعنى الصحة حصول الملك ونفوذ التصرف فيها على جميع الوجوه والفساد بعكس ذلك قالوا ومعلوم أن النهي لا يدل على شيء من تلك الأحكام وإنما يدل على كون المنهي عنه قبيحا ومكروها ومحظورا وكل هذه الألفاظ لا تقتضي الفساد وأجيب عنه بسؤال الاستفسار وهو ما مرادكم بنفي دلالته على الفساد هي بالمطابقة أو التضمن فمسلم وإن أردتم بالالتزام فممنوع على أنكم قد سلمتم أنه يدل على أنه محظور والمحظور ممنوع عنه شرعا وكل ممنوع منه غير صحيح ضرورة أن الصحيح مأمور به لا ممنوع عنه فالممنوع عنه فاسد
وذهب جماعة كأبي طالب وجمهور الشافعية والمالكية والظاهرية إلى أنه يدل على الفساد مطلقا مستدلين بأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزالوا يستدلون بالنهي على فساد كل مفعول قد نهى عنه الشارع من عبادة ومعاملة مستدلين بأن الشارع نهى عنه في مثل لا تأكلوا الربا وذروا ما بقي من الربا والأنكحة مثل ولا تنكحوا المشركات والبيوع لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تصل حائض إلا بخمار وغير ذلك فكان إجماعا منهم كما سبق نظيره في الاستدلال على حجية الإجماع وكون الأمر للوجوب وبأنه لو لم يدل على الفساد لزم من نفيه حكمه للنفي يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمه للصحة تدل عليها الصحة فمع تساوي الحكمتين أو مرجوحية حكمية النهي يمتنع النهي لخلوه عن الحكمة لتساقط الحكمتين مع التساوي وسقوط الحكمة المرجوحة
إليها أيضا مع الراجحة ومع رجحان حكم النهي يمتنع الصحة
وهذا القول يظهر أنه أرجح من الأول ومن غيره من التفاصيل المعروفة في كتب الأصول ويؤيد ما ذهبنا إليه الحديث الصحيح وهو كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ومعلوم أن المنهي عنه ليس عليه أمره صلى الله عليه و سلم فهو مردود من عبادة ومعاملة وكل مردود لا نفوذ لحكمه فهذا هو الحق وقد تقوم قرائن تصرف عن المقرر فلا تنافيه
ولما انتهى لنا القول في الباب الخامس أخذنا في البحث في الباب السادس فقلنا
الباب السادس في العام والإطلاق ... سادسها في العام والإطلاق ... وضد ذين فاتبع إطلاق ...
أي سادس أبواب الكتاب المنظوم في مسائل العام والإطلاق أي المطلق الآتي بحثه وقوله وضد ذين أي خلاف العام وهو الخاص وخلاف الإطلاق وهو التقييد فقد افاد النظم أن في الباب اربعة أبحاث
العام وهو اسم فاعل من عم الشيء يعم عموما فهو عام والعموم في اللغة شمول أمر لمتعدد فهو أمر معنوي وبحث الأصولي عن الأمر الذي استفيد منه العموم وهو العام ولذا أتى به الناظم وعرفه بقوله ... فالعام ما استغرق صالحا له ... من غير حصر قد عزا مدلوله ...
فكلمة ما جنس الحد وعدل عن قول الأصل لفظ للإشارة إلى ان العموم يكون أيضا من عوارض المعاني وقولنا استغرق صالحا له أي تناول ما يصلح له دفعة كما يشعر به لفظ الاستغراق الدال على الشمول والإحاطة بجميع ما يصلح له فالتقييد بدفعه الذي يأتي به الأصوليون في تعريف العام قد أفاده التعبير باستغرق ووجهه أن قوله ما استغرق يشعر ما يطلق عليه
ويصلح له فالنكرة في الإثبات مفردة ومثناة وجمعا واسم الجمع كقوم ومراتب الأعداد كعشرة لا استغراق فيها كلها لما تصلح له على جهة الإحاطة بل على سبيل البدلية كرجل يتناول كل فرد على البدلية فلما قلنا استغرق ما يصلح له خرج ما ذكر وعلم أنه لا يكون الاستغراق إلا دفعة
فإن قلت نحو المسلمين والرجال معرفين بلام الاستغراق عمومها بالنظر إلى تناول كل جماعة لا الآحاد فلا يتناولان كل فرد فرد فلا يتم دخولهما في التعريف وهما من ألفاظ العام قلت الحق أن التعريف الاستغراقي في الداخل على الجمع قد سلبه معنى الجمعية كما عليه أئمة التفسير وكثير من المحققين فهو كالرجل معرفا بها يدل على كل فرد فرد
وقولنا من غير حصر فصل آخر لإخراج اللفظ المشترك إذا استعمل في جميع معانيه فإنها محصورة وفيه نزاع واختلاف ومرادنا من غير حصر يدل عليه اللفظ لا في الواقع فإنه قد يكون العام محصورا كالسماء والأرض وعلماء البلد
واعلم أنه اشتهر بين علماء الأصول إشكال أورده القرافي حاصله أن دلالة العام على كل فرد فرد من أفراده كما قلتم مشكل لانحصار الدلالات بالثلاث ودلالة المشركين في فاقتلوا المشركين مثلا على زيد المشرك لا تصلح أن تكون من أي الدلالات الثلاث أما المطابقة فظاهر لأن زيدا المشرك ليس تمام ما وضع له لفظ العام والتضمن دلالة اللفظ على جزء معناه والجزء لا يصدق إلا إذا كان المسمى كلا وقد تقدم أن دلالة العام على سبيل العموم والاستغراق لكل فرد فليس هو بكل والالتزام الدلالة على أمر خارج وزيد المشرك ليس بخارج عن معنى العام بل داخل قال فأما أن
يبطل حصر الدلالات اللفظية في الثلاث وإما أن لا يكون العام دالا على شيء من أفراده فلا يتم أنه دال على كل فرد فرد كما هو المدعى
وقد اضطرب الأئمة في حله بما هو مودوع في كتب الأصول
والذي يظهر لي وإن لم يتنبه له أحد هو أن هذا الإشكال وإن أطال الأئمة فيه المقال يفتقر إلى تأمله فإنه قال القرافي الذي أورده إنه لا يدل لفظ اقتلوا المشركين على قتل زيد المشرك إلى آخر كلامه جوابه أن يقال إن أردت أن لفظ المشركين لا يدل على قتل زيد بأي الثلاث فهذا مسلم ولا شك فيه ولا إشكال به وإن أردت أنه لا يدل على المشركين فهذا لا يقوله من يفهم الدلالات ضرورة أنه من إفراد جمعه وأنه يدل عليه تضمنا لأنه جزاء الموضوع له لفظ جمعه
وإذا عرفت هذا فزيد المشرك ما أمر بقتله لكونه زيدا ولا دل لفظ المأمور بقتلهم عليه بل دل اللفظ على الأمر بقتل المشركين واتفق أنه عرف أحد أفراده في الخارج بأنه زيد فكونه زيدا لسنا مأمورين بقتله ولا دل عليه الأمر ولا توجه إليه الخطاب إلينا بقتله بل ولا هو من إفراد العام الذي صدر بحث الإشكال به بل فرده الذي دخل تحته ووقع الأمر بالقتل عليه هو المشرك فاتفقا أنه زيد كاتفاق أنه أحمر وأسود فإنا نقتله لكونه مشركا مدلولا لما أوقع عليه الأمر وتعلق به الخطاب لا لكونه أحمر مثلا وإذا تحققت هذا علمت أن أصول السؤال مغالطي وأن المجيبين لم يفتضوا بكارته وأجابوا على
تسليم الإشكال وما عرفوا أنه ركبه السائل على حق وباطل فقال لا يد على قتل زيد المشرك قلنا ذكر زيد باطل وإدخاله هنا لغو من السائل وقولك المشرك لا يعلق به السؤال ولا يناط على عاتقه هذا الإشكال فليتأمل وإن خفي على المحققين من الرجال فبيد الله الإفضال هذا وفي جمع الجوامع ان مدلوله كلية أي محكوم فيه على كل فرد مطابقة إثباتا أو سلبا لا كل أو محكوم فيه على مجموع الأفراد من حيث هو مجموع ولا كلي ولا محكوم فيه على الماهية من حيث هي أي من غير نظر إلى الإفراد قال ودلالته على أصل المعنى قطعية وعلى كل فرد بخصوصه ظنية انتهى ... خلاف هذا الخاص والتخصيص ... إخراج بعض منه والمنصوص ...
أي خلاف قولنا ما استغرق صالحا له الخاص وهو ما لا يستغرق صالحا له لحصر وقولنا والتخصيص مبتدأ خبره إخراج بعض منه والمنصوص مبتدأ يأتي خبره
والعم ! انه تبع النظم المنظوم في رسم الخاص وهو تبع المعيار وقد أورد عليه بأنه لا ينطبق على المحدود إذ الخاص قد يكون عاما في نفسه نحو لا تقتلوا أهل الذمة فإنه تخصص فاقتلوا المشركين وجزئيا نحو اقتلوا القوم إلا زيدا والرسم لما ذكرنا لا يصدق على شيء منها ولك أن تقول عبارة النظم صحيحة فإن الخاص خلاف العام وليس لفظ هذا عائد إلى رسم العام نفسه بل المراد خلافه في اسمه ورسمه وهو ما أخرج من العام كما أشعر به قولنا والتخصيص إخراج بعض منه أي من العام والمراد إخراجه عما يقتضيه ظاهر اللفظ من تناول إرادة المتكلم به والحكم عليه لا إخراجه عن الحكم نفسه والإرادة في أن الخاص لم يدخل تحتهما من حيث الإرادة والحكم
بحسب الظاهر حتى يخرج ولا إخراجه عن الدلالة فإنها كون اللفظ بحسب الظاهر إذا أطلق وفهم منه المعنى وهذا حاصل مع التخصيص ففي التحقيق ليس هناك إخراج وأن التعليل به مجاز عن عدم الدخول وصار في العرف حقيقة بشيوعه وقولنا منه إشارة بحرف التبعيض إلى أنه لا يجوز التخصيص حتى لا يبقى شيء من إفراد العام ويأتي تحقيقه وقولنا والمنصوص تقدم أنه مبتدأ مراد به الذي نص عليه أئمة الأصول من ألفاظ العموم وهو ما يفيده خبره أعني قولنا ... في الأصل من ألفاظه ما تسمع ... كل جميع ثم ست تتبع ...
أي الذي نص عليه من ألفاظ العموم في أصل المنظوم هي ما تسمعه من ذلك في النظم أولها لفظ كل فهو مرفوع بدل من قولنا ما تسمع فلفظ كل يفيد العموم وهي تضاف إلى نكرة نحو كل نفس ذائقة الموت وإلى معرفة نحو اشتريت كل الدار مفردا أو جمعا نحو كل الرجال أكرمهم وهذا فيما كانت متبوعة وتفيده تابعة نحو فسجد الملائكة كلهم أجمعون ومثلها جميع في إفادتها العموم تابعة ومتبوعة إلا أنها لا تضاف إلى نكرة وقولنا ست تتبع أي ست كلمات بينها قولنا ... أسماء الاستفهام والشرط كمن ... خاف المعاد لم يذق طعم الوسن
بيان لها وهي أسماء الاستفهام وأسماء الشرط والنكرة في سياق النفي والجمع المضاف والموصول والمعرف بلام الجنس كما ستمر بك فأسماء الاستفهام كأي لمن يعلم ولمن لا يعلم نحو أيكم زادته هذه إيمانا فبأي حديث بعده يؤمنون وغير ذلك وأسماء الشروط مثلها الناظم بقوله من خاف المعاد لم يذق طعم الوسن ومنه قوله تعالى وما تفعلوا من خير يعلمه الله ... والنكرات في سياق النافي ... والجمع إن قيد بالمضاف ...
قولنا النافي صفة محذوف أي اللفظ النافي واللفظ أعم من أن يكون بأي أدوات النفي لا التي لنفي الجنس أو غيرها
واعلم أن النكرة في الاثبات قد تفيد العموم لاعتبارات وقرائن يقتضيها المقام نحو ولعبد مؤمن خير من مشرك قول معروف خير من صدقة وهو كثير في الكتاب والسنة وقد ذهب الجمهور القائلون بأن للعموم صيغة إلى الاتفاق على هذه التي قدمناها من ألفاظه والخلاف بينهم فيما عدها منها قولنا ... والجمع إن قيد بالمضاف ...
فإن فيه خلافا هل هو من ألفاظه أم لا ومثاله قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وأكرم علماء البلد ومرادهم بالجمع ما دل على أكثر
من اثنين ! سواء كان له مفرد من جنسه أو لا فيدخل اسم الجمع وهو ما يطلق على ثلاثة فصاعدا بحسب الوضع نحو قوم نوح وغنم القوم وخرج بمفهوم القوم الجمع المفرد إذا أضيف فلا يفيد العموم ويأتي تحقيقه ... ومثلة الموصول في الجنس وما ... بلامه عرف عند العلما ...
أي مثل الجمع المذكور في إفادة العموم الموصول إذا كان للجنس لا إذا كان للعهد نحو وقال الذي آمن ونحو قد سمع الله قول التي تجادلك وقولنا وما بلامه أي لام الجنس فيقال إنها لام الاستغراق نحو إن الإنسان لفي خسر ولذا صح الاستثناء منه ومعيار عمومها أن يصلح وقوع كل موقعها نحو كل إنسان في خسر وقيده في ذلك ليخرج سائر معاني اللازم إيضاحا للمراد وإلا فالكلام في صيغ العموم ووضع لام التعريف حقيقة في الاستغراق كما ذهب إليه جماعة من المحققين سواء دخلت على الجنس نحو الرجل أو اسمه نحو العسل والماء أو الجمع نحو الرجال أو اسمه كالغنم والرهط والقوم كما تقضي به عبارة النظم
واعلم أن إثبات العموم لما ذكر وأنه حقيقة فيه هو قول الجماهير ويروى عن الأئمة الأربعة قال ابن حزم وهو قول الظاهرية واستدل لهذا بتبادر فهم العموم من نفس الصيغ المذكورة لأهل اللسان العربي والتبادر علامة الحقيقة من ذلك قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي فإنه فهم نوح من قوله تعالى وأهلك نجاة ابنه معهم فقال إن ابني من أهلي ومنه قول الملائكة لإبراهيم إنا مهلكوا أهل هذه القرية فهم إبراهيم العموم ف قال إن فيها لوطا وأجابته الملائكة بتحقيق ما فهمه وكذا استثناؤه تعالى
امرأته وهو معيار العموم في الصحيحين لما نزل قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال ابن أم مكتوم إني ضرير فنزل غير أولي الضرر فأقره صلى الله عليه و سلم على فهم العموم ونزل القرآن بالتخصيص وفيهما أنه لما نزل قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا يمانهم بظلم قال الصحابة وأينا لم يظلم نفسه ففهموا العموم من النكرة في سياق النفي وأقرهم صلى الله عليه و سلم وبين لهم أن المراد به ظلم مخصوص هو الشرك والآيات والأحاديث واسعة في هذا
واستدل أيضا بإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن إفادة صيغ العموم له بنفسها فإنه شاع فيهم الاستدلال بذلك بمثل والسارق والسارقة والزاني والزانية يوصيكم الله في أولادكم ولم ينكر فكان إجماعا وقد نفاه العموم لدفع هذين الدليلين بما لا يخرج ألفاظ العموم عن أنها ظاهرة في العموم وهو المدعى أنها حقيقة فيه ظاهرة في معناه وقد تخرج عنه بقرائن كان يراد بالعموم الخصوص ... واختلفوا هل يدخل المخاطب ... تحت خطاب نفسه والواجب ... دخوله والمدح لا يغير ... دلالة العموم وهو الأظهر ...
هاتان مسألتان معروفتان في الأصول تعرف الأولى بدخول المتكلم في خطاب نفسه الوارد بصيغة العموم فاختلف العلماء في ذلك ما أشار إليه النظم وقوله واختلفوا استئناف بيان لهذه المسألة ولهم أقوال
الأول إنه داخل تحت خطاب نفسه الوارد بصيغة العموم وهذا قول الأكثر وإليه أشير بقولنا والواجب دخوله سواء كان خبرا أو أمرا فالأول نحو من قال لا إله إلا الله إلى قوله كان له كعدل نسمة فإنه صلى
الله عليه وآله وسلم داخل في هذا
والثاني نحو من أصابه هم أو حزن فليقل إني عبدك وابن عبدك الحديث فإنه صلى الله عليه و سلم كذلك قالوا وكذا إذا ورد الخطاب بمثل يا ايها الناس يا أيها الذين آمنوا وقل للمؤمنين أو بلغ ما أنزل إليك وأمثالهما فالنبي صلى الله عليه و سلم داخل في مثل هذا وإن كان مبلغا لغيره فهو مخاطب اسم مفعول باعتبار توجيه الخطاب إليه ومخاطب اسم فاعل باعتبار أنه المبلغ الأمر الناهي فهو مأمور بالتبليغ للمكلفين وهو من جملة الملكلفين فهو داخل في عمومات الخطاب ما لم تقم قرينة على خروجه عنه هذا كلام الجمهور وفيه طول لا حاجة إليه وخلافات خارجة عن محل النزاع
وأقول تحقيق المسألة أن المتكلم لا يخلو إما أن يتكلم عن نفسه كقوله من لا يكرم نفسه لا يكرم وقول الآخر من يفعل الحسنات الله يشكرها
فالمتكلم مشمول بكلامه مخبر لنفسه ولغيره وليس الإخبار محصورا في إفادة الخطاب بل المعاني المفادة للإخبارات كثيرة فإن الواعظ مخاطب غيره بمواعظه وهو داخل في ذلك وإما أن يكون المتكلم رسولا إلى المخاطبين متكلما عن غيره ! فالظاهر خروجه عن عموم الخطاب مثل رسل السلطان إذا تكلمت عنه وبلغت أوامره ومن ذلك رسل الله تعالى فإنهم مبلغون عنه تعالى وقرينة الإرسال قاضية بخروجهم عن اللفظ وإن كان اللفظ من حيث مادته يصدق عليهم مثل الناس والذين آمنوا
إذا تقرر هذا فقول من قال يدخل المتكلم في عموم خطابه ينظر إلى أمرين الأول إلى مطلق كونه متكلما وهو خطأ فإنه لا يسمى القرآن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يصح ذلك بل هو كلام الله وإنما
هو مبلغ وحاك فعرفت بهذا أنه خارج عن أصل المسألة ومحل نزاعها لأن المسألة معقودة لدخول المتكلم في كلام نفسه والثاني قولهم لتناوله لغة يتم في المتكلم عن نفسه لا المبلغ عن غيره وقد عقدوا مسألة للمبلغ عن غيره وحكموا بأنه صلى الله عليه و سلم داخل في عموم ما بلغه نحو يا عبادي كما قالوا بدخوله في الأولى ونحو نقول إنما هو صلى الله عليه و سلم مبلغ لا غير إذ الكتاب والسنة كلاهما وحي فهو مبلغ لهما ولو حررت المسألة بأنه هل يدخل المبلغ في عموم كلام من بلغ عنه لكان دخوله صلى الله عليه و سلم في ذلك ظاهرا وهذا بالنسبة إلى القرآن في غاية الوضوح ولعله هو الذي غر من قصر الخلاف عليه وأما بالنسبة إلى السنة فلا كلام في ظهور أنه صلى الله عليه و سلم داخل في عموم كلامه
والتحقيق أنه لا يتكلم إلا بما أمر به غايته أن بعضه وقع بعبارة الكتاب السماوي وبعضه بعبارته صلى الله عليه و سلم فالكل عن الله تعالى وهذا لم يشمله عموم كلامه سواء كان بعبارة الكتاب أو عبارة السنة فالكل عن الله تعالى كما يرشد إليه قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فكل ما آتانا به فهو مبلغ له عن الله ولذا كان الحق أن السنة أحد الوحيين وقال تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى غاية الفرق بينهما أن عبارتها ليس معجزة كالقرآن وأنه لا تصح نسبتها إلا إليه صلى الله عليه و سلم فيقال فيها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يقال فيها قال الله وإذا عرفت هذا علمت أن المسألة وإن تطابقت عليها كتب الأصول لم تحرر وأنه أدخل فيها الخطابيات القرآنية
وتحقيق الحق أنه صلى الله عليه و سلم مرسل إلى نفسه كما أنه مرسل إلى غيره فهو داخل في العمومات القرآنية لا لكونه متكلما كما يقتضيه كلامهم بل لكونه مبلغا لنفسه عن ربه مأمورا بما أمر به غيره إلا ما خص منها لدليل خارجي فهذا وجه دخوله في العموميات القرآنية وكذا نقول في
رسل الملوك ! إنهم غير داخلين في عمومات ما بلغوه إلا أن تقوم قرينة على ذلك فهذه المسألة الأولى
وأما المسألة الثانية فهي ما أشار إليه قولنا والمدح هو مبتدأ لا يغير خبره و دلالة العموم مفعول لا يغير وضمير وهو للمصدر المدلول عليه بفعل التغيير المنفي وهو مبتدأ خبره الأظهر
واعلم أنه اختلف العلماء في العام الوارد في معرض مدح نحو إن الأبرار لفي نعيم أو ذم نحو وإن الفجار لفي جحيم على ثلاثة أقوال
الأول إنه لا يبطل به العموم وهو قول الجمهور وإلى اختياره أشار الناظم بقوله وهو الأظهر ووجهه واضح وهو أن صيغة العموم هي المقتضي لشمولها لإفراد ما تحتها ولا يخرجها عن مقتضاها معنى سيقت لأجله قلت وتخصيص النزاع بما سيق لغرض مدح أو ذم كأن قاله الأول وتبعه الآخر وإلا فكل غرض سيق له العام يلزم فيه الخلاف والحق أنه لا يغير العام غرض سيق له لسلامة المقتضى عن المعارض ... والله لا آكل عام فيما ... يؤكل واختاروا هنا التحريما ...
هذه المسألة وهي هل الفعل المتعدي وغيره إذا وقع في سياق النفي أو ما في معناه من غير ذكر لمفعوله عام أو لا اختلف فيه العلماء وذلك مثل والله لا آكل وإن أكلت فعبدي حر في المتعدي ولا أقعد في غيره وهذا صرح به في الفصول أعني عموم الخلاف له فذهب الجمهور إلى أنه يعم فيقبل التخصيص بالنية إذا نوى مأكولا خاصا أو زمانا أو مكانا ولا يحنث بغير
ما نواه وقالت الحنفية لا يعم فلا يقبل التخصيص فأما إذا ذكر متعلق الفعل وأكد بمصدره نحو لا آكل العنب أو أكلا فاتفقوا على أنه لا يحنث إلا بما تلفظ به أو نواه في صورة التأكيد بالمصدر ومنشأ الخلاف هل متعلق الفعل مقدر فيكون كالملفوظ ملاحظا في المقام او غير مقدر فليس بمقصود وإنما سيق الكلام لنفي حقيقة الفعل فكأنه قال لا يقع مني أكل ولا نزاع في ورود الاعتبارين في فصيح الكلام إنما الكلام ما هو الظاهر منهما فيحمل عليه المحتمل لهما فذهب الجمهور إلى حمله على تقدير مفعوله قالوا لاحتياج الفعل إلى متعلقه إما لتوقفه عليه كالمفعول به أو لأنه من ضرورياته كالزمان والمكان فهو كالملفوظ فيخصص بالنية ولا يحنث إلا بما نواه
وقال الآخرون الأصل عدم التقدير والكلام غير محتاج إلى اعتبار المتعلقات في المقام لعدم توقف صحة الكلام ولا صدقه عليه إذ قد ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم ومناط ذلك ظهور مراد المتكلم وحذفه لمتعلقاته قرينة أن مراده نفي الفعل من غير نظر إلى متعلقاته وإن كان في قوة والله
لا أوجد آكلا وآكلا نكرة في سياق النفي لكن ليس المقصود إلا نفي الفعل من حيث هو من غير ملاحظة لذلك التركيب فليس هو في حكم المقدر فلا اعتبار به وحاصله أن العموم مسلم لكنه على طريق الالتزام في المتعلقات وليس هو بلفظي ولا في حكم اللفظي المقدر فلا يقبل التخصيص بالنية وأجاب الأولون بأن تنزيل المتعدي منزلة اللازم مجاز والأصل هو الحقيقة ولا نسلم أرجحية المجاز للقرينة التي ذكرتم على الحقيقة في المقام وقولنا ... أن يعملوا بالعام قبل الفحص ... عن خاصه من ظاهر أو نص ...
بفتح الهمزة مفعول اختاروا وهي إشارة إلى مسألة العمل بالعام قبل البحث هل له مخصص من ظاهر أو نص وهي مسألة خلاف والذي في النظم الجزم باختيار تحريم العمل قبل البحث في مخصصه وعبارة النظم واصله قاضية بالاتفاق على تحريم العمل به قبل البحث عن مخصصه وهذا الاتفاق صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وهذا إن حملت ضميرا اختاروا على العلماء مطلقا السابق ذكرهم ولك ان تجعله للجمهور من العلماء لأنه اتفاق لهم الجميع
وقد ذهب جماعة من محققي الشافعية كالرازي وأتباعه والسبكي والبرماوي وغيرهم إلى أنه يجب العمل بالعام من دون بحث عن مخصصه قالوا لأنه ظاهر في الاستغراق وهو حقيقة كما عرفت فيجب العمل بالظاهر حتى يرد ما يغيره وقول من قال لا يعمل به حتى يبحث عن مخصصه لأنه قد كثر للعام ذلك أي التخصيص حتى قيل ما من عام إلا وقد خص إلا مثل والله بكل شيء عليم لا يوجب عدم العمل بالعام
لجواز وجود مخصص وإلا لزم أن لا يعمل بالحقيقة حتى يبحث عن مجازها لكثرة المجاز وهذا باطل عند اكثر العلماء وإن قيل بأن فيه خلافا وقولهم بأن احتمال التخصيص في العام أقوى من احتمال غيره كالحقائق للمجاز مسلم ولا يقتضي التوقف في العام عن العمل بظاهره فإن العموم هو الظاهر فلا مقتضى لهجره
وقال الآخرون غلبة التخصيص تنفي الظهور ولا ينافي القول بأنه حقيقة في العموم فيجب البحث حتى يظن عدم التخصيص وأجيب بأنه مانع عن العمل ولا يجب ظن عدم المانع بل يكفي عدم ظنه كما عرف في مواضع
قال الزركشي الواجب العمل بالعام حتى يبلغه المخصص لأن الأصل عدم المخصص ولأن احتمال الخصوص مرجوح وظاهر صيغة العموم راجح والعمل بالراجح واجب بالإجماع
قلت وهذا هو الذي نختاره ونعمل به ونراه الحق لما علم من استدلال الصحابة ومن بعدهم بالعام من غير بحث عن مخصصه وهي قضايا كثيرة ... وأيها الناس لمن قد وجدوا ... ولا يعم اللفظ من سيوجد ... بل بالدليل والذين آمنوا ... ونحوه مما الذكور باينوا ... في لفظه الإناث داخلات ... نقلا أو التغليب والأثبات ...
هذه مشتملة على مسألتين الأولى إذا ورد الخطاب العام بمثل يا أيها الناس و يا أيها الذين آمنوا والمراد به خطاب المشافهة هل يشمل من سيوجد كما يشمل من هو موجود حال الخطاب فاختلف العلماء فيه فقيل إنه لا يعم إلا من وجد وهذا قاله الجمهور قالوا لأنا نقطع بأنه لا يقال لمعدومين يا أيها الناس ونحو وإنكاره مكابرة ورد بأنه ليس النزاع في خطأ المعدومين خاصة في شمول الخطاب الموجه إلى الموجودين لهم وأي مانع من دخولهم بطريق التغليب وهو شائع ذائع في فصيح الكلام
وأقول ينبغي تحرير محل النزاع وهو انه هل يصدق على المعدوم أنه مشافه ومخاطب أي واقع عليه المشافهة والمخاطبة أو غير واقعة عليه ولا ريب أنهما غير واقعين إلا على من سمع الخطاب والمشافهة وليس هو كل موجود بل كل من سمع من المخاطب اسم فاعل وهو الذي يصح منه أن يقول سمعت فلانا يقول
ثم لا كلام أن المخاطب اسم فاعل نحو يا أيها الناس وهو الرسول صلى الله عليه و سلم فمن شافهه وخاطبه كان هو المخاطب اسم مفعول والمشافهة والسامع هذا تحرير محل النزاع وليس الكلام في عموم الحكم الواقع في سياق الخطاب فإنه عام بعموم الرسالة وبه يعرف أن كلام بعض المحققين في حواشيه على ابن الحاجب وهو المقبلي رحمه الله وهو قوله إن الخطاب بمثل يا أيها الناس إما ان يريد المخالف بأن من سيوجد لا يسمى مخاطبا بذلك الخطاب فلا يعمه وإما أنه لا يلزمه مدلوله مثلا وجوب السعي لصلاة الجمعة مثلا بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية إنما يلزم من سمعه من الصحابة وأما من عداهم فبدليل آخر
وكلا الطرفين محل نظر أما الأول فلأن الخطاب نوع من الكلام والتكليم منه تعالى وإن وقع للنبي صلى الله عليه و سلم في الإسراع على ما قيل فليس هو بكل حكم بل الواسطة جبريل فلم يخاطب النبي صلى الله عليه و سلم حقيقة وكذا هو صلى الله عليه و سلم خاطب من حضر ثم بلغ الحاضر الغائب ولم يزل كذلك فكأنه لا يقال للغائب يا أيها الناس كذا المعدوم فلا فرق بين الغائب والمعدوم في امتناع توجيه الخطاب إليه وخطاب كل مشروط وبارتفاع الموانع فيكون صفة الحضور أو الوجود وصفا ملغى ليس بمعتبر في المقام
وأقول قوله فلم يخاطب النبي صلى الله عليه و سلم حقيقة يريد الله
تعالى وهذا مسلم ولا يحتاج إلى نفيه ولا إلى إثباته لأنه ليس من محل النزاع أن الرسول مخاطب اسم مفعول لله تعالى بكل حكم بل بحرف المسألة إذ قال الرسول يا ايها الناس مبلغا عن ربه او قال عن نفسه هل يصدق على من غاب أو لم يوجد أنه مخاطب اسم مفعول للرسول أي واقع عليه الخطاب من المخاطب اسم فاعل أي مخاطب كان الحق أنه لم يقع الخطاب إلا على من سمعه وأما ذكره للقسم الآخر وهو لزوم الحكم للغائب ومن يوجد فهذا أمر قد اتفق عليه الكل لا نزاع فيه وحاصله أنه صلى الله عليه و سلم مخاطب بالإبلاغ للأحكام وقد وقع عليه الخطاب منه تعالى أو من جبريل فقوله فلم يخاطب مبني على أن المدعى أنه تعالى خاطبه صلى الله عليه و سلم بكل الأحكام وليس كذلك وإلا لزم أن لا يصح عقد المسألة في حق الأمة لأنه تعالى لم يخاطب بشرا من الأمة فالمسألة واضحة ولا وجه لما أتى به من الترديد إذ النزاع هل يدخل في خطاب المشافهة من غاب عنها أو من عدم أي هل يصح إيقاع الخطاب عليه مع غيره ويشتق له اسم مفعول كما يشتق للحاضر أم لا من غير نظر إلى من هو المخاطب اسم فاعل وإذا عرفت هذا عرفت انه كان الصواب أن تعنون المسألة بأنه هل يدخل غير حاضر المخاطب في خطاب المشافهة غائبا كان أو معدوما والحق أنه غير داخل لغة ولذا قلنا ولا يعم اللفظ من سيوجد فعلقنا النفي باللفظ ولذا لا يصح أن يقول سمعت أو حدثني أو أخبرني إذا كان غير حاضر مجلس الخطاب والسماع لأنه غير مخاطب ولا سامع وأما لزوم حكم ما بعد الخطاب لكل من غاب ومعدوم فبدليل عموم التشريع على أن عندي أن المسألة قليلة الجدوى إذ الفراغ لفظي وهي في تسمية من لم يحضر موقف الخطاب مخاطبا لا في الأحكام فإنها لازمة بالاتفاق
والتحقيق أن هنا في مثل يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية خطابين الأول مطوي وهو قول يا محمد فإنه مبلغ فلا بد من تقديره كما يدل له التصريح في آيات نحو قل لعبادي فالمخاطب بقل هو الرسول بخطاب جبريل والمخاطب ب يا أيها الذين آمنوا المؤمنون بخطاب الرسول فجبريل مخاطب للرسول حقيقة ومن غاب مبلغ سواء كان غائبا أو معدوما ولذا قال ليبلغ الشاهد الغائب وقال بلغوا عني ولو بآية ومع هذا فمسألة لا فائدة تحتها إذ عموم التشريع بكل حكم وصل إلى المكلف بأي طريق يجب عليه ويلزمه
واعلم أن الجمهور على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة والأحوال فقوله تعالى اقتلوا المشركين أمر بقتل كل مشرك في أي زمان ومكان وحال وهذا لا ينافي قولهم إنه لا يشمل خطاب المشافهة بالعام من سيوجد لأن المراد أن من خوطب يستلزم خطاه بالعام ما ذكر من الثلاثة الأمور ومتى بلغه الحكم لزمه ذلك مع استلزامه الثلاثة فلا يتنافى وقلنا الجمهور لأنه قد ذهب آخرون إلى أن العام مطلق في الثلاثة وعليه ورد إشكال القرافي المعروف بأنه يلزم أن لا يعمل بالعمومات الواردة في الأحكام في هذه الأزمنة لأنه قد عمل بها في زمان ما والمطلق يخرج عن عهدة التكليف به إذا وقع العمل به في صورة ما والتحقيق في الجواب إيراده وأصل المسألة أن من قال إنه مطلق في الثلاثة فمراده أن دلالة الصيغة أي صيغة العموم عليها ليس بحسب الوضع ولكن وجوب العمل بالعام الشامل لأفراده
استغراقا والمحافظة على إجراء حكمه في كل فرد من أفراده يستلزم عموم الثلاثة كما مثلناه ولو أخرجنا مثلا أهل الذمة أو يوم السبت أو سكان بيت المقدس لكون العام مطلقا فيها لكنا قد أبطلنا العمل بالعام في جملة من أفراده التي دل عليها وشملها لفظه وأخرجنا العام عن مقتضى وضعه فالحاصل أن العام بوضعه مطلق في الثلاثة وبإيجاب تعميم الحكم في جميع أفراده مستلزم لها فلمن قال إنه مطلق وجه ولمن قال بعمومه استلزاما وجه
المسألة الثانية مما شمله النظم قولنا والذين آمنو ونحوه إلى آخره إشارة إلى الخلاف فيما وضع من الألفاظ مشتركا بحسب المادة بين الذكور والإناث كما مثلناه وكالمسلمين فإن هذه الصيغ مختصة بالمذكر وإن كانت المادة مشتركة بينهما وأما إذا كانت المادة مشتركة بينهما وأما إذا كانت المادة مختصة بالذكور فلا نزاع فيها كالرجال بخلاف الأول فإنه ذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل تحت عمومه الإناث واستدلوا بإجماع أهل العربية على أن تلك الصيغ موضوعة للذكور فلا يصح دخول الإناث فيها لغة
قال المخالف وهم الحنابلة وبعض الحنفية ألستم تنكرون شمول الأحكام عند التعبير بذلك للفريقين قالوا مسلم ذلك ولكنا نقول إن دخول الإناث في ذلك ليس إلا بأحد أمرين إما بالنقل من الشارع له عن أصل اللغة إلى ما يشمل الإناث ودليل النقل عمل الصحابة ومن بعدهم الخطابات القرآنية والسنية على الفريقين وهذا ما أشار إليه قولنا نقلا أي بالنقل وإما للتغليب كما أشار إليه إيضا في النظم
وأجيب بأنكم إن أردتم بأنه اصطلاح لأهل العربية فمسلم ولا يضرنا وإن أردتم أن ذلك وضع لغوي فممنوع مسندا بأنه قد صح إطلاقه على الفريقين في قوله تعالى قلنا اهبطوا خطابا لآدم
وحواء وإبليس وأدخلوا الباب سجدا أمر لبني إسرائيل ذكورهم والإناث والأصل الحقيقة فيكون مشتركا بين الأحد الداير في عقلاء المذكرين منفردين أو مع الإناث ودعواكم النقل أو التغليب خلاف الأصل
واستدل الجمهور أيضا بحديث أم سلمة بسبب نزول قوله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية فإنها قالت يا رسول الله ما لنا لا نذكر كما يذكر الرجال فأنزل الله الآية على وفق سؤالها وهذا استدلال حسن إلا أنه قد علم دخولهم في مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة اتفاقا والقول بأنه بدليل خارجي خلاف ظاهر الأدلة وخروجهن من بعض الأحكام كصلاة الجمعة كان بدليل خارجي من السنة وتخصيص السنة لهن بذلك دليل دخولهم في ياأيها الذين آمنوا وهذه المسألة قليلة الفائدة للاتفاق في أن الأحكم شاملة للفريقين بأي صيغة حكم على الموضوع في العبارة وقولنا في عجز البيت والأثبات بفتح الهمزة والمثلثة الساكنة فموحدة جمع ثبت أي العلماء الأثبات وهو مبتدأ خبره قولنا قالوا إذا الحكم أتى في البعض ... فليس بالتخصيص فيه نقضي ...
والمراد أنه قال أثبات العلماء إنه إذا ورد حكم والعام محكوما به على بعض أفراده فإنه لا يخصص به العام فقولنا في البعض أي بعض أفراد العام كما أن قولنا الحكم أردنا به حكم العام ومثال المسألة المشهور حديث ابن عباس عند مسلم إذا دبغ الاهاب فقد طهر فهذا عام حكم عليه بطهارته بالدباغ ثم ورد في خاص وهو حديث الصحيحين من حديثه
أيضا أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة ميتة فقال هلا استمتعتم بإهابها فقالوا إنها ميتة فقال صلى الله عليه و سلم إنما حرم من الميتة أكلها ومثله ما رواه مسلم عن ابن عباس عن ميمونه أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة لميمونة ماتت فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به الحديث فحكم هنا على جلد الشاة بالحكم الذي حكم به على كل إهاب فذهب الجمهور إلى أن هذا لا يخص به العام وقال أبو ثور بل يخص به حكم بأنه لا يطهر الدباغ إلا جلد المأكول وقال الجمهور هذا عمل بمفهوم اللقب وقد مر هنا أنه لا يعمل به وتقدم البحث فيه فأغنى عن إعادته هنا وبه يعرف ضعف قول أبي ثور إنما قام الدليل على التخصيص للعلم بالمفهوم المعتبر والمسألة راجعة إلى الخلاف في العمل بمفهوم اللقب وقولنا ... كذا الضمير إن إليه عادا ... إذ لا ينافي ما له أفادا
أي إن حكم الضمير إن عاد إلى بعض إفراد العام لأنه لا يقتضي تخصيص العام فالضمير في قوله إليه عائد إلى البعض الذي سبق ذكره في البيت الأول والمثال المشهور في المسألة قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فإنه عام للبائنات والرجعيات ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وهذا خاص ببعض أفراد العام وهن الرجعيات فإن الأحقية بالرجعة فيهن لا غير فهنا ذهب الجمهور إلى أنه لا منافاة بين عموم اللفظ وعود الضمير إلى بعض أفراده كما قال الناظم إذ لا ينافي أي عود الضمير إلى بعض أفراد العام لا يخرجه عن عمومه بكل أفراد بذلك وذهبت الحنفية إلى أنه يخصص به العموم بمعنى أنه يراد بالمطلقات الرجعيات وغيرهم من البائنات لا يدخلن في الآية فلا يعرف حكمهن من الآية بل من أدلة أخرى بت ولذلك قالت الحنفية في حديث لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل معناه إلا كيلا منه بكيل منه قالوا والضمير محذوف عائد إلى البر الذي يكال لا إلى جميع البر فيجوز بيع حفنة بحفنتين عندهم لأن ذلك غير مكيل فيكون العام وهو البر مخصصا بالضمير
قلت والتحقيق أنه ليس هنا تخصيص وهو إخراج ما دخل بل أريد بالعام ابتداء بعض أفراده فأريد بالمطقات الرجعيات فقط فهو من العام الذي أريد به الخصوص لا من العام المخصوص واختار بعض المحققين كلام الجمهور قائلا بأن الضمير قد وضع لربط معنى متأخر بمعنى متقدم للدلالة على أن المعنى الآخر هو المتقدم سواء كان مذكورا بلفظه أو دلت عليه قرينة كما قال النحاة تقدم ذكره لفظا أو معنى أو حكما فلا يأتي الضمير مخالفا لما قبله بحسب وضعه وهو أغلب استعمالاته وقد يخرج عنه بالقرائن إلى معنى مجازي منه بأن يراد به بعض ما تقدم كالآية فإن ضمير بعولتهن أريد به بعض ما شمله المطلقات بلفظه ظاهرا وخروج الضمير عن أصله وضعه للقرينة
والعلاقة مجاز لا مانع عنه كما في الآية فإن ضمير بعولتهم أريد به البعض من معنى المطلقات فهو من إطلاق الكل على البعض إذ ظاهر مقتضى الضمير عوده على الكل وقد أطلق هنا على البعض وهو انتقال صحيح مجازي كالاستخدام بالضمير وغيره فهذا يؤيد صحة كلام الجمهور لأن اللفظ باق على عمومه والضمير لبعضه
واعلم أن المسألة اشتهرت بما ذكر من أن عود الضمير إلى بعض إفراد العام لا يخصص العام وهذا الحكم جار في الصفة والشرط والاستثناء كما صرح به أبو الحسين ومثلها وهي في الفواصل مستوفاه بت وفي شرح الغاية واعلم أنه قد يعبر عن هذه المسألة بما هو أعم من عود الضمير على بعض ما يتناوله العام بأن يقال تعقيب العام بما يكون مختصا ببعضه هل يقتضي تخصيصه أم لا سواء كان ذلك ضميرا كما سبق أو غيره إلى آخر كلامه
وإذا عرفت ما قررنا من المسائل التي تعلقت بالعام والخاص فاعلم أن التخصيص منقسم إلى متصل ومنفصل وقد شمله قولنا ... واقسم إلى متصل ومنفصل ... مخصص العام فأما المتصل ...
فإنه بيان لقسمي المخصص عند أئمة الأصول فالمتصل هو ما لا يستقل بالإفادة بل يحتاج إلى غيره والمنفصل هو ما يستقل بها والمخصص قسم فاعل هو الدليل وقد يطلق على فاعل التخصيص وكلاهما
صحيحان وإن كان الأصل هو إرادة المتكلم لكن لا بحث عنها إذ هي أمر نفسي وبعد فراغه عن كلامه تعرف إرادته به
واعلم أنه قد اختلف في ما يجوز التخصيص إليه من أفراد العام فقيل يجوز إلى واحد سواء كان العام جمعا أو لا وهذا حكي عن الجمهور مستدلين بأن الباقي من العام بعد التخصيص مجاز كما يأتي تقريره في أواخر باب التخصيص وهو رأي الجمهور قالوا والتخصيص قرينته فالمصحح للاطلاق هو القرينة وقد وجدت فيجوز ولو إلى واحد وقد تقرر أن العام بدل على كل فرد من أفراد مدلوله جمعا كان أو غيره وهو أيضا رأي الجمهور
وتقرر جواز التخصيص وهو إخراج بعض إفراد العام عن حكمه والإخراج إلى أن يبقى واحد صادق على ذلك فالمانع منه هو المحتاج إلى الدليل وقد ورد أيضا في القرآن الذين قال لهم الناس والمراد به واحد وهو نعيم بن مسعود كما عرف في سبب النزول وإن كان هذا من العام المراد به الخصوص لا من العام المخصوص لكنه إذا جاز فيه فليجز في العام المخصوص فإنه لا فارق بينهما إلا الإرادة فكما جاز أن يراد واحد من أفراده ابتداء من دون ملاحظة العموم في العام فليجز أن المراد به واحد من افراده مع ملاحظة العموم وأي فارق مصحح لهذا دون هذا ومن ذلك قوله تعالى وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك فإن المراد به جبريل ومن ذلك وقالت اليهود يد الله مغلولة مع أن القائل بعضهم وفيه آيات أخر فهذا القول أقرب الأقوال وهي خمسة مقصودة في المطولات
فإن قلت وأي فرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص
قلت قال ابن دقيق العيد يجب أن يتنبه لفرق بينهما فالعام المخصوص أعم من العام الذي أريد به الخصوص ألا ترى أن المتكلم أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهره من العموم ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ فكان عاما مخصوصا ولم يكن عاما أريد به الخصوص ويقال إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج وهذا متوجه إذا قصد العموم وفرق بينه وبين أن لا يقصد الخصوص بخلاف ما إذا نطق بالعام يريد به بعض ما تناوله انتهى قوله ... فالشرط والغاية والاستثناء ... والوصف والإبدال بعضا وهنا ...
بيان لأقسام المتصل والفاء جواب أما وقد قسم في النظم إلى خمسة كما ترى وهو رأي الأكثر وبعضهم يسقط منها بدل البعض فالأول الشرط والمراد به اللغوي وهو ما علق الحكم فيه على شيء بأداة شرط نحو أكرم العلماء إن عملوا بالعلم فخص الحكم وهو الأمر بالإكرام بشرط وهو العمل به والثاني منه الغاية وهي لغة طرف الشيء ومنتهاه وقد تطلق على الحرف الدال على ذلك وتارة على مدخوله وهو المراد نحو قوله تعالى وأتموا الصيام إلى الليل واغسلوا أيديكم إلى المرافق وقد اختلف في دخول ما بعدها فيما قبلها على أقوال ثلاثة وقد أطال الرضي في شرح الكافية في ذلك والظاهر أنه يختلف ذلك بحسب المقامات وقرائن
الخطابات وهذا فيما إذا كان حرف الغاية إلى وأما إذا كان حتى فالجمهور من علماء العربية على دخول ما بعدها فيما قبلها ونسب إلى سيبويه وتبعه اكثر العلماء وذهب الأقل إلى احتمال الدخول عدمه واستقر به الرضي وقال لكن الدخول أكثر وأغلب وبه يعرف أن كلام الجمهور هو التفرقة بين حتى و إلى وأن إطلاق النقل عنهم في عدم دخول ما بعد الغاية فيما قبلها فيه إجمال لا ينبغي ثم هذا في حتى الجارة لا في العاطفة فإن دخول ما بعدها فيما قبلها اتفاق
واعلم أنها ترد حتى لغير الغاية بل لتأكيد العموم نحو سلام هي حتى مطلع الفجر لأنه ليس مطلعه من الليل حتى يشمله قوله سلام وليس مثله قراءة القرآن من فاتحته إلى خاتمته لأن ما بعدها داخل فيما قبلها إذ خاتمته آخر سورة منه ونحوه قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن فإن زمان الطهر غير داخل في زمن النهي عن القربان والمقصود أن الغاية التي نحن بصدد بيانها هي ! التي يتقدمها عموم يشملها ينوي بها إخراج بعض مدلول العام هذا ولو قيل إن التخصيص بحتى بمثل قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية من باب الإطلاق والتقييد لكان له وجه أو هو الأوجه بيانه أن قوله حتى يعطوا تقييد للقتال و إلى المرافق تقييد للغسل و إلى الليل تقييد للصيام فالتقييد للأحكام لا للمحكوم عليه والعموم له لا لها هذا ما جنح إليه بعض محققي المتأخرين وهو حسن جدا
والثالث منه الاستثناء والمراد به هنا مجموع كلمة الاستثناء ولفظ المستثنى الذي يقع به تخصيص العام
واعلم أنه اختلف في تحقيق دلالة الاستثناء لإيهامه التناقض فإن قولك عندي له عشرة إلا ثلاثة فيلزم منه إثبات الثلاثة في ضمن العشرة ونفيها في الاستثناء فيلزم التناقض وكيف وهو واقع في كلام الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه و سلم فقرر الجمهور من أهل الأصول والعربية وغيرهم تحقيق دلالته بأن قالوا المراد بقوله عشرة إلا ثلاثة سبعة وكلمة إلا قرينة ذلك فالتخصيص لغيره من المخصصات فإن المراد بالعام المخصص غير ما أخرج منه بالاتفاق ولغيرهم تقارير أخرى في دلالته هذا أولها وهو الذي وعدنا به فيما سبق من أنه مجاز فيما بقي وبقي من إحكام التخصيص بالاستثناء ما يأتي من شرطية الاتصال وعدمه
الرابع منه الوصف والمراد ما أشعر بمعنى يتصف به بعض إفراد العام سواء كان نعتا أو عطف بيان أو حالا وسواء كان مفردا أو جملة أو شبهها من جار ومجرور وظرف نحو وقفت على أولادي العلماء فإنه يقتضي إخراج من ليس بعالم عن الحكم ومن شرطه الاتصال فالمتكلم في الموصوف إلا بقدر نفس أو سعال أو نحوه
الخامس منه بدل البعض نحو قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وأخرج من الناس من لم يستطع بالإبدال منه وتقدمت إشارة إلى أن من علماء الأصول من لم يعده من المخصصات قال لأن المبدل منه في حكم الطرح فلا يتحقق فيه معنى الإخراج وهذا ضعيف لأنه إن أراد أنه كالمهمل فظاهر الفساد كيف وقد جاء في كلام الله تعالى وإن أراد أنه خارج غير مقصود بالحكم فهكذا كل أنواع التخصيص قال شارح التحرير الذي عليه المحققون كالزمخشري أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر بل هو توطئة وتمهيد وليفاد بالمجموع فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد وقولنا في آخر البيت السابق وهنا أي في هذا المقام الذي بينه متعلقة وهو قولنا ... يختار في الثالث أن يتصلا ... إلا كبلع الريق فيما مثلا
الثالث من الخمسة وهو الاستثناء وله شروط ثلاثة
الأول كونه من جنس المستثنى منه وهو شأن المتصل وقد أغنى عن ذكر كونه شرطا إطلاقنا له فيما سلف لأنه إذا أطلق لا يراد به إلا هو
والثاني أن لا يكون مستغرقا للمستثنى منه نحو له عشرة إلا عشرة فإنه يلغو هنا ويأتي فيه الكلام
والثالث هو ما أردناه بقولنا أن يتصلا فإنه يشترط فيه اتصاله في العبارة بما أخرج منه إلا بما لا يعد فصلا عرفا كبلع ! الريق والنفس وهذا رأي الجمهور وينقل عن ابن عباس أنه قال يصح تراخيه إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل مطلقا وقد حمل كلامه على خلافه وهو أنه أراد إذا نوى الاستثناء أولا ثم صرح به هو رواية عن أحمد وقيل بل أراد به التعليق بالمشيئة لا مطلق الاستثناء كما أخرجه الحاكم بسنده إلى ابن عباس أنه قال إذا حلف الرجل على غيره فاستثنى إلى سنة وأن المعنى في قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت أنه إذا ذكرت فاستثن قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين واستدل الجمهور بأنه لو صح الاستثناء لبطل جميع الإقرارات والطلاق والعتاق وأيضا فكان يلزم أن لا يعرف الصدق من الكذب لإمكان تعليق الكذب بعد مدة بما يخرجه عن الكذب واستدلوا بما أخرجه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فاقتصر صلى الله عليه و سلم على ذكر التكفير ولم يقل فليستثن مع اختياره لأمته أيسر الأمور وأسهلها
هذا وقد أشرنا آنفا إلى شرطية أن لا يكون مستغرقا ولا أكثر من المستثنى منه لأنه معهما يلغى الاستثناء ويصير كالعدم فإذا قال علي له عشرة
إلا عشرة أو إلا اثني عشر بطل حكم الاستثناء ولزمه العشرة وهذا لا خلاف فيه قال البرماوي ومحل بطلانه ما لم يتعقبه استثناء بعضه نحو له علي عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة فإن فيه وجوها أحدها يلزمه عشرة لأن الاستثناء الأول لم يصح والثاني مترتب عليه ثانيهما يلزمه ثلاثة واستثناء الكل من الكل إنما لم يصح إذا اقتصر عليه أما إذا أتى بعده باستثناء صحيح فإنه يصح إذ الكل بآخره وهذا هو المرجح وثالثهما يلزمه سبعة والاستثناء الأول لم يصح فسقط من البين
وأما ما عدا المستغرق كالمساوي والأكثر فهو وإن وقع في الأكثر نزاع فلا ينهض دليل على بطلانه نحو عشرة إلا خمسة في الأول إلا تسعة في الثاني فلا حاجة إلى ذكره بعدم رجحانه
واعلم أنه اشتهر اشتراط الاتصال في الاستثناء بلا خلاف فيه وفي شهرته وإلا ففي جمع الجوامع أن الشرط المخصص به يشترط اتصاله كالاستثناء وكذلك في العود إلى الكل كما يأتي في الاستثناء نحو أكرم بني تميم واحسن إلى ربيعة وأكرم مضر إن جاؤوك ... وأنه نفي من الإثبات ... وعكسه أيضا وأما الآتي ... بعد الذي تعطفه من الجمل ... فهو إلى الكل خلافا للأقل ...
أشار به إلى مسألتين معروفتين الأولى أن الاستثناء بعد الاثبات يفيد نفي الحكم عما بعد كلمة الاستثناء نحو قام القوم إلا زيدا فإنه دال على إثبات القيام للقوم ونفيه عن زيد وعكسه أيضا وهو إنه إثبات من النفي نحو ليس له علي إلا درهم فإنه يفيد ثبوت الدرهم عليه في ذمته هذا كلام الجمهور فيهما وخالفه الحنفية في ذلك فقيل خلافهم في الأمرين معا كما أشار إليه النظم وقال الرازي وغيره إن خلافهم في أنه من النفي إثبات
وأما إنه من الإثبات نفي فلا يخالفون فيه إلا أنه خلاف ما يظهر من استدلالهم وقال القرافي في تحرير محل النزاع إنه اتفق العلماء أبو حنيفة وغيره على أن إلا للإخراج وأن المستثنى مخرج وأن كل شيء خرج من نقيضه دخل في النقيض الآخر فهذه ثلاثة أمور متفق عليها وبقي أمر رابع مختلف فيه وهو انا إذا قلنا قام القوم إلا زيدا فهناك أمران القيام والحكم به فاختلفوا هل المستثنى مخرج من القيام أو من الحكم به فنحن نقول من القيام فندخل في نقيضه ! وهو عدم القياس والحنفية يقولون هو مستنثى من الحكم فيدخل فيخرج عن نقيضه وهو عدم الحكم فيكون غير محكوم عليه فأمكن أن يكون وأن لا يكون فعندنا انتقل إلى عدم القيام وعندهم انتقل إلى عدم الحكم وعند الجميع هو مخرج وداخل في نقيض ما أخرج منه فافهم ذلك حتى يتحرر لك محل النزاع
قال والعرف في الاستعمال شاهد بأنه إنما قصد إخراجه من القيام لا من الحكم به ولا يفهم أهل العرف إلا ذلك فيكون هو اللغة فإن الأصل عدم النقل والتغيير انتهى
ويريد بأنه مخرج من الحكم أن قول القائل قام القوم إلا زيدا معناه أحكم على القوم بالقيام سوى زيد فلا أحكم عليه بنفي ولا إثبات استدل الجمهور بأنه قد ثبت النقل عن أهل العربية أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وهو المعتمد في إثبات المدلولات اللغوية قالوا وأيضا لو لم يكن كذلك لم تكن كلمة لا إله إلا الله لإثبات التوحيد واللازم باطل من الضرورة من الدين بيان ذلك أن التوحيد إنما يتم بإثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه والمفروض على كلامهم أنه إنما يفيد النفي دون الإثبات
قالت الحنفية نحن نقول إن كلمة الإخراج بكلمة إلا والإسناد ووقع قبل الحكم أي الخارجي فلا حكم حينئذ في المستثنى وأطالوا في بيان هذا بما لا يليق بالاختصار قالوا وأما كلمة التوحيد فالتوحيد حصل بالإخبار بكلمة الشهادة لأن إنكار واجب الوجوب غير متحقق ولا واقع فثبوته متحقق ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فالمحتاج إليه في كلمة الشهادة إنما هو نفي الإلهية وإذا انتفت استلزم ثبوت وحدة الله تعالى بالضرورة وإن لم يثبت بحسب الدلالة الوضعية قالوا وإثبات التوحيد بالعرف الشرعي لا بمدلول الاستثناء بحسب اللغة على فرض تحقق من ينكر واجب الوجوب كما فرض في الدهري هذا خلاصة تكلف الحنفية قال ابن دقيق العيد في شرح الإيمان وكل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم لذلك منهم من غير احتياج لأمر آخر فإن ذلك هو المقصود الأعظم في الإسلام انتهى وقد تقدم كلام القرافي بأنه لا يفهم أهل العرف إلا ذلك
المسألة الثانية هي ما أشار إليه قولنا وأما الآتي بعد الذي تعطفه من الجمل المراد بالآتي هو الاستثناء الوارد بعد جمل تقدمته متعاطفة فإنه يعود إلى جميعها إلا لقرينة كما أشرنا إليه بقولنا إلا لأمر وقد أفاد أن محل النزاع في الجمل المتعاطفة لا إذا كانت بغير عطف لأن الفصل إذا كان لكمال الانقطاع فهو قرينة على أن الاستثناء لا يعود إلى الجميع وإن كان لكمال الاتصال فهو قرينة على عوده إلى الجميع
وقولنا من الجمل بيان لأنه في تعاطف الجمل لا المفردات فإنه يعود فيها إلى الجميع وهو اتفاق كما يفهم من كلام ابن الحاجب وقولنا تعطفه شامل لأي حرف من حروف النسق من الواو والفاء وثم
إذا عرفت هذا ففي المسألة خلاف
الأول ما في النظم وهو عوده إلى الجميع وهو كلام جمهور العلماء واستدلوا بأن التخصيص بالمشيئة والشرط يعود إلى الجميع من الجمل اتفاقا فكذا الاستثناء مثله إذا لكل تخصيص بالمتصل بل قيل الاستثناء شرط في المعنى فإنه لا فرق بين قولك القذفة فساق إن لم يتوبوا أو إلا أن يتوبوا وأيضا الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط والصفة فيجب أن يكون المستثنى كذلك ما لم يصرف عنه صارف كما أشرنا إليه وذلك في آية القذف فإن قوله تعالى إلا الذين تابوا بعد الثلاث الجمل لا يعود إلى الأول اتفاقا أعني سقوط جلد القذف في التوبة والخلاف في المسألة لأبي حنيفة فقال بعوده إلى الأخيرة
والثاني الوقف واستدل الحنفية بأن الأصل فيه الاتصال بالمستثنى منه وهو منتف في غير الجملة الآخرة وأجيب بأن ذلك يلزم في المفردات والاتفاق واقع على أن يعود فيها إلى الجميع ومنها أي من أدلة الحنفية أن عوده إلى ما يليه وهي الآخرة يكون حقيقة إذ هي الأصل في الاستثناء والعود إلى الكل إما أن يكون مشتركا أو مجازا والحقيقة أولى من كل منهما ويجاب بأن دعوى أن الأصل عوده إلى الآخرة محل النزاع واستدل لهم بأن المستثنى واقع بعد عاملين فهو من باب التنازع وقد وقع الاتفاق أن المعمول في باب التنازع يكون لأحدهما ولم يقل أحد بأنه هنا يعود إلى الأول فقط فيكون الظاهرعوده في الجمل إلى الآخيرة وهو المطلوب ورد بأن هذا إنما يتم على قول من يقول العامل في المستثنى هو ما تقدمه وليس هو كلام الجمهور
فهم قائلون إن العامل حرف الاستثناء فلا يكون من باب التنازع وإنما يلزم من جعل العامل ما تقدمه
واعلم أن هذا كله مبني على إرادة الظاهر عند الإطلاق حيث لا قرينة وأما معها فيدور الكلام عليها واشتهر أمر الخلاف في آية القذف فإنه ذهب القائل بعوده إلى الآخرة عدم قبول شهادة القاذف إذا تاب فعند غير الحنيفية تقبل شهادته وعندهم لا تقبل وأما الأولى فلا يعود إليها اتفاقا فلا يسقط الحد لأنه حق لآدمي هذا وقد تبين لك معنى قولنا في صدر البيت الآتي أعني قولنا ... إلا لأمر وأتاك المنفصل ... وهو الذي بما أفاد يستقل ...
هذا هوالقسم الثاني من المخصصات وهوالمنفصل وقد أفاد النظم رسمه بأنه الذي يستقل بالإفادة بنفسه من غير حاجة إلى ضمه إلى غيره فكلمة ما مصدرية في قولنا بما أفاد سواء كان متصلا بما قبله مع استقلاله نحو أكرم بني تميم ولا تكرم بني فلان منهم أو منفصلا عنه وهو الأكثر وقوعا في المخصصات المنفصلة ولذا سموه منفصلا وقد بينه قولنا ... يجوز بالأربعة الأدلة ... والعقل والمفهوم عند الجلة ...
فالأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس وزيد العقل والمفهوم وقولنا عند الجلة عائد إلى الجميع لوقوع الخلاف في كل منها ثم أخذ في بيان المختار فقال ... واختير تخصيصك للكتاب ... بكل ما مر لدى الأصحاب ...
أي واختار الجمهور تخصيص عموم القرآن لكل واحد من الأربعة وبالعقل والمفهوم فأفاد أن رأي الجمهور تخصيص الكتاب به وهو الأول ونحو والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء فهذا عام لكل مطلقة وقد خصه قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وخص الله عموم الآية السابقة الشاملة للمدخولة وغيرها
بقوله فالمطلقة الغير المدخولة فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
وقد نقل الخلاف عن بعض الظاهرية وقالوا لايجوز تخصيص القرآن به وقد ثبت ما ذكرناه بالدليل وإيراد خلافه وأدلته وردودها في المطولات
والثاني تخصيصه بالسنة متواترة أو آحادية ومثاله حديث لا ميراث لقاتل ولا وصية لوارث والنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها بين خالتها بت والتخصيص بها متواترة ادعي فيه الإجماع وآحادية قاله الأئمة الأربعة والجمهور وخالف فيه آخرون على تفاصيل في المطولات كلها مرجوحة
ودليل الجمهور أن الأحاديث الآحادية قد قام الدليل على أنها من الأدلة الشرعية فيجب العمل بها ما لم يعارضها أقوى منها ودلالة العام هنا وإن
كانت قطعية المتن فمدلولها ظني والخاص هنا وإن كان متنه ظنيا فدلالته قطعية فقد تعارضا في القطعية والظنية فكان العمل بالخاص أرجح للجمع بين الدليلين والإعمال خير من الإهمال
وأيضا فقد أجمعت الصحابة على ذلك فخصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها أخرجه الجماعة من حديث أبي هريرة ومن ذلك تخصيصهم عمومات آيات المواريث بالآحادية من الأحاديث كما أشرنا إليه قريبا وبالجملة فمن عرف السنن وقضايا الصحابة علم وقوع ذلك منهم بلا تردد وللمخالف أدلة لا تنهض على مدعى فلا يفتقر الناظر إلى سردها وردها بعد بيان الراجح
الثالث تخصيصه بالإجماع وهو قول الجمهور بل قد قيل إنه إجماع ومثاله تخصيص النساء والعبيد من قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله فإن سقوط السعي إلى الجمعة عنهما ثابت بالإجماع وقد نوقش في المثال ولكنه لا يبطل المدعي لأنه قد تقرر بأن الاجماع من الأدلة والدليل يجب العمل به ومن العمل به تخصيص العام عند الاحتياج إلى الجمع بين الأدلة وإعمالها
الرابع تخصيصه بالقياس ومثلوه بتنصيف الحد على العبد قياسا على الأمة الثابت بقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قالوا فالعبد إذا زنى فعليه نصف الحد قياسا على الأمة مع شمول آية والزاني له فخصص عموم الكتاب بالقياس وبقي مثال تخصيصه بالعقل ومثل بقوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها فإن العقل خصه بالسماوات والأرض وبالمفهوم يأتي مثاله قولنا ... وهكذا السنة فيما ذكرا ... وخص بالآحاد ما تواترا
أي وكالكتاب العزيز والسنة النبوية في تخصيصها بالأدلة الأربعة والعقل والمفهوم
الأول تخصيصها في الكتاب مثل قوله صلى الله عليه و سلم اصدق ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا آله الا الله خص من أهل الكتاب بقول تعالى حتى يعطوا الجزية وتخصيصها مذهب الجمهور وهو الواضح دليلا
الثاني بالسنة وهي أربعة أقسام لأنه إما أن يكون العام متواترا أو آحادا والخاص كذلك فهذه أربع صور المتواتر بمثله أو بالآحاد فهاتان صورتان والثانية هي التي أشار إليها قولنا وخص بالأحاد ما تواترا أي إن الآحاد يخصص المتواتر والثالثه عكسها والرابعة الآحاد بالآحاد وهي كثيرة الوقوع بل مدار أكثر العموم والخصوص عليه ومثاله حديث فيما سقت السماء العشر أبو داود والنسائي وخص عمومه بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة أخرجه الستة وهذا في تخصيصها في القول يجري فيه تخصيصها بالفعل والتقرير وأمثلة ذلك مبسوطة في الفواصل وغيره من المطولات
والتخصيص بالمفهوم واقع وجواز القول به للأكثر قالوا لأنه قد تقرر أنه ما عدا اللقب من الأدلة فيجب العمل به كما يجب بها ومثاله قوله صلى الله عليه و سلم لي الواجد يحل عقوبته وعرضه أبو داود والنسائي
وابن ماجه فإنه خص عمومه بقوله تعالى ولا تقل لهما أف فمفهومها لا تؤذهما بحبس ولا غيره وهذا من تخصيص السنة بمفهوم الكتاب وتخصيصها بمفهوم السنة في المخالفة قوله صلى الله عليه و سلم الماء لا ينجسه شيء رواه أبو داود وغيره فإنه دال على أن جنس الماء لا ينجسه شيء وقد خص عمومه بمفهوم حديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا رواه مالك وأبو داود وغيرهما فإنه دل بمفهومه على أن ما لم يبلغ قلتين حمل الخبث وأما التخصيص بالقياس ففيه عشرة أقوال
الأول للجمهور أنه يجوز ودليله ما عرفته في غيره من التخصيصات وهو أن القياس دليل شرعي وقد قام الدليل على العمل به فالفرق بين موارده كما وقع للمخالفين فرق من غير فارق عند التحقيق واستيفاء التسعة الأقوال في المطولات من كتب الفن وقد استوفاها في الفواصل وكذلك بالعقل قد قال به الجمهور وسبق بعض أمثلته وبعضهم سمى التخصيص في مثل تدمر كل شيء بأمر ربها أن ما لم تدمره من المشاهدات خص بالحس ويسمى مثل الله خالق كل شيء أن تخصيصه بكونه تعالى ليس خالق نفسه بالعقل وهذا خلاف لفظي ووقع فيه خلاف بمعنى انه لا يقال له تخصيص بالعقل بل أقول هذا من العام الذي أريد به الخصوص فإن قوله تدمر كل شيء لم يرد به دخول السماوات والأرض حتى يحتاج إلى إخراجها بالعقل فعاد النزاع لفظيا
واعلم أن هنا مسائل وقع فيها الخلاف هل يخص بها العام أم لا أشرنا إليها بقولنا
والعام لا يقصره عليه ... سببه ورأي من يرويه ...
وهو إبانة لمسألة عدم قصر العام على سببه وهي من مسائل الخلاف بين أئمة الأصول ورأي الجمهور ما أفاده الناظم من أنه لا يقصر على سببه ولذا يقولون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمراد بالعام المستقل بنفسه في الإفادة بحيث لا يحتاج إلى أن يضم إلى ما قبله وحاصله أن خطاب الشارع على سبب مخصوص وسؤال عن واقعة معينة إن كان لفظه لا يفرض مستقلا بنفسه مثل أن يسأله الرجل عن شيء معين قائلا أيحل هذا قال نعم أو لا فلا سبيل إلى إدعاء العموم فيه فإن العموم فرع استقلال الكلام بنفسه بحيث يفرض الابتداء به من غير تقديم سؤال فإن ذاك يتمسك بعضهم باللفظ وآخرون بالسبب فأما إذا كان لا يثبت الاستقلال من دون تقدم السؤال مستقلا فالجواب تتمة له وكالجزء منه فأما إذا كان كلام الشارع مستقلا والسؤال خاص بحيث لو قدر نطقه به ابتداء لكان ذلك شرعا منه وافتتاح تأسيس ومثاله في السؤال قوله صلى الله عليه و سلم وقد سئل عن بئر بضاعة خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء ومثاله في غير السؤال أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة لميمونة وهي ميتة فقال أيما إهاب دبغ فقد طهر فيعم الأول كل ماء ويعم الثاني كل إهاب فهذا هو موضوع الكلام
وفي شرح العضد إذا كان الجواب غير مستقل فإنه تابع للسؤال في العموم والخصوص والأمثلة مستوفاه في المطولات وهذه المسألة الخلاف فيها نسب إلى الشافعي فقال إنه يقصر العام على سببه ونقل عنه أكثر الصحابة خلاف هذا وهو أنه يقول بقول الأكثر قال الرازي ومعاذ الله ان يصح هذا النقل عن الشافعي أي قصر العامة على السبب كيف وكثير من الآيات نزلت في أسباب خاصة
وفي المسألة أقوال أخرى وأحسنها قول ابن دقيق العيد أنه كان يقتضي السياق وقرائن المقام التخصيص في السبب خص به العام إذ الواجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن وإن لم يقتض المقام التخصيص فالواجب اعتبار العام ودليل الجمهور أن الصحابة ومن بعدهم ما زالوا يستدلون بالعمومات الواردة على أسباب في غير سببها وهي نزلت في خاص كآية الظهار وآية اللعان وغير ذلك من الآيات القرآنية الواردة على أسباب خاصة والأحاديث النبوية
وأيضا فالعبرة بعموم اللفظ ووروده على سبب لا ينافيه بل ذلك بمثابة الحكم على بعض أفراد العام بموافق العام ولم يخالف فيه إلا ابو ثور وأيضا لو أراد قصره عليه لما أتى بعبارة عامة
قال المنازع لو كان العبرة بعموم اللفظ لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد كغيره من أفراد العام وهو لا يجوز بالاتفاق
وأجيب بالفرق بين السبب وغيره من أفراد العام بأنه قطعي الدخول في الإرادة لورود العام عليه فكان كالنص الصريح فيه وإلا لم يكن جوابا عليه فامتنع التخصيص به
وقوله ورأى من يرويه إشارة إلى مسألة فيها خلاف أيضا بين أئمة الأصول وهو تخصيص العموم برأي من يرويه صحابيا كان أو غيره كما أطلقه النظم وبعضهم يخصه بما إذا كان الراوي صحابيا والجمهور على ما يفيده النظم من نفي التخصيص برأي الراوي وخالف في ذلك الحنابلة والحنفية استدل الجمهور بأن العمل بالدليل وهو العموم واجب ومذهب الراوي ليس بدليل عندهم فلا يخص به وإلا لزم ترك الدليل لغير دليل وهو غير جائز
قال المخالف عمل الراوي بخلاف ما رواه دليل على اطلاعه على دليل التخصيص وإلا كان فاسقا لمخالفته الدليل
قلنا الدليل ما رواه لا ما رآه إذ قد يكون دليل التخصيص عنده عن ظن أو اجتهاد وظنه واجتهاده لا يجب علينا اتباعه فيهما ولذا كان الصحابة يخالف بعضهم بعضا في الاجتهادات ولو كان حجة لما جاز خلافه وإذا كان هذا في الصحابي فبالأولى أن لا يعمل برأي غيره
ومن المخصصات المنفية قوله ... كذلك العادة لا تخص ... ولا بإضمار على ما نصوا ... قدر في المعطوف والعام متى ... خص ففي الباقي حقيقة أتى ...
اشتمل النظم على ثلاث مسائل خلافية بين أئمة الأصول والراجح ما في النظم غالبا
الأولى التخصيص بالعادة والمراد بالعادة الفعلية فلا يخص بها العام وذلك كأن يكون من العادة أن يأكل أهل بلدة طعاما مخصوصا كالبر مثلا فصارت عادة فعلية ثم يأتي النهي عن بيع الطعام بالطعام فهذا لا يخص بها
العام فقالوا لأن لفظ العام لم يطرأ عليه ما ينقله عن معناه الأصلي والعادة إنما نشأت من استعمال أكل البر والدلالة اللغوية باقية على حالها فهذه هي المنفية في النظم وأما العادة القولية فلا خلاف أنه يخصص بها كما صرح به أئمة الأصول وذلك كأن يطلق في العرف العام لفظ الطعام على بعض أفراده كالشعير بحيث إذا أطلق العام لم يتبادر منه إلا ذلك الفرد فهذه هي الحقيقة العرفية وهي مقدمة على اللغوية فيخص بها وخالفه الحنفية فقالوا لا فرق بين الفعلية في أنه يخص بهما الجمهور على الفرق لما عرفته
المسألة الثانية قولنا ولا بإضمار على ما نصوا إشارة إلى ما نص عليه علماء الأصول أنه لا يخص العام بإضمار قدر في المعطوف اقتضاه المقام فإنه لا يخص به العام في المعطوف عليه هذا رأي الجمهور وخالفه الحنفية فقالوا يخص به لوجوب المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه مثاله حديث أحمد وأبي داود والنسائي عن علي رضي الله عنه مرفوعا ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده قالوا فيقدر في المعطوف وهو ولا ذو عهد
لفظ بكافر تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه وكافر نكرة في سياق النفي فتعم وتفيد أن المعاهد لا يقتل بالذمي لكنه ثبت الإجماع بأنه يقتل المعاهد بالذمي فخصصنا الكافر الذي قدرناه بالحربي أي جعلناه خاصا به فصار معنى الحديث ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي وهذا مرادنا بقولنا قدر في المعطوف قالوا فيقدر كذلك في المعطوف عليه ضرورة للاشتراك والمساواة بين المتعاطفين فيفيد الحديث جواز قتل المسلم بالذمي وهو رأي الحنفية
وأجيب عن الحنفية بأن اللازم من المشاركة بين المتعاطفين هو المشاركة في الجملة إن اقتضى المقام مقدرا في المعطوف كما ذكرتم فلا يلزم تقديره في المعطوف عليه إذ لا يشترط اشتراكهما في أصل الحكم وهو هنا منع القتل ولا يلزم من ذلك تقدير من جميع ما يمكن اضماره منى احدى الجملتين اذ التقدير خلاف الأصل ويجب أن يقتصر على قدر الحاجة فيه وهذا على تسليم أنه لا بد من تقدير بحربي وإلا فلك أن تقول لا حاجة إلى تقديره بل يبقى قوله ولا ذو عهده في عهده بكافر عاما لكل كافر ويخص بالإجماع على قتل المعاهد بالذمي
المسألة الثالثة قولنا والعام متى خص ففي الباقي حقيقة أتى وهي مسألة العام بعد التخصيص هل هو حقيقة أو مجاز فإنه اختلف علماء الأصول هل يكون حقيقة بعد ذلك مجازا فالنظم أفاد الذي بعده حقيقة وهذا رأي الحنابلة ومتأخري الشافعية ونقل عن الشافعي وعن طائفة كثيرة من المحققين
والقول الثاني أنه مجاز وهو قول أكثر الزيدية ومحققي الأشعرية وابن الحاجب وغيرهم وهذان القولان هما المشهوران وفي المسألة أقوال أخر لا يظهر الراجح منها بل هي مرجوحة فنذكر دليل هذين القولين
قال الأولون الباقي بعد التخصيص من أفراد العموم ولفظ العام
يتناوله حقيقة وإرادة وإخراج بعض أفراد العام من الحكم لبيان ما أريد من العام بقرينة التخصيص ولا يلزم المجاز من ذلك فما كل قرينة تستلزمه إذ قرينة المشترك تعين المعنى المراد من معانيه ولا تصيره مجازا كذلك العام لا يخرج بالقرينة عن موضوعه إذ الاستغراق الذي هو مدلول العام باق في المقام غايته أنه طرأ عليه عدم إرادة البعض وأجيب عنه بأن تناوله للباقي لا يوجب كونه حقيقة فيه إذ قد استعمل في غير ما موضع له فإنه موضوع للأستغراق وقد خرج عنه بقصره على بعض أفراد مدلوله بالقرينة وهذا حقيقة المجاز قلت وهذا الرد ناهض ولهم مقاولات لا تصير كلامهم راجحا
قال أهل القول الثاني الباقي بعض التخصيص تمام المراد والتخصيص هو القرينة على تلك الإرادة ومعلوم ان مدلول العام هو جميع أفراده فلو كان حقيقة في جميعها كما اتفقنا عليه وحقيقة في البعض منها كما قلتم لكان مشتركا وهو خلاف المتفق عليه وأيضا فإنا نقطع بأن الباقي بعد التخصيص هو تمام المراد وهذا هو معنى المجاز لأنه اللفظ المفهوم معناه بواسطة القرينة المعنية للمراد ولا يخفى رجحان هذا القول لا على ما أفاده النظم لأن النظم إنما يحكي قول الأصل
واعلم أن من مشاهير مسائل العام مسألة الخلاف هل هو حجة بعد التخصيص أو ليس بحجة وهذه أخرها صاحب الأصل إلى باب المجمل والمبين وذكرها الناظم هنالك فيأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى
قوله ... وقد جرى التخصيص في الإخبار ... في المذهب المهذب المختار ...
إلمام بمسألة هل يجري التخصيص في الإخبار كما يجري في الإنشاء اتفاقا فخالفت شرذمة قليلة قالوا لأنه يستلزم الكذب وهذه هي شبهة من منع المجاز والحق أن الكل جائز بل واقع قال الله تعالى وأوتيت من كل شيء ومعلوم أنها لم تؤت ما أوتي سليمان من الأشياء وقال الله
تعالى تدمر كل شيء ومعلوم أنها إخبار مخصوص كما سبق ولا حاجة إلى الإطالة في بيان ضعف هذه المقالة
وقوله ... ولم يكن تعارض في القطعي ... مابين عامين كما في الفرعي ...
إبانة لمسألة تعرض لها صاحب الفصول وغيره من أهل رأيه وذلك أنهم قالوا العمومات في المسائل القطعية تكون قطعية الدلالة وذلك كعموم آيات الوعد والوعيد قالوا لأن المطلوب من العموم إما العمل وإما الاعتقاد فإذا كان المطلوب الأول كفى فيه الظن وإذا كان المطلوب الثاني فلا بد من أن يكون قطعي الدلالة لأنه لو جاز أن يكون المراد به غير ظاهره من العموم للزم أن يكون الشارع قد طلب منا العمل بالظن في الاعتقاد والجهل وهو قبيح لا يجوز من الله تعالى بخلاف العمل فإنه لا يقبح العمل بما أفاده الدليل الظني
وأجيب بأن كونه قطعيا في العمليات يستلزم عدم تخصيصه لا بظني إذ لا يعارض الظني القطعي ولا بقطعي للزوم تعارض القواطع لأن الفرض أن هذا الفرق بين إفراد العموم داخل قطعا تحته فإخراجه من الحكم عن إفراد العموم ينافي دخوله تحته وليس هو كذلك إذا كانت دلالته ظنية لأن دخول الفرد المخرج عن العموم غير مقطوع به فيكشف التخصيص عن عدم دخوله وحينئذ فقد ناقضتم أنفسكم لأنكم خصصتم عمومات الوعد المطلقة بالعاصي وعمومات الوعيد المطلقة بالتائب ولو كانت العمومات في مسائل الاعتقاد قطعية لما جاز التخصيص لما عرفت من حصول التنافي بدخول ما خص تحت العام قطعا وخروجه بالتخصيص فيكون داخلا خارجا
فإن قلت التخصيص كشف لنا عن عدم دخوله قلت الفرض أن دخوله مقطوع به فقد لزم من هذه القاعدة تناقض الحكم حيث حكمتم بتخصيص بعض المسائل العلمية وهو لا يجوز فتعين بطلان هذه القاعدة التي
أنجزت إلى ما لا يجوز وتعين الحكم باستواء مدلولات العام في مسائل الاعتقاد وغيره وأيضا فإن العمليات لا بد من حصول الاعتقاد فيها من كون الحكم حلالا أو حراما فإنه لا يعمل بالدليل حتى يعتقد الحكم من تحليل وتحريم وإلا فيلزم اعتقاد الجهل كما في العلمية وهو لا يجوز ومن هنا علمت أن تفريقهم بين العمومين غير صحيح
والإلزام الذي قالوه باعتقاد الجهل مع الدليل الظني باطل لأنه قد قام الدليل على العمل بالأمارات الظنية فيكفي الاعتقاد الراجح فيما أمرنا به والعمل بما ظهر من الأمارات الظنية
وأما اشتراط القطع فقد قام ما قررناه على بطلانه للزوم التناقض معه كما عرفت إذا عرفت هذا عرفت أن الناظم لا يختار ما نظمه من أنه لا يفي التعارض بين العمومين في مسائل الاعتقاد بناء على أن العموم فيها قطعي الدلالة وقرينه أن المراد مسائل الاعتقاد شهرت المسألة بين أهل الفن
وقوله ... وصح في الخاص وفي العام و ما ... كان أخيرا منهما قد علما ... كان له الإعمال لا ما جهلا ... تاريخه فالكل حتما أهملا ...
ضمير صح للتعارض المنفي آنفا أي أنه تعارض العام والخاص ولا يخلو إما أن يعلم تاريخ ورودهما أو يجهل
الأول ذكرت فيه صورتان
الأولى منهما أن يتقاربا أي يتصل أحدهما بالآخر إلا ما لا يعد فاصل كنفس وسعال أو لا
الثانية أن لايتقاربا وهو لا يخلو إما أن يتأخر أحدهما بمدة تتسع للعمل بالأول اولا فهذه الأطراف من القسم الأول قد شملها قولنا
وما كان أخيرا منهما قد علما فإنه وإن كان من جملة الأطراف حالة التقارن فليس المراد بالتقارن الحقيقي لاستحالة ذلك وحينئذ فلا بد أن يتقدم أحدهما ويكون ما اتصل بالمتقدم متأخرا فتشمله عبارة النظم وإذا كان كذلك فإنه يجب إعمال الأخير منهما وهو ما أفاده قوله كان له الإعمال إلا أن إعماله قد يكون على جهة النسخ وقد يكون على جهة التخصيص لأنه يتصور في أطراف ثلاثة هي إما أن يتقارنا أو يتأخر الخاص أو يتأخر العام
الأول تقارنهما نحو أن يرد اقتلوا المشركين ولا تقتلو أهل الذمة أو يعكس فيحكم بأن الأخير مع التقارن العام فهذا حكمه أن يبني الخاص على العام بمعنى أنه يحكم بتخصيص العام ولا يصح الحكم بالنسخ هنا لعدم التراخي
الثاني أن يتأخر الخاص فإما أن يتأخر بمدة لا تتسع للعمل فيها كأن يقال اقتلوا المشركين عند انسلاخ الشهر الفلاني ثم يأتي النهي عن قتل أهل الكتاب قبل انسلاخه فهذا يخصص به العام عند الجمهور وإما أن يتأخر بمدة تتسع للعمل فيها فلا يخلو اما ان يكون قد وقع كأن ينسلخ الشهر الفلاني وقد وقع القتل ثم يرد النهي فهذا نسخ بلا خلاف إذا كملت شروطه أو لم يكن قد وقع كأن ينسلخ الشهر قبل وقوع القتل ثم يرد النهي عن قتل أهل الذمة فهو أيضا ناسخ عند الجمهور المانعين لتأخير البيان عن وقت الحاجة إذ وقت الحاجة إلى البيان هنا هو عند انسلاخ الشهر
الثالث من الأطراف هو أن يتأخر العام عن الخاص فإما أن يتأخر بمدة لا تتسع للعمل بالخاص بني العام على الخاص وكان تخصيصا عند الجمهور وإما أن يتأخر بمدة تتسع للعمل بالخاص فإنه عندهم يكون العام ناسخا للخاص ولا يبقى له أثر فيما تناوله من مدلول العام وهذا هو ظاهر كلام النظم حيث قال كان له الإعمال فإنه إنما لا يتحقق إعمال العام
المتأخر إلا بإبطال الخاص فيما يتناوله وهذا هو الذي عليه الجمهور قالوا ودليله أن الخاص دليل مستقل وبعد مضي الوقت الذي اتسع للعمل بمدلوله لم يبق أي الخاص موجبا للعمل به بعد ورود العام لظهوره في جميع أفراده ولضعف الخاص بعد مضي وقت العمل به وذهب بعض العلماء إلى أنه يكون تخصيصا للعموم وهو قول طائفة منهم الشافعي كما قال الناظم ونجل إدريس إلى آخره واستدلوا بقوة الخاص في دلالة وتقدمه يكون قرينة على أنه لم يرد بالعام جميع أفراده قالوا وإن كان العمل بالدليلين أولى من إبطال العمل بأحدهما
قالوا أيضا فالتخصيص أغلب من النسخ وهذا القول رجحه كثير من المتأخرين وأشرنا إلى ترجيحه بقولنا ... ونجل إدريس يرى أن يعملا ... بكل شيء في الذي تناولا ... تقدم التخصيص أو تأخرا ... أو جهل التاريخ هذا ما يرى ... وأنه الأولى إلى الصواب ... واختاره محققوا الأصحاب ...
ففي حواشي الفصول أنه ذكره الفقيه عبدالله بن زيد للمذهب قال وهو اختيار لوالدي محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى انتهى ونسبه في شرح الغاية إلى المؤيد بالله وأنه صرح به في شرح التجريد
ثم إنه لا يخفى أن بناء العام على الخاص إنما هو إذا كان بينهما عموم وخصوص مطلق فأما إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا يتأتى فيه ما سبق من خلاف إذ ليس تخصيص أحدهما بعموم الآخر بأولى من العكس
فلا بد من تطلب الترجيح بينهما مثال ذلك حديث من بدل دينه فاقتلوه مع نهيه صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء فإن الأول خاص بالمرتدين عام للذكور والإناث والثاني خاص بالنساء عام في الحربيات والمرتدات قال ابن دقيق العيد في حاشية الإلمام وكأن مرادهم بالترجيح الترجيح العام الذي لا يخص مدلول العام وذلك كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجية عن مدلول العام من حيث هو انتهى
هذا وقد سبق تحقيق أقسام ما علم تاريخه وبقي القسم الذي جعل تاريخه فإنه لا يعرف المتقدم من المتأخر فالجمهور أنهما يتعارضان في القدر الذي تناوله الخاص فيجب النظر في الترجيح بينهما فإن ظهر فالمراد وإلا فالواجب اطراحهما فيما تعارضا فيه وهو ما أفاده النظم بقوله لا ما جهلا تاريخه فالكل حتما أهملا أي من كل من العام والخاص بالقدر الذي تناوله الخاص وليس المراد أن يطرح العام بالكلية كما يفيد ظاهر العبارة وهذا إذا تساويا لا لو ظهر وجه ترجيح لأحدهما عمل بالراجح وهذا قول
الأكثر وقيل بل يبنى العام على الخاص وهذا لأبي طالب ويروى عن الشافعية وعن المالكية وذلك لقوة دلالة الخاص على مدلوله ولإمكان العمل بالدليلين إذا جعل الخاص مخصصا للعموم
ولما بلغنا في قراءة شرح الغاية المعروف بالهداية إلى هذا الموضع وقد استوفى المباحث هذه في شرحها أنشدني شيخنا رحمه الله حال القراءة لنفسه في ضبط صور بناء العام على الخاص فقال ... يبنى العموم على الخصوص بأربع ... صور على القول لأجل فقل أجل ... مع جهل تاريخ وعند تقارن ... وتفارق زمنا يضيق عن العمل ... وكذا بمتسع يكون عمومه ... متأخرا والعكس نسخ لم يزل ...
ولما انتهى بناء الكلام إلى آخر أبحاث العام والخاص أخذنا في المطلق والمقيد بقولنا ... فصل حوى المطلق والمقيدا ... فالأول المفيد حيث وردا ... شيوعه في جنسه والثاني ... ما دل مع قيد فخذ تبياني ...
فحقيقة المطلق هو اللفظ المفيد لشيوع جنسه أي شيوع مدلوله في جنسه فالمفيد صفة موصوف ومحذوف والمراد بالشيوع مدلوله في جنسه كون مدلوله حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك من غير تعيين وهذا يوافق قولهم إن المطلوب من المطلق هو الجزئي المطابق للماهية لا كما زعمه في جمع الجوامع تبعا لغيره أن المطلوب هو الماهية إذا عرفت هذا فإنه خرج بقيد الشيوع العلم والمبهمات والمضمرات لما فيها من التعيين نحو زيد وهذا والذي وأنا فهذا فائدة قوله من غير تعيين إذ لولاه لدخل غير العلم من المعارف لاحتمالها حصصا كثيرة تندرج تحت أمر مشترك من حيث الوضع وخرج نحو الأسد وأسامة فإن كلا منهما يدل على
الحيوان المفترس مع الإشارة إلى تعيينه والفرق بين المعرف بلام الجنس وعلم الجنس أن التعيين استفيد من اللام في الأول واستفيد في الثاني من جوهر لفظه وخرج المعرف بلام العهد الخارجي وخرج كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل لأن مدلول العام استغراقي وعموم المطلق بدلي كما عرفت وهو ينافي الشيوع بالتفسير المذكور فهذا رسم المطلق وفوائد قيوده
وأما المقيد فهو ما أفاده قولنا والثاني ما دل أي لفظ دل على بعض مدلول المطلق مع قيد زائد عليه والمراد بالقيد ما يفهم معنى زائدا على ما في المطلق سواء كان معنويا أو لفظيا فمثل زيد في أكرم زيدا بعد قولك أكرم رجلا قد استفيد منه تقييده بذلك الشخص الدال عليه الاسم ومثل رقبة مؤمنة بعد قولك أعتق رقبة قد استفيد من المقيد الملفوظ به وهو مؤمنة المعنى الزائد على المطلق ... وكل ما في العام والخاص أتى ... فخذه منفيا هنا ومثبتا ...
يريد أن كل ما مضى من الأبحاث العام والخاص من متفق عليه ومختار ومزيف فإنه يأتي هنا فإن تقييد المطلق نشيبه بتخصيص العام لكون التقييد كالإخراج ببعض إفراد المطلق كما أن التخصيص لإخراج بعض إفراد العام وإن كانت الصلاحية في المطلق على جهة البدل وفي العام على جهة الشمول والاستغراق فالمراد التنبيه على تشارك العام والمنطلق في أكثر الأحكام التي سبقت في باب العام والخاص وإن كانا يفترقان في أمور كما يأتي وإذا عرفت هذا فاللمطلق والمقيد حالات في النظر إلى الاتحاد في الحكم والسبب والاختلاف في أحدهما أو فيهما معا
الحالة الأولى اتحاد السبب والحكم إليها اشار قولنا ... فإن يكونا وردا في حكم ... يحكم بالتقييد أهل العلم ...
أي إذا ورد المطلق والمقيد في حكم واحد واتحد سببهما فإنه يحكم بالمقيد على المطلق مثاله أن يقال في الظهار أعتق رقبة ثم يقال أعتق رقبة
مؤمنة في الظهار وقوله أهل العلم مراده أكثرهم وإن كان في أصل النظم أنه اتفاق وقد ذكر فيه خلاف النادر والعبارة قاضية في أنه يحمل المطلق على المقيد سواء تقارنا أو تقدم أحدهما أو تأخر أو جهل التاريخ
إذا تقرر هذا فهذا الحكم استدل به الجمهور بأنه جمع بين الدليلين إذ العمل بالمقيد عمل بالمطلق في ظن المقيد فإنه تقرر أن المطلق دال على أفراده على جهة البدل فيصدق المطلق في ضمن أي فرد منها ويكون المقيد دليلا على أنه المراد من المطلوب بالمطلق لا غيره من الإفراد فتحقق كون العامل به عاملا بالمطلق الذي عينه المقيد ولذا يقولون إنه عمل بالمطلق في ضمن المقيد
قالوا وأيضا العمل بالمقيد خروج عن العهدة يقينا بخلاف العمل بالمطلق فقد يكون المطلوب هوالمقيد فلا يخرج عن عهدة التكليف بالمطلق فكان العمل بالمقيد أحوط بل هو الذي يتعين ولو كان مفهوم المقيد لقبا لأن دلالة المطلق على إفراده بدليل والمطلوب هو الجزئي المطابق للماهية فأدنى إمارة تكفي في تعيين ذلك الجزئي وتعيين المطلوب بالمطلق والمنع من العمل بمفهوم اللقب إنما كان لئلا تثبت به الأحكام الشرعية ويجعل دليلا مستقلا بخلاف العمل به هنا فإنما هو على جهة أنه قرينة معينة لما تقرر من أن المطلوب بالمطلق هو الجزئي المطابق للماهية فلم يستقل بالإفادة ومثاله أعتق رقبة أعتق رقبة أنثى فإنها لما كانت الرقبة شائعة بين الأفراد على جهة البدل وجاء التقييد بما ذكر أفاد تعيين ما أريد بالمطلق ولذا جاز تقييد المطلق بالعادة ولم يجز بها التخصيص ما ذاك إلا لأنه يكتفي بأدنى إمارة في تعيين المطلق وهذا قد صرح به المحقق المحلي في شرح الجمع هذا كله إذا اتحدا حكما وسببا وهي الحالة الأولى لا إذا وقع الاختلاف فهي الحالة الثانية فقد أبان حكمه قولنا
لا إن أتى الحكمان من جنسين ... إلا قياسا ثم مثل دين ...
أي لا إن اختلف الحكمان فإنه لا يحكم بالتقييد لظهور التنافي بين المطلق والمقيد من الاختلاف في الحكم وهو المراد من قوله من جنسين وظاهر عبارة النظم أنه لا حمل إذا قد حصل اختلاف الحكمين سواء اتحدا في السبب نحو صم يوما في الكفارة وأطعم طعام الملوك في الكفارة او اختلفا نحو اهد بدنة عن القران وزك بدنة سائمة عن النصاب وقد أفاد في المعيار الاتفاق على أنه لا يحمل المطلق علىالمقيد هنا ومثله في الفصول وعلية السؤال إلا أنه قد قيد هذا الاطلاق في عبارة النظم قوله إلا قياسا إلى آخره فإنه لا يحمل عليه لفظا من حيث الدلالة بخلاف حمله عليه قياسا فإنه ذكر هذا المهدي في المعيار إلا أنه قد استشكل القول بالقياس هنا أي مع الاختلاف في الحكم لأنه لا قياس معه إذ القياس إنما يكون الإلحاق في الحكم
والحاصل أن كلام أهل الأصول مضطرب في الالحاق بالقياس في هذه الحال وإنما صرحوا به في الحالة الثانية التي أفادها قوله ... حكم اختلاف الجنس في الأسباب ... هذا هو المختار في الكتاب
وهو خبر قوله ثم مثل ذين أي أن حكم اختلاف الجنس المتحد في الأسباب وإضافة اختلاف إلى الجنس إنما هو باعتبار اختلاف السب وإلا فالجنس هنا متحد والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة وقرينة المقام تنادى بالمرام من الكلام ومثال ذلك قوله تعالى في الظهار فتحرير رقبة وفي القتل فتحرير رقبة مؤمنة فالجنس متحد وهو الكفارة والسبب مختلف وهو القتل والظهار ففي هذه الصورة لا يحكم بالتقييد إلا على جهة القياس والذي عليه الجمهور قالوا إذ القياس دليل شرعي فإذا ظهر وجه الإلحاق بشروطه عمل به هنا وعبارة الأصل هكذا لا في في حكمين مختلفين من جنسين اتفاقا إلا قياسا ولا حيث اختلف السبب واتحد الجنس على المختار اى ولا حيث اختلف السبب واتحد الجنس إلا قياسا على المختار فقوله على المختار قيد للحمل على القياس في الحالتين وحينئذ يكون رأيه رأي الجمهور في صحة الحمل قياسا في هذه الحالة وهذا هو اولى في حل عبادته لأنه اذا اجيز الحكم بالألحاق قياسا مع الاختلاف في الحكم كما سبق فبالأولى مع اتحاد الحكم كما في هذه الحالة التي نحن بصددها إذ من البعيد أن يصح القياس مع الاختلاف في الحكم ولا يصح مع الاتحاد
وقولنا هذا هو المختار أي الحكم بالقياس في الحالتين وقد اختلف في المسألة على أقوال
الأول أنه يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة سواء وجد الجامع
أم لا قال أئمة من الشافعية إنه ظاهر مذهب الشافعي وعليه جمهور أصحابه
الثاني لا يحمل عليه إلا بدليل من قياس أو غيره وهذا قول الجمهور من الزيدية والمتكلمين
الثالث للحنفية أنه لا يحمل هنا المطلق على المقيد ولو وجد الجامع قالوا لأن أعمال الدليلين واجب مهما أمكن العمل فيعمل بالمطلق على إطلاقه وبالمقيد على تقييده بخلاف ما لو حمل المطلق على المقيد فإنه يلزم منه إبطال المطلق في غير ما دل عليه القيد وقد أجيب عن دليلهم بما لا يقوى على رده
واستدل الأولون القائلون بالحمل قياسا بأن القياس دليل شرعي فإذا وجد الجامع كان بمثابة نص مقيد للمطلق وأجيب بأن من شرط القياس أن يكون لإثبات حكم شرعي وهنا المقيد برقبة مؤمنة دل على إجزاء الرقبة المؤمنة وأما عدم إجزاء غيرها فهو ثابت بالعدم الأصلي لا بحكم شرعي فتعدية الحكم بالقياس لم تكن للحكم الشرعي بل للعدم الأصلي وهو عدم إجزاء الكافرة ولا يخفي قوة كلام الحنفية في المسألة
ولما فرغ الكلام من المطلق والمقيد أردفه بالمجمل والمبين فقال
الباب السابع في المجمل المذكور في الخطاب ... وقد أتى في سابع الأبواب ... المجمل المذكور في الخطاب ...
المجمل في اللغة يقال على المجموع ومنه أجمل الحساب إذا جمعه وعلى الإبهام من أجمل الأمر أي أبهمه وهذا يناسب أن يكون المجمل في الاصطلاح مأخوذا ! منه وقد رسمه الناظم بقوله ... ورسمه ما ليس منه يفهم ... مفصلا ما قصد المكلم ...
أي رسم المجمل ما ليس يفهم منه ما قصد المتكلم فكلمة ما مراد بها اللفظ كما يشعر به قوله ما قصد المكلم وهذا بناء علىالأغلب وإلا فالإجمال قد يكون في الأفعال كالأقول ولك أن تحمله على ما يشملهما فيراد بالمكلم من شأنه التكلم أعم من أن يكون بفعله أو بقوله وهذا أولى ليشمل الأمرين والإجمال في الأفعال كأن يقوم صلى الله عليه و سلم من الركعة الثانية من غير تشهد فإنه متردد بين أن يكون على جهة العمد فيكون من الأدلة الشرعية أو السهو فلا يدخل فيها هذا وقد خرج من الرسم المذكور المبين إذ يفهم منه ما قصد المكلم على جهة التفصيل وخرج المهمل بطريق المفهوم إذ قد أفاد توجه النفي إلى القيد أعني مفصلا أنه يفهم منه شيء في الجملة غير مفصل
إذا تقرر هذا فالمجمل قد يكون في المفرد كعين بناء على أنه لا يصح
حمل المشترك على جميع معانيه ومن قال يصح لم يكن عنده العين مجملا ويكون في المركب أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه يحتمل أن يراد به ولي النكاح المتولى للعقد أو الزوج ويكون في الضمير كما روي عن ابن الجوزي أنه سئل عن علي عليه السلام وأبي بكر رضي الله عنه أيهما أفضل وكان على المنبر فقال من كانت ابنته تحته ونزل وقد يكون في الصفة نحو زيد طبيب ماهر فإنه يحتمل أنه ماهر في الطب ويحتمل أنه طبيب وأنه ماهر وفرق بين الأمرين فإن الأولى تفيد المهارة في الطب والثانية أعم والأمثلة مبسوطة في المطولات
والمراد معرفة الضابط في الرسم ... خلافه يدعونه مبينا ... ثم البيان ما أفاد ما عنى ... من المراد بالخطاب المجمل ... وصح بالسمع البيان فاقبل ...
أي خلاف المجمل يسمونه المبين وهو ما يفهم منه المقصود على جهة التفصيل وهذا صادق على المبين بنفسه نحو السماء والأرض والله بكل شيء عليم وعلى البيان بعد الإجمال ولما كان المقصود هو الآخر صرح به قوله ثم البيان إلى آخر المصراع الأول من البيت الثاني أي البيان شيء أفاد ما عناه المتكلم بالدليل المجمل من مراده فقوله شيء جنس الحد وقوله أفاد ما عنى يدخل فيه المجمل على ما قررناه سابقا من أنه لا بد أن يفيد إفادة ما وقوله بالدليل أخرج المحمل وأما قوله وصح
بالسمع البيان أي صح بيان المجمل بالسمع كتابا وسنة وإجماعا وقياسا نحو وآتوا حقه يوم حصاده فإنه مجمل بينه قوله صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر وما سقي بالنضح نصف العشر أخرجه البخاري وغيره وهذا النوع واسع في الأحكام الشرعية وقد يكون بالسنة الفعلية نحو قوله صلى الله عليه و سلم صلوا كما رأيتموني أصلي أخرجه البخاري وغيره ونحو خذوا عني مناسككم كما في حديث جابر عند مسلم قيل وهو أقوى من البيان بالقول كما يدل له حديث ابن عباس مرفوعا ليس الخبر كالمعاينة رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان ورواه الطبراني وزاد فإن الله أخبر موسى بن عمران عليه السلام عما صنع قومه من بعده فلم يلق الألواح فلما عاين ذلك ألقى الألواح
وأما البيان بالإجماع والقياس ففيه الخلاف الذي وقع في جواز التخصيص بهما واعلم أنه إذا ورد بعد المجمل قول وفعل يفيدان بيانه فإن علم السابق منهما فهو البيان والثاني تأكيد فعلا كان أو قولا وإن جهل فأحدهما هو المبين لا على جهة التعيين لعدم العلم بالسابق والآخر حكم التأكيد هذا إن اتفقا فإن اختلفا أن يأمر صلى الله عليه و سلم بعد نزول الحج بطواف ويطوف طوافين فقيل المبين هو القول تقدم أو تأخر أو جهة وهذا رأي الجمهور قالوا لأن القول يدل على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه فكان بالبيان أولى من الفعل ويحمل الثاني على الندب أو على أنه خاص به صلى الله عليه و سلم
واعلم أنه ذكر في أصل النظم أنه لا يلزم أن تكون شهرته البيان كشهرة المبين فلم نذكره هنا لأنه قد سبق ما يفيده في باب العام والخاص حيث قلنا وخص بالآحاد ما تواترا
والحاصل أنه اختلف هل يشترط أن يكون البيان أقوى من المبين فقال الرازي لا يشترط ذاك فيجوز بالأدنى فيبين المظنون المعلوم قال العضد بعد كلام وأما المجمل فيكفي في بيانه أدنى دلالة ولو مرجوحا إذ لا تعارض انتهى ولابن الحاجب بعض تخليط
هذا وأما مسألة جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو عدم جوازه فتأتي المسألة قريبا
ولما ذكر أئمة الأصول مسائل وقع فيها خلاف هل هي من المجمل ذكرناها هنا بقولنا ... والمدح للشيء دليل الحسنى ... لأنه حث على ما أثنى ... وذمه في القبح قالوا أوضح ... مما يفيد النهي فهو أقبح ...
أي أن مدح الشيء دليل على أنه حسن لأن فيه حثا وتحريضا على العمل به وذم الشيء دليل على أنه قبيح منفر عنه أشد التنفير من النهي فإن النهي قد يكون للكراهة التي هي داخلة تحت الحسن عند الأكثر وهذا معنى قوله أوضح وفرع عليه قوله فهو أقبح
واعلم أن تأخير هذه المسألة إلى هذا المحل وقع تبعا لأصل النظم وهو تبع المهدي فإنه قال ما حاصله إن المدح والذم قد يتردد بين تعليقه بالأشخاص وبالأفعال فجعل هذه المسألة بعض الأصوليين لذلك من المجمل قالوا لأن قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة الآية يحتمل أنه جاء بصفة الذين لمجرد التعريف بصفة الرجل المذموم لا لذمه لما أفادته جملة الصلة في الآية وهو الكنز كما تقول الذي يلبس البياض
أضربه فيحتمل أن ضربه لأجل لبس البياض أو لغيره فكذا هنا يحتمل أن الذم المستفاد من الوعيد لأجل الكنز أو لأجل غيره وكذا في إن الأبرار لفي نعيم يحتمل أن نعيمهم لأجل البر ويحتمل لغيره فصار مجرد المدح والذم على هذا مجملا لا يدل على حسن ولا قبح للاحتمال المذكور وقال الجمهور ليس بمجمل بل الوصف إذا علق الذم أفاد قبحه أو المدح أفاد حسنه ويكون ظاهرا في ذلك وإن احتمل أن يكون لمجرد التعريف فاحتمال مرجوح انتهى
وقد اعترض المهدي صاحب القسطاس وقال النزاع في المسألة للخصم أنه لا عموم في ما علق عليه المدح والذم حتى يستدل بآية الكنز مثلا على وجوب الزكاة في الذهب والفضة على جهة العموم فالاحتمال فيها لعدم تعيين الكنز الذي علق به الذم فالدليل الذي ينهض على الخصم إنما هو في إفادتها العموم وعدم منافاة الذم والمدح له ... قالوا ولا إجمال فيما نكرا ... من الجموع بل يكون ظاهرا ... فيما يرى الأقل في المعاني ... كذلك التحريم للأعيان ... يكون للمعتاد عند الأجزل ... والعام إن خص فغير مجمل ...
اشتمل على ثلاث مسائل الأول في أن الجمع المنكر نحو رجال ليس بمجمل كما قاله الأكثر من أئمة الفن بل إذا ورد وجب حمله على المتحقق من مدلوله وهو أقل مراتب الجمع وهذا معنى قوله بل يكون ظاهرا إلى آخره أي هو ظاهر في أقل المعاني الداخلة تحت مدلوله فيحمل عليه وذهب الأقل إلى
أنه مجمل قالوا لأن مراتب الجموع متفاوتة فليس حمله على بعض منها أولى من الآخر فيكون مجملا وأجيب بأنه وإن كان مترددا بين مراتبها فالترجيح بحمله على ما هو المتحقق كاف في بيان وجه الأولوية للخروج عن الإجمال الذي هو خلاف الأصل
المسألة الثانية قوله كذلك التحريم للأعيان أي لا إجمال فيما أتى ومن التحريم الواقع على الأعيان نحو حرمت عليكم أمهاتكم وهو قول الجمهور كما أفاده قول الأجزل والدليل أن من استقرأ اللغة علم أنه ليس المراد تحريم العين بل التحريم على ما يناسبه مما سيق له الخطاب كالأكل في المأكول والشرب في المشروب واللبس في الملبوس والوطء في الموطؤ فإذا قيل حرمت عليم أمهاتكم أو الخنزير أو الخمر أو الحرير حمل على ما سبق إليه الفهم عرفا من الوطء ونحوه مما يتبادر فيما ذكر وهذا مراد النظم بقوله يكون للمعتاد أي يكون التحريم للأعيان للمعتاد عرفا وخالف في ذلك الأقل وقالوا بل هو مجمل إذ تحريم العين غير متصور فلا بد من إضمار شيء يكون متعلقا للتحريم والأفعال كثيرة فإنه يحتمل تحريم الأم الوطء والنظر والاستخدام وفي تحريم الحرير البيع واللبس واللمس وكذلك سائر ما ذكره
قالوا ولا سبيل إلى إضمار الجميع لأن ما يقدر للضرورة يقتصر فيه على مايدفعها فيتعين إضمار البعض ولا دليل على تعيين شيء من المقدرات إذ ليس حمله على واحد منها أولى من الآخر فيتوقف في ذلك وهو معنى الإجمال وأجيب بالمنع من عدم تعين إضمار بعض معين بل ما سبق إلى الأذهان من العرف هو المراد هذا تقرير المسألة
واعلم أن من الأصوليين من يذكر هذه المسألة في باب العموم وهي المسماة بعموم المقتضى ولم يتقدم ذكرها في النظم ولا شرحه فلنشر إليها وإلى الراجح فيها ونقول تقدم في باب المنطوق أن الدلالة إذا توقفت في الصدق أوالصحة على مقدر محذوف سميت دلالة اقتضاء نحو حرمت
عليكم أمهاتكم ورفع عن أمتي الخطأ ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فالمتقضى اسم فاعل هو المحتاج للإضمار والمقتضى اسم مفعول هو ذلك المحذوف وحاصله إن قام دليل على أحد المحتملات تعين في المقام سواء كان المقدر عاما أو خاصا وإن لم يدل دليل على تقدير شيء لا عام ولا خاص مع احتمال تعدد المقدرات فهل نقدر المحتملات كلها وهوالمراد بعموم المقتضى أو لا يقدر قولان للعلماء الأول أنه يحمل على جميع المقدرات وهو قول الجمهور وهوالمتعين للخروج عن التحكم فيضمر لفظ عام للمقدرات شامل لها وبهذا يندفع ما قاله المخالف في أنه يلزم كثرة الإضمارات بناء منه على أنه يقدر كل ما يمكن تقديره واحدا واحدا فإنا نقول المقدر لفظ واحد يعم جميع التصرفات مثل الانتفاع في تحريم الميتة فإنه يعم الأكل والبيع وغير ذلك
المسألة الثالثة قوله والعام إن خص فغير مجمل وهذه هي مسألة هل يكون العام بعد تخصيصه حجة أو لا وفيها خلاف منتشر وتفاصيل ولنشر إلى ما هو المختار والأقوى حجة فالقول الأول أنه حجة إن خص بمعين لا إن خص بمبهم
وقد قسم الإبهام إلى قسمين إبهام في اللفظ نحو اقتلوا المشركين إلا بعضهم وإبهام في المعنى نحو أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم فإنه إشارة إلى معين في الواقع هو ما يتلى إذا عرفت هذا فإنه
اختيار الجمهور من الزيدية وغيرهم أنه إن خص بمعين نحو اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة فهو حجة وإن خص بمبهم نحو إلا بعضهم أو إلا ما يتلى عليكم فليس بحجة لإجماله واستدلوا على أنه حجة في الباقي بما عرف من استدلال الصحابة بظاهر العمومات المخصوصات وشاع بينهم وذاع فكان إجماعا وأيضا فإنه كان متناولا للباقي بعد إخراج البعض والأصل بقاء تناوله على ما كان عليه حتى يقوم دليل على خلافه والتخصيص لا يوجب نقله عن أصله وتغييره عما شمله بل يزيده قوة وظهورا فإنه إذا قيل اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أفاد ثبوت الحكم على المشركين المخرج منهم أهل الذمة بعد أن كان لفظ المشركين شاملا لأهل الذمة وأهل الحرب فازداد تناول العام للباقي قوة
قالوا وأما إذا خص بمبهم فإنه مع الإبهام لا يعلم ما قصد بالتخصيص فما من فرد إلا وهو محتمل لأن يكون هو المخرج فصار الباقي مجملا وهذا صادق على المبهم في المعنى وفي اللفظ كما قدمناه إذا تقرر هذا فقولنا والعام إن خص فغير مجمل إنما هو رد لقول من يقول إنه إن خص فإنه لا يبقى حجة سواء خص بمعين أو مبهم وهذا يروى عن أبي ثور وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن كثير من الشافعية والحنفية والمالكية قالوا لأن لفظ العام موضوع للاستغراق وقد صار بعد التخصيص للبعض وكل بعض هو فيه مجاز ولا يتعين أحد الأبعاض لتعدد مجازها إذ يحتمل أنه مجاز في كل ما بقي وفي كل بعض فكان مجملا
وأجيب بأن ذلك فيما إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعيين أحدها وهنا الدليل قائم على أن الباقي هو المراد بقاء على الأصل فيصار إليه
وأما قوله ... ولا صلاة في المبينات ... عد كذا الأعمال بالنيات ...
فهذا مما قيل بأنه مجمل فرده الجمهور وقالوا بل هو مبين أعني قوله صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بطهور وكذا قوله صلى الله عليه و سلم الأعمال بالنيات ليس بمجمل وهو بهذا اللفظ رواه الحاكم في الأربعين عن مالك وإن كان قد نقل النووي عن أبي موسى المديني وأقره عليه بأن الذي وقع في الشهاب بإسقاط إنما لا يصح له الإسناد ولكنه قد رواه مالك وابن حبان كما ذكره في تلخيص الحبير وأما بزيادة إنما فهو متفق عليه والمراد أنه قد أشار في النظم إلى إنما ورد فيه النفي على الذات من الأسماء الشرعية مثل لا صلاة إلا بطهور لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل وغير ذلك
من الأسماء الشرعية فإنه لا إجمال فيها وهو قول جمهور العلماء وهو مبني على إثبات الحقائق الشرعية وعلى أن الشرعي مخصوص بالصحيح فيكون التقدير لا صلاة صحيحة ولا صيام صحيح ولا إجمال في هذا ولا يصدق عليه رسمه
وذهب آخرون إلى أنه مجمل قالوا لأنه لا يصح نفي الوقوع لكونه مشاهدا وإنما أريد به أمر آخر وهو غير معلوم لنا فكان مجملا ولأنه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم فصار مجملا ولأنه متردد بين نفى الكمال ونفى الصحة والعمل على أحدهما بغير دليل تحكم
وأجيب بأن الحمل على نفي الصحة أولى لما عرفت ولأنه قال ابن تيمية إنه لا يعرف نفي الكمال في كلام العرب وأيضا فالإجمال خلاف الأصل فلا يحمل عليه
ومما قيل بإجماله وأشير إلى رده ما أشار إليه قوله ... ومثله رفع الخطأ وغيره ... واتبع الأمثال في نظيره ...
أي مثل الأعمال بالنيات رفع الخطأ بصيغة المصدر مرفوع على خبرية مثله وهو إشارة إلى حديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وقوله وغيره إلى ما يماثله من الأحاديث النبوية نحو لا عهد لمن لا دين له ولا هجرة بعد الفتح ولا رضاع بعد الحولين وهو باب واسع في كلام الشارع وغيره نحو لا ملك إلا بالرجال ولا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاده فالجمهور على أنه لا إجمال في ذلك فيحمل على ما يقتضيه العرف
شرعا أو لغة إن ثبت فيه أيهما ففي مثل رفع يقدر فيه المؤاخذة ونحوها ومثله غيره من الأمثلة فيحمل على ما يقتضيه العرف وذهب آخرون إلى أنه مجمل وهو قول مرجوح
وقوله واتبع الأمثال في نظيره إشارة إلى عدة أمثلة ذكرت في مطولات الفن من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم الإثنان فما فوقهما جماعة قالوا فإنه يحتمل أن يراد بها الجماعة اللغوية أو الشرعية التي يحصل الثواب بها ويترتب عليها والجمهور على أنه لا إجمال في ذلك بل يحمل على الشرعي لأن الشارع بعث لتعريف الأحكام الشرعية لا المعاني اللغوية والأمثلة كثيرة
ومن عرف ضابط المجمل والمبين عرف موقع الأمثلة من أي القسمين هي ... وللبيان يحرم التأخير ... عن وقت ما يحتاجه المأمور ... وهكذا التخصيص والتقييد ... هذا اتفاق عند من يفيد ...
هذه مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو حصول الوقت الذي طلب من المكلف فيه تنجيز الفعل فإنه يحرم تأخير البيان للخطاب المجمل عنه كما يأتي دليله ومثله التخصيص للعام والتقييد للمطلق أي يحرم التأخير لهما عن وقت الحاجة إلى بيان ما أريد بالعام والمطلق وهذا اتفاق بين العلماء كما أفاده النظم قيل إلا عند من جوز تكليف ما لا يطاق فإنه لا يمتنع عنده تأخيرها عن وقت الحاجة بل يجوز وإليه أشار قوله عند من يفيد تقييد للاتفاق لأخراج من ذكر وإن وقع في أصل النظم حكاية الإجماع مطلقة تبعا للإمام المهدي في المعيار
والدليل على ما ذكرناه من التحريم أفاده قولنا ... لأنه لو جاز كان يلزم ... من ذاك تكليف لما لا يعلم ...
أي لو جاز تأخير البيان عن وقت الحاجة لزم منه تكليف ما لا يعلمه المكلف وهو قبيح لا يجوز من الحكيم ... وجائز وفقت للصواب ... تأخيره عن زمن الخطاب ... في نهيه وأمره لا في الخبر ... إذ المراد منه إفهام البشر ...
الذي سلف تحريمه هو التأخير للبيان عن زمن الحاجة أما تأخيره عن زمن الخطاب ففيه أقوال
الأول إنه جائز سواء كان الخطاب مجملا أو ظاهرا أريد به خلاف ظاهره كالعام والمطلق وهذا قول الأكثر وسواء كان أمرا أو نهيا أو خبرا
والثاني يجوز تأخيره في الأمر والنهي دون الخبر وهو الذي أفاده الناظم
والثالث لا يجوز مطلقا
وجه القول الثاني وهو التفصيل أن الخطاب في الأمر والنهي إذا وقع من دون بيان سواء كان بمجمل أو ظاهر أريد به خلافه لم يحصل منهما اعتقاد جهل بخلاف الخبر فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب به لأنه إذا وقع بظاهر والمراد خلافه اوقع سامعه في اعتقاد الجهل وإذا كان بمجمل لزم العبث لعدم الفائدة بالإخبار في المجمل وليس المراد من الخبر إلا إفهام السامع وإفادته فهذا هو الدليل لأهل التفصيل وأجيب عن ذلك بأن اعتقاد الجهل مشترك الإلزام فإنه لا بد في الأمر والنهي من اعتقاد وجوب العمل أو الترك وفيه أقوال أخر وتفاصيل في مطولات الفن لا يحتملها الاختصار وقد استدل لمن قال بجواز تأخره عن وقت الخطاب مطلقا بأنه قد وقع والوقوع
فرع الجواز وذلك كآية الخمس فإنه تأخر بيان ذوي القربى حتى وقع البيان بأنهم بنو هاشم وبنو عبدالمطلب وكآية السرقة فإن ظاهر عموم القطع لليدين إلى المنكبين وعموم السرقة في قليل وكثير حتى وردت السنة ببيان الأمرين هذا كله في الظاهر وكذلك في المجمل كالأمر بالصلاة والحج وإذا عرفت أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب فالبحث عنه واجب كما أفاده قوله
والبحث عن واجب في العمل فلا يجوز أن يعمل بظاهر العام ولا المطلق ولا غيرهما قبل البحث عن تخصيص العام وتقييد المطلق وهذا قد تقدم في بحث العام وذكرنا هنالك بأن هذا الحكم يختص بالعام لكثرة المخصصات حتى إنها صيرت ظاهرة مرجوحا فلا يعمل به إلا بعد البحث عن مخصصه بخلاف المطلق
ولما تم المراد بيانه من الكلام على المجمل والمبين أخذ الناظم في الكلام على الظاهر والمؤول فقال ... فصل وللظاهر والمؤول ... رسمان فالظاهر حيث يطلق ... على خلاف النص وهو يصدق ... أيضا على مقابل للمجمل ...
يريد أن للظاهر والمؤول رسمين عند أئمة الفن
أما رسم الظاهر وله إطلاقان
الأول أنه يطلق على ما يقابل النص ورسمه عليه ما يدل على المعنى المقصود الراجح بنفسه مع احتماله لمعنى مرجوح وهذا هو الرسم الأول وهو مراده بقوله حيث يطلق على خلاف النص وعلى هذا المعنى فإن النص قسيم للظاهر وقد خرج من هذا الرسم المؤول فإن المعنى الراجح
المتبادر منه ليس هو المقصود وخرج المجاز أيضا على مقتضى كلام الناظم فإنه جعله من المؤول وكذا العام المخصوص إذ كل منهما لم يدل على المعنى المقصود بنفسه بل بعد البيان بالقرينة والتخصيص
والثاني من إطلاقيه أنه يطلق على ما يقابل المجمل كما أفاده قوله وهو يصدق أيضا فالظاهر على هذا هو ما اتضحت دلالته فيكون على هذا النص قسما من أقسامه ويدخل في المؤول والمجاز والعموم والخصوص وقد رسم على هذا المعنى بأنه ما يفهم منه المراد تفصيلا ولا شك في دخول النص على هذا إلا أنه يخرج منه المؤول وغيره مما ذكرناه وظاهر إطلاقهم دخول مدلول الألفاظ سواء المجمل تحت هذا الإطلاق لكن بالرسم الأول أعني ما اتضحت دلالته فيكون أولى فهذان الرسمان للظاهر باعتبار إطلاقيه
وأشار إلى رسم المؤول بقوله ... وبعد ذا فالرسم للمؤول ... بما به يعني خلاف الظاهر ...
هو مشتق من آل يؤول إذا رجع فهو مؤول لرجوعه بالتأويل إلى المعنى المراد منه ورسمه ما به يعني أي يراد خلاف الظاهر أي ظاهره فالتعريف عوض عن الضمير وبهذا يعرف أنه على هذا قسيم للظاهر بالإطلاق الأول ولذا أتى برسمه زيادة في الإيضاح وإلا فإن كثيرا من أهل الأصول لا يعرفه إما اكتفاء بتعريف التأويل أو لوضوحه بطريق المقابلة بينه وبين الظاهر ... والصرف للفظ عن الظواهر ... إلى المجاز أو بأن يقصر ما ... يفيده اللفظ إذا ما عمما ... وفيهما قرينة للصرف ... فذلك التأويل في ذا العرف ...
قد عرفت أن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره بقرينة فقوله والصرف مبتدأ وقوله فذلك التأويل خبره ودخول الفاء فيه من باب قوله وقائله
قولان فأنكح فتاتهم وقوله إلى المجاز إلى آخره بيان لقسمي التأويل وصرح بقوله أو بأن يقصر إلخ بناء على ما سبق من أن الباقي من العام بعد تخصيصه حقيقة وعلى هذا فالعمومات المخصصات والمطلقات المقيدات من قسم المؤول كما تقتضيه عبارة الناظم وهو ظاهر كلام أئمة الأصول من رسمهم المؤول وكذا المجازات
ولما كان التأويل يختلف في الوضوح والخفاء والقرب والبعد باعتبار قرائنه والأدلة الصارفة لظاهره انقسم إلى أقسام أشار إليها قوله ... وهو قريب وبعيد حسبما ... يقضي الدليل فاختلاف العلماء ... فيه على ما يقتضي وما أتى ... تعسفا فالمراد حتما ثبتا ...
أي أنه ينقسم التأويل إلى قريب وبعيد حسبما يقضي به الدليل فقد يكتفي في بعض الحالات بأدنى دليل في صرفه ورده عن ظاهره فهذا هو القليل وقد يحتاج إلى كثرة مخالفة في الظاهر وتطلب المرجحات فهذا هو البعيد فلذلك تجد العلماء يختلفون في تأويل الأدلة وردها عن ظاهرها إلى القواعد بحسب ما يظهر لكل واحد من القرائن وقد يأتي قسم ثالث في الحقيقة وهو ما فيه تكلف وتعسف ويأتي شيء من ذلك وإذا عرفت هذا فقد عد العلماء أمثلة من الثلاثة الأنواع قالوا فمن القريب تأويل آيات الصفات والأحاديث الواردة فيها فإن الدليل العقلي والشرعي قائم على عدم إرادة ظاهرها فينفق الخلف والسلف على منع حملها على ظاهرها إذا خالف التنزيه ذكر هذا البرماوي في شرح منظومته ومثله في شرح الغاية إلا أن في كونه إجماعا وأنه مذهب السلف تأملا فإن المنقول عن السلف هو ما ذكره الله تعالى في قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
( آل عمران 7 ) ولا يلتفتون إلى ما عدا ذلك قال المقبلي رحمه الله تعالى في الأرواح وهذا هو الحق وهو القدر الضروري وما عداه دعوى وتكلف بما لا يعني يحتمل المنع عقلا ويدخل تحت قوله تعالى وما أنا من المتكلفين إن أتبع إلا ما يوحى إلي ونحوها في منع التقول على الله تعالى بلا سلطان انتهى
وقد عد من القريب أمثلة كما عد من البعيد أمثلة اقتصرنا على بعض من الأمرين فمن البعيد تأويل الحنفية لحديث أيما امرأة نكحت نفسها فنكاحها باطل رواه أبو داود وغيره فقالوا المراد بها الصغيرة والأمة ووجه بعده أن الصغيرة لا يقال لها امرأة
وعدوا من البعيد تأويلهم وكثير من الزيدية قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا بإطعام طعام ستين مسكينا قالوا لأن القصد دفع الحاجة وحاجة ستين مسكينا في يوم واحد كحاجة واحد في ستين يوما فيصح إعطاء واحد في ستين يوما ووجه بعده أن تقدير المضاف خلاف الظاهر وهذه العلة المستنبطة لا تقوى قرينة على ذلك
وأما القسم الثالث فله أيضا أمثلة كثيرة مردودة كتأويل الباطنية قوله تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي بأبي بكر وعمر وعثمان وتأويلهم قوله تعالى أتأتون الذكران من العالمين بعلماء الظاهر وإتيانهم لأخذ فتواهم وأخذ العلم عنهم ومنه تأويل الخوارج لقوله تعالى حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى بعلي بن أبي طالب وأنفسهم وأنهم الذين يدعونه إلى الهدى والأمثلة واسعة من أهل الضلالات والابتداع وتأويل ابن عربي الملحد وأتباعه العذاب بالعذوبة ونحوها من ضلالاته
وقد ذكر قسم رابع سموه متوسطا وأمثلته لا تخفى والمقصود معرفةالقواعد لا تعداد الأمثلة فمن عرفها عرف ما تحتها من الأمثلة
الباب الثامن في النسخ قال ... والنسخ عد ثامن الأبواب ...
النسخ لغة يطلق على الإزالة نحو نسخت الشمس الظل وعلى النقل والتحويل نحو نسخت الكتاب
وفي الاصطلاح قيل إنه بيان لانتهاء مدة الحكم وقيل رفع الحكم وعلى هذا وقع تعريف الناظم بقوله ... ورسمه عند أولي الألباب ... إزالة لمثل حكم شرعي ... بما تراخى من دليل سمعي ...
أي رسم النسخ عند ذوي العقول هو إزلة لمثل حكم شرعي بدليل متراخ سمعي وقال لمثل ولم يقل عينه لأن إزالة العين فيما نسخ بعد فعلهما محال بل المنسوخ هو مثله
وقوله شرعي لإخراج الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الأحكام الشرعية فإن ارتفاعها بها ليس بنسخ اصطلاحي وقوله بما تراخى من دليل سمعي لإخراج إزالة الحكم بموت أو جنون فإنه لا يعد نسخا اصطلاحا وقيده بالتراخي لإخراج نحو صل إلى أن تغيب الشمس فإن ارتفاع الحكم مستفاد
من التقييد بالغاية وهو متصل بالدليل ليس فيه تراخ عنه وكذا غيره من المخصصات التي لا تراخي فيها وإن كان قد قيل إنه لا إزالة في التخصيص مثلا فليس بداخل فإن المخصص للدفع والنسخ للرفع والإزالة ففيه تأمل
وقوله بدليل ولم يقل بحكم لأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل
وقوله من دليل سمعي شامل للإجماع والقياس ويأتي أنه لا ينسخ بهما وقد شمل التعريف أنواع السنة الثلاثة
ولما كان قد خالف في النسخ جماعة من غلاة الإمامية أشار إلى رد كلامهم بقوله ... وجائز ذلك فيما اختاروا ... وإن يكن ما قدم الإشعار ...
هما مسألتان
الأولى جواز النسخ واستدل على جوازه بوقوعه لم تتبع الأحكام الشرعية فمن ذلك وجوب صوم يوم عاشوراء نسخ بإيجاب رمضان ووجوب قتال الواحد العشرة من الكفار ثم نسخ بإيجابه عليه للاثنين ووجوب الوصية للوارث نسخ بآية المواريث وغير ذلك مما يطول تعداده وقد صنفت فيه كتب مستقلة فالمنكر للنسخ من المسلمين إما جاهل أو مخالف في العبارة وإنما يعرف فيها الخلاف لليهود
واستدل لمن نفاه من المسلمين بأنه إما أن يكون الحكم مقيدا إلى غاية فلا ينسخ لعدم تحقق الرفع فيه أو لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فهو جهل أولا لحكمه فهو سفه وبدا وأجيب عن الأول بأنه عاد الخلاف لفظيا فإنا لا نعني بزوال الحكم إلا بالنظر إلى علمنا وإلا فهو مقيد في علم الشارع إلى غاية أبرزها عند نسخه الحكم وعن الثاني أنه قد تقرر عند الكل أن الأحكام كلها منوطة بالحكم والمصالح إلا أنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص فالحكم المنسوخ كان لحكمة انتهت في علم الشارع إلى
زمن نسخه ثم خلفها حكمة أخرى تقتضي حكما آخرا فلا سفه ولا بدا والمسألة الثانية أنه يجوز النسخ وإن لم يتقدم به إشعار وهذا رأي الجمهور وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز إلا إذا تقدم به إشعار نحو قوله تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا وأجيب بأنه لا يتم دعوى الإشعار في كل حكم حكم الله بنفسه ... ونسخ ما قيد بالتأبيد ... وغير إبدال لذي المفيد ...
عطف على قوله وجائز أي وجائز نسخ الشيئين وهو نسخ الحكم الذي قيد بالتأfيد والنسخ لحكم لا إلى بدل وهما مسألتان اختلف العلماء فيهما اختلافا كثيرا
فالأولى مثلوها بنحو أن يقول صوموا رمضان أبدا فالجمهور قائلون بأنه يجوز نسخه واستدلوا بأن التقييد بالتأبيد ليس نصا صريحا في الدوام غايته أنه ظاهر فيه وهو لانيا في النسخ كما قلنا في صيغ العموم أن ظاهرها الاستغراق مع جواز إخراج بعض أفرادها فكذا هنا يجوز إخراج بعض الأزمنة وإن كان التقييد بالأبد ظاهرا في الدوام
قال المانع صحة الأقل التقييد بالأبد ينافي النسخ لأن التقييد به يدل على الدوام والنسخ يدل على القطع وانتهاء الحكم وكون الشيء دائما منقطعا تناقض لا يجوز على الحكيم
وأجيب بأنه بالنظر إلى ظاهر لفظ الأبد مسلم ولا يضر كمنافاة التخصيص لظاهر العموم ولأن لفظ الأبد يستعمل في الزمن الطويل كما نص عليه أهل اللغة وحينئذ فليس الأبد نصا صريحا يدل على أنه للاستمرار في نفس الأمر وحقيقة الخطاب فلا ينافيه النسخ وفي المطولات تقاسيم في المسألة وإطالة وهي قليلة الجدوى فلا نشتغل بها
تنبيه بقولنا صوموا إشارة إلى أن الخلاف في نسخ الإنشاء وأما نسخ الأخبار فقد اختلف في جواز نسخه فقيل لا يجوز وتفصيل البحث أن الخبر إما أن يكون مما يتغير مدلوله كالإخبار بإيمان زيد وكفره أو مما لا يتغير نحو العالم حادث والباري موجود والنار محرقة فالنسخ هنا يكون بأمرين
الأول أن يأمر الشارع بالإخبار بحدوث العالم أو بإيمان زيد ثم ينهى عن الإخبار بذلك فهو جائز بلا خلاف
وهل يجوز النسخ إلى الإخبار بنقيض ما ذكر منعه من قال بالتحسين والتقبيح لأنه أمر بالكذب وجوزه نفاتهما والتحقيق أنه لا يقع النسخ في الخبر إلا بتأويله بالانشاء وحينئذ فلا خلاف
المسألة الثانية ما أشار النظم إليه قوله إلى غير بدل وأنه قول من لهم الإفادة وهم الجمهور وقالوا يجوز إلى غير بدل بل قد وقع وخالف فيه طائفة ودليل الجمهور أنه لو لم يجز لم يقع وقد وقع كفسخ وخالف وجوب الصدقة فإنها نسخة لا إلى بدل استدل المانع بقوله تعالى ما ننسخ من آية الآية فإنه أخبر تعالى أنه يأتي بخير منها أو مثلها فدل على أنه لا ينسخ إلا إلى بدل هو خير من المنسوخ أو مثله وأجيب بأن المراد بلفظ خير منها لا يحكم خير وليس الخلاف في اللفظ وإنما هو في الحكم ولا تدل عليه الآية
قلت ولا يخفى أن اللفظ الذي يبدل به المنسوخ لا بد أن يكون دال على حكم أقله ندب تلاوته وقراءته وأما آية نسخ الصدقة التي استدل بها الجمهور فإنه قد أجيب بأن الحث على الصدقة والترغيب فيها ثابت بدليل عام فلو أراد المناجي تقديم الصدقة بين يدي نجواه لكان داخلا لذلك الدليل العام غايته
أنه وقع النسخ من وجوب التصدق إلى ندبه وهو حكم فالظاهر في المسألة مع الأقل ... كذا أخف الحكم بالأشق ... كالعكس فاتبع ما إليك ألقي ...
أي وكذا يجوز نسخ الحكم الأخف بالأشق وعكسه الأشق بالأخف فنسخ الأشق بالأخف كوجوب مصابرة واحد لعشرة إلى وجوب مصابرته للاثنين ونسخ عدة الوفاة بالحول إلى أربعة أشهر وعشر وكذا بالمساوى كنسخ الاستقبال هذان لا خلاف فيهما وإنما الخلاف في الطرف الأول وهو نسخ الأخف بالأشق فالجمهور على جوازه ووقوعه وخالف فيه بعض الظاهرية وعزي إلى الشافعي ودليل الجمهور أنه قد وقع ولا مانع عنه في الحكمة وذلك في نسخ صوم عاشوراء برمضان واستدل المانع بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله أن يخفف عنكم
قال والنسخ إلى الأثقل ليس بيسير ولا تخفيف وأجيب بأنه قد وقع ذلك فيتعين حمل الآية على أن المراد باليسر والتخفيف في الشريعة من أصلها فإنها الحنيفية السمحة السهلة الخالية عن الأغلال والآصار وإن وقع فيها نسخ أخف بأثقل فإنه لا ينافي اليسر والتخفيف في الجملة
قوله ... ونسخ ما يتلى بدون الحكم ... والعكس أو كليهما عن علم ...
هذه مسألة نسخ التلاوة دون الحكم والعكس نسخ الحكم دون التلاوة أو الكل فهي ثلاث صور كلها في الكتاب العزيز وفي كل سورة خلاف والحق مع الجمهور كما في النظم لوقوعه في الثلاثة الأقسام
أما الأول فكحديث عمر الذي رواه الشافعي وغيره لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة فإنا قد قرأناها وروي عن غيره من الصحابة فهذا منسوخ التلاوة دون الحكم
وأما الثاني فآية الصدقة عند النجوى وآية اعتداد الحول فإنه قد نسخ الحكم مع بقاء التلاوة
وأما الثالث فما رواه مسلم عن عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخ بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي فيما يقرأ من القرآن وهذا صريح بأنها قرآن كما أن قول عمر قرأناها صريح في القرآنية وما قيل من أن شرط القرآن التواتر وهذه المثل بها آحادية فلا يتم أنه من نسخ القرآن إذ القرآن هو المتواتر فقد أجيب عنه بأن شرطية التواتر فيما أثبت الدفتين وأما المنسوخ فلا نسلم ذلك بأن المقصود فيما ذكرناه ثبوت النسخ لما كان قرآنا لا ثبوت قرآنيته بذلك ولا يخفى ضعف الجواب الآخر وبالجملة فعلى قاعدة الجمهور يضعف الاستدلال على نسخ القرآن تلاوة سواء كان حكمه باق أم لا لعدم تقر قرآنية ما جهلوه دليلا ومثالا ... وينسخ الأصل مع المفهوم ... موافقا والأصل في العلوم ... بدونه وعكسه فيما علا ... فحوى الخطاب فاتبع نهج الهدى ...
هذا بيان لما وقع في الخلاف من نسخ المفهوم للموافقة بقسميه أعني الفحوى والمساوي ولا خلاف عند العلماء أنه يجوز نسخ الأصل والمفهوم معا
وهو ما أفاده قوله وينسخ الأصل من المفهوم موافقا إنما اختلفوا هل يجوز نسخ الأصل مع بقاء المفهوم كنسخ التأفيف بدون الضرب وعكسه أو يفصل في ذلك فيه أقوال
المنع مطلقا وهو قول الأكثر
الجواز مطلقا
ونسخ الأصل بدون المفهوم لا العكس وهذا هو الثالث
الرابع أنه يجوز نسخ الأصل بدون الفحوى في الأولى وألا يكون أولى ففيهما أي جواز النسخ في كل واحد من الأصل ولفحوى ما بقاء الآخر وهذا مذهب الإمام يحيى والحفيد والشيخ أحمد الرصاص
الخامس الجواز في الفحوى مع بقاء الأصل لا الأصل مع بقاء الفحوى إلا بدليل آخر وهذا اختيار الفقيه عبدالله بن زيد المدحجي قالوا والدليل على ذلك أن ارتفاع التحريم في الضرب يلزم منه ارتفاع التحريم في التأفيف بطريق الأولى فلا يجوز رفع التحريم في الضرب دون التأفيف لمخالفة ما هو الأولى وهو قطعي الدلالة ولغير هذا القول أدلة لا تخلو عن المناقشة وهذا في مفهوم الموافقة
وأما مفهوم المخالفة فالمختار جواز النسخ كل منهما لأن تبعيته للأصل من حيث دلالة اللفظ عليه معه لا من حيث ذاته فإذا زال الأصل لموجب
لم نسلم زوال المفهوم وإلا لزم ذلك في مفهوم الموافقة وهو خلاف ما قرر آنفا ولا فرق بينهما إلا بأن ذلك الحكم أقوى في الدلالة من حيث التلازم ولكن مجرد القوي لا يسقط الأضعف وهو دلالة مفهوم المخالفة عند معتبريه
مثال نسخ المفهوم مع بقاء أصله حديث إنما الماء من الماء فإنه نسخ مفهومه وهو أنه لا غسل عند عدم الإنزال حديث إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ومثال نسخهما معا أن يقال في الغنم السائمة زكاة ثم بعد مضي إمكان الفعل يقال لا زكاة في السائمة ولا المعلوفة ومثال نسخ الأصل دون المفهوم أن يقال في الغنم السائمة زكاة ثم يرد النسخ بأنه لا زكاة في السائمة فمن قال بأنه يكون نسخا للمفهوم يقول قد بطل الأصل الذي تفرع على دلالته المفهوم فيبطل المفهوم ومن منع من ذلك يقول بل دليل المفهوم باق لم يزل من حيث الدلالة اللفظية ولكن مفهوم النسخ إذا عارض مفهوم المنسوخ كان من تعارض الدليلين إذا وجد مرجح عمل بالأرجح ففي المثال المذكور يرجح مفهوم الأصل المنسوخ للبراءة الأصلية لأنه يدل على أنه لا زكاة في المعلوفة ومفهوم النسخ يدل على أن فيها زكاة ومن يرجح الناقل عن الأصل قال بالعكس هذا في نسخ المفهوم فأما النسخ به فقيل لا ينسخ به لضعف دلالة
المفهوم فلا يقوى على نسخ الأصل وهذا الذي اختاره في جمع الجوامع ... ولا يجوز قبل إمكان العمل ... نسخ لما كان خلافا للأقل ...
هذه مسألة النسخ قبل الإمكان من مشاهير مسائل الخلاف بين ذوي الاتقان وذلك كأن يأتي من الشارح أمر بفعل شيء ثم ينسخه قبل دخول وقته أو بعده ولم يمض منه ما يتسع للعمل بما أمر به فرأى الجمهور من العلماء كالزيدية والمعتزلة والحنابلة وأكثر الحنفية أنه لا يجوز واستدلوا بأنه لو جاز النسخ قبل تمكن المكلف من العمل للزم أن يكون مأمورا بالفعل في الوقت الذي عينه الشارع منهيا عن فعله فيه وأنه جمع بين النقيضين وهكذا إذا رفع قبل الوقت المعين أو كان المأمور به مطلقا ثم نسخ قبل التمكن من فعله بأن لا يمضي عليه ما يتسع للعمل من الوقت المطلق فإنه يلزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وقال آخرون وهو الأقل يجوز النسخ قبل إمكان العمل ودليل جوازه وقوعه فمن ذلك قصة الخليل أمر بذبح ولده كما دل له قوله افعل ما تؤمر وبإقدامه على ذلك ثم نسخ بقوله وفديناه بذبح عظيم قبل التمكن واحتمال أن الوقت موسع حتى يكون النسخ بعد التمكن ينافي حالات الرسل من المبادرة إلى امتثال ما أمروا به
ومن ذلك نسخ فرض الصلاة من خمسين إلى خمسة كما دل له حديث الاسراء وذلك من النسخ قبل التمكن قطعا
وأجيب عن قصة الخليل بأنها ليست من محل النزاع لأن فيما حكاه الله تعالى أنه شاور ولده في ذلك وذلك يقتضي أنه قد مضى وقت يتمكن فيه من الفعل وهو عمل يسير إمرار المحدد على النحر
وأجيب عن حديث فرضية الصلاة بأنه ظاهر في جواز النسخ قبل بلوغ الحكم إلى المكلفين ولا قائل بذلك فيتيعن تأويله على كل حال
وللعلماء تأويلات لا تخلو عن القدح وأحسن ما قيل إنه لا يعد هذا من النسخ إذ ذلك وقع بشفاعته صلى الله عليه و سلم وسؤاله من ربه التخفيف عن أمته
وبالجملة فقد تقرر أنه لا نسخ قبل البلاغ فلا بد من حمله على ما يخلص به الإشكال وإلا كان من المتشابه يجب الإيمان به ونسكت عن الخوض عنه ... وينسخ المزيد بالزيادة ... إن كان لا يجزىء في العباده ... بدونها والنقص باتفاق ... نسخ لما ينقض لا للباقي ...
هما مسألتان الأولى أن يرد دليل يقتضي الزيادة على ما كان قد استقر به التكليف الشرعي وذلك إن كانت الزيادة مغيرة للحكم المزيد عليه ومانعة لأجزائه بدونها كما قال إن كان لا يجزىء فضمير يجزىء عائد للمزيد عليه وذلك بأن تكون غير مستقلة بل جزءا مما زيدت عليه كزيادة ركعة في صلاة الفجر وزيادة التغريب على الجلد وزيادة العدد في الجلد الذي كان قد تقرر أو زيادة شرط كوصف الإيمان في الرقبة فهذه الزيادة قد غيرت حكم الأصل الذي زيدت عليه من الأجزاء فيكون نسخا وهذا رأي جماعة ومنهم من فرق بين الأمثلة فقال إن كان تغييرها بحيث يصير الأول كالعدم فنسخ وذلك كزيادة ركعة في الفجر فإن الركعتين المزيد عليهما لا تصح بعد الزيادة ويجب إعادتها إذا اقتصر عليها وإن لم تغير ذلك التغيير فلا يكون نسخا مثل زيادة العدد في الجلد والتغريب فإن الثمانين مثال من حق الزاني لو اقتصر عليها لا تصير كالعدم بل يعتد بها وإنما يحتاج إلى تكميل العشرين وكذا في التغريب لا يحتاج إلى إعادة الجلد إن اقتصر عليه وغايته أنه اصطلاح
وأنه مبني على أن الإجزاء حكم شرعي فإن المراد بالزيادة هي ما رفع الإجزاء وفي الإجزاء خلاف بين أئمة الأصول منهم من يجعله حكما شرعيا ومنهم من يجعله حكما عدليا فمن جعله شرعيا كانت الزيادة نسخا وإلا فلا
الثانية في النقص وهو إما أن يكون جزءا من المنقوص كركعة أو ركوع أو شرطا كالطهارة فلا خوف وهذا هوالذي أفاده النظم حيث قال والنقص باتفاق نسخ لما ينقص
وقوله لا للباقي هذه فيها أقوال
الأول للجمهور وهو الذي في النظم أنه ليس بنسخ سواء كان جزءا وشرطا متصلا أو منفصلا ودليلهم أنه لو كان الباقي منسوخا لافتقر وجوبه إلى دليل لأن الفرض أنه قد صار منسوخا عند المخالف ولا يفتقر إلى دليل بالإجماع وفي المسألة أقوال واستدلال غير ناهض من أحب معرفتها تطلبها من الفواصل
واعلم أن فائدة الخلاف في كون الزيادة أو النقص نسخا قبول الخبر الآحادي إذا ورد على النص المعلوم من جعلها نسخا لم يقبله ومن جعلها من باب التخصيص أو التقييد قبله ولذا لم تعمل الحنفية بأحاديث وردت بزيادة على النص المعلوم أو نقص لهذه القاعدة من ذلك قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية ثم ورد أنه صلى الله عليه و سلم قضى بالشاهد واليمين كما ثبت عند مسلم وأبي داود وغيرهما ومثل زيادة التغريب على الجلد كما في الصحيحين البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وغير ذلك ... وقال في الأصل بلا نزاع ... يمنع في القياس والإجماع
هما مسألتان
الأولى أنه لا ينسخ القياس والإجماع وإن عدم نسخهما إجماع وهذا الإجماع نقله القرشي في العقد وتبعه المهدي في أصل النظم ولما كان دعوى عدم نسخهما فيه خلاف أشار إليه الناظم بنسبته دعوى الإجماع إلى الأصل بقوله وقال في الأصل فالأولى كون الإجماع لا ينسخ فإنه خالف فيه أبو الحسين الطبري وأبو عبدالله البصري واحتج الجمهور بأنه لا يتصور نسخ بالاجماع لأن الناسخ له إما أن يكون قطعيا فيلزم انعقاد الاجتماع المنسوج على الخطأ وهو لا يجوز فلا يصح وجود دليل قطعي مخالف للإجماع سواء كان من الكتاب أو من السنة وإما أن يكون ظنيا فالظني لا يعارض الإجماع القطعي وإما أن يكون إجماعا فإما أن يكون لا عن دليل فهو خطأ ولا يصح وقوعه للعصمة أو عن دليل لزم خطأ أحد الإجماعين وحينئذ فلا يصح نسخ أحد الإجماعين بشيء على كل تقدير
قالوا وأيضا فالإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه و سلم كما عرف من رسمه ولا يتصور بعده صلى الله عليه و سلم وجود الناسخ من كتاب ولا سنة ولم يأت المجيز بما يتم به مدعاه
الثانية مما تضمنه النظم أنه لا ينسخ القياس وهذا قول الجمهور ودليلهم هو أن من شرط القياس لا يظهر له معارض فإذا ظهر ما يعارضه من
نص أو إجماع أو قياس أقوى منه بطل العمل به فلا نسخ وكذا إذا كان مساويا فإنه يلزم إطراح القياسين معا وعلى كل تقدير لا يتحقق النسخ للقياس وأجيب بأنكم إن أردتم ببطلان القياس عند ظهور المعارض بمعنى أن الحكم الاول الثابت عنه خطأ لا يثاب عليه المجتهد بل هو كالحكم لا عن دليل فهذا ممنوع فإنه ليس على المجتهد إلا ما أداه إليه اجتهاده وإن أردتم ببطلانه أنه لم يبق دليلا شرعيا يجب العمل به عند ظهور المعارض فهذا الذي نعني بنسخه
قالوا وأيضا لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يثبت نسخ الآحاد بالآحاد إذ من شرط العمل بها ألا يظهر معارض لها فنقل ما ذكرتم إلى هنا وأنتم لا تقولون به فلم ينهض دليل الجمهور على المنع
هذا الكلام في كون الإجماع والقياس لا ينسخان ولأئمة الأصول نزاع في نسخ الحكم بهما إليه أشار قوله ... كما هما لا ينسخان حكما ... قال بذا من يرتضيه علما ...
أي كما لا ينسخان في أنفسهما بشيء من الأدلة كما عرفته آنفا كذا لا ينسخان حكما شرعيا وهذا هو رأي الجمهور كما أشار إليه قوله قال بهذا من نرتضيه علما وهو منصوب على التمييز فهنا مقامان
الأول أنه لا ينسخ بالإجماع ودليله يؤخذ مما سلف في كونه لا ينسخ قالوا وإذا وجد إجماع قد نسخ حكما فالناسخ سنده والتحقيق ما عرفته من أنه لا إجماع في عصره صلى الله عليه و سلم فلا يكون حجة وبعد وفاته صلى الله عليه و سلم لا تنسخ الأحكام الثابتة
المقام الثاني النسخ بالقياس فيه أقوال الجمهور على أنه لا ينسخ به وتقدم دليلهم وتقدم أيضا أنه يصح نسخه لقياس مثله لا لغيره من الأحكام
الثابتة بغير القياس قال البرماوي إن أرجح المذاهب هذا وهو نسخ القياس للقياس لا بغيره ونقل عن الشافعي وعن جماعة من أئمة الشافعية وقد مثل في المطولات بمسائل فرضيات تشغل الأوراق ولم يأت بها تكليف بالاتفاق
وقوله ... والنسخ بالآحاد للتواتر ... يمنع والعلم به للناظر ...
هذه مسألة عدم جواز نسخ المتواتر بالآحاد سواء كان المتواتر قرآنا أو سنة فإنه لا يجوز نسخه بالآحاد وهذا هو قول الجمهور وهو مفاد النظم تصريحا استدلوا على ذلك بأن الظني وهو الآحادي لا يقاوم القطعي فلا يجوز رفعه وإبطاله به وخالف آخرون وأجابوا عما ذكر بأنه قد صح تخصيص المتواتر بالآحاد والكل بيان غاية الفرق بينهما أنه بيان في الأعيان والنسخ بيان في الأزمان وهذا الفرق لا يقتضي العمل به في أحدهما دون الآخر
وأجيب من طرف الأولين بأن التخصيص جمع بين الدليلين والنسخ رفع وإبطال وليس جمعا بين الدليلين فاكتفى بالأول بالآحاد دون الآخر فلا بد فيه من المساواة في قوة الدلالة وأجيب بأن دليل المنسوخ وإن كان قطعي الدلالة فإنه ليس قطعيا في الدوام ظني الدكالة فيه تجوز الدوام بالظني ولو كان دوامه قطعيا لما جاز نسخه بالقطعي إذا عرفت هذا فورود الناسخ بيان لانتهاء مدة الحكم الشرعي وإن سمي رفعا فليس هناك رفع حقيقي كما سبقت إليه إشارة وحينئذ فلا يتم الفرق الذي ذكرتم والحاصل أن العام مراد به البعض من أفراده دون الكل منها وورد الخاص قرينة تلك الإرادة وكذا المنسوخ من باب المطلق الذي أريد به المقيد والنسخ قرينة التقييد لأن قوله افعل يصلح للمرة ولأكثر من ذلك إلى أخر الأبد والناسخ قيده ببعض الأوقات وأيضا فالعمل بالناسخ جمع بين الدليلين للعمل بأحدهما في الزمن الأول وبالثاني في الزمن الآخر وبهذا يعرف قوة قول غير الأكثرين وهو جواز نسخ المتواتر بالآحاد كجواز تخصيص العام بها
وأما قوله والعلم به للناظر فإنه إشارة إلى الأطراف التي بها يعرف الناسخ من المنسوخ فالعلم مبتدأ والضمير في به للناسخ والخبر محذوف أي ثابت بما فصله قوله ... إما بنص من نبي الرحمة ... أو من ذوي الإجماع خير أمة ...
وهذه هي مسألة بماذا يعرف الناسخ من المنسوخ فهو يعرف بوجوه إما بنص عن النبي صلى الله عليه و سلم كأن يقول هذا الحكم منسوخ أو في معناه كقوله تعالى الآن خفف الله عنكم الآية ومثل قوله صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور الحديث كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي الحديث وإما بنص عن أهل الإجماع أو ما في معناه سواء كان إجماع الأمة أو إجماع العترة وإنما القصر على الأمة مثال وقد مثل في المطولات بأمثلة فرضية فهذا شيئان مما يعرف به الناسخ ... أو كان عن أمارة قوية ... كقول راو صادق الرويه ... هذا الأخير أو أتت قرينة ... قوية تقضي بما يرونه ... مثل غزاة فبهذا يعمل ... في غير قطعي على ما أصلوا ...
هذا ثالث الأمارات وهو معرفته بأمارة قوية وقد مثلها بقول الراوي هذا آخر الآمرين كما في حديث جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان ومنه حديث علي رضي الله عنه عند مسلم وأبي داود
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بالقيام للجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمر بالجلوس
ورابعها قوله أو أتت قرينة قوية ومثله بقوله مثل غزاة وذلك كأن يقول الراوي هذه الآية نزلت في غزوة حنين مثلا وهذا الحكم نزل في غزوة خيبر وهذا في فتح مكة ونحو ذلك فيعلم المتأخر
ولما اختلف العلماء في أخبار الصحابي بما يشعر بالتأخر هل ينسخ به المعلوم والمظنون أو المظنون لا غير أشار الناظم إليه بقوله في غير قطعي على ما أصلوا أي أنه لا يعمل به إلا في الظني دون القطعي هذا فيما إذا كان الدليلان قطعيين وإن ما أخبر الصحابي بأن أحدهما كان في غزاة كذا وهذا هو قول جماعة من أئمة الأصول قالوا لأن خبره أفاد ظن التأخر والنسخ مترتب على شرطية ذلك فإذا عملنا بقوله لزم رفع المقطوع بالمظنون وهو لا يجوز وقيل بل يجوز رفع القطعي يقول الراوي هذا في غزاة كذا قالوا لأن الفرض أنه قد تعارض قطعيان الناسخ والمنسوخ فلا بد أن يكون أحدهما ناسخ للآخر لما تقرر من أنه لا يجوز تعارض القواطع فقد علم بهذا التقرير
وتكون لديه ملكة لاستخراج الأحكام عن أدلتها كما يأتي في وقوله ظنا لإخراج أخذ الحكم القطعي من الأدلة القطعية فليس ذلك باجتهاد في الاصطلاح
وقوله لحكم الشرع عن دليله لإخراج الحكم العقلي
وبين المراد بالفقيه في الرسم وأن المراد به المجتهد إذا قد طرأ عليه
عرف أخرجه عن معناه بقوله ... وهو الذي يمكن أن يستخرجا ... أحكام شرع ربه مستنتجا ... لها من الادلة المفصلة ... وعنده معرفة مكملة ...
أي أن الفقيه المراد به من يمكنه استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية وقد عرفت من رسم أصول الفقه التفرقة بين الأدلة المجملة والمفصلة
وقوله الذي يمكن يراد به من عنده ملكة وقدرة يستخرج بها الحكم من الدليل وإن لم يحصل منه ذلك فليس الاجتهاد هو استخراج الأحكام الشرعية بالفعل فلا يرد الإشكال المعروف أنه لا يحيط الفقيه بالأحكام الشرعية ولذا ثبت لا أدري عن أئمة مجتهدين لأن المراد في الحال ولو بحثت لاستخرجت الحكم المسؤول عنه وتقدم هذا
وقوله أحكام شرع ربه لإخراج الأحكام العقلية والحسية ولما قدم قوله ظنا لحكم الشرع استغنى عن تقييد الأحكام بالفرعية لأنها الظنية
وقوله عنده معرفة إلى آخره بيان لما هو شرط لحصول إمكان الاستخراج وأنه لا يتمكن منه إلا من له معرفة بما ذكر من قوله ... جامعة للنحو والأصول ... والذكر ثم سنة الرسول ...
فالفقيه الموصوف هو من جمع معرفة النحو والأصول والقرآن والسنة
الأول معرفة النحو بأقسامه من إعراب وتصريف لأن خطاب الشارع عربي يترتب معرفة معانيه على معرفة تراكيبه ولا ريب أن كثيرا منها لا تتم معرفة معناه إلا بمعرفة إعرابه ويكفي من ذلك معرفة مقدمة ابن الحاجب وأحد شروحها للذكي ومقدمته في التصريف أو أخصر منها ففيها ما يستغنى عنه
وأما علم البيان فهو غير ضروري في الاستخراج نعم هو مما يزيد الناظر قوة في استخراج المعاني
وأما المنطق فلا حاجة إليه بل هو مما تذهب بقراءته الأوقات ولا يرى من يعرفه ينتفع به إلا كالفاكهة يتفكه بها وإلا فلا دخل له في الاجتهاد ولكن تعمق الأصوليون بجعله في أول مؤلفاتهم البسيطة كابن الحاجب ومن تبعه فاعموا بصائر الناظرين وظنوا أنه لا يتم لهم معرفة أصول الفقه إلا بتلك الأساطير الباطلة والأقوال التي هي عن حلية الكتاب والسنة عاطلة بل هي لهما مخالفة ومشايلة وفيها عقارب للساعة لقواعد الإسلام وقاتلة لأشرف الأحكام وأول من سن لهم هذه السنة الغزالي فإنه أول من أودعه كتابه في أصول الفقه وقال لا يوثق بعلم من لم يتمنطق وليس كما قال لكنه توسع فيه فظن أنه يفتح به عن مغلق العلوم الأقفال وقد رد كلامه العلماء من المحققين والفحول من أساطين أئمة الدين
والثاني أصول الفقه وهو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استخراج الظن بالأحكام الشرعية أو العلم بها ولا ريب أن التبحر فيه ومعرفة قواعده وخوافيه بها يتمكن من الاجتهاد وهي عمدته عند النقاد
والثالث معرفة كتاب الله تعالى قالوا والمراد معرفة آيات الأحكام وحصروا ذلك في خمسمائة آية قلت ولا دليل على حصرها وكل القرآن وآياته دالة على الأحكام فالأولى أن يقال المراد من معرفة الكتاب إمكان استحضار ما يدل على ما يراد من جزيئات الاستخراج فيرجع إليه عند ذلك وليس بمحصور في معين من الأعداد
الرابع معرفة السنة النبوية وهي بحر لا تنزفه الدلاء ولا تحيط به العلماء ولذا روي عن الشافعي أنه قال علمان تتعذر الإحاطة بهما علم السنة وعلم اللغة وأقرب ما يقال تكفي الأمهات الست المعروفة وقد جمع متونها ابن الأثير في جامع الأصول فإنه لا يكاد حكم من الأحكام تخلو عن دليله وقد اعتنى العلماء بها أي بهذه الكتب الستة وتكلموا على رواتها وعلى
معانيها ولغتها فهي مرجع للمجتهد وأما من قال إنه يكفي سنن أبي داود ونحوه فقصور وتقصير وتساهل كثير وقال بعض الأئمة يكفي المجتهد من علم السنة تلخيص الحبير لابن حجر قلت من يريد الاجتهاد فيما ينوبه ويتعلق بتكاليفه فنعم يكفيه ذلك ومن يريد الفتوى والتصدي للتدريس وغيره فلا يكفيه ثم هذ مبني على أن قبول تصحيح الأئمة وتضعيفهم للرواة اجتهاد لأنه من باب قول أخبار الآحاد وقد ألفنا رسالة في هذا وهي المسماة إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد فيها تحقيق بالغ وبيان لسهولة الاجتهاد قوله ... وما عليه العلماء أجمعوا ... هذا ونختار ولسنا نقطع ...
عطف على قوله للنحو إلى آخره أي وجامعة لمعرفة مسائل الإجماع حتى لا تخفاه مواقعه حتى يحصل له الظن أن الذي قاله غير مخالف لما أجمع عليه العلماء وصرح به في الفصول وهذا هو أهون الشروط إذ قد قدمنا لك أنه لا يتحقق الإجماع إلا في الضروريات وقد ألف فيها جماعة من الأئمة كابن حزم وابن هبيرة والريمي
واعلم أنه قد دخل شرط معرفة الرواة جرحا وتعديلا في معرفة السنة وقال في الحاوي رابعها العلم بأحوال الرواة ونقلة الأحاديث ومن يكون منهم مقبولا ومن يكن غير مقوبلا فلا بد من العلم بذلك ليكون متمكنا من ترجيح الأخبار بعضها على بعض ويعرف طرق الإسناد وهذا أمر مهم لأن الوسائط قد كثرت وخاصة في هذه الأزمنة فلا بد من معرفة صحيحها وفاسدها وقويها وضعيفها ومقدار ما يعرف من ذلك أن يعرف كون الراوي عدلا ضابطا ولا يلزم أن يكون محيطا بسيرهم وأحوالهم وأخبارهم وأنسابهم بل يكفي ما ذكرنا قال نعم لا يمتنع في زمننا لكثرة الوسائط وتطاول الأزمنة أن يكون العلم بأحوال الرواة متعذرا وإذا كان الأمر كما قلنا دار التعويل في ذلك على نقله الحديث والاكتفاء بتعديلهم كالبخاري ومسلم
والترمذي وغيرهم من شيوخ الحديث فإن الظن يغلب بصدق ما نقلوه فلهذا جاز التعويل عليه انتهى
وقد قدمنا لك أنا قد أوضحنا ذلك في رسالتنا إرشاد النقاد قبل معرفة كلام الحاوي بأعوام وأما المهدي فقال في مقدمة الحبر بأنه لا يشترط في معرفة الرواة جرحا وتعديلا ومثله في الفصول قال لأن قبول المراسيل قد استلزم سقوط ذلك قلت لا يخفى ضعف هذا القول بل بطلانه ثم اعلم أنه ليس كل من حوى ما ذكر من شرائط الاجتهاد يتأتى منه استنباط الأحكام بل ذلك موهبة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده وإلا فكم من عالم بالنحو يدرس في فنونه لايقيم لسانه ولا يمكنه تطبيق مسألة على القواعد وبينا ذلك في الرسالة المذكورة نعم قوله ونختار ولسنا نقطع هو متعلق بقوله ... بأنه يجوز عند العقل ... بالاجتهاد حكم خير الرسل ... لا بالوقوع فالخلاف فيه ... والحق لا يخفى على النبيه ...
الإشارة إلى مسألة اجتهاده صلى الله عليه و سلم هل يجوز عقلا أم لا وهل وقع حكمه به أم لا فهما مسألتان
أم جوازه عقلا لا على جهة القطع كما قال ولسنا نقطع فقال الجمهور إنه يجوز عقلا أن يؤذن له صلى الله عليه و سلم أن يأخذ الحكم من الأمارات الشرعية ويكون مخبرا عن الله تعالى بالنظر إلى اعتقاده ولا مانع عنه
والمسألة الثانية أنه لا خلاف في وقوع الاجتهادات منه في الحرب والآراء إنما الخلاف في وقوع الاجتهاد منه في الأحكام الشرعية
فقال الجمهور إنه واقع منه ذلك واستدلوا على الوقوع بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم وبقوله صلى الله عليه و سلم
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وغير ذلك مما دل أنه ليس عن وحي
وأجيب بأن الآية الأولى من غير محل النزاع فإنه فيما يتعلق بالحروب والآراء وكأمره بترك تأبير النخل وأما الحديث فقال تطييبا لقلوب أصحابه لما تكلموا عن الفسخ حين أمرهم به وكان مخيرا بين سوق الهدي وحجه قارنا وعدم سوقه ويفسخ فساقه فلزمه القران فما كرهوا أن يخالف نسكهم نسكه أخبرهم بأنه لو عرف أنهم يكرهون خلاف ما هو عليه لما ساق الهدي وأنه كان مخيرا بين سوقه وعدمه
وذهب قوم إلى أنه لا يقع منه اجتهاد ومستدلين بقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هوى إلا وحي يوحي وبقوله إن أتبع إلا ما يوحى إلي وغير ذلك فدل على أن جميع أحكامه عن الوحي وفي السنة أدلة كثيرة دالة على هذا وقد كان يسأل صلى الله عليه و سلم فلا يجيب حتى يأتيه الوحي كما في قصة الأعرابي الذي سأله ما يصنع في عمرته وغير ذلك مما هو كثير جدا وينشرح له الصدر ويعلم به قوة خلاف ما ذهب إليه الجمهور ولذا قلنا والحق لا يخفى على النبيه على أن ثمرة الخلاف قليلة جدا لأنه صلى الله عليه و سلم واجب علينا اتباعه والانقياد لما حكم به قالوا سواء كان عن اجتهاد أو وحي فلا يتم الإيمان إلا بذلك كما هو نص قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وقال تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله وغير ذلك
ولما تعرض لمسألة اجتهاده صلى الله عليه و سلم تعرضنا لمسألة اجتهاد أصحابه في عصره بقولنا ... والاجتهاد واقع في حضرته ... وغيرها من فائز بصحبته ...
البيت قد أفاد أنه قد وقع الاجتهاد من أصحابه في الأحكام الشرعية من الحاضر في بلدته صلى الله عليه و سلم بغير إذنه ومن الغائب ومن الوالي
وغيره وهذا هو قول الجمهور من العلماء مستدلين بأنه لو لم يجز كما قيل لم يقع لكنه وقع فكان جائزا وهذا دليل على الجواز والوقوع
أما في حضرته بغير إذنه فاتفاقيات قضايا عمر وهي مشهورة معروفة وأقرها صلى الله عليه و سلم بل ونزل في كثير منها آيات محققة مقررة لما قاله وهي قصص معروفة ومنه حديث أبي قتاده في يوم حنين واجتهاد أبي بكر وهي قصته معروفة ومن ذلك تحكيمه صلى الله عليه و سلم لسعد بن معاذ في بني قريظة وكان في حضرته صلى الله عليه و سلم وإذنه
وأما اجتهادهم في غير حضرته فقصة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وصلاته بأصحابه جنبا وأقره صلى الله عليه و سلم والقضايا في ذلك واسعة ومن ذلك قصة أمير المؤمنين علي عليه السلام في اجتهاده في أهل الزبية وإقراره صلى الله عليه و سلم له ومن ذلك قوله وقد بعثه في قصة الحاضر يرى ما لا يرى الغائب
وبالجملة من عرف السنة والسيرة لا يتردد في ضرورة وقوع ذلك وإن من خالف فلا دليل له ناهض ... قالوا وفي المسائل القطعيه ... الحق مع فرد من البريه ...
أي قال علماء الأصول المسائل تنقسم إلى قطعية وهي قسمان قطعية عقلية كحدوث العالم ووجود الصانع وإثبات مطلق صفاته
العلية كالحياة والعلم والقدرة فهذه لا يتوقف إثباتها على السمع والحق فيها مع واحد والمخالف فيها كافر إن اقتضى خلافه إنكار الصانع وتكذيب الرسل
وقطعية سمعية وهي إما معلومة من ضرورة الدين كأركان الإسلام الخمسة وهذه المخالف فيها كافر لأنه يلزم من ذلك تكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم لما علم من ضرورة الدين وقد نقل عن الجاحظ أنه لا إثم في القطعيات على المجتهد وحكوا ذلك على جهة التعميم يعني ولو كان كافرا ونقلوا عن العنبري أنه قال ذلك وزاد أنه مصيب ولو كان كافرا
وقال أبو العباس ابن تيمية في منهاج السنة وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطىء فيها ويقول إن السمع قد دل على ذلك ومنهم من لا يؤثمه والقول المحكي عن عبدالله بن الحسن العنبري هذا معناه أنه كان لا يؤثم المخطىء من المجتهدين من هذه الأمة لا في الأصول ولا في الفروع وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي عليه هذا القول وأما غير هؤلاء فيقول هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية لا الفرعية كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره وقالوا هذا القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين لا في مسائل علمية ولا عملية
قالوا والفروق بين مسائل الأصول والفروع كما لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع فهي كلها باطلة عقلا ولم يفرقوا بفرق صحيح بين
النوعين بل ذكروا فروقا ثلاثة أو أربعة فمنها أن المسائل الأصولية هي التي يطلب فيها الاعتقاد والعلم فقط ومسائل الفروع وهي العملية التي يطلب فيها العمل وهذا باطل فإن المسائل الفروعية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة والصوم لرمضان وكثير من المسائل العلمية لا يأثم المتنازعون فيها كالتنازع في مسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك فليس فيها تكفير ولا تفسيق ولا تأثيم
قالوا والمسائل العملية فيها علم وعمل فإذا كان الخطأ فيها مغفورا فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا ومن الفروق بينهما أن الأصولية ما عليها دليل قطعي والفروعية ما ليس كذلك وهذا ظاهر البطلان فإن كثيرا من المسائل الفرعية عليها أدلة قطعية بالإجماع كتحريم المحرمات
قال ومن الأدلة عدم التأثيم قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا قال الله تعالى قد فعلت ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني بل لا يجزم خطأ إلا إذا أخطأ قطعا قالوا فالقول بالتأتيه في المسائل القطعية مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم قالوا وأيضا فكون المسألة ظنية أو قطعية أمر إضافي بحسب النظر ليس هو وصفا للقول في نفسه فإن الإنسان قد يقطع بأشياء صارت عنده ضرورية إما بالنقل أو بغيره وغيره لا يعرف شيئا من ذلك لا ظنا ولا قطعا وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك يعرف الحق ويقطع بما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا فالقطع والظن حينئذ بحسب ما يفهمه الإنسان وبحسب قدرته على الاستدلال والناس مختلفون في هذا وهذا فعلم أن الفرق لا يطرد ولا ينعكس انتهى
وإنما نقلناه ليعلم أن الصواب عدم التأثيم في القطعيات أيضا لمجتهد من أئمة الإسلام فإن الحكم بالتأثيم يحتاج إلى دليل شرعي والفرض أن الحق مع واحد فتأثيم معينة لا من الدليل عليه على فرض التأثيم وإلا فالأدلة
قاضية بخلاف ذلك ولذا قال الناظم قالوا فنسبه إلى من قال ذلك إذا عرفت فهذا كلامهم في المسائل القطعية
وأشار إلى كلامهم في الظنية بقوله ... وقد حكوا فيما أتت ظنية ... رواية عن أكثر الزيدية ... بأن كلا منهم مصيب ... فما على مجتهد تثريب ...
هذه المسألة المشهورة بين الفقهاء بأن كل مجتهد مصيب أي في ظنيات المسائل وإليه ذهب أكثر الزيدية وغيرهم من أهل المذاهب الأربعة وفيها خلاف
واعلم أنه لا خلاف أن المجتهد غير آثم على كل من القولين كما أفاده قوله فما على مجتهد تثريب أي ملام إنما القائل بالتخطئة يقول في المجتهدين من له أجران ومنهم من له أجر ولكنه لا يعلم إلا بإعلام الله ولا سبيل إليه بعد طي بساط الوحي والمصوبة تقول كل مجتهد له أجران وأنه لا يخطىء ولا فائدة للخلاف إذ كل يجب عليه العمل بما أدى إليه اجتهاده
وتحرير محل النزاع أن معنى مصيب من إصابة السهم الغرض لا من الصواب الذي هو ضد الخطأ فما أدى إليه نظرا لمجتهد فهو حكم الله الواقع ولا حكم له تعالى في المسألة معين فهو نظير الواجب المخير فالمطلوب من المجتهد أحد الأحكام الخمسة لا على جهة التعيين فما ظنه المجتهد فهو حكم الله وما ظنه الآخر فهو حكم الله وهذا معنى قولهم إن حكم الله تابع لنظر المجتهد ولا ذهب الفريق الآخر إلى أن الحق مع واحد وغيره مخطىء خطأ معفو عنه فليس كل مجتهد مصيب ومن إصابة السهم الغرض بل مصيب من الصواب الذي هو ضد الخطأ أي مصيب ما طلب منه وإن كان خطأ بالنسبة إلى حكم الله وما في نفس الأمر
استدل الأولون بادلة عقلية ومقاولات جدلية وبأدلة سمعية نقتصر على
ذكرها قالوا قال تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله فدلت الآية على أن القطع وعدمه حكم الله وإلا لما كان بإذن الله قال المهدي وهو أقوى ما يستدل به من السمع
قلت ولا يخفى أن الآية ليست من محل النزاع في ورود ولا صدور لأنه تعالى أخبر فيها أن الذي وقع من القطع وعدمه كان بإذن الله ولا شك أنه تعالى أخر فيها أن الذي وقع من القطع وعدمه كان بإذن الله ولا شك أنه تعالى قد أذن في الاجتهاد فهو إعلام بأن هذا الاجتهاد الذي وقع من كل بنقيض اجتهاد الآخر كله بإذنه لأنه أذن لكم في الاجتهاد فأين الدلالة في هذا على أنهم أصابوا يوما في نفس الأمر بل الآية دليل أن المجتهد مأذون له في الاجتهاد وإن خايت ما في نفس الأمر بيانه أنه أخبر تعالى عن كونه أذن في الأمرين النقيضين ومعلوم أنهما ليسا هما الحق في نفس الأمر بل ليس فيه إلا حكم واحد والحق في أحدهما ضرورة أنه لا ثالث وقد أصيب ضرورة أنه قد قال كل فريق بأحدهما فدل على أن المجتهد المخطىء مأذون له وإن أخطأ
قالوا قال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما فدلت على أنه تعالى أعطى كل واحد منهما علما وحكما وما أعطاه من الحكم هو عين الصواب وهو المطلوب
وأجيب بأنا لا نسلم أن الحكم والعلم الذي آتاهما الله كان في عين ذلك الحكم المعين الذي هو محل النزاع كما يرشد إليه تخصيص سليمان بتفهيم الله إياه فإنه يدل على ما نريده وهو أن ما وقع من سليمان هو حكم الله تعالى وإلا لما كان له فائدة
قالوا قد استفاضت السنة النبوية بتصويب المجتهد وعدم التخطئة كما قدمناه في صلاة العصر في غزوة بني قريظة واختلاف اجتهادهم في ذلك وإن منهم من صلاها بعد غروب الشمس ومنهم من صلاها في وقتها وأقرهم صلى الله عليه و سلم ولو كان أحدهما مخطئا لعنفوا وبين المصيبة بالثناء عليهم والقضايا في ذلك واسعة في السنة
وأجيب بأن المخطىء عن اجتهاد لا يعاب ولا يذم والثناء على من أصاب الحكم ليس بلازم فعدمه لا يدل على ما ذكرتم بل قد قال صلى الله عليه و سلم لعمرو صليت بأصحابك وأنت جنب قال سمعت الله تعالى يقول ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فلم يقل له بشيء بعد بيان دليل اجتهاده نعم لو كان الفاعل غير مجتهد للامه صلى الله عليه و سلم ألا تراه قال في صابح الشجة لما أفتاه أصحابه بأن يغتسل فمات قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيي السؤال وغايته عدم ذم إحدى الطائفتين لا يدل على أنهما أصابا ما عند الله بل المخطئة منهم مأجورة أجرا واحدا وهي معينة عند الله تعالى
واستدل الفريق الآخر القائلون بالتخطئة بأدلة عقلية جدلية وأدلة سمعية نقتصر أيضا عليها قالوا السنة النبوية قد جاءت صريحة بالتخطئة فوجب الحكم بذلك من ذلك ما أخرجه مسلم وغيره من حديث بريدة مرفوعا إذا حاصرت قوما فلا تنزلهم على حكم الله بل أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أو لا وهذا صريح في المدعي ومن ذلك ما أخرجه الجماعة من حديث عمرو بن العاص إذا اجتهد الحاكم فأصاب
فله أجران وإن اجتهد فاخطأ فله أجر ومن ذلك حديث سعد بن معاذ وقوله صلى الله عليه و سلم لقد حكمت بحكم الله وهو حديث صحيح ومنه حديث سنن أبي داود أن رجلين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولا ماء عندهما فتيمما وصليا ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فقال صلى الله عليه و سلم للذي أعاد لك الأجر مرتين يدل على أنه الذي أصاب لحديث من اجتهد الخ ويحتمل أنه أريد بالمرتين هنا أجر الصلاتين
وقد أجيب عن الأحاديث بما ليس بدافع
قالوا حديث بريدة أحادي والمطلوب في المسألة القطع قلنا لا نسلم بل الظهور والأدلة فيه واضحة قالو وحديث إذا اجتهد الحاكم في غيرمحل النزاع إذ هو في المسائل التي يستنبط الحكم فيها من الإمارات الشرعية والخصومات ليست من ذلك إذ الحق فيها متعين في الخارج فيمكن فيها إصابته وخطأه وقد جعل الشارع أمارات وأدلة في الخصومات ليس على الحاكم إلا العمل بها على الاعتبار الذي أمر به الشارع من عدالة الشهود وغير ذلك مما هو معروف ولذا قال صلى الله عليه و سلم في هذا المقام فإنما أقطع له قطعة من نار ورد هذا بأن الحديث ظاهر في الحاكم فيما اشتمل على الخصومات لتصريحه بلفظه ولكن لا مانع من التعميم بل هو الظاهر يعني الحاكم في الخصومات أو في مسائل الاجتهاد فيصلح دليلا للمدعي وينتهض الاستدلال وقوله صلى الله عليه و سلم فإنما أقطع له قطعة من النار دليل لنا لأنه معلوم أنه لا يحكم صلى الله عليه و سلم إلا بعد اعتبار ما جعله الشارع من الأمارات والأدلة ومع هذا فأخبر أنه قد يكون باطلا في نفس الأمر وإن الأخذ له أخذ قطعة من نار
قالوا وحديث سعد بن معاذ وكونه حكم بحكم الله لا يدل على أن خلافه خطأ بل نحن نقول حكم بحكم الله وكل من حكم على القول بالتصويب فهو حكم الله ودفع بأنه سيق للتنويه بشأن حكم سعد ولو كان كل من حكم فهو حكم الله لخلا الحديث عن الفائدة وكل ما يشوشوا في وجه الأدلة السمعية لا ينهض على دفعها
قالت المخطئة ثبت عن الصحابة التخطئة وشاع وذاع من دون نكير فكان إجماعا من ذلك قول أبي بكر في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان رواه أبو داود وغيره ولو كان الحق غير معين لما أخطأه ومن ذلك ما أخرجه البيهقي عن طريق مسروق قال كنت كاتبا لعمر بن الخطاب فكتبت هذا ما أراه الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فانتهره عمر وقال اكتب هذا ما رآه عمر فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر ومن ذلك قصة المجهضة مع عمر وأنه أرسل لها عمر فضربها الطلق في الطريق خوفا من عمر فمات ولدها فاستشار عمر الصحابة فأشاروا عليه بأنه ليس عليك شيء إنما أنت مؤدب فقال عمر ما تقول يا علي فقال علي إن كانوا قالوا برأيهم فقد اخطأوا وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوك الحديث هو معروف فأثبت التخطئة في محضر الصحابة ولم ينكروا وعدوا من هذا وقائع اتفقت وفتاوى خطأ الصحابة فيها بعضهم بعضا لا حاجة إلى سردها في الأصول بعد معرفة المدعى
قلت تواردت كلمة أئمة الأصول فيما رأيناه على هذا الاستدلال
وعندي أنه ليس من محل النزاع في ورود ولا صدور وذلك أن الكلام ومحل النزاع في خطأ المجتهد لما هو عند الله وفي نفس الأمر ولا يعلم ما عنده تعالى إلا بإعلام رسوله صلى الله عليه و سلم ضرورة أنه علم غيب فالتخطئة من الصحابة لبعضهم ليست مما نحن فيه وإنما مراد القائل لغيره فيما أفتى به هذا خطأ أي في نظري أو باعتبار ما يقوى من الأمارات والأدلة لنا وربما كان ما قالوا إنه خطأ هو الحق عند الله وفي نفس الأمر فما هو مما نحن فيه وإن أريد أن في حكمهم بتخطئة البعض وتصويب الآخر دليلا على أن في الاجتهاد تصويبا وتخطئة وإلا لما نسب بعضهم إلى بعض الخطأ فلا يتم أيضا لأنه يحتمل في قضية المجهضة مثلا أن عليا رضي الله عنه خطأ البعض لكونه لم يوف الاجتهاد حقه بل هذا متعين لأنه لا يعرف ما في نفس الأمر ضرورة ولأنه أيضا قال وإن كانوا قالوا في هواك فدل على أنه متردد في كونهم قالوا في المسألة بنظر وهذا واضح والله أعلم والحق في المسألة مع القائلين بالتخطئة كما لا يعزب عن الناظر في الأدلة التي سقناها ... قالوا ولا يلزمه التكرار ... فيما مضى فيه له اختيار ... ولازم عن ناسخ الأحكام ... والخاص عند جلة الأعلام ...
هذه مسألة هل يلزم المجتهد تكرار النظر في المسألة إذا كان قد سبق له اجتهاد في حادثة وتقرر لديه حكمها وهو ذاكر لحكمه فيها وإن لم يكن مستحضرا لدليله الذي وقع به اجتهاده أم لا
قال الجمهور لا يلزمه ذكر للدليل وقال آخرون يلزمه إذ مجرد ذكره للاجتهاد من دون دليله لا يفيد لغلبة تغير الاجتهادات إذ قد يظهر له عند إعادته النظر ما لم يظهر له فيما سبق وأجيب بمنع غلبة تغيرالاجتهادات ومجرد احتمال التغير لا يوجب الإعادة وتكرار النظر وإلا لزمه تكراره مع ذكر للدليل لاحتمال التغيير ولا قائل به وخلاصته أن مناط صحة الاجتهاد هو ظن أرجحية الحكم عنده فما دام الحكم مظنونا فاحتمال خلافه مرجوح ولا يعتبر وأما إذا زال الظن باجتهاده فهو كمن لم ينظر في المسألة فيجب إعادة النظر وكذا إذا تجدد له ما يقوي الرجوع عن الحكم الأول لأنه إن عمل
بظنه الأول مع ما تجدد كان عاملا بظن مرجوح وأما مسألة البحث عن الناسخ والخاص فتقدم عنه البحث في النسخ وفي العام والخاص ... هذا ولا يجوز أن يقلدا ... مجتهدا محققا وإن غدا ... أعلم أو من صحبة المختار ... أو خصه الحكم على المختار ...
إشارة إلى الخلاف في جواز تقليد المجتهد لغيره من المجتهدين قبل أن ينظر في الدليل لا بعده فيأتي وفي ذلك للعلماء أقوال
الأول عدم الجواز وإن كان أعلم منه وهو الذي في النظم وهو رأي الجمهور وذلك لأنه قد صار مخاطبا بالنظر فيما يحصل له فظن الحكم لتأهله له وكماله فيه فكيف يعدل عنه إلى ظن غيره ويعرض عما أنعم الله به عليه من تأهله لأخذ الأحكام عن وهل هذا إلامن كفر النعمة والأعراض عن المنة وهذا باب دخله أكثر أئمة العلم فكم من إمام من ائمة المذاهب يقطع الناظر في آثارهم أنهم أعلم ممن قلدوه وأكثر اطلاعا وأوسع باعا وأعظم دراية ورواية تراه مقلدا لأحد الأربعة يستخرج لكلامه الدليل ويسعى فيما ضعف من أقواله في ترميم التأويل ويسمي نفسه أو يسميه أهل مذهبه مجتهد المذهب كأن المذهب في نفسه شارع له أدلة وأنه متعبد بمتابعته ويسمون من قلده أي مجتهد المذهب وهو الشافعي مثلا بالمجتهد المطلق وقد بسطنا هذا في سبل السلام في كتاب القضاء
ومسألة الكتاب فيها اقوال سبعة للعلماء
الثاني منها أنه إذا كان المجتهد صحابيا وله قول في المسألة جاز للمجتهد تقليده لحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وأجيب بأنه حديث ضعيف بالاتفاق وعلى تقدير صحته فإن الاقتداء غير التقليد كما حققناه في ما تقدم في بحث كون قول الشيخين حجة وأيضا لو قلنا إنه التقليد لكان في حق من يجوز له وقوله أو خصه إشارة إلى
أحد الأقوال في المسألة وهو أنه يجوز له التقليد فيما يخصه لا في ما يفتي به قالوا لأن السائل إنما يسأله عما عنده فإذا أفتاه بقول غيره كان غاشا له فهذه الأقوال التي حواه النظم وبقية الأقوال لم يقو لنا شيء منها ولم نرتض غير ما قاله الجمهور وهو ما نظمناه ودليله قوله تعالى فاتقوا الله ماستطعتم والمجتهد مستيطع لتحصيله الظن من الدليل فلا يجوز له العدول إلى غيره لأنه كالعدول إلى التيمم مع إمكان الماء وهو لا يجوز وأما أدلة المجيزين فتأتي في أدلة جواز التقليد
وأما بعد نظر المجتهد في المسألة أشار إليه قوله بقوله ... وبعد أن ينظر لا يقلد ... بالاتفاق ثم من يجتهد ...
وذلك أنه بعد النظر وحصول الظن عن الدليل قد صار مجتهدا والمجتهد يحرم عليه التقليد لما عرفته وهو اتفاق وقوله ثم من يجتهد مبتدأ خبره قوله ... يلزمه الترجيح للدلائل ... والأخذ بالراجح في المسائل ...
هذا بيان لحكم المجتهد وأنه يجب عليه أخذه بالراجح في ظنه ويأتي الترجيح وبيان كيفيته وطرقه في باب مستقل هو الباب العاشر هذا إن ظهر له الراجح فإن خفي عليه وحصل التعارض بين الأدلة في نظره ففي النظم إشارة إلى ثلاثة أقوال للعلماء وهو قوله ... فإن خفي الراجح قيل خيرا ... وقيل بل يتبع فيه الأكثرا ... علما وقيل بل بحكم العقل ...
الأول أنه مخير بينها يأخذ بأيها شاء وهو قول طائفة من العلماء ودليله أن كل واحد يصلح مستندا للحكم بحيث لو انفرد تعين العمل به فكونه عارضه ما يماثله فهو كتعدد الأمارات يعمل بأيها شاء إذ العمل بأحدها تحكم ورد بأن ثبوت التخيير حكم شرعي لا بد من الدليل عليه ومجرد التعارض لا يقتضيه شرعا ولا لغة ولا عقلا بل الدليل قائم على امتناعه
وهو أنه لو أفتى المجتهد زيدا بالحل وعمروا بالحرمة ولا مقتضي للتخير سوى التعارض لكان إفتاء بالتشهي وهو لا يجوز لما تقرر أن الأحكام مبنية على الحكمة والمصلحة على الرأيين
القول الثاني وهو قوله وقيل بل يتبع فيه الأكثر علما وهو قول بعض العلماء قالوا يطرح ما وقع فيه التعارض ويرجع إلى تقليد الأعلم كما أنه جاز له قبل النظر تقليده كما سلف فهنا بعد نظره بالأولى لأنه قبل النظر يرجو أنه إذا نظر وجد الراجح وأما بعد النظر فقد ذهب الرجاء فكان تقليده هنا بالأولى ورد بأنه تقدم أنه ليس له تقليد غيره أصلا
الثالث أنه يرجح إلى حكم العقل لعدم صحة الدليل الناقل عنه مع التعارض والمسألة في التعارض تأتي مبسوطة في باب الترجيح ... ولم يصح عند أهل النقل ... قولان قد تعارضا ... في وقت فإن أتى أول عمن يأتي ...
يريد به أنه لم يصح عند العلماء قولان لعالم تعارضا في وقت واحد فإن أتى من عالم قولان متعارضان في مسألة واحدة وكذا في مسألتين تشابهتا فلا بد من حمله على وقتين تجدد له في كل حادثة نظر إذا عرف المتأخر منهما كان العمل عليه وإن لم يعرف فإن أمكن الفرق في المسألتين المتشابهتين صح وقوع القولين وإلا أول ذلك بما يصح وقد روي عن الشافعي أنه قال في سبع عشرة مسألة قولين وحمل على ذلك على وجهين إما على أنه مبني على التخيير أو قال كل قول في وقت فيكون الثاني رجوعا عن الأول إن علم أولهما أو أراد أن فيهما للعلماء قولين أو تحتمل المسألة قولين يصح أن يقول
كل مجتهد بواحد منهما وكذلك أحمد بن حنبل ترى أتباعه يقولون له في المسألة قولان أو ثلاثة وهذا يدل على كمال معرفة العالم وعلى منصبه في الدين والعلم أما العلم فلأن من كان أغوص فكرا وأدق نظرا وأكثر إحاطة بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات لديه أكثر وأما المقتصر على الوجه الواحد طول عمره فحيث لا تردد له ولا إعادة نظر فإنه يدل على قصوره في العلم وأما الدين لأنه لما لم يظهر له وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم العلم ولم يشتغل بترويج ما قاله أولا ويداهن في الدين ... ويعرف المذهب بالنص على ... معين أو بعموم شملا ...
هذا بيان ما يعرف به مذهب العالم وهو بأحد أمرين إما بنصه على أن حكم هذه المسألة عندي كذا نحو الوتر عندي سنة ولا أراه واجبا أو يأتي بلفظ عام تدخل تحته أفراد فحكمها حكمه كأن يقول كل مكيل فإنه يجري عندي فيه الربا فيعلم شموله لكل مكيل ... أو أنه نص على المماثلة ... لتلك أو علة حكم شامله ...
أو يعرف مذهبه بنصه على أن هذه المسألة مثل المسألة الفلانية كأن يقول مثلا الشفعة تثبت عندي لجار الدكان فيعرف ثبوتها عنده لجار الدار لعدم الفارق بين المتماثلين أو ينص على علة الحكم الشاملة لغير ما نص عليه كأن يقول يحرم التفاضل والنسا في البر لاتفاق الجنس والتقدير فإنه يعرف أن رأيه في الشعير والذرة وأمثالهما تحريم التفاضل والنسا فيها
وقول الناظم أو علة حكم أي أو نص على علة الحكم ظاهره أنه لا يدخل أخذ علة الحكم من تنبيه النص أو إيمائه وقد صرح المهدي عليه
السلام بذلك قال لأنه يجوز أن المجتهد ممن يفرق بين المسألتين ولا يجوز مثل هذا في إيماء النص وتنبيهه في الكتاب والسنة لانتفاء ذلك التجويز بخلافه إذا نص على العلة فإنه يكون الإلحاق ظاهرا في كلام المجتهد ولأنه ما صار الإلحاق بهما في كلام الشارع إلا لقيام الدليل على أن مقتضى الحكمة والبلاغة في كلامه يبعد أن يخلو عن الفائدة ويصان عن اللاغية بخلاف كلام المجتهد فليس هناك ما يبعد عنه مع عدم الاعتبار لهما في عبارته فلذا قالوا يجوز الإلحاق مع نصه على العلة لا مع إيمائه وتنبيهه وهذا إذا عرف أن رأيه عدم تخصيص العلة فأما إذا عرف أنه يرى جواز تخصيصها فقد أشار إليه قوله ... وإن رأى جواز تخصيص العلل ...
أي فإنه أيضا لا يمنع من الإلحاق بما نص عليه من الحكم بعلته قال بهذا الأكثر واستدلوا بأن الأغلب على أقوال المجتهدين عدم التخصيص في العلل فيحمل كلامه على الأغلب ولا يحتاج إلى البحث هل يختص هذا النظير الذي يريد أن يلحقه بما نص عليه بل يلحقه بناء على الأغلب وكذا قالوا لا يبحث عن المخصص في عموم كلام المجتهد لقلة التخصيص فيه بخلاف كلام الشارع فيبحث عن تخصيص عموماته لكثرته فيه فوجب البحث
واعلم أن هذه الطرق الأربع التي ذكرت فيما يعرف به مذهب المجتهد تسمى ما عدا الأول بالتخاريج والوجوه على مذهبه قال الجمهور إنه يجوز سلوكها وتضاف إلىالمجتهد بشرط التصريح بأنها أخذت تخريجا من كلامه أو أخذ ذلك من عموم نصه أو من نصه على نظير المسألة وقد منع أئمة من المحققين العمل بذلك
وقد أشبع القول في بطلانها الإمام القاسم بن محمد رحمه الله في كتابة الإرشاد وزيفها قال وبلغنا عن بعض العلماء أنه كان يقول هذا الحكم الذي يعد أنه مخرج ليس بقول للذي خرج على قوله ولا قول للذي خرجه من كلام المجتهد فحينئذ نقول هذا القول لا قائل به فكيف تجري عليه
الديانات والمعاملات وهذه ورطة تورط فيها الفقهاء برمتهم وكلامه طويل في ذلك
قلت وقد بينا في حواشي ضوء النهار أنه قد تقرر أن المخرج ليس بمجتهد والأخذ بتخريجه تقليد له ولا يجوز تقليد غير المجتهد بصريح نصهم فيحرم العمل بها وقد استدل للقائلين بجواز العمل بالتخاريج لأنه قد أطبق عليه الفقهاء في كل عصر من غير نكير فكان إجماعا وأجيب بان الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه و سلم كما عرف في رسمه وهؤلاء الفقهاء ليسوا بمجتهدين بنصكم وبأنه لو سلم فهو إجماع سكوتي لا يقبل في هذه المسألة قالوا كما جاز أخذ الأحكام عن خطاب الشارع فليجز من كلام المجتهدين قلنا قد علم يقينا أن خطاب الشارع كله حق ودليل وأما كلام العالم الذي تطرقه الغفلة والنسيان والذهول عن لوازم كلامه فلا ولهذا تقرر عند المحققين أن لازم المذهب ليس بمذهب وقد بسطنا ذلك في رسالة منع التكفير بالتأويل وفي سبل السلام إليه إشارة نافعة ثم لهم شرط في المخرج على المذهب معروف ذكره المهدي في مقدمة الأزهار ... ثم عليه واجب إن انتقل ... إخباره بأنه عنه رجع ... فلا يتابعه على ما قد وقع ...
الضمير في عليه للمجتهد أي يجب عليه إذا رجع عن حكمه في مسألة وتجدد له خلاف ما قد أعلم من قلده أن يخبره برجوعه لئلا يتابعه على ما قد وقع منه أولا فيعمل غير مستند فيه إليه وسواء قد عمل به أو لا نحو أن يكون رأيه أن مسافة القصر بريد وقد سافر المقلد وقصر ثم رأى أنها ثلاثة أيام فإنه يجب إخباره له بذلك لئلا يبني على الأول أو لم يفعله كما لو لم يسافر وسواء كانت له ثمرة مستدامة كالصلاة أولا لا كالحج فإنه يجب عليه إعلامه وإن كان قد حج فإنه قد يحج في عام آخر وقد رجع عن رأيه الأول
نعم والمسألة متفرعة على مسألة أخرى وهي هل الاجتهاد الأول بمنزلة الحكم أولا فمن قال بالأول لم يكن للإعلام ثمرة ومن قال بالثاني قال
===================ج3333333333333==========
ج333.
كتاب : أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
بوجوبه وهذا الثاني هو رأي الجمهور وتظهر فائدة الخلاف فيمن تزوج من دون ولي ورأيه صحة النكاح بدونه ثم تغير اجتهاده إلى وجوب الولي فإنه يجب عليه تجديد العقد على الثاني دون الأول بت واستدل من قال بأنه بمنزلة حكم الحاكم وهم الأولون بالدليل الذي استدل به من قال لا ينقض حكم الحاكم وهو أنه لو نقض ضاعت فائدة نصب الحكام وهي قطع الخصومات وأدى إلى التسلسل ولا يخفى أنه قياس غير صحيح وأنه دليل غير ناهض ولذا أطلق الناظم ... واختلفوا هل يتجزأ أم لا ... والرسم للتقليد فيما يملى ...
هذه مسألة تجزي الاجتهاد وهل يصح أو لا بمعنى أنه يكون الإنسان مجتهدا في فن دون الآخر وفي مسألة دون الأخرى بحيث يتمكن من استنباط أحكام ذلك الفن أو تلك المسألة على الحل الذي يتمكن منه المجتهد المطلق قال بهذا جمهور العلماء وقال ابن دقيق العيد هو المختار واستدلوا بأن المقصود حصول ما يتعلق بالمسألة بحسب ظن المجتهد وكونه لا يعلم إمارات غيرها من المسائل لا دخل له في تعلق تحقيق الاجتهاد الخاص بل هو والمجتهد المطلق فيما يتعلق بتلك المسألة سواء والقائل بأنه لا يتجزأ استدل بدليل غير ناهض على مدعاه فإنه علل مدعاه بأنه يجوز أن تتعلق المسألة بما لا يعلمه قال المهدي قلنا هذا خلاف الفرض إذ الفرض أنه كالمجتهد المطلق فيها
ولما فرغ من مباحث الاجتهاد أخذ في مباحث التقليد فقوله والرسم للتقليد مبتدأ خبره قوله ... هو اتباع الغير لا بحجة ... وزاد في الأصل ودون شبهة ...
الاتباع مصدر مضاف إلى مفعوله حذف فاعله وهو اتباع المقلد الغير وأريد به المجتهد وقوله لا بحجة متعلق بالاتباع فقوله اتباع شمل قوله وفعله فيدخل فيه اتباع النبي صلى الله عليه و سلم والعمل بالإجماع وقبول الرواية والشهادة
وقوله لا بحجة يخرج جميع ما ذكر فإنه اتباع بحجة قامت على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم وهي المعجزات فكذلك قامت الأدلة على العمل بالإجماع وقبول الرواية بشروطها وقبول الشهادة
وقوله وزاد في الأصل ودون شبهة هذه الزيادة لم نجدها في كلام أهل الأصول بل زادها في أصل النظم ولا فائدة فيها مهمة وقد تكلف لإفادتها معنى بما فيه خفاء وعنه غنى لأنه جعله لإخراج اتباع المخالفين للحق فسمى دليلهم شبهة ورسمه ابن الإمام في الغاية بأنه قبول قول الغير من دون حجته وأخرج الرجوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم والإجماع والعمل بقول الشاهدين بقوله من دون حجته لقيام الحجة على ذلك
قلت إلا أنه يشكل بأنه إن أعيد ضمير حجته إلى القول دخل الرجوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وغيره مما أخرجه بذلك القيد فإنه لا يحتاج إلى حجة خاصة على القول المعين منه صلى الله عليه و سلم ولا من أهل الإجماع ولا من الشهود وإن أعيد إلى القبول خرج ما قصد دخوله في الرسم وهو راجع إلى المجتهد فإنه إنما قبل قوله بحجة هي قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر كما استدل به أهل الأصول لذلك
وقد رسمه في الفصول بقوله قبوله قول الغير بلا مطالبة بحجة وهذا الرسم ظاهر في جعله قيدا للقول ويحتمل أنه للقبول وعلى كل تقدير لا يخلص الرسم من الإشكال وتوضيحه أن يقال قيد بلا حجة إن أعيد إلى الاتباع فهو وإن خرج به اتباع الرسول ونحوه لأن اتباعه صلى الله عليه و سلم كان عن حجة المعجزات إلا أنه يرد عليه أن اتباع المقلد المجتهد كان أيضا عن حجة يأتي ذكرها هي فاسألوا أهل الذكر ونحوها فلا يكون جامعا بل خرج هذا المحدود نفسه وإن جعل قيدا لقول أي اتباع الغير في قوله بغير حجة على قوله لزم أنه غير مانع لدخول قبول الحاكم الشهادة من العدل وقبوله الرواية من الراوي وقد صرحوا بأنه غير تقليد والحاصل أنه رسم فاسد بأي عبارة مما ذكر
هذا ولما كان التقليد ليس بجائز في كل المسائل أشار الناظم إلى الجائز منه بقوله ... والحق عند أكثر الزيدية ... المنع في الأصول والعلمية ...
هذا بيان لما يمتنع فيه التقليد عند من ذكر وهو الأصول وأطلقها ليشمل النوعين
الدينية كوجود الرب وما يجب له ويمتنع من الصفات والوعد والوعيد والفقيه ككون الإجماع حجة والخبر الآحادي والقياس من الحجج وكون الأمر دالا على الوجوب وغير ذلك
وقوله والعلمية صفة موصوف محذوف أي المسائل التي يطلب فيها العلم أي الاعتقاد وهو من عطف الخاص على العام ونكتته ليرتب عليه ما يأتي من قوله وما على الأخير إلخ
هذا والمنع من التقليد فيما ذكر عزوناه إلى قائله واستدلوا بأن العلم بالله وصفاته واجب لقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله والإجماع قائم على ذلك ولو اقتضى التقليد العلم لاجتمع النقيضان وهو العلم بالجبر مثلا وعدمه والتشبيه وعدمه وكون الإجماع حجة وليس بحجة
وأجيب بأن العلم به تعالى وصفاته التي دل عليها القرآن معلوم للعباد بالضرورة عالمهم وعامتهم فإن الله فطر العباد على ذلك كما نطق به الكتاب والسنة فجميع العباد يعلمون وحدانيته تعالى ويعلمون صفاته فطرة الله التي فطر الناس عليها ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله والإقرار بأنه خالقها وخالقهم مستلزم العلم بأنه القادر الحكيم العالم الحي وغير ذلك من صفات كماله بل هم مقرون فطرة أنه الرب الرزاق والمنجي من الظلمات فهذا معلوم لكل واحد لا يجادل فيه إلا مكابر لعقله والقرآن مملوء بهذا وقد استوفيناه في إيقاظ الفكرة
ويدل له أنه خير القرون أصحاب المصطفى صلى الله عليه و سلم وهم أحرص الناس على فعل كل واجب لم يؤمروا بذلك ولا أثر عنهم ذلك ولو وقع لنقل وعلى الجملة أن العلم به تعالى وبصفاته فطري والعلم بما دونوه وسموه أصول الدين وقالوا يجب العلم بمسائله والنظر في دلائله إيجاب بلا دليل واصطلاح على مسائل أكثرها فضول لا أصول وظنية بل وهمية وأما ما يتم به الإيمان فهو في الفطرة الخلقية والجبلة البشرية وقد وسع البحث في غير هذا ... وما على الأخير منها رتبا ... يحرم لا في غيره فأوجبا ... على الذي لم يجتهد ولازم ... عليه أن يعرف من يلازم ... عن علمه يبحث والعداله ...
أي أنه يحرم التقليد في عملي يترتب على علمي الأخير في البيت الأول هي المسائل العلمية وقد مثلوها بالموالاة والمعاداة فإنهما عمليان ترتبا على علمي وهو إيمان من يواليه والكفر أو الفسق لمن يعاديه والتكفير والتفسيق لا يكون إلا بقطعي لأنهما إضرار بالغير فلا يجوز التقليد فيما تفرعا عليه وهو الذي أشار إليه المهدي في المقدمة بقوله ولا في عملي يترتب على علمي وأورد عليه أن الأحكام الفروعية كلها مترتبة على علمي وهو أصول الفقه بل كل ذلك مترتب على التوحيد وصدق الرسل فما وجه تخصيص هذه المسألة بالمنع من التقليد دون غيرها من المسائل الفروعية وسواء قلتم إن مسائل أصول الفقه كلها علمية كما هو مقتضى منعكم أن يقلد فيها أو قلتم بعضها علمي توجه الإيراد على ما يتفرع على ذلك البعض وهو إيراد لا محيص عنه وقد أطال السيد محمد المفتي وتلميذه السيد الحسن الجلال في شرحهما لتكملة الأحكام في هذا المقام الكلام فإنه ذكر المهدي المسألة فيها لكن عبر عنها بصيغة قيل كأنه قد تنبه للإيراد وقوله يحرم متعلق قوله وما على الأخير
وقوله لا في غيره فأوجبا ضمير غيره لما تقدم أي لا في غير ما تقدم من المسائل التي حرم فيها التقليد وهي الأصولية والعلمية والعملي المترتب
على علمي فهذه الثلاثة يحرم التقليد فيها لا فيما عداها فإنهم أوجبوا التقليد لغير المجتهد فيها وهي المسائل العملية قطعية كانت أو ظنية وهذا رأي الجمهور من العلماء وظاهر عبارة المهدي في كتابيه الأزهار والمنهاج ومثل عبارة الفصول أنه جائز وحكاه عن الجمهور وذهب آخرون إلى عدم جواز التقليد مطلقا واستدل القائلون بالوجوب بأنه معلوم أن العلماء في كل عصر لا يزالون يفتون العوام ويقبلون ذلك ويعملون به من دون بيان دليل ذلك وشاع وذاع من غير إنكار فكان إجماعا
قال المخالف هذا دليل الجواز فأين دليل الوجوب
قالوا قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا أمر وأصله الإيجاب وهو عام لإيجاب السؤال على كل من لا يعلم وأجيب بأن المراد اسألوهم عن أدلة ما تخاطبون بالإتيان به لا عن رأيهم وبأن الآية في السؤال عن شيء خاص وهو أنه لم يسل الله إلا رجالا يوحي إليهم كما هو صريح صدر الآية قال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر عن هذا الخاص حيث لم تعلموا البينات والزبر قالوا أيضا قد أوجبتم الاجتهاد على كل واحد في المسائل الأصولية وهي أدق وأخفى من مسائل الفروع والأصل العمل بالعلم وإن لم يكن فبالظن وليس الظن الحاصل بالاجتهاد كالظن الحاصل عن التقليد
قلنا الحق أحق بالاتباع والواجب على العامي السؤال عن المسألة المحتاج إليها ودليلها ولا يجوز له التقليد والمسألة مبسوطة في غير هذا
وعلى إيجاب التقليد أو جوازه تفرعت المسألة المشار إليها بقوله ولازم وهو مبتدأ خبره فاعله الساد مسد خبره وهو قوله أن يعرف من يلازم أي من يلازمه بتقليده إياه ويصح فتح الزاي من يلازم وكسرها وقوله ولازم أي واجب على المقلد معرفة من يلازمه ومعرفته بالبحث عن علمه وعدالته فإنه إنما يقلد من اجتمع فيه الأمران علم المجتهد والعدالة لأن المتصف بهما
يحصل الظن بأن الذي قاله مقتضى الأدلة الشرعية ولا يكون ذاك الظن حاصلا إلا مع عدالته وعلمه إذ مع جهله أو فسقه لا يحصل الظن ذلك فينتفي موجب التقليد ويأتي كيفية بحث المقلد عنهما في حصولهما فيمن قلده وهو المشار إليه بقوله ... ويكتفي عنه أخو الجهاله ... بأن يراه مفتيا بالحق ... في بلد عن آمر محق ...
أي من كان جاهلا للأمرين المشترطين في المقلد اسم مفعول فإنه يكفيه في معرفة اتصاف من يريد تقليده بهما أن يراه مفتيا بما يظنه حقا لانتصابه للفتيا من غير قدح فيه من أهل العلم والفضل فإنه يكفيه معرفا للأمرين وهذا مبني على ما وقع عليه الإجماع من أنه لا يجوز أن يفتي إلا المجتهد العدل لأنه مخبر عن أحكام الله ولا يخبر عنها إلا من يعرفها ولا تقبل الرواية عنها إلا من عدل وهذا هو الذي ذكره الأصوليون
وأما زيادة الناظم لقوله عن آمر محق ... لا يرتضى نصبا لذي التأويل ...
فهذا شرط ذكره المهدي وحكاه عنه في الفصول وهو أن يكون ذلك في بلد شوكته لإمام حق لا يرى نصب أهل التأويل وهو لإخراج تقليد مجتهد فاسق التأويل فإنه لا يقبل فتياه هذا رأي جماعة من المعتزلة واختاره المهدي ومن تبعه وقال الجمهور من أهل الأصول بقبول فتيا فاسق التأويل ودليلهم ما قدمناه في باب الأخبار من قبول روايتهم فإن إجتهاده إخبار عن ظنه الحكم الشرعي عن دليله فيقبل كما تقبل روايته
ثم ذكر الناظم أنه يلزم المقلد البحث عن الأفضل فقال ... والأفضل الأولى من المفضول ... فليتحر البحث عنه التابع ... إذا أراد أنه يتابع
أي يجتهد إذا تعدد المجتهدون واختلفوا في الأفضلية علما أو ورعا أو فيهما فالأفضل أولى وأحق بالاتباع مع جواز تقليد المفضول هذا ما يفيده النظم وهو في أصله وهو رأي أئمة الأصوليين واختاره ابن الحاجب وقيل يجب عليه تحري الأفضل وتقليده ولا يقلد المفضول مع وجود الأفضل هذا ويعرف ذلك من ثناء أهل العلم عليه واشتهاره وذلك لأن المجتهدين عند المقلد كالأمارات الشرعية عند المجتهد فكما يجب على المجتهد اتباع ما هو الأقوى كذلك يجب على المقلد اتباع الأقوى في تحصيل الظن ورد بأن الإجماع من الصحابة وغيرهم على إقرار المفتي والمستفتي على أخذ الفتيا من أي عالم من دون تطلب مفضول من أفضل ولا بحث عن ذلك ولا قول المفتي له أطلب فتواك من فلان لأنه أفضل وأجيب بأن إثبات الإجماع في حيز الامتناع
وأشار أيضا إلى بعض أحوال من يختار تقليده فقال ... والحي والأعلم أولى فيه ... من ميت أو ورع فقيه ...
اشتمل البيت على مسألتين على طريق اللف والنشر
الأولى أن تقليد الحي أولى من الميت بناء على جواز تقليده بعد موته ووجه الأولوية أنه أجمع من جوز التقليد في الفروع على جواز تقليد الحي بخلاف الميت فاختلفوا في جواز تقليده كما يأتي بيانه واتباع ما أجمع على جوازه أولى مما اختلف فيه ولأنه يمكنه مراجعته فيما يشكل ويأخذ عنه بأقوى الطرق من المشافهة ونحوها وهذا مفقود في الميت فكان تقليده للحي أولى
المسألةالثانية أن الأعلم أولى من الأورع وهذا رأي الأكثر قالوا لأن تعلق العلم بمسائل الاجتهاد أكثر ولأن الظن الحاصل بقول الأعلم أقوى والأولوية تثبت بهذا القدر
واعلم أنه اختلف في جواز تقليد الميت فقيل يحرم وادعى عليه الإجماع وقيل يجوز وادعى عليه الإجماع أيضا واستدل للجواز بالوقوع
بلا نكير فكان إجماعا بيان ذلك أن الأمة في كل قطر عاملة بمذاهب الأئمة كالهادي والناصر والفقهاء الأربعة قال الإسنوي ولأنه لو بطل قول القائل بموته لم يعتبر شيء من أقواله كروايته وشهادته ووصاياه انتهى والمنع من تقليده قد وسع الاستدلال عليه السيد محمد بن إبراهيم في كتابه القواعد وبسط ذلك بما لا تتسع له هذه الأوراق ... كذلك المشهور بين الأمة ... بالعلم والفضل من الأئمة ...
أي أن المشهور المذكور من أئمة أهل البيت أولى بالتقليد من غيره أئمة الاجتهاد من غيرهم من العباد فالتعريف من الأئمة للمعهود بين أهل المذهب من الزيدية وإنما حملناه على هذا لأنه المعروف في كتبهم ولو لم يحمل على هذا كان تكرارا لما سلف آنفا من أن الأفضل أولى من المفضول واستدلوا للأولوية بما ثبت في فضائل الأول من أدلة الكتاب والسنة كآية المباهلة والتطهير وأحاديث واسعة قد بسطت في مطولات الفن
قالوا فتقليد الواحد من تلك الجملة أولى من تقليد غيره وهذا إذا حصلت المساواة بين العالمين مثلا وكان أحدهما قرشيا أو هاشميا فإنه أولى وقد صرحت علماء الشافعية بأن تقليد الشافعي أولى من تقليد غيره لقرابته من النبي صلى الله عليه و سلم فكيف لا يكون ذلك في أئمة أهل البيت لأنهم أقرب إليه صلى الله عليه و سلم وهذه الأولوية لا تبلغ حد الوجوب ... ثم التزام مذهب يعين ... أولى وفي الإيجاب خلف بين ...
هذه مسألة التزام المقلد مذهب إمام معين فقيل إنه أولى من غيره من عدمه قالوا للبعد من تتبع الرخص وشهوات النفس وهذا للجمهور وقيل بل يجب وهو قول الأقل
قالوا فيعزم على التزام مذهب إمام معين ولا يعمل إلا بقوله في عزائمه ورخصه لأن أقوال المجتهدين عند المقلد كالأمارات الشرعية عند المجتهد إذا اختار أحدهما وجب عليه اتباعه وضعف هذا بأنه إذا عمل المجتهد بالقياس
مثل لم يقل أحد إنه لا يعمل به في جميع الأحكام بل هذا التعليل في عدم الالتزام أوضح
واعلم أن الأولوية الالتزام أو إيجابه بدعة نشأت من تفرق العباد في الدين واتباع كل لما عليه أهل قطره من التقليد المبين وكل هذا باطل ويأتي بماذا يكون ملتزما
ثم إذا التزم مذهب معين فقالوا يحرم انتقاله إلى غيره كما أفاده قوله ... والانتقال بعد الالتزام ... يحرم فيما اختير للأعلام ...
وقد اختلف العلماء في جواز انتقال الملتزم من مذهب من التزم مذهبه إلى غيره كما أفاده البيت فادعى جماعة تحريم الانتقال بعد التزام وإليه أشير بقوله فيما اختير للأعلام قال المحرم مستدلا للتحريم بقوله إن قول المجتهد عند المقلد كالدليل عند المجتهد فلا يجوز له الخروج كما لا يجوز للمجتهد
وأجيب بأنه إنما يحرم على المجتهد الانتقال لأنه متى حصل له من نظره في أمارة ظن الحكم جزم بوجوب عمله بمقتضاه لانعقاد الإجماع على أنه يجب عليه العمل بمقتضى ظنه وليس كذلك المقلد فإن ظنه لا يفضي به إلى علم إذا لم ينعقد الإجماع على وجوب اتباعه لظنه بل انعقد على خلافه ولا يخفى ظهور هذا الرد
ومن قال بحرمة الانتقال بعد الالتزام قد استثنى ما أفاده قوله ... إلا إلى ترجيح ذي الأهلية ...
أي أنه يجب الانتقال بعد الالتزام إذا تمكن الملتزم من الترجيح بين الأدلة حيث صار مجتهدا مطلقا أو في مسألة على القول بالتجزي لما عرفت من أنه يحرم على المجتهد التقليد أو إذا ظهر له فوات كمال من التزم مذهبه في علمه أو عدالته وجب الانتقال عنه أو فسق بعد عدالته فإنه ينتقل عنه فيما تعقب من أقواله بعد فسقه لا فيما قبله فقد نفذ ما عمله وصح
ولما اختلف العلماء بماذا يكون ملتزما على أقوال أشار إليها قوله ... والالتزام حاصل بالنية ...
وذلك بأن يعزم على العمل بقول إمام معين سواء عمل أو لا وهذا قول الجمهور لأنه النية مبادىء الأعمال وأساسها فإنه إذا نوى عملا صار له حكمه وهذا القول الأول
والثاني ما أفاده قوله ... وقيل مع لفظ يكون أو عمل ...
فهذا أخص من الأول لأنه ضم إلى النية أحد أمرين اللفظ والعمل قالوا لأن الالتزام إيجاب على النفس فلا بد من اللفظ كالنذر أو العمل لكونه أقوى في الدلالة من النية وضعف كونه إيجابا بل هواختيار منه
وأشير إلى بقية الأقوال بقوله ... وقيل يكفي وحده وقيل بل ... بالابتدا وقيل باعتقاده ... لقوله أو سائل عن مراده ...
الثالث أنه يكون ملتزما بعمله بقول مجتهد فلا يحتاج إلى عزم ولا تلفظ وهذا رأي ابن الحاجب
الرابع أنه يصير ملتزما بالشروع في العمل فإذا شرع فيه حرم الانتقال وهو مراده بقوله وقيل بالابتداء
الخامس ما أفيد بقوله وقيل باعتقاده لقول المجتهد اعتقاد صحته لأن اعتقاد الصحة مرجح يجب اتباعه كما يجب على المجتهد اتباع الدليل الراجح في ظنه
والسادس أفاده قوله أو سائل عن مراده وهو بالتخفيف قال القائل بهذا إنه يصير المقلد ملتزما بسؤاله للمجتهد ولا يجوز له بعد سؤاله الانتقال عنه وقوله عن مراده أي مراد نفسه أي الملتزم من أي مسألة أراد السؤال عنها دينية
واعلم أنه قد ذكر السيد محمد المفتي في شرحه للتكملة اضطراب الكلام في التفرقة بين المقلد والملتزم والمستفتي وأطال في نقل كلامهم ثم قال وقولي في ذلك وإن كنت قاصرا أن يقال الاستفتاء السؤال عن حكم الحادثة والتقليد هو العزم على العمل بقول الصالح بلا حجة خاصة ولا شبهة زائدة على مقاله ولا يكون كذلك إلا مع اعتقاد صحته عنده والالتزام منه هو التزام العزم على العمل بقوله هذا هو الذي ينبغي أن يجروا عليه من ذلك الاصطلاح انتهى ... هذا وقد حرم أن يقلدا ... مجتهدين عنده فصاعدا ... يجمع قولين لهم في حكم ... في صورة يمنعها ذو العلم ... مثل نكاح غاب عنه الشاهد ... مع الولي فهو عقد فاسد ...
هذه مبنية على القول بعدم وجوب الالتزام فإذا جاز للعامي العمل بما شاء من أقوال المجتهدين فليس له أن يجمع بين قولين مختلفين في حكم واحد لا يقول به أي بالجمع أحد من العلماء في ذلك الحكم وقد مثله الناظم بالنكاح من دون ولي تقليدا لأبي حنيفة وبدون شهود شهود تقليدا لمالك إن هذا نكاح فاسد على قول كل من قلده أما الأول فلأنه فاسد عنده إذ لا شهود وأما الثاني فإنه فاسد عنده إذ لا ولي
فائدة أما لو قلد جماعة العلماء وتتبع رخص أقوالهم فمنعه الجمهور وادعي الإجماع على ذلك وليس بصحيح فإنه قال أبو اسحاق المروزي من علماء الشافعية والعز بن عبدالسلام إنه يجوز له وهو الظاهر ممن لم يوجب الالتزام ... وجائز أن يفتي المقلد ... حكاية عما يرى المجتهد ... إذا غدا أهلا لأن يخرجا ... هذا على ماقاله أهل الحجا
الإجماع واقع على أنه لا يفتي إلا المجتهد وإنما اختلف هل يجوز لغيره في صورة خاصة وهو الافتاء بمذهب مجتهد آخر فقيل يجوز أن يفتي به وإن لم يكن أهلا للتخريج بل الشرط أن يكون عارفا بأقوال من يفتي بمذهبه مطلعا عليها فيكون كالراوي وهذا رأي المؤيد وجماعة
وقيل لا يجوز إلا إذا كان أهلا للتخريج عنه وهو المعروف في الاصطلاح بمجتهد المذهب وهذا هو الذي أفاده النظم
قالوا لأن الإفتاء بالمذهب كالحكم المستنبط من الأدلة الشرعية لا يعرفه إلا من هو أهل للتخريج هذا وأما نقل مذهب المجتهد فيما قد نص عليه فليس من الفتيا بالاستنباط بل من باب الرواية يشترط فيه ما يشترط فيها من العدالة والضبط وقيل لا يجوز مطلقا وهو قول أبي الحسين ولو قيل إن كان السائل يريد مذهب إمامه مثلا كمذهب الهادي جاز للمقلد حكاية ذلك من باب الرواية وإن كان سائلا عن الحكم في المسألة بالدليل لم يجز للمقلد إفتاؤه إلا أن يكون عارفا به على القول بتجزي الاجتهاد ... وعند أن يختلف المفتونا ... ففيه أقوال لمن يفتونا ...
أي أنه إذا سأل الفتيا سائل وسأل جماعة واختلفوا عليه في الأجوبة وهم المرادون بقوله المفتونا فإنه جمع مفت وقوله لمن يفتونا فعل مضارع صلة لمن وهو المستفتي وقوله ففيه أقوال وهي خمسة قد تضمنها قوله ... فقيل بالأول منها يعمل ... وقيل ما يراه أولى يقبل ...
هذان قولان
الأول أنه يعمل بالأول لأنه قد حصل به ظن الحكم والأصل عدم
الناقل ورد بأنه مع الاختلاف يزول ذلك الظن وتتعارض عند المقلد أقوال أهل الفتيا كالمجتهد عند تعارض الأمارات
الثاني أنه يعمل بما يراه أولى لأن العمل بأقوى الأمارات هوالمتعين على المجتهد فكذا على المقلد ورد بأن قوة أحد الرأيين لديه صادر عن وهم إذ ليس بأهل للترجيح والوهم لا اعتبار به وليس ظنه كظن المجتهد إذ ذلك صادر عن أمارات شرعية وظن المقلد صادر عن أقوال المفتين والفرق بين الأمرين واضح ... وقيل بالتخيير عند البعض ... وقيل بالأخف فيه يقضي ... في حق ربه وبالأشق ... في حق ما يلزمه للخلق ...
هذا هو القول الثالث وهو أنه يخير المستفتي بين القولين أو الأقوال فيعمل بأيها شاء ووجهة أن أقوالهم قد صارت لديه كالأمارات الشرعية المتعارضة في نظر المجتهد فيجب التخيير كما في خصال الكفارة
الرابع أنه يأخذ بالأخف في حق الله تعالى لأنه تعالى أخبر أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر وبأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج ويأخذ بالأشق في حق المخلوقين لكونه أحوط ورد بأنه تعالى يريد اليسر فيما تعلق من الأحكام بحق الله وبحق العباد ... وقيل بل فيهم بحكم الحاكم ... مخيرا في حق رب العالم ...
وهذا هو الخامس وهو أنه يعمل في حق العباد إذا كانت الفتوى فيما يتعلق بمعاملتهم بحكم الحاكم لأنه منصوب لفصل الشجار وتغليق باب الخصومات وأما إذا كانت في حق الله تعالى فإنه مخير بين أقوال المفتين وهذا إنما يتم إذا كانت حقوق العباد متعلقة بالخصومات وإلا فكثير منها لا يحتاج إلى
الشجار فلا يحتاج إلى الحاكم وحكم الحاكم من دون مرافعة كقول أهل الفتيا ... هذا ومن لم يعقل التقليدا ... مغفلا لجهله بليدا ... فكل ما يفعله صحيح ... هذا الذي يقضي به الترجيح ... معتقد الجواز ما لم يخرق ... إجماعنا لكنه فيما بقي ... يفتي برأي العلما من شيعته ... ثم بأدنى جهة من جهته ...
هذه المسألة أي مسألة الجاهل الذي لا يعقل التقليد ولا رشد له بمسائل الفروع وإنما يقبل ضروريات الدين قال العلماء من كان بهذه الصفة فإن الحكم فيما يفعله معتقدا جوازه هو الصحة كما قال فكل ما يفعله صحيح إلا أن يخرق الإجماع فإنه ينكر عليه ولو اعتقده جائزا والمراد الإجماع القطعي لا الظني فإنه بمثابة الدليل الظني هذا رأي الجمهور وقد أشير إلى رجحانه حيث قال هذا الذي يقضي به الترجيح ووجهه ما تقرر أنه لا إنكار في الظنيات على من يعتقد جواز الشيء إذ من شرط الإنكار اعتقاد الحرمة فالجاهل ينزل منزلة المجتهد في عدم التضييق عليه من حيث أن كلا منهما لا يلتزم بطريقة مخصوصة بل ما اعتقد جوازه عمل به وهذا معنى قول الفقهاء الجاهل كالمجتهد
وأما حكمه فيما عدا ذلك فقد أشار إليه النظم بقوله يفتي إلخ فينزل منزلة العامي الذي يعقل التقليد من حيث لم يعلم الجواز فيفتي بمذهب العلماء من شيعته الذي هو من جهتهم وذلك كعوام الزيدية في قطر اليمن يفتون بمذهب الهادي ثم إذا عدم أفتي برأي علماء أقرب جهة إليه كالمستفتي إذا عدم العلماء في بلاده وجب عليه الخروج إلى أقرب جهة إليه وهذا من الناظم متابعة للأصل وإلا فالظاهر أنه يفتي بمذهب أي إمام من الأئمة ولا دليل على ما ذكر من الترتيب ولنا بحمد الله أبحاث على هذه المسائل أودعناها رسالة مستقلة ولا يحتمل هنا التطويل بذكرها
ولم نجز بحمد الله الكلام على تاسع الأبواب وما قبله أخذ في ذكر عاشرها وهو آخرها فقال
الباب العاشر في الترجيح والتصحيح ... وعاشر الأبواب في الترجيح ... بين الأمارت وفي التصحيح ...
الترجيح هو مأخوذ من الرجحان وهو الفضل والزيادة في أحد الشيئين لغة وقوله في التصحيح أي تصحيح العمل بالأدلة إذ لم يتم إلا بعد معرفة الراجح عند التعارض وهذا أصل الترجيح وقوله بين الأمارات إشارة إلى ما عليه الجمهور من أنه لا يقع التعارض بين القطعيات
وأما في الاصطلاح فما أفاده قوله ... وهو اقتران بعضها بأمر ... يقوى به كما أتى في الزبر ...
الزبر المزبور أي المكتوب في هذا الباب فهو مصدر بمعنى المفعول أورده لقصد البيان والإيضاح وليس من تعريف الترجيح بل تعريفه اقتران بعض الأمارات على الحكم بشيء يقوى به على المعارض لها وجعله الاقتران من باب إطلاق اسم الشيء على مسببه إذ الاقتران سبب الترجيح ففيه مسامحة ويحتمل أنه حقيقة عرفية لأهل الفن في الترجيح المصطلح ... ثم لها التقديم بالإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
أي للأمارة الراجحة التقديم على المرجوحة فيجب العمل بما هو الأقوى للقطع بالعمل كذلك من الصحابة ومن بعدهم من العلماء إذ العمل بالمرجوح مع وجود الراجح لا يقبله عقل عاقل وفي قوله بالإجماع إشارة إلى رد ما يروى عن الباقلاني من أنه إنما يقع الترجيح بالمقطوع به كتقديم النص على القياس وأما المظنون وهو الترجيح بالأحوال والأوصاف الآتية فلا ترجيح بها ... والمورد الظن بلا نزاع ...
أي ليس محل ورود الترجيح إلا فيما يثير الظن بلا نزاع بين الجمهور فلا يقع بين ظني وقطعي لانتفاء الظن معه ولا بين قطعيين إذ يلزم اجتماع النقيضين للقطع بثبوت أحد المدلولين في نفس الأمر ... ما بين عقلي أتى ونقلي ... مثلين أو ضدين فيما يملي ...
بيان لمورد التعارض وأنه يكون بين نقلين كالكتاب والسنة والإجماع وعقليين كالقياس فإفراد قوله نقلي وعقلي باعتبار كل واحد من المتعارضين وقوله مثلين يعني يكون التعارض بين مثلين من نقليين أو عقليين أو ضدين كالعقلي والنقلي
إذا عرفت هذا فالتعارض بين النقليات على أربع أقسام
الأول بحسب السند وهو الطريق الموصل إلى الدليل سواء كان ذلك مما يرجع إلى الراوي كزيادة الحفظ والإتقان أو مما يرجع إلى الرواية كالإسناد والإرسال
الثاني بحسب المتن وهو نفس الدليل كتقديم النهي على الأمر
الثالث بحسب الحكم كالإباحة والحظر
الرابع بحسب أمر خارج كموافقة لدليل آخر أو عمل الخلفاء الأربعة
بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم
وإذا تقرر هذا فالقسم الأول يختص بالدليل من السنة
وأما ما عداه فإنه مشترك بين السنة والكتاب والإجماع وقد وقع الترتيب في النظم لهذه الأربعة كما ذكرناه
أما الأول فأنواع منها قوله ... إن كان نقليا فترجيح الخبر ... بكثرة الراوي له من البشر ...
أي أنه يرجح أحد الخبرين المتعارضين بكثرة الرواة لأنه إذا كان عدد أحد الدليلين أكثر كان أقوى ظنا إذ العدد الكثير أبعد عن الخطأ من العدد الأقل ولأن كل واحد من الدليلين يفيد ظنا فإذا انضم إلى أحدهما غيره ازداد الظن قوة وهذا رأي أكثر العلماء
ومن طريق الترجيح بحسب الراوي ما أفاده قوله ... أو كونه أدرى بما يرويه ... أو زائدا في حفظ ما يمليه ...
أي من طريق الترجيح الرواية أن يكون الراوي أدرى بما يرويه وأعرف لكونه ذا بصيرة في علم الشريعة والأحكام لأنه يقوى الظن بروايته على رواية من لم يتصف بصفته أو يكون زائدا في الحفظ بأن عرف أنه أضبط وأتقن لحفظ ما يرويه ويعرف بخبرة الأئمة لحفظه ... أو زاد في التوثيق والمباشر ... وصاحب القصة فيها الحاضر ... أولى ومن شافه من أملاه ... أو من غدا أقرب من معناه ... أو كان من أكابر الصحابة ... فالكل أولى عند ذي الإصابة ...
اشتملت الأبيات على أنواع من طرق الترجيح بحسب الراوي
الأول أنه يرجح بكثرة التوثيق وعبر عنه في جمع الجوامع بشهرة
عدالته قال في شرحه لشدة الوثوق به وقد دخل فيه زيادة الورع والذكاء والفطنة إذ هذه الصفات مما يزداد بها توثيق الراوي فيزداد بها الظن قوة ومن ذلك ما أفاده قوله وصاحب القصة وهو مبتدأ تقديره خبره أولى كما دل له الأول
ومثال الأول ما رواه أحمد وغيره عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة وهي حلال وبنى بها وهو حلال قال وكنت السفير بينهما وقد عارضه حديث الصحيحين عن ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم تزوجها وهو محرم فيقدم ويرجح حديث أبي رافع لكونه مباشر القصة لقوله وكنت السفير بينهما
ومثال الثاني حديث ميمونة عند مسلم وغيره وقالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن حلال بسرف فيقدم أيضا على رواية ابن عباس لكونها المباشرة
وقوله ومن شافه من أملاه أي وإن كان أحد الراويين مشافها برواية من روى عنه ومعارضه غير مشافه فالأولى من رواه من دون حجاب بينه وبين الراوي وذلك كرواية القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبدا فترجح على رواية الأسود عن عائشة أنه كان حرا لمشافهة القاسم بن محمد عمته وأخذه عنها من دون حجاب دون الأسود لأن الأمن من تطرق الخلل في الأول دون الثاني أكثر فالظن به أقوى
وقوله أو من غدا أقرب من معناه بالغين المعجمة المكان أي يرجح من كان أقرب مكانا من الراوي على غيره ومثاله حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه و سلم أهل بالحج مفردا كما رواه مسلم على رواية من روى أنه قرن أو تمتع لأن ابن عمر أخبر أنه كان حين لبى صلى الله عليه و سلم تحت جران ناقته والجران بالجيم فراء فألف ونون باطن العنق وهذا مجرد مثال وإلا فقد روي عن ابن عمر نفسه من طريق الشيخين ما يخالف هذه الرواية
وقوله أو كان من أكابر الصحابة أي او كان راوي أحد المتعارضين من أكابر الصحابة فإنها ترجح روايته على رواية من كان من صغارهم لقرب الأكابر من مجلسه صلى الله عليه و سلم في الأغلب وحرصهم عى معرفة الأحكام الشرعية والحق أنه لا يرجح برواية الأكابر على الأصاغر مطلقا ولا الأصاغر كذلك وإنما يرجع إلى حال الراوي فقد يكون من الأصاغر مع قربه واختصاصه برسول الله صلى الله عليه و سلم كابن عباس وعبدالله بن جعفر وأنس بن مالك وأبي هريرة فهو أولى ولذا قيل المراد بالأكابر هنا الأكابر في العلم لا في السن ... أو سابق الإسلام أو مشهورا ... في نسب الآباء لا مغمورا ...
أي وترجح رواية من كان سابق الإسلام على رواية متأخره عند التعارض ووجهه أن السابق أكثر خبرة وأعرف بمواقع الأحكام من المتأخر وبين هذا الوجه والذي قبله العموم والخصوص من وجه من حمل الأكابر على الأكابر في العام والحق أنه أيضا هنا لا يرجح متقدم الإسلام على الإطلاق بل قد تقوى رواية المتأخر لمرجح آخر من أحفظية ونحوها
وقوله أو مشهورا أي ترجح رواية من كان مشهور في نسبه على المغمور فيه لأن المشهور فيه يكون أكثر تحريا وأشد صونا لنفسه من غيره كذا قيل ... أو لم يكن ملتبسا بالضعفا ... أو سامعا من بعد أن تكلفا
بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم
أي وترجيح رواية من لم يلتبس بالضعيف على رواية من التبس به قالوا لأن الوثوق به أقوى من الوثوق بمن التبس بالضعفاء لجواز أن يكون هو الضعيف
وقوله أو سامعا من بعد أن تكلفا أي فإن روايته أرجح من رواية من سمع قبل التكليف لأن المحتمل من بعد التكليف يكون أحفظ وأضبط ممن تحمل قبله وهذا أغلبي ... أو زاد من عدله أو زادوا ... عدالة فحط بما أفادوا ...
أي ترجح رواية من كثر معدولوه على من قلوا أو كان من عدلوا أحدهما أزكى وأتقى على من عدل المعارض له وهذا مراده بقوله أو زاد من عدله أو زادوا عدالة وإن استووا عددا ... والحكم في التعديل قد تقدما ... فكن على ترتيبه مقدما ...
أشار بهذا إلى الترجيح بالتعديل بطرق التعديل المتقدمة في باب الأخبار وهي مراتب أعلاها التصريح بالتعديل نحو عدل ثقة ثم الحكم بشهادته من حاكم يعتبر العدالة ثم العمل بروايته ممن لا يقبل رواية المجهول فيرجح على هذا الترتيب ونحوه وهذا آخر طرق الترجيح بحسب الراوي وهو القسم الأول من الأربعة ويلحق به قوله ... وإن تعارض الحديث المرسل ... فما رواه ضابط لا يرسل ... عن غير عدل فله التقدم ... على سواه وهو قول أقوم
هذه مسألة تعراض المرسلين فيرجح مرسل الضابط لما يرويه الذي عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل على من لم يعرف بذلك وذلك لقوة الظن بالمرسل الأول دون الثاني وتقدم في باب الأخبار شيء من هذا فإن كان أحدهما يرسل عن المجاهيل فإنها لا تقبل روايته فضلا عن أن يعارض بها غيرها وهذا إذا تعارض مرسلان
فأما إذا تعارض مرسل ومسند فقد أفاده قوله ... ويقبل المسند مما يرسل ... وقيل بالعكس وقيل الأمثل ...
هذه إشارة إلى ثلاثة أقوال
الأول أنه إذا تعارض المسند والمرسل قدم الأول فإنه أولى من الثاني وهذا رأي الجمهور قالوا لأن تطرق الخلل في المسند أقل من المرسل
وقيل العكس وهو الثاني وهو تقديم المرسل وترجيحه على المسند وهذا رأي الحنفية وبعض الزيدية قالوا لأن الراوي لا يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وهو كالقاطع بأن الذي رواه صدر عنه صلى الله عليه و سلم وأجيب بأن المراد المسند الصحيح فإن أريد بالقطع قوة الظن فمن أسند أيضا كذلك وإن أريد القطع حقيقة فغير مسلم وأيضا فعدالة رواة المسند تعرف بالبحث عن رجاله بخلاف رجال المرسل فإنهم لا يعرفون إذا بإرساله جهلوا
الثالث قوله وقيل الأمثل ... الاستوا ورجح المشهور ... ومرسل التابع والمذكور ... في مثل ما أخرجه البخاري ... ومسلم من سنة المختار ...
فقوله الاستوا خبر الأمثل وهذا ثالث الأقوال أنه لا ترجيح لأحدهما على الأخر بل هما سواء وهذا رأي جماعة من أئمة الأصول واختاره المهدي قالوا لأن المعتبر عدالة الراوي وقد قيل كل من المسند والمرسل فلا مزية لأحدهما على الآخر إذا تعارضا
وأجيب بأن باب الترجيح ليس مناطه مجرد اعتبار العدالة المترتب عليها القبول وإلا لحكم بالاستواء في كل ما تقدم وما يأتي إذ لا بد في كل من المتعارضين أن يكون مقبولا على انفراده وإذا كان كذلك فالمسند أرجح لما عرفت
وقوله والمذكور مبتدأ خبره قوله في مثل ما أخرجه البخاري الخ أي أنه يرجح ما اشتهر بالصحة من كتب الحديث كالبخاري ومسلم على غيرهما لتلقي الأمة لهما بالقبول والمراد فيما ذكر بما أخرجه الشيخان التمثيل وإلا فغيرهما ممن عرف رجال الإسناد بالثقة والقبول مثلهما وقد حققنا هذا في مسألة ثمرات النظر وبسطناه بسطا شافيا
هذا وقد ذكرت مرجحات أخر بحسب الرواية في المطولات لم تأت والنعت بها إذ المقصود ذكر الأشهر الأكثر كما سنصرح به آخر باب الترجيح
القسم الثاني الترجيح بحسب المتن وهو أنواع منها ما أفاده قوله ... والنهي أولى من مفاد الأمر ... والأمر من إباحة ويجري ... ترجيح ما قل على ما كثرا ... فالاحتمال فاتبع ما ذكرا ...
فإذا تعارض أمر ونهي يرجح النهي لأنه قد تقرر أن النهي لدفع المفسدة والأمر لجلب المصلحة ودفع المفاسد أهم عند الشارع من جلب المصالح لما علم من أن مبنى الأحكام الشرعية على جلب المصالح ودفع المفاسد وإن جهلناها فيما نرجحه
إن قلت قد تقدم أن النهي أمر بضده والأمر نهي عن ضده فقد
اشتمل كل واحد منهما على الآخر وحينئذ فلا مزية لأحدهما على الآخر فلا يتم الترجيح المذكور
قلت أجيب بأن النهي الصريح أدل على كونه لدرء المفاسد وأقوى من الدلالة الالتزامية المستفادة للنهي من الأمر فإن المقصود أولا وبالذات في النهي دفع المفسدة كما أن المقصود أولا وبالذات في الأمر لجلب المصلحة فيندفع ما قيل من أن كلا منهما قد استلزم دفع مفسدة وجلب مصلحة وقوله والأمر من إباحة أي إذا تعارضا فإنه يرجح الأمر على الإباحة لما في ذلك من الاحتياط لاستواء المباح في الفعل والترك دون الأمر فإنه واجب الفعل فكان أرجح وهذا رأي الجمهور وقيل بل ترجح الإباحة لأنها تكون قرينة على أن الأمر ليس على ظاهره من الوجوب والإعمال خير من الإهمال واختار هذا المهدي وأن الإباحة أرجح من الأمر
وقوله ما دل على ما كثرا في الاحتمال مراده إذا تعارض ما احتماله أقل للمعاني مع ما احتماله أكثر ومثلوه بالإباحة والأمر إذا تعارضا قدمت الإباحة لوحدة معناها بخلاف الأمر فإنه متعدد المعاني كما عرفت في مباحث الأمر وهذا مجرد مثال وإلا فالقول المختار أنه حقيقة في الوجوب فلا أكثرية لمعانيه ... وفي المجاز قدم الحقيقه ... عليه واعكس هذه الطريقه ... فيه إذا عارضه المشترك ... لأنه عند المجاز يترك ...
أي إذا وقع التعارض بين الحقيقة بأحد معانيه وبين المجاز فإن الحقيقة غير المشترك تقدم عليه في كونها الأصل عند الإطلاق وقوله واعكس هذه الطريقة وهو أنه إذا تعارض اللفظ بين المجاز المشترك فإنه
يرجح المجاز على المشترك لأن المجاز في الكلام أغلب من الاشتراك وتقدم تحقيق ذلك في الباب الرابع ... وفي المجازين يرى الترجيح ... بما هوالأقرب والصريح ... في النص من غير الصريح أرجح ... والعام عند خاصه مطرح ...
هذه المسائل من الترجيح
الأولى إذا تعارض مجازان فإنه يرجح الأقرب إلى الحقيقة وذلك مثل حديث لا عمل إلا بنية فإن النفي هنا لا يصح أن يكون حقيقة فيحتمل أن يراد نفي الصحة أو نفي الكمال وهما مجازان على أي تقدير إلا أنه يرجح نفي الصحة لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة وهو نفي الذات لأن ما لا يصح كالعدم
الثانية قوله والصريح أي النص الصريح إذا عارضه نص غير صريح رجح الصريح على غيره ومثاله قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله في قتل الخطأ مع قوله صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ فالأول صريح في إيجاب ما ذكر فهو أرجح من الحديث
الثالثة قوله والعام أي إذا تعارض هو والخاص اطرح العام وقدم عليه الخاص لكونه أقوى دلالة من العام على الخاص إذ هو نص فيه وهذا على رأي الشافعي أنه يقدم الخاص مطلقا كما قدمناه ولذا أطلقناه هنا ... كذاك تخصيص العموم قدما ... على خصوص أولته العلما ...
أي كما قدم ما سبق قدم أيضا تخصيص العموم على التخصيص المؤول لكثرته ومثاله ما جعل عليكم في الدين من حرج مع قوله
في أربعين السائمة شاة فإنه يخصص عموم الحرج بالإيجاب في الشاة وهو أولى من تأويله في القيمة كما تقوله الحنفية ... ثم الذي ما خص بالعموم ... أولى من المخصوص في العلوم ...
أي أنه إذا تعارض عموم مخصوص وعموم لم يخص فإنه يرجح الأخير على الأول لأنه أقوى دلالة على إفراده مما قد دخله التخصيص إذ قد يلحقه به ضعف حتى قيل إنه لا يستدل به كما سلف وقيل بل يرجح الذي قد خص على ما لم يخص لأن الغالب على العموم التخصيص فيكون العمل به أرجح لأنه بعد تخصيصه لا يحتاج إلى تطلب مخصص له بخلاف الذي لم يخص ... والشوط إن عم هوالمقدم ... على عموم أي لفظ يعلم ...
هذا بيان لكيفية العمل إن تعارض صيغ العموم فإنه إذا وقع بينها التعارض قدم الشرط المقيد له على كل صيغة من صيغه وذلك كـ ما و من و أي الشرطيات ووجه تقديمه أنه يفيد التعليل للحكم ما كان للتعليل فهو أدل على المقصود وأدعى للقبول ولا يخفى أن هذا أي إفادته التعليل أغلبي ثم ظاهره أنه يقدم أيضا على النكرة المنفية ب لا التي لنفي الجنس وهو ظاهر الكتب الأصولية وقيل بل هي أرجح لأنها نص في الاستغراق ... و ما و من وجمعنا المعرف ... باللام من جنس بها يعرف ...
أي ما و من الموصولتان والجمع المعرف باللام فهي أرجح منه لأن الجنس المعرف باللام يقوى احتماله للعهد بخلاف الاسم الموصول
والجمع المعرف بها فاحتمال العهد فيها بعيد لقلة استعماله في العهد استعمال الجنس المعرف باللام
القسم الثالث الترجيح بحسب الحكم وهو أنواع من ذلك ما أفاده قوله ... ثم على الندب الوجوب رجحا ... والنفي للإثبات أيضا طرحا ...
أي إذا تعارض ما يقتضي الوجوب وما يقتضي الندب فإنه يرجح الوجوب لما في ذلك من الاحتياط وحمله على الندب يستلزم جواز الترك بخلاف الحمل على الوجوب وقد تقدم في ترجيح الأمر على الإباحة والنهي على الأمر ما يتعلق بالمقام فلا فرق بين ما هنا وما هناك إلا بحسب الاعتبار فإذا اعتبرت نفس صيغة الأمر والنهي مثلا كان من الترجيح بحسب المتن وإن اعتبر بحسب التحريم والوجوب كان مما نحن فيه
وقوله والنفي للإثبات الخ هذه مسألة ترجيح الإثبات على النفي إذا تعارضت فإنه يرجح الإثبات ويطرح النفي إذ يصير مرجوحا وهو مطرح عند وجود الراجح ووجهه أنه اشتمل الإثبات على زيادة علم لم تكن في النفي إذ غاية ما يفيد النفي أنه لم يعلم الراوي مدلوله ولأنه يفيد التأسيس والنفي يفيد التأكيد بالنظر إلى الأصل والتأسيس خير من التأكيد ... ودافع الحد على ما أوجبا ... لا في الطلاق عندهم فالمجتبى ... مثل العتاق فيهما الإيجاب ...
المراد إذا تعارض دليل يقضي بدفع الحد ودرئه عن من أوجب عليه وآخر يقضي بإيجاب الحد فإنه يرجح الدافع لأن الحدود تدرأ بالشبهات والتعارض شبهة يدفع بها الحد قال المهدي في المعيار هذا رأي الفقهاء
وقوله لا كالطلاق الخ أي إذا تعارض ما يقتضي الطلاق أو يقتضي العتاق وما يقتضي خلافهما فإنه يرجح المثبت لهما على النافي وهذا رأي جماعة من أئمة الأصول ووجهه أنها إذا تعارضت بينة النفي والإثبات قدمت بينه الإثبات فكذا في تعارض الخبرين وفيه خلاف بينهم مبسوط في المطولات قيل والأولى أن يفرق بين الأمرين فيرجح المثبت على النافي في العتق لما ثبت من حث الشارع عليه وترغيبه فيه والعكس في الطلاق فيرجح النافي لكونه أبغض الحلال إلى الله كما ثبت عند أبي داود
القسم الرابع الترجيح بحسب الخارج أشار إليه بقوله ... ثم الذي يعضده الكتاب ... أو غيره من أيما دليل ...
أي إذا تعارض دليلان أحدهما يعضده القرآن أو غيره من الأدلة عقلية أو نقلية كما أفاده التعميم في قوله أيما دليل فإنه أرجح مما لا يعضده شيء ووجهه أن الظن لكثرة الأدلة يزداد قوة مثاله حديث من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وقد عارضه النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة لكن عضد الأول ظواهر الكتاب مثل حافظوا على الصلوات وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ونحوهما مما يدل على المسارعة إلى فعل الطاعات والأمثلة كثيرة ... أو خلفاء أحمد الرسول ...
أي أو عضده عمل الخلفاء الأربعة فإنه أرجح ما لم يعضده عملهم ... أو ساكنون طيبة أو أعلم ... فإنه عندهم المقدم
أي أن الدليل إذا عضده عمل أهل المدينة فإنه أرجح لأنها مهبط الوحي وقبة الإسلام فيقوى الظن بعمل أهلها في الدليل وكذلك عمل الأعلم بأحد الدليلين فإنه يكون الأرجح من دليل لم يعمل به لكونه أعرف بمأخذ الأحكام وأخبر بمواقع الأدلة فيقوى الظن بما عمل به ... ثم الذي فسره راويه ... فإنه أدرى بما يرويه ...
أي يرجح ما فسره راويه على غيره مما لم يفسر لكونه أعرف بمعنى ما رواه وأخبر به مثل حديث البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإنه يحتمل التفرق بالأقوال أو بالأبدان ففسره فعل ابن عمر أنه كان إذا أراد إمضاء البيع يمشي قليلا ثم يرجع ... وهكذا قرينة التأخر ... من طرق الترجيح عند الأكثر ...
أي ومثل ما سلف قرينة التأخر فإنها تكون مرجحة كتأخر إسلام الراوي أو تأريخه للحديث تأريخا متأخرا وهذه المرجحات باعتبار الأغلب وإلا فقد يعرض للمجتهد خلاف ما قرر بقرائن تقوم لديه تقتضي ذلك وإلى هنا انتهى ما ذكر من المرجحات النقلية
وقد ذكر أئمة الأصول مرجحات عقلية أشار إليها قوله ... هذا وها هنا قد انتهت ... مرجحات النقل والعقل أتت ...
المراد بالعقلية ما يتعلق بالقياس وسمي عقليا لأن التعميم بالعلة وإثباتها في مفردات ما ألحق بالأصل عند النص على العلة عقلي وهذا توجيهه للتسمية في الجملة وإلا فبعد التعبد بالقياس قد صار نقليا شرعيا وإذا عرفت هذا فالترجيح بين القياسين عند تعارضهما لا يخلو عن أربعة أقسام إما أن يكون بحسب حكم الأصل أو بحسب العلة نفسها أو بحسب دليل العلة أو بحسب الفرع فهذه أربعة أنواع الأول ما أفاد قوله ... ففي القياسين دع الظنيا ... لما يكون حكمه قطعيا
أي إذا وقع التعارض في القياسين فإنه يرجح ما يكون حكم أصله قطعيا لقطعية الدليل وإن كان كل من القياسين ظنيا من حيث الإلحاق إلا أنه يقوى الظن فيما يكون حكم أصله قطعيا لقوة الطريق في القياس ... أو ما يكون في الدليل أقوى ... فإنه مقدم بالأولى ...
وذلك بأن ثبت الحكم في أحد الأصلين بطريق المنطوق وفي الثاني بالمفهوم أو يكون ثابتا في أحدهما بالنص وفي الآخر بالعموم فإنه يقدم الأقوى لقوة الظن وهذا أعم من الذي قبله لأنه قد دخل تحت قوله أو ما يكون في الدليل ... كذاك ما لا نسخ بالإجماع ... فيه على ذي الخلف والنزاع ...
أي يرجع ما لا ينسخ حكم أصله بالاتفاق على ما يكون حكم أصله مختلفا في نسخه والأمثلة في المطولات وهذا إلى هنا انتهى القسم الأول
وأما القسم الثاني وهو ما يكون الترجيح فيه بحسب علة حكم الأصل فهو أنواع من ذلك ما أفاده بقوله ... كذا الذي تكون فيه العلة ... أقوى له التقديم عند الجلة ...
أي يرجح أحد القياسين ما تكون علته أقوى على غيره وتعرف قوتها بأمور نبه النظم عليها بقوله ... بكونها موجودة في الأصل ... لقوة المسلك فيها النقلي ...
أي ما يكون طريقه العلة فيه أقوى من طريق الآخر وهوالمراد بقوله لقوة المسلك أي مسلك وجودها ومثاله أن يقال في الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمم مع قول الآخر طهارة بمائع فلا تفتقر إليها كغسل النجاسة فيرجح الأول لقوة طريق وجود العلة فيه وهو كونها طهارة حكمية
أو كونها العلة أو يصحبها ... وصف فيقوى عنده موجبها ...
أي يرجح أحد القياسين بقوة مسلك كونها العلة بأن تكون طريق العلة بأحد القياسين بالنص صريحا وفي الآخر بالإيماء والتنبيه وقوله أو يصحبها أي وتعرف قوة العلة بأن تصحبها علة أخرى في أحد القياسين فإنها أرجح مما تضمنه علة واحدة ... أو مقتضى الحظر أو الوجوب ... أو ماله تشهد بالمطلوب ... أصولنا أو كان منها يظهر ... أو الصحابي قاله أو أكثر ...
هذه أيضا من الطرق التي يعرف بها قوة العلة وهو كونها تفيد مقتضى الحظر أو الوجوب دون القياس الذي عارض ما هي فيه فيفيد الإباحة ومثاله أن يعلل تحريم التفاضل بالكيل فتدخل النورة قياسا على السنة المنصوصة فهذا القياس أرجح مما علل فيه التحريم بالطعم لأنه يقضي بإباحة التفاضل في النورة
وقوله أو ماله تشهد بالمطلوب أصولنا هي فاعل تشهد وهذا ثاني ما أشار إليه النظم مقل أن يقال في تعين الماء لإزالة النجاسة طهارة تراد للصلاة فيتعين لها الماء كطهارة الحدث فيقال عين يراد زوالها فيصح بالخل كما يصح بالحت فإن التطهير بالحت مخالف للأصول المقررة فيرجح الأول
وقوله أو كان منها يظهر أي أو كان التعليل منها أي أصولنا ما يظهر أي تعرف قوة العلة بكونها منتزعة من الأصول وهذا الوجه غير الذي قبله للفرق بين كون الشيء منتزعا من الأصول وبين كونها تشهد له بموافقتها إياه
وقوله أو الصحابي رابع ما أشار إليه أي وتعرف قوة العلة بأن تظهر من الصحابي كأن ينص بعض الصحابة عليها أو ينص عليها أكثر من
واحد سواء كان الأكثر صحابة أو غيرهم من العلماء وهو كما مضى من الترجيح بتفسير الراوي أو عمل الأكثر ... ثم الحقيقي من الأوصاف ... كذا الثبوتي بلا خلاف ...
أي يرجح القياس الذي وصفه حقيقي على المعارض له إذا كان وصفه غير حقيقي بل إقناعي ونحوه كأن يقول محرم المثلث مشروب يسكر كثيره فيحرم كالخمر مع قول الحنفي مشرب طيب ذهب خبثه بالنار فلا يحرم كسائر الأشربة فإن الوصف في الأول حقيقي بخلاف الآخر فإنه إقناعي
وقوله كذا الثبوتي أي أنه يرجح القياس الذي وصفه ثبوتي على معارضه الذي وصفه نفي
وقوله بلا خلاف أي في انه بالوصف الثبوتي لا أنه لا خلاف في ترجيح الثبوتي بل فيه خلاف مثاله أن يقال في خيار الصغيرة إذا بلغت غير عالمة بالخيار وقد زوجها في صغرها غير أبيها ولا جدها متمكنة من العلم فلا تعذر بالجهل كسائر الأحكام الشرعية فإنه يرجح على ما يقال جاهلة بالخيار فتعذر كالأمة إذا أعتقت تحت العبد لأن الوصف في الأول ثبوتي بخلاف الثاني فإن الجهل عدمي ... وهكذا الباعث أيضا أرجح ... من الأمارات على ما رجحوا ...
أي وكذا يرجح قياس كان الوصف باعثا على الحكم على معارضه من القياس الذي كان الوصف فيه أمارة مجردة مثاله أن يقال في الصغيرة الثيب صغيرة فيولى عليها في النكاح كما لو كانت بكرا فلو قيل ثيب فلا يولى عليها في النكاح كما لو كانت بالغة كان القياس الأول أرجح لكون التعليل بالصغر فيه باعثا على التولية بخلاف الثيوبة
وما أتى مطردا منعكسا ... أولى وما يطرد مما عكسا ...
أشار إلى شيئين
الأول القياس ذو الوصف المطرد المنعكس أولى من المعارض له إذ لم يكن وصفه كذلك لسلامته عن المفسدة وبعده عن الخلاف فيقوى الظن بالأولى على غيره مثاله قول الشافعي في مسح الرأس فرض في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه وقول الحنفي مسح تعبدي في الوضوء فلا يسن تثليثه كمسح الخف فإن علة الأول مطردة غير منعكسة لأن المضمضة والاستنشاق ليسا فرضا عنده ويسن تثليثها وعلة الثاني مطردة منعكسة إذ التعليل واقع بالمسح
وقوله وما يطرد مما عكسا هذا الثاني من الشيئين أي وما يطرد أولى مما يعكس أي أنه يرجح القياس الذي علته مطردة على قياس وصفه منعكس غير مطرد مثاله قول الشافعي في عدم عتق غير الأصول والفصول قرابة لا يحرم صرف الزكاة إليه فلا يعتق كابن العم فيقول الحنفي ذو رحم محرم فيعتق عليه كالأبوة فعلة الشافعي مطردة ولكنها غير منعكسة فإنه لو ملكه كافرا لم يعتق عليه مع أنها تحرم صرف الزكاة إليه وعلة الحنفي وإن كانت منعكسة فهي غير مطردة لنقضها بابن العم الرضيع
وأما القسم الثالث وهو الترجيح بحسب دليل العلة فأنواع أيضا من ذلك ما دل عليه قوله
وقدم السبر على المناسبة ... وهي ترى أقدم من وصف الشبه ...
أي أنه يقدم القياس الذي تثبت علتة بالسبر على قياس تثبت علته بالمناسبة ووجهه أن السبر دائر بين الإثبات والنفي فلا يحتمل معارضا بخلاف المناسبة فإنه لا يتعرض فيها لنفي المعارض فربما احتملت معارضتها والأمثلة معروفة في المطولات والمقصود إثبات القاعدة
وأما القسم الرابع وهو الترجيح بحسب الفرع فأنواع منها ما اشتمل عليه قوله ... ورجح الوصف الذي بالقطع ... وجوده محقق في الفرع ...
أي أنه يرجح القياس الذي يقطع بوجود علة الحكم في الفرع على ما يظن وجودها كأن يقال في جلد الكلب حيوان لا يجوز بيعه فلا يطهر جلده بالدبغ كالخنزير فإنه أرجح مما لو قيل حيوان يحتاج الإنسان إلى مزاولته فيطهر بالدبغ جلده كالثعلب فإن القياس الأول أرجح للقطع بوجود الوصف في الفرع وهو عدم جواز البيع ... وما بنص ثابت في الجملة ... أو شارك الأصل بعين العلة ...
اشتمل على مرجحين
الأول قوله وما بنص إلخ أي ما ثبت حكم الفرع بنص على سبيل
الجملة فهو أرجح مما لم يثبت أصلا بل يحاول إثبات حكم الفرع ابتداء مثاله أن يقال في تعيين حد الخمر الثابت بالنص من دون تعيين فاحشة مظنة للافتراء فيحد صاحبها ثمانين كالقذف فهو أولى مما يقول الخصم مائع فلا يحد شاربه كالماء لأن القياس الأول أثبت على جهة التفصيل لما ثبت بالنص في الجملة بخلاف الآخر فإنه أثبت في الفرع حكما ابتداء
والثاني قوله أو شارك الأصل بعين العلة إلا أنه لم يتم فهم معناه إلا بالبيت الآخر وهو قوله ... وعين حكم الأصل كان أقدما ... أو كان في عين وجنس قاسما ...
أي إذا شارك الفرع الأصل في عين العلة وعين الحكم فإنه أولى مما لم يشاركه في ذلك مثل أن يشاركه في عين الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وعين العلة أو جنس الحكم وجنس العلة ووجهه أن المشاركة في العينين عين الحكم وعين العلة يدل على كمال الاتحاد بين الأصل والفرع فيكون أولى من المشارك في الثلاثة الأخر وأمثلة كل ذلك في المطولات وأثبتها في الفواصل وقوله قاسما أي قاسم الفرع الأصل فيما ذكر
فما كان كذلك فهو أرجح من المشاركة في جنس الحكم وجنس العلة لأن المشاركة في عين واحد منهما تدل على أن التشابه بينهما أقوى ... وما غدا في عينها والجنس ... مشاركا قدم عند العكس ...
أي والفرع المشارك في عين العلة وجنس الحكم أولى من العكس يعني وهو ما يشارك في عين الحكم وجنس العلة ووجهه أن العلة هي العمدة في التعدية ومع المشاركة في عينها يقوى التشابه بينهما من العكس هذا نظم ما شمله الأصل
وللترجيح أنواع أخر وللمقامات مرجحات وقد أشار إلى ذلك بقوله ... وأوجه الترجيح لا تنحصر ... فيما له من صور قد ذكروا ... وهي على أهل الذكا لا تخفى ... إن وافقوا من الإله لطفا ...
فإنه لا علم إلا ما علمتنا وهو يقول لرسوله وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما اللهم علمنا ما جهلنا وحفظنا ما علمنا وذكرنا ما نسينا وارزقنا العمل بما علمنا واجعلنا هداة مهديين ... خاتمة تذكر في الحدود ... تميز الحد من المحدود ...
هذه خاتمة أتى بها المصنف في الحدود فقوله تميز الحد جملة حالية من الحدود لا من الخاتمة لأن الخاتمة تشتمل على بيان أقسام الحدود وتعريف كل قسم منها وعلى بيان أنواع الترجيح في الحدود السمعية كما تعرفه
والحد لغة المنع ومنه قيل للحاجب حدادا
وفي الاصطلاح ما أفاده قوله ... فالحد ما يميز المذكورا ... عن غيره كما ترى مسطورا
أي ما يميز ما قصد حده عن غيره وهو معنى قولهم الحد ما يميز الشيء عما عداه
كما ترى أي فيما يأتي من تعريف كل حد وهذا التعريف شامل لأنواع الحد الآتية
ولما انقسم الحد إلى لفظي ومعنوي بين كل واحد بقوله ... والحد لفظي ومعنوي ... فالكشف بالأجلى هو اللفظي ...
هذا لف ونشر أي الحد انقسم إلى لفظي نسبة إلى اللفظ لكونه يكون بلفظ آخر ومعنوي يكون المراد منه الكشف عن حقيقة الشيء إما بالذات أو باللازم فاللفظي هو الكشف عن اللفظ بلفظ أجلى منه نحو أن يقال الخندريس الخمر والغضنفر الأسد وهو تفصيل اللفظ الخفي بالجلي وعليه دونت كتب اللغة في غالبها ... والمعنوي عند أهل العلم ... إما حقيقي وإما رسمي ...
هذا تقسيم للمعنوي إلى حقيقي وهوالمشتمل على بيان حقيقة الشيء الذاتية وإلى رسمي وهوالمشتمل على التعريف باللازم للشيء لزوم الأثر للمؤثر أخذا من رسم الدار أثرها ثم هما أيضا ينقسمان إلى ما يفيده قوله ... والكل إما ناقص أو تام ... فهذه أربعة أقسام ...
أي كل واحد من الحقيقي والرسمي إما ناقص وإما تام فكانت أربعة أقسام وقد بين في النظم كل قسم منها على الترتيب المذكور
فالقسم الأول الحد التام وهو المفاد بقوله ... فالتام من أولها ما ركبا ... من جنس ما يذكر أعني الأقربا ... وفصله الأقرب وهو الأشرف ... لأنه يكشف ما يعرف
من أولها أي الأربعة وهو الحقيقي ما ركب من جنس المحدود وفصله القريب لا مطلق الجنس والفصل ولذا قيده بقوله أعني الأقربا ووصف الفصل به وذلك لأن المقصود بالحد الحقيقي بيان حقيقة المحدود بما يختص به ومثاله المعروف حيوان ناطق في حد الإنسان فالحيوان جنسه القريب لأنه تمام المشترك بين الإنسان وبين غيره في الجنسية فيقع جوابا عن الماهية وعن جميع ما يشاركها فصله فقد سبق تحقيق الكليات الخمس في الباب الثالث وظاهر النظم سواء قدم الجنس كما مثل او الفصل كأن يقال الإنسان ناطق حيوان وهو رأي كثير من المحققين لأن اجتماع الجنس والفصل القريبين هو المراد المبين للذات
وقوله وهو الأشرف أي الحد الحقيقي التام أشرف الأقسام الأربعة لكونه يكشف عن المحدود كشفا تاما ببيان ذاتياته
والقسم الثاني وهو الحد الناقص بينه قوله ... وناقص الحد الحقيقي غدا ... يختص بالفصل القريب لا سوى ...
أي أن الحد الناقص ما كان بالفصل القريب وحده مثل الإنسان ناطق وإنما كان ناقصا لوقوع الخلل في صورة الحد بإسقاط جنسه القريب وإلا فالمحدود ليس بناقص لأن الفصل القريب مستلزم للجنس القريب فقد أفاد ما هو المقصود بالحد وهو تصور حقيقة الشيء وتميزه عما عداه
ولما كان قد يؤتى مع الفصل القريب بالجنس البعيد ولكنه لا يخرج به الحد عن كونه ناقصا أشار إليه بقوله ... وقد يضم جنسه البعيد ... إليه لكن ما له مزيد ...
أي قد يضم الجنس البعيد إلى الفصل القريب بالحد الناقص نحو الإنسان جسم ناطق ولا يخرجه عن كونه حدا ناقصا ولذا قال ما له مزيد أي لا يكمل بهذه الزيادة
القسم الثالث والرابع الرسم التام والرسم الناقص وقد اشتمل على بيانهما قوله ... والتام من ثانيهما ما فيه ... جنس له وخاصة تليه ... أعني قريبا فإذا ما فقدا ... وإن أتى من أي جنس أبعدا ... أو عرضيات به تختص ... فالكل رسم قد عراه النقص ...
اشتملت على بقية الأربعة فالتام من ثانيهما أي ثاني القسمين وهما الحقيقي والرسمي وهو ثالث الأقسام الرسم التام وهو ما يركب من الجنس القريب والخاصة نحو الإنسان حيوان ضاحك والتقييد ب تليه بيان للغالب وإلا فلو قيل الإنسان ضاحك حيوان كان رسما تاما وحقيقة الخاصة عند المناطقة إذ هذه الأبحاث على اصطلاحهم هي الخارجة عن الماهية المقولة على ما تحت حقيقة واحدة ويسمى هذا القسم رسما تاما لمشابهتها الحد التام من حيث اشتماله على الجنس القريب وعلى ما هو مختص به وهو الخاصة
والقسم الرابع الرسم الناقص أفاده قوله فإذا ما فقد الجنس القريب فالألف للإطلاق لا يتوهم أنه ضمير تثنية فالناقص ما كان بالخاصة وحدها نحو الإنسان ضاحك أو مع الجنس البعيد نحو الإنسان جسم ضاحك أو كان بالعرضيات التي تختص كلها بحقيقة واحدة نحو الإنسان ماش على قدميه عريض الأظفار بادي البشرة مستوي القامة فإنه هذه تختص بالإنسان لا يتم تعريفه إلا بها كلها وإنما سمي ناقصا لنقصانه لفقد الجنس القريب
ولما كان الحد يشترط فيه شرائط قال ... واعلم بأن الحد في العلوم ... يصان عما قد حوى منظومي ... عن المساوي في جلاه والخفا ... وأن يكون ما به قد عرفا ... له على محدوده التوقف ... فإن هذا عندهم مزيف ...
هذا بيان لما يجب أن يحترز عن الإتيان به في الحدود فلا يصح الحد بالمساوي في الجلاء كالمتضايفين نحو الأب من له الابن لأنهما يتعقلان معا
بالضرورة وكالمتضادين نحو السواد ضد البياض لتعلقهما معا عادة والحد لا بد أن يكون معلوما يوصل إلى تصور مجهول ومع تساويهما في الجلي تضيع فائدته ولا بد من صيانته عن المساوي في الخفاء كتعريف الزرافة بحيوان يشبه جلده جلد النمر لمن لا يعرف النمر إذ لا يفيد تصور المحدود
وقوله وأن يكون ما به قد عرفا أي يصان الحد عن أن يكون بما يتوقف معرفته على معرفة المحدود للزوم الدور سواء كان بمرتبة أو أكثر كما يفيده قوله ... برتبة تكون أو مراتب ...
أي يكون التوقف بمرتبة مثل تعريف الكيفية بما يقع به المشابهة ثم يقال والمشابهة اتفاق الكيف أو يكون بمرتبتين كتعريف الاثنين بأول عدد ينقسم بمتساويين ثم تعريف المتساويين بالشيئين الغير المتفاضلين ثم تعريف الشيئين بالاثنين أو بثلاث مراتب كتعريف الاثنين بالزوج الأول وتعريف الزوج الأول بالمنقسم بالمتساويين إلى آخر ما تقدم وإنما لم يصح هذا التعريف التوقفي لما عرفت من أنها لا بد أن تكون معرفة الحد متقدمة على معرفة المحدود ولو بوجه عام وتوقف معرفة أحدهما على الآخر ينافي ذلك ... ومن غريب اللفظ للمخاطب ...
أي ولا بد من صيانته عن إيراده بلفظ غريب للمخاطب أي لأجل إفادته المخاطب نحو النار جوهر يشبه النفس ونحو ذلك مما لا يكون معروفا عند المخاطب إلا مثل المجاز المشهور فشهرته تخرجه عن الغرابة
هذا وقد أشير إلى أنه يجري الترجيح في الحدود فأبانه بقوله ... وقد جرى الترجيح في الحدود ... سمعية تفضي إلى المقصود ...
أي أنه كما يقع الترجيح بين الأدلة يقع بين الحدود وقيدها بالسمعية لأن العقلية لا بحث للأصولي عنها ومعنى أنها سمعية أنها وضعت لتصوير ما استفيد من الأدلة الشرعية كقولهم الصلاة عبادة ذات أذكار
وأركان تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ونحو ذلك مما يحده الفقهاء في أنواع العبادات والمعاملات والظاهر أنهم يريدون بأنه يجري بينها الترجيح أن ما كان أكثر جمعا ومنعا فهو أولى من القاصر عنهما ونحو ذلك
وقد بحثنا في شرحنا سبل السلام في كتاب الحدود عن المراد بحدود الله تعالى فمن مرجحات الحدود السمعية ما أفاده قوله ... بما أتى فيه بلفظ أعرفا ... أو كونه الأعرف مما عرفا ...
أي يرجح الحد الذي ألفاظه أعرف وأظهر على الحد الذي ليس كذلك ومثاله أن نقول الحنابلة حدوث صفة شرعية في الإنسان عند خروج المني أو عند سببه تمنع من القراءة والآخر الجنابة خروج المني على وجه الشهوة فالأول يقتضي أن الجنابة غير خروج المني والثاني يقتضي أنها نفس خروجه فيكون الأول أرجح لكونه أصرح ولما في الثاني من التجوز وهذا مثال وهو مناقش فيه
وقوله أو كونه الأعرف مما عرفا أي يرجح أحدهما بكونه أعرف وأظهر من الحد الآخر وذلك بأن يكون أحدهما شرعيا والآخر حسيا مثل أن يقال التيمم هو التطهر بالتراب مع قول الآخر هو مسح الوجه واليدين بالتراب فالأول حكم شرعي والثاني حسي فيكون أرجح لكونه أظهر ونحو ذلك من الأمثلة ... أو عم أو سمعا غدا موافقا ... أو لغة في نقله قد طابقا ...
أي يرجح الحد الأعم على الآخر الأخص لكثرة الفائدة فيه ومثاله الخمر مائع يقذف بالزبد فهو أرجح من قول الآخر هو العصير من ماء العنب لشموله لأنواع الخمر من التمر والشعير وغيرهما أو وافق السمع فإنه أرجح مما لا يوافقه كأن يقال الخمر ما أسكر مع قول الآخر هو العصير من العنب فإن الأول موافق الدليل السمعي وهو كل مسكر حرام أو وافق لغة كالمثال المذكور فإنه مأخوذ عن مخامرة العقل فيعم كل مسكر
أو ما يعمل أهل طيبة ... أو خلفا سيد البرية ... أو علماء أمة الرسول ... أو بعضهم فاخصصه بالقبول ...
هذا من الترجيح بالأمور الخارجية والمراد من قوله أو علماء أمة الرسول إلا كثير منهم إذ لو كان المراد الإجماع تعين عدم مخالفته
وقوله أو بعضهم أي الأقل منهم فإنه أرجح مما انفرد به واحد ... أو قرر الحظر أو النفي وما ... يدفع حدا فهو عند العلما ... مقدم إلى سوى ما ذكرا ... مما يراه الذكا معتبرا ... بذهنه وفكره السليم ... ولطف رب العزة العليم ...
أي أنه يرجح أحد الحدين بأن يكون مقررا للحظر دون الآخر أو مقررا للنفي والآخر للإثبات وأمثلتها معروفة
وقوله بذهنه وفكره السليم يتعلق بقوله معتبرا وهذه إشارة إلى كثرة طرق الترجيح في الحدود السمعية كما في الادلة السمعية وقد ذكرت في مطولات الفن ما ذكر وكثير من المرجحات لم تذكر في الكتب الأصولية وهو يعرف من تتبع الموارد الشرعية فمدار الترجيح على ما يقوى للناظر وهو يختلف باختلاف صفاء الذهن وقوة الذكاء والفكر السليم ولذا قيل إنها لا تنحصر طرق الترجيح ... فمنه عز كل لطف يسأل ... ثم عليه لا سوى المعول ...
تقدم منه وعليه يفيد الحصر وهو كذلك وهل من غيره يطلب كل مطلوب او على سواه يعول في كل أمر مرغوب ... نسأله الكافل من هباته ... بغاية تبلغنا جناته ...
لا يخفى لطف الجمع بين الكافل والغاية مع التورية ومناسبة حسن الختام ... ثم صلاة الله والسلام ... على الذي طاب به الختام
ختام كل الأنبياء والرسل ... وهو ختام كل قول أمل ... محمد وآله الأطهار ... مدى اختلاف الليل والنهار ...
اردف الدعاء بالصلاة على المصطفى وآله الأتقياء لما تقرر من مشروعية ذكره صلى الله عليه و سلم عند ذكر ربه والحث على ختم الدعاء بها والترغيب فيها على الإطلاق ولا يخفى حسن الختام في المقام ولطف قوله على الذي طاب به الختام نسأل الله أن يختم لنا برضاه ويوزعنا شكر ما أولاه ونسأله المزيد من نعماه والحمد لله أولا وآخرا
قال في المنقولة منه وهي نسخة المؤلف وجرى عليها قلمه بالتصحيح ما لفظه قال المؤلف حفظه الله وأبقاه وأدام في درج المعالي ارتقاه وافق تمام هذا المختصر بعد العصر من يوم الثلاثاء 19 شهر جمادى الأولى من سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف 1173 ووافق الفراغ من زبره بعناية مؤلفه مولانا الذي حاز قصب السبق في مضمار الكلام وغريبه وجاز طرف البلاغة في مضمار الكلام ومعرضه من بحر علمه نمير وروض أدبه نضير السيد العلامة الخطير والكامل الفهامة الشهير عز الإسلام محمد بن إسماعيل الأمير لا زالت ذاته العلية متسمة بأشراف سمات المعالي ولا برحت في الأيام مبتسمة له ابتسام الصدق عن اللآلي ولا فتئت أندية المعارف بفتيت عوارفه مغمورة وما انفكت ذيول الآداب بوجوده على طلبها مصحوبة مجرورة ولا برحت رؤوس ذو النصب بارتفاع كلمته محفوظة مقصورة آمين اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه يوم الاثنين 14 شهر جمادى الآخرة سنة 1180 هجرية انتهى
ووقع الفراغ من تحصيل هذه النسخة قبيل المغرب يوم الجمعة حادي وعشرين شهر شعبان المنتظم في سلك سنة 1326 هجرية بقلم الحقير المفتقر إلى كرم سبحانه أحمد بن أحمد بن يحيى بن أحمد الحيمي السياغي غفر الله ذنوبهم وستر عيوبهم وجميع المؤمنين والمؤمنات ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
كتاب أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على رسول الأمين وعلى آله المطهرين وبعد فهذا شرح لطيف على منظومة الكافل المسماة بغية الآمل وقد كان شرحها تلميذنا العلامة المحقق إسماعيل بن محمد بن إسحاق قدس الله روحه في الجنة شرحا نفيسا بسيطا وكان ما كتبه عرضه على شيخه الناظم فليحق به ما يراه ويضرب على ما لا يحتاج إليه من لفظه أو معناه حتى كمل شرحا بديعا سماه الفواصل شرح بغية الآمل إلا أنه طال واتسع فيه مجال المقام فطلب مني بعد وفاته بعض طلبة العلم اختصاره والإتيان بأقوى أدلة المسألة وتوضيح العبارة والاقتصار على الأدلة المختارة والأقوال المرتضاة عند المهرة النظارة فأجبت إلى ذلك مستمدا للهداية والإعانة من الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وسميته إجابة السائل شرح بغية الآمل قال الناظم ... قال فقير ربه محمد ... أعانه الله على ما يقصد ... أحمد حمدا يكون شاملا ... وبالأصول والفروع كافلا
هذا هو مقول القول والحمد هو الثناء بالجميل الاختياري وحمدا مصدر تأكيدي وبوصفه عاد نوعيا والشامل من شمله الشيء إذا عمه أي شاملا لأنواع الحمد وأنواع المحمود عليه والشامل اسم كتاب في الأصول للإمام يحيى وفي ذكر الأصول والفروع والكافل براعة الاستهلال مع التورية ... وأستزيد المنتهى من عنده ... والمجتبى من فضله لعبده ...
استزاد طلب الزيادة لما حمد مولاه طلب الزيادة من نعمائه ومنتهى الشيء غايته وفضل الله لا غاية له ولا انتهاء وهو أيضا اسم لكتاب الآمدي في الأصول ففيه تورية والمجتبى بالجيم واجتباه إذا اختاره ومن فضله يتنازع فيه المنتهى والمجتبى وهو اسم كتاب في الأصول أيضا والحديث للنسائي ففيه ما في الذي قبله من التورية ... ثم صلاة الله تغشى المصطفى ... وآله سفن النجاة الحنفا
عطف الدعاء لرسول الله صلى الله عليه و سلم على حمده لربه عطف اسميه على فعليه وتغشى من غشية الشيء شمله وعمه ومنه والليل إذا يغشى والمصطفى من اصطفاه اختاره وهو من أوصافه صلى الله عليه و سلم التي اشتهر بها حتى إذ أطلقت لا يتبادر سواه والآل على المختار هم من حرمت عليهم الزكاة كما فسرهم بذلك زيد بن أرقم كما في رواية مسلم وسفن النجاة اقتباس من حديث أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس والحنفاء جمع حنيف كشهداء في شهيد وهو المائل واشتهر في المائل إلى الدين المحمدي لقوله صلى الله عليه وآله
وسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ولم يأت بالسلام مع الصلاة هنا لأنه يأتي به في آخر النظم وهو كلام واحد ... وبعد فالكافل في الأصول ... مختصر قد خص بالقبول ...
أي بعد الحمد والصلاة حذف المضاف إليه وبنى بعد على الضم لما عرف في النحو
والكافل هو تأليف العلامة محمد بن يحيى بهران رحمه الله تعالى تلقاه الناس بالقبول وشرحه جماعة من العلماء ودرسوا فيه لما أفاده قوله ... لأنه مهذب موضح ... محرر محقق منقح
ومن هذبه نقاه وأخلصه وأصلحه كما في القاموس وموضح من وضح الأمر يضح وضوحا بان وظهر وتحرير الكتاب وغيره تقويمه والمحقق من الكلام الرصين ومنقح من نقح الشيء هذبه وكان طلب نظمه مني بعض الطلبة أيام قراءته علي ... وقد نظمت ما حوى معناه ... نظما يلذ للذي يقراه ...
قوله معناه إعلام بأن ألفاظه لم ينظمها وقد يتفق نظم بعضها ... لأن حفظ النظم في الكلام ... أسرع ما يعلق بالأفهام ...
تعليل لنظمه فإنه لا ريب أن حفظ النظم أسرع من حفظ النثر ولذا فإن العلماء لا يزالون ينظمون كتب العلم من نحو وفقه وعلوم القراءات وعلوم مصطلح أهل الحديث وغيرها حتى السير النبوية كالهمزية ... وأسأل الله به أن ينفعا ... لأنه بأصله قد نفعا ...
كما قررناه من أنه رزق القبول عند العلماء ... واستمد اللطف والهداية ... بمبتدا ذلك والنهاية ...
اللطف بضم اللام لغة الرأفة والرفق وعبر به هنا عما يقع به صلاح العبد والهداية دلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب وقيل سلوك طريق توصل إلى المطلوب نسأل الله أن يوصلنا بهدايته ورحمته إلى سواء السبيل وأن يخلص الأعمال لوجهه الكريم من كل دقيق وجليل
وأعلم أنه استحسن العلماء رحمهم الله قبل خوضهم في مقاصد ما يؤلفونه من المؤلفات في أي فن من فنون العلم تقديم مقدمة يذكر فيها ثلاثة أشياء
تعريف الفن وموضوعه وغايته قالوا لأن الشرع في الفن بوجه الخبرة وفرط الرغبة يتوقف عليها كما قاله السعد في التهذيب وقد وقع الاقتصار في المنظومة صريحا على تعريف العلم تبعا لاقتصار الأصل المنظوم ... فأول الكلام فيما ينظم ... حد أصول الفقه فهو الأقدم ...
أول مبتدأ خبره قوله حد أصول الفقه قوله فهو الأقدم تعليل لأوليته في النظم قاضية بأولويته فيه وإنما كان الحد أولى بالتقديم مما بعده لأنه بحد العلم يحصل تميزه عما عداه فيعرف الطالب حقيقة مطلوبه من أول الأمر ولأن بمعرفته يعرف موضوع العلم وغايته لأنه إذا قيل إنه علم باحث عن أحوال كذا من حيث إنه يفيد كذا علم الموضوع والغاية من ذلك بالاستلزام وسنذكرهما آخرا مفسرين وإذا عرفت أن الحد أول ما ينظم ... فالحد علم بأصول وصلة ... بها لإخراج عن الأدلة ... أحكامنا الشرعية الفرعية ... وقيدت تلك بتفصيلية ...
اعلم أنه لا بد للحد من محدود فقوله الحد التعريف فيه عهدي أي حد أصول الفقه لتقدمه ذكرا وهذا هو المحدود ومعناه فحد أصول الفقه وقد ذكر في الكتب الأصولية أن أصول الفقه لقب لهذا الفن وكلامنا الآن في حده اللقبي وهو منقول عن مركب إضافي وقد تكلم العلماء في مبسوطات الفن على تعريف كل واحد من جزئيه باعتبار الإضافة والأهم هنا معرفة معناه اللقبي إذ هو المدون له الكتاب
واعلم أن التعريف يشتمل في الغالب على جنس وفصول فقوله علم جنس الحد والعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق الثابت وهذا هو معناه الأخص
وقد يقال على ما يشمل الظن وكثيرا ما يستعمله الفقهاء في هذا الأخير وهو معناه الأعم والمراد به هنا ما يشمل المعنيين جميعا أي الاعتقاد الجازم الخ والظن فقط فإن كان لفظ العلم مشتركا بينهما فاستعمال المشترك في معنييه وإن كان مهجورا في التعاريف فالمقام هنا مشعر بالمراد فتزول به الجهالة وإن كان ليس بمشترك كما أفاده في المواقف فإنه قال إن
تسمية الظن علما وجعله مندرجا فيه كما ذهب إليه الحكماء مخالف لاستعمال اللغة والعرف والشرع فقد قيل عليه إنه لا مانع من إطلاقه عليه مجازا والتعريف بالمجاز المشهور قد أجازوه
فإن قلت فيحمل هنا العلم على معناه الأول وهو الذي يسمونه الأخص قلت يمنع عن حمله هنا عليه أنه قد تقرر أن من قواعد هذا الفن ما هو ظني وقد أوضحناه في رسالة مستقلة ويأتي التنبيه عليه في مواضع فلا تغتر بقولهم مسائل أصول الفقه قطعية وقد أشار في الفصول إلى هذا فقال بعد تعريفه لأصول الفقه بالقواعد التي يتوصل بها إلى آخر ما هنا لفظه وقيل العلم بها أو الظن فأشار بقوله أو الظن إلى أن قواعد أصول الفقه ما هو ظني وأراد بلفظ العلم في عبارته المعنى الأخص فلذا عطف عليه الظن وقد استشكل الشيخ لطف الله في شرحه عليه عطفه الظن
عليه ولا وجه لاستشكاله كما عرفت
وقوله بأصول جمع أصل وهو لغة ما يبنى عليه غيره وترادفه القاعدة وعرفوها بأنها قضية كلية تعرف أحكام جزيئات موضوعها نحو قولك هنا الأمر للوجوب مثلا فإنه يدخل تحته جزيئات تعرف منه أحكامها نحو أقم الصلاة وآت الزكاة وحج البيت وغير ذلك هذا ولما كانت الأصول ترادف القواعد وقد عرفه ابن الحاجب بقوله العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى آخره وقوله هناك وصلة بها لإخراج هو صفة لقوله بأصول أي يتوصل بها إلى إخراج الأحكام الخمسة الآتية عن أدلتها كما ستعرفه فالباء سببية واللام في لإخراج بمعنى إلى مثلها في قوله تعالى سقناه لبلد ميت كل يجري لأجل وحذف فاعل لإخراج للعلم به إذ فاعل المصدر يجوز حذفه أي إخراج الأصول أو المجتهد
وقوله عن الأدلة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فبها أي الأصول أو القواعد يخرج المجتهد الأحكام عن هذه الأدلة والأحكام المراد بها الخمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة وما يتعلق بها والتعريف فيها وفي الأدلة للعهد الخارجي لأنها معلومة بين أهل الأصول فلا يتوهم أن في التعريف جهالة
وقوله أحكامنا مفعول المصدر جمع حكم وعرفوه بأنه القضايا والنسب
التامة نحو قولنا الحج واجب فخرجت التصورات وقوله لإخراج أولى من قولهم لاستخراج ولاستنباط لما عرف أن السين للطلب غالبا والمراد هنا الإخراج نفسه لا طلبه وبهذا القيد خرج علم العربية بأقسامه وعلم الكلام فإن قوله بها أي بسببها المراد به السبب القريب فإنها أي الباء ظاهرة فيه وإضافة التوصل إلى غير أصول الفقه مما هو سبب بعيد لأنه يتوصل به لكن بالواسطة وعبر ابن الإمام في الغاية بقوله الموصلة لذاتها الخ لئلا يرد أنه قد يتوصل بغيرها من قواعد العربية والكلام لأنهما من مبادىء علم الأصول لكن التوصل بهما لإخراج الأحكام ليس لذاتها فإن علم العربية ونحوه وإن كان يتوصل به إلى إخراج الأحكام لكنه توصل بعيد إذ يتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولتها الوضعية وبواسطة ذلك يتوصل بها إلى إخراج الأحكام وأما علم الكلام فإنه يتوصل بقواعده إلى ثبوت الكتاب والسنة وصدقهما وبه يتوصل إلى ذلك
وقوله الشرعية يخرج به العلم بالأحكام العقلية كقبح الظلم وحسن العدل
وقوله الفرعية تخرج الشرعية غير الفرعية من الأحكام الشرعية الأصلية
وقوله وقيدت تلك أي الأدلة بتفصيلية بيان للواقع لا إنه لإخراج الأدلة الإجمالية ككون الكتاب حجة فإنه لا يستنبط منه حكم حتى يحتاج إلى إخراجه ولا خلل في زيادة قيد في الحد للإيضاح والبيان فإن مثله واقع في التعريفات مع أنه ينبغي أن يعلم أن هذه الحدود إنما هي من التعريفات
وليست بحدود حقيقية وسيأتي بيان الفرق بين الأمرين في آخر الكتاب حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى وفي قوله وقيدت إشارة إلى عدم الحاجة إلى التقييد وفي شرح المحلي أنه قيد بتفصيلية لإخراج اعتقاد المقلد فإنه لا يسمى علما
واعلم ان هذا التعريف لأصول الفقه مأخوذ من تعريف ابن الحاجب بمختصره المنتهى ومبني على أن أصول الفقه هو العلم بالقواعد ومن الأصوليين من جعله القواعد بنفسها وقد ذكر في الفصول التعريفين معا وقدم الثاني وحكى الأول بقيل قال الشيخ لطف الله في شرحه وكأنه اختار الأول أي في عبارته وهو القواعد لما قيل من أنه أرجح لوجوه
أحدها أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من بيانية تلك القواعد وإن لم يعرفه الشخص
وثانيها أن أهل العرف يجعلون أصول الفقه للمعلوم ويقولون هذا كتاب في أصول الفقه
وثالثها أن الأصول في اللغة الأدلة والقواعد أدلة للفقه إذ ينبني عليها فجعله اصطلاحا نفس الأدلة أقرب إلى المدلول اللغوي انتهى
وقال بعض المحققين العلامة المقبلي في نجاح الطالب الحق أن يقال
أن أصول الفقه ونحوه نفس القواعد فإن العلم المتعلق بها الحال بقلب زيد ليس هو حقيقة الأصول كما تقوله في سائر الحقائق فليس السيف العلم بالحديد المخصوص بل نفسه فعلى هذا لا يتحقق الوجود الخارجي لهذه الحقائق المحدودة كما هو شأن سائر الماهيات لكن هذه ليس لها جزء خارجي كما لماهية الفرس مثلا لأنها أشخاص ومسمى أصول الفقه مثلا مجموع قواعد بمنزلة مائة وألف وكون الأمر للوجوب والنهي للحصر مثلا كأفراد المائة والألف مثلا جزء لمسمى جزئي ذلك اللقب ومسمى اللقب الملتئم من أجزاء كلها عقلية عقلي انتهى وهو كلام حسن هذا
وأما حده مضافا في الاصطلاح فالأصل الدليل والفقه فيه العلم أو الظن للأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وقد استفيد من القيود خروج العلم بغير الأحكام كالذوات والصفات والأحكام التي لم تؤخذ من الشرع بل من العقل كالعلم بأن العالم حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع وخرج العلم بالأحكام النظرية الشرعية اعتقادية أو أصولية مثل الإيمان واجب والإجماع حجة أصولية وخرج بقوله عن أدلتها التفصيلية علم المقلد على القول بأنه يسمى علما وذلك لأن حرف الجر متعلق بمحذوف صفة للعلم أي العلم الحاصل عن الأدلة وعلمه غير حاصل عنها فلذا لا تسمى أقوال المفرعين المجردة عن الأدلة فقها كما حقق في محله
واعلم أنه قد سبقت إشارة إجمالية إلى موضوع هذا الفن وهو ان موضوعه الأدلة السمعية الكلية وهي ما عرفت الكتاب العزيز والسنة
النبوية والإجماع والقياس فعنها وقع بحثهم في هذا الفن من حيث دلالتها على الأحكام إما مطلقا أو من حيث تعارضها أو استنباطها منها وأما غايته فالعلم بأحكام الله تعالى وبها ينال الفوز في الدارين ... وانحصرت أبوابه في عشره ... تأتي على الترتيب في ماذكره ...
انحصار أبوابه في ذلك ليس بحاصر عقلي اقتضاه بل وقع التدوين كذلك تمييزا بين أبحاث أقسام الموضوع والضمير عائد إلى نظم الكافل لأن أبوابه كذلك وليس عائدا إلى العلم نفسه لأن الباب الأول المشتمل على الأحكام وتوابعها ليس من موضوع العلم فلا يصح عوده إليه إلا بنوع تأويل كالتغليب
الباب الأول في الأحكام الشرعية ... أولها أحكامنا الشرعية ... تتبعها توابع مرعية ...
هذا أول الأبواب والضمير لها والأحكام جمع حكم تقدم تفسيره آنفا وإضافتها إلينا لكوننا المأمورين بها وجمعها لأنها خمسة كما عرفت قريبا ووصفها بالشرعية لما مر ونسبت إلى الشرع لثبوتها به إما بنقله عن أصله أو بتقريره على أصله على حد لو نقل بدلا عن إمساكه لصح كما ورد المنع عن ذبح ما لا يحل أكله فإن الشرع هنا قرر ما في العقل بخلاف ما ورد به الشرع مطابقا للعقل مما يقضي العقل فيه بقضية لا يصح أن يغيرها الشرع كوجوب قضاء الدين ورد الوديعة وقبح الظلم ونحو ذلك فإن هذا لا يسمى شرعيا وقوله تتبعها أي الأحكام توابع مرعية المراد ما يتبعها من الصحة والبطلان بل ومن تقسيم الواجب إلى مخير وموسع ونحوها فإن هذه توابع الأحكام والأصل في البحث هو الأحكام لذاتها وهذه أقسام وصفات لها ملاحظة بالتبعية
واعلم أن الأحكام لها نسبة إلى الحاكم وإلى ما فيه الحكم وهو الفعل فتسمى بالنظر إلى الأول إيجابا مثلا وتسمى إذا نسبت إلى الثاني وجوبا فهما متحدان ذاتا مختلفان اعتبارا ومن هنا تراهم يجعلون أقسام الحكم الإيجاب والتحريم تارة والوجوب والحرمة أخرى كما وقع هنا وقد رسمت باعبتار صفة الحاكم وباعتبار متعلقاتها والناظم رسمها بالاعتبار الثاني موافقة لأصله
فقال ... وهي وجوب حرمة والندب ... كراهة إباحة يا ندب ...
في القاموس الندب الخفيف في الحاجة الظريف النجيب
ولا يخفى حسن الجناس ... وعرفوها بالتي تعيقت ... بها فخذ رسومها كما أتت ...
أي تعلقت بها قال في الأصل وتعرف بمتعلقاتها ... فما استحق الفاعل الثواب ... بفعله وتركه العقابا ... فواجب وعكسه الحرام ...
هذا هو تعريف الواجب والحرام كقوله فما استحق مبتدأ وكلمة ما موصولة و الجملة صلتها والعائد أغنى عنه تعريف الفاعل وأصله فاعله أو محذوف أي عليه وقوله فواجب خبره دخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولك تقديره فهو واجب والمراد بالفاعل المكلف والثواب الجزاء كما في القاموس والمراد به هنا ما وعد الله به عباده من الجزاء على فعل الواجبات على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم واستحقاق الفاعل له
بوعد من لا يخلف الميعاد بإثابته والمراد ما من شأنه أن يستحق عليه الثواب فيدخل فيه فرض الكفاية والمخير وبهذا القيد خرج الحرام والمكروه والمباح لأنها قد دخلت في قوله والحكم فإنه مقدر أي فالحكم الواجب ما استحق إلى آخره ضرورة أنه جنس للخمسة فهو مراد ولأن كلمة ما في قوله ما استحق بمعنى فعل أي فعل استحق فدخلت فيه وقوله وتركه العقابا هو من العطف على معمولي عاملين مختلفين على رأي الفراء وبفعله يتعلق بالثواب وهو مصدر يتعلق به الظرف وتركه معمول العقاب وتقديمه عليه جائز من باب فلما بلغ معه السعي وبهذا القيد خرج المندوب والمباح وبهما كان التعريف جامعا مانعا إن قلت كان يكفي استحقاق العقاب بتركه قلت زيادة قيد الثواب بفعله احتيج إليه ليتم الاختصار بقوله وعكسه الحرام ويعرف به المراد ولو حذف ما عرف المراد بالعكس وهو وجه إيراده في الأصل كذلك والناظم يعتمد عبارة ما نظمه فلا يرد أنه كان يكفي أن يقال الواجب ما استحق تاركه العقاب والحرام بالعكس على أن العبارة قد اشتملت على لطف المقابلة بين الفعل والترك والعقاب والثواب وفيها من الإشارة إلى الترغيب والترهيب ما يزيدها حسنا ولطفا ولأنه لا بد من ذكر ذلك في المندوب والمكروه والمباح فحسن الإتيان بهذا في الواجب والحرام ليكون الكل على منوال واحد والمراد بالعكس اللغوي أي ما يستحق الثواب بتركه والعقاب بفعله فهو الحرام فيخرج بالقيد الأول الواجب والمندوب وبالثاني المكروه والمباح والمراد أن من شأنه عقاب فاعله كما أن من شأن تارك الواجب عقابه فلا ينافيه جواز العفو فإن ذلك مقتض
للعقاب ما لم يمنع مانع العفو والتوبة والشفاعة واعلم أنه لا يشمل الحد التروك عند من يجعلها أفعالا ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
فائدة واعلم أن كل فعل طلب الشارع تركه أو ذم فاعله أو مقته أو لعنه أو نفى محبته إياه أو محبة فاعله أو نفي الرضا به أو الرضا عن فاعله أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين أو جاء له مانعا للهدى أو استعاذ الأنبياء عليهم السلام منه أو جعله سببا لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل أو نسبه الله تعالى أو رسوله إلى عمل الشيطان أو تزيينه أو لعداوة الله أو محاربته أو الاستهزاء به أو سخريته أو دعا إلى التوبة منه أو وصف فاعله بخبث أو بضلالة أو بأنه ليس من الله في شيء أو بأنه ليس من الرسول صلى الله عليه و سلم أو أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا أو أخبر ان من فعله قيض الله له شيطانا فهو له قرين أو جعل فعله سببا لإزاغة قلب فاعله أو لصرفه عن آياته وفهم آلائه أو يسأل الله تعالى عن علة الفعل لم فعل تصدون عن سبيل الله من آمن لم تلبسون الحق بالباطل مامنعك أن تسجد فهذه كلها ونحوها تدل على المنع من الفعل ودلالتها على التحريم أظهر من دلالتها على الكراهة وأما نحو يكرهه الله ورسوله فدلالتها على التحريم أظهر فاكثر ما يستعمل في المحرم ... وبعده المندوب يا همام ...
الهمام كغراب العالي الهمه كما في القاموس والمندوب لغة المدعو إليه يقال ندبته لكذا فانتدب وأصله المندوب إليه فتوسع فيه بحذف حرف الجر فاستتر فيه الضمير ثم صار إسما لهذا القسم من الأحكام ورسموه بقوله ... ما يستحق الأجر فيه إن فعل
خرج به الحرام والمكروه والمباح وبقي الواجب أخرجه بقوله ... ولا عقاب إن يكن عنه غفل ...
فالمندوب ما استحق فاعله الثواب ولم يستحق تاركه العقاب
واعلم أن كل فعل عظمه الله تعالى أو رسوله أومدحه أومدح فاعله لأجله أو فرح به أو أحبه أو أحب فاعله أو رضي به أو رضي عن فاعله أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لشكره أو لهدايته إياه أو لرضاه عنه أو لمغفرة ذنبه أو لتكفير سيئاته أولقبوله أو لنظره إليه أو لنصره أو وصفه بأنه قربة أو أقسم به أو بفاعله كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها وضحك الرب سبحانه من فاعله أو إعجابه به فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب
والرابع والخامس ما في قوله ... وعكسه المكروه والمباح ... ما فقدا فيه فلا جناح ...
فالرابع المكروه ما استحق تاركه الثواب ولم يستحق الفاعل عليه العقاب وهذا الذي يسميه الفقهاء بأنه مكروه تنزيها ويسمونه خلاف الأولى وأما المكروه كراهة حظر فإنه داخل في قسم الحرام وليس قسما
مستقلا والمراد بغفل عنه تركه عمدا فلا يتوهم من لفظ غفل أنه من لم يعلم به إذ الغافل لا يكلف بشيء من الأحكام والقرينة على الإرادة المقام فبالفصل الأول يخرج الواجب والمندوب والمباح وبالفصل الثاني الحرام والخامس المباح المرسوم بقوله ما فقدا فيه أي فعل فقد فيه الإثابة على فعله والعقاب على تركه ولذا قيل فلا جناح أي لا حرج على فاعله وتاركه وضمير فيه للمباح والمراد فقدا فيه فعلا وتركا
واعلم أنها تستفاد الإباحة من كلام الشارع من لفظ الإحلال ورفع الجناح والإذن والعفو وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها من الأفعال نحو من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ونحوه من السكوت عن التحريم ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي وهو نوعان إقرار الرب وإقرار رسوله صلى الله عليه و سلم فمن إقرار الرب حديث جابر كنا نعزل والقرآن ينزل ومن إقرار الرسول صلى الله عليه و سلم قول حسان لعمر كنت أنشد وفيه من هو خير منك
واعلم أن المراد من قوله ما استحق فاعله الخ أي ما صار حقا على فعله الإثابة وصار حقا على تركه العقوبة والحق عليه تعالى وهو وإن كان يوافق رأي المعتزلة لكنا قد أشرنا إلى توجيهه وكان الأوفى بمقام الأدب أن يقال الواجب ما وعدنا بالإثابة على فعله وتوعدنا بالعقاب على تركه وعكسه الحرام ولك أن تكتفي بما توعد على تركه وعكسه الحرام
هذا وقد أورد الجلال في النظام وسبقه إليه غيره بأنه دور فلا يعرف
الاستحقاق إلا بعد معرفة الوجوب ولا الوجوب إلا بعد معرفة الاستحقاق وأجيب بأن استحقاق الإثابة والعقاب يعرف بتعريف الشارع إما بنصه على ذلك وذلك يعرف باستقراء الأدلة وحينئذ فلا يتوقف معرفة الاستحقاق على معرفة الوجوب ثم إنه لو رسم الأمران بقوله في الأول الواجب ما أمر به الشارع والحرام ما نهى عنه مع تقريرهم أن الأصل في الأمر الوجوب وفي النهي الخطر لكان رسما صحيحا سالما عما أورده على غيره ... والفرض والواجب قد ترادفا ... والناصر الاطروش فيه خالفا ...
الخلاف بين الجمهور والناصر والحنفية فذهب الأولون إلى ترادف اللفظين أي يتحدان معنى كاتحاد ليث وأسد وذهب الآخرون إلى أنهما متغايران فما كان دليله قطعيا سندا ودلالة سموه فرضا وما كان ظنيا سندا ودلالة أو أحدهما سموه واجبا وقد يستعملون أحدهما مكان الآخر وفي شرح المختصر إن الخلاف لفظي وقيل معنوي وإن تارك الفرض يفسق بخلاف تارك الواجب هذا وأما الحرام فإنه يرادفه المحظور ويسمى معصية وذنبا ومزجورا عنه ومتوعدا عليه ثم أشار إلى تقسيم الواجب إلى أقسامه فالقسمة الأولى هي المشار إليها بقوله ... وانقسم الواجب في الدرايه
بكسر الدال المهملة درى يدري أي علم ويستعمل لما فيه ضرب من الحيلة وهو يقابل الرواية عند إطلاقه ... إلى فروض العين والكفاية ...
انقسام الواجب له جهتان الأولى بالنظر إلى المحكوم عليه وهو المكلف فإن كان الفعل المطلوب من المكلف لا يسقطه عنه فعل مكلف آخر ففرض عين أو يسقطه ففرض كفاية فالأول كالصلاة والثاني كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعلم أن سنة الكفاية كفرضها قال في جمع الجوامع وسنة الكفاية كفرضها قال الزركشي هذا يقتضي انقسام السنة إلى كفاية وعين والفرق بينهما أن سنة الكفاية يكون النظر فيها إلى الفعل من غير نظر إلى الفاعل كتشميت العاطس وابتداء السلام والأضحية في حق البيت الواحد والجهة الثانية أفادها قوله ... ثم إلى التعيين والتخيير ...
وهذا بالنظر إلى المحكوم فيه وهو الفعل فإنه إن كان المطلوب منه إيقاعه بعينه كالصلوات الخمس فمعين وإلا فمخير بين إفراده كخصال الكفارة ثم له تقسيم آخر باعتبار إيقاع الفعل هو المفاد بقوله ... ومطلق و الغير في تحبير ...
التحبير مصدره حبره تحبيرا إذا حسنه
فالواجب انقسم إلى مطلق وهو ما لم يعين وقته كالنذر المطلق وقضاء صوم رمضان وإلى معين وقته وذلك كالصلوات الخمس والحج والصيام وقوله ... مؤقت مضيق أو وسعا
بدل من الغير أو بيان له أتي به لبيان المراد بالغير أي غير المطلق وإدخال آلة التعريف عليه شائع في عبارات العلماء غير وارد في كلام العرب أي والواجب المؤقت ينقسم أيضا إلى مضيق وقته وموسع فالأول هو ما لا يتسع الوقت المقدر له شرعا إلا لفعل الواجب وذلك مثل الصيام والثاني وهو ما يزيد وقته على فعل الواجب وذلك كالصلوات الخمس وهذا هو الذي أفيد بقوله مضيق او وسعا فمضيق مجرور صفة لمؤقت وقد يعبر عنه بالواجب الموسع والواجب المضيق على سبيل المجاز وإنما المضيق والموسع صفة للوقت ولما فرغ من تقسيم الواجب بتلك الاعتبارات أخذ في بيان ترادف بعض الألفاظ عند بعض أهل الأصول فقال ... والمستحب رادف التطوعا ... ورادف المندوب المسنون ... أخص من كليهما يكون ...
ها هنا ألفاظ حكموا عليها بالترادف فقالوا المندوب والمستحب والتطوع مترادفة معنى كل منهما معنى الآخر فهي ما يستحق الثواب بفعلها ولا عقاب في تركها وقوله والمسنون مبتدأ خبره أخص من كليهما فإنهم
رسموه بما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم وواظب عليه فزادوا فيه قيد المواظبة وأرادوا بما أمر به أمر ندب فلا يرد الواجب فكل مسنون مندوب ولا عكس وعبر عن ذلك في الغاية بقوله ما أمر به عليه السلام ندبا فإن واظب عليه فمسنون وإلا فمستحب وفي جمع الجوامع أنه يرادف المندوب أيضا وإن الكل معناه الفعل المطلوب طلبا غير جازم ونقل عن القاضي حسين أنه يقول في المسنون بمثل كلام الناظم وأنه أخص لأخذ المواظبة فيه واعلم أن التقسيم الذي في الواجب يجري في المندوب أيضا فيشبه فرض العين التوجه فإنه مشروع في الصلاة بألفاظ مخصوصة ولا يسقط بفعل مكلف آخر فمن تركها أو بدلها فقد خالف السنة ومثلها أيضا الأذكار المعينة عقيب الصلوات وفيها ومندوب الكفاية كالسلام ابتداء من جماعة والتشميت للعاطس منهم على قول من لم ير وجوبه على كل من السامعين وإن كان حديث إذا عطس أحدكم فحمد الله كان حقا على كل من سمعه أن يقول له يرحمك الله أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن حبان يقتضي وجوب تشميت كل عاطس حامد على كل سامع والمعين كسنة الفجر مثلا فالمطلوب إيقاعها بخصوصها والمخير كالقراءة ب قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد أو الآيتين من سورة البقرة وآل عمران والمطلق كصلاة النافلة من حيث هي والذكر من حيث هو والمؤقت كصيام البيض ويكون مضيقا كهذا الصيام وموسعا كرواتب الفراض ... هذا وما وافق أمر الشارع ... فهو الصحيح أول التوابع
تقدمت إشارة إلى توابع الأحكام هذا أولها وهو تقسيم للواجب بالنظر إلى إيقاعه على وقف شروطه وأسبابه المعتبرة شرعا أعم من أن تكون عبادة أو معاملة فانقسم بهذا الاعتبار إلى صحيح وباطل الأول الصحيح وهو لغة السليم واصطلاحا ما أفاده النظم بأنه الفعل الذي وافق أمر الشارع أي ما كملت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع كالصلوات بشرائطها من الطهارة وستر العورة وغيرهما وهذا رسمه باعتبار العبادة وأما باعتبار المعاملة فالصحة فيها ترتب الأثر المطلوب منها عليها وفي جمع الجوامع أن الصحة موافقة الفعل ذي الوجهين الشرع وقيل في العبادة إسقاط القضاء وفي العقود ترتب أثره عليه وهو ما شرع العقد له كحل الانتفاع في البيع
واعلم أنه خص في الأصل التوابع بما ذكر مع أن تقسيم الواجب الذي تقدم آنفا هو من صفات الحكم فلو عد من التوابع لكان صحيحا وهو امر سهل فإنه اصطلاح والقسم الثاني الباطل أفاده مع الفاسد قوله ... نقيضه الباطل أما الفاسد ... فقيل قد رادفه فواحد ...
الباطل لغة الذاهب واصطلاحا نقيض الصحيح ويجري في العبادات والمعاملات أيضا فهو فيهما عدم ترتب الأثر المقصود من الفعل عليه ففي العبادة عدم موافقة أمر الشارع أو عدم سقوط القضاء وفي المعاملة عدم حل الانتفاع بالمبيع وأما الفاسد ففيه خلاف منهم من يقول إنه مرادف للباطل فمعناه معناه كما أفاده قوله فواحد أي فمعناهما واحد ومن لم يقل بترادفهما رسمه بقوله ... وقال في تعريفه من ينفي ... ما شرع الأصل بدون الوصف ...
أي أنه عرفه من ينفي الترادف بينه وبين الباطل ويجعله قسما مستقلا بأنه المشروع بأصله الممنوع بوصفه وهو قول من يثبت الواسطة بين الباطل
والصحيح إلا أنه ينبغي أن يعلم أنهم متفقون في العبادات سوى الحج أنه لا واسطة فيها بل إما صحيحة أو بطالة والحاصل أن من فسر الفاسد بعدم ارتفاع وجوب القضاء كان كالباطل ومن قال إنه المشروع بأصله الممنوع بوصفه كان واسطة فيقول في العبادات مثلا صوم العيدين الصوم مشروع بأصله ولكن الوصف وهو كونه في ذلك اليوم مثلا منعه الشارع وفي المعاملات كبيع درهم بدرهمين إن البيع مشروع بأصله ولكن الوصف وهو اشتمال أحد الجانبين على الزيادة ممنوع فهو عنده خلل يوجب ترتب بعض الآثار فالبيع الفاسد يوجب جواز الفسخ وعدم الملك إلا بالقبض بإلاذن والقيمة لا الثمن وأما الباطل فلا يترتب على عقد البيع عليه شيء وجعل الفاسد واسطة هومذهب الهدوية والحنفية وأما الناصر والشافعية فهم قائلون بالترادف وعدم الواسطة ولهم في المطولات أمثلة لا نطول بذكرها
تنبيه لم يتعرض في الأصل للإجزاء وهو عندهم كالصحة فرسمه رسمها إلا أنه يختص بالعبادات واجبة كانت أو مندوبة وقيل يختص بالواجب ومنشأ الخلاف وروده في الحديث النبوي في الأضاحي ومن قال إنها سنة قال تتصف به السنة والواجب لحديث لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن أخرجه الدارقطني وصححه وقيل لا يختص بالعبادات بل يجرى في المعاملات كرد الوديعة فإنه إذا حجر على المودع ما أودعه لم يجز الرد عليه بخلاف إذا لم يحجر عليه ورد بأنه ليس فيها إلا تسليمها لمستحق التسليم فليس رد الوديعة يجري على وجهين مجز وغير مجز
ويطلق الجائز في المباح ... وممكن والكل في اصطلاح ... كذا على المشكوك ثم ما استوى ... الفعل والترك به ولا سوى ...
هذا في ذكر الجائز وما يطلق عليه فإنه يطلق على المباح فكلمة في بمعنى على مثل قوله تعالى لأصلبنكم في جذوع النخل فالنظم قد أفاد أنه يطلق الجائز على أربعة أشياء
الأول مما يطلق عليه المباح المعرف بما تقدم من رسمه
الثاني الممكن وهو إما ما لا يمتنع شرعا أي ما لا يحرم وهو شامل للأربعة الأحكام الواجب والمندوب والمباح والمكروه وأما ما لا يمتنع عقلا كأن يقال كون جبريل في أرض جائز أي لا مانع منه في العقل ومثلوا ما لا يمتنع شرعا كأن يقال الأكل بالشمال جائز أي لا مانع عنه شرعا كذا مثلوه به وفيه نظر
الثالث أن يطلق على ما استوى فعله وتركه عقلا كفعل الصبي وكذلك شرعا كالمباح
والرابع المشكوك فيه وهو ما تعارضت فيه أمارات الثبوت والانتفاء أمارة تقضي ثبوته وأخرى تقتضي نفيه في العقل أو الشرع ومثلوه في العقل بمن يتوقف في أصل الأشياء هل على الحظر أو الإباحة فإنه يقول بأنه جائز الأمرين أي الحظر وعدمه لاستوائهما عند تعارض دليليهما وفي الشرع كمن يتوقف في لحم الأرنب ووجوب صلاة العيدين لتعارض أمارتي الأمرين فيوصف بأنه جائز بهذين الاعتبارين فهذه الأربعة المعاني التي أفادها النظم
وللجائز أربعة معان باعتبار المشكوك فيه استوفاها في الفواصل فلا نطيل بذكرها لعدم مساس الحاجة إليها ثم من توابع الحكم باعتبار إيقاع الفعل وهو يختص بالعبادات ما تضمنه قولنا
وما أتى في وقته منك ابتدا ... مقدرا شرعا له فهو الأدا ...
اعلم أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أو لا الثاني لا يوصف بأداء ولا قضاء ولا إعادة كالنوافل المطلقة والأذكار التي لم توقت والأول وهو ما له وقت معين إما أن يكون وقته المعين محدود الطرفين أو لا الثاني يوصف بالأداء لا غير كالحج ولا يوصف بالقضاء إلا مجازا لأجل المشابهة للمقضي في الاستدراك كما قيل والأول يوصف بالثلاثة
إذا عرفت هذا فالأداء قد رسمه الناظم بما سمعته فقوله مقدرا حال من وقته أي الفعل الذي أتى منك في وقته المقدر له ابتداء هو الاداء وحمل الأداء على قوله ما أتى صحيح لأن المصدر بمعنى المفعول قيل وقد صار إطلاقه عليه هنا حقيقة عرفيه وابتداء منصوب بمقدر المذكور أي فعل في وقته المقدر له ابتداء فخرج بقوله في وقته النوافل المطلقة وبقوله المقدر له ابتداء القضاء كصلاة الظهر مثلا فإن وقتها الأول هو الأداء والثاني وقت ذكرها إذا نسيها أو نام عنها فإذا أوقعها فيه فليست بأداء قلت ولك أن تقول ابتداء منصوب بأتى فلا تخرج عن الأداء فإنه فعلها ابتداء عند ذكرها في وقتها وقد قال الشارع إنه لا وقت لها إلا ذلك فهو من قسم الأداء ولم يفعل ثانيا
وقوله شرعا يخرج ما إذا عين المكلف للقضاء الموسع وقتا وكذا الزكاة إذا عين الإمام لقبضها شهرا فهو عرفي لا شرعي وعلى هذا التقدير فالإعادة من قسم الأداء وهو الذي قرره العضد وتبعه الجلال في شرح الفصول وهذا على تقدير تعلق ابتداء بمقدر وقيل إنه يتعلق بأتى أي وما أتى منك
ابتداء فتخرج الإعادة وقوله في وقته مقدرا تخرج النوافل المطلقة وعلى هذا بنى الشيخ لطف الله في شرح الفصول وعليه اعتمد صاحب الغاية فيه
واعلم أن ظاهر الرسم خروج صلاة أدرك منها فاعلها ركعة في وقتها ثم خرج الوقت وأتى بباقيها خارجة وحديث الصحيحين من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة يقضي بأنها أداء ولهذا عرف الأداء في جمع الجوامع بقوله والأداء فعل بعض وقيل كل ما دخل وقته قبل خروجه وإذا عرفت مما ذكرناه آنفا أن هناك ثلاث صفات للفعل فقد قدمنا رسم الأول منها وهو الاداء ورسم الآخرين أفاده قولنا ... وما فعلت بعده استدراكا ... لواجب مطلقه عراكا ... فهو القضا في الشرع للعباده ...
فهذا هو ثاني الثلاثة وهو القضاء وضمير بعده عائد إلى الوقت أي ما فعلته بعد وقت الاداء استدراكا إلى آخره وقيد مطلقا في قوله مطلقه أي مطلق الوجوب ليوافق قوله في الأصل استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا قال شارحه وقوله مطلقا قيد للوجب أي سواء كان على القاضي أو على غيره فيدخل في ذلك قضاء الحائض للصوم لأنه وإن لم يسبق له وجوب عليها فقد سبق على غيرها وحكى ابن الحاجب أن بعض الأصوليين في حده للقضاء يحذف مطلقا فعليه لا يسمى صوم الحائض قضاء وعلى الأول يسمى قضاء
وقد ثبت حديث عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم لا الصلاة والمراد به الأداء وهو معناه لغة والخلاف لفظي لأن حالة العذر يجب عليها ترك الصوم وحالة عدمه يجب عليه الإتيان به اتفاقا وعرفت أنه خرج بقوله بعد الأداء والإعادة وبقوله استدراكا الصلاة المؤداة خارج الوقت قضاء ثم أعادها بجماعة على القول بأنها تكون أي الأولى نافلة
فإن قلت من مات فحج عنه يكون من الأداء أو القضاء قلت قد جعلوا الحج من المؤقت ووقته العمر فما فعل بعده كان قضاء وأما من فسد حجه فأتى به صحيحا فلا يسمى قضاء إلا مجازا كما يطلق عليه الفقهاء
واعلم أن لفظ النسخة من النظم الأولى التي شرحها مؤلف الفواصل رحمه الله كانت بلفظ السابق وجوبه علاكا بحذف قيد الإطلاق فخرج منها صوم الحائض عن أن يسمى قضاء وهو قول بعض الأصوليين إلا أنا حولنا إلى ما هنا ليوافق الأصل فإنه قيد بالإطلاق لإدخال ذلك وأما السبق فإنه وإن فات في الذي عوضناه فقوله بعده يغني عن ذلك وقيد استدراكا قيل لا حاجة إليه لأنه ليس من مفهوم القضاء وإن كان عرضا لأن العرض للشيء خارج عن ذاته
والثالث وهو الإعادة أشار إليه قولنا ... وخذ هديت الرسم للإعادة ... بما فعلت ثانيا وقت الأدا ... لخلل فيما أتى في الإبتدا ...
الإعادة هي ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الفعل الأول فقوله ثانيا يخرج الأداء وقوله وقت الأداء يخرج القضاء وقوله خلل في الأول أي من فوات ركن أو شرط يخرج ما ليس كذلك كالمنفرد إذا صلى ثانية مع
الجماعة يعني فلا تسمى إعادة وبعضهم رسم الإعادة بما فعل ثانيا في وقته لعذر من خلل أو نقصان فضيلة وهو أعم من الأول لشموله إعادة المنفرد مع الجماعة ولا يخفى أن هذا إنما يتمشى على رأي من يجعل الفريضة هي الفعل الثاني وعلى صحة الرفض شرعا وتجدد الطلب بعده وذلك مما لا دليل عليه كما بيناه في حواشي ضوء النهار وغيره هذا وللحكم تقسيم آخر باعتبار وصفه بالرخصة والعزيمة أشار إليه قولنا ... والرسم للرخصة والعزيمة ... ما شرعت وما اقتضى تحريمه ... باق لعذر فهو رسم الأولى ... وعكسها قرينها في الإملا ...
هذا بيان العزيمة والرخصة فالعزيمة لغة القصد المؤكد ومنه عزمت على فعل كذا والرخصة لغة التيسير والتسهيل ومنه رخص السعر إذا تيسر وتسهل وهذا تقسيم للحكم باعتبار مشروعيته فإما أن يشرع لعذر مع بقاء مقتضى التحريم لولاه أو لا الأول الرخصة والثاني العزيمة فرسم الرخصة قوله ما شرعت فما الموصولة مبتدأ وقوله فهو رسم الأولى خبره وقوله ما شرعت أي ما شرع الله للمكلف فعله كأكل الميتة أو تركه كترك الصوم وهذا جنس الحد وقوله وما اقتضى تحريمه باق فصل ثان يخرج ما نسخ تحريمه أي شرعت ودليل التحريم باق وقوله وما اقتضى تحريمه ما موصولة واقتضى صلتها وفاعله ضمير للموصول وتحريمه مفعول وباق خبر الموصول أي ما شرعت والدليل المقتضي لتحريمه باق وهذا القيد يخرج به ما نسخ من الأحكام لعذر كوجوب ثبات الواحد للعشرة
وقوله لعذر فصل أول والمراد به أمر طارىء في حق المكلف فخرج
الحكم ابتداء ومنه وجوب الإطعام في كفارة الظهار عند فقد الرقبة لأنه الواجب ابتداء على فاقد الرقبة كما أن الإعتاق هو الواجب ابتداء على واجدها واعلم أنه قد زاد في مختصر ابن الحاجب في الرسم لفظ لولا العذر وحذفها في الأصل الذي نظمناه وحذفه في جمع الجوافع أيضا ووجه حذفه أنه قد تم الرسم من دون ذكره ووجه ذكره ممن ذكره رفع إيهام اجتماع الضدين في حالة واحدة وهو بقاء مقتضى التحريم ومشروعيته للعذر ولا خفاء أن دفع الإيهام ليس من وظيفة الرسم هذا
وقد قسموا الرخصة إلى واجبة كأكل الميتة للمضطر ومندوب ومباح ومكروه وبيانها وأمثلتها في المطولات إلا أن ظاهر عبارة النظم والأصل أنها لا تجري إلا في الواجب والمحرم وقد زاد في الفصول مع بقاء المحرم أو الموجب ثم لا يخفى أن رسم الرخصة بما شرع إلى آخره هو الواقع في غالب كتب الأصول وفيه تسامح لا يخفى لأن الذي شرع هو الفعل لا الرخصة فإنها رفع التحريم أو الكراهة عن نحو أكل الميتة لعذر الجوع وأما العزيمة فقد أفاد رسمها بقوله
وعكسها قرينها في الإملا ... فهي ما شرعت لا لعذر مع بقاء ...
مقتضى التحريم هذا هو الذي يقتضيه ظاهر العكس وإلى هنا انتهى الكلام في الحكم التكليفي وتوابعه ولما أهمل مصنف الأصل الحكم الوضعي مع عموم الحاجة إليه زاده الناظم بقوله ... وهما هنا زيادة في الحكم ... أهملها في أصل هذا النظم ... قد قسموا الحكم إلى تكليف ... وهو الذي قد مر في تأليف ... ثم إلى الوضعي وهو المانع ... والشرط والأسباب هذا جامع ...
أي جامع لأقسامها وهي ثلاثة الأول الشرط أشار إلى تعريفه بقوله ... فإن يؤثر عدمه في العدم ...
الأول بسكون الدال المهملة والثاني بتحريكها مفتوحة ... فالشرط أو وجوده فلتعلم ...
قوله فالشرط جزاء قوله فإن يؤثر أي حقيقة الشرط ان يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود الحكم ومثلوه بالحلول في وجوب الزكاة وقوله أو وجوده عطف على قوله عدمه أي وإن أثر وجوده وجوابه ما يأتي في قوله ... بأنه إن أثر العدم فقد ... سموه بالمانع ثم ما ورد
فهو الثاني وهو المانع ورسموه بأنه ما أثر وجوده عدم الحكم وذلك كالأبوة في منع القصاص وقوله ... مؤثرا وجوده الوجودا ... وعدمه في عدم فقودا ...
يريد فقودا مصدر فقدت الشيء فقودا نحو قعدت قعودا مؤثرا حال من فاعل ورد أي والذي ورد من المعرفات وهي الأحكام الوضعية مؤثرا وجوده وجود الحكم عدمه الحكم فعدمه عطف على قوله وجوده أي ومؤثرا عدمه عدم الحكم وفقودا مفعول مؤثرا المقدر أي مؤثرا في عدم الحكم فقوده وقوله ... فالسبب المعروف كالزوال ... لواجب الظهر بلا مقال ...
خبر لقوله ما ورد فهذا هو ثالت الأحكام الوضعية وهو السبب فتحصل من هذا ان ما أثر عدمه عدم الحكم فهو الشرط وما أثر وجوده عدم الحكم فهو المانع وما أثر وجوده وجودا لحكم وعدمه عدمه فهوالسبب فهذه الثلاثة هي الأحكام الوضعية وهي مقابلة للخمسة التكليفية ومن قال بإدراجها فيها فقد تكلف ولا غنى لطالب هذا الفن من معرفتها تفصيلا
فأولها على ترتيب ذكرها في النظم الشرط وهو يطلق على انواع المراد منها هنا ما يؤثر عدمه في عدم الحكم المشروط ومثلوه بالحول لوجوب الزكاة وبالطهارة في صحة الصلاة وإن كان قد نوقش في هذا المثال الآخر ويطلق على الشرط اللغوي وهو ما علق بأحد حروف الشرط وهو الذي يأتي في باب التخصيص ويطلق على جعل الشيء شرطا لشيء آخر كشراء الدابة بشرط كونها حاملا وهو من أبحاث علم الفروع والمراد هنا الأول الذي رسموه بما أشرنا إليه ويعبرون عنه في رسمه بأنه وصف ظاهر منضبط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته واقتصرنا في النظم على
القيد الذي يتحقق به كونه شرطا وهو عدم الحكم المشروط به لعدمه لأنه كاف في تمييزه عن أخويه وهما السبب والمانع ولعلماء الأصول في الشرط تفصيل وأمثلة في إيرادها تطويل
والثاني المانع المشار إليه بأنه ما أثر وجوده العدم فإنهم رسموه أيضا في الأصول بقولهم إنه وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده عدم الحكم وقد قسموه إلى مانع الحكم ومانع سبب الحكم ومانع السبب تقدم مثاله بالأبوة في مانع القصاص ومنعه هنا لحكمة وهي أن الأب سبب لوجود الابن
فلا يكون الابن سببا في عدم أبيه ولهم هنا تطويل وذكر أمثلة إذا عرفت القاعدة عرفت
الثالث السبب وقد رسموه أيضا بأنه وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ومثلوه بالزوال لوجوب صلاة الظهر كما أشرنا إلى ذلك كله فهذا بيان لما ذكره مما أهمله صاحب الأصل وفي هذه الثلاثة الأحكام الوضعية تفاصيل وإيرادات في بيان الفروق بينها قد أتى بها في الفواصل ونقل أقوال العلماء في ذلك مما لا يخلو عن تطويل ولا يصفو عن كدر فلا يروى الغليل وفيما أشرنا إليه ما يكفي أهل التحصيل
فقد تحصل أن الأحكام ثمانية خمسة تكليفية وثلاثة وضعية وتوابع الأولى الأداء والإعادة والقضاء والرخصة والعزيمة والصحة والبطلان فهذه المعاني المبحوث عنها فيما سلف خمسة عشر وأما الفاسد فالحق أنه الباطل وليس قسما برأسه
الباب الثاني في الأدلة ... وجاء في الثاني من الأبواب ... أدلة السنة والكتاب ...
أي ما دلا على حكمه أو على دليليته فدخل الإجماع والقياس كما هو مبين فيما سيأتي من فصول هذا الباب هذا والأدلة جمع دليل والدليل في اللغة المرشد وهو العلامة الهادية وناصبها وذاكرها قالوا إنه يطلق على كل واحد من الثلاثة قال فالله تعالى دليل لأنه ناصب الأدلة وذاكرها في كتابه وإن كان إطلاق الدليل عليهما لا يكون إلا مجازا لما تقرر من أن حقيقة الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر وعلى رأي من يشترط في حقيقة إطلاق المشتق وجود معناه لا يكون الدليل أيضا هو نفس المنصوب والمذكور بل الدليل هو العلم بوجه دلالتها كما يقتضيه رسم الدلالة المذكور وهذا الذي ذكروه في معناه لغة لم أجده في القاموس كما ذكروه وأما معناه اصطلاحا فهو ما أشار إليه قولنا ... دليلنا ما يمكن التوصل ... بالنظر الصحيح فهو الموصل ... لنا إلى العلم وبالأماره ... ظن وقد يدعى به استعاره ...
أضاف الدليل إلى نفسه وإلى غيره من العلماء إرشادا إلى أن المراد رسم
معناه الاصطلاحي وأتى بقيد الإمكان للإشارة إلى أن الدليل من حيث هو دليل يكفي فيه التوصل بالقوة لا بالفعل فلا يخرج الدليل عن كونه دليلا بأن لا ينظر فيه أصلا ولو اعتبر فيه وجود التوصل لخرج من التعريف ما لم ينظر فيه أحد أبدا وقوله التوصل قال المحلي هو الوصول بكلفة وقوله بالنظر النظر لغة الانتظار وتقليب الحدقة والرؤية وبهذا المعنى يتعدى بالام وبهذا المعنى يتعدى بإلى واالتأمل والاعتبار وبهذا المعنى يتعدى بفي وهو في الاصطلاح الفكر المطلوب به علم أو ظن والفكر انتقال النفس بالمعاني انتقالا بالقصد ويفسر بأنه ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول وقد يفسر الفكر بأنه حركة النفس في المعقولات بانتقاله فيها انتقالا قصديا تدريجيا والمراد بالنظر ما يتناول النظر في الدليل نفسه وفي صفاته وأحواله فيشمل المقدمات التي هي بحيث إذا ركبت أدت إلى المطلوب والمفرد الذي من شأنه أنه إذا نظر إلى أحواله أوصل إليه كالعالم وقيده بالصحيح وهو المشتمل على شرائطه مادة وصورة لأن الفاسد لا يمكن أن يتوصل به إلى المطلوب
إذ ليس هو في نفسه سببا للتوصل ولا آلة له ومعرفة النظر الصحيح من الفاسد يعرف من علم الميزان المؤلف لمعرفة شرائط الأدلة من حيث المادة والصورة ونحوهما
وقوله فهو الموصل أي أنه لا يوصل إلى النظر الصحيح إيصالا مطردا والفاسد وإن اتفق الوصول به نادرا لا اعتداد به وقوله إلى العلم قد حذف متعلقه وهو مطلوب خبري فالمراد الموصل إلى العلم بمطلوب خبري وهو من تمام الرسم وحذفه للعلم به فلا يرد دخول القول الشارح في التعريف وبهذا القيد أخرجه في الفصول
واعلم أن هذا التعريف جار على اصطلاح المتكلمين في أنه لا بد في الدليل من إفادته العلم فيخرج ما يفيد الظن فلا يسمى دليلا عندهم ويسمى أمارة وقد أشار إليها قوله بالأمارة أي والتوصل بالأمارة يفيد الظن لا العلم لزوما عاديا لا عقليا كما إذا أغيم الهوى بالغيم الرطب فإنه يحصل ظن حدوث المطر وقد يتخلف ولو كان عقليا لما تخلف هذا كلام الجمهور وقد اختلف فيه على قولين الأول ما سمعته من عدم اللزوم الثاني أنه لازم وهو قول الملاحمية قال في نظام الفصول هو الحق لأن الأمارة إنما سميت أمارة بدلالتها على مدلولها ظنا فما لم تدل على مدلولها رأسا لا تسمى أمارة وحاصله أن ظن المطر في المثال المذكور ملازم لظن رطوبة الغيم بحيث
لا ينفك أحدهما عن الآخر كما لا ينفك العلم الحاصل عن الدليل عن العلم بوجه دلالة الدليل فإذا زال ظن المطر كشف زواله عن زوال ظن الرطوبة فإنه هو الأمارة لا نفس الغيم فإنه مشاهد لا مظنون ولا نفس الرطوبة فإنها في حيز المجهولات لعدم تحققها إلا بتحقق المطر نعم بين العلم والظن فرق فإن العلم لا ينفك عن متعلقه بخلاف الظن انتهى بتلخيص وخلاف الملاحمية لم يذكره ابن الحاجب ولا شراح كلامه بل أطبقوا على القول الأول وقال العضد في تعليله إنه ليس بين الظن وبين شيء علاقة لانتفائه مع بقاء سببه قال عليه المقبلي في نجاح الطالب ولا يسع عقلي ذلك فإنه إذا كان الغيم الرطب والبرق والرعد والوابل الذي بينك وبينه مثلا مائة ذراع متزاحفا إليك بسرعة يحصل معك الظن قطعا وربما انكشف عدم وصول المطر إلى حيزك ثم قال وعلى الجملة فكل صورة حصل عنها الظن فإنه يحصل عند مساويها وكل عاقل راجع نفسه لا ينكر ذلك والذي أظنه أن موجب تطبيقهم بسبب انتقال ذهني من أمارة الظن إلى الظن ومع هذا فهو بعيد على الجمهور وتحقيقه أن الدليل يلزم عنه العلم والعلم يلزمه مطابقة المعلوم ولا يجوز عدم المطابقة إذ حقيقته ذلك والأمارة يلزم عنها الظن كلزوم العلم سواء وهما عاديان لا يفترقان لكن ليس من لازم الظن المطابقة ولهذا قد يحصل الظن ولا يحصل المظنون ولا يجوز حصول العلم ولا يحصل المعلوم وهذا الافتراق غير ذلك الاتفاق وكأنه اتفق للنظار التباس أحد الأمرين بالآخر وقد بحثت عن هذا جهدي في كلام الرازي وأبو الحسين وغيرهما
قلت وكأنه ما عرف خلاف الملاحمية وقد وافقه كلام النظام والحق معهما وهذا مما تركه الأول للآخر والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء قوله وقد يدعى به استعارة أي أنه قد يسمى أي الظن علما فإنه قد يطلق لغة على اليقين نحو الذي يظنون أنهم ملاقو ربهم وعن الخليل بن أحمد أنه قال الظن شك ويقين وظاهر كلامه أنه مشترك فقوله استعارة ليس المراد الاستعارة الاصطلاحية بل المراد أنه لغة يكون بأحد معنييه بمعنى العلم ثم لما ذكر العلم بالدليل أخذ في ذكر حقيقته فقال ... والعلم معنى يقتضي السكونا ... لنفس من قام به يقينا ... بأن ما يعلمه كما اعتقد ...
اعلم أن كلامنا هنا في العلم بالمعنى الأخص الذي لا يشمل الظن لأنه قسيمه كما عرفت هنا وتعرفه مما يأتي في تعريف الظن وإذا عرفت هذا فاعلم أنه قد اختلف العلماء هل يحد العلم أو لا فقيل يحد وقيل لا يحد لتعسر معرفة جنسه وفصله وقيل بل لجلائه ووضوحه فهو ضروري وعلى القول الأول فله تعريفات كثيرة قد أودعت شرح مختصر ابن الحاجب وغيره وقد أشرنا إلى رسمه بما أشار إليه في الأصل فقوله معنى جنس الحد شامل لجميع أنواع التصورات والتصديقات وقوله يقتضي السكونا لنفس من قام به فصل يخرج الظن والشك والوهم والتبخيت والتقيلد وقوله بأن ما يعلمه كما اعتقد أي لا يمكن تغيره ولا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه فصل ثان يخرج به الجهل المركب إذ هو معرض للزوال لاحتمال أن يعرف صاحبه حقيقة الأمر فاندفع
ما قيل من أنه لا حاجة إلى هذا القيد ولا يحترز به عن شيء بل الحاجة إليه ضرورية فإنه لا يخرج الجهل المركب إلا به فإنه يشمله قوله معنى يقتضي سكون النفس
فإن قلت علم الله غير داخل في الحد فإن سكون النفس يختص بعلم الإنسان قلت لا ضير في خروجه لأن الرسم للعلم الكاسب والمكتسب وذلك إنما هو علم المخلوق من الملك والجن والإنس بخلاف الخالق فإنه لذاته لا لسبب من الأسباب وعلم الله تعالى قديم لا يوصف بضرورة ولا كسب ثم إن التعريف إنما يراد به تعميم إفراد ما يحتاج إلى معرفته بحسب الحاجة ولا ضرورة ملحة إلى دخول علمه تعالى في الرسم لا يقال الرسم دوري لأنه أخذ العلم في رسم نفسه لأنه يقال المأخوذ في التعريف هو المعلوم والمحدود العلم وهذا كاف في المغايرة في الجملة ولقد تعددت العبارات في رسمه وما خلا شيء عن مقال
ثم إن ينقسم إلى ضروري وكسبي وكل منهما له حقيقة تخصه فأشار إلى ذلك قولنا ... وهو ضروري أتى بغير كد ... خلافه الكسبي ثم الأول ... ماليس للتكشيك فيه مدخل ...
هذا رسم الضروري لأنه ما أتى بغير كد أي بلا طلب واكتساب كعلم أحدنا بنفسه
وأما البديهي فقال في المواقف وشرحه البديهي إنما يثبته مجرد العقل أي يثبته بمجرد التفاته إليه انتهى من غير استعانة بحس أو غيره تصورا كان أو تصديقا فهو أخص من الضروري وقد يطلق مرادفا له والكسبي هو الحاصل بالكسب وهو مباشرة الأسباب بالاختيار كصرف
العقل والنظر في المقدمات والاستدلالات والإصغاء وتقليب الحدقة ونحو ذلك في الحسيات
وفي النسفية وشرحها أن أسباب العلم ثلاثة الحواس الخمس السليمة والخبر الصادق والعقل وقال السعد لا تنحصر في الثلاثة بل هاهنا أشياء أخر مثل الوجدان والحدس والتجربة ونظر العقل بمعنى ترتيب المبادىء والمقدمات والضروري يقال تارة في مقابلة الكسب ويفسر بما لا يكن تحصيله مقدورا للمخلوق وتارة في مقابلة الاستدلالي ويفسر بما يحصل بدون فكر ونظر في دليله ومن هنا جعل بعضهم العلم الحاصل بالحواس اكتسابيا أي حاصلا بمباشرة الأسباب بالاختيار وبعضهم جعله ضروريا أي حاصلا بدون استدلال نص عليه السعد في شرح العقائد
واعلم أن انقسام العلم إليهما لا يحتاج إلى الاستدلال بل يعرف بالوجدان فكم بين العلم بأن الشمس مشرقة والنار محرقة وبين العلم بأن العالم حادث فالأول ضروري والثاني كسبي نظري وقوله ما ليس للتشكيك فيه مدخل خبر عن قوله ثم الأول أو عن مبتدأ محذوف والكل خبر عن الأول فالضروري ما لا يقبل التشكيك فإن قيل النظري بعد النظر الصحيح لا يقبل أيضا التشكيك كعلمنا بأن العالم حادث فإنه لا يقبل التشكيك بأنه غير حادث قط فما الفرق أجيب بأن الضروري لا يقبل التشكيك البتة بخلاف الكسبي فإنه يدخل عليه التشكيك في الجملة وينفيه تصحيح النظر وتجديده وحين فرغ من تعريف العلم أخذ في تعريف الظن بقوله ... والظن تجويز يكون راجحا
أي إذعان نفس المجوز بوقوع أحد الأمرين بعينه دون الآخر سواء كان الحال كذلك في الواقع أو لا والمراد بالأمرين طرفا الممكن كوجود زيد وعدمه إذ كل من الواجب والممتنع لا يتصور فيه التجويز المذكور ... والوهم مرجوح فخذه واضحا ...
الوهم تجويز مرجوح فهو الطرف المقابل للظن الذي أذعنت النفس لتجويز وقوعه وفي قوله فخذه واضحا لطف لا يخفى ... والاستوا شك والاعتقاد ...
أي استواء طرفي الممكن والمراد إذعان النفس بإمكان وقوع كل من الأمرين بدلا عن الآخر لا مزية لأحدهما عن الآخر تقتضي رجحان وقوعه دون الآخر عند المجوز هو الشك وقد يطلق لغة علىالظن وقوله والاعتقاد مبتدأ خبره قوله ... جزمك بالشيء كما أفادوا ...
فخرج من قوله جزمك الظن والوهم إذ لا جزم فيهما وهو مبني على أن الاعتقاد قسم ثالث مقابل للعلم وللظن وقد يطلق على ما يشملهما مع غيرهما فهو كالعلم بمعناه الأعم وقد يطلق على العلم بالمعنى الأخص وقوله ... لا تسكن النفس به فإن غدا ...
جملة لا تسكن النفس صفة لموصوف محذوف أي جزمك بالشيء جزما لا تسكن النفس به وجملة كما أفادوا جملة اعتراضية جيء بها لإصلاح النظم وفيها إشارة إلى أن في كلامهم شيئا لأن أخذ عدم سكون النفس خلاف المطلوب إذ يرد عليه بأن الجزم بالشيء ينافي عدم سكون النفس فلا يمكن الجزم مع عدم سكونها وقد يجاب بأن المراد الجزم هنا في الجملة بمعنى أن طرفي الأمر المعتقد مما يجوز في نفس الأمر أن يكون على خلاف ما اعتقد ولا يمتنع حينئذ أن ينتفي سكون النفس أو يكون في نفس الأمر كما أعتقده ولكن
لا يمتنع أن ينتفي ذلك الجزم والاعتقاد معه بانتقاله إلى خلاف ما كان عليه كما يتفق في كثير من الاعتقادات فكأنه قيل الاعتقاد هو الجزم الذي يقبل التشكيك في الجملة أشار إليه السعد في حواشي شرح العضد
ثم إنه ينقسم الاعتقاد إلى صحيح وفاسد كما أفاده قولنا ... مطابقا فهو الصحيح أو عدا ...
ذلك هو فاسد وجهل فالصحيح من الاعتقاد ما طابق الواقع والفاسد بخلافه فالأول كاعتقاد المقلد بمشروعية رفع اليدين في تكبيرة الإحرام في الصلاة مثلا والثاني كاعتقاد الملاحدة أن العالم قديم فهو اعتقاد فاسد ويقال له جهل مركب أيضا إذ هو جهل لما في الواقع وجهل بكونه جاهلا
واعلم أن مطابقته للواقع قد تكون معلومة بالدليل لنا كاعتقاد حدوث العالم لقيام الأدلة عليه التي يمكن معها معرفة مطابقة الاعتقاد للواقع ومثل مسألة رفع اليدين فيما مثل وقد لا يعلم بالأدلة ولا ضير في ذلك لأن حقيقة الاعتقاد الصحيح مطابقته للواقع لا الاطلاع عليها كما قلناه في المجتهد المصيب للحق المأجور أجرين لأنه لا يعرف إصابته للحق إلا يوم الجزاء أو بخبر الرسول صلى الله عليه و سلم وقد فقد الوحي وإذا عرفت هذا فلا يرد الترديد الذي أورده الجلال في شرح الفصول من أنه إن أريد الواقع في نفس الأمر فكيف السبيل إلى ذلك ولا يتم إلا في ما طريقه التواتر أو كان ضروريا وإن أريد ما هو حاصل عند المعتقد فكذلك الفاسد
ولا يخفى أن المعتقد ليس عنده مطابقة واقع ولا عدمها فكيف يجعله قسيما لما طابق في نفس الأمر فالتحقيق أنه ليس المراد إلا مطابقة ما في نفس الأمر ولا يلزم الاطلاع عليها في المغيبات ولا في غيرها فمن اعتقد أن زيدا في الدار لأمارة دلت على ذلك وسكنت إليه نفسه وانكشف أنه فيها فاعتقاده صحيح وإن لم يكن فيها فهو فاسد
واعلم أنه قد تحصل من قوله والعلم معنى يقتضي السكونا إلى هنا تعريف الأقسام كلها فالعلم هو المعنى الذي اقتضى سكون النفس بما علمته وهو الذي يعبرون عنه بانه التصديق الجازم المطابق مع سكون النفس والاعتقاد الصحيح هو التصديق الجازم المطابق مع عدم سكونها والاعتقاد الفاسد هو التصديق الجازم غير المطابق والظن هو الإدراك الراجح غير الجازم والوهم هو الإدراك غير الجازم المرجوح والشك هو الإدراك غير الجازم المستوي الطرفين وبقي من الأقسام المشار إليها في النظم الجهل وهو قسمان مركب وبسيط فأشار إلى الأول قولنا ... مركب جاء بهذا النقل ...
صفة لقوله جهل فالجهل المركب هو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع وإنما سمي مركبا لأنه جهل المدرك ما في الواقع فهذا جهل أول وجهل أنه جاهل فهذا جهل ثان فكان مركبا وهو الاعتقاد الفاسد ومثاله المثال المتقدم وسواء كان هذا الإدراك مستندا إلى شبهة أو تقليد قال المحققون إن هذا الجهل يختص بالتصديقات ولا يجري في التصورات بناء على ما هو عندهم من الحق من أن التصورات لا تحتمل عدم المطابقة بخلاف التصديقات قال في شرح المواقف لا يوصف التصور بعدم المطابقة أصلا فإنا إذا رأينا من بعيد شبحا هو حجر مثلا وحصل منه في أذهاننا صورة إنسان فتلك الصورة صورة إنسان وعلم تصوري له والخطأ إنما هو في حكم العقل بأن هذه الصورة للشبح المرئي إنسان فالتصورات كلها مطابقة له موجودا كان أو معدوما أو ممتنعا وعدم المطابقة في أحكام العقل المقارن لتلك التصورات
فهذا هو القسم الأول من قسمي الجهل والثاني منه ما في قولنا ... والفقد للعلم يسمى جهلا ... وهو البسيط فاتبع ما يملا
والفقد هو العدم فقده يفقده فقدا وفقدان وفقودا عدمه قاله في القاموس فالمراد عدم العلم بالشيء عمن من شأنه أن يكون عالما فخرج الجماد والبهيمة ولا يتصفان بالجهل وفي جمع الجوامع أنه انتفاء العلم بالمقصود قال فخرج الجماد والبهيمة لأن انتفاء العلم إنما يقال فيمن من شأنه العلم وخرج بقوله بالمقصود ما لا يقصد كأسفل الأرض وما فيه فلا يسمى انتفاء العلم به جهلا ودخل في عدم العلم بالشيء السهو والغفلة والذهول قال الآمدي الذهول والغفلة والنسيان عبارات مختلفة لكن يقرب أن تكون معانيها متحدة وكلها مضادة للعلم بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه
وفي جمع الجوامع وشرحه السهو الذهول أي الغفلة عن المعلوم الحاصل فينبهه له أدنى تنبيه بخلاف النسيان فهو زوال المعلوم فيستأنف تحصيله ... فصل حوى الأدلة الشرعية ... وهي أصول ما أتت فرعية ...
بعد تعريف الدليل وما تفرع عنه من العلم وأقسامه أخذ في ذكر الأدلة الشرعية وهي الكتاب العزيز والسنة النبوية والإجماع والقياس فهذه أصول المسائل الفرعية
ووجه الحصر في الأربعة أن الدليل إما أن يكون صادرا عن النبي صلى الله عليه و سلم أو لا والأول إما أن يكون قولا فقط مع قصد الإعجاز فهو الكتاب أو لا يكون كذلك يعني بل أعم من القول مع عدم قصد الإعجاز فالسنة والثاني إما أن يكون صادرا عن جماعة معصومة فهو الإجماع أو لا فالقياس ولم يجعل الاستدلال قسما مستقلا لكونه عائدا إلى الأربعة كما يأتي تحقيقه ولما كان الكتاب أصل الأدلة قدم البحث فيه فقال ... أولها الكتاب فهو المنزل ... على الذي أوصافه لا تجهل ... محمدا قصدا لإعجاز البشر ... بسورة منه كأقصر السور
الكتاب لغة اسم المكتوب غلب في عرف الشرع على القرآن كما غلب في عرف العربية على كتاب سيبويه فهو علم بالغلبة للمجموع الشخصي المؤلف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس إلا أنه لا يخفى أنه لا بحث للأصولي عنه من هذه الجهة بل بحثه عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذلك إفراد آياته بل جمله الصادق عليها بعض آية فالمراد منه عند الأصولي المفهوم الكلي الصادق على المجموع وعلى أي بعض منه وتعريف الناظم هنا صادق على هذا المعنى كما أنه صادق على المعنى العلمي
وقوله وهو المنزل أي الكلام المنزل فالكلام جنس الرسم وقوله المنزل فصل يخرج ما لم ينزل من اللوح المحفوظ وقوله على الذي أوصافه لا تجهل فصل يخرج ما أنزل على غير محمد صلى الله عليه و سلم من الكتب السماوية وقوله لإعجاز البشر قيد تخرج به الأحاديث القدسية وغيرها من الوحي وقوله البشر ليس لإخراج غيرهم كالجن مثلا بل لأن الخطاب ظاهر في أن طلب التحدي وقع لهم غالبا وإن وقع للجميع أيضا في قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله وقوله بسورة من تمام الفصل الثالث بتحقيق المراد من التعريف ولبيان القدر الذي يكون به الإعجاز فإنه لو أطلق لتوهم أن الإعجاز بكله ومراده بقوله بسورة أي بقدر سورة من كلامهم لا أنها نفسها فإنه لا يعجز عن الإتيان بها ووضوح المراد كفى عن بيانه كما أن وضوحه في قوله منه أي من مثله لا منه كفى وضوحه عن بيانه وقد اتفقت كلمة الأصوليين على هذا الرسم وقد أفاد تميز القرآن عن غيره وهو المراد من الرسوم
وقد أوردت عليه أسئلة وأجوبة اشتمل عليها الفواصل لا حاجة إلى التطويل بها ومما أورد ولم يذكره فيها أن تعليل الإنزال بالإعجاز لم يثبت في كتاب ولا سنة وأنه وإن وقع التعجيز بمثله فلذلك آية من آياته لا علة لتنزيله
قلت جوابه أنه قد طلب تعالى من عباده المعاندين أن يأتوا بسورة من مثله وبعشر سور من مثله فيصح منا أن نعلل إنزاله بأنه إنزال لإعجازهم وإن لم يات التعليل لإنزاله بذلك فإنه صالح للعلية في نفس الأمر لوقوع العجز عنه ولا ينافي ذلك أنه تعالى علل إنزاله بقوله كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب فإنها تعددت العلل للإنزال ولا مانع من التعليل نصا أو استنباطا وقد علله تعالى بأنه أنزله تبيانا لكل شيء ومنه بيان عجزهم عن معارضته إذا عرفت هذا الرسم وأنه لمفهومه الكلي الصادق على المجموع وعلى أي بعض منه فقد قال السعد في التلويح ثم كل من الكتاب والقرآن يطلق عند الأصوليين على المجموع وعلى كل جزء منه لأنهم إنما يبحثون عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذاك آية لا مجموع القرآن فاحتاجوا إلى تحصيل صفات مشتركة بين الكل والجزء مختصه بهما ككونه معجزا منزلا على الرسول مكتوبا في المصاحف منقولا بالتواتر فاعتبر بعضهم في تفسيره جميع الصفات لزيادة التوضيح وبعضهم التنزيل والإعجاز لأن الكتبة والنقل ليسا من لوازم القرآن لتحقق القرآن بدونهما في زمن النبي صلى الله عليه و سلم وبعضهم اعتبر الإنزال والكتبة والنقل لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحي ولم يدرك زمن النبي صلى الله عليه و سلم وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتبة في المصاحف لا ينفك عنهما في زمانهم فهما بالنسبة إليهم من أبين اللوازم وأوضحها دلالة علىالمقصود بخلاف الإعجاز فإنه ليس من اللوازم البينة ولا الشاملة لكل جزء منه إذ المعجزة هو السورة أو مقدارها أخذا من قوله فأتوا بسورة من مثله
ورسموا السورة بأنها الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث أيات كما في الكشاف ولا يقال إنه رسم دوري لتوقف معرفة القرآن على السورة ومعرفة السورة على القرآن لأخذ كل واحد منهما في رسم الآخر لأنا
نقول قد عرفت أن قوله بسورة منه ليس من فصول الرسم ولا من تمامه بل جيء به لإيضاح المعجوز عنه نعم قد قدمنا لك أنه أورد على رسم القرآن أسئلة وأجوبة ولم تكد تصفو عن كدر وأقول إنه لو قيل بتعذر رسم القرآن لشهرته كما قالوه في العلم على ما سلف من أنه لا يحد لجلائه ووضوحه لكان حسنا فإنه لا أوضح من القرآن ولا أشهر منه عند كل إنسان ممن يعرف الشرعيات إذ هو المراد في هذه العلوم فلا يلتبس القرآن عنده بغيره حتى يرسم له فإنه لا يزيده رسمه عنده إلا خفاء ولما زاد بعضهم تواترا في رسم القرآن كما عرفته من كلام السعد وهو الذي في الفصول وقد اعترضه في النظام فلهذا لم يدخله الناظم فيه بل ذكره شرطا للقرآنية كما في أصله فقال ... وشرطه في نقله التواتر ... فما أتى بغيره لا ينظر ...
أي أنه يشترط في كونه قرآنا تواترا نقله وهو نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب مع استواء الوسط والطرفين وأن يكون مستندا إلى أحد الحواس كما يأتي فما أتى نقله آحاديا فإنه لا تثبت له قرآنية فلذا قال فما أتى بغيره أي بغير التواتر لا ينظر أي لا ينظر إلى أنه قرآن وإن كان ينظر إليه من جهة آخرى في الاستدلال كما يأتي قلت هكذا أطبق العلماء عليه وعندي فيه توقف لأنا نعلم قطعا أنه كان يأتي جبريل إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فيلقي إليه الوحي بالقرآن فإذا سري عنه صلى الله عليه و سلم طلب واحدا ممن كان يكتب الوحي فيأمره بكتب ما أنزل الله تعالى فهذا هو الطرف الأول ثم يتناقله الصحابة بينهم ويحفظونه ويعرفه جماعة فالطرف هذا آحادي قطعا عن خبر من هو معلوم صدقه بالمعجزة وقد يكون آحاديا من الطرف الثاني وهو أن لا يبلغ الصحابة الذين يبلغون الوحي من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكونوا جماعة يحيل العادة إلى آخره ومن
عرف كتب الحديث والتفسير وأسباب النزول علم هذا علم يقينا ولماجمع أبو بكر القرآن أمر زيد بن ثابت أنه من أتى إليه بآية ومعه شاهدان أن يكتبها وأنه وجد زيد بن ثابت آخر أية في سورة براءه مع خزيمة بن ثابت وحده فأثبتها لأنه صلى الله عليه و سلم جعل شهادته بشهادة رجلين وعلل الجمهور شرطية التواتر في ذلك ما أشار إليه قوله ... لأنها تقضي بهذا العاده ... قطعا كما قرر في الإفاده ...
فهذا دليل الدعوى بأنه لا يثبت قرآنا إلا ما تواتر قالوا وذلك لأن القرآن لإعجازه الناس عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه مما تتوافر الدواعي على نقله تواترا وقوله كما قرر في الإفادة إشارة إلى أن هذا كلام أئمة الأصول الذين قرروه وفيه نزاع طويل قد أوضحناه في حواشي شرح الغاية ولا يخفى أنه الآن ومن قبل الآن قد صار كون القرآن ما حواه دفتا المصحف
إجماعا قطعيا لا يدخله تشكيك وأنه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... وحرموا بما عدا السبعية ... قراءة الذكر على البرية ...
قال في الأصل وتحرم القراءة بالشواذ وهي ما عدا السبع يريد قراءة نافع وأبي عمرو والكسائي وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة قالوا فهذه السبع متواترة وإنما أضفنا التحريم إليهم لما يأتي لنا من البحث في ذلك وقال الحافظ السيوطي في الإتقان عند الكلام على المتواتر والمشهور والآحاد وغيرها ما لفظه وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه أبو الخير بن الجزري قال في أول كتابه النشر كل قراءة
وافقت العربية ولو بوجه ووافقت إحدى المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أو العشرة أو غيرهم من الأئمة المقبولين ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عن من هو أكثر منهم هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق كما صرح بذلك مكي والداني والمهدوي وأبو شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد خلافه انتهى
وقال فعرفت من كلامه أن السبع لا يعتبر بها حتى توافق الثلاث القواعد التي ذكرها وإن ما وافقها فهو القرآن من السبع كان أو من غيرها وادعى ابن الجزري أن هذا مذهب سلف الأمة كما سمعته وقد قال الحافظ السيوطي إنه أحسن من تكلم في ذلك وفي قوله بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن جمل منه لحديث أنزل القرآن على سبعة أحرف على القراءات وهو قول من قريب أربعين قولا ذكرها في الإتقان وهجن على من قاله إنه أريد به القراءات السبع المعروفة الآن التي أشير إليها في النظم وفي أصله
ثم إن ها هنا بحثين الأول قد عرفت أن الدليل أنه لا يكون القرآن إلا ما تواتر هي العادة التي أشرنا إليها وليس لهم دليل غيرها وقد تعقب بعض المحققين هذا الدليل وقال مثال العادة طلوع الشمس من المشرق وغروبها من المغرب واستمرار الجبل حجرا ثم قال فهذه العادة التي يحال على مثلها وعمدتها حصول العلم بمقتضاه ويترتب على العلم بمتقضاها العلم بمكابرة منكرها وهذه العادة التي ذكرت هنا المسلم منها لزوم تواتر في الجملة وجمهور التفاصيل وقد وقع بفضل الله تواتر أكثر مما تقضي به العادة من ذلك وأما ما ادعوه هنا فلا قضى به عقل ولا ساعده الواقع وكثير من الناس العقلاء العلماء لا سيما المختصون بعلم القرآن على خلاف هذه الدعوى وتهجينها وقد ذكروا ذلك وأقرب شيء من الكتب المحيطة المتداولة النشر لابن الجزري ومن ادعى على الناس أنهم منكرون للتواتر الضروري الذي يراجع كل منصف نفسه بعد مبالغته في البحث فيحكم على دعواهم بالبطلان فمنزلة هذا المدعي الإهمال انتهى
فهذا البحث الأول في قولهم وكل ما لم يتواتر فإنه ليس بقرآن الذي أشار إليه قوله فما أتى بغيره لا ينظر البحث الثاني على قول ابن الجزري الذي نقله في الإتقان واستحسنه من أن كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها إلى آخر كلامه فإنه قد أورد عليه ذلك المحقق أن الذي اشترطه غير صحيح أما موافقة خط المصحف فلا دليل على ذلك كيف وقد خولف المصحف في مواضع لم يقرأ أحد على مقتضاه فيها فهل قرأ أحد أو لاأذبحنه ولا أوضعوا خلالكم ونحو ذلك ولا نسلم استقرار خط المصحف على قانون والعمدة إنما هو النقل والمصاحف وضعت لضبط الجملة
ولا وقع عليها إجماع بل ربما لم يطلع عليها جمهور سادات الصحابة وحفاظهم كأبي وابن مسعود المشهور لهم بجودة القراءة وكذلك وغيرهم وذلك لا يخفى على الباحث
وكذلك اشتراط وجه في العربية غير صحيح وإن كان عليه تصرف الزمخشري وكثير وهل يقضي بما صح من امرىء القيس على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو العربي حقا المتلقي له عن جبريل عن الله تعالى وأما العربي فإنما نعمل بكلامه لظننا أنه تكلم على حسب الوضع ولذا إذا شذ لم يعمل بقوله إذا عارضه الجمهور حتى نجوز تغليظه لظننا في بعض المواد أنه تكلم على غير الوضع وقد ذكر هذا ابن الحاجب توجيها لقول سيبويه إن بعض العرب يغلطون ثم يقال لهؤلاء المدعين أتشكون في هذا الجمهور من سادات الصحابة كأبي وابن مسعود وابن عباس
وعلي بن أبي طالب وفاطمة في قراءة من أنفسكم بفتح الفاء وعائشة في مثل تلقونه بألسنتكم ومن لا يحصى من أكابرهم منهم من روي عنه القراءة والقراءتان ومنهم المكثر جدا كأبي وابن مسعود ومنهم المتوسط ثم كذلك التابعين وتابع التابعين فإن شككتم في روايتهم وأنهم غلطوا فقد شككتم في جملة الدين فإنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه و سلم وبيننا وما رووه قرآنا أحق بالاحتياط والتحفظ وإن كان شككتم في من بعدهم فكذلك يلزم تعطيل الشريعة لأنهم رواتها
وأما قولهم إنه يجوز أن يدخل أحدهم مذهبه في مصحفه ويجعله في نظم القرآن مع كثرة ذلك في مصحف أبي وابن مسعود وسائر من رويت عنهم القراءات فرميهم بهذا لا يجوز ولا يجوز فيهم فهم خير القرون وهم حملة الدين والسفرة بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأمة فما أسمج هذا التجويز وأوقح وجه من جوزه انتهى
قلت وبهذين البحثين يعرف الحق ثم لا يخفى أن كلام ابن الجزري الذي استحسنه السيوطي ونقله في الفصول قاض بعدم القول بوجوب تواتر
أفراد القرآن لقوله صح سندها فإن المتواتر لا ينظر في سنده أصلا ولذا قال ابن الجزري بعد ذلك ما لفظه وقولنا وصح سندها نعني أن يروى تلك القراءة العدل الضابط عن مثله هكذا حتى ينتهي وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن غير معدودة عندهم من الغلط أو ما شذ بها بعضهم قال وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ماجاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن قال وهذا لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من رسم وغيره إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن الرسول صلى الله عليه و سلم وجب قبوله وقطع فيه بكونه قرآنا سواء كان موافقا للرسم أم لا وإذا شرطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابتة عن السبعة ذكره في الإتقان
فتحصل من مجموع ما ذكر عدم تمام دعوى تواتر السبع وعدم تحريم القرءاة بغيرها كما في الأصل والنظم وهو أيضا غالب ما في كتب الأصول أو كلها والنظم إنما يأتي بما في الأصل وإن كان الناظم يختار خلافه وقد أشرنا إلى ذلك بقولنا وجزموا وأما حكم ما عدا السبعة فقد أشار إليه قولنا ... وهي نظير الخبر الآحادي ... يلزم ما فيها على العباد ...
أي أن القراءة الخارجة عن السبع في حكمها كالخبر الآحادي وحكمه وجوب العمل به فكذلك الشاذة هذا مختار الجمهور قالوا فيعمل بقراءة ابن مسعود في قوله فصيام ثلاثة أيام متتابعات ويجب التتابع قالوا وإنما يعمل بها في الأحكام العملية لا العلمية لأن الآحاد لا تفيد العلم واستدلوا على ذلك بأنه لا يخلو من أن يكون قرآنا أو سنة لأن الغرض أن نقلها عنه صلى الله عليه و سلم صحيح وترك شيء من صحيح القرآن أو السنة لا يجوز وخالف الشافعي وجماعة فقالوا قد اتفقنا على شرطية تواتر القرآن وقد
انتفت قرآنيتها لعدم تواترها وبكونها نقلت قرآنا انتفت عنها السنية وأجيب بأن العمل بها ليس لوصفها أعني القرآنية أو السنية بل لذاتها التي هي صحة نسبتها إلى الشارع في الأول والخطأ في الوصف بالقرآنية إن سلم وجوب التواتر لايستلزم الخطأ في نسبة الذات التي هي نسبة الحكم إلى الشارع ولم يشترط في الرواي أن لا يخطىء رأسا بل يكفي رجحان ضبطه على سهوه والفرض أن الرواي كذلك والندرة لا تبطل الرجحان ... وآية من صدر كل سورة ... لفظة بسم الله في المشهورة ...
وفي المشهور صفة لموصوف محذوف أي في الأقوال المشهورة واعلم أنه لا خلاف في ثبوت البسملة خطأ في أوائل السور وأنها قرآن في سورة النمل أعني قوله إنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وإنما الخلاف في كونها قرآنا منزلا أوائل السور فمن ناف لقرآنيتها في جميعها ومن مثبت ثم المثبتون اختلفوا هل هي آية مستقلة أنزلت للفصل بين كل سورتين أو آية من الفاتحة فقط أو آية منها بعض آية من غيرها من السور فالذي رجحه الجمهور ما أشار إليه النظم من أنها آية من أول كل سورة واستدلوا على ذلك بإجماع أهل البيت حكاه في حواشي الفصول وحكاه ابن عطية النجراني في تفسيره وبأنها وردت الأحاديث بذلك المحصلة للتواتر المعنوي فإنه نقل السيوطي في الإتقان ثلاثة عشر حديثا ثم قال فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنوي بكونها قرآنا منزلا أوئل السور وزاد عليها ابن الإمام في شرح الغاية حتى بلغت سبعة وثلاثين حديثا بما ذكره في الإتقان
قلت لكن من نظر بعين الإنصاف في تلك الأحاديث علم أنها بمراحل
عن إفادة التواتر المعنوي الدال على كونها قرآنا منزلا في أوائل كل سورة وقد صرح القاضي سيلان في حاشيته على شرح الغاية بأنه لا شيء منها يدل على المطلوب غير ما أخرجه الثعلبي عن علي عليه السلام موقوفا أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص وكان يقول هي تمام السبع المثاني فقوله إذا افتتح السورة هي أعم من الفاتحة وغيرها وقوله هي تمام السبع المثاني دال على أنه يرى أنها آية من الفاتحة ومن غيرها من السور والأحاديث في جهره صلى الله عليه و سلم بها في صلاته وعدمه متعارضة وغير ناهضة على إثبات المدعي وهي أحاديث كثيرة قد ساقها النووي في شرح المهذب وأطال
قال في الفواصل وأحسن الأدلة إجماع الصحابة على تجريد المصاحف عما لم يكن قرآنا وبالمبالغة في ذلك حتى لم يثبتوا آمين ومنع بعضهم العجم أي الإعجام وكون البسملة سنة مشهورة في كل أمر ذي بال لا يسوغ كتابتها في المصاحف وإلا لكتبت الاستعاذة فهي آكد السنن عند تلاوته بل قد قيل بوجوبها كما هو ظاهر الأمر بقوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله
وأيضا قد تواتر ثبوتها في أول كل سورة في المصاحف وهذا كاف في تواترها قرآنا حيث قد ثبت إجماع الصحابة على أن لا يكتبوا إلا ما كان قرآنا إلا أنه إذا التفت نظرك إلى الأحاديث الدالة على إنزالها أول كل سورة للفصل ولتعريف النبي صلى الله عليه و سلم بانقضاء السورة عرفت أنه وجه نير لكتابتها في المصاحف وعذر واضح في عدم النكير من الصحابة رضي الله عنهم وحينئذ فلا يتم الاستدلال على المدعى بدليل قطعي وقد بسطنا البحث في حواشي البحر المسماة بالاستظهار
مسألة في المحكم والمتشابه ... وما أتى متضحا معناه ... فمحكم وما الخفا حواه ... خلافه وليس فيه ما لا ... معنى له حاشاه عمن قالا ...
اشتمل النظم على أمرين الأول أن في آيات القرآن محكما ومتشابها كما أفاده نص كلام الله تعالى حيث قال منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وقد وصف الله تعالى القرآن بأن آياته كلها محكمة في قوله كتاب أحكمت آياته ووصفها كلها بالمتشابه الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها فالوصف لكل آية بالإحكام مراد به إتقان نظمه والوصف كلها بالمتشابه مراد به تماثله بلاغة وفصاحة وإعجازا فعلى هذا المعنى كل محكم متشابه وكل متشابه محكم وأما المقصود هنا فهو ما في الآية الأولى وقد سمعت تفسير المحكم بأنه ما كان معناه متضحا والمتشابه بخلافه وقد فسرهما الطيبي بذلك حيث قال والمراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه بخلافه لأن اللفظ الذي يقبل المعنى إما أن يحتمل غيره أو لا الثاني النص والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى أرجح أو لا الأول هو الظاهر والثاني إما أن تكون معانيه متساوية أو لا
والأول هو المجمل والثاني هو المؤول فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه انتهى ما نقله السيوطي عنه في الإتقان
فقول الناظم معناه أي المراد ما عني به فيخرج المؤول من تعريف المحكم إذ هو من المتشابه وإن صدق عليه أنه متضح المعنى المستفاد من الوضع فليس هذا هو المعني وكذا في المتشابه ليس المراد بالمعنى إلا ما عني به فيدخل المؤول فيه فإنه وإن لم يكن معناه خفيا من حيث الوضع فإنه خفي من حيث المعنى المقصود منه
وفي ترجيح أساليب القرآن أن المتشابه يطلق على معنيين لغوي وشرعي أما اللغوي فهو ما لا يمكن فهم المراد منه وهو المسمى بالمجمل في أصول الفقه وقد يكون في المفرد كالقرء للحيض والطهر والمختار اسم الفاعل واسم المفعول وفي المركب نحو أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
والقسم الثاني من المتشابه الشرعي هو ما لا يتضح في العقل حكمته أو صحته أو معناه كالحروف في أوائل السور وإنما انقسم المتشابه إلى القسمين لأن التشابه تفاعل من أشبه هذا ذلك ولما كانت الأمثال والأشباه يلتبس بعضها ببعض كثيرا صار الاشتباه من ملزومات الالتباس فكأنه قال تعالى منه آيات بينات لا لبس فيها وأخر محل لبس ولا يخفى أن اللبس يصدق على ما بلغ غايته فيه بأن لا يفهم معناه العارف باللسان أصلا وذلك كالحروف المقطعة أوائل السور فإنه لم يأت فيها دليل قاطع على تعيين معنى من المعاني التي قالوها وقد بلغت قريب عشرة أقوال كلها تظنين وتخمين وكل من
قال بقول قائل بأنه يجوز أن يريد الله معنى لا يعرفه المكلف فكونها لا يعرف لها معنى معين قطعا اتفاق بين الأمة وهذا مقتضى قراءة الوقف على الجلالة والوقف عليها يروى عن أربعة من علماء الصحابة وعن جماهير القراء وهذا القسم هو الذي سلف أنه متشابه شرعي لأن تشابهه ليس من حيث اللغة إذ لم تأت عن أهل اللغة هذه الأحرف المقطعة على هذا الأسلوب إذا عرفت هذا القسم فحظ المؤمن أن يقف على الجلالة وأن يقول آمنا به كل من عند ربنا واعتقاد أنه لا يعلم تأويله إلا الله وليس هذا القسم من مباحث أصول الفقه إنما من مباحثه القسم الثاني وهو ما فيه لبس دون ذلك فقد قدما أمثلته وهو مما يفهم معناه ويزال لبسه بالرد إلى المحكم بالأدلة ولذا كانت الآيات المحكمات أم الكتاب لأنه يرد إليها المتشابه فإن قيل يلزم على هذا التقدير أن ضمير تأويله عائد على أحد قسمي المتشابه وهو خلاف الظاهر قلت هذا لا ضير فيه فقد جاء نظيره في القرآن قال تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى ان قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك فإن المطلقات شامل للبائنات وضمير بعولتهن للرجعيات ووهن بعض المطلقات وهذا هنا نظيره
واعلم أن هذه الآية من المتشابه لأنه لا يتضح معناها إلا بعد ردها إلى المحكم فإن ضمير تأويله يتبادر عوده إلى المتشابه من حيث هو الظاهر وإنما صرفناه إلى أحد قسميه بالدليل وهو أن من المعلوم أن ذلك القسم الذي يرد إلى المحكم وهو ام الكتاب أنزله الله تعالى للعمل به وفهم معناه والتكليف بالبحث عنه كما في قوله أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه غير متضح المعنى لتردده بين الزوج والولي فيجب إرجاعه إلى أم الكتاب حتى يتضح المراد لأنه أنزل للعلم به فلا بد من إرجاعه إلى المحكم فهذا الأمر الأول مما اشتمل عليه النظم والأمر الثاني قوله وليس فيه ما لا معنى له فإنه إشارة إلى رد قول الحشوية بسكون الشين المعجمة كما قاله الزركشي نقلا عن
ابن الصلاح قال وفتحها كثير على الألسنة وهو غلط قال لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فلما أنكر ما قالوا قال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها وعن ابن الصلاح إجازة الفتح
ومن أقوالهم المنكورة تجويز أن يكون في القرآن ما لا معنى له أصلا قال الزركشي فإنهم قالوا يجوز بل هو واقع كمثل كهيعص ونحوها من الحروف المقطعة أوائل السور ومثل كأنه رؤوس الشياطين ثم قال والصحيح أن ذلك ممتنع إذ اللفظ بلا معنى هذيان لا يليق بالعاقل فكيف بالباري سبحانه إلى آخر كلامه ثم ذكر بعد ذلك تنبيها فقال إن خلاف الحشوية فيما له معنى لكن لم نفهمه كالحروف المقطعة وآيات الصفات ثم قال أما ما لا معنى له أصلا فباتفاق العلماء لا يجوز وروده في كلام الله تعالى وما ذكره في التنبيه فهو إشارة إلى الاعتراض على ابن السبكي حيث قال في جمع الجوامع ولا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة خلافا للحشوية وكلام ابن السبكي ككلام الناظم والمسألة نقلية ولم يأت أحد الرجلين بالبرهان على ما جعله محل النزاع ولو كان محله ما قاله الزركشي لما كان لتخصيصه بالحشوية معنى لأن القول بأن الحروف المقطعة أوائل السور وآيات الصفات مما له معنى لا يفهم كلام جماعة من أئمة التحقيق كما أشرنا إليه قريبا قال الزركشي إن الحاق الحديث يريد قول الجمع أي جمع الجوامع
والسنة ذكره صاحب المحصول وقال الأصفهاني في شرحه لم أره لغيره
وقوله حاشاه عمن قالا أي أنزه القرآن أو الرب تعالى عن قول من قال إن فيه ما لا معنى له
مسألة في أنه لم يأت في القرآن ما لا يعني به غير ظاهره بغير دليل كما أفاده قولنا ... ولا به يعني خلاف الظاهر ... بلا دليل فاستمع وذاكر ...
عطف على قوله وليس فيه ما لا معنى له أي ليس فيه يعني القرآن لفظ يراد به خلاف ظاهره من غير دليل يقوم على حمله عليه وهذا أشار إلى رد خلاف المرجئة بالهمزة من الإرجاء وهو التأخير وقد تخفف الهمزة بمثناة تحتية وقال في القاموس أرجأ الأمر أخره ومنه سميت المرجئة ويقال المرجية بالياء مخففة
واعلم أن المرجية ست فرق كما في الملل والنحل فعد منهم فرقة تقول إن آيات الوعيد خاصة بمستحل الحرام دون من يفعله معتقدا للتحريم وفرقة قطعت بغفران ما دون الكفر وأن الفاسق لا يعاقب قطعا فهاتان الفرقتان ينبغي أن تكونا مراد الأصوليين في هذه المسألة لأنهم حملوا آيات الوعيد على خلاف ظاهرها من غير دليل قال أئمة الأصول ردا عليهم الصحيح أن
ذلك لا يجوز لأن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه فهو كالمهمل واحترز بقوله بغير دليل عن ورود العموم وتأخر الخصوص ونحوه
قلت واعلم أنه نقل الشارح التلميذ رحمه الله عن شرح الشيخ لطف الله للفصول أن المرجئة الذين يجوزون في آيات الوعيد شروطا واستثناء بلا دليل قالوا في نحو قوله تعالى إن الفجار لفي جحيم المعنى إن أراد الله عذابهم أو إلاأن يعفو عنهم أو إن كانوا كفارا ونحو ذلك وقد أجيب عليهم بأنه مع كونه لا دليل عليه يلزم مثله في الأمر والنهي والوعد فيقال في مثل أقيموا الصلاة إن المراد إن اخترتم ذلك أو إن لم يشغلكم أرب أو نحو ذلك وأنه يؤدي إلى الانسلاخ من الدين وتجويز أنا غير مكلفين بما أمرنا به ونهينا عنه وأنا على غير ثقة مما وعدنا به من الجنة هذا حاصل ما نقله
وقد أورد عليه أن القائل بعدم إدراك المتشابه قائل بأنه أريد به غير ظاهره بلا دليل يبين المراد منه وإن قولكم إن المرجئة قالوا ذلك بلا دليل غير صحيح لأنكم إن أردتم بلا دليل أصلا فقد استدل المرجئة لما زعموه بأدلة معروفة وإن أردتم بلا دليل صحيح فإن أردتم صحيح في نفس الأمر فلا يلزمهم لاحتمال الخطأ في الأدلة لما في نفس الأمر وإن أردتم الصحة عندهم وبحسب معتقدهم فما قالوه إلا وهو عندهم صحيح قطعا وإذا عرفت هذا عرفت أن الأولى أن يراد بالمرجئة من ذكرنا من فرقهم وأنه كان الأولى أن يقول أهل الأصول خلافا لبعض فرق المرجئة على أنه لا يتم أن الفرقتين قالوا ما قالوه لا عن دليل ولذا قلنا فاستمع وذاكر إشارة إلى أن المسألة لا تصفو عن كدر ولا تخلو عن نظر
ولما نجز الكلام على الدليل الأول وهو الكتاب أخذ في الكلام على الدليل الثاني وهو السنة فقال ... فصل وأما سنة المختار ... محمد صلى عليه الباري ...
كأنه قال أما الكتاب فكذا وأما السنة فلأنها قسيمته كذا في نسخ
جرى عليها قلم المؤلف ولعل ما في هذه النسخة أظهر والله أعلم وذلك لأنها قسيمته في الدليلية أي في كون كل واحد منهما دليلا
واعلم أن السنة لغة الطريقة المعتادة قال الله تعالى سنة الله التي قد خلت أي طريقته وعادته ومنه حديث عشر من سنن المرسلين أي من طرائقهم وسماها في القرآن بالحكمة كما قال أئمة التفسير في قوله تعالى ويعلمه الكتاب والحكمة إن المراد بالحكمة هي السنة وتطلق على الخير والشر ومنه حديث من سن في الإسلام خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به الحديث أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم والضياء عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه
وتطلق في عرف المتشرعين على ما يقابل الفرض وعلى ما صدر عنه صلى الله عليه و سلم من أقواله وأفعاله وتقريرارته وهذا هو المراد هنا كما يفيده قوله ... فإنها الأقوال والأفعال ... كذلك التقرير فالأقوال ...
فإنه اشتمل النظم على ذكر أقسامها الثلاثة وهكذا عد أقسامها أكثر أئمة الأصول ولم يذكروا الترك لأن التروك داخلة في الأفعال لأنها كف والكف فعل ولا يقال والتقرير كف أيضا فلا حاجة إلى ذكره لأنا نقول إنما قلنا بدخول التروك في الأفعال توجيها لما وقع منهم كعبارة الغاية بلفظ ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير نعم عبارة جمع الجوامع بلفظة السنة
أقوال محمد صلى الله عليه و سلم وأفعاله قال شارحه والتقرير داخل في الأفعال لأنه كف ومثلها عبارة أصل النظم إذا عرفت هذا فالأقوال هي أقواله صلى الله عليه و سلم الصادرة عنه بعبارته فالقرآن خارج عنها وكذلك الأحاديث القدسية لأنها من قول الله تعالى ولما اشتركت الثلاثة في كونها سنة وأدلة أشار إلى التفاضل بينها في القوة بقوله فالأقوال وهو مبتدأ خبره قوله ... أقوى من الاثنين والمختار ... بأن ما يفعله المختار ...
المختار الأول مبتدأ خبره الجملة بعده والمراد بالمختار الأول القول وبالثاني الرسول صلى الله عليه و سلم فإن من أوصافه المختار لأن الله اختارة لرسالته واصطفاه وفي البيت جناس تام وكون الأقوال أقوى من الأفعال والتقارير وهو المختار وذلك لاستقلالها بالدلالة على تعدي حكمها إلينا فلا يحتاج معها إلى غيرها بخلاف الأفعال فلا يستدل بها بدون القول ولعمومه فإن القول يدل على الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس بخلاف الفعل فإنه يختص بالموجود المحسوس إذ المعقول والمعدوم لا يمكن مشاهدتهما وللاتفاق على أن القول دليل بخلاف الفعل فإن من الناس من يقول إن الأفعال لا يستدل بها ولا تكون بيانا فهذه ثلاثة وجوه لكون الأقوال أقوى من الأفعال وإذا كانت أقوى من الأفعال فبالأولى أن تكون أقوى من التروك
واعلم أنه قال الزركشي إنه كان ينبغي لصاحب جمع الجوامع أن يزيد وهمه أي يجعل همه صلى الله عليه و سلم بالفعل من من أقسام سنته كالقول والفعل قال وقد احتج الشافعي في الجديد على استحباب تنكيس الرداء في خطبة الاستسقاء بجعل أعلاه أسفله بحديث أنه صلى الله عليه و سلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها
فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه فجعلوا ما هم به ولم يفعله سنة انتهى قلت وفي الخلافيات للبيهقي برجال ثقات وهو عن أبي داود من حديث عائشة وفيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلت أو حول رداءه وعند أحمد أنه حول الناس معه قال ابن دقيق العيد في الإمام إن إسناده على شرط الشيخين ففيه انه وقع منه صلى الله عليه و سلم التحويل فعلا على أنه قد تعقب أبو زرعة كلام الزركشي قائلا بأن الهم امر خفي لا بد أن يقترن بقول أو فعل فيعود إليهما
ولما كانت أفعالة صلى الله عليه و سلم تنقسم إلى أربعة أقسام جبلي وخاص به وما ليس كذلك وبيان المجمل أشار إليهما الناظم بقوله ... إن لم يكن من واضح الجبلة ... أو كان خاص فيه بالأدلة ...
قوله من واضح الجبلة بالجيم والموحدة في القاموس أنها كطمرة الخلقة والطبيعة انتهى والجبلي كالقيام والقعود والأكل والشرب أي أنفسهما لا هيئاتهما من الأكل باليمين واختصار اللقمة وإطالة المضغ والقعود غير متربع وفي الشرب ثلاثة أنفاس وغير ذلك من حيث كونها من ضروريات البشر لا من حيث لها تعلق التشريعات
والثاني ما قام الدليل على انه من خواصه صلى الله عليه و سلم وذلك كإيجاب الوتر والمشاروة والنكاح بلا شهود وحل الجمع بين تسع نسوة
والثالث وهو ما ليس جبليا ولا مختصا به يأتي حكمه فالأولان لا يشرع التأسي به صلى الله عليه و سلم فيها بل يحرم في الثاني والثالث يأتي حكمه وأما الرابع وهو الفعل الذي قصد به البيان وقد أشرنا إليه بقولنا ... أما إذا كان بيان المجمل ... فهو كما بين والأمر جلي ...
في أن حكمه حكم ما بينه من وجوب أو غيره وذلك نحو أفعال الحج مع قوله خذوا عني مناسككم فإن أفعاله صلى الله عليه و سلم فيه بيان لمجمل قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم في الصلاة صلوا كما رأيتموني أصلي فإن أفعاله في الصلاة بيان لمجملها في القرآن والسنة وهذا الرابع لم يذكره في أصل المنظومة فهو من الزيادات عليه والحكم فيه له جهتان كما قاله الزركشي من حيث البيان فهو تابع لما بينه ومن حيث التشريع واجب مطلقا أي يجب عليه صلى الله عليه و سلم البيان وإن كان حكم المبين الندب واتباع التأسي إنما هو في الأول وفلأ قوله واضح الجبلة إشارة إلى أن ما لم يتضح فيه أمر الجبلة بل تردد بين الشرعي والجبلي أنه لا يجزم بأنه جبلي كما قاله في جمع الجوامع ومثله في الحج راكبا قال ففيه تردد هل
يحمل على الجبلي لأن الأصل عدم التشريع أو على الشرعي لأنه عليه السلام بعث مبينا للشرعيات قال وقد حكى الرافعي الوجهين في مسألة ذهابه صلى الله عليه و سلم إلى العيد في طريق ورجوعه في أخرى وقال إن الأكثرين على التأسي فهذه أحكام الثلاثة من أفعاله وأما الرابع وهو ما عداها وقد جعلناها ثالثا فيما سلف لما عرفت من أنه في أصل المنظومة كذلك فالحكم فيه ما أفاده قولنا ... كان التأسي واجبا علينا ...
وهو خبر قوله بأن ما يفعله المختار إلا أنه لما قيد صلة اسم إن بقوله إن لم يكن إلى آخره ووقع الاعتراض بين اسم إن وخبرها بقوله إن لم يكن إلى آخره طال الفصل بينهما وهو جائز إذا أدى إليه ارتباط الكلام وأخذ بعضه ببعض كما هنا والمعنى أن الذي يفعله المختار صلى الله عليه و سلم يجب علينا التأسي به فيه إذا لم يكن فعله ذلك جبليا أو خاصا أو بيانا لمجمل فإن الأولين لا تأسي فيهما والثالث حكمه حكم ما بينه من الأقوال فهو في التحقيق عائد حكمه إلى حكم القول فكأنه قول لا فعل فعرفت أن التأسي مفتقر إلى بيان حقيقته وقد أبانها قوله ... ورسمه فيما انتهى إلينا ... فعلك أو تركك فعل الغير ... متابعا في الوجه والتصوير ...
الأسوة لغة القدوة كما في القاموس وهنا رسمها الأصوليون بما سمعته قال عضدالدين معنى التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله انتهى
فقوله فعلك أو تركك لأنه يجري التأسي في الترك وقوله فعل الغير أي مثل فعل الغير وقرينة حذف مثل واضحة عقلية إذ لا يمكن فعل فعل الغير نفسه حتى يتوهم أن مفعول الغير مفعول فعلك وقوله تركك مثله وقوله متابعا في الوجه المراد من الوجه الحكم من وجوب أو ندب أونحوهما وفي نسخة أخرى من النظم في الحكم والنسخة الأولى متابعة لعبارتهم وقوله والتصوير أي مشابهة الفعل لفعل الغير في الصورة وقد أفاده قوله فعل الغير وإنما هو تأكيد وتفهيم وقد أبان الوجه المذكور بقوله ... فما علمنا وجوبا يجب ... وما علمنا حسنه فيندب ... إن كان للقربة فيه قصد ... ما لم فقل إباحة لما عدا ...
اعلم أن في حكم هذا القسم خلافا بين أئمة أهل الأصول وقد عرفت أنه ينقسم إلى قسمين الأول ما عرف وجهه وصفته والثاني ما لم يعلم فالأول إن كان الوجه هو الوجوب فأمته مثله في الوجوب قالوا للقطع بأن الصحابة كانوا يرجموه إلى فعله المعلوم وجهه وذلك يقتضي علمهم بالتشريك عادة ولقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهي الفعل على الوجه كما عرفت ولقوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا إلى قوله لكي لا يكون على المؤمنين حرج فلولا التشريك لما علل تزويج النبي صلى الله عليه و سلم بذلك في حق المؤمنين هذا إن علم وجه ذلك الفعل وإذا لم يعلم فينظر إن ظهر قصد القربة بالفعل ثبت رجحانه وهو مفاد الندب كما أفاده عجز البيت الأول وبتقييده بقوله إن كان للقربة خرج المباح فإنه حسن لكنه خرج بذلك القيد وأما الواجب فإنه وإن صدق عليه أنه حسن وأنه
يقصد به القربة فالسياق مناد على أنه غير مراد وإن لم تظهر القربة فيما فعله فإنه يدل على جوازه أي ما لم يظهر قصد القربة فذاك جائز لما عدا أي لما عدا ما عرف وجوبه ولما لا يعرف قصد القربة فيه فإنه يكون مباحا وهو الذي اختاره ابن الحاجب وذلك لفقد المعصية والوجوب والندب زيادة لم تثبت فتعين الجواز وقيل بل الوقف والدليل على الوقف أن الفعل متردد بين الوجوب والندب والإباحة ومجرد الفعل لا ينهض على معين منها فلم يبق إلا الوقف عن تعيين الحكم ومع جواز فعله للإباحة الأصلية لا تتحقق الإباحة الشرعية بل لعدم تحقق الحكم قلت لو قيل إنه لا يتحقق في حقه في فعله صلى الله عليه و سلم الإباحة فلا يتحقق مجهول الوجه لكان قويا لما عرف من أن المباحات تنقلب مندوبات بحسن النيات وهو صلى الله عليه و سلم أحق خلق الله بأن لا يفعل فعلا إلا بنية القربة فليس في أفعاله مجهول الصفة بل أقلها ما يكون وجهه الندب ولعله الذي حمله من قال بذلك في مجهول الصفة أي صفة الحسن لكنه رده ابن الحاجب بأنه لو كان للندب أو للإباحة لوجب التبليغ لأنها أحكام شرعية والفرض أنه ليس الموجود إلا مجرد الفعل ولذا عدل الناظم عن عبارة الكافل فإن عبارته وإلا فإباحة وقد عد أهل الأصول في المطولات صورا وأمثلة مما تدل على وجه الفعل فلا نطول بها ثم ذكرنا ما ذكره في الأصل بقولنا ... وتركه ما كان آمرا به ... ينفي الوجوب فاتبع وانتبه ...
هذه المسألة لم يذكرها ابن الحاجب ولا صاحب جمع الجوامع في هذا البحث والمراد أن تركه لشيء قد أمر به يدل على عدم وجوبه عليه وعلينا وذلك كتركه قسمة أرض مكة وسبي أهلها مع أن الحق أنها فتحت عنوة وهذا مما لا يقم عليه دليل على أنه خاص به كتركه القسم بين أزواجه قلت ولا يخفى أن التمثيل بأرض مكة في ذلك يقال عليه إن أريد أن أرض مكة لو فتحت مرة أخرى عنوة فلا تجب قسمتها فهذا لا معنى له لأنه حرم القتال
فيها ما دامت الدنيا وإنما أحلت له صلى الله عليه و سلم ساعة من نهار وعادت حرمتها إلى يوم القيامة وإن أريد أنه إذا فتح الإمام ! أرضا جاز له ترك قسمتها فمسألة أخرى ... وفعله الأمر الذي عنه نهى ... إباحة قال به أولوا النهى ...
أي أن فعله صلى الله عليه و سلم للأمر الذي نهى عنه يقتضي الإباحة ولا تخفى لطافة ذكر الأمر والنهي ومثلوه بنهيه صلى الله عليه و سلم عن استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي كما ثبت ذلك في الأمهات وغيرها ثم رآه ابن عمر وقد استدبر القبلة عند قضاء الحاجة كما ثبت ذلك في الأمهات أيضا قالوا فإن فعله صلى الله عليه و سلم المتأخر دال على إباحة ما نهى عنه وهو مجرد مثال وإن كان في المسألة أقوال وقد بسطناها في سبل السلام بسطا شافيا وإنما جزموا بأن فعله لما كان نهى عنه يقتضي الإباحة لأنها لا تجوز عليه المعصية فيماطريقه التبليغ فيحكم بأنه مباح لا حرج في فعله وتركه
مسألة وأما تقريره صلى الله عليه و سلم فأفاده قوله ... سكوته مع علمه بما جرى ... وهو على إنكاره مقتدرا ... ولم يكن من غيره إنكار وليس مما يفعل الكفار ...
هذه شروط أربعة للسكوت الذي يكون تقريرا
الأول علمه صلى الله عليه و سلم بوقوع فعل أو قول من أي فاعل
مكلف أو غير مكلف والتعميم بالقول والفعل صرح به في الفصول إذ لا فرق بين الأقوال والأفعال في ذلك وتعميم الفاعل الدال على عدم اشتراط أن يكون من أقر صلى الله عليه و سلم فعله أو قوله مكلفا هو الذي تقتضيه عبارة الأصل وعبارة جمع الجوامع حيث قال فإذا لا يقر محمد أحدا ونصره صاحب الآيات البينات واستدل له بأن الباطل قبيح شرعا وإن صدر من غير مكلف إذ لا يجوز تمكين غير المكلف منه وإن لم يأثم به إذ يوهم من جهل حكم ذلك الفعل جوازه وعليه يدل كلام الهادوية في الفروع وشرطية علمه صلى الله عليه و سلم هي عبارة الأصل وقيل لا يشترط تحقق علمه بل يكفي إذا انتشر الخبر انتشارا يبعد أن لا يعلمه صلى الله عليه و سلم ونقل عن الشافعي فيه قولان
الشرط الثاني كونه صلى الله عليه و سلم مقتدرا على إنكاره فما لم يقتدر على إنكاره لا يكون سكوته صلى الله عليه و سلم تقريرا لفاعله دالا على إباحته هكذا جزم به ابن الحاجب ومن تابعه على هذا الشرط واعترضه الجلال في نظام الفصول فقال الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا إلا للتبيلغ فلا يجوز عليهم السكوت قط لأنه ترك للتبيلغ وقد ثبت عصمتهم اتفاقا وسبقه إلى هذا البرماوي في شرح منظومته قائلا إن من خصائصه صلى الله عليه و سلم أن وجوب الإنكار عليه لا يسقط عنه بالخوف على نفسه قلت ومن طالع سيرته صلى الله عليه و سلم علم هذا فإنه كان يجاهد صناديد قريش وفجارهم بتقبيح ما هم عليه في مواطن لا يأمن على نفسه
منهم وأما دخوله بعد عوده من الطائف في جوار المطعم بن عدي بعد وفاة عمه أبي طالب فلزيادة التقوى وزجر السفهاء عن التعرض له وقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم خاف أول الأمر وقال إني أخاف أن يتلفوا رأسي فأمنه الله بما وعده به من النصر والفتح وحينئذ فقد يقال لا يتم في حقه أن يخاف على نفسه وهذا كله قبل نزول قوله تعالى والله يعصمك من الناس وأمابعدها فلا كلام فيه
الشرط الثالث قوله ولم يكن من غيره إنكار فإنه لو أنكر غيره بحضرته لم يكن سكوته تقريرا لاكتفائه بنكار الغير فإنه لو كان إنكاره في غير موضعه لما قرر صلى الله عليه و سلم يشكله ولأنكر عليه إنكاره ما ليس بمنكر ويدل عليه ما ثبت في قصة كعب بن مالك فإنه صلى الله عليه و سلم لما سأل في تبوك ما فعل كعب بن مالك قال بعض من حضر شغله النظر في عطفيه فقال بعض الحاضرين عنده صلى الله عليه و سلم والله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت صلى الله عليه و سلم مقررا للبعض في رده عليه غيبة كعب وإنكاره على من اغتابه
الرابع قوله وليس مما يفعل الكفار أي أنه إن كان سكوته عن ش علمه إنكاره كمضي كافر إلى كنيسة فإن سكوته عليه لا يكون تقريرا له وإباحة لفعله سواء قدر على إزالته أو لا فإذا جمع سكوته هذه الشروط فالحكم فيه ما يفيده قوله ... يبيح ما هذا يكون حاله
وهذه الجملة خبر قوله سكوته وهي بيان لحكم التقرير المذكور وأنه إباحة الفعل والقول الذي سكت صلى الله عليه و سلم عليهما ومرادهم بالإباحة ما يستوي معها الطرفان وقد أورد عليه أن غاية ما أفاده السكوت ورفع الحرج عما سكت عليه فمن أين الدلالة على الجزم بالإباحة المقتضية لاستواء الطرفين وكأنه أراد المورد أن هذا السكوت يكون كالفعل الذي جهل فيه قصد القربة وقد منع المحققون دلالته على الإباحة كما عرفت بل قالوا يدل على الجواز وقيل بالوقف وكل هذا فيما لم يسبق له تحريم عقلي أو شرعي أما لو كان قد سبق له تحريم فالسكوت ناسخ أو مخصص وقد قيل إن من ذلك سكوته على لبس الزبير الحرير للعلة وهذا مثال وإلا فإنه قد عرف أنه قد ثبت الإذن منه صلى الله عليه و سلم بالقول لإباحة لبس الزبير الحرير
مسألة في عدم تعارض أفعاله صلى الله عليه و سلم ... ولم تعارض أبدا أفعاله ...
جزم أئمة الأصول بأن أفعاله صلى الله عليه و سلم لا تتعارض إذ حقيقة التعارض بين الشيئين تقابلهما وحيث يمنع كل واحد منهما مقتضى الآخر وذلك لا يتصور بين فعلين بحيث يمنع كل واحد منهما مقتضى الآخر لأنهما إن لم يتناقض حكمهما كصلاتين في وقتين فلا تعارض وإن تناقضا كصوم يوم وإفطار ذلك اليوم بعينه فكذلك أيضا لجواز أن يكون الفعل واجبا في وقت وفي الوقت الآخر بخلافه من غير أن يكون مبطلا لحكم الفعل الأول
لانه لا عموم في الأفعال وهذا الذي عليه الجمهور ونقل فيه خلاف لا يتحقق إلا بين قرائن الأفعال لا في الأفعال نفسها وكلامنا فيها من غير نظر إلى قرائنها وأما بين أفعاله صلى الله عليه و سلم وأقواله أو بين أقواله فإنه يقع التعارض وأشار إلى ذلك بقوله ... فإن تعارض قوله والفعل ... أو كان في قولين كان الفعل ... بأن ما كان أخيرا ناسخا ... أو كان تخصيصا إذا ما أرخا ...
اعلم أن الفعل إذا تقدم وقام الدليل على تكراره ثم وقع القول بخلافه وقع حينئذ التعارض وإذا وقع فلا بد من أحد أمرين إما الجمع بينهما أو الترجيح وقد أشار في النظم إلى ذلك بقوله كان الفعل أي العمل في الجمع بين المتعارضين فلفظ الفعل هنا غيره في صدر البيت وبينهما جناس تام ومثلوا ذلك بأن ينقل إلينا استقباله صلى الله عليه و سلم بالحاجة وقد نهى عن ذلك فالجمع بينهما أنه إن علم التاريخ فالأخير ناسخ هذا إن تأخر مدة تتسع للعمل كما ياتي أنه شرط في النسخ وإن جهل التاريخ كان تخصيصا مثاله أن يقول صلى الله عليه و سلم صوم يوم الجمعة واجب علينا فيفطر فيه قبل صومه فهذا يكون تخصيصا له صلى الله عليه و سلم لامتناع حمله على النسخ على المختار فالمراد من قولنا ناسخا أنه يرفع مقتضى الحكم لا النسخ بالمعنى المصطلح فإنه ليس الآخر ناسخا على كل حال
ولك أن تقول مقابلته بالتخصيص قرينة قوية على أن المراد بالنسخ الحقيقي إن كملت شروطه وإلا فالتخصيص وقد قالوا في الحديث الوارد في النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة عند قضاء الحاجة لما عارضه حديث
ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم يقضيها مستقبلا للشام مستدبرا للقبلة إنه تخصيص له صلى الله عليه و سلم عن عموم النهي أو إنه تخصيص للعمران
وقوله إذا ما أرخ قيد لناسخا وما زائدة أي إذا أرخ ومع التاريخ يعلم تقدمه أو تأخره فإن جهل التاريخ فالحكم قوله ... أو جهل التاريخ فالترجيح ...
أي إن جهل تاريخ المتقدم من المتأخر مع تعذر الجمع بين الفعل والقول فإنه يرجع إلى الترجيح ويأتي في باب الترجيح وتقد إشارة إليه أن القول أرجح وقد طولت المسألة في المطولات وكثرت فيها المقالات المفروضات ولا حاجة إلى ذلك بعد معرفة القاعدة
مسألة في طريق نقل الأحاديث والرواية للسنة النبوية التي يثبت بها صحة المنقول بسند إليه صلى الله عليه و سلم والرواية منحصرة في قسمين لا غير التواتر والآحاد وإليهما أشار بقوله ... ثم طريق نقلها الصحيح ... تواتر الأخبار والآحاد ... فما روى جماعة أفادوا ... بنفسه العلم بصدق ما روي ... فأنه الأول والقول القوي ... فقد اعتبار العدد المحصور ... بل ما أفاد علمنا الضروري ...
الطريق لغة ما يوصل إلى المطلوب الحسي واستعير هنا لما يوصل إلى المطلوب المعنوي والطريق تذكر وتؤنث والصحيح صفة له على الأول أو لأن
إضافته إلى النقل تكسبه التذكير وإنما قيده بالصفة لأن الصحيح هو المعتبر وإن كان التدوين لأعم من ذلك والأخبار جمع خبر أريد به هنا النسبة الثبوتية أو السلبية والآحاد جمع أحد بمعنى الواحد كبطل وأبطال
والتواتر لغة تتابع الشيء مع تراخ واصطلاحا أفاده قوله فما روى جماعة إلى آخره وهو تعريف للمتواتر لأنه المقصود بالبحث وهو مبتدأ خبره قوله فإنه الأول ودخول الفاء لتضمن المبتدأ لمعنى الشرط ونسبة الإفادة إلى الجماعة وإن كانت الإفادة القريبة لخبرهم لأنهم السبب البعيد وقوله بنفسه يتعلق بأفادوا والمراد أفادوا بنفس خبرهم وهو احتراز عما يفيد ذلك بالقرائن من أخبار الآحاد عند من يقول به وقد حققناه في شرح التنقيح فخرج أخبار جماعة لا يفيد العلم وخبر الواحد الذي يفيده بالقرينة
ولما اختلف أئمة الأصول هل يشترط عدد الجماعة الذين يحصل بخبرهم التواتر أو لا ذهب قوم إلى اشتراطه ثم اختلفوا فيه فقيل أربعة وهو أقل ما قيل وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر وهو أكثر ما قيل وبينهما أقوال في تعيين أعدادهم وكلها أقوال لا ينهض على شيء منها الاستدلال فلذا قلنا إن فقد عدم اعتبار عدد محصور برتبة معينة هو القول القوي وإنما ضابطه حصول العلم إلا أن إفادته العلم تختلف باختلاف المخبرين في التدين والجزم والتنزه عن الكذب وتباعد الأقطار وارتفاع تهم الأغراض والاطلاع من المخبرين على المخبر به عادة كدخاليل الملك إذا أخبروا عن أحواله الباطنة وتختلف باختلاف السامع فكم من سامع يحصل له العلم بخبر جماعة لا يحصل لآخر بذلك الخبر لاختلافهم في تفرس أخبار الصدق وانتفائها والإدراك والفطنة وتختلف باختلاف المخبر عنه كأن يكون خبرا خفيا أو غريبا أو ظاهرا أو مبتذلا
إذ لا يخفى على الذكي أن الاختلاف فيه موجب للاختلاف بخبر أقل أو أكثر وهذا حاصل مع ما في العضد وحواشيه
هذا وقد ذكر للتواتر شروط لازمة له منها تعدد المخبرين بحيث يمتنع عادة توافقهم وتواطؤهم على الكذب بأن يكون خبرهم مستندا إلى الحس من مشاهدة أو سماع ونحوها ذكره الرازي والآمدي وأتباعه والذي صرح به الأقدمون اشتراط كونه عن ضرورة قالوا وإنما شرط استناده إلى الحس لجواز الغلط لو استند إلى غيره
وتعقب بأن الحس قد يقع الغلط فيه وأجيب بأنه يمتنع وقوعه عادة من الجمع المعتبر هنا
واحترزوا بالمحسوس عن الأخبار بالمعقولات فإن أخبار عدد التواتر عن حدوث العالم مثلا لا يفيد بنفسه العلم ما لم يؤيد بالنظر
والثالث استواء الطرفين والوسط في حصول العلم بخبر الرواة لا في العدد والمراد أن لا ينقص العدد لا أن لا يزيد فالزيادة مرادة ولعل هذه الشروط تتبعها من الخبر الذي أفاد بنفسه العلم وأنها لازمة له لا تفارقه وإلا فالمعتبر عندهم ليس إلا إفادته العلم ثم الأكثر على أن العلم المستفاد من التواتر ضروري لا نظري لحصوله لمن ليس له أهلية النظر كالعامي إذ النظر ترقب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون والعامي ليس له أهلية ذلك فلو كان نظريا لما حصل لهم واعلم أنها قد ذكرت له شروط زينها المحققون وأشار إلى دفع بعضها بقوله
وحاصل بفاسق وكافر ...
فإنه رد لمن شرط العدالة في رواة التواتر فلا يقع من الفساق أو الإسلام فلا يقع من الكفار قال من اشترط ذلك لأن الكفر والفسق مظنة الكذب فعدمها يكون شرطا ولأنه إخبار أمة من اليهود بقتل المسيح ولم يحصل بخبرهم العلم بقتله ورد بأنه لو أخبر أمة من الفساق بخبر كقتل ملك بلدتهم لحصل العلم بصدق خبرهم ضرورة ولأنه أخبر أمة من اليهود بقتل المسيح ولم يحصل بخبرهم العلم بقتله ورد بأنه لو أخبر أمة من الفساق بخبر كقتل ملك بلدتهم لحصل العلم بصدق خبرهم ضرورة وبأن خبر اليهود بقتل عيسى حصل به العلم لتواتره بروايتهم وحصول شرط التواتر لكنه تعالى أكذبهم في كتابه العزيز فنفى ما حصل من العلم بخبرهم ليس لخلل في شروط التواتر بل لأمر خارق سماوي وليس ذلك لكون الرواة كفارا وقد زيدت شروط غير هذين وقد ردها أئمة الأصول فلا حاجة إلى ذكرها
مسألة في انقسام التواتر إلى اللفظي والمعنوي ... واللفظ لا يختص بالتواتر ... بل جاء في المعنى كإقدام الوصي ... كرم ربي ذلك الوجه الرضي ...
التواتر ينقسم إلى لفظي وهو اتفاق الرواة على لفظ واحد عمن يروونه عنه ومن أمثلته حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
فإنه ذكر البزار في مسنده أنه رواه عنه صلى الله عليه و سلم إثنان وسبعون نفسا من الصحابة منهم العشرة المشهود لهم بالجنة قال وليس في الدين حديث اجتمع على روايته العشرة غيره ولا نعرف حديثا يروى عن اكثر من ستين نفسا من الصحابة سوى هذا الحديث انتهى
قلت وفي تنقيح الأنظار أن منه حديث رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام بالصلاة فإنه روي من طرق كثيرة قال ابن عبد البر رواه ثلاثة عشر من الصحابة وقال ابن كثير نيف وعشرون وجمع زين الدين العراقي رواته فبلغوا خمسين صحابيا منهم العشرة ومنه حديث المسح على الخفين قال صاحب الإلمام عن ابن المنذر أنه قال روينا عن الحسن البصري أنه قال حدثني سبعون من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أنه مسح على الخفين وقال زين الدين رواه أكثر من ستين نفسا من أصحاب محمد صلى الله
عليه وآله وسلم منهم العشرة رضي الله عنهم وبه يعرف عدم صحة دعوى البزار وأنها محمولة على ما عرفه
والتواتر واللفظي في أول ما سقناه مجزوم به وفيماعداه الأظهر تواتر لفظه أيضا وإلا فلا يخفى أن الناقلين لرواية رفع اليدين ! عند تكبيرة الإحرام رووا فعله صلى الله عليه و سلم لذلك وأنهم رأوه يرفعهما ! لا أنهم رووا أنه قال صلى الله عليه و سلم ارفعوا أيديكم فهي من رواية الفعل تواترا فيحسن أن يقال والتواتر يجري في أقسام السنة من فعل وقول وتقرير ومثال تواتر الفعل مسألة رفع اليدين والمسح على الخفين وكلام أهل الأصول على هذا محمول فإنهم فسموا طريق نقل السنة النبوية مطلقا إلى تواتر وآحاد فيدخل تحت القسمة أنواع السنة الثلاثة
وأما التواتر المعنوي وهو اختلاف ألفاظ المخبرين عن خبر رووه واتفقت ألفاظهم على معناه فإنه كثير واسع وعليه مدار غالب التواتر ويفيد تواتر القدر المشترك ومثاله تواتر شجاعة علي عليه السلام فإن الأخبار تواترت عن وقائعه في حروبه من أنه فعل في بدر كذا وكذا وفي أحد كذا وهزم يوم خيبر كذا ونحو ذلك فإنها تدل بالالتزام على تواتر شجاعته ومن ذلك حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فإن له مائة وخمسين طريقا قال العلامة المقبلي بعد سرد بعض طرق هذا الحديث ما لفظه فإن لم يكن هذا معلوما فما في الدنيا معلوم وجعل هذا الحديث في الفصول من المتواتر لفظا وكذلك حديث المنزلة وهو قوله صلى الله عليه و سلم لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة
هارون من موسى الحديث وعدها ابن الإمام في شرح الغاية من المتواتر معنى وأقر الجلال كلام الفصول في تواتر حديث الغدير ولم يسلمه في حديث المنزلة وإنما قال إنه صحيح مشهور لا متواتر وذكر الحافظ السيوطي في كتابه تدريب الراوي أنه ألف كتابا في هذا النوع لم يسبق إلى مثله سماه الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ولخصته في جزء لطيف سميته قطف الأزهار
واعلم أن التواتر المعنوي لا يفيد علما بخصوصية جزئي من جزيئات ما روي فيه وفي جواهر التحقيق ما لفظه والتحقيق أن الأخبار الجزئية المتعلقة بخصوصيات الوقائع لها حالتان حالة الانفراد وحالة الاجتماع ففي حالة الانفراد لا تفيد علما قطعيا أصلا بخصوصية الشجاعة مثلا ولا بالشجاعة المطلقة التي هي القدر المشترك لأنها باعتبار الانفراد من جملة أخبار الآحاد وهي لا تفيد علما قطعيا وفي حالة الاجتماع تفيد علما قطعيا بالشجاعة المطلقة التي هي القدر المشترك ولا تفيد علما قطعيا بخصوصية شيء من جزيئات الشجاعة لأنها بهذا الاعتبار من جملة الأخبار المتواترة بالنسبة إلى الشجاعة المطلقة ومن جملة الأخبار الآحادية بالنسبة إلى خصوصيتها فليتأمل انتهى ببعض اختصار
واعلم أنه مثل في شرح الغاية بشجاعة علي عليه السلام وجود حاتم وجعل دلالة الوقائع المتعددة في المثال الأول دالة على شجاعة علي عليه السلام بالالتزام قال وذلك لأن الشجاعة من الملكات النفسية فيمتنع أن يكون نفس الهزم المحسوس أو جزءا منه لكن الشجاعة لازمة لجزيئات الهزم والقتل في الوقائع الكثيرة فتكون دلالة الهزم ونحوه في الوقائع الكثيرة على الشجاعة
بطريق الالتزام وجعل الثاني من الدلالة التضمنية قال فإن ما يحكى من عطاياه من الإبل والخيل والعين وغيرها يدل بالتضمن على جوده قال لأن الجود يطلق في الظاهر على الأثر الصادر عن الملكة النفسانية التي هي الحقيقة للجود وقد أريد بالجود هنا ما هو الظاهر وهو إعطاء ما ينبغي لا للعوض مطلقا فيكون جزء من الإعطاءات المخصوصة فتكون دلالة كل واحدة من خصوصيات الإعطاء عليه بطريق التضمن ولو أريد بالجود الملكة النفسانية لم يكن إلا من الدلالة الالتزامية
قلت ولا يخفى أن الفرق بين المثالين غير تام بل هما معا من الدلالة الالتزامية فإن تلك الأفعال خارجة عن مسمى الشجاعة والجود فليست بجزء منها حتى تكون من دلالة التضمن كما أنها ليست نفسها حتى تكون من دلالة المطابقة والقول إن الجود يطلق على الملكة النفسانية ويطلق في الظاهر على الأثر الصادر عنها الذي فسره بما ذكر اي الجود فيكون جزءا من كل إعطاء مخصوص بأحد الاعتبارين سجود يرى بعينه في الشجاعة فإنها كما أنها تطلق على الملكة النفسانية تطلق على الأثر الصادر عنها وهو القتل والهزم فتكون الشجاعة جزءا من كل قتل وهزم ودعوى الظهور في إطلاق الجود على الأثر الصادر دون الشجاعة ممنوع فلا فرق بين المثالين ولذا اقتصر في النظم على أحدهما على أن ابن الهمام صرح في التحرير بنفي الدلالة التضمنية والالتزامية بالمعنى الأخص فقال
وليس شيء منهما يدل على السجية ضمنا إذ ليس الجود من مفهوم إعطاء الألف تضمنا ولا التزاما إلا بالمعنى الأعم لجواز أن يتغفل قاتل ألفا
بلا حضور معنى الشجاعة فما قيل المعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام تساهل انتهى
قلت ولا يخفى أن نفيه لكونه لازما غير صحيح واستدلاله بجواز الغفلة غير ناهض لتصريحهم أنه لا يلزم المتكلم استحضار لوازم كلامه عند تكلمه بل صرحوا بأنه لا تكفير بالالتزام لأن المتكلم كثيرا ما يلقى كلامه غير قاصد للازمه ولا منتبه له وإنما اللفظ يدل عليه ولا يلزم قصد المتكلم دلالته عليه وإنما شرطوه في المزايا واللطائف والنكات البيانية
وإذا عرفت أن الأخبار انقسمت إلى التواتر والآحاد وعرفت التواتر بقسميه فاعلم أن الآحاد أيضا ينقسم إلى قسمين كما دل على قوله ... وانقسم الآحاد فهو مسند ... ومرسل والظن منه يوجد ...
اشتمل البيت على مسألتين الأولى تقسيم الحديث الآحادي وقد عرفت أن الآحادي قسيم المتواتر فيدخل في الآحادي المتلقى بالقبول والعزيز والمشهور وهو المستفيض فهذه من الآحاد وتحقيقها في علوم أصول الحديث وقد حققنا ذلك بحمد الله في نظم النخبة المسمى بقصب السكر وفي شرحها المسمى بإسبال المطر وبسطناه في شرح تنقيح الأنظار بسطا ينتفع به النظار وقد انقسم الآحاد كما قال فالآحاد ينقسم إلى مسند ومرسل
فالأول المسند وهو في اصطلاح الأصوليين ما اتصل من راويه إلى النبي
صلى الله عليه و سلم وهو التفسير الذي قطع به الحاكم أبو عبدالله وهو قول لأهل الحديث
والثاني المرسل وهو عندهم أيضا ما سقط من إسناده راو أو أكثر من أي موضع فدخل فيه المعلق والمنقطع والمعضل وهي أنواع من المرسل مبينة في علوم الحديث
الثانية في ما يفيده الخبر الآحادي وقد جزم في النظم أنه يفيد الظن وهو اتفاق إنما الخلاف في إفادته العلم فالضمير في قوله منه عائد إلى الآحاد وحاصل القول فيما يفيده الخبر الآحادي ثلاثة أقوال أشار إليها في جمع الجوامع حيث قال خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة وقال الأكثر لا مطلقا أحمد يفيد العلم مطلقا انتهى
فالقول بأنه لا يفيد العلم هو قول الجمهور من أئمة الأصول وعرفت أن من الآحاد المتلقى بالقبول وهو الذي تكون الأمة ما بين عامل به ومتأول له فهو لا يفيد العلم لأنه من الآحاد إلا أن يجعل التلقي بالقبول من القرائن التي حفت الخبر فأفاد العلم معها على من يقول إن الآحاد إذا حفته القرائن أفاد العلم
واعلم أنا قد بحثنا في شرح التنقيح في علوم الحديث في هذه القاعدة وهي إفادة الآحاد الظن أو العلم بأنه يختلف باختلاف أحوال المخبر والمخبر اسم فاعل والمخبر اسم مفعول فمنه ما يفيد العلم ومنه ما يفيد الظن فليست إفادته العلم وعدم إفادته حكما كليا وإلى عدم إفادته العلم ووجوب العمل به في الفروع قلنا ... لا غيره واجب في الفرعي ... قبوله لا في الدليل القطعي ...
قوله لا غيره عطف على قوله والظن منه يوجد أي لا غير الظن وهو العلم لقرينة المقام وإن كان لفظ غيره أعم وقول من قال أنه يفيد العلم إذا حفته القرائن لا يناسب البحث إذ النفي باعتبار النظر إلى الآحاد من حيث هي فلا ينافيه أن الآحادي المحفوف بالقرائن يفيد العلم فإن الإفادة ليست من الخبر الآحادي بل مما انضم إليه وإذا عرفت أنه قد اتفق على إفادته الظن فقوله وواجب في الفرع إشارة إلى مسألة ثالثة تتعلق بوجوب العمل بالخبر الآحادي فإذا كان يفيد الظن فقد عرفت أنه يجب العمل بالظن في الأحكام الفرعية كما عرفته من بحث الدليل ورسمه وقد عرفت مما سلف أن الظن يعمل به في مسائل الأصول كما قررناه في رسم أصول الفقه فقولنا هنا لا في الدليل القطعي إشارة إلى كلام الجمهور أنه لا يقبل في مسائل الأصول إلا الأدلة القطعية موافقة لما في الأصل الذي نظمناه وإلا فمختارنا خلافه
فقولنا لا في الدليل القطعي أي أنه لا يجب قبول الآحادي في الأدلة القطعية التي تشترط في مسائل الأصول
ثم لما كان قد وقع الخلاف في قبول أخبار الآحاد أشار إلى دليل ما أفاده قولنا ... لبعثه المختار للآحاد ... وما أتى عن صحبه الأمجاد ...
الجار يتعلق بقوله وواجب قبوله والبيت تضمن الإشارة إلى دليلين على وجوب قبول خبر الآحاد هما عمدة أدلة المسألة
الأول أنه تواتر عنه صلى الله عليه و سلم تواترا معنويا وعلم ذلك من ضرورة سيرته بعثه الآحاد إلى كثير من العباد لطلب الإسلام وإبلاغ الأحكام كإرساله إلى قيصر وكسرى وصاحب مصر وغيرهم وكإرساله معاذ بن جبل وأبي موسى إلى اليمن وأمره معاذا بأنهم إذا لم يسلموا عاقبهم بأخذ الجزية ورتب صلى الله عليه و سلم على ذلك قبول إسلامهم وعدمه وعاقب من امتنع بالقتال والدعاء عليه كما دعا على كسرى حينما مزق كتابه بتمزيق ملكه ورتب علىعدم إسلام هرقل غزوه وتجهيز جيش مؤتة إلى بلاده وتواتر أنه صلى الله عليه و سلم قبل خبر الآحاد ورتب عليه كما ذكروا كقبوله خبر الوليد بن عقبة في أن بني المصطلق ارتدوا وهم بغزوهم لولا أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ وهذه الأدلة قاضية بوجوب العمل وقاضية بقبول الآحاد في أصول الشرائع وغيرها وما قيل من أن إرساله الآحاد من المحفوف بالقرائن لأنه لم يرسلهم إلا وقد شاعت دعوته وذاعت وبلغت الآفاق فلا يتم الاستدلال بذلك على وجوب قبول الآحاد مطلقا ضعيف لأنا نقول هذه القرائن لا تفيد أن من
جاءهم بكتابه صلى الله عليه و سلم مثلا وهو رسول منه وأن الكتاب كتابه وإنما هذا الشيوع بالبعثة يفيد خير من يخبر أن محمدا صلى الله عليه و سلم ادعى النبوة فيقال قد حف خبره قرينة شيوع الدعوة فهو صادق في خبره وأما إفادة أن هذا كتابه صلى الله عليه و سلم وأنا رسوله فلا تفيده قرينة الشيوع شيئا بل لا يستفاد أنه كتابه وأنه رسوله إلا من خبره
والدليل الثاني ما أفاده قوله وما أتى عن صحبه الأمجاد وهو إشارة إلى ما تواتر عن الصحابة من العمل بالآحاد وهو أمر لا ينكره إلا من يجهل أحوالهم وسيرتهم وقد ذكر في المطولات قصص كثيرة من ذلك لا حاجة إلى التطويل بها
وقد أورده على هذا الدليل أن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة حتى رواه معه محمد بن مسلمة وأن عمر بن الخطاب لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه معه أبو سعيد قلت لا يخفى أنه غير وارد لأنه لم يخرج بانضمام من ذكر إلى من توقف في روايته عن الآحادي فإن الاثنين من الآحاد ولعله إنما توقف بما ذكر من تلك الروايات عن الواحد تثبتا وبزيادة اطمئنان لأن تلك الأخبار مما لا تخفى ولا يكاد يتفرد بها فرد من الرواه سيما مثل الاستئذان الذي تعم به البلوى كل إنسان والاستثبات في رواية الفرد مثل ذلك لا يدل على رده فإنه صلى الله عليه و سلم لما قال له ذو اليدين
أقصرت الصلاة أم نسيت استثبت وقال أحقا ما يقول ذو اليدين فإنه لما انفرد بذلك والحاضرون في الصلاة أعيان الصحابة قد سكتوا كان محلا للاستثبات وإلا فقد قبل صلى الله عليه و سلم أخبار الآحاد في عدة وقائع ومن هنا تعلم أن المراد من قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم العلم الأعم الشامل للظن وهو الذي أريد به أيضا في قوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فهو نهي عن العمل بلا علم ولا ظن فلا يتم الاستدلال بها لمن قال لا يعمل بالآحاد لأنها لا تفيد إلا الظن كما لا يتم له أيضا الاستدلال بقوله تعالى إن يتبعون إلا الظن قال فإنه تعالى ذمهم على اتباع الظن فدل على أنه لا يعمل به ووجه أنه لا يتم الاستدلال بالآية أن الظن لغة يطلق على الشك كما في القاموس الظن التردد الراجح فجعل التردد وهو الشك أول معنييه وقيام الأدلة على العمل بالراجح هي القرينة أنه أريد بالمذموم الشك ومنه إن الظن لا يغني من الحق شيئا بعد قوله إن يتبعون إلا الظن
واعلم أنه قد أفاد قوله في النظم أنه يفيد الظن أنها إفادة عامة للمسند والمرسل وأنه يجب قبول الكل وفي المرسل خلاف وتفاصيل مودعة في الفصول وغيره من مطولات الفن وقد ألم به في الفواصل والذي
نختاره قبول المراسيل لشمول دليل قبول الآحاد ما لم تحصل ريبة نائشة من تساهل المرسل وقد حققنا البحث في شرحنا على تنقيح الأنظار تحقيقا شافيا قوله لا في الدليل القطعي عطف على قوله وواجب قبوله في الفرعي أي أنه يجب قبول الآحاد في غير المسائل التي تطلب فيها الأدلة القطعية وزاده بيانا قوله ... وفي الأصول أهملوا الآحادا ... إهمال ما يشملنا اعتقادا ...
فإن المراد بالأصول أصول الفقه وبقوله يشملنا اعتقادا مسائل أصول الدين اقتضى النظم هذا التعداد وإلا فالكل أصول وإن كان عند الإطلاق للفظ الأصول لا يتبادر إلا أصول الفقه وهذا هو ما ذهب إليه الجمهور فإنهم قالوا لا يقبل الآحاد في الأصول لأن المطلوب فيها اليقين وقد أشرنا إلى خلاف ما ذهبوا إليه في شرح رسم أصول الفقه وحققنا أن غالب مسائله
ظنية وقد حققنا وجوب العلم بالظن فيما رسموه أصول الدين في رسالة لنا مستقلة بل بينا أن قسمة المسائل الشرعية إلى أصول وفروع بدعة لم تأت بها سنة كقسمة الصوفية للدين إلى شريعة وطريقة أو حقيقة كل هذا ابتداع ... أو عملا لكن لهم خلاف ... فيه وفي أمثاله اختلاف ...
أي أو كان الخبر الآحادي ما يشملنا أيها الأمة عملا فإن في قبوله والعمل به خلافا وهذه هي المسألة التي يترجمها أئمة الأصول بأن الآحاد لا يقبل فيما تعم به البلوى عملا قال الجلال في نظام الفصول إن كلامهم فيها غير منقح لأن التكاليف كلها مما تعم به البلوى إما من جهة المحكوم عليه وهو المكلف أو فيه قال في الفواصل إنه كشف ابن الهمام القناع عن محل النزاع وحاصله أنه إذا ورد خبر الواحد فيما يحتاج إليه المكلف ويكثر تكرر وقوعه منه فإنه لا يثبت به الوجوب عند الحنفية إلا إذا اشتهر أو تلقي بالقبول فمحل النزاع حينئذ فيما يثبت به الوجوب على المكلف بشرط أن يحتاج إليه ويكثر تكرره من ذلك كحديث من مس ذكره فليتوضأ قال الجمهور على قبوله والعمل به ولاخلاف فيه لعامة الحنفية كما قاله ابن الهمام واحترر ابن الهمام بقوله يثبت به الوجوب عن مثل ما قيل من الآحاد في سنن الصلاة
ويشترط التكرار عن النادر كقبولهم الآحاد في نقض الوضوء بالقهقهة في
الصلاة وبالحجامة والفصد ووجوب الغسل من التقاء الختانين فكل هذا مقبول عند الحنفية إذ ليست مما تعم به البلوى على ما قرره ابن الهمام والمسألة أصلها للحنفية وتبعهم فيها بعض الهدوية والاكثر منهم أنه يقبل فيما تعم به البلوى عملا وإنما لم يعملوا بحديث مس الذكر لأنه ضعيف عندهم ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو اكثرهم عملا وحديث انتقاض الوضوء من مس الذكر مروي عن عدة من الصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأبي أيوب وجابر وأم حبيبة وقيس بن طلق وجماعة قد سردناهم في سبل السلام شرحنا لبلوغ المرام وحققنا ما فيه وفيما عارضه من حديث ما هو إلا بضعة منك
واعلم أنه زاد في أصل النظم أي وكذا فيما تعم به البلوى علما وكذا لا تقبل الآحاد فيما تعم به البلوى علما أي اعتقادا قال كخبر الإمامية أي في النص على اثني عشر إماما معينين والبكرية في الخبر الذي رووه في إمامة أبي بكر فلم نشر إليه في النظم لأنه قد دخل في قولنا اعتقادا كما قاله
في القسطاس أنه لا خفاء أن هذا داخل في صدر المسألة لأن مسائل أصول الدين مما تعم به البلوى علما انتهى وهو كما قال فلذا لم نفرده بالذكر كما فعله في الأصل وإذا عرفت ما ذكرناه في خبر الآحادي فإن للراوي له شروطا أشار إليها قولنا ... واشترطوا عدالة في المخبر ... وضبطه لما روى في الخبر ...
فهذا إشارة إلى مسألتين الأولى أنه يشترط في المخبر اسم الفاعل العدالة ورسمها أئمة الأصول بأنها ملكة تمنع من ارتكاب الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة ورذائل المباحات مما يدل على دناءة الهمة كالأكل في السوق وكثرة السخرية والمجون وقال ابن الحاجب هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة وفي الغابة لابن الإمام أن العدالة ملكة في
النفس تمنعها من اقتراف الكبائر والرذائل وعبارة أهل الأصول متطابقة على هذا المعنى وكذلك أئمة أصول علوم الحديث ويزيدون قيد عدم البدعة كما في شرح النخبة لابن حجر
واذا عرفت أن العدالة ما ذكر فلا حاجة إلى ذكر قيد التكليف والإسلام إذ لا يتصف بها إلا من كان كذلك
واعلم أنا قد بحثنا في رسالة ثمرات النظر في علم الأثر وفي شرح التنقيح ومنحة الغفار في هذا الرسم الذي تطابقوا عليه ولم يأتوا بدليل عليه بل خلت كتب الأصول المطولات عن الاستدلال عليه كأنه أمر قطعي معلوم من ضرورة الدين قلت ولا يرتاب عارف أن هذا الرسم بالملكة التي هي كيفية راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة يمتنع بها عن الإتيان بكل فرد من الكبائر وصغائر الخسة ليس معها بدعة فهذا تشديد لا يتم وجوده إلا في حق المرسلين المعصومين وإن هذا ليس معنى العدالة لغة بل قد صرحوا أن معناها لغة التوسط في الأمر وفي القاموس العدل ضد الجور وفي الصحاح العدل خلاف الجور وفسره الجوهري بأنه الميل عن القصد وفي النهاية العدل الذي لا يميل به الهوى وللمفسرين في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل أقوال في تفسيره قال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب إنه عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله تعالى ! إن الله يأمر بالعدل قال شهادة أن لا إله إلا الله وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه عن علي بن أبي طالب
أنه قال العدل الإنصاف فهؤلاء أهل اللسان العربي ومن نزل القرآن بلغتهم وشاهدوا نزوله وقد فسر الصحابة الاستقامة في قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بعدم الرجوع إلى عبادة الأوثان وأنكر أبو بكر على من فسرها بعدم الإتيان بذنب وقال حملتم الآمر على الشدة وفسرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالإتيان بالفرائض وإذا عرفت هذا فهذا بحث لغوي لم يخرجه الشرع عن معناه
فالعدل هو المتوسط في الأمور الذي يغلب خيره على شره ويطمئن القلب إلى خبره وقد بسطنا البحث في ثمرات النظر وغيرها مما ذكرناه وفي هذا كفاية ولم نجد أحدا نبه عليه مع وضوحه بل تابع الآخر الأول فيه
وها هنا ذكر أئمة الأصول تعريف الكبيرة وعدد أفرادها ولهم في رسمها وعدها خلاف لا حاجة إلى ذكره هنا وقد أوضحنا في ثمرات النظر الخلاف بينهم أنه هل الأصل الإسلام أو الفسق وذكرنا أدلة ذلك وهنا أصل آخر وهو هل الأصل في المعصية الصغر أو الكبر قال بالأول الشافعية وبالثاني من أهل البيت الناصر والمنصور وغيرهما والمختار تجويزها حتى يقوم دليل أفاد
معناه في الفصول وفي شرحه للجلال الأولى أن يقال الأصل براءة الذمة عن المعصية فإذا قام عليها دليل فإن كان قطعيا وانضم إليه قرائن الكبيرة فكبيرة وإلا فملتبسة وإن لم يكن قطعيا فالأصل البراءة عن موجب الفسق وهو الكبر لعدم القطع بالمعصية أو لأنها مظنونة ويكون الأصل في المعصية المظنونة الصغر لأنه الأقرب إلى ماهيتها كما في مخالفة الواجبات الظنية انتهى
المسألة الثانية مما تضمنه النظم هو ضبط الراوي لما رواه وهو أن يكون الغالب على حاله الضبط لا أنه يكون في أعلى درجات الحفظ والإتقان وهو قسمان ضبط الصدر وهو الحفظ وضبط المسطور فإذا كان الراوي ضبط سماعه من كتاب وقابله على نسخة شيخه أو على ما قوبل عليها وأمن من التغيير صح تحديثه ويعرف إما باستشهاره أو بموافقة الحفاظ له وقد حققنا ذلك في شرح التنقيح وذكرنا من استوى حفظه وعدمه ومن كان حفظه أغلب وعكسه فليراجعه من أحب ذلك والشرط الثالث من شروط قبول خبر الآحاد أشار إليه قوله ... ولا يرد قاطعا قد علما ... ولم يكن لشهرة مستلزما ...
هذان شرطان لقبول الخبر الآحادي الأول أن لا يصادم قاطعا عقليا فيقطع بكذب كل خبر قضى بتشبيه أو جبر لم يمكن تأويله أو بوهم راويه كبعض أحاديث الصفات ونحوها هذا لفظ الفصول قال في شرحه
الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز و جل النظام ما لفظه مثل حديث إن الجبار يضع قدمه في النار حتى تقول قط قط وحديث فحج آدم وموسى إلا أن الحكم بوهم الراوي في مثل ذلك لا وجه له إذ مثل ذلك موجود في القرآن نحو بل يداه مبسوطتان وما تشاؤون إلا أن يشاء الله وذلك من الكناية التي لا تستلزم وجود المعنى الحقيقي انتهى قلت الآية الأولى جعلها أئمة البيان من الكناية عن الجود والكرم وأما الثانية فلا إشكال فيها لأن مفعول المشيئة والاستقامة الدال عليها قوله تعالى قبلها لمن شاء منكم أن يستقيم ثم إنه يمكن تأويل الحديثين بل قد صرح شراح الحديث بتأويلهما على أن الأحوط الإيمان بما ورد وتفويض بيان معناه إلى الله وهذا لا بد منه في كل صفة له تعالى ثابتة بالنصوص القرآنية والأحاديث الثابتة فإن صفة القادر والعالم وغيرهما كلها لا يعرفها من خوطب بها إلا في الأجسام وقد آمنوا بها وأطلقوها عليه تعالى من غير تشبيه فليطلق عليه ما ثبت وروده وصح سنده وتفوض كيفية معناه إلى الرب تعالى وقد بينا هذا بيانا شافيا في كتاب إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة فهذا شرح الشرط الأول
والثاني الذي تضمنه المصراع الثاني من البيت وهو أن لا يكون مدلول الخبر الآحادي الذي روي مستلزما للشهرة فإنه إذا ورد عن الواحد وكان مستلزما لها ورد خبره قالوا لأن العادة تقضي باشتهاره واستفاضته وذلك
كخبر الواحد بقتل خطيب على المنبر فإنه يرد خبره حيث تفرد به من بين الجمع الكثير ونحوه مما توفر الدواعي على نقله وقد سبقت إشارة إليه في شرح قوله أو عملا لكن لهم خلاف إلا أنها في حكمه وهذا في بيان كونه عندهم شرطا لقبول الخبر الآحادي
ولما كانت العدالة شرطا في قبول الراوي وهي أمر صار لا يعرف إلا بطريق النقل أشار إليه قولنا ... هذا وهم قد أثبتوا العدالة ... بقول عدل صادق المقالة ... أو حكم من يشرطها في الشاهد ... أو عمل الحبر بقول الواحد ...
فهذه أربع طرق للتعديل الأولى قول العدل من أئمة التعديل إنه ثبت أنه حجة أو ثبت حافظ وعدوا في علوم الحديث رتب التعديل أربعا بالنظر إلى ألفاظ الائمة المعدلين محلها هناك الثانية قد دخلت تحت الأولى وإن جعلها أئمة الأصول رتبة ثانية وذلك قول المزكي هو عدل لكذا أي لأني صحبته سفرا وحضرا فما أتى بشيء يخرم العدالة فهذا قد شمله قوله بقول عدل صادق المقالة بل قد اعترض عدها رتبة غير الأولى
الثالثة قوله حكم من يشرطها في الشاهد أي أنه إذا حكم حاكم بشهادة الراوي فإن حكمه بها تعديل له وقولنا من يشرطها أي العدالة في الشاهد ضبط للفظ الأصل ومثلها عبارة الفصول وقد اعترض عليه
شيخه بأن شرط عدالة الشاهد إجماع فلا حاجة إلى قولهم عند من يشرطهما في الشاهد
الرابعة قوله أو عمل الحبر بفتح الحاء المهملة وتكسر العالم فإن عمله برواية الراوي تعديل له ولا حاجة إلى تقييده بالذي لا يقبل المجهول لأن من يقبله ليس معدودا في الناظرين في العدالة وطرقها لأن قبوله المجهول أسقط عنه البحث عن ذلك فلا يدخل فيمن عقدت لهم القاعدة
واعلم أنه لا بد في كون حكم الحاكم تعديل أن لا يكون له مستند في حكمه إلا الشهادة وأن لا تكون الشهادة إلا قدر نصابها وهم الاثنان أو الرجل والمرأتان ولا بد في كون عمل العالم تعديلا أن لا يكون له مستند سوى تلك الرواية عن ذلك الراوي ومن شرط عمله بها أن يكون في تحليل أو تحريم لا في الفضائل فإنه نقل البرماوي عن ابن تيمية أن الحديث إذا كان من أحاديث الفضائل فلا يكون عمل العامل به تعديلا لراويه لتساهلهم في أحاديث الفضائل واعلم أنهم عدوا من طرق التعديل ما فيه ضعف فأشرنا إليه وإلى ضعفه بقولنا ... قيل وأن يروي عنه عدل ... وهو ضعيف قاله الأقل ...
وللعلماء في المسألة ثلاثة أقوال الأول أن رواية العدل عن غيره لا تكون تعديلا مطلقا وهو أقواها الذي أشير إليه في النظم وذلك لما علم يقينا من رواية الأئمة عن الضعفاء حتى البخاري ومسلم مع أنهما أعز العلماء شرطا كما قيل وقد وجد في رواتهما ضعفاء كما أوضحناه في شرح التنفيح فكيف بغيرهما وبه تعرف ضعف هذا القول
القول الثاني أنه تعديل مطلقا
الثالث التفصيل وهو أنه كان لا يروى عن عدل فروايته تعديل
وإلا فلا واختار هذا التفصيل أئمة من الأصوليين وأهل الحديث وقد قيل إنه شرط الشيخين وقد وجد في رجالهما جماعة ضعفهم الأئمة من حيث العدالة كما أشرنا إليه وإذا عرفت أن التعديل من باب الرواية ومثله الجرح احتيج إلى ذكر الخلاف هل يكفي عدل واحد كما لوح به قولنا بقول عدل صادق أو لا يكفي فقلنا ... ويكتفى في الجرح والتعديل ... بواحد ولو بلا تفصيل ...
إشارة إلى مسألتين الأولى أنه يكفي الواحد في الإخبار بالعدالة والإخبار بالجرح وهذا فيه خلاف ذهب قوم أنه لا بد من نصاب الشهادة في الجرح والتعديل قال في تشنيف المسامع في الاكتفاء بجرح الواحد وتعديله في الرواية والشهادة مذاهب أحدها الاكتفاء به فيهما وبه قال القاضي أبو بكر في التقريب وعبارته في التقريب وهذا القول قريب ولا شيء عندنا يفسده انتهى وقال الإمام المهدي في المعيار وهو الأصح إذا القصد الظن وهما خبر لا شهادة
الثاني يكفي في الرواية لا الشهادة ونسب للأكثر قال الزركشي لأن شرط الشيء لا يزيد على أصله بل قد ينقص كالإحصان يثبت باثنين وإن لم يثبت الزنى إلا بأربعة فإذا قبلت رواية الواحد فلأن تقبل تزكية الواحد وجرحه أولى لأن غاية مرتبة الشرط أن يلحق بمشروطه فإذا لم يقبل في الشهادة إلا اثنان لم يقبل في تزكيتهما أقل من اثنين
قلت إن أراد أنه لا بد لكل شاهد من مزكيين ليكون للشاهدين أربعة مزكين فقد زاد الشرط على المشروط وإن أراد أنه لا بد لكل شاهد من مزك فهو لا يخرج من قول قابل الواحد غايته أن قابل الواحد يقول يكفي في الشاهدين جارح أو مزك فالحق قول قابل الواحد في الأمرين أي الشهادة والرواية كما قواه المهدي إذ هو من باب الإخبار ويلزم من شرط الاثنين مذهب الجبائي في عدم خبر الفرد الواحد
المسألة الثانية التي تضمنتها الإشارة بقوله ولو بلا تفصيل فإنها إشارة إلى الخلاف بين العلماء في الإخبار بالجرح والتعديل هل يكفي فيه الإجمال أو لا بد من التفصيل وفيها أقوال قيل يكفي فيهما الإطلاق ولا يجب ذكر السبب لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية وإن كان بصيرا فلا معنى للسؤال وهذا رأي الباقلاني والثاني يجب ذكر سببهما للاختلاف في أسباب الجرح والمبادرة إلى التعديل بالظاهر الثالث يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر والرابع عكسه يجب في الجرح دون التعديل وهو قول الشافعي إذ قد يجرح ما لا يكون جارحا لاختلاف المذاهب فيه بخلاف العدالة إذ ليس لها إلا سبب واحد قلت وهذا أحسن الأقوال وقد أوضحناه في شرح التنقيح
واعلم أنه لا بد في الجارح والمزكي أن يكون عارفا بصيرا بأسباب الأمرين ذا خبرة طويلة بالرجلين كما صرح به المهدي في البحر في كتاب الشهادات ولم يأت بقيد عارف للعلم بأنه لا يقبل الأمران إلا من عارف بأسبابهما وإلا لم يعتد به إذ مع الجهل بهما لا يعد تعديلا ولا جرحا وفي الفروع قول فيه تفصيل وهو أنه إن كان الجرح قبل الحكم كفى فيه الإجمال وإن كان بعد الحكم فلا بد فيه من التفصيل ثم إذا تعارض الجرح والتعديل ففيه أقوال أشرنا إلى الراجح منها بقولنا ... والجارح الأولى على الصحيح ... وإن يزد عدا على الترجيح ...
اختلف أهل الأصول في هذه المسألة فالفحول على أن الجارح أولى وإن زاد عدد المعدلين على الجارح فضمير يزد يعود إلى المعدل الدال عليه السياق ووجه أرجحية هذا القول أن قبول الجرح جمع بين كلامي الجارح والمعدل لأن قول المعدل هو عدل معناه لا أعلم جارحا وقول الجارح بخلافه معناه علمت فيه ما يخرم عدالته فكان قبول الجارح تصديقا لهما وهذا إذا أطلق وكان مذهبهما واحدا في أسباب الجرح والتعديل وقد قيد هذا الإطلاق لأن ذلك فيمن كان محتملا للأمرين لا لو كان المجروح ممن علمت
عدالته واشتهرت نزاهته كعلي بن الحسين زين العابدين وإبراهيم بن ادهم فلا يسمع الجرح فيهما وقد حققنا هذا في ثمرات النظر
القول الثاني الترجيح بين خبر الجارح وخبر المعدل وهو ظاهر كلام ابن الحاجب
الثالث التعديل مطلقا لأن الجارح قد يجرح بما ليس بجارح في نفس الأمر والمعدل لا يعدل حتى يتحقق بطريقة ظنه سلامته من كل جارح وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف
الرابع تقديم التعديل إذا كان أكثر لأن لكثرة تأثيرا في قوة الظن وإذا تعارض القياس وخبر الواحد فيها خلاف أشار إليه قولنا ... وكلما نافى القياس يقبل ... وهو له عند الكثير مبطل ...
هذه المسألة تعارض القياس وخبر الآحاد مع تعذر الجمع بينهما ولذا قلنا نافي القياس فهو محل النزاع أما مع إمكان الجمع بين الخبر والقياس
فليس من محل النزاع فالضمير في قوله وهو يعود إلى الخبر المراد بفظ ما في كلما المدلول عليه بالسياق كما عاد إليه ضمير نافي وفي له للقياس وقد اختلف العلماء في ذلك هل يرجع القياس أو خبر الآحاد الذي ذهب إليه الجمهور من أئمة الآل وغيرهم أنه يقدم الخبر ويطرح القياس وروي عن مالك أنه يقدم القياس وقيل إنه محل اجتهاد فما غلب على ظن المجتهد اتبعه ودليل الأولين أن الصحابة تركوا الاجتهاد أي القياس عند وجود خبر الآحاد وقد عدوا في المطولات قضايا من ذلك للشيخين وغيرهما هجروا فيها القياس لأجل خبر الآحاد وبأنه وقع في حديث معاذ تقديم الخبر على القياس ويأتي خبر معاذ في القياس وأقر صلى الله عليه و سلم معاذا على ذلك وبأن خبر الواحد أصل للقياس ومستقل بنفسه كنص الكتاب فالقياس فرع عليه فلو قدم عليه لكان من تقديم الفرع على الأصل وبأن مقدماته أقل من مقدمات القياس فإن مقدماته عدالة الراوي ودلالة الخبر بخلاف القياس فإنه يتوقف على مقدمات حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعيين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع وهذا إذا لم يكن أصل القياس خبرا آحاديا وإلا وجب الاجتهاد في الأمور الستة وفي الأمرين الأولين اللذين هما مقدمة خبر الآحادي فإذا قدم القياس عليه كان تقديما للأضعف على الأقوى وهو باطل إجماعا وذلك لأن ما يجتهد فيه في مواضع أكثر فاحتمال الخطأ فيه أقوى والظن الحاصل به أضعف فهذه أربعة أدلة لتقديم الخبر الآحادي على القياس وقد عارضها من اختار تقديم القياس بما لا يقاومها ولهذا جزمنا في النظم بهذا القول وأشرنا إلى قول من قدم القياس وهم الأقل بقولنا وهو له عند الكثير مبطل أي أن الجمهور قدموا الخبر الآحادي وأبطلوا به حكم
ما عارضه من القياس فأفهم أنه عند الأقل غير مبطل وإذا كان لا يبطله فهو معمول به فهذا حكم الخبر الآحادي إذا خالف القياس وأما حكمه إذا خالف الأصول فهي مسألة أخرى تضمنها قوله ... ورد ما خالف ما قد قررا ... من الأصول فاستمع ما حررا ...
اعلم أن معنى رد الحديث عدم العمل به في غير مورده لا الحكم بكذبه ويكون ما أفاده مما فعله صلى الله عليه و سلم قضية عين موقوفة على محلها لا تتعداها وهذه مسألة ذكرت في الأصل وذكرها في الفصول وجعلوا الآحادي هنا قسمين ما خالف الأصول نفسها وفسروها بالكتاب والسنة والإجماع المعلومة لا المنظونة فإن المنظون ليس بأصل ومخالفة الآحادي لها بأن يقضي بخلاف مقتضاها كأن تقضي بالتحليل لعين ما قضت فيه بالتحريم وهو الأول والثاني أن يخالف مقتضاها فان يقضي فيما لم يوجد فيها حكم بعينه بخلاف حكم نظيره قالوا فالأول يرد فيه خبر الآحاد إذ لا يقوى على مقاومة القطعي وهذا هو الذي تضمنه النظم فلذا قلنا من الأصول بيان لما قد قرر وأما ما خالف مقتضاها فقال في الفصول إنه يقبل ووقع الخلاف في أحاديث آحادية وردت بأحكام هل هي مخالفة للأصول نفسها أو لمقتضاها كخبر القرعة الذي أخرجه مسلم وغيره في إقراعه صلى الله عليه و سلم بين السنة العبيد الذين أعتقهم من لا يملك غيرهم فأعتق صلى
الله عليه وآله وسلم اثنين وأرق أربعة وخبر المصراة المتفق عليه بأن من ابتاعها وفسخها بعد أن حلبها ردها وصاعا من تمر ذهبت طائفة إلى قبول هذه الأخبار لأنها إنما خالفت مقتضي الأصول لا الأصول نفسها وقال أبو عبدالله الكرخي إنها خالفت الأصول أنفسها فلا تقبل قال لنقل الأول الحرية عن الثلث الذي ينفذ في كل واحد لأن العتق في مرض الموت حكمه حكم الوصية وعن الثلثين الباقيين بعد الثلث أيضا إذ العتق قد تسرى إليهما والإجماع منعقد على أنه لا يطرأ عليها الرق ولمخالفة الثاني أي خبر المصراة ما أجمع عليه من ضمان المتلف بمثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان قيميا ثم مثل لما خالف مقتضى الأصول بما لا حاجة بنا إلى ذكره إذ النظم لم يشر إلا إلى القسم الأول ونقل أن الشافعي جعل الحديثين مما خالف مقتضى الأصول فقبلهما وقال بحكمهما قلت وهو الحق وقد أوضحناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار وفي العدة حاشية شرح العمدة وإنما اقتصرنا علة ما ذكرنا لأن النظم تابع للأصل كما قد نبهنا عليه على أن في الأمثلة كما قال في نظام الفصول بحثا وهو أن الأصل الذي خولف فيها هو الإجماع والإجماع لم يكن في عصره صلى الله عليه و سلم حجة وبعده يستلزم نسخ الحديثين بالإجماع والإجماع لا ينسخ به كما علم قلت إلا أنا
نمنع تحقق الإجماع هنا كيف وهذا الشافعي يخالف في محل النزاع فالحق أن الآحاد من الأصول وكون الكتاب ومتواتر السنة قطعي المتن فهو ظني الدلالة فهو الآحاد فيها واعلم أنه اختلف الأئمة في جواز الرواية للحديث بالمعنى فأشرنا إليه بقولنا ... هذا وقد جوزت الرواية ... للفظ بالمعنى لذي الدرايه ...
فهذه مسألة رواية الحديث بالمعنى وهي مسألة خلاف فالجمهور على جواز رواية الحديث بالمعنى من عارف بأساليب الكلام يمكنه تأدية المراد والوفاء به كما قال لذي الدراية والمراد به العدل العارف الضابط أما العدالة فشرطها قد عرف من حيث أنه خبر ولا يقبل إلا من عدل وأما العرفان بمعاني الألفاظ وضبطها فكامل الدراية لا يتم وصفه بها إلا بهما وقد دل للجواز ما أخرجه الخطيب في الكفاية عن يعقوب بن عبدالله بن سليمان الليثي عن أبيه عن جده قال أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا بآبائنا وأمهاتنا إنا لنسمع منك الحديث ولا نقدر على تأديته كما سمعناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس وقد أخرجه الحكيم والطبراني وابن عساكر وأخرجه الحكيم أيضا عن أبي هريرة فقد نبه صلى الله عليه و سلم على أن الملاحظ هو إصابة المعنى وقد استدل أيضا بإجماع الصحابة فإنه كان يروي من يروي
منهم حديث الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير مناكرة ولا ريب أن الأولى هو المحافظة على اللفظ النبوي ما أمكن إلا أن هذا الإطلاق مخصوص بما ورد من ألفاظ الصفات الإلهية فإنه لا يجوز تبديلها بلفظ آخر وقد نبهنا عليه في كتابنا إيقاظ الفكرة وكذلك ما كان من جوامع الكلم وكذلك الأدعية فإنه يتحرى فيها الألفاظ الواردة لأن ألفاظ الدعاء مقصودة والإخلال بها إخلال بالمعنى وهو اللفظ الذي قصد ولأن الأدعية مما تتوفر الدواعي إلى حفظها والحرص عليها والغالب على الأدعية النبوية الإيجاز في ألفاظها أي فلا يعسر حفظها ويدل على المنع في الأدعية ما أخرجه جماعة من الأئمة أحمد والبخاري والترمذي من حديث البراء بن عازب قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول قولوا هذه الكلمات عند المضطجع ويعلمناهن اللهم إني وجهت وجهي إليك الحديث وفيه قال فرددتهن لأستذركهن فقلت وآمنت برسولك الذي أرسلت فقال قل آمنت بنبيك الذي أرسلت فرد عليه وقد كان صلى الله عليه و سلم علمه لفظ نبيك وغيره هو بلفظ رسولك فرد عليه وأخذ منه أنه لا يؤتي في الأدعية النبوية إلا باللفظ
ولما اختلف العلماء في بعض الرواة ممن جمع صفات القبول إلا أنه نقل عنه اعتقاد يلزم منه كفره أو فسقه تأويلا قلنا ... واختلفوا في كافر التأويل ... وفاسق التأويل في القبول ...
هذه مسألة قبول فساق التأويل كفاره في الرواية واعلم أن كافر التصريح وفاسقه كشارب الخمر لا يقبلان في الرواية بالاتفاق وإنما الخلاف في
كافر التأويل وهو من أتى من أهل القبلة ما يوجب كفره غير معتمد كذا قاله في الفصول ومثله بالمشبه فإنه يتضمن رد القرآن وهو قوله تعالى ليس كمثله شيء قلت وينبغي أن يراد بالمشبه من جزم به في قوله كمن قال إنه تعالى جسم صفته كذا مثله كذا لا أنه من أتى بقول فألزمه خصمه التشبيه فإن التحقيق أن لازم المذهب ليس بمذهب واعلم أنه قد تساهل الناس في هذه المسألة تساهلا كبيرا وهو أمر خطير على أنا وجماعة المحققين لا نثبت كفر التأويل وقد أوضحناه في غير هذا الموضع في رسالة مستقلة ولذا قلنا ... والحق عندي أنه مقبول ... وقاله الأئمة الفحول ...
إذا عرفت هذا فإنه قال المنصور بالله والإمام يحيى وغيرهما إنها تقبل رواية كافر التأويل وادعى الإجماع على ذلك وعند جماعة من أهل البيت والمعتزلة وغيرهم وآخرين أنها لا تقبل روايته وادعى الإجماع على هذا كما ادعي على خلافه واستدل الأولون بأنه صلى الله عليه و سلم حكم بإيمان الجارية التي قالت إن الله تعالى في السماء أخرجه مسلم وغيره وهو مستلزم للجهة التي تستلزم الجسمية والعرضية ولأن الأصل في من علم قيامه بفرائض الإيمان عدم ما يرفع الإيمان واستدل المانعون لقبوله بقياسه على كافر
التصريح وأجيب بأنه قياس مع الفارق وأي فارق أعظم من القيام بالإيمان ووظائفه وأما فاسق التأويل فهو من أتى من اهل القبلة ما يوجب فسقه غير متعمد ومثلهم في الفصول بالخوارج قال الجلال في شرحه وأشار بالتمثيل بالخوارج إلى ما أشار بالمشبهة في كفر التأويل لأن معنى كفر التأويل كما قدمناه لك استلزام القول عدم الإيمان بدين ضروري ومعنى فسق التأويل استلزام الاجتهاد عدم العمل بدين ضروري وإن كان مؤمنا بشرعيته فالخوارج مؤمنون بحرمة أموال المسلمين ودمائهم وإنما انتهكوها لشبهة عرضت لهم هي توهم أن المعاصي كفر الشرك انتهى
قلت وفي فتح الباري ذكر أقوال في حكم الخوارج على أمير المؤمنين علي عليه السلام ومنهم كفرهم تكفيرا صريحا والأدلة مستوفاة هناك
واعلم أنه نقل السيد محمد بن إبراهيم في العواصم والروض الباسم وفي التنقيح نقل الإجماع على قبول فساق التأويل عن عشرة من أئمة الإسلام وعلماء الدين من أهل البيت وغيرهم وأطال النفس في الاستدال لذلك ما يقارب أربعين دليلا وقد وفينا المقام حقه في شرحنا لتنقيح الأنظار وأول الأدلة له إجماع الصحابة فإنه لما ظهرت فيهم الفتن وتفرقوا وتحزبوا وانتهى أمرهم إلى القتل والقتال لم يعلم من أحد منهم الرد لرواية وهذا ناهض على قبول رواية فساق التأويل لا كفاره لأنه لم يقع التكفير بالتأويل في عصر الصحابة ولكن قد نقل الإجماع على قبول كفار
التأويل المنصور بالله والقاضي زيد وجماعة ثم إن الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد لم تفصل فهي شاملة لأهل التأويل ثم إن الاعتماد عندنا على صدق الرواي بعد تحقق إسلامه كما قررناه في ثمرات النظر وغيرهما ولما كان الصحابة رضي الله عنهم هم أول الرواة للشريعة النبوية وعنهم تلقاها الأمة احتيج إلى بيان حقيقة الصحابي وعدالته فقلنا ... ومن يطل للمصطفى المجالسة ... متبعا لشرعه مذ جالسه ... فهو الصحابي وهم عدول ... إلا الذي يأيى وهم قليل ...
اشتمل البيتان على مسألتين الأولى في حقيقة الصحابي والمراد به هنا من صحب النبي صلى الله عليه و سلم وثبتت له أحكام الصحبة ولفظ الصحابي قد صار عند الإطلاق كالعلم بالغلبة لا يتبادر منه إلا من صحبه صلى الله عليه و سلم فالمراد بالصحابي في النظم الشخص المنسوب إلى صحبته صلى الله عليه و سلم فيشمل المرأة الصحابية ولما صار كالعلم بالغلبة فلا بد من اعتبار طول المجالسة والملازمة إذ الغلبة إنما تكون بكثرة الاستعمال في الشيء حتى إنه يصير مختصا به من بين أفراد ما يطلق عليه ولا يحتاج إلى قرينة عند الإطلاق فهو كالإضافة ولا عهد إلا لمن طالت مجالسته له صلى الله عليه و سلم فقولك صاحب رسول الله عليه وآله وسلم وصحابي مستويان في أنه يشترط فيهما طول الملازمة بحيث لا يحتاج إلى قرينة عند الإطلاق فظهر بهذا صحة اشتراط طول الملازمة في الصحابي كما هو نص النظم وهذا الكلام كله لفظ الصاحب فإنه لغة يطلق لأدنى ملابسة ولو بينه وبين الجماد نحو يا صاحبي السجن وكذلك
أصحاب الجنة وأصحاب النار وقيل إنه لا بد من اشتراط طول الملازمة فإنهما إنما سمى صاحبي السجن لطول الملازمة وإلا لسمي يوسف صاحب السجن وكذلك أصحاب الجنة وأصحاب النار فالملازمة معتبرة في لغة وفي اشتراطها هنا خلاف فالمحدثون لا يشترطونها قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر إن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه و سلم مؤمنا به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة في الأصح انتهى
وأما اشتراط أن يروي عنه وأن يغزو معه فمما لا يدل عليه المعنى اللغوي وإن كان اصطلاحا فلا مشاححة فيه لكن مع تحقيق الأدلة وتحرير محل النزاع تجد في البحث خبطا وقد وضحه في الفواصل وقد نقل ابن الصلاح عن أبي المظفر السمعاني أن اسم الصحابي من حيث اللغة والظاهر يقع على كل من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه و سلم وكثرت مجالسته على طريق التبع له
المسألة الثانية عدالة الصحابي قد أفاد النظم أن كل الصحابة عدول وهذا هو الأصل إلا من أبي وهذا اللفظ اقتباس من الحديث النبوي وهو ما أخرجه البخاري مرفوعا كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى انتهى
والصحابة داخلون تحت عموم اللفظ وقد ثبت أحاديث أنه يذاد جماعة منهم عن الحوض كما قال السيد محمد رحمه الله في العواصم إن الأحاديث
في أنه يذاد عن الحوض جماعة من الصحابة وردت من طرق صحيحة متعددة متكاثرة أو متواترة انتهى
وأئمة الحديث وإن أطلقوا بأن الصحابة كلهم عدول فقد بينوا أنه من العام المخصوص وخرجوا جماعة منهم مثل الوليد بن عقبة وغيره كما بينه السيد محمد في التنقيح وزدناه توضيحا في شرحنا في التوضيح وأما الأدلة على عدالة الصحابة فكثيرة جدا قد استوفيناه في التوضيح أيضا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية
واعلم أن الذي نختاره أن الأصل عدالة الصحابة إلا من ظهر
اختلالها منه بارتكاب مفسق وهم قليل كما أفاده النظم وهذا الذي ذهب إليه أئمة أهل البيت والمعتزلة واختاره المهدي في شرح المعيار وهو كلام الباقلاني من الأشعرية ولفظ الفصول أئمتنا والمعتزلة وهم عدول إلا من ظهر فسقه
وهذا بعينه هو مذهب المحدثين كما قرره السيد محمد في العواصم والتنقيح لما كانت الرواية للأحاديث لها طرق متعددة ألم بها النظم جملة في قولنا ... هذا هو المختار فيما قد مضى ... وللرويات طريق ترتضى ...
الإشارة بقوله هذا هو المختار إلى ما مضى إلى مسألة الصحابي رسما وحكما كما قررناه في الشرح لا أنه يعود إلى جميع ما سلف في باب الأخبار فقد عرفت أنا أخترنا في الشرح أشياء تخالف ما في النظم فتذكر وهذه مسألة طرق الروايات أشرنا إليها بقولنا وللروايات طريق ترتضي إفراد الطريق لإرادة الجنس وإلا فلها طرق والطريق لغة ما يوصل إلى محسوس واستعمل فيما يوصل إلى المعقول وهذه المسألة تحقيقها في علوم الحديث ولنذكر هنا ما يفيد الناظر
فاعلم أنهم جعلوا للصحابي سبع مراتب فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه و سلم
الأولى سمعته يقول أو حدثني أو أخبرني أو قال لي مما يدل على الاتصال ولا يتطرق إليه الاحتمال
الثانية قوله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو خطب أو وعظ وهذه تحتمل الواسطة فيكون مرسل صحابي
الثالثة أمر رسول الله عليه وآله وسلم أو رخص ونحوهما فهذه دون الثانية لأنه يزيد مع احتمال الإرسال احتمال أنه ظن الصحابي أن ما ليس بأمر أمرا
الرابعة قوله أمرنا بكذا أو امر بصيغة البناء للمفعول أو نهينا عن كذا فإنه يحتمل أن الأمر غير رسول صلى الله عليه و سلم من أحد الخلفاء أو أنه استنباط من الصحابي وأنه سمع النهي فاستنبط منه الأمر بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده
الخامسة قوله من السنة كذا فإنه يحتمل أنها سنة الخلفاء أو طريق المسلمين فكل هذا خلاف الظاهر عند الجمهور
السادسة قوله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه يحتمل عدم السماع منه صلى الله عليه و سلم
السابعة كانوا يفعلون وكنا نفعل فإنه قيده بعهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمختار أنه مرفوع كما أن المختار في الطريقة الأولى والتي بعدها ذلك على تفصيل في بعضهما معروف في مطولات الفن وقد استوفى ذلك التلميذ رحمه الله في الفواصل وقد جمعنا هذه الطرق في قولنا ... لفظ الصحابي إذا روى خبرا ... عن البشير النذير خير بشر ... حدثنا ثم قال ثم أمر ... ثم أمرنا وقيت كل ضرر ... ثم من السنة ثم عنه وقل ... كنا وكانوا مقيدا بخبر ...
ولم يتعرض لهذه الطرق بخصوصها في النظم إلا أنها قد دخلت فيه إجمالا كما تعرفه من قولنا ... جملة ما في الأصل منها أربع ... قراءة الشيخ على من يسمع ...
أي قراءة الشيخ هو المبتدأ وخبره تقدم وهو قوله منها وهو الجار والمجرور واعلم أن هذه الأربع باعتبار صنيع الأداء تسمى مراتب وتسمى باعتبار الأخذ عن الشيوخ طريقا
فالأولى من الأربع قراءة الشيخ والرواي يسمع سواء كانت قراءته من حفظه أو من كتابه قاصدا للتحديث أولا وهنا يقول الراوي حدثنا وأخبرنا وقال لنا إذا كان معه غيره وإن كان معه غيره وإن كان منفردا بالسماع أفرد الضمير
الثانية قوله ... أو من روى أو غيره لديه ...
أي أو قراءة من روى عن الشيخ وهو التلميذ أو قراءة غيره أي غير التلميذ مع كون الراوي حاضرا لدى الشيخ أي حاضرا في سماع قراءة ذلك الغير فقيد لديه قيد لمحضره وبحضرته الذي أتى به في الأصل وغيره وشرطوه لتحقيق سماعه لما قرأه ذلك الغير على الشيخ إذ ليس مجرد قراءة الغير
مع عدم تحقق السماع كافية ويسمون هذه الطريقة عرضا ويختارون أن يقول الراوي بها حدثنا قراءة أو اخبرنا قراءة عليه أو نحوه بشرط التقيد بالقراءة إذ نسبة الأخبار والتحديث إليه بدون ذلك القيد كذب إذ لا تحديث من الشيخ ولا إخبار فإنه لا يشترط في هذه الطريقة تقرير من الشيخ باللفظ ولا بتحريك رأسه بل يكفي سكوته من غير إكراه له ولا غفلة إذ سكوته تقرير لا يجوز إلا مع صحة ما قرىء عليه وسلامته من التحريف والغلط ولو كان كذلك كان قادحا في عدالته
الثالثة من الطرق قولنا ... أو ناول المسموع من يديه ...
ضمير ناول للشيخ أي إذا كان طريق الرواية أن الشيخ ناول تلميذه ما سمعه أو قوبل على ما سمعه وكذلك يدخل فيه ما إذا أتاه التلميذ بنسخة فتأملها بلا غلفة ولا إكراه ثم يقول هذا مسموعي من طريق كذا والتقييد بقوله من يديه يخرج ما إذا أشار إلى كتاب معين وقال أجزت لك رواية هذا عني وهو سماعي من فلان فهذا يكون خروجا عن هذه الطريق إلى طريق الإجازة كما يراه أهل الحديث فإن اشتراط المناولة من اليد هو الذي عليه أئمة الحديث وقد خالف الغزالي وغيره وقالوا لا تشترط المناولة والأولى ما قاله المحدثون لأن هذا قسم يسمى المناولة فلا بد منها باليد وإذا لم تكن باليد خرج منها إلى قسم الإجازة وهذه الطريق خالف في جوازها بعض أهل العلم والمختار الجواز وبه قال الجمهور وادعى
القاضي عياض الإجماع على جوازها ويقول التلميذ في الرواية بها أخبرنا مناولة أو ناولني ونحوها
الرابعة من الطرق أشار إليها قولنا ... كذا إذا أجاز ما يرويه ... والأول الأقوى وما يليه ...
وهذه آخر الطرق المذكورة هنا وهي الإجازة مصدر أجزت إجازة أي سوغت له وأبحت والإجازة أنواع إما الخاص في خاص كأجرت لك أو لكم رواية الكتاب الفلاني أو خاص في عام كأجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي وإما عام في خاص نحو أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي رواية الكتاب الفلاني وإما عام في عام نحو أجزت لأهل العصر رواية جميع مسموعاتي ولها أنواع عديدة قد بيناها في شرح تنقيح الأنظار وفي جوازها أقاويل وتفاصيل هنالك مستوفاة والأصح جوازها من الموجود للموجود وعليها الناس قديما وحديثا ويقول التلميذ أخبرني فلان بالإجازة أو أجازني أو نحوها وبقي طريقان الوجادة والمكاتبة وقد استوفاهما في الفواصل وهما مستوفاتان مع بقية الأبحاث في علوم الحديث ... وجاز أن يروي من تيقنا ... سماعه أي كتاب عينا ... وإن أضاع ذهنه التفصيلا
الراوي إما أن يتيقن سماعه تفصيلا لكتاب على شيخ فلا كلام في جواز الرواية لذلك عن شيخه كما أنه لا خلاف في عدم جوازها إذا تيقن عدم سماعه وإنما الكلام فيما إذا تيقن السماع جملة لا تفصيلا فهذا محل الخلاف فإنه نقل الخلاف في جوازه عن أبي حنيفة وفي الفصول حكى الإجماع على جوازه وأما إذا ظن السماع جملة مع سلامة النسخة من التغيير فهذا فيه الخلاف كما حكاه ابن الصلاح قال بجوازه أكثر أهل الحديث بشرط أن يكون السماع بخطه أو بخط من يوثق به والكتاب مصون من تطرق التحريف ولا بد من كون النسخة معينة كما أشار إليه النظم لأنه يقوي الظن بذلك والأصح ما ذهب إليه الجمهور فإنه إذا وجد سماعه بخطه أو بخط من يثق به وحصل له ظن جازت الرواية والعمل ودليله عمل الصحابة بكتبه صلى الله عليه و سلم ككتاب عمرو بن حزم وغيره فإنهم عملوا بها ورووها عنه لحصول الظن بنسبتها إليه صلى الله عليه و سلم إذ مدار ذلك على حصول الظن للمجتهد في ذلك
فائدة هل يجوز النقل من الكتب الموجودة المنسوبة إلى مؤلفيها نسبة اشتهار لمن لا إجازة له فيها ولا قراءة أن ينقل منها وينسب ما نقل إليها وأن هذا قول فلان أعني مؤلف الكتاب وقد تكلم في هذا البحث الإمام المهدي فقال ما لفظه اعلم أن لنا كلاما في جواز الأخذ عن الكتب الموضوعة والرواية عنها لم يذكره غيرنا وها نحن ذاكروه لأن هذا موضعه فنقول اعلم أن الكتب الموضوعة في الإسلام لا تخلو إما أن تكون في العلوم العقلية أو النقلية
أما التي في العقلية فلا كلام أنه يجوز الأخذ عنها وإن لم تقرأ على مصنفها بشروط ثلاثة
الأول أن يحصل للناظر فيها العلم اليقيني بما نظر فيه منها من تصحيح أو فساد وله أن يحكيه عن منصفه إن تيقن أنه المؤلف له أو غلب في ظنه
ما لم يغلب في ظنه أنه قد حصل فيه تحريف أو تصحيف أو زيادة أو نقصان إذ الأصل السلامة وقد صح له أنه كتابه فجاز له الإضافة إليه وليس له أن يحكيه مذهبا لمصنفه إلا حيث علم أو غلب في ظنه أنه لا قول له سواه
الثاني أن لا يجوز على نفسه تصحيف ما يحكيه ومعرفة ذلك ممكنة لا سيما في العقليات
الثالث أن لا يغلب في ظنه أن المصنف لا يرضى بحكاية ذلك القول عنه بل يكره ذلك لغرض ديني أو دنيوي فإنه حينئذ يكون بمنزلة من استودع أخاه سرا فأذاعه اللهم إلا أن يكون في كتمه مفسدة أو تدليس أو أي وجه من وجوه التلبيس المخلة بالدين فإنه لا يجوز حينئذ كتمانه
وأما الكتب الموضوعة في العلوم النقلية فاعلم أن كل من تصدى لتصنيف كتاب في العلوم الدينية فإنما يريد بتصنيفه إفادة المسلمين وهدايتهم فإذا كان كذلك فإما أن يعلم من قصده أنه لم يحجر أحدا من المسلمين عن روايته عنه بل أراد منهم أن يأخذوا به ويرووه عنه فهو في حكم المجيز لكل المسلمين أن يرووه عنه بشرط أمان التصحيف والتحريف فإذا عرفت ذلك فلكل أحد أن يأخذ عن ذلك الكتاب بشروط ثلاثة
الأول أن يكون الناظر فيه من أهل البصيرة الوافية فيما تضمنه الكتاب من الفنون ليأمن من الغلط في نقله للمعنى المأخوذ
الثاني أن لا يروي ما أخذه من ذلك الكتاب على وجه التحديث عنه بل يقول قال في الكتاب الفلاني أو رواه فلان في كتابه الفلاني وله أن يرويه مذهبا له حيث تيقن أنه المصنف ولو جوز أن له قولا آخر ما لم يغلب في ظنه أنه قول القديم
الثالث أن يكون آمنا فيما نقله من ذلك الكتاب إذا رواه من كون غيره قد ضبط تلك الألفاظ ضبطا يخرج به عن مراد المصنف وذلك لا يخفي على ذي
البصيرة الوافية في ذلك الفن فما تردد في بعض ألفاظه أو في بعض مقاصده فليس له أن يرويه عنه إلا أن يشعر بالترديد والاحتمال فحصل من المجموع ما ذكرناه أنه لا حجر عن الأخذ عن الكتب الموضوعة في الإسلام والرواية عنها على الوجه الذي لخصناه مهما عرف من تنسب إليه ولم يكن من الكتب التي لم يتواتر تعيين مصنفها ولا اشتهر ولا نقله عدل ولم يظهر الخلل في نقلها وضبطها ويكفي المقلد في جواز التقليد لمصنفها ما نقله الآخذ الجامع للشروط التي ذكرناها فهذا هو الذي يترجح لنا في ذلك إذ لا دليل على تحريمه ولا أمارة تثمر الظن ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو متجاهل وإنما ذكرنا هذا لئلا يقال إن من جمع مصنفا من كتب له فيها سماع ولا إجازة فلا يوثق بما جمعه انتهى بأكثر ألفاظه وهو كلام حسن وعليه عمل الناس قديما وحديثا وهذا عند الفراغ من مباحث السنة وما يتعلق بها اخذنا في بيان تعريف الخبر وبيان أحكام يعرف بها صحة الدليل وفساده فقلنا ... ودونك التنبيه يا نبيلا ...
اختلف العلماء في تعريف الخبر كاختلافهم في تعريف العلم فقيل لا يعرف لأن العلم به ضروري والضروري لا يحد إذ الحد إنما هو لتعريف المجهول والفرض أنه ضروري وقيل لا يحد لعسر تحديده واختار الجمهور تعريفه ومنعوا دعوى ضرورية معرفة حقيقته وعرفوه بتعاريف اخترنا في النظم ما أفاد قولنا ... والخبر الكلام ذو الإسناد ... حيث له من خارج مفاد
فقولنا ذو الاسناد أي الكلام الذي يحسن من المتكلم السكوت عليه فصل يخرج المركبات الناقصة فإن المراد بالإسناد الإسناد الأصلى المقصود لذاته وهو النسبة الواقعة بين طرفي الجملة بإفادة تامة وقولنا حيث له من خارج مفاد قيد يخرج به الكلام في الإنشائي ومفاد صفة لخارج أي خارج مفاد عن النسبة من غير نظر إلى وجودها في الخارج حقيقة أو لا والمراد بالخارج أن يكون للنسبة من حيث هي وجود خارجي مفاد عنها ثم إنه ينقسم الخبر إلى الصدق والكذب فأشرنا إلى ذلك بقولنا ... يكون صدقا إن هما تطابقا ... ما لم فكذب إن هما تفارقا ...
ضمير يكون عائد إلى الخبر وضمير هما عائد إلى الإسناد والخارج والمراد أنه إذا تطابق الإسناد والخارج كان الخبر صدقا وإن تفارقا بأن لم يتطابقا كان كذبا وذلك بأن تكون النسبة على خلاف ما في الخارج وقولنا كذب بكسر الكاف وسكون الذال قال في القاموس كذب يكذب كذبا كذبا كذبة انتهى فهي أحد اللغات فيه وأشرنا إلى أنها تختلف أسماؤه بقولنا ... وسمه قضية وجمله ... فإن أتى جزءا من الأدلة ... فإنها عندهم مقدمة ...
في التلويح أن المركب التام من حيث اشتماله على الحكم قضية ومن حيث احتماله الصدق والكذب خبر ومن حيث إفادته إخبار ومن حيث كونه جزءا من الدليل مقدمة ومن حيث يطلب الدليل نتيجة فالذات واحدة واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات وهنا أشير إلى بعض الإطلاقات
وهي أنها إذا كانت جزءا من الدليل سميت مقدمة وهو عرف أهل المنطق في القياس الاقتراني والاستثنائي فتقول في مثل قولك العالم متغير وكل متغير حادث أن كل جملة تسمى مقدمة الأولى يقال لها الصغرى والثانية يقال لها الكبرى والتقاسيم هنا كثيرة لا حاجة إلى استيفائها ولما ذكر في الأصل من أحكام الأخبار التناقض أشرنا إليه بقولنا ... هذا ومن أحكامه المترجمة ...
المراد بالترجمة ما سمي باسم خاص كالتناقض والعكس ونحو ذلك وقوله من أحكامه خبر مقدم بقوله ... تناقض القضيتين أن يختلفا ... نفيا وإثباتا وأن يأتلفا ... في وحدات قدرت ثماني ... وراجح الأقوال في الميزان ... بحيث يأتي صدق كل منهما ... عن كذب الأخرى فخذ ما رسما ...
هذا من تمام حد التناقض فقوله بحيث يتعلق بقوله أن يختلفا والمراد بقوله يأتي يلزم وهو اللزوم الذاتي كما قال في الغاية بحيث يلزم لذاته من صدق كل كذب الأخرى وإنما قيدوه بقولهم لذاته احتراز عن اختلافهما لأجل واسطة نحو زيد إنسان زيد ليس بناطق فإنه إنما يقتضي صدق إحداهما وكذب الأخرى بواسطة أن كل إنسان ناطق وإنما الذي يكون لذاته زيد إنسان زيد ليس بإنسان واعلم أن هذا البيت كان ينبغي أن يتقدم على قوله في وحدات الخ ليتصل بما يتعلق به لكن اقتضى النظم تأخيره ثم عبارة التهذيب ولا بد من اختلاف في الكيف والكم والجهة والاتحاد فيما عداها والمصنف في أصل النظم اقتصر على الاختلاف نفيا وإثباتا
فتبعه الناظم في ذلك وزاد الناظم الائتلاف في الثمان الوحدات وهذا ابتداء كلام في بعض أحكام القضايا وهو التناقض فقولنا نفيا وإثباتا يخرج اختلافهما بالاتصال والكلية والجزئية ونحو ذلك فإنه وإن كان اختلافا فلا يسمى تناقضا والتناقض المحقق في مثل قولك زيد إنسان زيد ليس بإنسان ولكن لا بد من الاتفاق في وحدات ثمان كما ذكرنا بقولنا وإن يأتلفا أي يتفقا وهذه الوحدات تحقيقها في علم الميزان وهو المنطق فهذه الأبحاث دخيلة هنا وهي من مباحثه لا من مباحث أصول الفقه وحاصله أنه لا بد في تحقيق التناقض من اتحاد اختلاف فالاختلاف يكون في الكم أي الكلية والجزئية والكيف أي الإيجاب والسلب والجهة أي الضرورة والإمكان مثلا وغيرهما من الجهات والاتحاد فيما عداها وبعد ذكرنا التناقض أشرنا إلى العكس المستوى وعكس النقيض فإنهما من أحكام الخبر المترجمة فقلنا ... والعكس أعنى المستوى لك البقا ... تحويل جزئي جملة مع بقا ... صدقهما والعكس للنقيض ... تحويل كل منه بالتعريض ... فتجعل المقدم الموخرا ... من بعد أن تنقض كلا ظاهرا ...
المراد بجزئي الجملة المبتدأ والخبر على اصطلاح النحاة والموضوع والمحمول على عرف أهل المنطق ومن التحويل أن يجعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا نحو كل إنسان حيوان عكسه مستويا بعض الحيوان إنسان وإنما قلنا بعض لأنا قد شرطنا بقاء الصدق ولا يصدق إلا في بعض الحيوان إنسان ولو قلت كل حيوان إنسان لكان كذبا وذلك لأن عكس القضية لازم لها ويستحيل صدق الملزوم بدون لازمه وتحقيقه في علم الميزان وأما عكس النقيض فإليه الإشارة بقولنا والعكس للنقيض أي من أحكامه المترجمة عكس النقيض وضمير منه عائد على جزئي الجملة كما ينادي له
السياق وإفراده باعتبار كل جزء منها أي تحويل كل واحد من جزئي الجملة بنقيضه وزيادة نقيضه تفهم من قولنا من بعد أن تنقض كلا والمراد من التحويل أن تجعل نقيض الموضوع مكان المحمول وبالعكس كما يفيده قوله فتجعل المقدم المؤخر وحذف من النظام تمام التعريف وهو قولهم على وجه يصدق اكتفاء بما سبق من ذكره بالعكس المستوى لاشتراكهما في شرطية بقاء الصدق في الجزئين ولم يأت إلا بما تخالفا فيه وهو تحويل نقيض كل منهما ومثاله كل إنسان حيوان ينعكس إلى كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان وله تفاصيل في علم الميزان باعتبارات في السور والجهات وإنما أشار في الأصل إلى العكسين باختصار فتبعناه في ذلك وبعد استيفاء الكلام على الكتاب والسنة أخذ في ذكر الدليل الثالث وهو الإجماع فقال ... فصل وأما ثالث الأدلة ... فهو اتفاق العلماء الجلة ...
بالجيم المكسورة قال في القاموس وقوم جلة بالكسر عظماء سادة ذوو أخطار انتهى
... مجتهدي العدول منهم لا سوى ... في أي عصر بعد عصر المصطفى ...
فقوله اتفاق هو جنس الحد وقوله العلماء فصل يخرج به اتفاق العامة وقوله مجتهدي العدول يخرج به من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من العلماء والفاسق والكافر المجتهدان وفي أي عصر بيان لتحقيق معنى الاتفاق وبعد عصر المصطفى لإخراج اتفاق مجتهدي الصحابة في حياته صلى الله عليه و سلم على فرض وقوعه وقد خرج به الإجماع الواقع بالأمم السالفة فإنه على فرض وقوعه وكونه حجة إنما كان قبله صلى الله عليه وآله
وسلم ولعلماء الأمة خلاف كثير طويل شهير في الإجماع منهم من قال بعدم إمكان وقوعه وإن من يدعيه كاذب ومنهم من قال بإمكان وقوعه ولكنه ليس بحجة ومنهم من قال بإنه واقع وإنه حجة وهذا الأخير قول الجمهور الذي عدوه من الأدلة وعليه وقع نظمنا واستدل القائلون بأنه حجة لأدلة عقلية ونقلية وكلها أدلة مدخولة غير ناهضة وأسد الأدلة قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا قولوا ووجه الاستدلال بها توعد الله سبحانه على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه و سلم فدل على حرمة مخالفتهم وهو المطلوب في كون الإجماع حجة واعترض عليه بأن وضع الإضافة بقول سبيل المؤمنين للعهد كما صرح به أئمة النحو والبيان وقد تتعمل في غيره مجازا ولا يعدل إليه مع إمكان الحقيقة وإجماع المؤمنين عند نزول الآية غير معهود إذا لإجماع في عصره صلى الله عليه و سلم والمعهود عند نزولها هو الإيمان واتباع الكتاب والسنة وقد اعترض هذا الدليل باعتراضات كثيرة ولهذا صرح شارح غاية السؤال ومن قبله الإمام المهدي في المعيار بأن الآية حجة ظنية وقد تقرر أنه لا يثبت هذا الأصل بالأدلة الظنية وقد استدلوا بالأحاديث النبوية وهي كثيرة بالغة حد التواتر المعنوي منها أنها لا تجتمع أمتي على ضلالة
وحديث يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض ومن فارق الجماعة شبرا دخل النار وفي معناها عدة أحاديث إلا أنه لا يخفي أن نفي اجتماع الأمة على الضلالة لا يدل على وقوع الإجماع الذي نحن بصدده ولا عدمه على أن الضلالة هي الكفر فهو إخبار بأن الأمة لا ترتد كما تفيده أحاديث أخر والتوعد بالنار لمن فارق الجماعة دليل على أن المراد به فارقهم بالخروج عن الإسلام وغاية ما تدل عليه الأحاديث بعد الإغماض عن الاحتمالات أن تدل على الإجماع والمدعي دلالة ظنية والأصوليون لا يكتفون بها في إثبات الأصول وإن رجحنا نحن أنه يكتفي بها إلا أن على صحة ثبوته من بعد عصر الصحابة بحثا واضحا وهو أنه بعد انتشار نطاق الإسلام وتباعد أقطاره وكثرة علمائه يستحيل أن يثبت عنهم إجماع فإن من أنصف من نفسه علم أنه لا سبيل إلى الإحاطة بأشخاص فضلا عن معرفة قول كل فرد منهم في المسألة الفلانية فالحق ما قاله بعض أئمة التحقيق الجلال من المتأخرين أنه لم يقع الإجماع إلا على ضروري كأركان الإسلام والدليل الضرورة ولو فرضنا وقوعه لما علمناه لمحالات عادية إما في وقوعه فلأن مستنده إن كان ضروريا استحال عدم نقله إلى من بعدهم وإن كان ظنيا استحال الاتفاق عليه لاختلاف القرائح
وقد أجيب عن الأول بأنه يستغنى بنقل الإجماع عن نقل القاطع لارتفاع الخلاف المحوج إلى نقل القاطع وهو جواب باطل لأن الاستغناء بالإجماع فرع
ثبوت حجيته وهي محل نزاع ثم إن الحاجة إلى نقل القاطع ليس هو الحاجة إلى دفع الخلاف بل نفس ضروريته من الدين التي لا يمكن خفاؤها على مسلم فضلا عن مجتهد وعن الثاني لأن الدليل الظني قد يكون جليا فلا يبعد الاتفاق على مدلوله وأجيب بأن جلاء المدلول لا يستلزم جلاء السند للخلاف في شروط الراوي والرواية ومقدار الرواة والمذاهب في الجرح والتعديل وغير ذلك فيستحيل الاتفاق منها على غير ضروري استحالة بعض العلوم العادية وأما في نقله عنهم لوقوع فمستحيل أيضا لخفاء بعضهم أو انقطاعه أو أسره أو خموله أو كذبه أو عدم نظره أو الرجوع عن النظر قبل قول الآخر ثم النقل
أما الآحاد فلا يفيد وأما التواتر فبعيد وقد أجيب بعدم الاستحالة مسندا بالوقوع أيضا للقطع بإجماعهم على تقديم النص القاطع على المضمون وهذا جواب باطل لأن تقديم القاطع على المظنون بضرورة العقل والنزاع في الشرعيات والحجة الضرورة كما علمت لا الإجماع ومن تتبع كلام القائلين لثبوت الإجماع علم أنه لا يتم الدليل على دليليته ولا على وقوعه وتحققه وأما قول بعضهم بإثبات الوقوع أنهم أجمعوا على استقبال الكعبة فهذا مما علم أنهم أجمعوا عليه ولنا علم بضرورة العقل والشرع وهو علمنا بأنهم عقلاء وأنهم أيضا لا يكذبون الشارع لأن رد الضرورة الشرعية بمنزلة التكذيب ولهذا يكفرون من جحد ضروريا من الدين فيما أبعد دعوى وقوع الإجماع المحقق في الصحابة وأكذبها ممن بعدهم فلو ساءلت مدعي وقوع الإجماع المحقق عن محال المسلمين وبلدانهم بل أوسع من ذلك من خطط الأرض الإسلامية
لم يحط بها علما كيف بإفراد الخليقة ثم بصفاتهم ثم باستقرارها ريثما يحصل الإجماع
ولذا قال ابن حنبل إنه يقطع بكذب ناقله وزاد غيره ويكون ناقله مجروح العدالة إذا عرفت هذا فالأحاديث الواردة في مثل ذلك عليكم بالسواد الأعظم ونحوه مما جعلوه أدلة للإجماع وقد علمت تعذره لا يبعد حملها على ما قاله بعض المحققين من المتأخرين إن المراد بهم الأكثر قال فإنا إذا جمعنا المستدلين من أهل العصر الأول والأخر من عصر الصحابة إلى وقتنا فلا شك أن الأكثر مظنة الإصابة ولذا ترجح الأدلة بعمل الأكثر ومثاله خلاف ابن عباس بالحمر الأهلية وعلي عليه السلام في بيع أمهات الأولاد ثم إن المظنات إنما تعتبر عند عدم البرهان الذي يجب عليه العمل والاعتماد إذ لا معنى للمظنة مع حصول المئنة مع أنها هناك إنما تكون مرجحة كما ذكرنا لا دليلا مستقلا فشد يديك بهذه النكتة
وقال ابن تيمية إن الإجماع ثلاثة أنواع
الإحاطي وهو الإحاطة بأقوال العلماء جميعا في المسألة وهذا علمه متعدد مطلقا
الثاني الإجماع الإستقرائي وهو أنك تتبعت أقوال العلماء فلم تجد مخالفا وهذا يحتاج إلى استقراء قول عامة المجتهدين وهذا إذا أمكن في غاية الصعوبة وأسهل منه
الثالث وهو الإجماع الإقراري وهو لا يعلم أن الأمة أقرت عليه إلا بعد البحث التام هل أنكر ذلك القول منكر وغايته العلم بعدم المنازع والمنكر وهو صعب جدا ولا يعلمه إن علمه إلا الأفراد انتهى
قلت وهذا الإقراري هو الذي يسمونه السكوتي واعلم أن الأحاديث التي سبق إليها إشارة استدل بها الجمهور وادعوا أنها تواترت معنى ووردت بألفاظ كقوله الله عليه وآله وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة يد
الله مع الجماعة لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدا فاتبعوا السواد الأعظم يد الله على الجماعة من شذ شذ في النار يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض من خالف الجماعة شبرا دخل النار ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال وغير ذلك من الأحاديث مما يؤدي معنى ما ذكرنا وقد أجيب على الاستدلال بها على حجية الإجماع المدعى بعدم تمام تطبيقها على المدعى وذلك أن حديث لا تجتمع أمتي وما في معناه إنما يدل على نفي اجتماع الأمة على ضلالة ولا يلزم منه وقوع الإجماع وثبوته أيضا فالوعيد بأن من فارق الجماعة فهو في النار إنما يدل على مخالفة الإجماع القطعي وقد عرفت أن القطعي ليس إلا ما كان في ضروري من الدين والوعيد مبتدأ بدخول النار لترك خبره الضروري من الدين ولئن سلم ان في الإجماع ما هو قطعي فالاستدلال بأحاديث الإجماع أعم من ظنى وقطعي وأيضا فالوعيد بدخول النار دليل على أن المراد من فارق الجماعة جماعة أهل الإسلام والحاصل أن من أنصف عرف أن الأحاديث لا تتم دليلا على هذا المدعى بخصوصه وكيف تحمل على أمر يعز تحقيقه أو يتعذر وإنما معناها والله أعلم بشرى هذه الأمة إنها لا تفارق الحق ولا ترتد على أدبارها وإنها لا تزال طائفة منهم على الإسلام
قال ابن تيمية في بعض رسائله إن السلف إنما كانوا ينكرون على من شذ عن الجماعة في مبايعة الإمام ولزوم جماعة المسلمين وعلى من يعتزل الجمعة والجماعة كما أنكروا على سعد تخلفه عن بيعة أبي بكر وعمر وكما سئل ابن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يشهد جمعة ولا جماعة فقال هو في النار وهذا هو معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وقال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والناجية فإنما ذلك أمر باجتماع المسلمين على أمر دينهم ودنياهم وأن لا يتفرقوا ويتباغضوا بالتفرق والتهاجر بل عليهم أن يوالي بعضهم بعضا ويتحابوا ويتناصحوا انتهى
فحمل الأحاديث على ما تراه ونعم ما قال ... وليس بالشرط انقراض العصر ... وفقد سبق بخلاف يجري ...
هذه إشارة إلى مسألتين الأولى أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين بل إذا اتفقوا على حكم كان حجة عليهم وعلى غيرهم ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته والدليل على هذا ما سبق من أدلة ثبوت حجية الإجماع من دون شرط انقراض أهل عصره
والمسألة الثانية أنه لا يشترط في انعقاده عدم سبق خلاف يجري بين الأمة وذلك نحو أن يفترق أهل عصر على قولين فيأتي أهل العصر الآخر
فيجمعون على أحد القولين فإن هذا الأخير إجماع لا تجوز مخالفته وهو رأي الجمهور لشمول أدلة الإجماع له وسبق الخلاف لا يؤثر فيه ولعلماء الأصول أقوال في هذا اشتملت عليها مطولات الفن وليس ها هنا إلا الإتيان بعيون المسائل التي اكتحلت بأنوار الواضح من الدلائل ... هذا ولا بد له من مستند ... وإن جهلناه وإن كان السند ...
أي الأمر والشأن هو ما ذكرناه والحالة أنه لا بد للإجماع من دليل يستند إليه أهل الإجماع فلا يقع إلا عن دليل شرعي لما علم من أن الأحكام الشرعية لا تكون إلا عن مستند فإنه لا يقدم مجتهد والأمة على حكم لا مستند له ولكنه لا يلزمنا معرفة مستندهم لأنه إنما يلزمنا معرفة دليل الحكم مثلا وقد قام الإجماع على الحكم الواقع فيه الإجماع وحينئذ فلا يلزمنا إلا معرفة الإجماع لأنه قد صار الدليل في ذلك الحكم ولذا قلنا وإن جهلناه ثم المستند يكون من الكتاب العزيز أو السنو النبوية أو القياس إلا الإجتهاد كما أشار إليه قولنا ... قياسنا والاجتهاد فيه ... وباطل لسبق ما ينفيه ...
فالقياس ظاهر والمراد بالاجتهاد أن يكون السند صادرا عن دلالات النصوص التي لا تثبت إلا بالاجتهاد كالمفاهيم وغيرها وقيل المراد بالقياس ما له أصل معين وبالاجتهاد ما لا يكون له أصل معين وفي المسألة خلاف وجدال في صحة كون مستنده القياس ولكن بعد ما عرفت من تعذر الإجماع لا نطيل بذكر ما في فروعه من النزاع
وأما قولنا وباطل لسبق ما ينفيه فهو إشارة إلى أنه لما تقرر عصمة الأمة عن الخطأ كان تعارض الإجماعين باطلا فإذا انعقد الإجماع على حكم شيء
بعينه لم يصح إجماع على نفيه لا يتأتى وقوعه فمعنى النظم أن الإجماع الآخر إن فرض وقوعه فهو باطل لسبق ما ينفيه من الإجماع وفيه خلاف يأتي في باب النسخ ... وما له بالخلفا انعقاد ... وليس بالشيخين يستفاد ...
أي أن الإجماع لا ينعقد وتقوم به الحجة بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم إذ هم بعض الأمة والأدلة إنما قامت على حجية إجماع مجتهديها الجميع وخالف فيه احمد فيما روي عنه وأبو خازم بالخاء والزاي المعجمتين عبد العزيز بن عبد الحميد الحاكم في خلافة المعتضد فإنه حكم بذلك وكتب إلى الآفاق برد أموال من المواريث على ذوي ارحام بعد أن صارت إلى بيت المال عملا بإجماع الخلفاء الأربعة ولم يلتفت إلى قول زيد بن ثابت واستدلوا بقوله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي عضوا عليها بالنواجذ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم وقال على شرطهما
وأجيب عن الاستدلال بالحديث بأنه لا دلالة فيه على تعيين الأربعة بل هو عام لكل خليفة اتصف بتلك الصفة التي صرح بها الحديث وقولهم الدليل على تعيين الأربعة حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا أخرجه أبو داود والترمذي وقد كانت ثلاثون هي خلافة الأربعة
ومدة خلافة الحسن عليه السلام ولكنها لما لم تطل ولم تظهر آثارها لم يعتد بها ورد بأنه باطل لأنه من جملة الخلفاء بالنص على المدة ولا تكتمل إلا بالاعتداد بخلافته وبأنه لم يعرف في الصحابة القول إن ما اتفق عليه الأربعة خلفاء فهو إجماع بل خالف ابن عباس جميع الصحابة في عدة مسائل وكذلك ابن مسعود وغيرهما ولم يقل أحد إنهما خالفا إجماع الخلفاء فالحديث محمول على بيان أن الخلفاء أهل للاقتداء بهم ثم إن ها هنا دقيقة لم يتفطن لها المستدلون بهذا الحديث ولا يعرفه إلا أفراد الناظرين وهو أن الاقتداء حقيقة هو أن تعمل مثل عمل من اقتديت به ولذا قال أئمة الأصول إن شرطه موافقته حتى الموافقة في النية فلو صلى النبي صلى الله عليه و سلم ركعتين بنية الفرض وصليناهما بنية النفل لم نكن مقتدين ولذا قال العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله في أبياته الدالية ... من قلد النعمان أضحى شاربا ... لمثلث رجس خبيث مزبد ... ولو اقتدى بأبي حنيفة لم يكن ... إلا إماما راكعا في المسجد ...
يريد النعمان أبا حنيفة فإنه قال بجواز شرب المثلث ولم يشربه فمن شربه لم يكن مقتديا بأبي حنيفة وإن كان مقلدا له فالاقتداء غير التقليد وكذلك من ترك السنن النبوية واشتغل بالمباحات لم يكن مقتديا برسوله صلى الله عليه و سلم وإن كان صلى الله عليه و سلم هو الذي أباحها وإلى مثل كلامه رحمه الله قلنا في ذم التقليد في الأبيات النجدية ... وشتان ما بين المقلد في الهدى ... ومن يقتدي والضد يعرف بالضد ... فمن قلد النعمان أصبح شاربا ... نبيذا وفيه القول للبعض بالحد ... ومن يقتدي أضحى إمام معارف ... وكان أويسا في اعبادة والزهد
فمقتديا في الحق كن لا مقلدا ... وخل أخ التقليد في الأسر بالقد ...
إذا عرفت هذا فالأحاديث أمرت بالاقتداء بالخلفاء الأربعة وسلوك طرائقهم بإقامة الدين وردع المبتدعين وجهاد الكفار والباغين والزهد في زهرة هذه الدار والإقبال على ما ينفع في دار القرار لا أنهم حجة ولا أن إجماعهم في الشرعيات حجة فقد كمل الله الدين على لسان سيد المرسلين صلوات الله عليه و على آله الطاهرين وقال تعالى في آخر ما أنزل اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ثم الأمر بالاقتداء بهم أمر بمكرمة ينالها العبد في دينه فإنهم السابقون الأولون الذين أقاموا قناة الدين وكانوا في جهاد أعداء الله وأعلى كلمته أساطين وليس بواجب كما قررناه آنفا من ترك السنن والاشتغال بغيرها وليس هذه الأحاديث إلا كأحاديث اهتدوا بهدي عمار ونحوه مما حث فيه على اتباع خصلة غير خص بها بعض الصحابة كما خص أبا عبيدة بأنه أمين هذه الأمة وخزيمة بأنها تقوم شهادته مقام شهادتين فوضع أحاديث الاقتداء في أدلة الإجماع خير موافق لمدلوله وبهذا يعرف أنه لا يتم الاستدلال بحديث اقتدوا بأبي بكر وعمر على حجية قولهما كما استدل به من قال
بذلك فلا نطيل بذكر ما في ذلك من قال وقيل لأن هذا في المدعي هو عمدة الدليل
وأما قول الصحابي إذا انفرد فقال ابن القيم إنه حجة وإنه ذهب إلى ذلك مالك وأبو حنيفة وهو نص أحمد وقول الشافعي وأطال في ذلك المقال وبسط الاستدلال واختاره لنفسه ومن تأمل الأدلة التي ساقها بعين الإنصاف علم أنه قول لا ينهض عليه الدليل وقد تكلمنا على أدلته وما فيها مما لا يقم على صحة ما ذهب إليه والله أعلم ... ولا بسكان جوار أحمد ...
أي ولا له أي الإجماع انعقاد بسكان المدينة النبوية إذ هم بعض الأمة والأدلة التي استدل بها الجمهور على إجماع الأئمة إنما دلت على إجماعهم لا على إجماع أهل بقعة معينة وقد نسب القول بأن إجماع أهل المدينة حجة إلى مالك وأتباعه وأنكر جماعة من المحققين أنه قول مالك وحملوا ما نسب إليه بأنه إنما أراد تقديم روايتهم على غيرهم وحمله آخرون على أنه يريد في المنقولات المستمرة المتكررة كالأذان والإقامة ما تقضي العادة أن تكون في زمن النبي صلى الله عليه و سلم ويبعد تغيرها عن ما كانت عليه وفي حمل كلامه على غير ظاهره أقوال أخر منها ما يقضي به استدلال ابن الحاجب أنه أراد الصحابة والتابعين وتابعيهم وبالجملة فالنزاع في أصل الاجماع كما عرفت فكيف بإجماع بعض الأمة فلا نطيل بأدلة هذه الدعوى ... قيل ولا بالآل أهل الرشد ...
أي قال جمهور الأمة إنه لا انعقاد للإجماع بأهل البيت بمعنى أنهم إذا
أجمعوا على انفرادهم على حكم فإنه لا يكون إجماعهم حجة على الأمة كإجماع الأمة وذهب أكثر الآل إلى أنه حجة وقد أشرنا إلى أدلته وأحقيته بقولنا ... والحق فيما قاله الأجله ... حجته لقوة الأدله ...
والأدلة من الكتاب العزيز والسنة النبوية التي أشرنا إليها بقولنا ... كيذهب الرجس وأهل بيتي ... وما عليها عدنا لا يأتي ... وكم أتت في فضلهم من آية ... وانظر إذا ما شئت شرح الغاية ... فإنه قد حقق الدراية ... وجاء في الأمرين بالنهاية ...
هذه مسألة إجماع أهل البيت مسألة جليلة استوفى شارح غاية السؤل أدلتها وبيان وجه دلالتها كما أشرنا إليه فالدراية بيان وجه ودلالة تلك الأدلة على المدعي والرواية ما سرده من متون الآيات والأحاديث وقولنا في الأمرين أي الرواية والدراية وإن لم يتقدم لفظ الرواية فالسياق مناد به
ولنشر إلى خلاصة ما فيها وفي غيرها من الأدلة فنقول قد استدل أهل البيت بحجية إجماعهم بالكتاب والسنة أما الكتاب فقد أشرنا إلى أنهض الآيات في ذلك وهو قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت فإنه الدليل الذي ارتضاه المحققون من علماء الآل وقرروا أوجه الاستدلال بأنه تعالى أخبر مؤكدا بأداة الحصر بإرادته إذهاب الرجس عنهم وطهارتهم عنه ولا بد من وقوع ما أراده الله تعالى من أفعاله قالوا فثبت بلا ريب أنه مطهر لهم أكمل تطهير وأتمه كما يدل عليه التأكيد بالمصدر ولما كان الرجس بمعنى الأقذار غير مراد في المقام تعين أن المراد تطهيرهم عن الأرجاس المنافية للأمور الدنية إلا أنه لما كان ظاهر الحال بأن المعاصي والخطايا واقعة من أفراد أهل البيت على سبيل الجملة ولم يتنزه عنها كل فرد منهم تعين أن يكون المراد تطهير جماعتهم عن تلك الأرجاس المنافية للديانات وعصمتهم عنها وإذا ثبت ذلك ثبت أنهم لا يجمعون على باطل
وأن الذي يجمعون عليه هو الحق الذي لا تجوز مخالفته هذا هو المطلوب هذا تقريرهم في الاستدلال ويأتي بما ناقش فيه من خالف في حجية إجماعهم
وأما السنة فأحاديث واسعة ولأنواع كل خير جامعة سردها في شرح الغاية وأتى بما فيه النهاية والهداية منها أحاديث أنهم قرناء الكتاب وأنهم لا يفارقونه إلى ورود الحوض في يوم الحساب وأنهم أمان للأمة من الاختلاف وأن الأمة لا تضل إذا تمسكت بكتاب الله وعترته وانه إذا أخبره ربه عز و جل أنهما لا يفترقان إلى أحاديث جمة نقلها من المحدثين عيون الأئمة
قال في نجاح الطالب للعلامة المقبلي عند قول ابن الحاجب ولا ينعقد بأهل البيت خلافا للشيعة ما لفظه هذا ينافي حكايته عن الشيعة نفي حجية الإجماع والمشهور الذي لا يجهله إلا مقلد في النقل لا يصح تقليده أن الشيعة يقولون بحجية إجماع الأمة وحجة إجماع أهل البيت فالرافضة لدخول المعصوم في الموضعين وأما الزيدية فلا يقولون بالعصمة في الإمام ولا باشتراطها والنقل عنهم باشتراط ذلك باطل ولكن يقولون بإجماع الأمة بمثل أدلة غيرهم وبإجماع أهل البيت لأحاديث تواترت معنى أن أهل البيت والكتاب لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض لكثرة طرقها منها عند من التزم الصحة كمسلم والحاكم وابن حبان وعند غيرهم كأحمد والطبراني والخطيب وابن أبي شيبة والدارمي وأبي يعلى الموصلي وغيرهم من أحاديث جماعة
من الصحابة قد ذكرناهم في العلم الشامخ وزعم البرزنجي أنه بلغ بهم إلى خمسة وعشرين صحابيا ويشهد له حديث مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق أخرجه الحاكم وابن جرير والخطيب والطبراني والبزار وكذا أخرج أحمد حديث النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس ومن أنصف علم أن هذا الدليل أقوى من أدلة إجماع الأمة بمراتب ولكن إهمال المصنف وكذا غيره لدليلهم يريد به ابن الحاجب في مختصر المنتهى كالجواب عليه صلى الله عليه و سلم لقوله فانظروا ا كيف تخلفوني فيهما وهل يترك مثل هذا ويقول بحجية قول أهل المدينة مع عدم تحققه كما بيناه لأنه عزي إلى مالك ويطول المصنف ذلك التطويل فخذها عبرة إن كنت ممن يعتبر واعبد الله ولا تعبد الأسلاف انتهى بلفظه
واعلم أنه قد قرر الأدلة الإمام الحسن بن عزالدين في شرح المعيار
ثم قال ما لفظه وقد اعترض الأول بمثل أن أهل البيت هم أزواجه صلى الله عليه و سلم اللاتي في بيوته لأن أول الآية وآخرها فيهن ولو سلم فإنما يثبت ذلك في حق علي وفاطمة والحسنين لأن الخطاب إنما وجه إليهم فلا يتم وما أردتم ولو سلم فالرجس هو ما فحش من المعاصي ولو سلم فلا نسلم تناوله للخطأ المعفو عنه ولو سلم فغايته الظهور وحجية الإجماع أصل كلي لا يثبت بالظاهر على أن قولكم في تبرير الاستدلال في الآية ولا بد من وقوع ما أراده الله من أفعاله قد أجيب عنه لأن ذلك فيما لم يعلقه باختيار المكلفين لا كما هنا فإنه يردي تطهيرهم عن الرجس باختيارهم لا بإجباره لهم عليه وإلا لم يوجد فيهم عاص وهو خلاف المعلوم وأما الاستدلال بالأحاديث فإنه قال الإمام الحسن أيضا إنه أورد عليه أن لا نسلم تواترها لا لفظا وهو ظاهر ولا معنى إذ لم يحصل لنا الجزم بمعناه وكونه حصل لكم لا يفيدنا ولو سلم فلا يقتضي خطأ المخالف لأنه فرع ثبوت المفهوم ولا نقول به ولو سلم فغايته الظن وهو لا يجدي فيما نحن بصدده ولو سلم فهو متروك الظاهر لأن مقتضا خطأ اتباع الكتاب وحده لإفادة الواو الجمعية وهو خلاف الإجماع ولو سلم فإنما يفيد وجوب الاتباع حيث اتفق الكتاب وقول العترة والحجة حينئذ إنما هو الكتاب ولو يسلم فغايته الظهور فلا يثبت به أصل كلي ثم قال وللأصحاب أجوبة عن بعض ذلك وليس فيها ما يخرج تلك الأدلة عن حيز الظهور إلى حيز القطع انتهى بأكثر ألفاظه
وأقول بعد هذا إنه لا يخفى أن أهل البيت قد نشر الله منهم الكثير الطيب في جميع أقطار الدنيا بحيث لا يخلو منهم قطر بل هم رؤوس الناس في أقطار الإسلام فهم ملوك اليمن كابرا عن كابر من ثلاثمائة سنة إلى يومنا هذا ونحن في القرن الثاني عشر وإن تخلل تغلب البعض من غيرهم بإمارة وهم أيضا ملوك مكة في الغالب وهم ملوك العجم في الغالب وملوك العرب وتضم في جميع الأقطار الرومية التي ملكها صاحب الروم نقباء الأشراف ولا ريب أن في كل قطر علماء منهم أئمة محققون وبالجملة تفرقهم في الآفاق كتفرق الأمة الإسلامية في الأقطار وقد اتسعت لأهل البيت عليهم السلام دولة
قوية في الجبل والديلم مدة طويلة وإذا عرفت أن الإحاطة بمعرفة أقوال مجتهديهم متعذرة لا سيما ومنهم شافعية وحنفية ومالكية وحنابلة كل أهل قطر على رأي من ينشؤون في أرض مذهبه ومنهم من أحال الاجتهاد بعد الأربعة المذاهب وفيهم قائلون بهذا وبهذا يتقرر أنه لا سبيل إلى معرفة إجماعهم أصلا وقد تقول طائفة ممن شارف على علوم الآل في قطر من الأقطار كأهل اليمن ورأى كتابا من كتبهم فيه أن هذه المسألة أجمع عليها العترة كما يدعونه في المسح على الخفين أنه أجمع العترة على عدم شرعيته أو على نسخه والحال أنه ثبت وصح القول بالمسح عليهما عن إمام العترة بل إمام المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام فتراه أي من اطلع على دعوى إجماع أهل البيت يجادل به بما يضلل ويضلل من خالفه ويقول خالف إجماع أهل البيت وهذا من الغباوة والجهل بحقيقة إجماع الآل بل الجهل بالآل فإنه لم يخرج الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام إلى اليمن إلا وقد تفرق أئمة الآل وعلمائهم في الأقطار الشاسعة والبلدان الواسعة وقد وصل الغرب الأقصى أئمة منهم لا تعرف أقوالهم كالإمام إدريس بن عبدالله وذريته ووصل أولاد محمد بن عبدالله النفس الزكية بعد قتله إلى الهند إلى أرض كابل فليتق الله عبد
وجد دعوى إجماعهم عن القول به والتضليل لمن خالفه والتفسيق لمن أنكره فقد ولع الجهال من أتباع أئمة المذاهب والتضليل لمن خالفه والتفسيق لمن أنكره فقد ولع الجهال من أتباع أئمة المذاهب بدعوى إجماع الأئمة ودعوى إجماع الآل من غير تقدير ولا هدى ولا كتاب منير كما قررناه فيما سلف من إحالة معرفة إجماع الأمة بل إحالة وقوعه وكذب ناقله ومدعيه نقوله هنا أيضا فإن قلت فإذا لم تقم الآيات والأحاديث أدلة على إجماعهم وأنه حجة ومعلوم أن أقوال أفرادهم غير حجة وقد ثبت في الأحاديث الأمر باتباعهم وأنهم قرناء القرآن لا يفارقونه فماذا تكون فائدة تلك الأدلة قلت قد بسطنا الجواب عن هذا في حاشيتنا على كتاب تيسير الوصول المسماة بالتحبير على التيسير بما فيه الشفا بحمد الله فلينظره من أراده
مسألة ... وإن أتى لأمة المختار ... قولان في عصر من الأعصار ... فجائز إحداث ما لم يرفع ... كذا دليل ثالث ورابع ... كذلك التعليل والتأويلا ...
هذا إلمام بمسائل تتصل ببحث الإجماع الأولى أنه إذا اختلف أهل عصر على قولين فهل يجوز إحداث قول ثالث ففي المسألة لعلماء الأصول إطلاقان وتفصيل وذكر القولين ترجيح منا لما ترجح منا كما في ذلك القيل
المسألة الثانية التي أشار إليها قولنا كذا دليل ثالث أي كذا جائز إحداث دليل ثالث ورابع وذلك أنه إذا استدل أهل العصر على مسألة بدليلين مثلا فإنه قد قيل لا يجوز إحداث غير ما استدلوا به لأنه خروج عن سبيلهم وهذا قول ضعيف لأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها والممنوع مخالفة الحكم لا مخالفة الدليل وقيل بل يجوز إحداث ذلك وهذا الذي أفاده النظم بقوله دليل ثالث فإن الإشارة بقوله كذا إلى جواز لا إلى التفصيل السابق في البيت الأول إذ لا يتصور جريانه فيما نحن فيه والتقييد بقولنا ثالث تبع للأصل وأصله المعيار وكأنهما أرادا مثلا فإن الخلاف واقع من غير شرطية تقديم دليلين فلو اتفق أهل العصر على دليل جاء الخلاف في إحداث دليل غيره والدليل لما اخترناه من الجواز أن إحداث دليل غير دليلهم لا مخالفة فيه لما أجمعوا عليه ولا رفع لما أحدثوه ثم إن المطلوب من الأدلة أحكامها كما عرفت وحكي عن
ابن حزم المنع إذا كان الدليل الذي أحدث الاستدلال به من تأخر نص لم يعرفه الأولون لا إذا لم يكن كذلك فيجوز وكأنه ناظر إلى مسألة هل يجوز عدم علم الأمة بدليل راجح عملوا بما اقتضاه فقيل لا يجوز لأن الراجح سبيل المؤمنين فيلزم من عملهم بغير سلوكهم غير سبيل المؤمنين وهو لا يجوز عليهم وجوابه إنا لا نسلم أنه يتعين إطلاعهم على الدليل الراجح فلم يكن في عدم اطلاعهم عليه مخالفتهم سبيل المؤمنين لأن الذي توعد على مخالفته سبيلهم هو ما اتفقوا عليه وسلكوه والدليل الراجح الذي جهلوه لم يتحقق كونه سبيلا للمؤمنين قد سلكوه نعم من شأنه أن يكون سبيلا لهم وفرق بين صلاحيته بأن يكون سبيلا لهم وبين كونه قد ثبت وتحقق أنه سبيلهم
المسألة الثالثة إذا اختلفوا في تعليل حكم بعلة فهل يجوز لمن بعدهم إحداث علة أخرى لذلك الحكم المختار جواز ذلك أيضا إذ لا مخالفة لمن سبق تقضي ببطلان تعليلهم واقتصار الأولين على علة لا يقضي بالمنع من إحداث غيرها ومن قال لا يجوز علل ذلك ببيت العنكبوت كما عرف في موضعه ولما كان الإجماع ينقسم إلى قولي وفعلي وسكوتي فلا بد من طريق توصل إلى معرفة وقوعه أشار النظم إلى الأولين فقال ... فأسلك إلى العلم به سبيلا ... سماع ما قالوه والمعاينه ... والنقل عن كل على ما عاينه
قولنا سماع بدل من سبيلا وهذه هي الطريق الأولى أعني سماع قول كل مجتهد وهي أعلاها وأعزها وجودا والثانية المعاينة وهي أن يعاين أهل الإجماع يفعلون فعلا من الأمور الشرعية أو يتركونه ويعرف بقرائن المقال مرادهم فإنه يكون إجماعا وهوالمسمى بالإجماع الفعلي
وإلى الثالث بما أفاده قوله ... أو بعضهم مع الرضا ممن سكت ...
قوله أو بعضهم عطف على قوله كل أي أو ينقل عن بعضهم وهذا هو الإجماع المعروف بالسكوتي وهو أن ينقل عن بعض أهل الإجماع قولا أو فعلا أو تركا يقوله ذلك المجتهد مع رضاء الباقين من أهل الاجتهاد بما قاله من الحكم ورضاهم يعرف بأحد أمور ثلاثة أشار إليها قوله ... واعرفه منهم بامور قد أتت ... بفقد إنكار مع اشتهار ... وما لهم عذر من الإنكار ... وكونه مما المحق فيه ... فرد وهذا عند مثبتيه ...
الأول من الثلاثة التي يعرف بها رضى أهل الإجماع فقد الإنكار أي عدم إنكارهم مقالة ذلك البعض ولكن لا يكفي في ذلك فقد الإنكار إلا بشرط اشتهار المسألة وانتشارها كما قيدناه به إذ لو لم تشتهر لم يدل السكوت على الرضا لجواز أنهم ما عرفوها
الثاني أنه يشتهر ولا يكون لهم عذر من الإنكار كخوفهم من الفرقة والفتنة وغيرهما مما يبيح السكوت عن الإنكار وهو التأدية إلى أنكر منه أو عدم قبوله
الثالثة أن تكون المسألة من المسائل القطعية كما أشار إليه قوله مما المحق فيه فرد إذ المخطىء فيه آثم فلو لم يكن السكوت عن رضى لأنكروه لوجوبه ولو لم ينكروه مع ذلك لكانوا قد أجمعوا على ضلاله
وهم معصومون عنها فما سكتوا إلا لموافقتهم له فيما قاله فكان إجماعا وهذا في المسائل القطعية لا الاجتهادية إذ القائلون بأن الحق فيها مع واحد يقولون إن مخالفه مخطىء لكنه مأجور فلا ينكر عليه والقائلون بالتصويب اختلفوا في كونه إجماعا ثم إنهم قيدوا أصل المسألة بأن يكون قبل انتشار المذاهب إذ بعد تقررها قد جرت العادة بعدم النكير على من خالفها وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل يكون إجماعا أولا فقال جماعة إنه ليس بإجماع ولا حجة وهو مختار الإمام يحيى وقال إنه الذي عليه أئمة الزيدية وأكثر المعتزلة ومال إليه أهل الظاهر وارتضاه الغزالي وبه قال الباقلاني وادعى أنه آخر القولين للشافعي إذ قال الشافعي لا ينسب إلى ساكت قوله ونسب إلى إمام الحرمين وإليه يشير قول الناظم وهذا عند مثبتيه فإنه مشعر بأنه لا يقول به وهو هكذا عندنا غير إجماع ولا حجة وذلك لكثرة احتمال السكوت من التقية والتروي في المسألة وعدم تقرر النظر أو يرى أنه لو انكر لما التفت عليه وأن من لا يرى النكير في المسائل الخلافية إن كانت منها وغير ذلك مما لا يبقى لاحتمال رضاهم معه مجال وقد أوضحنا ذلك في رسالة تطهير الاعتقاد إيضاحا لا يبقى معه شك عند النقاد وبينا أن الإجماع الذي يسمونه
سكوتيا لا يدخل في مداخل الأدلة ولا يحوم حول حمى من أحمتها عند الجلة
وذهب الأكثر من الحنفية إلى أنه إجماع قالوا لأنه لو شرط السماع عن كل مجتهد لتعذر وقوعه خلاف ما قد تقرر أي من علم تعذر وقوعه قلت وفيه ما عرفته من عدم نهوض الدليل على وقوعه وثبوته وذهب جماعة من علماء العترة إلى أنه حجة ظنية لا إجماع واختارة الرازي والآمدي وابن الحاجب قالوا لأن السكوت مع انتشار الفتيا انتشارا يبعد معه أن يخفي على المجتهد من أهل العصر ولم يقع من أحد مخالفة ظاهرة في الموافقة قالوا تلك الاحتمالات لا تدفع الظهور قالوا وأقل مراتبه أن يكون كالقياس وظواهر الآحاد ولا يتم هذا إذ الآحاد والقياس قد قام الدليل على التعبد بهما بخلاف الإجماع السكوتي وقد ذكرنا هذا الذي يسمونه سكوتيا وصرحنا به في قولنا ... يدعى سكوتيا فأما الأول ... فإنه القولي فيما أصلوا ...
قد عرفت أن طرق معرفة الإجماع قوليا كان أو سكوتيا سماع ما قالوه من اتفاقهم على الحكم وهذا طريق قولي مستند إلى سماع أقوالهم إن كان الإجماع قوليا أو المعاينة لما يفعله أهل الإجماع إن كان فعليا أو معاينة تركهم إن كان تركا وأما السكوتي فطريقة النقل عن البعض أو فعله أو تركه مع رضى الباقين من المجتهدين بما قاله أو فعله أو تركه ومعرفة رضاه لما عرفته آنفا والنقل طريق لغير السكوتي والسكوتي إنما الفرق أنه في غير السكوتي يؤخذ عن قولهم الجميع وفيه عن قول بعضهم وقوله ... وهو من الأدلة الظنية ... ولو أتى من طرق قطعية ...
الضمير للسكوتي أي أنه بعد تقرير ثبوته دليلا يكون من الأدلة الظنية ولو كانت طرق وصوله إلينا قطعية تكون تواترية واعلم أن النظم وقع فيه ما وقع في أصله من اشتراط أن يكون مما الحق فيه مع واحد ! وذلك في
المسائل القطعية ثم قال ها هنا إنه من الأدلة الظنية إلا أنه لما تدافع كلام الأصل أشرنا بقولنا عند مثبتيه فإنه إشارة إلى أن من الناس من ينفيه ونفيه إنما يكون في المسائل الاجتهادية والقطعية فإنه اتفاق كما عرفت فقولنا وهو من الأدلة الظنية أي السكوتي الذي فيه الخلاف إثباتا ونفيا وليس إلا ما في المسائل الاجتهادية والحاصل أن السكوتي مع حصول شرائطه يكون إجماعا في المسائل القطعية بلا خلاف وأما في الاجتهادية فهو دليل ظني عند المثبتين ! له ولك أن تقول إن الحكم يكون من الأدلة الظنية لا ينافي كون الكلام أي كلام الأصل فيه بالنظر إلى المسائل القطعية فإن استفادة القطع من أمور خارجة وهي وقوعه فيها لا لذاته وفي هذا دفع لما يقال كيف يصح إثبات المسائل القطعية في السكوت وهو ظني فإنه إذا وقع فيها كان قطعيا بقرائن المقام ... وأجمعت أصحابه من بعده ... على خطا من مال بعد عقده ... ومثلهم لا يجمعون إلا ... عن قاطع في مثله قد دلا ...
هذا دليل ثان بعد الأدلة السمعية السابقة على حجية الإجماع وهو كما في النظم إن الصحابة قد أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف والعادة قاضية بأنهم لا يجمعون إلا على دليل قاطع وذلك لما لهم من الصفات الحميدة وتزكية رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم بأنهم خير القرون وثناء الله عليهم في القرآن بمثل كنتم خير أمة أخرجت للناس و محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم الآية فلذا قال ومثلهم أي من كان بتلك الصفات وليس إلا هم وبه يعرف أنه لا يرد إجماع اليهود على عدم نسخ شريعة موسى وإجماع النصارى على قتل عيسى وذلك أنه قد أبان الله حقيقة حالهم وباطن أمرهم وما هم عليه من التحريف والتبديل والكذب وغيرها من الصفات القاضية ببطلان إجماعهم وبالجملة فإنما يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرنا من القيود وانتفاؤه ظاهر وقوله في مثله أي مثل الحكم بخطأ من خالف الإجماع بعد انعقاده من
الأمور الشرعية إشارة إلى دفع النقص بإجماع الفلاسفة على قدم العالم فإنه عن نظر عقلي باطل لا عن دليل شرعي وإنما قلنا في النظم أصحابه ولم نقل أمته كما وقع في بعض كتب الأصول لأنه أورد عليه أن من الأمة من أنكر ثبوت الإجماع كالنظام والخوارج ودفعه أن الاعتداد بخلافهم لا يسمع فإنهم من الأمة كما قدمناه وقد أورد على هذا الدليل بأن لا نسلم ثبوت إجماع الصحابة إلا على تخطيط مخالف الضرورة كالخارج عن ملة الإسلام والنزاع في غير ذلك سلمنا ثبوته لكن لا بد من تواتره نقلا حتى يتم الاستدلال فيه على إثبات أصل من أصول الشريعة ونحن نطالبكم بإثباته عنهم بطريق الآحاد فضلا عن التواتر وقد أورد على هذا الدليل إيرادات كثيرة تشتمل عليها المطولات ولذا صرح في شرح الغاية بضعف الأدلة العقلية قال وهذا أشفها عندهم
تنبيه إذا عرفت جميع ما سقناه علمت أنه لا يتم نهوض الأدلة على حجية الإجماع ولو فرض أنها دلت عليه لما قامت على وقوعه ولو قامت عليه لما قامت على نقله تواترا فلا يشتغل الناظر لدينه بالبحث عنه وعن الأدلة عليه وما قيل فيها وقد أشار قولنا ... وإن أتى القولي آحاديا ... فإنهم يرونه ظنيا ...
إلى طريق نقل الإجماع القولي وأنها إما أن تكون آحادية وقد عرفت أن الآحادي لا يفيد إلا الظن كما عرفت إلا إذا حفته قرائن كما أشرنا إليه سابقا والظني حجة ظنية وهذا مما لا خلاف فيه وإما أن يكون نقله بالتواتر فقد أشار إليه قولنا ... وإن يكن طريقه التواترا ... فحجة قاطعة بلا مرا ...
أي فإما أن يكون طريق نقل الإجماع القولي التواتر الذي عرفت حقيقته فإنه يكون الإجماع حينئذ حجة قطعية بلا شك وأشار إلى حكم مخالف القطعي وإلى أدلة حجية الإجماع بقوله
بفسق من خالفه لما أتى ... من قوله ويتبع وما روى ... أئمة الآثار عن خير الورى ... من الأحاديث فسائل من ترى ...
فصدر البيت يشير إلى حكم من خالف الإجماع القطعي وهو المنقول تواترا بأنه بمخالفته إياه يكون فاسقا والفاسق من له منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة أي منزلة الإيمان ومنزلة الكفر وحكمه في الدين معروف لا تقبل له رواية ولا شهادة ولا يصلى خلفه وغير ذلك وفي الآخرة إن مات وهو غير تائب أنه من أهل النار خالدا فيها مخلدا والمسألة مقررة في علم الكلام واعلم أن كون الإجماع حجة قطعية إن روي تواترا مسألة خلاف وتفصيل فإن كان مما علم ضرورة كالصلوات الخمس مثلا وإن كان وجوبها علم من ضرورة الدين لا من باب الإجماع بخصوصه فمخالف هذا لا خلاف في كفره وليس من محل النزاع وإنما وقع به التمثيل لاستيفاء ما قيل وإن لم يكن مما علم من الدين ضرورة فقيل يكفر مخالفه ونسب إلى الحنفية وقال الجمهور لا يكفر لكنه يفسق قالوا لأنه تعالى توعده بالإصلاء في النار وأقل أحواله أن يكون فاسقا
قلت والمسألة عائدة إلى تحقيق معنى الكبيرة والخلاف مبسوط في محله فإن فسرت بما توعد عليه بالنار ثم الاستدلال بالآية لا يتم على التفسيق إلا بتقرير كون الآية قطعية الدلالة على الإجماع وقد أورد عليه المهدي في شرح المعيار وغيره من الخدش في دلالتها على ذلك بما كاد يخرجها عن مرتبة الظن فضلا عن القطع والمراد بالآية ما أشار إليه الناظم بقوله ويتبع فهو إشارة إلى قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ووجه الاستدلال بها أنه تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد مشاققة الرسول صلى الله عليه و سلم فدل على تحريم مخالفتهم وهو المطلوب ولكن قد قدمنا في أول بحث الإجماع تحقيق الكلام على الآية وأنها لا تنهض دلالتها على حجة الإجماع ولا على فسق من يخالفه
فتذكر وقد أشرنا إلى ما ورد من الأحاديث الدالة على حجية الإجماع وهي أحاديث واسعة ساقها أئمة الأصول إلا أنها وإن تواترت فمدلولها ظني وكما كان لك فليس بقطعي والحاصل أنها لا تنهض الأدلة من الكتاب والسنة على قطعية حجية الإجماع فلا يفسر مخالفه على أنه على تقدير قطعيته فإنه ليس بين الفسق والقطع ملازمة بل الفسق ملزوم لكن المعصية كبيرة ولم يقم دليل على كبر مخالفة الإجماع فهذا في الأدلة السمعية وهنا انتهى بحث الإجماع
وهذا بحث القياس قال الناظم ... فصل وهذا مبحث القياس ... وهو دليل ثابت الأساس ...
هذا هو رابع الأدلة الشرعية وعليه تدور أكثر المسائل الفرعية وهو في اللغة بمعنى التقدير وأما في الاصطلاح فهو ما أفاده ... وعرفوا معناه في العلوم ... بحمل معلوم على معلوم ...
في حكمه بجامع وينقسم
ضمير عرفوا إلى أئمة الأصول واللام في العلوم للعهد أي علم الأصول لأن السياق فيه وهو تعريف رسمي فالحمل كالجنس للمحدود ما بعده فالفصل له ولا بد للقياس من أربعة أركان أصل وفرع وعلة وحكم والباقي جامع تعلق بحمل وهي سببية وقد شمل ذلك النظم فقوله معلوم الأول هو الفرع ومعلوم الثاني هو الأصل وفي حكمه المراد به أحد الأحكام الخمسة وهو ثالث الأركان وبجامع رابعها ويسمى هذا القياس القياس التمثيلي ومرادنا من المعلوم ما هو أعم من المعلوم والمظنون ولم يقيد الحكم بالشرعي ليشمل العقلي واللغوي عند من أثبته ويذكر الجامع خرج ما كان ثبوت الحكم في شيئين بالنص كالبر والشعير المشتركين في حكم الربا فإن الحكم ثابت بالنص لا بجامع واعلم
أولا أن هذا هو رسم القياس التمثيلي ويطلق القياس على الاستثنائي
والاقتراني وهو القطعي المنطقي وحجيته قطعية بخلاف التمثيلي
وثانيا أن المراد بالجامع ما هو أعم من الصريح والضمني ويدخل قياس الدلالة في الرسم ومثاله إلحاق النبيذ بالخمر بجامع الرائحة المشتدة فالعلة الباعثة على الحكم هي الشدة المطربة وهي غير مذكورة صريحا إلا أنها مذكورة ضمنا لإشعار الرائحة مشتدة بالشدة المطربة
وأما قياس العكس وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في علة الحكم فإنه من باب الملازمة وإنما يذكر القياس لبيانها ومثلته الحنفية والهادوية بقولهم لو لم يكن الصوم شرطا في صحة الاعتكاف لم يصر شرطا له بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لم تكن شرطا لصحة الاعتكاف لم تصر شرطا له بالنذر فالأصل الصلاة والفرع الصوم والحكم في الأصل عدم وجوبها بالنذر والعلة فيه كونها لم تجب بالنذر والحكم في الفرعي كون الصوم شرطا في صحة الاعتكاف والعلة فيه وجوبه بالنذر فافترقا حكما وعلة فلا يصح دخوله في الرسم للقياس فيلزم أن حد القياس غير جامع والجواب أنه ليس من القياس بل من الملازمة وبيان أنه منها أن المثال المذكور راجع إلى قولنا لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف لم يكن واجبا بالنذر لكنه قد وجب بالنذر فيكون شرطا فهذا تمثيل بين التلازم ولما كانت دعوى الملازمة تحتاج إلى دليل بينت بالقياس المستعمل عند الفقهاء المراد ! إدخاله في الحد بأن ما لم يكن شرطا لشيء لم يكن شرطا له بالنذر كالصلاة فإنها لما لم تكن شرطا للاعتكاف لم تكن شرطا بالنذر وخلاصته أن قياس العكس يشتمل على الأمرين على الملازمة وعلى القياس الذي لبيانها المراد إدخاله في الحد فإن أراد المعترض خروج قياس الملازمة فنحن نسلم خروجه ولا يضرنا وإن أراد خروج القياس الذي لبيانها فلا نسلم خروجه
وفي الفصول فإن أريد جمعها القياس أي قياس الطرد وقياس العكس بحد واحد قيل تحصيل مثل حكم الأصل أو نقيضه في الفرع لاشتراكهما في علة الأصل أو لافتراقهما فيها ولما كانت للقياس أقسام أشار إليها قولنا ... ستة أقسام على ما قد علم ... إلى جلي وخفي وإلى ... طرد وعكس فاتبع ما مثلا ...
للقياس أقسام كثيرة اشتملت عليها مبسوطات الفن وقد ذكرناها هنا منها ما هو الأهم
فالأول الجلي وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل وفرعه وذلك كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق الثابت في العبد في الصحيحين ويسمى أيضا قطعيا على أحد المعنيين في تفسيره ويسمى قياسا في معنى الأصل بالنظر إلى إلغاء الفارق أعم من أن يكون عن قطع أو لا
والثاني الخفي وهو ما قابل الأول وهو ما لم يقطع فيه بنفي الفارق كقياس النبيذ على الخمر لاحتمال أن يكون بخصوصية المحل اعتبار في العلة
والثالث قياس الطرد وهو ما كان في المساواة بين الأصل والفرع في الحكم والعلة على جهة التحقيق
والرابع قياس العكس وهو ما كانت العلة فيه على جهة الفرض والتقدير وهذا على ما قررناه من شمول اسم القياس لقياس العكس ثم أشار إلى بقية الأقسام الستة بقوله ... وعلة دلالة فاستملي ... أمثالها من أي حبر يملي ...
هذا التقسيم باعتبار الجامع وهو العلة فالأولى قياس العلة وهو ما صرح فيه بالنص نحو أن يقال النبيذ حرام لإسكاره كالخمر والثاني ما لم يصرح بها فيه بل ذكر ما يدل عليها من لازمها أو أثرها أو حكمها فهو قياس الدلالة
مثال الأول أن يقال النبيذ حرام للرائحة المشتدة كالخمر إذ الرائحة المخصوصة دالة على الشدة المطربة ويرجع إلى الاستدلال بالرائحة التي توجب الإسكار على الإسكار وبالإسكار على التحريم الذي يوجبه الإسكار فاكتفى بذكر الرائحة عن التصريح بالإسكار
ومثال الثاني أن يقال القتل بالمثقل إثم يوجب القصاص كالقتل بالمحد فالإثم هو أثر العلة التي هي العمد العدوان ولما كان الأثر يدل على المؤثر اكتفي بذكره
ومثال الثالث أن يقال في قطع الأيدي باليد قطع يقتضي وجوب الدية
على القاطعين فيجب كما يجب القصاص في قتل الجماعة بواحد فإن وجوب الدية ليس هو العلة الموجبة للقصاص بل حكم من أحكامها بل العلة الموجبة له القتل وهو يقتضي وجوب الدية أو القصاص فالقطع قد شاركه القتل الموجب لأحد الأمرين في أحدهما وهو وجوب الدية وإيجاب الشارع لأحد الأمرين بالقتل لحكمة الزجر وقد وجد في القطع أحدهما وهو الدية فيوجد الآخر وهو القصاص لأنهما متلازمان بالنظر إلى اتحاد العلة والحكمة من دون نظر إلى عدم الملازمة باعتبار الخطأ والعمد وعفو الأولياء عن القصاص
وعند الفراغ من ذكر هذه الأقسام أشرنا إلى الخلاف في كون القياس من الأدلة الشرعية أولا والجمهور على أنه منها كما أشار إليه قوله ... ومن يقل ليس من الأدله ... فإنه قد خالف الأجله ...
اختلف العلماء في القياس هل يجوز التعبد به أم لا ثم القائلون بالأول اختلفوا هل هو واقع أم لا واعلم أن مسمى القياس خمسة أنواع تحقيق المناط وتنقيح المناط وتعيين المناط وتخريج المناط وإلغاء المناط وفي كل واحد وقع الخلاف في كونه دليلا متعبدا به أو لا ومعنى التعبد أنه يكلف المجتهد بطلب المناط بالحكم الشرعي ليحكم في محاله بحكمه فالأكثر على أنه غير ممتنع عقلا وواقع شرعا ويجب العمل به وعن النظام والظاهرية أنه يمتنع شرعا التعبد به وذلك لأن الشريعة مبنية على الجميع بين المختلفات كالتسمية في الفدية بين قتل الصيد خطأ أو عمدا والتسوية بين الزنى للمحصن والردة في إيجاب القتل والوطء في الصوم والظهار في إيجاب الكفارة ومن التفريق بين المتماثلات كإيجاب الغسل بخروج المني دون البول والغسل من بول الجارية دون الصبي وقطع السارق دون الغاصب وإن عصب أضعاف نصاب السرقة وغير ذلك والقياس على خلاف هذا فيستحيل التعبد به وأجيب عنه بأن القياس بجامع والمختلفات يجوز اجتماعها في صفة مشتركة
تصلح أن تكون هي الداعي والمقتضي للحكم وتشريكها فيه ثم إن من المتماثلات ما يجوز افتراقها لعدم صلاحية الجامع أو وجود معارض في الأصل أو في الفرع يقضي بعدم التماثل بينهما وخلاصته أن للقياس شروطا واعتبارات لا بد من ملاحظتها في نظر المجتهد فليس مجرد التماثل في ظاهر الأمر يوجب الجمع ولا مجرد الاختلاف يقضي بالافتراق وقد استدل الأكثر بأدلة من الكتاب والسنة كلها ظنية الدلالات على التعبد بالقياس وقد بسطت في الكتب المطولة هي وردودها وهذه المسألة أصل من الأصول لا يكفي فيها إلا الدليل القاطع وأشف الأدلة عندهم هو ما أشار إليه قولنا ... كيف وقد أجمعت الصحابة ... وهذه قطعية الإصابة ... وشاع فيهم عملا وذاعا ... فكان إذ لم ينكروا إجماعا ...
فقوله فشارع فيهم الخ عطف تفسيري لقوله أجمعت وبيان له وقوله إذ لم ينكروا إشارة إلى أنه إجماع سكوتي وهو ظني الدلالة فأشرنا إلى دفع هذا بقولنا وهذه قطعية الإصابة ومعناه أن مثل هذا الأصل الذي يدور عليه أكثر الأحكام الشرعية تقضي العادة بأنه لا يكون إلا عن وفاق منهم وإلا لأنكروه هذا تقرير مرادهم أصل النظم وقد أورد عليه أنه يثبت ذم القياس عن الخلفاء الأربعة وابن عباس وابن مسعود وأجيب بأنه ثبت عن علي عليه السلام القياس بمحضر من الصحابة حين شاورهم عمر في زيادة الجلد على الأربعين فقال علي أنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد الفرية قالوا هذا قاله بمحضر من الصحابة وعمل به عمر وأجيب بأن هذا لا يصح عن علي عليه السلام كيف ومعناه غير واضح بالمراد فإن الهاذي غير مكلف ولا حد في قذفه إذا أريد بالافتراء القذف وإلا فهو أعم منه وقد أورد على هذا
الأثر المنسوب إلى علي عليه السلام بأن ليس كل من شرب الخمر يسكر فشارب الجرعة لا يسكر وهو يحد وليس كل شارب يهذي ولا من يهذي يفتري ولا كل من يفتري يلزمه الحد فقد يفتري المجنون والنائم فلا يحدان ثم إن كان يجلد لفرية لم تصدر منه فهو ظلم بإجماع الأمة ولا خلاف بين اثنين في أنه لا يحل لأحد أن يعاقب أحدا بما لم يفعله لجواز أنه يفعله ثم من المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات فهنا يقام بلا شبهة ثم إنه إن كان الحد للفرية فأين حد الخمر وإن كان حد الخمر فأين حد الفرية ولا يجوز ثبوت حد بإقامة آخر ثم إنه أيضا إذا سكر هذى وإذا سكر سرق وزنى وقتل وأفسد في أموال الناس وأقر لغيره في ماله أفتلزمونه هذه الأحكام هذا مما لا تقولونه وإن قلتم به في شيء دون شيىء فهذا هو التحكم الذي لا يقوله عارف بأحكام الشريعة وبهذا يعلم أنه كذب افتراء موضوع على علي كرم الله وجهه ويدل أنه غير صحيح أنه صح حده للوليد بن عقبة أربعين في خلافة عثمان وأمر علي عليه السلام عبدالله بن جعفر بجلده وهو يعد إلى الأربعين فهذا يؤكد كذب هذا المروي وأنه لم يقله قط فقد نزهه الله عن مثل هذا ولا تغتر بتطابق كتب الأصول وغيرها على نسبته إلى علي رضي الله عنه فما كل منسوب إلى عالم يصح عنه وإن قيل إنه صحيح فلا بد من صحة معناه ومعرفة المراد
والمتشابه لا يكون إلا في كلام الله الذي لم يتعبدنا بمعرفته قيل ويقع في كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما كلام العلماء فلا يقول به أحد
والأبحاث والإيرادات على القائلين بالقياس والرادين عليهم كثيرة وقد بسطت في مطولات الفن
وأما عمر فإنه في حد الخمر إنما عمل بقول عبدالرحمن بن عوف حيث قال له أخف الحدود ثمانون فجعله ثمانين كما في الصحيحين إن قيل هذا أيضا قياس قلنا ليس بالقياس المصطلح فإنه لا جامع بين السكر والقذف وإنما هو رأي محض وبالجملة ادعاء الإجماع في هذا غير صحيح ولهذا خالف جماعة من الائمة واختاروا أن حد الشارب أربعون وكونهم أجمعوا على القياس لا دليل عليه على أنه لو سلم فغاية الواقع منهم جواز العمل به لا وجوبه الذي هو المدعى قالوا بل أوجبوا الأحكام الثابتة به على العباد ولو كان العمل به غير واجب لما جاز لهم إلزام العباد بأحكام بنيت عليه
واعلم أن التحقيق أن القياس لم يقم الدليل على التعبد به إلا فيما كانت علته منصوصة بأي طرق النص كما يأتي تحقيقه وغيرها من المسالك الآتية ستعلم أنه لم يقم عليها دليل التعبد بالعمل به ويأتي إن شاء الله تحقيقه وقد بسطناه في رسالتنا المسماة الاقتباس في معرفة الحق من أنواع القياس
ولما اختلف في جريان القياس في الأحكام كلها أو عدمه أشرنا بقولنا ... وليس بالجاري في الأحكام ... جميعها في نظر الأعلام ... فإن ما معناه منها يجهل ... فليس في باب القياس يدخل ...
النفي في قوله وليس بالجاري متوجه إلى القيد أعني لفظ جميعها والمراد أن القياس لا يكون جاريا الاستدلال به في إثبات كل حكم شرعي لأنه
قد تقرر أن من الأحكام ما لم يدرك معناه الذي هو الداعي والمفضي للحكم بل قد يكون تعبديا والذي في كتب الأصول مسألتان إحداهما هذه وهو أنه اختلف في جريان القياس في جميع الأحكام الشرعية والمختار نفيه لأنه ثبت في الأحكام ما لا يعقل معناه كفرض الدية على العاقلة وإجراء القياس في مثله تعذر لما عرف من أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل وهذا ذكره ابن الحاجب والعضد
قلت وهذه المسألة قليلة الجدوى عديمة الفائدة إذ قد علم أنها إن تكاملت شرائط القياس وارتفعت موانعه كان دليلا على أي مسألة وإلا فليس بدليل لفوات شرائطه أو وجود موانعه
والمسألة الثانية أنه هل يجري القياس في الحدود والكفارات فقال الجمهور يجري فيهما وقالت الحنفية لا يجري فيهما واستدل الجمهور بأن دليل التعبد بالقياس شامل لهما فإذا عقل المعنى وجب فيه الحكم بالقياس كما قيس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد وقطع النباش على قطع السارق فالعلة والحكم فيهما معلومان وأما ما لا يعلمان فيه فلا يجري فيه القياس وكذلك اختلف في جريانه في الأسباب أو لا والكلام فيه مستوفى في المطولات والناظم هنا ما تعرض إلا لما في الأصل ثم أشار بقوله ... ثبوت حكم الأصل بالدليل ... كاف لدى الأكثر لا القليل ... فإنه يشترط الإجماعا ... أو اتفاقا من يرى النزاعا ...
إلا أنه يكفي في صحة القياس إثبات حكم الأصل المقيس عليه بالدليل من نص أو إجماع ثم تثبت العلة بمسلك من مسالكها التي تأتي وهذا رأي
الجمهور المشار إليهم بالأكثر وخالف بشر المريسي وهو المراد بالقليل أنه لا يكفي في صحة القياس مجرد قيام الدليل على حكم الأصل بل لا بد مع ذلك من الاتفاق إما من الأمة وهو قوله فإنه يشترط الإجماع أو بين الخصمين المتنازعين وهذا الذي نسب إلى المريسي يؤخذ من عبارة جمع الجوامع أنه رأي الجمهور فإنه قال في شروط حكم الأصل وكون الأصل متفقا عليه قيل بين الأمة والأصح بين الخصمين ثم لما كان للقياس أركان أشار إليها فقال ... هذا وأركان القياس أربعه ... أصل وفرع حكمه والجامعه ...
أركان الشيء أجزاؤه التي تتألف منها ماهيته مثاله أن تقول النبيذ حرام لأنه مسكر كالخمر فقد ركبت القياس هذا من أربعة أركان أعني المقيس عليه وهو الخمر وفرع وهو النبيذ وحكم وهو التحريم وجامع أي علة جمعت بين الأصل والفرع في الحكم وهو الإسكار وحقيقتها في عرف أهل الأصول ما ثبت الحكم الشرعي لأجله باعثا أو كاشفا كما يأتي وأما حكم الفرع وهو تحريم النبيذ فلا يعد من الأركان لأنه يتوقف على معرفة القياس وركن الشيء لا يتوقف عليه وإنما هو ثمرة القياس ولكل واحد من أركان القياس من الأربعة الأركان شرط فبدأ بشروط الأصل فقال ... فشرط حكم ما يعمد أصلا ... أن لا يكون النسخ فيه حلا ...
جعل هذا الشرط في أصل النظم شرطا للأصل ولكنه لما كانت شرطيته
إنما هي باعبتار الحكم فإنه الذي يرد عليه النسخ زدنا لفظ الحكم إعلاما بأنه المراد بالنسخ ولذلك تجد كثيرا من الأصوليين يقتصرون على شروط الحكم ولا يجعلون للأصل شرطا وإنما شرط أن لا يدخل النسخ حكم الأصل لما عرفت من المراد من القياس إلحاق حكم الفرع بحكم الأصل فإذا كان قد نسخ فلا حكم فلا إلحاق وهذا تتابع على ذكره الأصوليين ولكن لا حاجة إليه إذا ما نسخ حكمه فقد رفع التعبد به وطوي بساط الإلحاق عليه والشرط الثاني قوله ... ولا يكون خارجا عن السنن ... كشفعة الجار على ما في السنن ...
السنن الأول بفتح السين المهملة والثانية بالضم جمع سنة والمراد ما جاء في السنة من إثبات الشفعة للجار ومعنى عدم خروجه عن سنن القياس أن يعقل المعنى أي العلة في الحكم ويوجد في محل آخر يمكن تعديته إليه وذلك لأن القياس فرع تعقل العلة كما تقدم فلا يصح القياس والخارج عنه نوعان
الأول أن يكون مما خفي معناه المقتضي للحكم وذلك كالشفعة والقسامة لأنهما معدولان عن سنن القياس الشرعي فإن القسامة تجب على
من لا يدعي عليه ولي الدم القتل ويجب فيها تحليف من لم يثبت الحق عليه والقياس أن لا تجب إلا على من ادعى عليه وكذلك الشفعة مطلقا مخالفة للقياس لأنها أخذ مال الغير من غير رضاه بلا عقد وهذا النوع هو الذي أشار إليه الناظم
والثاني أن يكون معناه ظاهرا لكن منع من إلحاق نص الشارع بالخصوصية كإجزاء أبي بردة في التضحية بالجذع من المعز وقصره عليه بقوله صلى الله عليه و سلم ولا تجزىء غيرك وهذا الثاني لم يشر إليه النظم لعدم ذكره في أصله
الشرط الثالث قوله ... ولا يكون الحكم بالقياس ... قال بهذا جلة الأكياس
أي من شروط صحةالقياس أن لا يكون حكم الأصل ثابتا بالقياس فإنه لا يجوز القياس عليه على المختار واستدلوا لذلك بأن العلة في القياس إما أن تتحد أو تختلف إن اتحدت كقياس التفاح على السفرجل في الربويات مع قياسه على البر كان تطويلا للمسافة بلا فائدة للاستغناء بقياس التفاح على البر وإن اختلفت العلة لزم فساد القياس لعدم الاتحاد في العلة بين القياسين ومثلوه بأن يقال الجذام عيب يفسخ به البيع كما يفسخ به النكاح قياسا على الرتق فيقول الغير لا نسلم أن الرتق يفسخ به النكاح فيثبته المستدل بالقياس على الجب بجامع فوات الاستمتاع فيقول هذا القياس فاسدا لاختلاف الجامع بين الأصل والفرع الذي قصد إثبات الحكم به إذ العلة في الجذام كونه عيبا ينفسخ به البيع والعلة في الرتق هي فوات الاستمتاع فبطل القياس هكذا قاله الجمهور ولا يخفى أن ما ذكره في الأول من المثالين مناقشة لفظية لا تقتضي بطلان القياس المذكور وما ذكره في الثاني دل على انه بطل القياس لعدم الاتحاد في العلة لا لأنه قياس على مقيس فهذه شرط الأصل الذي جعلها صاحب أصل النظم شروطا للأصل
وأما شروط الفرع فثلاثة الأول منها موافقته في أمور ثلاثة أشار إليها بقوله ... واشترطوا في فرعه الموافقه ... في الحكم والعلة والمطابقه ... للأصل في التغليظ والتخفيف ...
هذا هو الشرط الأول للفرع وهو وجودي والشرطان الآخران عدميان وإنما جعلوا هذا شرطا واحدا لأنه مساواة الفرع لأصله وذلك في ثلاثة أمور الأول في الحكم بأن يتحدا في الحكم المستفاد من العلة وهذا في الحقيقة مأخوذ في ماهية القياس كما عرفت في رسمه
والثاني مساواته في العلة وذلك بأن يوجد في الفرع علة أصله كالكيل في الربويات عند معتبره فتقاس النورة عليها لوجود علتها فيها بخلاف ما لو قيل العلة هي الطعم فإنها لا توجد في النورة فلا يصح القياس
والثالث الموافقة في التغليظ والتخفيف فلا يصح قياس التيمم على الوضوء في التثليث لأن التخفيف ينافي التغليظ فيكون ذلك أمارة الفرق فلا تتحقق المشاركة التي تقتضي الإلحاق وليس الجمع لوجود الجامع أولى من الفرق لوجود الفارق وهذا الشرط اعتبره المهدي وجماعة
وذهب الأكثر إلى عدم اشتراطه قالوا لأنهما وصف للحكم والحكم إذا ثبت في الأصل على أحدهما من التغليظ والتخفيف ثبت في الفرع كذلك فإن ثبت المانع بنص كان بطلان القياس لأجله لا لمجرد المخالفة في التخفيف والتغليظ
الثاني من شروط الفرع الثلاثة وهما شرطان عدميان أشار إليها قوله ... ولم يكن في حكمه المعروف ... شرعية من قبل حكم الأصل ... ولا أتى في ذاك نص نقلي ...
هذا الشرط الأول أن لا نقدم شرعية الفرع على حكم الأصل ومثاله قياس الوضوء على التيمم في شرعية وجوب النية فإن وجوب النية في التيمم
ظاهر من نص قوله تعالى فتيمموا وشرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء فلا يقاس إيجاب النية في الوضوء على التيمم
والثاني منهما ما أفاده قوله ولا أتى في ذاك نص نقلي أي أنه يشترط في القياس أن لا يأتي على حكم الفرع نص نقلي أي دليل ظاهر دال على ثبوت حكم الفرع إذ يكون دليله النص لا القياس إلا أنه يجوز الاستدلال بالقياس استظهارا وتقوية ومعاضدة
وأما شروط الحكم فهو ما أشار إليه قوله ... وأن يكون حكمه شرعيا ... لا لغويا كان أو عقليا ...
هذا شرط للحكم الذي ثبت بالقياس هنا وهو أن لا يكون الحكم عقليا ولا لغويا وهذا شرطه في هذا الفن إذ قد يجري في غيره القياس العقلي كما في أصول الدين والمراد بكونه شرعيا أي من الأحكام الخسمة فإنه لا يهتدي إليها العقل إلا بالأدلة الشرعية والمراد بنفي اللغوي نفي أن يكون الثابت بالقياس الشرعي حكما لغويا نحو أن يقال في اللواط وطء وجب فيه الحد فيسمى فاعله زانيا كواطىء المرأة فهذا لا يصح لأن الأسماء لا تثبت إلا بالوضع اللغوي لا بالقياس الشرعي وبنفي كونه عقليا أنه لا يثبت بالقياس الشرعي حكم عقلي نحو أن يقال في نقل العين المغصوبة استيلاء
حرمه الشرع فيجب كونه ظلما كالغاصب الأول فهذا لا يصح لأن الظلم إنما يصح إذا حصل وجهه وهو كونه ضررا عاريا عن نفع ودفع واستحقاق
وأما شروط العلة فقد أفادها قوله ... وقد أتى عندهم للعلة ... شرائط قد جمعت في ستة ...
العلة هي الوصف الذي علق عليه الحكم الشرعي ويسمى الباعث على الحكم ولها ستة شروط
الأول قوله ... لا تصدم النص ولا إجماعا ...
بأن يكون ما أثبتته في الفرع مخالفا لهما مثال الأول قول الحنفي المرأة مالكة بضعها فيصح نكاحها بغير إذن وليها قياسا على بيع سلعتها فإنه قياس صادم قوله صلى الله عليه و سلم أيما امراة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل أخرجه أبو داود وغيره ومثال الثاني قياس صلاة المسافر على صومه في عدم الوجوب بجامع السفر فإنه مخالف للإجماع على وجوب أدائها
الشرط الثاني من الستة قوله ... ولا يكون جزؤها مضاعا ...
أي ملغى عن الاعتبار كما بينه قوله من غير تأثير فإنه بيان لمعنى إضاعته ... من غير تأثير له في الحكم ...
ومعناه أن العلة إذا كانت متعددة الأوصاف عند من قال به فشرطها أن لا يكون في أوصافها ما لا تثير له في الحكم بحيث لو قدر عدم ذلك الوصف لم يعدم الحكم فيه مثاله أن نقول في تحريم التفاضل في النورة مثلا مثلي ليس بلبن المصراة فيضمن بمثله فقوله ليس بلبن المصراة وصف
ملغى غير معتبر لا يصح أن يكون باعثا على الحكم ولا أمارة فلا فائدة فيه حينئذ وليس ذلك بدافع للنقض كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى حتى يقال هو الفائدة
الثالث من شروطها أفاده قولنا ... ولا يكون الوصف نفس الإسم ...
ويعني به الجامد المشتق مثال الجامد التعليل في حرمة الخمر بكونه خمرا وتعليل تحريم الربا في البر بكونه برا فإنه لا تأثير له في الحكم بل هو وصف طردي غير معتبر وإلى هذا أشرنا بقولنا فإنه ليس له تأثير
قال المهدي في شرح المعيار إنه لا يعلم خلافا في ذلك وقال الرازي قد وقع الاتفاق على عدم الجواز أيضا قال فإنا نعلم بالضرورة أنه لا أثر في تحريم الخمر لتسميته خمرا قلنا دعوى الاتفاق غير صحيحة فإنه قد حكى في جمع الجوامع الخلاف ونسبه إلى أبي اسحاق الشيرازي فإنه قال يجوز أن يكون وصف العلة صفة كالطعم في البر أو اسما كقولنا تراب وما قال لان كل معنى جاز أن يعلق الحكم عليه من جهة النص جاز أن يستنبط من النص ويعلق الحكم عليه كالصفات قال الزركشي والصحيح هو الجواز
قال وقد استعمله الشافعي في بول ما يؤكل لحمه قال لأنه بول شابه بول الآدمي وينسب إلى أحمد بن حنبل القول به هذا وإنما قيدنا بالجامد لان المشتق كالسارق والزاني جائز التعليل به اتفاقا إلا أنه قال الزركشي في شرح الجمع إنه منع بعضهم التعليل بالاسم مطلقا نقله سليم الرازي في التقريب
والشرط الرابع أشار إليه قولنا ... والطرد شرط قاله الكثير ...
الطرد للعلة مرادنا به أنها كلما وجدت العلة وجد الحكم وعدمه هو تخلف الحكم عنها في بعض الصور وهو المسمى بالنقض ولا يخفى أن هذا في الأصل هو الخامس لأنه جعل عدم مخالفة العلة الحكم تغليظا وتخفيفا شرطا ونحن اكتفينا بما مضى في شروط الفرع أن لا يخالط أصله تغليطا وتخفيفا فإنه يعلم أن العلة يشترط فيها ذلك وإنما قلنا في النظم في شروط العلة ستة باعتبار كلام الأصل ولذا قلنا عندهم أي لا عندنا
واعلم أن العلة إما أن تثبت بنص قطعي أو ظني أو استنباط فالتخلف إما أن يكون لمانع أو عدم شرط أو لا وقد اختلف العلماء في اشتراط الاطراد لصحة العلة على أقوال الأول ما أشرنا إليه من اشتراط ذلك مطلقا إلا لمانع أو عدم شرط فيجوز ذلك لأن الحكم الشرعي لا بد له من باعث عليه وقد جزم صاحب الآيات البينات بان تخلفها لا مانع ولا عدم شرط محال
واستدل مشترط الاطراد مطلقا أن الحكم لا يتخلف عن علته إلا لمانع أو عدم شرط قالوا فيكون عدم المانع ووجود الشرط من أجزاء العلة فوجود بعض أجزائها حينئذ في محل الحكم بدون الحكم دليل على أن ذلك البعض ليس هو العلة بمجرده وإلا لوجد الحكم في ذلك المحل مثاله لو ورد أن علة تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلا هو الوزن ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مع وجود الوزن فيه تبين لنا أن العلة في منع بيع الحديد بالحديد كونه موزونا مع كونه ليس بأبيض أو مع أنه أسود فانتفاء المانعية وهو البياض أو وجود الشرط وهو السواد قد صار جزءا من أجزاء العلة فبطل حينئذ أن تكون العلة هي الوزن على انفراده فهذا دليل مشترطي الاطراد مطلقا وللمخالفين أقوال مسطورة في مطولات الفن وإليه أشير بمفهوم قولنا قاله الكثير أي ونازع فيه القليل فقالوا لا يشترط الاطراد وإلى الشرط الخامس من شروط العلة أشار قولنا ... والعكس عند البعض ثم قد أتى ... نفيا وفي الأغلب جاء مثبتا ...
فقوله والعكس هو الشرط الخامس ومعناه انتفاء الحكم عند انتفاء العلة وهذا الشرط مبني على عدم جواز تعليل الحكم بعلتين فيكون عدم انعكاس العلة قدحا لا يصح معه عليتها لأنه لا يصح ثبوت الحكم بدون العلة والمراد انتفاء العلم او الظن بالحكم لأنه لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول لجواز أن يثبت بدليل آخر
وكون الحكم يجوز تعليله بعلتين مسألة خلاف بين أئمة الأصول فمن قال بجوازه قال لا يشترط انعكاس العلة كما أشير إليه بقوله في النظم عند البعض والمختار تعدد العلل المستقلة بإثبات الحكم بمعنى أنها إذا وجدت منفردة ثبت بها الحكم ومثاله وجوب القتل فإنه حكم ثابت بعلة القصاص وبعلة الردة وبعلة ترك الصلاة وبعلة الزنى من المحصن فكل واحدة علة مستقلة يثبت بها الحكم وقال المانع إن المثال متردد الحكم لا العلة قال فالقتل بالقصاص غيره بالردة مستدلا بأنه ينتفي القتل بالقصاص عند العفو مثلا ويبقى القتل بالردة ولو كان متحدا لانتفاء القتل من حيث هو وأجيب بأن تعدد الإضافة لا يوجب الاختلاف الذاتي وإلا لزم تعدد الواحد بالشخص باعتبار الاضافات كالأبوة والبنوة والأخوة وأما ارتفاع بعضها دون بعض كما في الصورة المذكورة فلا يضرنا لأنه لمقتض أوجب ذلك ولا يلزم منه ثبوت تعدد الحكم في كل ما وقع فيه النزاع ألا ترى أن الغسل إذا وجب بالحيض والوطء كفى غسل واحد ولو تعدد لتعدد العلل ما كفى ذلك وهذا شرح صدر البيت
وأما عجزه فإنه لما لم يكن من شروط العلة بل بحث آخر أتى بثم إشارة إلى أنه حكم آخر مترتب على ما قبله وهو حكم من أحكام العلة وقدم النفي لكونه الأصل فإن الوجوب طار على العدم والمصدر بمعنى اسم المفعول أي منفيا كما يدل له المقابلة بقوله مثبتا ثم إن التعليل بالمثبت والأغلب كما دلت له العبارة وعليه وقع الاتفاق وفي التعليل بالعدم خلاف فالحنفية لا يجوزون التعليل به والحق جوازه ووقوعه قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و لكي لا يكون دولة بين الأغنياء و لكي لا تأسوا على ما فاتكم قالوا النفي بمعنى الإثبات وهو الكف وهو أمر محقق وجودي قلنا عاد الخلاف لفظيا على أن المعلوم لغة أنه لا يفهم من قوله لعبده لم يمتثل إلا سلب ما دخلت عليه آلة النفي لا لأنه قعد أو كف نفسه فدعوى ما ذكرتم افتراء على اللغة إذ آلة النفي الداخلة على الفعل إنما تفيد سلبه ثم لا يخفى أن الصور أربع
الأولى أن يكون الوصف ثبوتيا والحكم كذلك كتعليل تحريم الخمر بكونه مسكرا
الثانية أن يكونا عدميين معا كتعليل عدم نفاذ بيع الصبي والمجنون بعدم العقل
الثالثة أن يكون الوصف وجوديا والحكم الثابت عنه عدمي كتعليل عدم نفاذ التصرف من المسرف بالإسراف
والرابعة عكسها وذلك كتعليل جواز ضرب الزوجة بعدم الامتثال ثم أشار إلى بعض أحكام الوصف وهو العلة الجامعة بقوله ... ومفردا كما أتى مركبا ...
أي وأتى الوصف مفردا كالإسكار في باب الخمر ولا خلاف في جواز التعليل بالمفرد وأتى مركبا يعني أنه يكون الوصف متعددا كالقتل العمدي العدوان في القصاص فالمختار وعليه الجمهور جوازه إذ لا مانع منه وقد وقع والوقوع دليل الصحة وخالف فهي من خلاف بلا دليل ناهض وقوله ... وخلقه كالطعن في باب الربا ...
بكسر الخاء العجمية أي يكون وصفا حقيقيا خلقيا في محل الحكم يدرك بالحس ويعقل باعتبار نفسه لا بوضع عرفي كالشرف والحسب في باب الكفاءة ولا شرعي كالنجاسة والطعم لا يتوقف على شيء مما ذكر بل يدرك بالحس ثم نظم مسائل تتعلق بالوصف يذكرها الأصوليون وهي اربع كونه شرعيا وكونه يقارنه مثله وكونه يعقبه وكون الأوصاف تعارض فيرجع إلى الترجيح أشار إلى الأولى فقال ... وجاء شرعيا وعنه قد حصل ... حكمان شرعيان ثم في العلل ... تقارن قد صح والتعاقب ... كذلك الترجيح حكم لازب ...
فقوله وجاء أي وجاء الوصف شرعيا سواء كان لجلب مصلحة أو لدفع مفسدة كما يفيده الإطلاق وهو رأي الجمهور وفي المطولات خلاف
وتفاصيل لا حاجة إلى تفصيلها وذلك كما يعلل عدم صحة بيع الكلب لكونه نجسا فإن النجاسة حكم شرعي وقوله وعنه أي عن الوصف الواحد قد حصل حكمان شرعيان أو أكثر ومثاله تعليل تحريم دخول المسجد وقراءة القرآن والصلاة والصوم والوطء بالحيض فهذه أحكام متعددة عن وصف واحد وكالسرقة يترتب عليها حكمان شرعيان القطع والفسق
والثاني قوله تقارن أي يصح تقارن العلل المتعددة لحكم واحد وذلك كالقتل للردة والزني إذا تقارن وجودهما فإنهما علتا القتل وقد تقدم في بحث العكس
والثالث قوله والتعاقب أي تعاقبها بأن يقتضي وصف حكما ثم يقتضي وصف آخر ذلك الحكم ومثاله تعليل تحريم الوطء بالحيض فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء بالحيض فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء أما ترجيح بعض العلل على بعض الذي أشير إليه فهو عند تعارض العلل وسيأتي بيانه وأمثلته في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى
وحين انتهى بنا الكلام في شروط العلة أخذنا في بيان طرق معرفتها ومسالك إثباتها فقلنا ... مسالك العلة فيها أربع ... أولها عندهم أن يجمعوا ...
حذف التاء من أربع لكونه قد أضيف إلى مؤنث وهو العلة فأجرى عليه حكم المعدود المؤنث وجعلها أربعة هو الذي اختاره ابن الحاجب وغيره بإدخال تنبيه النص وإيمائه في مسلك النص ومن عدها ستة جعلهما مسلكين وأولى الأربعة الإجماع وقدم لكونه أقوى ولأن مسلك النص منتشر ومعناه
أن تجمع الأمة على تعليل حكم بعلة معينة ومثل الذي أجمع على عليته بالصغر فإنه علة في الولاية على المال والمراد بالإجماع هنا أن يجمعوا على أن الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني من غير نظر إلى تعدي العلة ووقوع القياس فاندفع ما قيل إنه كيف يتصور الإجماع مع نفاة القياس لأن الكلام في إثبات علة الحكم والدليل عليها أعم من أن يحصل عنها قياس أو لا ويدل عليه قوله في متعلق أن يجمعوا ... بأن هذا علة والثاني ... نص وقد عد له قسمان ...
والمراد بالنص ما دل على العلية من نص كتاب أو سنة سواء كان صريحا وهو ما دل بوضعه أو غير صريح وهو ما لزم من مدلول اللفظ فهذا هو ما أردناه بقولنا وقد عد له قسمان ثم بين الأول بقولنا ... فما أتى فيه بحرف العلة ... فهو صريح النص بالأدلة ... كاللام والباء وكي والفاء ... وما بمعناها من الأسماء ...
أي الذي أتى فيه بحرف يدل على العلة وضعا فهو صريح النص في الدلالة عليها ومعنى الصراحة هنا هو أن الحرف الفلاني يدل على العلية وضعا سواء احتمل غيرها أو لا فدخل فيها الظاهر فهو من قسم النص الصريح في هذا الإطلاق فإن كانت تنحصر دلالته عليها فهو النص وفي العلية بالمعنى الأخص وإن احتمل غيرها فهو الظاهر إذا عرفت هذا فأقواها ما انحصرت دلالته على العلية ككي ومن أجل كذا وإذا أكل قال تعالى كي تقر عينها ومن أجل ذلك كتبنا وإذا لأذقناك ومن السنة كما قال صلى الله عليه و سلم إنما جعل الاستئذان من أجل النظر وغير ذلك
ثم بعده في الدلالة على العلية ما يحتمل غيرها احتمالا مرجوحا بكونه يطلق على غيرها مثل اللام لأنه تأتي لغير التعليل نحو ... ولدوا للموت وابنوا للخراب ...
ظاهرة كانت نحو لتخرج الناس من الظلمات إلى النور أو مقدرة نحو أن كان ذا مال وبنين أي لأن كان وهذا على رأي من لا يجعل أن للتعليل فأما من يجعلها له فلا يقدر اللام
ومن ذلك إن المكسورة المشددة مثل إن النفس لأمارة بالسوء وفي الحديث إنها ليست بنجس إنها من الطوافين وهو كثير في الكتاب والسنة وبكونها للتعليل صرح الرازي والآمدي
ومن ذلك الباء نحو جزاء بما كانوا يعملون
ثم الفاء إذا دخلت على العلة نحو زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون الحديث في الشهداء وأما الفاء الداخلة على الحكم نحو السارق والسارقة فاقطعوا فليست للتعليل وقد صرح أئمة العربية أن الفاء تكون للسببية فلذا عدها الأصوليون حرف علة
وقوله وما بمعناها من الأسماء يدخل من أجل ذلك ونحوها وإن كان يمكن إدراكها فيما قبلها وهذا في الصريح من النص الدال بوضعه على العلية وأما الثاني وهو غير الصريح وهو الدال عليها بلازم وضعه فقد أفاده قوله ... وغيره ما أفهم التعليلا ... من غيرها وراجع التمثيلا
أي وغير النص ما أفهم العلية من لازم لفظه لا من وضعه وخص أئمة الأصول هذا القسم بالتسمية بتنبيه النص وإيمائه كما قال ... وسمه تنبيه نص واعرف ... أنا هنا لما سيأتي تكتفي ...
يريد في باب المنطوق فإنه يأتي بيان أقسام التنبيه والإيماء وأما قوله في البيت الأول وراجع التمثيلا فهو إحالة على ما في الأصل من الأمثلة
واعلم ان حقيقة التنبيه والإيماء هو أن يقترن الوصف الملفوظ به بحكم ولو مستنبط لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل عن ذلك الاقتران بعد وقوعه من الشارع لمعرفته بأساليب الكلام ومطابقة مقتضى الحال وجعلوا منه اقتران النظير كخبر الخثعمية وهو قولها يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أينفعه إذا حججت عنه فقال صلى الله عليه و سلم أرأيت لو كان على أبيك دينا فقضيته أكان ينفعه قالت نعم أخرجه الستة فذكر صلى الله عليه و سلم لها نظيرا ما سألته عنه ليثبت له ما ثبت لنظيره أي فكما ثبت نفع الميت بقضاء دينه ثبت نفعه بالحج عنه وأما مثال اقتران الوصف فمثاله خبر المواقع في نهار رمضان ولفظه عند ابن ماجه واقعت أهلي في رمضان فقال صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم له أعتق رقبة أخرجه الستة فأمره بالإعتاق بعد ذكره الوقاع دال بالإيماء والتنبيه على أنه علة الحكم فكان في قوة إذا واقعت فكفر ومن الأمثلة إذا منع نهي الشارع عما يمنع من إيجاد واجب بعد تقديم الأمر به نحو قوله تعالى وذروا البيع فإن
النهي عن البيع بعد الأمر بالسعي فيه تنبيه وإيماء إلى أن علة ذلك هو الأمر بالسعي ولولا ذلك لكان اقترانه به بعيدا في كلام الشارع لعدم الفائدة
ومن ذلك أن يفرق بين حكمين بصفة نحو للراجل سهم وللفارس سهمان كذا يمثل به الأصوليون وإن كان ليس لفظ الحديث فهو في معناه فقد ذكر حكمان في الحديث أحدهما للراجل والآخر للفارس وفرق بينهما بالفروسبة والرجولية تنبيها وإيماء إلى نفي العلة في ذلك الحكم وقد يذكر أحد الوصفين دون الآخر نحو قوله صلى الله عليه و سلم القاتل عمدا لا يرث فإنه لم يتعرض لغير قاتل العمد وقد فصل بين الوارثين بالقتل وعدمه فلولا أن الصفة هي العلة في عدم الإرث لما كان لذكرها فائدة
ومن مراتب الإيماء والتنبيه أن يفرق بين الحكمين بغاية مثل قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرهن فإنه فرق في الحكم بين الحيض والطهر أو فرق بينهما بالاستثناء نحو قوله تعالى فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون ففرق بين العافية وغيرها بسقوط المهر بالعفو أو يفرق بشرط نحو حديث فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم وكالاقتران بالاستدراك نحو قوله تعالى لا يؤاخذكم الله بالغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان
ومن مراتبه أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا له نحو قوله
لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه فيه تنبيها على أن الغضب علة عدم جواز الحكم لأنه مشوش للنظر وموجب للاضطراب وأمثلة هذا كثيرة في المطولات
ولما بينا المسلك الثاني أخذنا في بيان الثالث بما حواه قولنا ... ثالثها السير مع التقسيم ... وتارة يطلق في العلوم ... بحجة الإجماع وهو الحصر ... لكل وصف ثم يأتي السبر ... إبطالها إلا الذي تعينا ... بما به من الوجوه بينا ...
التقسيم هو حصر الأوصاف والسبر إبطال بعضها فقوله إبطالها من السبر وهو لغة الاختبار فالسبر تابع للتقسيم لا يكون إلا بعده وعبارة النظم قد أرشدت إلى هذا للإتيان بمع التي يكون مدخولها في الغالب متبوعا وهي أولى من قولهم السبر والتقسيم لخلوصها عن المناقشة بأن السبر لا يكون إلا بعد التقسيم وضمير هو عائد إلى ما دل عليه الكلام وهذا تعريف للسبر والتقسيم فالتقسيم هو الحصر لكل وصف يصلح في بادىء الرأي للعلية ثم يأتي السبر أي اختبار الأوصاف فيبطل ما لا يصلح للعلية ويستبقى ما يصلح لها ومثال ذلك قياس الذرة على البر في تحريم الربا بجامع التقدير والجنس مثلا وإبطال ما عداهما من الطعم والكيل والادخار بما يأتي من دليل الإبطال فإذا منع الحصر الذي ذكره المستدل في تحصيل ظن العلة كفى ان نجيب
بحثت فلم أجد غيرها أي الأوصاف التي حصرها والأصل عدم غيرها فيقبل قوله لعدالته وديانته وقوله بحجة الإجماع أي الحجة المستندة إلى الإجماع كما يقال دليل الكتاب ودليل السنة وخص هذا المسلك بهذا الاسم وإن كان غيره من المسالك دليل الإجماع كما قال في شرح المعيار سمي حجة الإجماع لأن المعلل فيه يعود في تعيين الوصف الذي اختار كونه علة إلى الاحتجاج بالإجماع على أنه لا بد من علة فلما كان الإلغاء لما عدا الوصف المستبقي مفتقرا إلى طريق يعرف به كيفية بعد الإشارة إليه بقوله أو لا بما به من الوجوه بينا قال ... أما ثبوت حكمه بدونه ... أو كونه طرديا أو بكونه ... مناسبا للحكم غير ظاهر ...
فهذا بيان للوجوه التي بين بها الإبطال وضمير حكمه عائد على المتعين المفهوم من البيت الأول وفي بدونه إلى البعض المحذوف وقرينة السياق دالة على ذلك فالأول من الوجوه هو ثبوت الحكم في محل الوصف المستبقى بدونه أي بدون بعض الأوصاف المحذوفة بأن يقول في المثال لا يصلح أن تكون العلة الطعم ولا القوت لأن الملح ربوي بالنص وليس بالطعم ولا قوت فتعين أن العلة التقدير والجنس ونحو ذلك من الأمثلة والثاني ما أفاده قوله أو كونه طرديا أي كون المحذوف طرديا والطردي الوصف الذي لم يعتبره الشارع إما مطلقا كالطول والقصر فإنه لم يعتبره في شيء من الأحكام لا في القصاص ولا الكفارة ولا العتق ولا في شيء من الأحكام فلا يعلل بهما حكم أصلا أو في محل دون محل كالأنوثة والذكورة فإنه اعتبرها في باب الشهادة ولم يعتبرها في العتق في الأجزاء وإن كان اعتبارها فيه في الثواب وإنما ألغى الطرد لعدم كونه مناسبا فهو داخل في الطريق الثالثة وهي ما أشار إليه قوله أو بكونه أي بكون الوصف المحذوف غير مناسب أي ليس بظاهر في المناسبة ويكفي في ذلك قول المستدل بحثت فلم أجد إذ هو عدل فيصدق
فإن قال المعترض المستبقى غير مناسب أيضا فيكفيه إبانة وجه المناسبة بحسب ظنه ولما كان لهذه الطريق والطريق الأخرى شرطا قاله العلماء أوضحه قوله ... والشرط في ذا والطريق الآخر ... إجماعهم بأنه في الجملة ... معلل لا أن هذا العلة ...
أراد بالطريق الآخر المناسبة ولم يذكر غيرهما من المسالك أي السبر والمناسبة من المسالك لما تبين من عدم صحة العمل به ومعين قوله بأنه في الجملة أي أن الحكم في نفس الأمر معلل وإن ذلك معتبر في كل فرد من أفراد الأحكام ... رابعها يوسم في المخاطره ... إخالة وتارة مناسبه ...
الإخالة بكسر الهمزة والخاء المعجمة وهي مصدر أخال بمعنى ظن والهمزة للصيرورة كأغد البعير أي صار ذا غدة فمعنى أخال الوصف صار ذا مخيلة أي مظنة للبعث على الحكم وقوله يوسم أي يسمى ويدعى بمعنى يسم ولذا عداه بنفسه وقوله وثالثا مناسبة إشارة إلى أنه كما يسمى إخالة يسمى أيضا مناسبة ويسمى استخراجها تخريج المناط
كما قال ... كذلك التخريج للمناط ... من جملة الألقاب بالتواطي
أي تواطؤ أئمة الأصول إذ هي أوضاع عرفية والمناط مصدر ميمي من أناط الشيء إناطة ومناطا والمناط سار اسما بما يعلق عليه الشيء ولما كانت العلة تعلق بها الأحكام سميت مناط الحكم ولما كانت المناسبة تستنبط بها علة تسمى الوصف المناسب للحكم بينها بقوله ... ثم هي التعيين للأوصاف ... بغير ما مر من الأطراف ... بل كونها ذاتية كالشدة ... للخمر في الحكم له بالحرمة ...
وقوله التعيين للأوصاف كالجنس يدخل فيه سائر مسالك العلة ومراده بالأوصاف اللغوية ليشمل ما يصلح للعلة من الحكم الشرعي وغيره وقوله بغير ما مر كالفصل لأخراج ما مر من تعيين العلة بالسبر مع التقسيم أو بالنص ولما كان لا يخرج ما سيأتي من الشبه والطرد قال بل بكونها ذاتية أي بكون المناسبة ذاتية بالمناسب فخرج بهذا القيد جميع المسالك من نص وإجماع وغيرهما ولذا عبر ب بل إذ تعيين العلة في كل ما ذكر ليست بالمناسبة بل بغيرها والمراد بالمناسبة الملاءمة في أنظار العقلاء للحكم وقد أوضح المراد بالمثال تنبيها على أن التعريف كالتقريب لتصوير المناسبة وإلا فإن تعيين الأوصاف ليس هو المناسبة قطعا إذا عرفت هذا فالشدة المسكرة في الخمر وصف مناسب لتعليق الحكم عليه فإن من نظر في المسكر وما يترتب عليه من إزالة العقل المتعين حفظه في كل ملة ظهر له مناسبة تعليق الحكم على ذلك الوصف وهذا هو الاستنباط القياسي الذي عظم فيه الخلاف وأنكره الظاهرية وغيرهم من نفاة القياس ولما كان الوصف المناسب لا يعتبر مطلقا بل إذا تجرد عما يفيده قولنا ... واعلم هديت أنها تنخرم ... إن كان عن إثباته يسلتزم ... مفسدة ترجح أو تساوي
اختلف أئمة القياس في انخرام الوصف المناسب أي عدم اعتباره إذا اشتمل على مفسدة راجحة على المصلحة أو مساوية هل يكون مع ذلك معتبرا أولا فالمختار أن المناسبة تنخرم لعدم اعتبارها حينئذ لوجود مانع اعتبارها وهو وجود المفسدة المذكورة وذلك لما تقرر من أن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح عند المساواة فكيف إذا كانت المفسدة أرجح ويدل له أن العقلاء قاطبة يعدون فعل ما فيه مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عبثا وسفها وذلك كمن استأجر إنسانا بعشرة دراهم ليقبض له مثلها من المحل الفلاني ثم أخذنا في البيان المناسب لقولنا ... وخذ له الحد الصحيح الحاوي ... قل هو وصف ظاهر منضبط ... يقضي به العقل وعنه يضبط ...
ضمير له للوصف المناسب باعتبار معناه الأعم لا بالمعنى السابق ففي النظم استخدام ومعناه الأعم وما يشمل النص والإجماع والاستنباط فالتعريف للمناسب باعتبار ما يصلح لنفسه للتعليل سواء كان بنص أو غيره وقيد الوصف بالظهور والانضباط لأنه إذا كان خفيا أو غير منضبظ اعتبرت فيه المظنة كما يأتي ويتعين كون ما اعتبرت فيه المظنة قسيما للمناسب المحدود هنا لا قسما منه كما هو الظاهر من صنيع الأصولين حيث فرعوا على الحد المذكور ما اعتبرت فيه المظنة وذلك لوضوح خروجه من هذا الحد وقوله يقضي به العقل إلى آخره أي يقضي بسببه ولأجله العقل بأنه الباعث فقوله ... بأنه الباعث للمعبود ... على الذي ألقاه للعبد
يتعلق بيقضي أي يقضي العقل بأن هذا الوصف الظاهر المنضبط وهو وجه الحكمة الموجبة للحكم الباعث عليه تذلك ! كالإسكار في تحريم الخمر وذلك لأن ترتب الحكم على الوصف يوافق عادة العقلاء فيقصي العقل بأنه الباعث على ثبوت الحكم وإلقائه منه تعالى على العباد فتحريم الخمر لإزالته العقل بإسكاره وافق عادة العقلاء في إيجاب حفظ العقل ولم يقيد الباعث بجلب مصلحة أو دفع مفسدة لظهور إرادة ذلك كما يرشد إليه معنى الباعث
واعلم أن هذا التعريف للمناسب إنما هو باعتبار ما يصلح بنفسه للتعليل كما سبقت إشارة إليه فيكون قسيما لما اعتبرت فيه المظنة ولهذا لم يفرع الناظم عليه ذلك بل عطف في النظم بالواو فقال ... وحيث ذاك عنده لم يظهر ... أو ليس بالمنضبط المؤثر ... اعتبروا ملازما للوصف ... ملقبا مظنة في العرف ...
الضمير في عنده للعقل والمؤثر قيد للمنضبط والمراد به ما يصلح اعتباره سواء كان عن نص أو إجماع أو استنباط فلا يتوهم قصره على ما كان عن نص أو إجماع كما هو المعروف في الاصطلاح والمراد أنه حيث لا ينضبط الوصف اعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الذي يحصل المقصود من ترتب الحكم عليه ملازمة عقلية أو عرفية أو عادية بمعنى أن ذلك الوصف يوجب بوجود ملازمة الظاهر المنضبط فيجعل الملازم معرفا للحكم ويعبر عندنا بالمظنة وقد مثله الناظم بقوله ... كالسفر اللازم للمشقة ... وغيره من أيما مظنة ...
والمراد أن المشقة مناسبة لترتب الترخيص عليها تحصيلا لمقصود الشارع أي التخفيف ولا يمكن اعتبار المشقة بعينها إذ هي غير منضبطة إذ هي ذات
مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان ولا يتعلق الترخيص بالكل ولا يمتاز البعض لنفسه وحينئذ فيتعلق الحكم وهو الترخيص بما يلازمها وهو السفر
وقوله وغيره إشارة إلى القسم الذي يعده الأصوليون خفيا وذلك نحو القتل العمد العدوان فإنه وصف مناسب لترتب الحكم عليه أعني القصاص دفعا لانتشار الفساد لكن العمد أمر نفسي لا يدرك فاعتبرت المظنة وهو استعمال الجارح في المقتل فإنه مظنة العمد فإنه معرف للعمدية والعدوان قيل ولكن في تعريفه له بعد لأنها إنما تعلن بانتفاء دليل عدمه من الخطأ والمدافعة والاستحقاق
واعلم أنها اتفقت كلمة الأصوليين أن الوصف الباعث على شريعة القصر للمسافر والإفطار هو المشقة ولكن لاختلاف مراتبها نيطت بما يلازمها وهو السفر وقد أورد عليهم أنها لو كانت المشقة الباعثة في الترخيص في الأمرين لكان الترخيص بهما في حق من هو مقيم يزاول أعمالا شاقة في الحظر في أيام الحر الشديد كالحداد والعمار أولى من المسافر فإن الملك الذي يسافر في المحفة وعنده كل ما يريده ويسير كل يوم بمسيرة فرسخ أو أقل لا مشقة عليه في سفره قد أجيب بما لا يشفي والتحقيق عندي أن الترخيص للمسافر في الأمرين ليس للمشقة بل لما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وقد سأله عمر أنهم قد أمنوا فما بال القصر كأنه فهم من قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الله رخص لهم القصر لأجل مخافة فتنة الذين كفروا فأجاب عليه بأنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فأخبر صلى الله عليه و سلم أن هذه الرخصة صدقة من الله تعالى يجب قبولها وتقر في
محلها فليس لنا أن نقيس عليها بتخفيف واجب أو تأخيره ولم يتعرض صلى الله عليه و سلم للمشقة وإنما هذه صدقة على المسافر الذي يضرب في الأرض لا لغيره وإن كان في أشق الأعمال وأشدها فقولهم إن مقصود الشارع في شرعية هذه الرخصة التخفيف صحيح وقد أشار إليه تعالى في ترخيصه للمريض والمسافر في ترك صوم رمضان وصيامه في أيام أخر حيث عقب ذلك بقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولإحاطته تعالى بكل شيء علما رخص لمن ذكر لا غير ولم يلاحظ المشقة في غيره وإلا فغير من لم يرخص له ممن ذكرناه من أهل الأعمال الشاقة في الحظر أحوج إلى التخفيف بالنسبة إلى ما نظنه لكن حكمة أرحم الراحمين أجل من أن يحاط بها فله حكمة فيمن خصه بالرخصة لا نحيط بها فلذا قلنا إن المشقة من حيث هي غير ملاحظة له تعالى فنقف على من رخص له لا غير وبعد هذا رأيت في الفواصل نقلا عن ابن الهمام والجلال شيئا يقرب مما ذكرناه إلا أنه عقبه بعد أن أورد النقص بأن التعليل بما لا ينضبط واقع كالمرض فإنها لا تنضبط مراتبه وقد جعل هو الوصف المناسب للترخيص وغير ذلك من الأمثلة واعلم أن للمناسب تقسيما آخر باعتبار قوته وضعفه أفاده قوله ... وقسم المناسب الأعلام ... أربعة جاء بها النظام ...
اعلم أن أئمة الأصول قسموا المناسب بهذا الاعتبار إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل قالوا لأنه إما غير معتبر شرعا أو معتبر والمعتبر إما أن يعتبر بنص أو إجماع أو لا بل لمجرد المناسبة ترتب الحكم على وفقه أي ثبوت الحكم معه في المحل فقط فهذه ثلاثة أقسام غير معتبر رأسا معتبر بنص أو إجماع معتبر بمجرد ترتب الحكم على وفقه الأول هو المرسل وقسموه إلى ثلاثة ما علم إلغاؤه وما لم يعلم منقسما أيضا إلى قسمين ملائم علم اعتباره بالجملة بأي الثلاثة الاعتبارات وغريب لم يعلم فيه أحدها فالغريب ومعلوم الإلغاء مردودان اتفاقا والملائم هو المصالح المرسلة كما سيأتي والثاني هو المؤثر والثالث ينقسم إلى ما علم اعتباره بأحد الثلاثة الاعتبارات وإلى
ما لا يعلم وهو الغريب فصارت الأقسام ستة مؤثر وملغي ولا لبس بينهما وملائم المعتبر وملائم غير المعتبر وغريب معتبر وغريب غير المعتبر ويأتيك بيانها كلها ولكل قسم منا اسم يخصه أفاده قوله ... مؤثر ملائم غريب ... ومرسل هذا هو الترتيب ...
أي الذي رتبه الأصوليون بتقديم الأقوى فالأقوى لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو لا فالمعتبر شرعا يكون على ثلاثة أنواع بيان الأولين منها في قوله ... فما بنص كان أو إجماع ... إثباته فهو بلا نزاع ...
أي ما ثبت اعتبار الشاعر إما بنص أو إجماع عين الوصف في عين الحكم فهو الأول ولا نزاع في كونه أعلى المراتب وأقواها ولذا سمي المؤثر لظهور تأثيره فيما اعتبر به ولا يحتاج إلى تطلب مناسب بعد النص والإجماع على كونه علة مثال النص قوله صلى الله عليه و سلم كل مسكر حرام فإن عين السكر قد أثر في عين التحريم بالنص ولا فرق بين النص والإيماء ومثال الإجماع اعتبار عين الصغر في عين ولاية المال بالإجماع وهذا هو الذي أفاده بقوله ... أولها وهو اعتبار العين ... في العين والثاني خلا عن ذين ...
وقوله والثاني أي من الأربعة الأقسام وهو المسمى الملائم والمراد من ذين هما النص والإجماع فالملائم ما خلا عنهما في اعتبار العين في العين وإنما استفيد اعتبار العين في العين بترتب الحكم على وفقه وهو الذي أردناه بقولنا
بل إنما ترتب الحكم على ... وصف به هذا القياس عللا ...
وينقسم أي الملائم ثلاثة أنواع اعتبار العين في الجنس واعتبار الجنس في العين أو الجنس في الجنس بالنص أو الإجماع مع اعتبار عينه في عينه بترتب الحكم على وفقه في كل من الاعتبارات الثلاثة بخلاف المؤثر فإنه اعتبار العين في العين بنص أو إجماع من غير نظر إلى مناسبة وهذه الأنواع شملها قوله ... إن صح بالنص أو الإجماع ... فيه اعتبار أي ذي الأنواع ...
فسرها وبينها الإبدال منها بقوله ... العين في الجنس كذا بالعكس ... أو اعتبار جنسه في الجنس ...
سمي هذا الجنس ملائما لأن عليته إنما ثبتت بالمناسبة والموافقة بترتب الحكم عليه في اعتبار العين في العين لا بنص ولا إجماع على ان هذه علة ولذا قلنا فيما سلف وصف به هذا القياس عللا أي دلا دليل عليه إلا ترتب الحكم على وفقه أي بسبب وجوده معه في المحل مثال الأول من أمثلة ملائم المعتبر وهو ما اعتبر فيه عين العلة في جنس الحكم التعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في إثبات الولاية الذي هو الحكم فإن عين الصغر معتبر في جنس الولاية فإنها تنوع بتنوع ما أضيفت إليه كما يقال ولاية مال وولاية نكاح فثبوتها في جنس النوعين بالإجماع بمعنى أنهم أجمعوا على كون الصغر علة في
مطلق الولاية غير مقيد بولاية مال ولا نكاح وليس المراد أنهم أجمعوا أن عين الصغر علة في ولاية النكاح وإلا لكان ذلك من المؤثر لا من الملائم
ومثال الثاني وهو ما اعتبر فيه جنس العلة في عين الحكم التعليل بالحرج في حمل رخصة الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر عليه بالسفر فإن جنس الحرج معتبر في رخصة الجمع وإن لم يكن حرج المطر معتبرا في عين رخصة الجمع بالنص بل يترتب الحكم على وفقه أي وجود الحكم في المحل مع الوصف ولو فرض نص أو إجماع على أن المطر هو العة لكان من المؤثر لا من الملائم
ومثال الثالث وهو اعتبار الجنس في الجنس التعليل بجناية العمد العدوان في حمل المثقل على المحدد في القصاص فإن الجناية جنس يشمل الجناية بالمحدد والمثقل وهذا الجنس معتبر في جنس الحكم الذي هو القصاص لأنه يتنوع بإضافته إلى أنواعه كالأطراف كالنفس وغيرها كما يقال قصاص نفس قصاص عين ونحو ذلك فهذه الثلاثة الأمثلة التي تضمنها البيت
هذا وأما الغريب من المعتبر فهو ما أفاده قوله ... وما عليه حكمه ترتبا ... لوفقه ولم يكن مستصحبا ... لغيره من تلكم الأقسام ... فإنه الثالث في النظام ...
أي والوصف الذي يثبت اعتباره بمجرد ترتب الحكم على وقفه ولم يثبت معه أحد الأمور الثلاثة كما ثبت في الملائم والمراد قولنا ولم يكن مستصحبا لغيره من تلكم الأقسام أي الثلاثة الثابتة في الملائم فهذا هو الثالث مما سبق في قولنا مؤثر ملائم غريب فهذا هو الغريب لما سيأتي عن قريب وحاصله أنه إنما يقف الحكم على الوصف المعين في المحل المعين بدون ثبوت شيء من التقادير الثلاثة المعتبرة في الملائم وهذا القسم هو الذي يثبت بطريق السبر والتقسيم والدوران والمناسبة ولا بد من المناسبة في الجميع ليتم أخذها من ترتب الحكم على وفقه ويقوى في ظن المجتهد مع ذلك مثاله قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار على تقدير أنه لم يرد نص في العلة وإلا فإنه قد ورد النص بأن الإسكار علة
والرابع من الأقسام ما أفاده قولنا ... رابعها المرسل وهو ما خلا ... عنها جميعا فلهذا أرسلا ...
أي خلا عن جميع ما ذكر في المؤثر والملائم والغريب فلذا قال عنها جميعا وقوله فلها فلهذا أرسلا إشارة إلى وجه تسميته بأنه أرسل عن
الاعتبارت كلها ثم المرسل ينقسم في نفسه إلى قسمين إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لا يعلم إلغاؤه وإليها أشار قوله ... فبعضه مؤثر ويلغى ... منه الغريب عندهم والملغى ...
الأول الملغى والثاني ينقسم إلى ملائم قد علم اعتبار جنسه في جنسه أو عينه في جنسه أو العكس لكن لا شيء من تلك الاعتبارات السابقة بل النظر إلى ثبوته في الجملة من دون أصل معين يلائم رده إليه ويقرب من جنسه وإلى ما لا يعلم أن الشارع اعتبره بشيء من ذلك وهو الغريب وقد اشتمل النظم عليها وبدا منها بالملائم فقال ... فالأول الملائم الصدر ... ليس له أصل به يعتبر ...
أي صدر به البحث في قوله فبعضه مؤثر وقيد النفي بقوله ... معين لكنه مطابق ... لمقصد الشرع له موافق ...
لإفادة أنه ليس له أصل معين يعتبره الشارع للإعلام بأنه وإن رد إلى أصل بعيد لا يلائمه ولا يقرب من جنسه فإنما هو للاستظهار بكونه معتبرا في الجملة ومن ذلك كقتل المسلمين المترس بهم عند الضرورة فإنه إذا تترس الكفار بالمسلمين وقصدونا جاز لنا قتل من تترسوا به لمصلحة وهي أن يسلم أكثر منهم من المسلمين وقد دعت الضرورة إليه وهي المدافعة عن أرواح المسلمين فجاز قتلهم ولا دليل على الجواز إلا القياس المرسل ورعاية الأصلح في الجملة لأهل الإسلام ولا أصل له معين يرده إليه وإنما يرده إلى حملي هي رعاية مصالح الإسلام وقال ... لبعض ما يقصده في الجملة ... متعلق بقوله موافق ... وليدع بالمصالح المرسلة
فإن المصالح المرسلة لا تحتاج إلى أصل معين في اعتبار الحكم ... أمثالها معروفة مشتهره ... والحق فيها أنها معتبره ...
أي مثال المصالح المرسلة منها القول بتحريم النكاح على العاجز عن الوطء لما فيه من تعريض الزوجة للزنى وقد تتبعنا مقاصد اشارع فرأيناه يحرم ما فيه ذريعة إلى فعل القبيح وهو داع إليه كتحريمه قليل المسكر قطعا لتناول الكثير والخلوة بالأجنبية دفعا عن الزنى إذ من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه فهل الأصل الذي لوحظ عند من يحكم بتحريم النكاح المذكور ليس المقصود منه إثبات الحكم بل الاستظهار بحصول المناسبة في الحكم لتحريم ما يدعو إلى القبيح وإن هذا أمر يلاحظه الشارع وهذا من اعتبار الجنس البعيد وهو مطلق التحريم في الجنس البعيد وهو سد الذريعة إلى فعل القبيح والأمثلة كثيرة وإلى الثاني أشار بقوله ... والثاني الغريب مما أرسلا ... وذلك الأول مما أهملا ...
أي والثاني من أقسام المرسل وهو الغريب المرسل فلا بد في إطلاقه من تقييده بالإرسال ولذا قلنا مما أرسلا لإخراج غريب المعتبر وهو مردود بالاتفاق وقيل فيه خلاف مالك وحقيقته قوله ... وهو الذي ليس له نظير ... في الشرع مما قاله الجمهور ... لكنها تستحسن العقول ... لأجله الحكم وذا معقول
أشار بنسبته إلى الجمهور بأن جعل غريب المرسل قسما مستقلا إنما هواصطلاح ابن الحاجب ومن تبعه من المتأخرين ولا فغيره إنما ينقسم المرسل إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لا يعلم مثاله التعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في قياس البات للطلاق في مرضه على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض قصده وهو حرمانه من الإرث في صورة القاتل وتوريث الزوجة في الفرع والجامع مع كون فعلها محرما لأجل غرض فاسد وليس في هذا اختلاف في الحكم بالنظر إلى أنه معارض وإذا اختلفت الجهة في الأصل وفرعه وإنما كان هذا غريبا مرسلا لأنه لم يعتبر الشارع عين القتل المحرم لغرض فاسد في عين المعارضة ولا جنسه في عينها ولا جنسه في جنسها ولم يثبت ولا إجماع اعتبار عينه في جنس المعارضة بنقيض المقصود ولا قريبا ولا بعيدا وقد نوقش في المثال ولكنه لا يضر في القاعدة والقسم الثالث من المرسل قوله ... والثالث الملغى الذي يصادم ... نصا ولكن جنسه يلائم ...
هذا القسم الثالث من المرسل وقد عرفه النظم تعريفا واضحا بقوله ... في نظر الشرع وذا مطرح ... مثل الغريب فاتبع ما صححوا ...
ومثال ذلك تعيين الصوم ابتداء في كفارة الوقاع في نهار رمضان على من ظن أنه يسهل عليه العتق فإن تعيين الصوم مناسب للزجر بالنظر إلى من يسهل عليه العتق لكنه مصادم للنص فإنه لم يوجبه إلا على من لا يجد مايعتق روي أن يحيى بن يحيى صاحب مالك عالم الأندلس أفتى الأمير
عبدالرحمن بن الحكم الأموي صاحب الأندلس وكان قد نظر إلى جارية يحبها حبا شديدا ولم يملك نفسه أن وقع عليها في نهار رمضان ثم سأل الفقهاء عن توبته وكفارته فقال له يحيى بن يحيى يصوم شهرين متتابعين فلما بدر يحيى العلماء بالصيام سكتوا فلما خرجوا قالوا ليحيى ما لك لا تفتيه بمذهب مالك وهو التخيير بين العتق والإطعام والصيام فقال لو فتحنا هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود فهذا يستحسنه العقل فلذا قلنا لكنها تستحسن العقول
واعلم أنه قد سبق في الأبيات أن المصالح المرسلة معتبرة وهو أحد أقوال العلماء ولهم فيها ثلاثة مذاهب
الأول قبولها مطلقا وهو المنسوب إلى مالك
والثاني ردها مطلقا وهو قول البلاقلاني وابن الحاجب ومن تبعهما
الثالث التفصيل وهو مختار أكثر أهل البيت والجمهور من غيرهم وهو قبوله بشرط إذا كان المصلحة غير مصادمة لنصوص الشرع وإن تكون ملائمة لقواعد أصوله خالصة عن معارض لا أصل لها معين هكذا قاله في الفصول وقال الغزالي بقبوله بشرط اشتماله على مصلحة ضرورية قطعية كلية وذلك كما لو تترس الكفار بأسارى المسلمين حال التحام الحرب وقطعنا بأنه لو لم نقتل الترس لاستولوا على المسلمين فإنه وإن كان قتل المسلم بلا ذنب غريب لم يشهد له أصل معين لكنا نعلم قطعا أن حفظ المسلمين أقرب إلى مقاصد الشرع وإنه يؤثر الكلية على الجزيئة فإذا فات شيء من الشروط
المذكورة لم يصح قبوله مثاله أن يقتل الترس من المسلمين لأجل فتح قلعة إذ لا ضرورة ولا يرمى واحد منهم لظن الاستئصال بل لا بد من القطع ولا يرمى في البحر بعض أهل السفينة لسلامة الباقين فيها إذ ذلك ليس كل المسلمين واعلم أن هذه الصور التي جمعت القيود لا ينبغي وقوع خلاف فيها ولما أراد الناظم بعد الفراغ من المسالك الأربعة التنبيه على ما قد عد من المسالك غيرها وليس بمعتبر قال ... فهذه المسالك المرتبه ... لا غيرها وقيل فيها الشبه ...
بفتح الشين المعجمة والموحدة ومعناه الشبيه يقال هذا شبه هذا وشبهه وشبيهه كما يقال مثله ومثله ومثيله وعرفناه بقولنا ... وذاك وصف يوهم المناسبة ... في الحكم والتحقيق لا المناسبة ... بأن يدور مع ذا الحكم ... وجوده بوجده والعدم ... بعدمه مع التفات الشارع ... إليه في شيء من المواضع ...
فقوله يوهم المناسبة خرج به المؤثر والملائم وخرج بقوله بأن يدور الشبه والتقسيم للدخول في القيد إذ الوصف المستبقى فيه يكفي فيه مجرد الصلاحية وقوله مع التفات الشارع يخرج به الطرد فإنه لا يتلفت إليه الشارع في شيء من الأحكام
والشبه له معنيان أعم وهو ما يرتبط الحكم به على وجه يمكن القياس
عليه وهذا يعم العلل كلها والأخص هو المراد هنا فهذه ثلاثة مسالك الشبه والدوران والطرد فقد أشرنا إلى ضعفها بمجردها كما يتضح لك
واعلم أن الشبه في عرف جماعة أئمة الأصول منهم المهدي في المعيار ليس بمسلك مستقل كما وقع في غيره والناظم جرى على ما في الأصل وليس مقصده إلا التقريب بنظمه من غير بيان مرجوح عنده من راجح غالبا فقد تبع ما في المعيار من أن مسلك الشبه الدوران وقوله مع التفات الشارح إليه في بعض المواضع وذلك بإن يكون قد اعتبره في بعض الأحكام وبيان كونه من طرق العلة أن الوصف كما أنه قد يكون مناسبا فيظن أنه العلة في التحريم كذلك قد يكون شبيها فيفيد ظنا ما بالعلية الخ وهو هكذا في شرح الكافل لابن لقمان ومثلوه في الكيل في تحريم التفاضل على رأي من جعله هو العلة في التحريم مثلا فإن التعليل به لم يثبت بنص ولا تنبيه نص ولا إجماع ولا حجة إجماع وإنما ثبت لكون الحكم يثبت بثبوته وينتفي بانتفائه
قلت وكذلك من جعل عليه تحريم الربا الاتفاق في الجنس والتقدير وهم الهادوية والحنفية والجنس والطعم وهم الشافعية أو الجنس والاقتيات وهم المالكية فإن هذه العلل لم تثبت بنص ولا إجماع ولا غيرهما وإنما ثبتت بكونه دار عليها الحكم وجودا وعدما فالعلة شبيه وقد بسطنا القول في رسالة
سميناها القول المجتبى في تحقيق مسائل الربا أثبتنا فيها أنه لا دليل على تحريمه في غير الستة التي ورد بها النص
ولما كان الأصوليون قد اعتادوا ذكر أبحاث الاعتراض في آخر بحث القياس وكان أصل النظم قد ذكر تنبيها في ذلك وذكر عدم الاحتياج إلى مثلها وأنها راجعة إلى شيئين إلى منع أو معارضة وأن من أتقن ما سلف من شرائط القياس لا يحتاج إليها قال الناظم ... تنبيه أما الاعتراضات فلا ... فصاحب الأصل لها قد أهملا ... وقال من حقق ما قد سلفا ... فهو لها بما مضى قد عرفا ... مرجعها منع أو المعارضه ... موضوعة للبحث والمناقضه ... أبحاثها تبسط في الشروح ... يعرفها ذو النظر الصحيح ...
قوله أما الاعتراضات اللام للعهد الخارجي لأنه قد عرفت بين الأصوليين لا تخلو عنها مطولات تأليفهم وأنهوه إلى خمسة وعشرين اعتراضا وهي في التحقيق من علم الجدل وقد وضعت فيه علوم آداب البحث فلا حاجة للأصول من حيث هو أصول إلى تفاصيلها إذ من حقق شرائط الأصل والفرع والعلة التي سلفت استغنى عنه فلذا قلنا فهو لها بما مضى قد عرف فمن عرف شرائط أركان القياس وعلله وأنواعه استغنى عن تفاصيل معرفة الاعتراضات
مثاله الاعتراض بفساد الوضع وهو أحد الخمسة والعشرين قد
عرف من اشتراط كون العلة لا تصادم نصا وكذلك الاعتراض بالفرق أو باختلاف الضابط يفهم من اشتراط مساواة الفرع للأصل في العلة والحكم عينا وجنسا فإن الاعتراض بما ذكر إنما يتوجه إذا ظن المساواة فيما ذكر وعلى هذا فمن أتقن الشرائط للقياس وأركانه عرف أن الاعتراضات كلها راجعة إلى أمرين المنع والمعارضة بل بعضهم أرجعها إلى المنع فقط لأن المعارضة منع للعلة عن الجريان فيما أراده المستدل كما ذكرنا وعلى هذا أكثر الجدليين
وأما الأصوليون فأبلغوها خمسة وعشرين غير متداخلة وداخلها في المعيار حتى عدها بأحد عشر وذكر أن ابن الحاجب عدها خمسة وعشرين وبيان رجوعها إلى الأمرين المنع والمعارضة هو أن غرض المستدل وهو القياس إثبات دعواه بدليله ولا يكون إلا بصحة مقدمات الدليل ليصح شهادته له على دعواه و سلامته عن المعارضةلينفذ سهم إلى مطلوبه و غرض المعترض رد شهادته كرد الخصم شهادة خصمة عند الحاكم وذلك بجرحها كذلك هنا المعترض بجرح الشهادة بالقدح في صحة الدليل لمنع مقدمته أومعارضته بما يقاومه فإن أتى بشيء خارج عن الأمرين فإنه لا يسمع ولا يشتغل المدعي بجوابه إذ هو خروج عن محل النزاع واشتغال بما لا يعني وتشويش للبحث وقصور عن إقامة حدود الجدل
وقولنا موضوعه للبحث والمناقضة إشارة إلى أنه لا يجب معرفتها على المجتهد كما قدمنا الإشارة إليه في الشرح إذ الذي يحتاج إليه المجتهد في استنباطه الفروع الجزئية عن الأدلة التفصيلية قد تكفل به القياس وشرائطه فالزيادة عليه ليس من طريقة الأصول من حيث هو أصول
واعلم أن أهم ما يعرفه المجادل والمناظر وما يوصي به قبل خوضه في المناظرة مع الأحياء أو مع نظره في كلام الأموات من العلماء هو تقوى الله عز و جل وإشعار النفس الخوف ومجاهدتها على قبول الحق من أي متكلم عظيم أو حقير صغير أو كبير وأن لا ينحاز إلى مركز من مراكز المذاهب فيناضل عنه ويجاهد دونه بل لا يكون همه إلا معرفة الحق وقبوله ولا يأنف من رد كلامه وتضعيفه ولا يقصد مباهة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة وإن يكون مقبلا على الغير متواضعا متأملا لما يلقيه وأن يلقي سمعه حتى يفرغ من كلامه ولا يجاذبه أطراف البحث قبل فراغه ثم يتوقف في الجواب وإبانة الصواب بأقصر عبارة وأوضحها وألطفها فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه والفحش ما كان في شيء إلا شانه فمن استعمل في المناظرة هذه الآداب لا معترض ومجيب وفق للإصابة وفاز بالإثابة ودخل تحت الامر بمشروعية الجدال الدال عليه قوله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في المسائل العلمية والمناظرة هذا ولما ذكر الأصوليون أنواعا من الاستدلال خارجة عما تقدم أشار إليها قولنا ... فصل وقد زيد دليل خامس ... ليس له فيما مضى مجانس ...
قد عرفت أنه قد سلف أربعة أدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس وزاد أكثر العلماء دليلا عليها خامسا وسماه الاستدلال كما قال ... وهو بالاستدلال في العرف اشتهر ...
الاستدلال لغة طلب الدليل أو اتخاذه دليلا كاستأجر يعني اتخذ أجيرا وفي الاصطلاح يطلق على إقامة الدليل مطلقا أي سواء كان نصا أو إجماعا أو غيرهما وعلى نوع خاص منه وهو المراد في المقال ولذا قال ليس له
فيما مضى مجانس أي ليس من جنس ما مضى وقد عد العلماء له انواعا يتحقق فيها
أفاده قوله ... أنواعه كثيرة والمعتبر ... ثلاثة أولها التلازم ... من غير تعليل لما يلازم ... ما بين حكمين كمن صح الشرا ... عنه يصح بيعه بلا مرا ...
أي أنواع الاستدلال كثيرة عند العلماء من حيث اختلافهم في تشخيص أنواعه والمعتبر منها ثلاثة
الأول التلازم بين الحكمين من دون تعيين علة وإلا كان من قياس العلة وقد سلف ولذا قلنا من غير تعليل وأقسام التلازم أربعة لأنه لا يكون إلا بين حكمين فصارت أقسامه أربعة تلازم بين ثبوتين أو بين نفيين أو بين نفي وثبوت بمعنى أنه يكون الثبوت ملزوما والنفي لازما أو بين ثبوت ونفي عكس ما قبله في التلازم مثال الأول وهو التلازم بين ثبوتين كما ذكرناه في النظم من صح شراؤه صح بيعه ودليل التلازم الطرد وهو أننا تتبعنا هذا فوجدناه كذلك مطردا من دون نظر إلى علة ويقوى الطرد بالعكس وهو انا تتبعنا فوجدنا كل من لا يصح شراؤه لا يصح بيعه والطرد وحده كاف في التلازم إنما يؤتى بالعكس لتقويته وهذا العكس هو مثال تلازم النفيين
وأما من لم يجعله قسما مستقلا من الأدلة فإنه أرجعه إلى أحد الأدلة الشرعية التي تقدمت لأن التلازم إنما يثبت بالاسقراء وهو في الامور العقلية ظاهر محسوس وأما في الشرعيات التي بحثنا فيها فإنما يعرف من جهة الشارع فمن لم يعلم التلازم من جهة اتجه له منعه ويصير الحكم في حيز الدعوى
فلا يتم له جعله دليلا مستقلا تثبت به الأحكام الشرعية إلا برجوعه إلى أحدها وإلى الثاني من الثلاثة أشار قوله ... والثاني استصحاب حال الحكم ... في أي وقت قبله للعدم ...
الاستصحاب مؤكد من الصحبة والاستفعال طلب الفعل نحو استسقى طلب السقيا فالاستصحاب طلب الصحبة ومعنى ذلك أن العقل إذا فهم ثبوت شيء اقتضى صحبته واقترانه معه في المستقبل فالاستصحاب دوام التمسك بالدليل حتى يأتي ما يغيره قال المهدي هو دوام التمسك بدليل عقلي شرعي حتى يرد ما يغيره حال الحكم أي دليله وقولنا للعدم أي استصحبناه لعدم ما يغيره وقولنا بأي وقت هو معنى قولهم دوام التمسك وفسره ابن فرشته من أئمة الحنفية في كتابه في أصول الفقه بقوله هو إبقاء ما كان على ما كان قال الجلال في شرح الفصول مستدلا بالقول به ما لفظه بقاء ما تحقق وجوده في حال ولم يظن طرد معارض يزيله فإنه يلزم ظن بقائه هذا ضروري لا يدفع إذ الفرض لم يتحقق عليه إلا الزمان والحكم ليس مما تفنيه الأزمنة ولو كان تجدد الأزمنة بمجرده يفني هذا الظن لما ساغ لعاقل مراسلة من فارقه ولا الاشتغال بما يستدعي زمانا كالحراثة والتجارة لأن ذلك يكون سفها لأنه عمل مع انتفاع المقتضي ومع وجود المانع وأيضا يحرم الاستمتاع لمن لم يتيقن أنها زوجه إجماعا ويحل الاستمتاع لمن تيقن كونها زوجه إجماعا ولا فرق بين الصورتين إلا باستصحاب الأول ليكون هو مستند الإجماع ويكون القول بعدم العمل به مخالفة للإجماع انتهى إذا عرفت هذا فالتمسك به يستمر حتى يأتي ما يغيره كما قال
لصالح التغيير نحو من غدا ... مصليا بالترب ثم وجدا ... ماء فلا يخرج من صلاته ... وقيل لا صحة في إثباته ...
فقوله لصالح يتعلق بقوله للعدم أي لعدم صالح واللام للتقوية وقوله نحو من غدا إلى آخره إبراز للمسألة في صورة المثال الذي به تظهر فائدة الاختبار وذلك أن القائلين بأن الاستصحاب دليل وهم بعض الشافعية قالوا إن من تيمم لعدم الماء ثم دخل في صلاته ثم رأى في أثنائها الماء فإنه يستمر في صلاته ولا تبطل برؤية الماء استصحابا للحال الأولى لإنه قد كان عليه المضي في صلاته قبل رؤية الماء للتغير والإجماع قائم على صحتها قبل رؤية الماء وأجيب عنه بأن الإجماع الذي ذكره دليلا للمدى إنما كان قبل رؤية الماء فاستصحابه لصحة الصلاة بعد رؤية الماء مغالطة فإنه بعد الرؤية لا إجماع إذ الإجماع مشروط بعدم الرؤية وإن كان الراجح صحة الصلاة مع رؤية الماء لكن لا للإجماع بل لعدم الدليل على كون رؤية الماء تفسد الصلاة
إذا عرفت هذا فقد اختلف العلماء في أن الاستصحاب دليل قال الإمام يحيى بن حمزة إن الذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة وأئمة الأشعرية أنه دليل مستقل بنفسه لكنه متأخر عن الأدلة المتقدمة وهو آخر قدم يخطو بها المجتهد إلى تحصيل حكم الواقعة والحاصل أن المخالف قائل إنه يعمل بالاستصحاب لا على أنه دليل بل لأنه عائد إلى ما تقدم من الأدلة الشرعية لأن مجرد الوجود لا يدل على الاستمرار فاستمرار
البقاء الذي هو معنى الاستصحاب إنما يثبت بدليل شرعي لا بمجرد الوجود وخلاصته أن الاستصحاب إنما يثبت بدليل شرعي أي الدليل وذلك أنا قد علمنا أن الأدلة يجب العمل بمقتضاها حتى يرد ما يغيرها ومن ذلك ربط الأحكام بأدلتها فإذا ثبت الحكم بدليل شرعي وجب البقاء عليه حتى يرد ما يغيره وبعد هذا يعود الخلاف لفظيا بين النفاة والمثبتين
والتحقيق عندي أنه إن أريد أنه دليل فرسم الدليل هو ما يمكن التوصل بالنظر الصحيح فيه إلى مطلوب خبري واستصحاب الدليل أي التمسك به حتى يأتي ما يرفعه لا يصدق عليه رسم الدليل وإن أريد العمل باستصحاب الدليل فلا ريب في أن العمل به متعين لا يجوز خلافه حتى يأتي رافعه فهذا هو الحق وما وقع من النزاع والجدال كان غفلة عن حقيقة الدليل فتأمل ... ثالثها شرع الذي تقدما ... من رسل الله فقال العلما ... الحق أن المصطفى محمدا ... ما كان مأمورا بشرع أبدا ...
اختلف العلماء في تعبده صلى الله عليه و سلم قبل بعثته هل تعبد بشرع نبي من الأنبياء أو لا فنفاه جماعة وعليه دل النظم وقال جماعة إنه صلى الله عليه و سلم كان متعبدا بما ثبت أنه شرع عنده من شريعة أي نبي لا أنه تعبد بشريعة معين فما صح له أنه من أحكام رسل الله عليهم السلام لزمه العمل به قالوا والدليل أن الله قد أرسل رسله إلى عباده ولم ينقطع التكليف من بعثة آدم ونوح عموما أو خصوصا كإبراهيم ومن بعث من ولده ولم يترك تعالى عباده هملا قال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
================================ج2222222222222222---------------------
ججج 22222.
كتاب : أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
فكل من وجد من عباد الله مأمور بطاعة من بلغه شرعه قبل البعثة فإن أهمل كان مفرطا آثما بل يجب عليه تطلب ذلك وقد كان صلى الله عليه و سلم يحج على ما كان عليه شرع إبراهيم ويقف في المواقف الشرعية ويخالف قريشا وأهل بلدته وقد كان يتحنث أي يتعبد قبل بعثته فقيل يتعبد بما بلغه من الشرائع
وأما بعد البعثة فأشار إليه قوله ... من قبل ان يبعث لا من بعده ... فإنه كشرعنا في حده ...
فإنه كما تعبد بالشرع الذي بعثه الله به ونسبه الناظم إلينا لأنا مأمورون بالعمل به ولم يقيده بما لم ينسخ لأنه إذا قد نسخ فقد خرج عن محل النزاع وبطل كونه شرعا متعبدا به فهو كشرعنا يجب العمل به ما لم ينسخ ففي قوله كشرعنا كفاية عن التقييد بما لم ينسخ والدليل على تعبده صلى الله عليه و سلم بشرع من قبله بعد البعثة قوله تعالى بعد أن عد قريبا من عشرين رسل الله فبهداهم اقتده وثبت الاستدلال من كافة العلماء بقوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية على القصاص في هذه الأمة وهي من شرع بني إسرائيل والمراد منه ما ذكره الله في كتابه إذ لا تقبل روايتهم لكفرهم ولما حكاه الله من تحريفهم وإذا ثبت تعبده صلى الله عليه و سلم بشرع من قبله فنحن أيضا متعبدون به هذا كلام الجمهور وقد خالفناهم وبينا الدليل على خلاف ما اختاروه في بحث مستقل
ولذلك قال الناظم ... وهو لنا أيضا دليل يرتضى ... وليس الاستحسان إلا ما قد مضى ...
هذه إشارة إلى نفي ما قاله بعض أئمة الأصول إن الاستحسان دليل رابع وقد كثر خوض العلماء فيه والإنكار على مثبتيه حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع وعند التحقيق ليس هناك محل يصلح للنزاع لأنه ليس الخلاف في إثبات الاحكام بالتشهي وميل النفس إلى شيء بلا دليل شرعي ولا في إطلاق لفظه إذ قد ورد في القرآن واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم وفي كلام ابن مسعود ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولم يصح أنه حديث مرفوع بل الخلاف راجع إلى معنى اصطلاحي عند مثبتيه
وقد عرفه في مختصر المنتهى وغيره بتعاريف تدل على أنه لا يتحقق استحسان انفرد به المخالف بل تدل على أنه راجع إلى أحد الأدلة الماضية ولذا قلنا وليس الاستحسان غير ما مضى أي ما هو إلا راجع إلى حد الأدلة الماضية وقد أطال ابن الحاجب ذكر التعريفات له وردها كلها بإدخالها فيما مضى وعدم تحقق المعرف بها قسما مستقلا ولا حاجة هنا إلى سردها فإن ذكر ما لا يفيد ليس مما يغير المستفيد ولما وقع الخلاف بين العلماء في حجية قول الصحابي أبانه بقوله ... أما الصحابي فعند الجله ... مذهبه ليس من الأدله ... وكالنجوم يقبل التأويلا ... لو صح في إسناده لقيلا
قد تقدم نحو هذا في بحث الإجماع عند قولنا وما له بالخلفا انعقاد إلا أن هذه المسألة غير تلك فتلك في جعل اتفاق الخلفاء إجماعا وهذه في كون مذهب الصحابي ورأيه حجة لا روايته ولذا قال مذهبه فإنه غلب عرفا على الآراء الاجتهادية ففي حجيته خلاف قال ابن الحاجب ليس حجة على صحابي آخر اتفاقا والمختار ولا على غيره وذكر غير المختار وأدلته وردها كلها وقولنا لو صح في إسناه إشارة إلى عدم صحة حديث أصحابي كالنجوم فإنه روي من طرق عن أنس وجابر وأبي هريرة وعمرو بن العاص وابنه عبدالله ولكنه لم يصح شيء من طرقه كما صرح به الإمام أحمد وقال أبو محمد بن حزم في رسالته الكبرى إنه مكذوب موضوع وقوله ... بأنه في حق من يقلد ...
يتعلق بالتأويل أي أنه لو صح لما دل على المدعى من أن مذهب الصحابي ورأيه حجة بل هو إرشاد للمقلد أنه إذا قلد أي صحابي فإنه قد اهتدى ولما فرغ الناظم من الأدلة الشرعية الأربعة وما ادعى إلحاقه بها وأنه ليس منها أخذ في بيان دليل العقل وجعله خاتمة نظرا إلى إثبات الأحكام العقلية قل ورود الشرع فقال ... خاتمة بها السعيد يسعد ...
وصفها الناظم بما ذكر إشارة إلى أنها مبنية على قاعدة إثبات التحسين والتتبيح العقليين وهي من أمهات قواعد الدين وتقريرها ومن مهمات المتيقن من المحققين وهذه مسألة قد طار شرر نار الخلاف فيها في الآفاق وتجاذبتها أكف الجدال والشقاق وخبط الجميع في موضع النزاع وتعب في إثباتها وردها كل فكر ويراع فنقول في بيان حقيقة المسألة إنه ما زال الناس في كل ملة
كافرهم ومؤمنهم وأهل الأقطار قاطبة يمدحون المحسن ويذمون المسيء بعقولهم من دون معرفة الشرائع بل من ميز من الصبيان مدح من أحسن وذم من أساء وهل مدح أهل الجاهلية لحاتم إلا لإحسانه وكرمه الذي أدركت عقولهم حسنه وهل ذموا مادرا في جاهليتهم إلا لبخله الذي أدركت عقولهم قبحه وهل مدحوا محمدا صلى الله عليه و سلم في جاهليتهم قبل بعثته وسموه الصادق الأمين إلا لأنها أدركت عقولهم حسن الصدق وأنه يمدح من اتصف به وهل ذموا عرقوبا إلا لكذبه وخلف مواعيده التي أدركوا بعقولهم قبحه ثم جاء الإسلام مقررا لهذه الفطرة السليمة لا ينازع فيها أحد حتى تفرق أهل الإسلام شيعا كما تفرقت الأمم ونشأت العداوات وشب التعصب وشاخ الإنصاف بل مات فقال فرقة من الأشعرية نحن نسلم أن العقل يدرك الحسن وهو صفة كمال ويدرك القبيح وهو صفة نقص فحاتم متصف بصفة كمال عقلا ومادر متصف بصفة نقص عقال وقد اعترف محققوهم بأن صفة النقص هي القبح العقلي لما أورد عليهم مخالوفهم أنه حيث لا يدرك العقل حسنا ولا قبحا فيجوز أن يبعث الله رسلا كذابين فقالوا هذه صفة نقص لا تجوز على الله قلنا وافقتم من خالفتم في إثبات القبح العقلي فلم يجدوا جوابا لكنهم قالوا
إنكم أيها الطوائف الذين أبيتم الحسن والقبح عقلا قلتم إن العقل يدرك حكم من اتصف بالحسن وأنه يستحق المدح عاجلا والإثابة آجلا ويدرك أن من اتصف بالقبيح يستحق الذم عاجلا والعقاب آجلا ونسبتم إلى العقل إدراكه لهذين الأمرين ونحن نخالفكم ونقول لا يعرف العقل إلا أن المحسن اتصف بصفة كمال والمسيء اتصف بصفة نقص فلما خلطوا في محل النزاع زيادة المدح عاجلا والإثابة آجلا انفتح باب الجدال وجاءت جيوش كل قبيلة وقال وشنت الأشعرية على المعتزلة الغارات وأتوا بدقائق العبارات وقبائح الإلزامات فشمر المعتزلة ومن إليهم الساق ونشروا ألوية الحرب والشقاق وجاء المتأخرون من المثبتين فقلدوا في تحرير محل النزاع النافين وذلك كمؤلف شرح غاية السؤال ومن قبله مؤلف الفصول وغيرهم
ممن أخذ تحرير البحث من مختصر المنتهى ونحوه ولم يرجعوا كلام قدماء المثبتين وينظوا كتب الماضين منهم من المحققين فخبطوا خبط عشواء لما صدقوا خصومهم في الدعوى حتى نبه الله بعض المنصفين المحققين من المتأخرين فحرر محل النزاع وإن المثبتين لا يدخلون المدح عاجلا والإثابة آجلا في محل النزاع وكتب المتقدمين منهم منادية بهذا نداء يملأ الأسماع قلت فراجعنا كتب المتقدمين من المثبتين فإذا هي كما قاله ذلك المصنف من المحققين فقلنا نصوصهم في حواشي شرح الغاية المسماة بالدراية وذكرنا فيه
أن التحقيق أنه لا خلاف بين الفريقين ولا شقاق ولكن عدم الإنصاف أقام الحرب على ساق وتحقيقه أن النافين أثبتوا إدراك العقل لصفة الكمال وصفة النقص ومن المعلوم أن معنى كونها صفة كمال أنه يمدح من اتصف بها وكونها صفة نقص أنه يذم من اتصف بها والمراد مدحه وذمه من العباد إذ الغرض أن هذا قبل ورود الشرائع وهذا هو عين ما قاله من أثبت التحسين والتقبيح العقلي فإنه قال الحسن ما يستحق من اتصف به المدح ويستحق من اتصف بالقبح والذم وغاية الخلاف أن المثبت قال حسن وقبيح والنافي قال صفة كمال وصفة نقص وهذا أي المدح والذم يصح تسميته إثابة عاجلا لأنه مكافأة للمحسن وللمسيء على إساءته فإن أهل الجاهلية ما كانوا يقصدون إلا الثناء من العباد بما يفعلونه من المكارم ولذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابنة حاتم لما قالت إن أباها كان يطعم الطعام إن أباك رام أمرا فأدركه وهو المدح على أن المثبتين لم يصرحوا في كتبهم بالإثابة عاجلا
ولا بالعقاب آجلا إنما جاءت هذه العبارة في كلام النفاة بما نسبوه إلى المثبتين فقلنا نحن إنه يصح تسمية المدح بالحسن إثابة من العباد لمن أحسن وليس المراد الإثابة من الله قطعا إذ المسألة مفروضة في كل شريعة شرعها الله ولذا لم يقل أحد من المثبتين إن العقل يدرك العقاب آجلا إذ لا تعرف أحكام الآجل إلا من رسل الله بعد التشريع
وإنما العقل يدرك قبح الظلم بمعنى أنه يستحق فاعله الذم من العباد لاتصافه بالقبيح أو بصفة النقص أو بصفة الكمال والشرع جاء مقررا لهذا ومخبرا بالعقاب الأخروي والثواب الأخروي والأول للأول والثاني للثاني وبهذا عرفت اتفاق الفريقين المثبتين والنفاة على إدراك العقل لما ذكر ولذا قلنا ... لو انصف النظار لم يصبحوا ... في كل بحث فرقا شتى ... إن طريق الحق معروفة ... لا عوج فيها ولا أمتا ...
أنشدناهما بعد تحرير هذه المسألة في الرسالة المسماة بالأنفاس اليمنية التي أرسلناها إلى المدينة النبوية سنة 1129ه وأما بسطها وبسط أدلة الفريقين مع الوهم في تحرير محل النزاع فقد أودعناه في حاشية الغاية لأنه بسط هناك الأقوال ونشر ألوية الجلاد
واعلم أن المثبتين أكثر الأمة ليس هم المعتزلة خاصة بل قال بالتحسين والتقبيح الحنابلة والحنفية الماتريدية وعامة المحققين من الأشعرية والكلام في ذلك معروف فلا نطيل نقله لكنها اشتهرت المسألة بأن المعتزلة يثبتونها والأشعرية ينفونها والتحقيق ما أسلفناه من الاتفاق والتوفيق بيد الخلاق ولعله يعجب من يرى هذا الكلام من تهويلنا في المسألة ممن لا يعرف غور نفيها فإنه كما قال بعض أئمة المحققين إن نفيها يفتتح سد يأجوج ومأجوج يخرج منه كل
بلاء من نفي حكمه الله ونفيها نفي الشريعة من أصلها إذا عرفت هذا فاعلم أنه لم يبق بعد تقرر الشريعة لمسألة الخلاف في التحسين والتقبيح فائدة إذ بعد حكم الشرع لم يبق للعقل مجال في إثباته لشيء من الأحكام إنما هذه الأبحاث فرضية مبنية على انفراد العقل عن الشرع وقد عرفناك أنها لا تخلو أمة من شريعة وإن من أمة إلا خلا فيها نذير نعم تخلو عن معرفة أحكام شرعها كلها بإعراضها عن التعلم كما وقع في الجاهلية الجهلاء وكم ترى في كل ملة حتى ملة الإسلام من إعراض كثير عن تعلم أحكام الإسلام فلذا قدمنا لك أن الجاهلية مدحوا من اتصف بالحسن وذموا من اتصف بالقبيح بعقولهم لغفلتهم عن الشرائع إلا أنا لم نذكر من حكم العقل إلا ما يليق بالأصل من الاختصار فقلنا ... إذا دليل الشرع في الحكم انتفى ... كان دليل العقل عنه خلفا ...
قد عرفت أنه بعد ورود الشرع لم يبق للعقل إلا تحسين ما حسنه وتقبيح ما قبحه وقد جاء مقررا لما كان يدركه العقل من الحسن والقبيح وصفة الكمال والنقص وزاد بأنه العقاب والإثابة ثم فصل الشرع الأحكام الخمسة فكانت على مقتضى العقل بعد إقراره بالشريعة فإنه عرفه بمصالح الأعمال ومفاسدها مما كان جاهلا لها فعرفه أن العقل إذا اشتمل على مفسدة فإن فعله حرام أو في تركه مفسدة فواجب وإن لم يشتمل أحد طرفيه فعلا أو تركا على مفسدة فإما أن يشتمل على مصلحة أو لا الثاني المباح والأول إما أن يعرفه في فعله مصلحة وليس في تركه مفسدة فهو المندوب أو في تركه مصلحة وليس في فعله مفسدة فهو المكروه فالمباح بعد تفصيل الشرع الأحكام باق عند العقل على ما كان عليه من قبل وروده لأن فاعله لا يدرك العقل فيه حسنا ولا كمالا إن فعل ولا قبحا ولا نقصا إن ترك كالتظلل تحت الأشجار والتفرج على جري الأنهار لا لزيادة التوحيد والاعتبار فهذا لا يقضي فيه العقل بشيء كما لا يقضي فيه الشرع بشيء وبهذا يعرف أن المباح ليس من قسم الحسن ولا من صفة الكمال ولا من قسم ما يقابلهما فإذا فقد حكم الشرع كان حكم العقل تبعا له وخلفا عنه في فقد الحكم أي الاتصاف بأحد الأمرين وإلا
فمما للعقل حكم غير ما ذكرناه من إدراكه الوصفين فهذا البيت لا يفيد إلا أن حكم المباح شرعا وعقلا واحد من أنه لما انتفى حكم الشرع بالإيجاب والتحريم والندب والكراهة بقي حكم العقل فيه بعد الشرع كما كان قبله في الحكم أنه لا حكم له فيه بحسن ولا قبح
وأوردنا بالحكم في قولنا في الحكم انتفاء الحكم بما فيه مصلحة فعلا فيشمل الواجب والمندوب أو عقوبة أو مصلحة تركا فيشمل الحرام والمكره لأنه الحكم الشرعي الذي أبانه الشرع وفصله وأما الإباحة فالشرع لم يحكم فيها بشيء بل يقابلها على حكم العقل بأنها ليس فيها حكم وإن عدها الأصوليون أحد الأحكام فإنما هو لحصر الأقسام فلذا قلنا في بيان ذلك ... فكلما ينفع من غير ضرر ... فهو مباح الحكم عقلا في النظر ...
بمعنى أن الشرع سكت عما ينفع البشر من غير إضرار فلم يحكم عليه بأحد الأحكام التي فيها مصلحة أو مفسدة فعلا أو تركا بل تركه مسكوتا عنه فالعقل يقضي أنه باق على ما كان عليه قبل وروده وقد كان قبل وروده لا يتصف فاعله بحسن ولا كمال ولا تاركه بنقص ولا قبح كما مثلناه فهو مباح سابقا ولاحقا وما لا فقد عرفناك أن العقل لا حكم له بإيجاب ولا تحريم ولا غيرهما إنما يحكم بأن فاعل الحسن يستحق المدح من العباد وفاعل القبيح عكسه يستحق عكسه منهم وليس المراد أنه يستحق أن يكون حقا عليهم واجبا يأثمون بتركه فإن التأثيم لازم للواجب الشرعي والفرض أنه لا شرع وأنه لا يعرف إلا من الشرع بل معنى استحقاقه أن العباد بعقولهم يرون مدح من اتصف بالكمال والحسن بمقتضى العقل وعكسه في عكسه وليس هنا حكم من العقل كالأحكام الخمسة الشرعية بل حكمه هو إدراكه لما ذكر لمن اتصف بأحد الصفتين ولكن سرى التخليط إلى المثبتين فقالوا العقل حاكم كالشرع وقالوا في الظلم محرم عقال وهو غلط أو تعبير باللازم عن ملزومه شرعا فإن الظلم قبيح عقلا وصفة نقص لكن التحريم بالمعنى الشرعي وهو أنه يستحق فاعله الذم والعقوبة أي من الله وتاركه المدح والمثوبة أي منه تعالى لا يعرف
إلا من جهة الشرع اتفاقا وإلا لما احتيج إلى رسول الله ولخالف قوله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل نعم نهيه تعالى عن الظلم لقبحه عقلا وأمره بالعدل لحسنه عقلا ولذا قلنا إن التحريم مثلا ملزم للقبيح عقلا لكن لما خلطوا محل النزاع وقلدوا في نقله من كتب خصومهم جروا في التفريع عليه وهو تفريع على تخليط
واعلم أن هذا التحقيق لا تجده في كتاب على هذا التدريج والبيان لأن تخليط البحث قديم ومشى عقبه كل محقق فيهم بسبب تقليد الخصوم وإحسان الظن بهم وأنهم لا ينقلون عن خصومهم إلا حقا وهذا شيء لا أصل له ولا ينبغي لناظر لنفسه ومتأهب لحلول رمسه أن يقلد الخصوم في النقل عن خصومهم فكم رأينا من تخليط في الدعوى والاستدلال ولذا حرم الله قبول شهادة الخصم على خصمه ونقل المذاهب والإخبار عنها وعن أدلتها شهدة قال الله تعالى في الذين قالوا إن الملائكة إناثا سنكتب شهادتهم ويسألون لما قال وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وإنما أخبروا بذلك فكل خبر شهادة
ولقد طال الكلام إلا من عرف المسألة في كتب الأصوليين لا يراه طويلا بل يراه قد أحيى من الحق قولا كان قتيلا
وإذا عرفت هذا فهذا الحكم من العقل هو عدم الحكم شرعا وهو البراءة الأصلية وهو الاستصحاب العقلي ثم نشأ عن هذا الاختلاف اختلاف في حكم العقل قبل ورود الشرع فيما لا يقضي فيه العقل بمدح ولازم وهو المسمى بالمباح لغة لا شرعا إلى ثلاثة أقوال الأول ما أسلفناه من أنه لا حكم له فيه بل هو مباح والثاني والثالث أشرنا إليه بقولنا ... وقيل بالحظر أو الوقف لنا ... إنا علمنا حسنه كعلمنا ... بحسن الانصاف وقبح الظلم ... هذا الذي قرره ذوي العلم ...
قد عرفت ان المسألة مفروضة على انفراد العقل من الشرع والحظر الشرعي الذي من لازمه العقاب الأخروي لا يعرف إلا من الشرع فلا بد أن
يراد بالحظر هنا القبح العقلي أو صفة النقص في مقابلته بقولنا علمنا حسنه ما يدل لذلك القائلون بأن الاستظلال تحت الأشجار قبح عقلي لا ينهض لهم دليل إذ القبح العقلي لازمه أو معناه حسن ذم العقلاء له بما فعله ومعلوم أن هذا الاستظلال من حيث هو لا يستحسن عاقل أن يذم فاعله ولا يعده صفة نقص ولا صفة كمال وأما استدلال من قال إن الأصل الحظر وهو منسوب إلى الإمامية وجماعة غيرهم بأنه تصرف في حق الغير بغير إذنه فجوابة أن العقل لا يقضي بقبح هذا الاستظلال ولا يعده تصرفا بل يعد من يمنع المستظل فاعل قبيح ومرادهم بالغير هو الرب تعالى فإنه المالك للأكوان وما فيها على أن هذا مبني على أن المعارف ضرورية وإلا فقيل مجيء الشرع ما قد عرف العقل أن الأرض لله وأنه تعالى مالكها ومالك ما فيها وما أظن هذا الدليل إلا قاله من لم يحرر محل النزاع
وأما الواقف فقوله مشكل لأن العقل من حيث هو لا يتوقف في وصف شيء بحسن أو قبح أو بعدمهما فإن حكمه بالأوصاف جبلي فطري والمتوقف إنما يتوقف عند تعارض الأدلة عنده فهذا من قبيل المسألة الأولى
وأما القول بأنه مباح وهو أولى الأقوال كما عرفت فإن القائلين به وهو الذي اختاره في أصل النظم قالوا إن مثل ذلك حسن عند العقل فمعناه أو لازمه أنه يستحسن العقلاء الثناء على فاعله والرفع من شأنه ونحن نقول إن كون زيد يستظل تحت الشجرة أو يتمشى في البرية لا يستحسن العقلاء فعله ولا يستقبحونه فلا يمدح به ولا يذم فاعله ألا يصدق عليه حقيقة الحسن ولا القبيح فلا بد من تأويل قول إنه حسن أي ليس بقبيح لا أن له ماهية الحسن وإن كان قوله كعلمنا بحسن الإنصاف لا يساعد هذا التأويل إذ حسن الإنصاف يصدق عليه حقيقة الحسن عقلا وقبح الظلم يصدق عليه حقيقة القبح عقلا وهما صفتا كمال ونقص بلا ريب فأين التمشي في البراري
من ذلك ولذا قلنا هذا الذي قرره ذو العلم ونسبناه إلى قائله حيث لا نرتضيه
إذا عرفت هذا فالأشياء قبل الشرع لا حكم فيها شرعي ضرورة أنها مفروضة قبل وروده والعقل حكمه استحسان الحسن بالرفع من شأن فاعله ومدحه واستقباح القبيح بالوضع من شأن فاعله وذمه وليس له حكم يستلزم عقابا أخرويا فعندهم من ظلم زيدا بأخذ ماله وسبي حريمه فاعل قبيح يستحسن العقلاء ذمه والانتصاف منه والمحسن إلى زيد بأي إحسان على عكسه وأما أنه هل يوجب شيئا إيجابا شرعيا أو يحرمه تحريما شرعيا فهذا شيء لا يعرفه العقل إلا من جهة الشرع والفرض أنه لا شرع إذ من لازم الإيجاب الإثابة والعقاب فعلا أو تركا ومن لازم التحريم ذلك كذلك فإذا قالوا واجب عقلي فلا يحمل إلا على أنه حسن عند العقل والحسن عنده يقضي بالحث على فعله والاتصاف به لأن الاتصاف بما يقتضي حسن الذكر والثناء عند العباد محمود عند العقلاء قطعا وهو صفة كمال بلا ريب والاتصاف بخلافه فهذا معنى الإيجاب عقلا وكل هذا مبني على التحقيق لا على ما قاله كل فريق من المتنازعين فإنها قد شبت العصبية نار الغضب حتى لا ينظر فريق من كلام فريق إلا بعين الرد والإزراء وغلا كل فيما قد مهدت له شيوخ مذهبه ولقد غلت المعتزلة في المسألة غلوا عجيبا حتى جعلوا الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية وغير ذلك وقابلهم فريق الأشعرية فقالوا لا يدرك العقل حسنا ولا قبحا ولا حكم له أصلا وتفرع عن هذا دواهي من نفي الحكمة ولو نظر كل فريق نظر الإنصاف وقرروا محل النزاع لكانوا على طريقة واحدة ومنهاج قويم وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ومؤلف الفواصل رحمه الله قد أشار إلى ما حققناه جملة وسلك في شرح الأبيات وبيانها بكلام الجمهور هذا
ولما نجز الكلام ببحث أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس أخذنا في أبحاث تتعلق بالدليل وبدأنا بالمنطوق منها والمفهوم فقلنا
الباب الثالث في المنطوق والمفهوم ... ثالثهما المنطوق والمفهوم ... منطوقها ما دل يا فهيم ... عليه لفظ في محل النطق ...
أي ثالث العشرة الأبواب التي رتب عليها الكتاب المنطوق والمفهوم بالمعنى الاصطلاحي لا بمعنى ما يفهمة السامع من الخطاب فإنه شامل لهما وقدم المنطوق لكونه أقوى دلالة فقوله منطوقها أي الدلالة وهو إشارة إلى أنهما من أقسام الدلالة كما بنى عليه ابن الحاجب ومن تبعه فكلمة ما مصدرية عبارة عن الدلالة على هذا أي دلالة اللفظ على المدلول حال كونه حاصلا في محل النطق فالضمير في عليه يعود إلى المدلول المفهوم من المقام وفي محل النطق ظرف مستقر حال من ضمير المدلول والإضافة بيانية أي محل هو اللفظ المنطوق والمراد بكون المعنى مدلولا عليه بمحل النطق أنها لا تتوقف استفادته من اللفظ إلا على مجرد النطق لا على الانتقال من معنى آخر إليه فالمعنى فيما أفاده النظم أن المنطوق دلالة اللفظ على معنى في محل النطق ومحل النطق هو اللفظ
فلذا يفسرونه بكونه حكما للفظ وحالا من أحواله والقول بأن النطق حركة اللسان فاللسان محل النطق صحيح واللفظ أيضا محل للمعنى ولذا يقال الألفاظ قوالب المعاني فاللسان محل النطق والنطق محل المعنى فهو محل ثان فيصح جعله محلا ويصح أن يقال النطق بمعنى المنطوق به وهو اللفظ وهو محل قطعا ثم إنهم أرادوا بالدلالة ما يشمل المطابقة والتضمنية والالتزامية كما ستعرفه وإن الكل من قسم المنطوق وستعرف إن شاء الله ما فيه
واعلم أن الدلالة المطابقية هي دلالة اللفظ على كل معنى وذلك كدلالة لفظ إنسان على الحيوان الناطق فهذه مطابقية طابق اللفظ فيها المعنى أي ساواه فلم ينقص اللفظ عن معناه ولا المعنى عنه وهذه دلالة اللفظ على حقيقة معناه وهي المتبادرة عند إطلاق الدلالة وعند إطلاق اللفظ وقد يراد به الدلالة على جزء معناه كأن يطلق لفظ إنسان على حيوان فقط أو على ناطق فقط فهذه هي الدلالة التضمنية دلالة اللفظ على جزء ما وضع له وهي من أقسام المجاز لأنه أطلق الكل وهو لفظ إنسان وأريد به جزؤه وهو أحد الجزئين وأهل الأصول يجعلون دلالة التضمن وضعية وأهل المعاني والبيان يسمونها عقلية وعلى كل تقدير فهو من المجاز ولا بد له من العلاقة والقرينة فالعلاقة قد ذكرناها آنفا وأما القرينة فأنواعها معروفة وقد يراد باللفظ الدلالة على لازم معناه كما إذا أطلق إنسان وأريد به ضاحك مثلا فإنه لازم له ودلالته عليه عقلية عند الفريقين وهو مجاز أيضا من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم وتفاصيل هذه الأبحاث في علم المنطق وما ذكرناه كاف لما نحن بصدد بيانه إن شاء الله ثم قسم ما يفيده اللفظ إلى قسمين أشار إليهما قوله ... وخذه قسمين على ما ألقيا ...
الأول قوله ... فإن أفاد اللفظ معنى واحدا ... لا غيره فسمه مساعدا ... نصاله الدلالة القطعية
أي حد المنطوق حال كونه قسمين الأول أن يقال إن أفاد اللفظ في دلالته معنى واحدا لا يحتمل غيره فسمه نصا لارتفاعه على غيره من الدلالات وقوته أخذا من قولهم نصت الظبية جيدها أي رفعته وهذا المعنى للفظ يقابله الظاهر الذي هو القسم الثاني وقد يطلق النص في مقابل الإجماع والقياس فيراد به الكتاب والسنة فيدخل تحته الظاهر فيسمى نصا ومن ذلك ما قدمناه من تقسم العلة إلى النص والإجماع والاستنباط ويطلق ويراد به ما دل على معنى ظاهر وهو غالب في استعمال الفقهاء كقولهم نص الشافعي على كذا وقولهم لنا النص والقياس ومثال النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا الأعلام الشخصية نحو زيد في دلالته الذات المعينة في قولك هذا زيد فإنه لا يتحمل معنى غير ذاته وإن قال النحاة أنه يؤكد بعينه ونفسه لدفع توهم التجوز فقد يقال إن التوهم ليس باحتمال فإن كونه أريد بهذا زيد هذا غلام زيد من باب الحذف وهم بعيد فدفع بعينه ونفسه والاحتمال يكون أقوى من الوهم هذا جمع بين القولين وقوله له الدلالة القطعية أي يحصل بدلالته على معناه القطع فلا ينتفي بشك ولا شبهة وقوله ... أولا فظاهر له الظنية ...
إشارة إلى القسم الثاني من قسمي المنطوق إلى دلالته أي أولا يدل على معنى واحد
بل تردد بين معان تحمل المقصود وغيره فإنه يسمى الظاهر أي ما كان أحد معانيه أظهر من غيره ولا ينافي الاحتمال والتردد وهذا تسمى دلالته ظنية أي تفيد الظن لدلالته على الاحتمال الراجح من الاحتمال المرجوح ... قيل ومنه العام ثم النص ... قسمان أيضا فالصريح نص ...
قال قوم من جملة الظاهر العام في دلالته على إفراده قبل تخصيصه لاحتماله له ويأتي تحقيق ذلك في بحثه ثم إن أهل الأصول قسموا النص إلى قسمين صريح وغيره قسموه كما قسموا المنطوق إلى قسمين ولذا قلنا أيضا وإن كان قد بعد فالقرينة تنادي بالمراد ثم بين قسمي النص بقوله ... بأنه ما وضع اللفظ له ... خاصا به وغيره ما دله ... بالتزام فالتزم ما أملي ...
فقوله بأنه متعلق بنص وقوله بانه أي الصريح في دلالته ما وضع اللفظ له يعني بالمطابقة والتضمن كما دل له المقابلة بالالتزام وخاصا حال من اللفظ أي حال كون اللفظ خاصا به بمعنى أنه مستفاد من اللفظ لا من أمر خارجي فالتقييد بالخاص إشارة إلى أن دلالة اللفظ على جزء معناه وهي التضمنية لفظية فهذا هو القسم الأول وهو الصريح
وأما الثاني فقد أفاده قوله وغيره ما دله أي ما دل عليه اللفظ بالالتزام فهو من باب الحذف والإيصال وفي عدوله عن قوله ما وضع له إلى ما دله الإشارة إلى أن دلالة اللفظ على لازم معناه عقلية لا وضعية وفيه خلاف إلا أن أهل الأصول يكتفون بمطلق اللزوم أي من أي جهة عرف أو وضع وأهل المنطق يشترطون اللزوم البين بحيث متى أطلق اللفظ بعد
العلم بوضعه فهم منه المعنى ثم إنه قسم أئمة الأصول غير الصريح وهو الدال بالالتزام إلى ثلاثة أنواع في قوله ... وخذ هنا أقسامه من نقلي ...
أي خذ أقسام الدلالة الالتزامية وذلك لأنها إما مقصودة للمتكلم فهي قسمان لأنه إما أن يقف الصدق عليه أو الصحة عقلا أو نقلا فهو دلالة الاقتضاء أول الثلاثة المدلولة لقوله ... أن يقف الصدق عليه عقلا ... أو صحة فالاقتضا أو نقلا ...
عقلا ونقلا تمييز عن قوله أن يقف الصدق ومعناه أن الكلام إذا كان ظاهره الكذب الذي لا يجوز على الشارع عقلا تعين طلب ما يخرجه إلى حيز الصدق وأشار إلى الأمثلة بقوله ... نحو رفع عن أمتي وأعتق ... عبدك عني واسألن واصدق ...
اقتباس من قوله صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه أخرجه الطبراني من حديث ثوبان باللفظ المذكور وقد روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة فلا بد في صدقه من تقدير المؤاخذة والعقوبة وإلا كان كاذبا لأنهما لم يرفعا أنهما واقعان من الأمة ففي البيت اقتباس واكتفاء وهذا مثال ما توقف الصدق عليه عقلا وأما مثال
ما توقف الصحة عليه عقلا فنحو قوله تعالى واسأل القرية أي أهلها وإليه أشار قوله واسألن إذ لو لم يقدر ذلك لما صح سؤال الجماد فهو من مجاز الحذف وأما توقف الصحة الشرعية الذي إليه أشار بقوله أو نقلا فمثاله قول الرجل الآخر اعتق عبدك عني أي مملكا لي فلا بد من تقديره لأنه لا يصح العتق شرعا إلا من مالك فهذه دلالة الاقتضاء سميت بذلك لأنه الحاجة إلى صون الكلام عن الفساد العقلي والشرعي اقتضت ذلك فهي في حكم المنطوق وإن كان محذوفا فلذا عدوه من أقسام المنطوق والقسم الثاني مما هو أيضا مقصود المتكلم ولم يتوقف عليه صدق ولا صحة عقلية ولا شرعية أشار إليه قولنا ... أو يقترن باللفظ ما لو لم يفد ... تعليله لكان عنه مبتعد ... كقلوه كفر وليست بسبع ... ولو تمضمضت بماء فاتبع ...
أي أو يقترن بالحكم وصف لو لم يفد ذلك الوصف تعليله أي كونه علة للحكم لكان ذلك الاقتران بعيدا عن فصاحة الشارع ووضعه للكلام موضعه وقد أشرنا إلى الأمثلة الواقعة في كلامه صلى الله عليه و سلم الأول حديث المجامع في نهار رمضان أنه قال يا رسول الله جامعت أهلي في نهار رمضان فقال صلى الله عليه و سلم أعتق رقبة الحديث فلو لم يكن الجماع في نهار رمضان عليه إيجاب الإعتاق لكان ذلك الاقتران بعيدا عن فصاحة الشارع والحديث تقدم في القياس وهو متفق عليه بين الشيخين
وإلى المثال الثاني أشار قوله وليست بسبع يعني الهرة فإنه صلى الله عليه و سلم قاله جوابا لما قيل له إنك تدخل بيت فلان وفيه هرة لما
امتنع عن دخول بيت آخر فيه كلب والحديث أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة قال كان صلى الله عليه و سلم يأتي دار فلان من الأنصار دونهم فشق عليهم ذلك فقالوا يا رسول الله إنك تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا فقال إن في داركم كلبا فقالوا يا رسول الله وفي دارهم سنور فقال صلى الله عليه و سلم السنور ليس بسبع
وقوله ولو تمضمضت أشار إلى جوابه صلى الله عليه و سلم على عمر لما قال له إني قبلت في رمضان فقال أرأيت لو تمضمضت في ماء وقد تقدم في القياس جميع هذا والقسم الأول كما سموه دلالة الاقتضاء فهذا سموه بما أفاده قوله ... واسمه التنبيه والإيماء ...
أي أن دلالته تسمى دلالة التنبيه والإيماء تفرقه بين الأقسام بالأسماء مع المناسبة في تخصيص كل بما يسمى به فهذه أقسام ما قصده المتكلم من القسمين وإما غير مقصوده أي دلالة اللازم من كلامه أي لم يعلم قصده لأنه لو علم عدم قصده لم يعتبر فهو الذي قال فيه
وإن يكن لقصده ما شاء ... فإنه دلالة الإشاره ... كناقصات العقل في العباره ...
أي وإن يكن غير الصريح المدلول عليه فالالتزام غير مقصوده للمتكلم فإنه يقال له دلالة الإشارة وأشار إلى مثاله في الحديث النبوي وكل هذه الأمثلة اقتباس واكتفاء أو تلميح وهو قوله صلى الله عليه و سلم النساء ناقصات عقل ودين قلنا وما نقصان دينهن قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي فقد استدل به الشافعي على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما مع أنه غير مقصود لأن لفظ الشطر يدل عليه بالالتزام لأنه سبق للمبالغة في نقصان دينهم فيقتضي أن أكثر ما يتعلق به زمان الحيض ذلك فلو كان زمان الحيض أكثر من ذلك لذكره وهذا الحديث أورده الأصوليون وأهل الفروع بهذا اللفظ وقال أئمة الحديث من حفاظه إنه لا أصل له بهذا اللفظ ثم هو لو صح بمراحل عن الدلالة بأن أكثر الحيض خمسة عشر يوما لأن الشطر على فرض أنه حقيقة في النصف لا يتم الاستدلال به حتى يتم الدليل على أن أقل الطهر خمسة عشر يوما ولا دليل لعليه والمراد بيان أن الحديث لا أصل
له وأنه لو صح لما كان دلالة الإشارة في شيء وإنما أتى به الناظم متابعة لأهل الأصول نعم الأمثلة من القرآن كثيرة في ذلك منها قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم فإن دلالة الإشارة فيها في موضعين الأول قوله ليلة الصيام فإنه دال على صحة صوم من أصبح جنبا للزومه المقصود من حل جماعهن بالليل الصادق على آخر جزء منه والثاني من قوله فالآن باشروهن إلى آخر الآية فإنه دال على أن إباحة المباشرة ممتدة إلى طلوع الفجر فيلزم منه جواز الإصباح جنبا
واعلم أن جعلهم اللازم في دلالة الإشارة غير مقصود للمتكلم محل نظر وكيف يحكم على شيء يؤخذ من كلام الله أنه لم يقصده تعالى وتثبت به أحكام شرعية ومن أين الاطلاع على مقاصد علام الغيوب فإن أرادوا قياس كلامه على كلام العباد فإنه قد يستلزم كلامهم ما لا يريدونه ولا يقصدونه ولا يخطر لهم ببال ولذا جزم المحققون بأن لازم المذهب ليس بمذهب لأنه لا يقطع بأنه قصده قائله بل لا نظن وكذلك التخاريج على كلام أئمة العلم لا تكون مذهبا لمن خرجوه عنه وذلك لقصور البشر وأنه لا يحيط علمه عند نطقه بلوازم كلامه قطعا ولا يقصده بخلاف علام الغيوب فهو يعلم بلوازم كلام العباد وما تطلقه ألسنتهم وما يكنه الفؤاد فكيف ما يتكم عز و جل به وقد ذاكرت بعض شيوخي بهذا ومن أتوسم فيه الإدراك فما وجدت ما يشفي مع هذا الاتفاق من أئمة الأصول عليه وقد كنت كتبت على الفواصل شيئا من هذا وأشار إليه مؤلفها رحمه الله تعالى
واعلم أنهم قسموا المنطوق إلى صريح وغير صريح وجعلوا الصريح ما دل على معناه مطابقة أو جزئه تضمنا وجعلوا غير الصريح ما دل بالالتزام فاستغرق المنطوق الدلالات الثلاث وقد قسموا اللفظ الدال على منطوق ومفهوم في أول البحث فالمفهوم دال على معنى لكنهم لم يبقوا من الدلالة قسما له
ولنذكر سؤالا وصل إلينا عند تأليف هذا ونحن في أثنائه فأجبنا عليه ورأينا نقلهما هنا باختصار لأنها لا تخلو كتب الفن المتداولة كالمختصر لابن الحاجب وشروحه والغاية وشرحها عن هذا التقسيم وتبعهم صاحب أصل النظم
وحاصل السؤال قد قسم أئمة الأصول اللفظ الدال إلى قسمين منطوق ومفهوم ثم قسموا المنطوق إلى قسمين صريح وهو ما دلالته مطابقة أو تضمنا وغير الصريح وهو مادل بالالتزام وليس لنا في العلوم إلا الدلالات الثلاث وقد جعلوا قسمي المنطوق مستغرقة لها ثم قالوا في المفهوم إنه ما دل لا في محل النطق فأي دلالة يريدون إذ بأي دلالة دل اللفظ فهو منطوق فالمراد بيان الدلالة عند القائل بالمفهوم من أي أقسام الدلالات هي
وحاصل الجواب قد تنبه سعدالدين في حواشي العضد للإشكال هذا فقال الفرق بين المفهوم وغير الصريح من المنطوق محل تأمل لم يزد على هذا ثم بحثنا كثيرا من كتب الأصول فلم نجد ما يزيل الإشكال وذلك أنهم قالوا دلالة المفهوم التزامية قيل لهم قد جعلتم ما دل بالالتزام منطوقا غير صريح وإن قلتم إنها مطابقة أو تضمنا فقد جعلتموها منطوقا صريحا ثم لا تساعدكم قواعد العلوم على أن دلالة اللفظ على مفهومه من أحد القسمين ثم رأيت في الآيات البينات ما يدل أو فائدة على أنه لا جواب للإشكال على هذا التقسيم فإنه قال إن هذا التقسيم اختص به ابن الحاجب ولفظه قد كشفت كثيرا من كتب المتقدمين المعتبرة الجامعة كالبرهان لإمام الحرمين
والقواطع لابن السعان ولم يسمح الزمان بمثلهما ولا نسج عالم على منوالهما والمستصفى لحجة الإسلام الغزالي والمحصول للإمام فخر الدين الرازي والمنهاج للعلامة البيضاوي وشرحيه للأسنوي والمصنف يريد به ابن السبكي وناهيك بهما والإحكام للآمدي فلم أر فيها تعرضا لهذا الرأي ولا إشارة إليه يريد رأي ابن الحاجب ومن تبعه في تقسيم المنطوق إلى صريح وغير صريح ثم قال إمام الحرمين في البرهان ما نصه ما يستفاد من اللفظ نوعان أحدهما ما يتلقى من المنطوق به المصرح بذكره والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو مسكوت لا ذكر له على نصيه التصريح ثم قال وأما ما ليس منطوقا به ولكن المنطوق مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم انتهى
قال صاحب الآيات فانظر هذا التصريح من هذا الإمام حيث حصر ما يستفاد من اللفظ في نوعين المنطوق والمفهوم وفسر المنطوق بما يتلقى من المنطوق به المصرح بذكره فإن هذا التفسير لا يشمل إلا المعنى المصرح بلفظه فليس في كلامه تعرضا لغير المنطوق الصريح بل كلامه كالصريح في عدم إثبات منطوق غير الصريح ونقل كلام غير غير إمام الحرمين بمثل كلامه ثم
قال وبالجملة إن ما قاله ابن الحاجب ليس من كلام القوم بل هو اصطلاح له وإن تبعه الهندي وأطال المقال وقد حصل المراد من أن الإشكال متوجه على ابن الحاجب ومن تبعه كصاحب الفصول وغاية السؤال والكافل ونظمه الجامع لما فيه ثم لما فرع من أقسام المنطوق أخذ في أقسام المفهوم فقال
فصل في المفهوم ... وإن يدل لفظه المعلوم ... لا في محل النطق فالمفهوم ...
أي إن اللفظ الدال على معنى إما أن يدل بمحل النطق وقد مضى بأقسامه أو يدل لا في محل النطق كما عرفت فإنه المعنى المراد الموسوم بالمفهوم وقد قسمه الأصوليون إلى قسمين افادهما قوله ... وإنه نوعان فالموافقة ... للحكم فالمنطوق والمطابقة ...
أي القسم الأول أن يوافق حكم المفهوم المنطوق ولا يخالفه فلذا سمي بمفهوم الموافقة وهو قسمان الأول أرشد إليه قوله ... إن كان ما يسكت عنه أولا ... فإنه الفحوى وهذا الأولى ...
هذا هو أول قسمي مفهوم الموافقة ويسمى فحوى الخطاب أي إن كان ما سكت عنه أي لم يلفظ به أولا بالحكم الذي دل عليه اللفظ فهو فحوى الخطاب قال الزركشي إن الفحوى ما يفهم من الكلام بطريق القطع وقد مثلناه بقولنا
كقوله سبحانه ولا تقل ...
اقتباس من آية سبحان في قوله تعالى ولا تقل لهما أف فإن الذي سكت عنه هو تحريم الضرب أولا بالحكم وهو التحريم من التأفيف الدال عليه المنطوق وكالجزاء بما فوق مثقال الذرة من قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكعدم تأدية القنطار في قوله تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وهذه الأمثلة من قسم التنبيه بالأدنى على الأعلى وعكسه الحكم بتأدية الدينار المفهوم من قوله ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك فإنه يدل على تأدية الدينار بطريق الفحوى ولذا قلنا إنه من التنبيه بالأعلى على الأدنى وعبارة النظم شاملة للأمرين فإن المسكوت فيهما أولى بالحكم من المنطوق أي أكثر مناسبة في الحكم فإن الأذية بالضرب أكثر مناسبة للتحريم منها بالتأفيف ومثله فيما عداه من الأمثلة والقسم الثاني من قسمي مفهوم الموافقة أشار إليه قوله ... وإن يكن من غير أولى ويدل ...
أي إن يكن غري أولى بل تساوى ما دل عليه المنطوق في الحكم وما أفهمه المسكوت عنه ... فإنه لحن الخطاب اسما ...
أي فإنه يسمى عندهم لحن الخطاب فاسما منتصب على التمييز من الجملة الخبرية وخص بهذا الاسم لأن دون قسميه في الدلالة لما فيه من الخفي واللحن لغة العدول بالكلام عن الوجه المعروف إلى وجه لا يعرف إلا صاحبه وهذا اصطلاح للفرق بين القسمين ومثاله تحريم إحراق مال اليتيم وإغراقه المفهوم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى فإن دل على تحريم ذلك لمساواته للأكل في الإتلاف
واعلم أنه قد اختلف أئمة الأصول في مفهوم الموافقة هل هو بنوعيه من المفهوم أو من القياس أو ليس من المفهوم إلا ما هو منه بطريق الأولى
فقيل إنه بنوعيه من القياس لصدق حده عليه فإنه إلحاق معلوم بجامع منهما وهذا اختاره صاحب الفصول وحكاه عن الجمهور
وقيل بل هو من المفهوم فإنه يفهم ذلك منه من لا يعرف القياس الشرعي ولذا قال به كثير من نفاة القياس
وقيل في التفصيل وهو أن القسم الأول منه وهو الأولى من المفهوم لا المساوي وهذا مذهب ابن الحاجب ووافقه آخرون قالوا للقطع بفهم هذه المعاني من هذه الصيغ فإن العرب إنما يريدون بمثل هذه العبارات المبالغة في التأكيد للحكم في الموضع المسكوت عنه فيقولون لا تعطه مثقال ذرة فيكون أبلغ من المنع عما فوقها وهذا يعرفه كل من يفهم اللغة من دون نظر واجتهاد قالوا بخلاف القسم الثاني وهو المساوي فلخفائه في الدلالة يحتاج إلى نظر واجتهاد في دلالته على حكم المسكوت عنه والنظر هو بالقياس الشرعي
وقد قيل الخلاف لفظي وإنه لا تنافي بين القول بأنهما من القياس أو من المفهوم ثم اختلف من أي الأقسام دلالة مفهوم الموافقة على مدلولها فقيل إنه حقيقة عرفية بمعنى أنه في الأصل موضوع للمذكور لا غير ذلك
لكن صارت اللفظة اللفظة في العرف تدل عليه وعلى المسكوت معا وقيل دلالته عليه مجاز إذا فهمت دلالته من السياق والقرائن فتكون من إطلاق الأخص على الأعم وهو رأي الغزالي والآمدي وتحقيقه أنه أطلق التأفيف وأريد به الأذية الشاملة له وللضرب وغيرهما مما يدخل تحته وأورد عليه بأن بين التأفيف والضرب التباين لا الخصوص والعموم وأجيب بأن قرينة إرادة تعظيم الأبوين مثلا وتكريمهما قرينة تمنع أن يراد مجرد التأفيف بل يراد به تحريم الاذية بأي وجه كانت وفي هذه كفاية وفي المطولات زيادات لا تحتمل هنا ثم أشار إلى القسم الآخر من المفاهيم فقال ... ثم خذ الآخر منها قسما ...
والآخر هو مفهوم المخالفة ولذا قال ... واسمه المفهمم للمخالفه ... لأنه باينه وخالفه ...
بيان لوجه التسمية وهو أن المفهوم باين ما دل عليه المنطوق وخالفه فسمي به كما يسمى الأول بالموافقة لما وافق ما دل عليه المنطوق ويسمى أيضا دليل الخطاب كما قال ... واسمه الدليل للخطاب ...
لأن دلالته من جنس دلالة الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه
وهو ستة أقسام كما دل له قوله ... أقسامه الستة في الكتاب ...
اللام للعهد الخارجي أي الكتاب الكافل الذي هو أصل النظم ثم ذكرها وبدا بمفهوم اللقب ترقيا من الأضعف إلى الأقوى فقال
أضعفهاالمفهوم للألقاب ... أهملها جماعة الأصحاب ...
المراد من اللقب ما يشمل العلم كزيد والجنس كغنم وقد يعبر عنه بمفهوم الاسم وأكثر العلماء على عدم العمل به وخالف فيه جماعة
قال إمام الحرمين القول باللقب صار إليه طوائف من أصحابنا ونسب إلى احمد ومالك
قال ابن دقيق العيد اللقب ليس بحجة إذا لم يوجد فيه رائحة من التعليل فإن وجدت كان حجة وذلك كما في قوله صلى الله عليه و سلم وإذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها فإنه يحتج به على أن للرجل أن يمنعها إذا أستأذنته إلى غير المسجد لأن تخصيص عدم المنع بالخروج إلى المسجد قد اشتمل على معنى مناسب وهو كونه محلا للعبادة بخلاف غيره والأظهر أن فائدة تخصيص الشارع بذكر اللقب هو ربط الحكم وتعليقه به دون غيره مما يفهم منه فلم يحكم عليه بنفي ولا إثبات مثاله قوله تعالى اسجدوا لآدم تعليق بالأمر للسجود لآدم دال على أن غيره ليس بمأمور للسجود له ولا منهي عنه وهذا هو كفائدة تخصيص ذكر الصفة في القول في الغنم السائمة زكاة ويأتي تحقيق ذلك بأنه إذا لم يظهر لها فائدة غير تعليق الحكم عليها تعينت لذلك ولا ينهض دليل على غير هذا كما يأتي في الاستدلال على العمل ببقية المفاهيم إن شاء الله تعالى ثم أخذ في ذكر بقية المفاهيم فقال ... فالوصف ثم الشرط ثم الغايه ... والعد ثم الحصر في الدراية ...
أحاط النظم بخمسة أنواع من مفهوم المخالفة فالأول الصفة والمراد
هنا بها لفظ مقيد لآخر غير منفصل عنه يفيد نقص الشيوع أو تقليل الاشتراك ليس بشرط ولا استثناء ولا غاية ولاعدد فيدخل التقيد بطرف الزمان نحو الحج أشهر معلومات إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة والمكان لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
واعلم أن حقيقة الصفة ما وضع ليدل على الذات باعتبار معنى ذلك المعنى هو المقصود ويقابلها ما يكون المقصود أولا وبالذات هو الذات ولا يلاحظ سواه من حيث كونها مقصودة ولا تخرج الصفة عن هذا المعنى سواء كانت بطريق التوصيف أو الحالية أو الإضافة وهذا مراد أهل الأصول من قولهم هي لفظ مقيد لآخر لأن الصفة قيد من القيود للمحكوم عليه والقيود هي المعاني التي وضعت لتقييد الذوات فالمراد من قولهم لفظ مقيد لآخر ما يصلح أن يكون قيدا وليس ذلك إلا فيما يدل على الذات باعتبار معنى هو المقصود وقولهم لآخر أعم من أن يكون ذلك الآخر ملفوظا أو مقدرا لما علم من أن المقدر كالملفوظ مع القرينة ولأجلها يحذف الموصوف تارة والصفة أخرى كما هو مقرر في موضعه وإذا عرفت هذا عرفت أنه لا فرق بين قولنا في الغنم السائمة زكاة أو قولنا في سائمة الغنم زكاة فإن مفهومها أنه لا زكاة في معلوفة الغنم وتعرف أن تفرقة ابن السبكي بينا لماثلية أن
المقيد في المثال الأول الغنم بوصف السوم وفي الثانية السائمة بوصف كونها من الغنم وأن مفهوم الأول عدم وجوب الزكاة في الغنم العلوفة التي لولا التقييد بالسوم لشملها لفظ الغنم ومفهوم الثاني عدم الوجوب في سائمة غير الغنم كالبقر مثلا التي لولا تقييد السائمة بإضافتها إلى الغنم لشملها ويزيده وضوحا ان لقولنا في الغنم السائمة زكاة منطوقا ومفهوم الصفة ومفهوم لقب وهو بقولنا بسائمة الغنم زكاة منطوقا ومفهوم الصفة ومفهوم لقب منطوقهماواحد هو وجوب الزكاة في السائمة من الغنم ومفهوم الصفة فيهما مختلف فمفهوم الأول عدم الوجوب في الغنم المعلوفة ومفهوم الثاني عدم الوجوب في غير الغنم ومفهوم اللقب فيهما مختلف أيضا فإن مفهوم الأول عدم الوجوب في غير الغنم ومفهوم الثاني عدم الوجوب في غير السائمة غير صحيحة لأن قولنا في السائمة زكاة مما حذف فيه الموصوف كما عليه الجمهور وأصله في الغنم السائمة فجعل الصفة في سائمة الغنم ولفظ الغنم من تقليب المفاهيم وتعكيس الكلام وكذا جعله للسائمة زكاة من مفهوم اللقب باطل لأن الموصوف مقدر لأن السائمة في نفسها يتعين أن تكون صفة فإن السوم حال من أحوال الغنم ضرورة لغوية وعقلية وقد وقع بحث في هذه المسألة بين مؤلفي الفواصل رحمهم الله تعالى وبين شيخه وأبان شيخه هذا التحقيق واستحسنه ورد به على ابن السبكي وقد بسطه في موضع آخر
إذا تقرر هذا فقد اختلف في كون مفهوم الصحة حجة على أقوال
الأول للأكثر أنه حجة لشرائط ستأتي ومعناه أنه إذا ورد من الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم نص معلق بصفة ما أو زمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد يجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص فإن تعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها وذلك إذا ذكرت الصفة مع موصوفها لا إذا ذكرت مفردة نحو في السائمة زكاة ففيه اختلاف والشرط في العمل بها أن لا يكون لها فائدة سوى نفي الحكم
والقول الثاني ليس بحجة وهو قول كثير من أئمة الزيدية
الثالث التفصيل لأنها إن كانت الصفة مناسبة للحكم فحجة نحو في الغنم السائم زكاة لا إذا لم تكن مناسبة نحو في الغنم العفر زكاة
الرابع تفصيل أيضا هذا وهو أنه حجة في صور ثلاث الأولى أن يرد الخطاب للبيان الثانية أن يرد للتعليم أي ابتداء حكم لم يسبق ذكره مجملا ولا مفصلا الثالثة ان يكون ما عدا الصفة داخل تحتها بشرائط ستأتي
وقال بعدم حجيته مطلقا جماعة من الأئمة وغيرهم ومن أهل البيت المنصور والإمام يحيى قال وهو الذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة ومحققو الأشعرية كالجويني والغزالي والرازي والباقلاني وغيرهم قال الأولون لو لم يعتبر لخلي ذكره عن الفائدة وذلك يمتنع من الحكيم فهو أولى بالاعتبار من دلالة التنبيه وقد قلتم باعتبارها
ورد بأن فائدته تشخيص مناطق الحكم فهو لتحصيل أصل المعنى فهو كاللقب فإن قولك أكرم زيدا التميمي أوقعت الأمر بالإكرام على زيد المقيد بكونه تميما وليس على زيد فقط وللموصوف بالصفة فهي داخلة في مفهومه فلا يلزم من إيقاع الأمر عليه اختصاصه به كما هو المدعي بل غايته
بقاء غير المذكور في حيز الاحتمال فإن كل قضية وخطاب فإنما يعطيك ما فيه من حكم فقط ولا يعطيك حكما في غيره بأنه موافق له أو مخالف بل ذلك موقوف على دليليه فقول الجمهور إذا لم يعتبر المفهوم لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة باطل إذ فائدة ذكر الصفة تعيين من أريد بالأمر بإكرامه في المثال الذي ذكرنا وكيف تطلب فائدة زائدة على فائدة الوضع ألا ترى أن زيد القيسي مثلا بالنسبة إلى مثالنا يحتمل ثلاثة أحوال الأمر بإكرامه أو النهي عن إكرامه أو السكوت عنه ليس مأمورا بإكرامه اتفاقا ومدعي المفهوم بقول هو منهي عن إكرامه ولا دليل عليه إذا وضع الصفة لتقليل الاشتراك وقد حصل فلو أن زيدا القيسي مسكوت عنه وبهذا يعرف أن مفهوم الصفة كمفهوم اللقب وأنه يختل الكلام عند إسقاط الصفة لأن المأمور به إكرام زيد التميمي لوجود هذه الصفة فلا يتم امتثال الأمر إلا بهما وإلا لاختل الكلام ومثله إذا قلت جاءني زيد الطويل فإنه ليس المسند إليه مسمى زيد فقط بل الموصوف بالطويل فالصفة داخلة في مفهوم المسند إليه فهي لتحصيل معنى يختل الكلام من دونه ولا تدل على اختصاصه بالمجيء وإن زيدا القصير مثلا ما جاء بل هو مسكوت عن الحكم عليه يحتمل أنه جاء وأنه لن يجيء وأنه لم يخطر بالبال مجيئه وعدمه
الثاني في البيت مفهوم الشرط والمراد به ما علق من الحكم على شيء بأداة شرط وهو الشرط اللغوي واعلم أنه لا خلاف في أنه يثبت المشروط عند ثبوت الشرط بدلالة إن عليه وفي أنه يعدم المشروط عند عدم الشرط وإنما الخلاف في أن عدم المشروط مستفاد من دلالة إن عليه أو هو منتف بالأصل كمن قال بالمفهوم انتفى بدلالة إن على انتفائه ومن لم يقل به قال الأصل العدم ولذا يقال المعلق بالشرط عدم قبول وجود الشرط
والثالث منه مفهوم الغاية وهو مد الحكم إلى غاية بإلى وحتى ومثاله وأتموا الصيام إلى الليل ولا تقربوهن حتى يطهرن
قال الزركشي نص الشافعي في الأم على القول به ومنهم من أنكره وقال هو نطق لما قبل الغاية وسكوت عما بعدها فيبقى على ما كان عليه
الرابع منه مفهوم العدد نحو قوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة فالقائل به يقول أفاد تحريم الزيادة عليها وفيه خلاف بين العلماء منهم من لم يقل به ويقول تحرم الزيادة على الثمانين معلوم من أن الأصل حرمة المسلم وتحريم ضربه
الخامس منه مفهوم الحصر نحو إنما الصدقات للفقراء و إنما الولاء لمن اعتق اختلف فيه فنفاه قوم وقال آخرون إنه منطوق فإن المثال الثاني أفاد إثبات الولاء للمعتق بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم ومنه النفي بما أو لا والاستثناء نحو لا عالم إلا زيد وما علم إلا زيد صريح في نفي العلم عن غير زيد ويقتضي إثبات العلم له وجانب الإثبات فيه أظهر فلذا جعلوه منطوقا فيفيد الإثبات منطوقا والتقي مفهوما وقد أنكره قوم كما يأتي في بحث الاستثناء وقوم قالوا إنه منطوق والأكثر قالوا إنه مفهوم
ومن طرق الحصر ضمير الفصل نحو زيد هو القائم ويفيد إثبات القيام له ونفيه عن غيره ومنه فالله هو الولي بعد قوله أم اتخذوا من دونه أولياء وقوله إن شانئك هو الأبتر ذكره أئمة علم البيان
ومن طرقه تقديم المعمول نحو إياك نعبد وإياك نستعين أي نخصك بالعبادة والاستعانة
وله طرق أخر معروفة في علم البيان ومطولات الفن قال في جمع الجوامع إن أعلاه لا عالم إلا زيد أي النفي والاستثناء وأشرنا ان قوما يجعلون مفهوم الحصر منطوقا وقال آخرون إن العدد أيضا منه فأشار إليه قوله ... وقيل منطوقان عند البعض ... وهو لدى التحقيق غير مرض ...
عبارة أصل النظم وقيل هما أي المقدم ذكرهما في كلامه وهو العدد والحصر بإنما من المنطوق فضميرهما في كلام الأصل للعدد والحصر بإنما قيل ولم يقل أحد بأن مفهوم العدد منطوق فلا يصح كلام أصل النظم وإنما الخلاف في الحصر بما وإلا قال بعض الجدليين إنه منطوق بدليل أنه لو قال ما له علي إلا دينار كان إقرارا بالدينار حتى يؤاخذ به فلولا أنه منطوق لما ثبتت المؤاخذة به لأن دلالة المفهوم لا تعتبر في الأقارير بالاتفاق وأشار في جمع الجوامع أنه قيل إنه منطوق أيضا
واعلم أن ترتيبها عندهم في القوة كما رتبناه نظما وفيه بعد ذلك خلاف وأنه لا بد للعمل بالمفهوم عند القائلين به من شروط تضمنها قوله ... هذا وشرط الأخذ بالمفهوم ... ما قد أتى فخذه من منظوم ... أن لا يكون مخرجا للأغلب ... ولا جوابا لسؤال أجنبي
أي للأخذ بالمفهوم والعمل به شرائط
الأول ألا يكون خرج مخرج الأغلب لأنه يكون كالوصف الكاشف نحو الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله فإنه لا مفهوم لهذه الصفات ومثل الأصوليون ذلك بقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم التقييد بالوصف وهو الكون في الحجر لكونه الأغلب في الربيبة ومثله إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فالتقييد بالسفر يكون عدم وجدنا الكاتب فيه هو الغالب فيصح الرهن في الحضر قال في شرح الأصل لم يرد في ذلك أي قيد الكون في الحجور أن الربائب إذا لم يكن في الحجر كان حلالا للإجماع على تحريم الربيبة مطلقا انتهى وليس كذلك فإنه فيه خلاف داود ومالك وفيه رواية عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنها إذا كانت بعيدة حلت له ذكره ابن عطية وغيره مسندا وفيه خلاف كثير لجماعة من المحققين وخالف في هذا الشرط إمام الحرمين وابن عبدالسلام
الثاني من الشروط أن لا يكون جوابا لسؤال سائل كما أشار إليه عجز البيت وذلك كأن يقول السائل في الغنم السائمة زكاة فيجاب عليه بأن في الغنم السائمة زكاة فلا يؤخذ منه أن المعلوفة لا زكاة فيها
والثالث منه قوله ... ولا أتى في حادث تجلدا ... وليس في جهالة قد وردا
أي من شرط الأخذ بالمفهوم أن لا يأتي بسبب حادثة تجددت كأن يقال في حضرته صلى الله عليه و سلم لفلان غنم سائمة فيقول فيها زكاة فإنه لا يعمل بهذا المفهوم ومثال الثاني أن يعتقد المكلف أن في المعلوفة زكاة ولم يعلمها في السائمة فيقول صلى الله عليه و سلم في السائمة زكاة فلا يؤخذ بهذا المفهوم قالوا لأنه صلى الله عليه و سلم لم يرد في الأول التقييد بل أراد مطابقة السؤال
وفي الثاني بيان أنها في السائمة كما في المعلوفة قالوا ولما كانت دلالة المفهوم من أضعف الدلالات تصرفها أدنى فائدة تظهر بخلاف اللفظ العام إذا ورد على سبب خاص أو حادثة فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن العام قوي الدلالة على إفراده حتى ادعت الحنفية أنه قطعي الدلالة على كل فرد من أفراده فهذه الأربعة الشروط كما ذكره تنبيها على فوائد القيود وأنها إذا تعينت فائدة منها لم يبق على اعتبار المفهوم دليل
قالوا ومن شرط الأخذ به أن لا يكون للمتكلم غرض غير المفهوم فيؤخذ به لئلا يخلو كلام الحكيم عن حكمة وغرض وفائدة
قال في نجاح الطالب يقال لهم الوحي مختص بعلام الغيوب وما عندنا من معرفة حكمه الأمثل ما يأخذ المخيط من البحر قل لو كان البحر مداد لكمات ربي الآية لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام فإذا كان هذا حالنا الذي لا نفك عنه فكيف نعلم أو نظن نفي جميع حكمه في أمر ما هذا إلا حالة على المحال انتهى قلت ونعم ما قال وكان الأحسن أن يقول معرفة الله مراد الله للشيء لا تكون
إلا بالوحي ومعرفة عدم إرادة العباد لا يعرفها إلا خالقهم ولما كانت الفوائد لا تنحضر فيما ذكرناه أتى النظم بضابط فقال ... وغيره مما اقتضى التخصيصا ... لذكره فاتبع التنصيصا ...
أي وغير ما ذكرنا مما اقتضى تخصيص الحكم المذكور بالقيد كزيادة الامتنان في قوله لتأكلوا منه لحما طريا فلا يدل على نفي الأكل من القديد والتهويل مثل لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فلا يفيد حل أكله إذا لم يكن كذلك والتعبير للمخاطب نحو قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا بأنه من ليس بأهل للعفة قد أرادها دون أهلها وكقصد التكثير فالألف والسبعين كقولك جئتك ألف مرة أو سبعين ولم يرد إلا التكثير فالألف لا حقيقة العدد فقولهم أسماء العدد نصوص فيما وضعت له المراد إذا لم تقم قرينة تصرفها عنه
والحاصل أنه لا يعتبر المفهوم إلا بأن لا يظهر للقيد فائدة تقتضي تخصيصه بالذكر سوى نفي الحكم وعلى هذا اقتصر جماعة من أئمة الأصول
واعلم أن للناس ثلاثة أقوال في المفهوم الأول القول به حتى مفهوم اللقب قال به الدقاق والصيرفي والثاني عدم القول به وهو رأي جماعة كثيرة منهم الظاهرية قال ابن حزم كل خطاب وكل قضية فإن ما تعطيك ما فيها فقط ولا تعطيك حكما في غيرها لأن ما عداها موافق لها ولأنه مخالف لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله فنفى مفهوم الموافقة
ومفهوم المخالفة وأطال في رد الأمثلة ووافق الحنفية فإنهم ينكرونه لكن لهم تفاصيل أخر
واعلم أنه لما شاع عن الحنفية نفي المفاهيم هجن عليهم من لم يحقق مرادهم بأنه يلزمه أن تكون كلمة التوحيد غير دالة على إثبات الإلهية لله تعالى وهذا يخالف ما أتفق عليه من إثباتها له تعالى أمر لا نزاع فيه فرايت أن أنقل نصهم من المنار وشرحه ليعرف مرادهم قال والاستثناء يمنع التكلم بحكمه أي مع حكمه بقدر المستثني
أي يمنع في المستثنى نظرا إلى الظاهر لعدم الدليل الموجب له مع صورة التكلم بقدر المستثني فيسير التكلم به عبارة عما وراء المستثنى فيكون الاستثناء مانعا للموجب والموجب جميعا بقدر المستثنى فينعدم الحكم فالاستثناء لانعدام الدليل الموجب له من صورة التكلم فيجعل الاستثناء تكلما بالباقي بعده أي بعد المستثنى وعند الشافعي يمنع الحكم بطريق المعارضة يعني الموجب لا الموجب كما في التعليق وعندنا يمنع كليهما كما في التعليق فصار تقدير قول الرجل لفلان علي ألف إلا مئة عندنا ثبت لفلان علي تسع مئة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المئة وعنده أي الشافعي إلا مئة فإنها ليست علي فإن صدر الكلام يوجبه والاستثناء ينفيه فتعارضا فتساقط بقدر المستثنى واستدل الشافعي ومن معه بإجماع أهل اللغة على أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وهذا دليل على أن حكمه يعارض حكم المستثنى منه ولأن
قوله لا إله إلا الله للتوحيد أي وضع لإفادته ومعناه النفي والإثبات فلو كان تكلما بالباقي لكان نفيا لغيره أي نفيا لما سوى الله تعالى لأنه هو الباقي بعد الاستثناء لإثباته للألوهية لله فيصح من كونها كلمة التوحيد بالإجماع أن معنى قولنا إلا الله أنه الإله بطريق المعارضة ولنا قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الإيجاب يكون أي الإنشاء يثبت لا في الأخبار لأنه لو ثبت حكم الألف بجملته ثم عارضه الاستثناء في الخمسين لزم كونه نافيا لما أثبته أولا فلزم الكذب في أحد الأمرين تعالى الله عن ذلك ومن أدلتهم أي الحنفية أن أهل اللغة قالوا الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي الثنيا أي المستثنى كما قالوا إنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وإذا ثبت الوجهان وجب الجمع بينهما لانه هو الأصل
وقالت الحنفية نقول إنه تكلم بالباقي بوضعه أي بحقيقته وعبارته لأنه هو المقصود الذي سيق الكلام لأجله ونفي وإثبات بإشارته لأنهما فهما من الصيغة من غير أن يكون سوق الكلام لأجلهما لأنهما غير مذكورين في المستثنى قصدا لكن لما كان حكمه خلاف حكم المستثنى منه ثبت النفي والإثبات ضرورة لأنه حكمه يتوقف بالاستثناء كما يتوقف بالغاية فإذا لم يبق بعد الاستثناء ظهر النفي لعدم علة الإثبات وسمي نفيا مجازا
تحقيق ذلك أن الاستثناء بمنزلة الغاية من المستثنى منه لكون الاستثناء بيانا أنه ليس مرادا من الصدر كما أن الغاية بيان أنها ليست مراده من المغيا
فكما أن الاستثناء يدخل على النفي فينتهي بالوجود وعلى الإثبات فينتهي بالنفي فكذلك الغاية ينتهي بها الحكم السابق إلى خلافه وهذا المجموع ثابت بحسب اللغة لكن لما كان الصدر مقصودا جعلناه عبارة والثاني لما لم يكن مقصودا بل ليتم به الصدر جعلناه إشارة ولذلك اختير في كلمة التوحيد لا إله إلا الله ليكن إثبات الألوهية لله تعالى إشارة ونفيها قصدا لأن المهم في كلمة التوحيد نفي الشريك مع الله تعالى لأن المشركين أشركوا معه غيره فيحتاج إلى النفي قصدا وأما إثبات الألوهية لله تعالى فمفروغ منه غير محتاج إلى اثباته بالقصد لأن كل عاقل معترف به قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فيكفي في إثبات ذلك الإشارة وهذا الحصر من قبيل قصر الإفراد
ولقائل أن يقول الاستثناء نص في خروج حكم المستثنى من حكم المستثنى منه حتى لا يصح إثبات مثل حكمه معه بخلاف الغاية فإنه ليس كذلك حتى يصح سرت إلى البصرة وجاوزته ولا يصح أن تقول جاءني القوم إلا زيدا فإنه جاء هكذا أورده شارح المنار على أصحابه ولم يجب عنه ثم قال والجواب عما قال الشافعي إنما يكون بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل كالنسخ فإن نسخ الكل جائز كبعضه ولم يستو الكل والبعض في الاستثناء فإن استثناء الكل باطل اتفاقا لا يقال إنما لا يصح استثناء الكل لأنه رجوع بعد الإقرار لأنا نقول لا يصح استثناء الكل فيما يصح فيه الرجوع كالوصية فإنه يصح الرجوع عنها ومع هذا لا يصح استثناء الكل فلو قال أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي فالاستثناء باطل لأنه لم يبق بعد الاستثناء شيء يكون الكلام عبارة عنه
ولقائل أن يقول إنما لا يصح استثناء الكل لأنه يؤدي إلى التناقض وهو غير معقول بخلاف نسخ الكل فإنه لا يؤدي إليه لاختلاف الزمان انتهى
وأقول قد اتفق الفريقان بأن كلمة لا إله إلا الله قد دلت على نفي الألوهية عما سواه وإثباتها له لكن إثباتها له تعالى سماه الحنفية إشارة وسموا
النفي عبارة نظرا إلى المقصود بالكلام وانه لم يسق أصالة إلا لنفي الألوهية عن غيره تعالى واما إثباتها له فغير مقصود من الكلام لأن كل عاقل يعتقده
قلت ولذا قالوا في الأصنام إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فلم يكونوا نافين له بل أثبتوا معه غيره فخوطبوا بكلمة التوحيد والقصد نفي الألوهية عن غيره تعالى ولذا قال إنه قصر إفراد وعلى رأي من أثبت المفهوم إنهما أي النفي والإثبات قصدا سواء النفي والإثبات وأنها أفادت إثبات الأولهية له تعالى كما أفادت نفيها عما سواه لكن الأول سموه مفهوم قصر والثاني منطوق والقصد فيهما سواء إلى إثبات الحكم ونفيه إنما اختلفت طريقة الدلالة وفي مثل له علي ألف إلا مئة الحكم منصب إلى تسع مئة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المئة فقد اتفق الفريقان أنه لا يلزمه إلا تسع مئة فالحكم في المستثنى منعدم لانعدام الدليل الموجب له في صورة التكلم به
واعلم أن مثبت الحكم هنا للمفهوم إنما يقول به في الاستثناء المتصل وبه يعرف بطلان قول من قال إنها تظهر فائدة الخلاف فيما إذا استثنى خلاف الجنس كقوله لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إلى آخر كلامه فإن هذا استثناء منقطع وليس الكلام فيه
واعلم أن الاستدلال بإجماع أئمة العربية بأنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وقد قدح فيه بأن الكوفيين لا يقولون بذلك كما نقله الزركشي في شرح الجمع ونقله ابن عقيل وغيره عن الكناني بأن جاءني القوم إلا زيدا معناه القوم المخرج منهم زيد دون نظر إلى الحكم على زيد بالمجيء أو عدمه ولا بد إن شاء الله من زياد تحقيق يأتي في التخصيص بالاستثناء
واعلم أنه أثبت القول بالمفاهيم مخالفة وموافقة جماعة كما عرفت ونفاه الظاهرية جملة حتى الموافقة نحو دلالة فلا تقل لهما أف على النهي عن الضرب فقالوا لا يدل عليه
قال أبو محمد بن حزم هذا مكان عظيم فيه أخطأ كثير من الناس وفحش جدا واضطربوا فيه اضطرابا شديدا وذلك أن طائفة قالت إذا ورد النص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه و سلم معلقا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفات وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص وتعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها
وقالت طائفة أخرى وهم جمهور أصحابنا الظاهرية وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه بل يكون ذلك موقوفا على دليله
قال أبو محمد وهذا هو الذي لا يجوزغيره لأن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها فقط ولا تعطيك حكما في غيرها لا على أن ما عداها مخالف لها ولا أنه موافق لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله
ثم قال أما قول الله تعالى فلا تقل لهما أف فلم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربها ولا قتلهما ولما كان فيها إلا تحريم قول أف فقط ولكن لما قال الله تعالى في هذه الآية نفسها وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني
صغيرا اقتضت هذه الألفاظ من الظاهر حذف من من الإحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل لهما والرحمة بهما والمنع من الانتهار لهما وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق فهذه الألفاظ والأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى والمنع من كل ضرب وعقوق بأي وجه كان لا بالنهي عن قول أف ولا بألفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرأ منهما او منعهما رفده في أي شيء كان في غير الحرام فلم يحسن إليهما ولا خفض لهما جناح الذل من الرحمة ولو كان النهي عن قول أف مغنيا عما سواه من وجوه الأذى إذا لما كان لذكره تعالى في الآية نفسها مع النهي عن قول اف النهي عن النهر والأمر بالإحسان وغيرهما فائدة فلما لم يقتصر على الأف وحده بطل قول من ادعى ان يذكر الأف علم ما عداه وصح ضرورة أن لكل لفظة من ألفاظ الآية معنى غير معنى سائر ألفاظها
إلى أن قال ومن البرهان الضروري على أن نهي الله عن أن يقول الإنسان لوالديه أف ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عن ما عدا الأف أنه متى حدث عن إنسان أنه قتل آخر وضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود وقد بصق في وجهه فيشهد عليه من شاهد ذلك كله فقال الشاهد إن زيدا يعني القاتل والقاذف والضارب قال لعمرو أف أعني المقتول أو المقذوف أو المضروب لكان بإجماع منه ومنهم كاذبا آفكا شاهدا بالزور مردود الشهادة
قال أبو محمد فكيف يدين هؤلاء القوم أن يحكم بما يقرون أنه كذب وكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله الحكم بما يشهدون أنه كذب ونحن نعوذ بالله أن نقول نهى الله عن قول اف للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب والقذف لهما أو القتل والقذف فإذا لا شك عند كل من له معرفة بشيء من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شيء من ذلك أف ثم
تكلم عن كل مثال من تلك الأمثلة وأطال المقال في ذلك بما لا تحتمله هذه الإجابة والله يهدينا إلى كل توفيق وإصابة
فإن قلت فيجوز على كلامه من عدم القول بمفهوم الموافقة وأنه لا نهي إلا عن الأف أن يقول لأبويه هما فاجران أو فاسقان لأنه إنما نهى عن الأف ويجوز ضربهما ونحوه
قلت من اين هذا الجواب فإن هذا أعني اللفظ من الفاجر والفاسق منهي عنه في حق كل مسلم نهيا متيقنا من تحريم الأعراض كما أن الضرب منهي عنه كذلك من تحريم ضرب المسلم وإن ظهر المؤمن حمى والتأفيف محرم أيضا بالتحريم الأصل إنما نص عليه الشارع لأن الولد عند بلوغ أبويه الكبر أو أحدهما يتضجر من طول صحبتهما وغالب ألفاظ المتضجر والمتبرم من أمر أن يقول أف لهذا الأمر كما قال ... وإذا الشيخ قال أف فما م ... ل حياة ولكن الضعف ملا ...
فإن قلت هم لا يقولون إن قوله لا تقل لهما أف نهي عن الضرب والقذف إلى آخر ما هجن به عليه
قلت بل هم قائلون إن دلالة هذه العبارة القرآنية على النهي عن الضرب والقتل أولى من دلالتها على التأفيف لكنهم لا يقولون الأف موضوع لغة للنهي عن الضرب والقتل وغيرهما حتى إذا قال القائل لا تقل لزيد أف أنه نهي عن ضربه مأخوذ من صيغته بل يقولون إنه يفهم بكون المتكلم حكيما لا ينهى عن أدنى الأذية مع الإذن في أعلاها بل إذا نهى عن أدناها أفاد نهيه عن أعلاها بقرينة المقام وإنه لو قال لا تقل لزيد أف واضربه لعد غير موافق لطريقة اللغة والحكمة والكمال
وبعد الفراغ من بيان المفهوم والمنطوق أخذنا في بيان الحقيقة والمجاز بقولنا
الباب الرابع حقيقة الكلام مع المجاز ... باب حوى حقيقة الكلام ... مع المجاز فاستمع نظامي ...
الحقيقة فعلية من حق الشيء بمعنى ثبت ومن قوله تعالى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وهي إما بمعنى الفاعل أي الثابت فالتاء فيها للتأنيث أو بمعنى المثبت من حققت الشيء أحقه بمعنى أثبته فالتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالنطحية ولذا لا يقال بهيمة نطيحة وقد نقلت إلى اللفظ الموضوع بالمعنى الاصطلاحي الذي يفيده قولنا ... وعرفت بالكلمة المستعمله ... في الاصطلاح فالذي توضع له ...
عرفها أئمة البيان وغيرهم بالكلمة المستعملة بما وضعت له في اصطلاح التخاطب فخرج بالأول المهملة وما وضع ولم يستعمل فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز وخرج بقيد اصطلاح التخاطب الصلاة إذا استعملها المتكلم باصطلاح الشرع في الدعاء فإنها مجاز بالنظر إليه ودخلت في الحد بالنظر إلى استعمالها بالعرف الشرعي في الصلاة الشرعية فإنها حقيقة ولما كانت لها أقسام أفادها قولنا
أقسامها أصلية عرفية ... تعم أو تخص والشرعية ...
قسم العلماء الحقيقة إلى لغوية وهي ما يكون واضعها واضع اللغة وضعا أصليا وعرفية وهي ما تغلب في العرف في غير معناها الأصلي وهي قسمان إن لم يتعين ناقلها فعرفية عامة ومثلوها بلفظ الدابة فإنها في اللغة بكل ما يدب فخصصها العرف العام بذوات الأربع أو تعين ناقلها فهي الخاصة وذلك كألفاظ اصطلاحات أهل العلوم وغيرهم كالرفع وتخفض لألقاب الإعراب وكل أهل فن لهم ألفاظ مصطلحة فالعموم والخصوص في العرفية من حيث تعين الناقل وعدمه والشرعية هي ما استفيد وضعها من الشارع كالصلاة لذات الأركان والأذكار والزكاة لأخراج جزء معين بتعيين الشارع من المال ومنها الدينية وهذه ما نقلت إلى أصول الدين كالإيمان والفسق والمؤمن والفاسق ونبه النظم عليها بقوله فيما يأتي دينية منها للإشارة إلى أنها ليست بقسم مستقل بل هي داخلة في الشرعية وإنما جعلها المتأخرون قسما مستقلا وإلا فهي شرعية والمتقدمون أدمجوها فيها ثم للحقيقة تقسيم آخر وهو باعتبار تعدد اللفظ والمعنى أو اتحادهما فهذه أربعة أقسام
الأول أفاده قولنا ... دينية منها فإن تعددت ... لفظا ومعنى فبذا تباينت ...
الضمير للحقيقة أي تعددت الحقيقة لفظا ومعنى أو الكلمة الدالة عليها قرينة الكلام وهو أولى لأن المعروف عندهم تقسيم الكلمة إلى ذلك أعم من كونها حقيقة أو مجازا وهو أولى لأن المعروف عندهم تقسيم الكلمة إلى ذلك أعم من كونها حقيقة أو مجازا وذلك كالإنسان والفرس والسواد والبياض وتسمى متباينة لتباينها دلالة ولفظا كما أشار إليه قولنا فبذا تباينت وهذا القسم الأول
والثاني وهو باعتبار الاتحاد لفظا ومعنى أفاده بقوله ... ما لم فإن يتحدا فمنفرد ...
أي ما لم يتعدد لفظا ومعنى وهو ينقسم أيضا فإن اتحد اللفظ والمعنى بأن وجد المراد في لفظ واحد لا تعدد فيه البتة فإنه المنفرد فيدخل فيه الجزئي الحقيقي كزيد والإضافي كالإنسان بالنظر إلى الجنس فإن مفهومه واحد من هذه الجهة فالمتواطىء والمشكك ليس بداخلين تحت هذا القسم بل هما قسم مستقل ومن الناس وهو الأكثر من يجعلهما من هذا القسم المتحد لفظا ومعنى
القسم الثالث قوله ... وإن تعدد لفظه ويتحد ... معناه منها فهو بالترادف ...
معناه منها أي ما تعدد لفظه واتحد معناه فهو القسم المعروف بالترادف أي يسمى به وهو معنى قولنا في صدر البيت الآتي يدعى وهو في عرف الأصوليين توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد وذلك كالإنسان والبشر والأسد والليث وفوائده كثيرة منها أنه قد يضطر إلى لفظ ليوافق القافية والروي ويحتاج إليه في رواية الحديث بالمعنى وغير ذلك
والقسم الرابع ما أفاده قوله ... يدعى واما عكسه فاستأنف ...
أي عكس ما قبله وهو ما اتحد لفظه وتعددت معانيه بحيث لا يمنع تصور معناه من وجود الشركة فيه وقوله فاستأنف جواب إما أي استأنف تقسيمه فهذا تقسيم مستأنف وهو قسمان
الأول وهو المراد من قوله ... إن وضع اللفظ بأمر كلي ... فيه اشتركن فاستمع ما أملي ...
أي إن وضع اللفظ بتلك المعاني باعتبار أمر كلي اشتركن أي المعاني فيه ... فإنه مشكك للنظر ... إن كان بعض منه أولى فانظر ...
أي فإنه يسمى مشككا إن تفاوتت أفراده بأولية أو أولوية كما أفاده قولنا إن كان بعض منه أولى ومثاله قوله ... مثاله الموجود للرحمن ... سبحانه وللحديث الفاني ...
فإن لفظة موجود تطلق عليه تعالى وتطلق على المخلوق المحدث فالباري بها أحق وأولى لأن معناه في حقه أقدم وأتم وقولنا إن كان بعض منه أولى يشمل ما ذكر ويشمل ما كانت الأولوية باعتبار الشدة والضعف كالبياض يطلق على الثلج والعاج مثلا فإنه أشد منه في الثلج وأقوى من العاج وهذا أول القسمين وهو المشكك سمي بذلك لأنه أوقع الناظر في الشك هل هو متواطىء نظرا إلى اشتراك الأفراد في أصل المعنى أو مشترك نظرا إلى التفاوت المذكور
والثاني أفاده قولنا ... وإن يكن يطلق بالسويه ... فهوالتواطؤ بغير مريه ...
أي وإن لم تتفاوت افراده بالأولوية بل أطلق عليها بالسوية فإنه يسمى بالمتواطىء وذلك كالإنسان فإن دلالته على أفراده متساوية فإن الإنسانية في زيد ليست بأولى منها في عمرو ولا أقدم ولا أتم ويسمى متواطئا أخذا من التواطؤ وهو التوافق وإذا عرفت هذا فإنه دخل تحت القسم الرابع وهو ما اتحد لفظه وتعددت معانيه ثم فيه أقسام يفيدها قولنا
أو تختلف حقائق المعاني ... فالجنس أولى فتراه الثاني ...
أي ما اتحد لفظه وتعددت معانيه لا يخلو ما إن تختلف حقائق المعاني الداخلة تحته فهو الجنس فإن حقيقته المقول علىالكثرة المختلفة الحقائق في جواب ما هو مثاله الحيوان فإنك إذا قلت ما الفرس والإنسان مثلا كان السؤال عن تمام الماهية المشتركة بينهما فيقال في جوابه حيوان وهذا هو أحد الكليات الخمس المعروفة في فن المنطق
والثاني من أقسام ما نحن بصدده أشار إليه قوله أولى فتراه الثاني أي ولا تختلف حقائق ما تحته فهو القسم الثاني ويسمى نوعا كما يفيده قولنا الآتي أعني به النوع وعرفوه بما يقال على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو وذلك كالإنسان فإنك إذا قلت ما زيد وما عمرو مثلا كان سؤالا عن تمام الماهية المشتركة بينهما فيقال إنسان لأنه النوع الذي طولب بالسؤال لأنه سؤال عن طلب الحقيقة فأجيب بما يطابقه فتحقيق هذه موضعه علم المنطق وقد عرفت معنى صدر قولنا ... اعني به النوع وبعض يعكسه ... أمثالها واضحة لا تلبس ...
وهذه إشارة إلى أن الذي سلف عرف أهل علم المنطق وأما الأصوليون وهو المراد بالبعض فإنهم يعكسون فيقولون للجنس النوع وللنوع الجنس فيجعلوه المندرج جنسا والمندرج تحته نوعا وهذا اصطلاح لا مشاحة فيه وإلى هنا تقاسيم المشترك المعنوي الداخل تحت قوله إن وضع اللفظ بأمر كلي وهو من القسم الرابع كم عرفت وهو المتحد لفظا المتعدد معنى وما اتحد لفظه وتعددت معانيه فهو القسم الذي أفاده قولنا ... وإن وضعت اللفظ للمعاني ... لكن لفظ منه وضع ثاني ...
وهذا القسم المشترك اللفظي وهو قسيم المشترك المعنوي الذي عرفته إذ هما معا داخلان تحت مقسم واحد وهو المتحد لفظا المتعدد معنى كما عرفناك ولذا قلنا
فإنه المشترك اللفظي ... ودونك المجاز يا مرضي ... إلى اشتراك بينها مرعيا ... فسمه مشتركا لفظيا ...
فقوله إن وضعت أي اللفظ الواحد كما دل قوله بكل لفظ ودخل المنفرد في هذا وخرج بقولنا للمعاني لأن المعنى فيه متحد كما عرفت وقوله لكل لفظ منه وضع ثان فصل يخرج به المشكك والمتواطىء وقوله مرعيا إيضاح يراد به أن الاشتراك المقصود هو ما روعي في أصل الوضع ولوحظ بخلاف الاشتراك في مجرد اللفظ وليس مما يراعي في أصل الوضع ويستقل بالإفادة
ومثال ما جمع القيود لفظ العين يطلق على الباصرة وعلى الفوارة وعلى عين الشمس وعين الذهب وكالقرء للطهر والحيض وعسعس لأقبل وأدبر فكل واحد من هذه وضع لكل معنى على انفراده وضعا مستقلا من غير اشتراك بينها في أمر روعي
وللعلماء خلاف في وقوعه فالجمهور عليه وخالف أئمة وقالوا لا يقع قالوا لأن الغرض من وضع الألفاظ فهم المعنى المقصود للمتكلم والاشتراك يخل بذلك فيكون وضعه سببا للمفسدة والواضع حكيم لا يجوز عليه ذلك وأجيب بأن قرائن السياق والمقام تحصل غرض المتكلم ومع القرائن تذهب المفسدة ولا نسلم خلو المقام والسياق من قرينة وهو واقع فيما مثلناه
قال المانع من وقوعه هذه الأمثلة محمولة على أنها من باب الحقيقة والمجاز وأجيب بأنه يستعمل القرء في الحيض والطهر على سبيل البدل من غير ترجيح وما كان كذلك فهو مشترك والقول بخلاف هذا وإطالة الردود قول بخلاف الظاهر وأما إطلاق المشترك على جميع معانيه ففيه أبحاث في مطولات الفن لا يتسع هذا المختصر بتطويله بها والمقصود من الحقيقة وأقسامها قد وفى به ما أسلفناه نظما ونثرا
وعند الفراغ منه أخذنا في المجاز فقلنا
فصل حوى الكلام في المجاز ... مختصرا لمقتضى الإيجاز ...
المجاز لغة العبور والانتقال نقل إلى ما ذكر من استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بشرط القرينة لأن المجاز باعتبار معناه الأصلي طريق إلى معناه المستعمل فيه ورسمه اصطلاحا أفاده قوله ... ورسمه اللفظ الذي يستعمل ... في غير موضوع له قد نقلوا ... في عرف من يطلق للعلاقة ... قد صحبت قرينة إطلاقه ...
أي حقيقة المجاز هو اللفظ الذي يستعمل في غير موضوع في عرف من يطلقه للعلاقة مع قرينه فقولنا اللفظ الذي يستعمل في غير موضوع خرج به اللفظ قبل الاستعمال بعد الوضع فإنه ليس بمجاز ولا حقيقة والظرف متعلق بيستعمل فخرجت الحقيقة وقوله في عرف من يطلق أي يطلق اللفظ يدخل به الصلاة في عرف الشرع إذا استعملت في الدعاء مجازا فإنه وإن كان استعمالا فيما وضع له أصالة فليس بمستعمل في عرف من يطلقه اعني الشارع وخرج به أيضا لفظ الصلاة إذا استعملت في عرف الشرع وقولنا للعلاقة يخرج الغلط نحو خذ هذا الكتاب مشيرا به إلى فرس فإنه وإن صدق عليه أنه استعمل في غير ما وضع له لكن ليس لعلاقة والعلافة بالفتح تطلق على المعاني كعلاقة الحب وبالكسر على الأعيان كعلاقة السيف والمراد بها هنا تعلق ما للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي
واعلم أنه لا بد لكل مجاز من علاقة وقرينة فالعلاقة هي المجوزة للاستعمال والقرينة هي الموجبة للحمل عليه وقوله مع قرينة أي مفيدة للمعنى المجازي صارفة للفظ عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي وبه تخرج الكناية لأنها مستعملة في غير ما وضع اللفظ له مع جواز إرادة المعنى الحقيقي قإن قلت ما الفرق بين قرينة المجاز وقرينة المشترك قلت الفرق
واضح لأن قرينة المشترك معينة للمعنى المراد من اللفظ الحقيقي وقرينة المجاز صارفة عن إرادته أي المعنى الحقيقي ومقيدة له إن قلت تعيين القرينة أحد معاني المشترك صارفة أيضا للمعنى الآخر قلت ليس المقصود منها إلا التعيين وإن استلزمت الصرف فليست فيه مقصودة لأجل الصرف بل لأجل التعيين والحاصل أن المشترك موضوع للدلالة بنفسه وإنما حصل الإيهام من الاستعمال فكانت قرينته لتعيينه بخلاف قرينة المجاز فإنها محصلة لأصل المعنى المجازي صارفة عن المعنى الحقيقي ثم اعلم أن العلاقة المشار إليها قد تكون المشابهة وقد تكون غيرها فانقسم بسببها المجاز قسمين مجاز مرسل واستعارة أشار إلى الأول بقوله ... وإنه نوعان منها المرسل ... كاليد للنعمة فيما مثلوا ...
هذا هو النوع الأول وهو المجاز المرسل وهو ما كانت علاقته المصححة لإطلاقه غير المشابهة بين المعنى الحقيقي والمجازي ولذا سمي مرسلا لإرساله عن التقييد بالمشابهة كما قيد بها قسيمه ومثلوه بإطلاق اليد على النعمة في قولهم لفلان عندي يد بعلاقة هي كون اليد الجارحة بمنزلة العلة الفاعلية للنعمة من حيث أنها منها تصدر وتصل إلى المقصود بالنعمة كما تصل باليد إلى ما يراد والعلاقة تسمى السببية أو الملازمة والعلاقات قد عدت في فن البيان بلا زيادة على عشرين علاقة ولا حاجة إلى استيفائها هنا لأن لها فنا آخر هو علم البيان وقد استكمل عددها في شرح الغاية الثاني من نوعه قوله ... ثانيهما يدعونه استعاره ... كأنشب الموت به أظفاره
سموه استعارة لانك مع قصدك التشبيه كأنك استعرت له الصفة التي أردت اتصاف المشبه بها وهي مجاز لغوي وهو قول الجمهور وبعضهم يجعلها مجازا عقليا وهي أنواع منها الاستعارة بالكناية وبها مثل الناظم وهو أن المتكلم شبه الموت بالسبع بجامع اغتيال النفوس ورمز إليه بما هو من لازمه والمثال إشارة إلى قول الشاعر ... وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ...
وهو الأظفار وقوله أنشبت ترشيح للاستعارة وإثبات الاظفار استعارة تخييلية والقسم الثاني من الاستعارة الاستعارة المصرحة مثل رأيت أسدا في الحمام فإنه استعير لفظ أسد الشجاع وأطلق عليه استعارة وأتى بالقرينة وهي قوله في الحمام
واعلم أن أهل الأصول يطلقون المجاز على ما يشمل الكناية وهي نحو فلان طويل النجاد كناية عن طول القامة ولكنهم يحذفون لفظ القرينة من تعريف المجاز فتعريفنا في النظم على رأي أهل البيان فإنهم يجعلون الكناية قسما مستقلا ليس بحقيقة ولا مجاز وقد وقع التقييد بما قيدنا به في بعض كتب الأصول ثم اعلم أنه قد يطلق المجاز على ما يشمل المفرد والمركب والإسناد وإليه يشير قوله ... ويدخل التركيب والإفرادا ... كما تراه يدخل الإسنادا ...
أي ويقع المجاز في المركب وحقيقته اللفظ المستعمل فيما يشبه بمعناه الأصلي نحو أراك تقدم رجلا وتأخر أخرى حيث يراد به تشبيه المتردد في أمر بصورة من قام يذهب إلى حاجة فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة
لا يريد فيؤخر أخرى فاستعمل الكلام من غير تغيير شيء منه سواء نقله إلى هذه الصورة تشبيها بتلك الصورة وتسمى الاستعارة التمثيلية
وقوله والإفراد أي أنه يقع المجاز في المفرد وتقدمت أمثلته فالمراد من التركيب في عبارة النظم والإفراد المركب والمفرد فهما مصدران بمعنى اسم المفعول بقرينة قوله يدخل الإسناد فإن المجاز الإسنادي هو مجاز التركيب ومجاز الإسناد هو المسمى بالمجاز العقلي وحقيقته إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير من قام به عند المتكلم نحو أنبت الربيع البقل وجرى النهر ونحو ذلك مما يعرف من علم البيان تفاصيله ولما عقد الأصوليون مسألة معنوية بأنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز حمل على المجاز أشار إليه الناظم بقوله ... فما احتمل الشركةو المجازا ... فبالمجاز عندهم قد فازا ...
كلمة ما شرطية جوابها فبالمجاز وذلك أنهم قالوا إذا احتمل اللفظ الشركة والمجاز حمل على المجاز ومثلوه بلفظ النكاح إذا علم كونه حقيقة في أحد معنييه كالعقد مثلا واحتمل أنه حقيقة في الآخر وهو الوطء فيكون مشتركا أو لا فيكون مجازا فالحمل على المجاز أولى فإن قلت إن وجدت قرينة المجاز فلا يتصور حمله على الحقيقة وألا توجد فلا يتصور حمله على المجاز قلت أجيب بأن المراد مع القرينة إلا أن الغرض أنه قد علم أن أحدهما حقيقة وإنما التردد في المعنى الآخر هل هو حقيقة فيكون مشتركا أو لا فيكون مجازا وإنما تردد اللفظ لجواز أن القرينة قرينة تعيين المشترك لأحد أفراده هكذا قيل ولا يخلو عن تأمل
إذا عرفت هذا وقد عرفت أن كلا من الاشتراك والمجاز يوقع الخلل في فهم السامع للمراد بسببهما قالوا فيحمل على ما هو أقرب وأولى إلى تقريب المراد إلى الفهم وفي المسألة مع تشابهما أقوال واسعة لا يتسع لها هذا التعليق وهي من أبحاث المطولات وقد طولها في الفواصل وقيل بل يحمل على الاشتراك قلت بل ترجيح المجاز على الاشتراك أولى لأنه من إلحاق الفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب في الاستعمال فإن المجاز أغلب من الاشتراك بل قيل إنه غالب اللغة ولما كان للمجاز علامات وخواص يعرفانه ويتميز بها عن الحقيقة وقد أعدها أئمة الأصول ببحث المجاز قال الناظم ... خاصته بأنه لا يطرد ... في كل ما يصلح منه أن يرد ...
هذه العلامة الأولى الخاصة قالوا إن من خواص المجاز عدم اطراده في مدلوله قالوا النخلة فإنها تطلق مجازا على إنسان طويل ولا تطلق علىغيره مما فيه طول بخلاف الحقيقة فإنها تطرد في مدلولها وأورد عليه ان هذا يوجب أنه لا بد من سماع آحاد المجاز كالحقيقة وقد قرروا أنه موضوع وضعا نوعيا وبأن من الحقائق ما لا يطرد فلا يكون خاصا بالمجاز كالقارورة لا تطلق إلا على الزجاجة لا كل ما يقر وأجابوا في المطولات بأجوبة غير ناهضة والعلامة الثانية الخاصة قوله ... وأنه يصدق حين ينفى ... وغيره والله حسبي وكفى ...
هذه الخاصة مثلوها بقولهم للبليد ليس بحمار فإنه حقيقة مع أنه يطلق عليه ذلك مجازا وقولنا وغيره أي غير ما ذكر مثل نص أئمة اللغة أن هذا اللفظ مجاز أو سبق غيره إلى الفهم لولا القرينة وقد بسط في مطولات الفن فإنما ذكر أئمة الأصول مهمات من قواعد الفنون كالمنطق وعلم البيان وعند الفراغ من هذا الفصل أخذ في شرح الخامس من الأبواب فقال
الباب الخامس في الأمر والنهي ... فخامس الأبواب فيه النشر ... للأمر والنهي فأما الأمر ...
هذا الباب يذكر فيه الأمر والنهي وغيرهما وخامس الأبواب مبتدأ أو فيه النشر خبره والبحث هنا في مقامين وهما الأمر من جهة لفظه أي ألف ميم راء فاختلفا في ألف ميم را على أقوال أولها أنه حقيقة في القول المخصوص أي أفعل مجاز في الفعل نحو فلان في أمر عظيم وقوله أتعجبين من أمر الله
وثانيهما أنه مشترك بينه وبين الشأن نحو إن وراء الموت أمرا عظيما والغرض نحو لأمر ما جدع قصير أنفه وعدت له معان أخر لا يهمنا في هذا الفن أمرها إذ المراد هنا ثاني المقامين وهو النظر في مدلول الأمر ورسمه وحدوده باعتبار الكلام النفسي وباعتبار الكلام اللفظي وليس بحث الأصولي إلا عن اللفظي فلذا رسمه الناظم بقوله ... فهو كما في الأصل قول القائل ... لغيره لا زلت خير فاعل ... افعل وما شابهه وشاكله ... مستعليا يريد ما تناوله ...
فقوله قول القائل جنس يدخل فيه جميع أنواع الكلام وقوله لغيره
فصل يخرج به امر القائل لنفسه نحو قوله صلى الله عليه و سلم قوموا فلأصل لكم ونحو قوله تعالى حكاية عن الكفار في خطابهم للمؤمنين ولنحمل خطاياكم فإنه ليس بأمر حقيقة بل مجاز إذ من شرطه الاستعلاء ولا يتصور من الأمر نفسه
وقوله افعل وما شاكله فصل يخرج به طلب الفعل نحو أنا طالب منك كذا وأوجبت عليك ودخل فيما شاكله لتفعل وصه ونزال ونحوها مما يدل على الطلب الإنشائي
وقوله مستعليا فصل ثالث يخرج به الالتماس وهو طلب الشيء ممن يساويك رتبة بلا استعلاء والدعاء وهو طلب على جهة الخضوع والتذلل ومرادهم بالاستعلاء عد الآمر نفسه عاليا سواء كان في نفس الأمر كذلك أولا فيشمل أمر الإعلاء لمن دونه والأدنى لمن فوقه وقد زاد في الفصول فصلا رابعا وهو التحتم بناء على أن التعريف بمدلول الأمر لغة فلا بد حينئذ من قيد التحتم ومن حذفه كما هنا فهو بناء على أن أمر الندب وغيره داخل في التعريف ويأتي تحقيقه
واعلم أن الحد قد اشتمل على مسائل يذكرها أئمة الأصول مستقلة منفردة اكتفينا بالإشارة إليها في ضمن الحد إذ الكتاب مختصر وأصله كذلك فلنشر إليها
الأولى قولنا افعل وما شاكله إشارة إلى مسألة أن لفظ الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلب الطلب سواء كان عربيا أو فارسيا أو من أي لغة فإنه طلب الفعل بأي صيغة إنشائية ويحتمل أنه أريد بما شاكله أي من الألفاظ العربية الدالة على الطلب إنشاء وهذه المسألة ذكرها صاحب المحصول والإمام يحيى في الحاوي وقال الحق إنه موضوع للفظ الدال
على مطلق الطلب لا باعتبار كونه عربيا ولا فارسيا فإن العبارات الدالة على المعاني إنما وضعت بإجراء المعاني الذهنية ألا ترى إلى أوامر الله في كتبه المنزلة كيف تختلف عباراتها باختلاف اللغة فصيغ الأمر التي في التنزيل ليس هي التي في التوراة والإنجيل
المسألة الثانية قوله مستعليا يشير إلى الخلاف في الأمر هل يعتبر في العلو والاستعلاء أو لا فيه أقوال
والأول يعتبر الاستعلاء وإليه ذهب جماهير أئمة الأصول قالوا ودليله ذم العقلاء لمن قال لمن هو فوقه رتبة افعل على جهة الاستعلاء ويصفونه بالحمق والجهل ولولا كونه عد نفسه عاليا على الأعلى منه واعتقد ذلك وتفرع عليه أمره له لما ذموه ووصفوه بالجهل والحمق
والثاني أنه يعتبر العلو فقط ومعناه كون الآمر أرفع رتبة من المأمور وهذا مذهب أكثر المعتزلة ونقل عن جماهير العلماء وأهل اللغة واستدل لهم باستقباح العقلاء لقول القائل أمرت الأمير وعدمه عندهم إذا قال سألته وطلبته ورد بأنه عليهم لا لهم لأن الاستقباح دليل أنه قد وقع الأمر ولولا وقوعه لما استقبح فلو كان العلو شرطا لما كان ذلك للأمير أمرا وإلا لما استقبح ما ذاك إلا لأن العلو غير شرط وقد أجيب عنه
ثالثهما يعتبران معا العلو والاستعلاء وهو لجماعة
والرابع عكسه قاله الرازي في المحصول مستدلا بقول فرعون لقومه فماذا تأمرون مع أنه أعلى رتبة وقول عمرو بن العاص لمعاوية ... أمرتك أمرا حازما فعصيتني
وقول دريد بن الصمة لمن هم فوقه ... أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ...
قال فهذه الأمور دالة على عدم اعتبار العلو والاستعلاء وأجيب بأن الاستعلاء معتبر لغة وهذه الأمثلة جارية على ذلك فإن فرعون ما خاطب قومه إلا وقد عدهم أعلن منه رأيا في هذه الحالة وأنه طالب أن يأمروه بأمرهم وكذلك عمرو ما خاطب معاوية إلا مخالفته أمره لأنه كان يأخذ برأيه ويطلب مشورته وينزل نفسه منزلة المأمور وكذلك دريد خاطب قومه لأنهم أخرجوه ليقتدوا برأيه فلم يمتثلوا أمره وقد أمروه على نفوسهم والذي يقوي عندي هو اعتبار الأمرين العلو وهو كون رتبة الآمر أعلى من رتبة المأمور عنده ولا بد من الاستعلاء وهو عد الأمر نفسه عاليا بالنظر إلى المأمور في اعتقاده لذلك واستفعل هنا من باب واستكبر واستعظم عد نفسه كبيرا عظيما وهو أحد معانيه في كتب التصريف فقول الحجاج للأمير مثلا افعل كذا وقول الطبيب للخليفة اشرب كذا أمرا لا التماسا اعتقد استعلاءه عليه وطلب امتثاله لأمره وقول الرجل لولده افعل ولخادمه أمر لأن له علوا عندهما والحاصل أنه لا بد من استعلاء الأمر فيما يؤمر به فإن كان له علو عند المأمور فلا إنكار لما صدر عنه ويلومه العقلاء على عدم امتثاله وهو الذي شمله النظم
والعجب من العراقي وغيره في إبطالهم الاستعلاء مستدلين بأن كثيرا من أوامر الله في غاية اللطف ونهاية الاستجلاب لاقترانها بتذكير نعمه نحو قوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا الآية ونحو فاتبعوني يحببكم الله وغيرهما مما لا يحصى
ووجه التعجب أن أوامر الله كلها صادرة عن العلو رتبة بلا ريب وعن الاستعلاء فإنه الأحق بذلك إلا أنه لا يقال في تفسيره عد نفسه عاليا واعتقدها كذلك بل بمعنى أنه أهل لذلك الاستحقاق وأما قرنه أوارمه بتذكير نعمه فليس لأنه ولا استعلاء بل ذكر ذلك عقب الأمر من باب بل الأمر وقع بلفظ افعلوا ثم اتبعه بدليل يزيدهم بعثا على طاعته وإبانة لمنافع ما أمر به
وقول الناظم يريد ما تناوله إشارة إلى مسألة معروفة وذلك أن صيغة افعل وردت للتهديد والالتماس والدعاء والأمر قالوا فبماذا يصير الأمرا أمرا فاختلف قي ذلك و الذي اختاره الناظم أن مرجع الأمر إلى حدوث الصيغة وإرادة محدثها المأمور به فيعين كونه أمرا إرادة المأمور به حتما ويكفي الصيغة في كونه أمرا لأنها حقيقة فيه وفي المطولات تطويل قليل التحصيل لوما اختلف العلماء في صيغة الأمر هل وضعت للإيجاب أو لغيره فأشار إلى ذلك قولنا ... وهو مفيد للوجوب شرعا ... على الذي تختاره ووضعا ...
هذا التصريح بأنه وضع حقيقة للوجوب لغة وبه وردت الشريعة وهذا قول الجمهور وفيه إثنا عشر قولا مبسوطة في المطولات والذي اخترناه هو الأقوى دليلا كما أفاده قوله ... فالعقلاء تذم من لم يمتثل ... أمرا لمولاه وأيضا نستدل ... بأنه ما زال هذا في السلف ... فكان إجماعا تلقاه الخلف ...
تقرير الدليل أن العقلاء من أهل اللسان العربي قبل ورود الشرع يذمون العبد إذا لم يمتثل أمر سيده ويصفونه بالعصيان وبلغتهم نزل القرآن ووردت السنة النبوية والذم والوصوف بالعصيان إمارة اللزوم والثبوت ولا يراد
من الوجوب إلا ذلك وهذا دليل عقلي لأن إدراك حسن هذا الذم عقلي وإن استفيد من موارد اللغة فلهذا نسب الذم إلى العقلاء إشارة إلى أنه عقلي
ثم أشرنا إلى الدليل الشرعي بقولنا وأيا نستدل أي ونرجع بعد إقامة الدليل الأول إلى إقامة الدليل الثاني وهو الشرع وتقريره أنه تكرر من الصحابة الاستدلال بأوامر الشرع على الوجوب وتكرره أمر لا ينكره إلا مباهت وشيوعه بينهم كذلك وهو المراد من الإجماع والقول بأنه إجماع سكوتي قد سلفت فيه المناقشة وجوابه أنه يفيد الظن في إثبات هذا الأصل بلا تردد ولا فرق بين إثبات الأصول بالدليل الظمني و القطعي من حيث و جوب العمل و قد قررناه في مواضع و الدليل الفرق وهذا أمر معروف عند كل عاقل من متشرع وغيره بأنه إذا أمر الرجل من له أمره وخالفه ذمه كل واحد واستحسنوا تأديب الآمر لمن عصاه وهذا شيء يكاد أن يكون فطريا يعرفه من يميز قبل تكليفه واستدل بآيات قرآنية مثل قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك أي بقولنا اسجدوا لآدم فإنكاره تعالى على إبليس وذمه ولعنه وطرده دليل على أن افعل ونحوه إذا اطلق يفقد الإيجاب ولما قررناه أن الأمر للإيجاب حقيقة واخترناه أبنا أنه يستعمل في معان كثيرة مجازا ... وقد أتت صيغته مجازا ... في غيره قد تركت إيجازا ...
لما ذكر أئمة الأصول أنها تأتي صيغة الأمر لمعان مجازية وتعرضوا في المطولات لذكرها حتى بلغ بها الفاضل البرماوي في منظومته وشرحها إلى أكثر من ثلاثين نوعا وعد أمثلتها أشرنا إجمالا إليها وتركنا التفاصيل للإيجاز كما قلنا ولأنه قد علم من القواعد أن المجاز موضوع بالنوع فإذا وجدت العلاقة والقرينة جاز استعماله فالتعرض لعد أفراده بعد ذلك شغل للأوراق
بتفاصيل الأمثلة قد أغنت عنها القاعدة بالاتفاق فلذا لم نتعرض لشيء من الأمثلة فإنها لا تهم الأصولي من حيث إنه باحث عن القواعد التي تستنبط منها الاحكام إنما يهم الأصولي معرفة مثل هل هو للتكرار أو المرة كما أفاده قولنا ... وما على المرة والتكرير ... يدل فيما اختير للجمهور ...
فإنها مسألة اختلف فيها فيما إذا أورد الأمر مطلقا عن قيد المرة والتكرير فقيل لا يدل على مرة ولا تكرار بل يدل على مجرد الطلب من غير دلالة على شيء زائد إلا أنه لا يتم الامتثال وإخراج المطلوب إلى حيز الوجود إلا بالمرة فهي من لوازم الامتثال لأنه يدل عليها الأمر بلفظه ووضعه وهذا هو ما اختاره الناظم وعليه جماهير أئمة التحقيق من الفرق كلها ولذا عزاه الناظم إلى الجمهور والدليل على المختار أن الأوامر المطلقة الشرعية ترد تارة للتكرار كأوامر الصلاة وأخرى بالمرة كالحج وهكذا الأوامر العرفية نحو قولك ادخل الدار فإه يراد مرة واحدة ونحو احفظ الدابة فإن غرضه دوام الحفظ لها فإذا تقرر هذا فإنه يكون موضوعا بالقدر المشترك بين المرة والتكرار وهو طلب إيقاع مطلق الفعل مع قطع النظر عنهما دفعا للاشتراك إذا كان حقيقة فيهما وللمجاز إذا كان حقيقة في أحدهما إذ كل منهما خلاف الأصل و قد أورد عليه أنه إذا كان وضعه لمطلق الطلب ثم استعمل في أحدهما كان مجازا إذ هو خلاف المدعي وأجيب عنه بأنه قد تقرر أن استعمال المطلق في المقيد ليس بمجاز وإلا لزم أن يكون إطلاق الضمائر وغيرها من الموضوعات الكلية واستعمالها في خاص من المجاز ولا قائل به لأن
الوضع وإن كان عاما فالموضوع له خاص فاستعماله في بعض أفراده استعمال فيما وضع له ومن الأدلة على المختار أن الأوامر الشرعية إذا أريد منها التكرار قيدها صلى الله عليه و سلم كالأوامر الواردة في الصلاة فإنه يقيدها بذكر كل يوم وليلة حيث أريد تكررها وكذلك أهل اللسان من العرب لا يفهمون إلا إيجاد الفعل ألا ترى أنه لما أمر صلى الله عليه و سلم بإيجاب الحج سألوه ألعامنا هذا نحو ذلك مما أقرهم صلى الله عليه و سلم ومنها وهو لابن الحاجب أن مدلول الصيغة طلب مطلق الفعل والمرة ونحوها خارجان عن حقيقته فيجب حصول الامتثال لإيجاد الحقيقة مع أيهما كانت ولا يتقيد بأحدهما دون الآخر وإلا كان تحكما واعترض بأن الدليل غير الدعوى إذ لم يقع النزاع إلا في ذلك فإيراده المصادرة وأورد أيضا ابن الحاجب دليلا آخر للجمهور وهو معترض أيضا وفيما ذكرناه غنية في ظهور كلام الجمهور فإنه أقرب الأقوال دليلا فأتى فيه أربعة أقوال الأول ما ذكرناه والثلاثة معروفة في المطولات ... ولا على فور ولا تراخي ... قال بهذا جلة الأشياخ ...
عطف على قوله وما على المرة الخ أي ولا تدل صيغة الأمر على طلب فعل المأمور به فورا أي عقب بلوغ صيغة الأمر إلى المأمور ولا على خلافه وقد اختلف في ذلك فقال الإمام يحيى والمهدي والقرشي إنه لا يدل على غير مطلق الطلب يعني طلب الفعل وإليه ذهب الرازي والآمدي وابن الحاجب
وقالت المالكية وبعض الحنفية والحنابلة وجماعة من الشافعية قال القاضي حسين وهو الصحيح من مذهبيهم وإليه ذهب الهادي وجماعة من الآل إنه يدل على الفور فيجب فعله في أول أوقات الإمكان بعد سماع الأمر وفهم المراد به وإن أخر وجب فعله في الوقت الثاني وكان بالتأخير آثما
ومن قال إنه للتراخي فمعناه أنه لا يجب الفور لا بمعنى أنه يجب التراخي حتى لو أتى به فورا لم يكن ممتثلا قال البرماوي بعد نقله هذا القول مقتضاه أنه لا يكون المبادر ممتثلا أو يتوقف فيه وهذا بعيد وكلام أكثر النقلة أن المراد بالتراخي عدم الفور فهو راجع إلى القول الأول إنه لا يقتضي فورا ولا تراخيا والأول هو الراجح من الأقوال كما أطلقه الناظم ودليله هو ما تقدم من الدليل على المختار في عدم دلالته على التكرار وحاصله أنه لا يفيد سوى طلب مطلق الفعل من دون إشعار لمرة وتكرار أو فور أو تراخ وإذا استفيد شيء من ذلك فبقرائن خارجية واستدل القائلون بالفور وأنه لو جاز التأخير لكان إما إلى غاية معينة وهذا خروج عن محل النزاع إذ يصير من المقيد أو إلى غاية محدودة بظن المأمور فوات الأمر إن لم يفعل المطلوب وهذا قد لا يقع لكثير لغلبة الأمر وهجوم الأجل فيؤدي إلى خروج الواجب عن مقتضاه وهو التحتم وإما أن يجوز تأخيره إلى غير غاية من غير بدل كان تكليفا بما لا يطاق لجهالة الوقت أو مع بدل وهو إما العزم وقد عرف في الواجب الموسع أنه لا يجب أو الوصية وهي لا تعم جميع الواجبات الشرعية فكثير من العبادات لا تصح الوصية بها وإذا بطل كل هذه الأطراف التراخي وتعين الفور وأجيب بأنه يختار الطرف الثالث ولا يلزم أنه من تكليف ما لا يطاق لأنا لم نقل بوجوب التأخير مع جهالة الوقت حتى يجب التعيين بل نقول بجواز تأخيره ولا يلزم منه ذلك إذ يمكنه امتثال الأمر في أي وقت شاء
قلت وفيه تأمل قيل والتحقيق في المسألة أنه قد ثبت أن الأمر للوجوب ومن شأنه الذم على تركه والقول بالتراخي يقتضي ارتفاع الذم إلا في حالات نادرة وهو ظن الموت ويلزم ارتفاع الوجوب عن أكثر الأوامر
وهو ينافي كون الأمر للوجوب على ما هو المختار فالحق أنه إذا ثبت كون الأمر للوجوب ثبت أنه للفور لا من حيث الوضع بل لكونه من لوازمه كما قيل في دلالته على المرة لأن الوجوب يستلزم الذم بالترك كما يستلزم المدح بالفعل ولا نسلم ارتفاع الذم مع التراخي وإن لم يحصل ظن الموت كما يقضي بذلك استدلالهم بذم أهل اللسان من لم يمتثل أمر سيده كذا أفاده بعض محققي المتأخرين وأقول لا يخفى أنه قد يقال الترك الملزوم للذم هو ترك العازم على أن لا يفعل ما أمر به وأما التارك لأن وقت الطلب لا يتعين بل مسافته العمر فإنه غير مذموم ولا هذا هو الترك المأخوذ في رسم الواجب فيتأمل
والحق أنه لا يخلو أمر عن القرينة الدالة علىأحد الأمرين مثل أمر الكافر أن يقول كلمة التوحيد وإلا ضرب عنقه فوري بلا ريب وأمره بإقامة الصلاة إن كان قبل دخول وقتها فهو أمر مقيد بدخوله وإن كان بعده ففوره فعلها في آخر وقتها الموسع ويجري مثله في الصوم والزكاة فهذه كلها من الأمر المقيد وليس من محل النزاع وكذلك الحج على المستطيع من المؤقت يجب عند دخول أو شهوره مضيق على من لم يبلغ قضاء مناسكه إلا بسفره من أول يوم من شوال موسع لمن لم يدركه ولو في ثامن الحجة كالمكي فيتضيق في الثامن أو التاسع إذ أول مناسكه له الوقوف بعد الإحرام وهو يدركه في التاسع وقس سائر الأوامر عليه ولذا قلنا ... لكن له قرائن تفيد ...
استدراكا من الأربعة المنفية والمعنى أن المختار في الأمر المطلق
هو ما ذكرناه من عدم الدلالة من حيث هو على أحد الأربعة أي الفور والتراخي والمرة والتكرار لكن إذا قيد الأمر بما يقتضي أحد الأربعة عمل به وقرائن الكل واسعة فللتكرار نحو التعليق على علة نحو قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا فإنه يقتضي التكرار اتفاقا للإجماع على اتباع العلة المنصوصة وذلك إذا كانت العلة مناسبة كالآية بخلاف قوله إن دخلت هند الدار فطلقها فإنه يقع الطلاق من المأمور مرة واحدة فلو تكرر دخولها وطلقها في كل مرة لم يقع اتفاقا وذلك لأنه ينحل الشرط ويرتفع الأمر بارتفاع المأمور به ولا يتكرر لو أتى بكل ما أو متى على رأي وأما الآية فمقتضى التكرار إنما هو ما علم من الحكم الشرعي أن الجنابة توجب التطهير ثم عطف قوله ... ولا القضا من ذاك نستفيد ...
على قوله وما على المرة وهذا حكم من أحكام الأمر المقيد بالوقت والمراد أن القضاء للمأمور به المؤقت لا يستفاد من الأمر الذي ثبت به الحكم بمعنى أنه إذا خرج وقته يجب قضاؤه بل إنما يستفاد مما أفاده قولنا ... لكنه يعلم عند الناظر ... ويستفاد من دليل آخر ...
أي إن القضاء يعلمه الناظر ويستفيده من دليل غير دليل الأداء وعدم استفادته من دليل الأداء هو رأي الجمهور بل يستفاد من دليل آخر من نص أو قياس أو غيرهما وذهبت الحنابلة والحنفية والرازي وآخرون إلى استفادته من دليل الأداء واستدل الأولون بأن من قال لغيره صم يوم الخميس ولا يدل على صوم يوم الجمعة ولا غيرها بشيء من الدلالات فإثبات القضاء به إثبات لحكم شرعي بلا دليل وبطلانه واضح أجيب بأن قوله صم يوم الخميس تضمن شيئين طلب الصيام وكونه يوم الخميس فإذا فات الوقت بقي الأمر بالصيام فقد تضمنه الأمر الأول ودل عليه فلا يخرج المكلف عن عهدة الطلب إلا بالإتيان به وهو المطلوب
قلنا ليس الأمر بمجرد الصوم بل مقيدا بالوقت فإذا فات وقته كان موجبا لفواته لاستحالته الاستدراك المؤقت المطلوب فيه الفعل وأما ما قيل إن هذا مبني على أن الوقت قيد للمطلوب وليس كذلك بل قيد للطلب فإنه كلام باطل فإن الطلب لا بد وأن يتقدم زمنا على إيقاع المطلوب فما معنى تقييد الطلب بيوم الخميس مثلا وإن أريد أن طلب تنجيزه مقيد بيوم الخميس قلنا هذا أول المسألة فإنه إذا فات اليوم الذي طلب تنجيزه فيه فات المطلوب إذ قد صار اليوم جزءا منه هذا فيما إذا ورد الأمر بغير تكرر العطف وأما إذا تكرر الأمر بحرف العطف فهي مسألة أخرى أشار إليها الناظم بقوله ... وإن تكرره بحرف العطف ... أفاد تكريرا بغير خلف ...
أي بالاتفاق بين أئمة الأصول وذلك مثل أن يقول صل ركعتين وصل ركعتين وأما إذا قيل صل ركعتين وصل الركعتين فهما في الأول غيران لاقتضاء العطف المغايرة ولأنه حمل للكلام على التأسيس وهو أولى من التأكيد ولأن الشيء لا يعطف على نفسه إلا لتأكيد والتأسيس خير منه بخلاف الثاني فإنه تعارض فيه أمران كون اللام للعهد لتقدم المرجع ذكرا فيقتضي عدم التغاير وواو العطف تقتضيه ويأتي تحقيقه في شرح قولنا ما لم تقم قرينة التعريف
وقولنا بغير خلف هذا هو الذي نقله الأكثر ونقل صاحب الجمع والبرماوي في شرح منظومته خلافا في ذلك وما ذكرناه فالمراد أنه الأصل والمتبادر فإذا قامت قرينة على خلافه قدم ما قامت عليه نحو قولك اسقني ماء واسقني ماء واقتل زيدا واقتل زيدا فإن القرينة وهي اندفاع الحاجة إلى الشرب بمرة واحدة وعدم تعدد قتل زيد تقضي بأنه للتأكيد هذا إذا كان بحرف العطف أما إذا كان مع عدمه فقد أشار إليه قولنا ... أو كان تكريرا بغير عاطف ... على الذي يختار ذو المعارف
أي أو كان تكرير الأمر بغير حرف عطف أفاد أيضا تكرير المأمور به وهذا رأي الإمام يحيى والرازي قال الإسنوي ونقله في المستوعب عن عامة أصحاب الشافعي لأن كل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء ما تضمنه وهذا كله فيما لم يمنع مانع من الحمل على التأسيس وإلا فالحكم ما أشار إليه قولنا ... ما لم تقم قرينة التعريف ... أو غيرها فوفها واستوفى ...
أي حمل الأمر على التكرير إذا كان بحرف العطف أو بغيره إنما هو مقتض فإذا عارضه المانع وهو القرينة بالتعريف أو غيره كالعادة والعقل والشرع فالحكم هو الترجيح أو أنه لا يفيد التكرار بل يحمل على التأكيد وعبارة النظم تحتمل الأمرين وإن كان الثاني هو الأظهر بمناسبة التصريح بالتكرير فما سبق فالنفي متوجه إليه
ثم اعلم أن هذا النفي عائد إلى مسألتين معا وهما فيما كان بعطف أو بغيره ومثال ما قامت قرينة عقلية على عدم التأسيس قولك اقتل زيدا اقتل زيدا والشرعية أعتق سعدا أعتق سعدا فإن الثاني تأكيد بلا خلاف فإنه يستحيل التأسيس هنا عقلا وشرعا وأما ما لا يستحيل تكريره فقسموه إلى شيئين
الأول أن يكون بحرف العطف وله صور مع الأولى أن يتكرر الأمر بحرف التعريف في متعلقه نحو صل ركعتين وصل الركعتين فهنا قد تعارضا دلالة حرف العطف على التأسيس لإفادته المغايرة ودلالة التعريف العهدي على التأكيدي وحينئذ فيرجع إلى الترجيح فإن نظرنا إلى البراءة الأصلية رجحنا دلالة التعريف فيكون الثاني تأكيدا وإن اعتبرنا تحصيل مقصود الواجب رجح دلالة حرف العطف ومن هنا اختلف العلماء فقال
الجمهور إنه للتأكيد قالوا وقول من رجح خلافه لأجل تحصيل مقصود الواجب ترجيح للشيء بنفسه إذ تحصيل مقصود الواجب هو معنى التأسيس الذي حملوه عليه فكيف يرجح الشيء بنفسه قالوا وأما ترجيحنا بالبراءة الأصلية فإنه دليل مستقل وقال الرازي بل يحمل على التأسيس وتوقف أبو الحسين في ذلك للتعارض عنده
الثاني أن يكون الأول خاصا والثاني عاما نحو صم الجمعة وصم كل يوم اقتل زيدا الكافر واقتل كل كافر
والثالث عكسه واختلف فيه أيضا فقيل يحمل على التأكيد لأن الخاص قد شمله العام فلا يبقى للحمل على التغاير فائدة وفائدة الإتيان بالخاص منفردا العناية بشأنه والاهتمام بحكمه كما عرف في المعاني وقيل بل يكون تأسيسا لاقتضاء عطف المغايرة ولا فرق بين الأول وهذا إلا من حيث إرادة الخاص وقصده في صيغة العام هل تتناوله أولا وإلا فكل من القولين قد وجب معه ما تضمنه الأمران وتوقف أبو الحسين وتابعه الرازي في الوقف في هذا الظرف وهذا كله مع حرف العطف وأما مع عدمه فالحكم ايضا فيه ما في الذي مع حرف العطف من الخلاف
وإن كان الرازي هنا لا يتوقف بما إذا كان احدهما عاما والآخر خاصا بل حمله على التأكيد نعم يأتي في بناء الخاص على العام في مباحث العام ما يعطف عنان القول إلى هذه الأمثلة
وأما مسألة الأمر بالمطلق وهي مسألة ما لا يتم الواجب إلا به وأنه يجب بوجوبه فقد أفادها قولنا
والأمر إن وفا إلينا مطلقا ... من غير شرط فاتبع لك البقا ... محصلا ما أنت مأمور به ... بشرطه المقدور فلتنتبه ... فإنه ما لا يتم الواجب ... إلا به فمثله قد أوجبوا ...
اعلم أن هذه المسألة ترجمها الأصوليون من الفريقين بقولهم ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا يجب كوجوبه وفيها أمران
الأول إن الأولى أن يقال ما لا يتم الواجب إلا به يجب بدليل أصله فإنه مرادهم ولم تفده عبارتهم
الثاني قولهم وكان مقدورا لا يحتاج إليه إلا من يقول بجواز تكليف ما لا يطاق ولا يقدر عليه والمعتزلة ومن على رأيهم لا يقولون به وقد نبهنا على هذا في حواشي شرح الغاية
هذا وإنما عدلنا في الترجمة إلى قولنا والأمر إلخ من قولهم ما لا يتم الواجب إلا به لأن تقييدهم للواجب بالمطلق حيث قالوا ما لا يتم الواجب المطلق وفسروا الإطلاق بما لا يكون مقيدا بما يتوقف الوجوب عليه قالوا فخرج بقولهم المطلق المقيد بما يتوقف الوجوب على نحو ذلك إن ملكت النصاب وحج إن استطعت فالتقيد بذلك لا يقتضي إيجاب تحصل ملك النصاب وشرط الاستطاعة فورد عليهم أنه لا معنى لإخراج ما ذكر لأنه لم يدخل فإن الكلام فيما لا يتم الواجب إلا به كما هو عنوان الترجمة لا فيما لا يتم الوجوب إلا به فلم يدخل حتى يخرج بخلاف قولنا والأمر فإنه شامل لهما كما لا يخفى فيكون للتقييد فائدة وهو قولنا مطلقا وقولنا من غير شرط بيان لمعنى مطلقا
وإذا عرفت هذا فالذي يتوقف عليه الواجب ويحصل الامتثال بفعله قد يكون جزءا من المطلوب كالسجود والركوع في الأمر بالصلاة فهذان يجبان
بما وجبت به اتفاقا إذ هما من ماهيتها وقد يكون خارجا عنه وذلك كالسبب والشرط وهما محل الخلاف ففيه أقوال
الأول الذي أفاده النظم وهو وجوب المقدمات التي لا يتم الواجب إلا بها بما وجب به السبب والشرط اللذان هما الأصل في الطلب قالوا سواء كان شرطا عقليا أو عاديا أو شرعيا وذلك كالوضوء للصلاة بعد العلم بأنها لا تصح إلا به فإذا ورد أمر بالصلاة ساكتا عن الوضوء وجب الوضوء بإيجابها ثم اختلفوا هل دلالته عليه تضمنية أو التزامية ذهب إلى الأول إمام الحرمين واستبعد وإلى الثاني الجمهور وقد أشار إليه النظم بقوله فإنه ما لا يتم إلى آخره وتقريره أن إيجاب الشيء يقتضي المنع من تركه وعدم إيجاب ما لا يتم حصوله على الوجه المطلوب إلا بحصوله يقتضي جواز تركه والفرض أنه ممتنع هذا خلف ودلالته عليه بطريق اللزوم إذ طلب المشروط الذي لا يتم إيجاده إلا بوجود الشرط يستلزم طلب الشرط ومثله السبب يجري فيه هذا التقرير
الثاني أنه لا يجب شيء من المقدمات لأن دليل الإيجاب ساكت عنه
الثالث يجب السبب دون الشرط وهو تفريق بلا دليل
الرابع يجب الشرط الشرعي دون غيره
وقد أطال صاحب الفواصل نقله أدلة هذه الأقوال والردود عليها وقد كنا عند عرضه رحمه الله لما يكتبه من شرحه علينا كتبنا ما لفظه
اعلم أن هذه المسألة طالت من غير طائل وإن أثبتها كل إمام فاضل فإنه لا يخفى أن كون الشرط الشرعي لشيء شرطا والسبب له سببا لا تثبت شرطيته ولا سببيته إلا بدليل مستقل دال على الشرطية والسببية اتفاقا وإلا كان من إثبات ما لا دليل عليه وإذا قام الدليل على ذلك لم نفتقر بعد ذلك إلى النظر
في أن دليل المشروط والمسبب يشمله أو لا فإنه على تقدير شموله له لم يدل عليه إلا بأضعف الدلالات وقد أغنانا الله تعالى بالدليل الصحيح المطابقي عن دليل ضعيف لا يعدل إليه كما لا يعدل إلى التراب مع وجود الماء فإنه غاية ما فصله بحث الأفاضل أن دليل الإيجاب للأصل يشمله إيجاب شرطه وسببه بدلالة الإشارة واللزوم فما أقل جدوى هذه الأبحاث فإنه لو لم يقم دليل خارج على الشرطية والسببية ما علمنا للمطلوب شرطا ولا سببا ولذا قالوا فيما قدمنا في الشرط الشرعي كالوضوء بعد العلم بأنها لا تصح أي الصلاة إلا به انتهى
وإذا تكرر هذا فلا حاجة إلى استيفاء ما قيل بل لا حاجة إلى ذكرها بالإيجاز فضلا عن التطويل وقد أقره تلميذنا رحمه الله تعالى في شرحه في آخر البحث كما رقمناه وهذه مسألة كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعكسه والخلاف فيهما أشار إليه قولنا ... ولا يكون الأمر نهيا ذكرا ... عن ضده والنهي ليس أمرا ...
اختلف في الأمر المعين هل يكون نهبا عن ضده الوجودي يعنى المستلزم للترك لا الترك مطلقا وبالعكس ولا يتوهم أن الخلاف في لفظهما فإنه معلوم بالضرورة أنهما غيران للقطع بالفرق بين لا تفعل وافعل ولا في مفهومهما بمعنى أن صيغة لا تفعل موجودة في افعل للقطع بالتغاير أيضا وإنما الخلاف في أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الوجودي ويدل عليه مثلا نحو لا تسكن هل هو في قوة تحركه وبعكسه سواء كان له ضد واحد أو متعدد ولا ريب انه إذا قال السيد لعبده قم وهو قاعد فاستمر على قعوده وقال لم تنه عن القعود لامه العقلاء وعدوه عاصيا وعدوا الولد بذلك إن أمره أبوه عاقا وهذا هو الدليل على الذي جعلوه قاضيا بأن الأمر في الأصل للإيجاب فما لاموه وحسن لومه عند العقلاء إلا لأن أمره بالقيام يستلزم نهيه عن القعود ولذا قيدنا ذلك بقولنا ذكرا فإنه من حيث الذكر ليس هنا نهي قطعا ومفهومه أنه من حيثية أخرى هي الاستلزام
ثم إنه لا يعزب عنك أن محل الخلاف في الأمر الفوري كما صرح به جماعة من المحققين فينحصر في الواجب المضيق ولم يقيد الناظم الأمر بالمعين لتبادره وإنما قيده في الشرح بالوجودي ليخرج به الترك مطلقا إذ لا خلاف في أن الأمر نهي عن تركه ولا شك في كون الترك ضدا له ولكنه غير مراد في المقام بل المراد الضد الذي يحصل معه ترك المأمور من الأمور الوجودية لا الترك مطلقا إذ لا بد من ملاحظته بلا خلاف
وقد أطال في الفواصل بذكر ما في المسألة من الخلاف ولا حاجة إلى تفصيله بعد ظهور الأقوى بدليله وفي نجاح المطالب إن هذه المسألة مبنية عن القول بأنه لا تكليف إلا بفعل لا على القول بأنه يصح التكليف بنفي الفعل
وهذه إشارة إلى مسألة اختلف فيها العلماء وهي هل التكليف في النهي بفعل أو لا فقال الجمهور بالأول وإنه كف النفس وقيل إنه فعل ما يضاده فلا تضرب معناه إفعل ما يضاد الضرب وأما القول بأنه نفي الفعل فهو عائد إلى الأول
واستدل الأولون بأن التكليف إنما يتعلق بما هو مقدور ونفي الفعل عدم وهو حاصل قبل توجه النهي وطلب تحصيل الحاصل محال
وأجيب بأن المطلوب استمرار ذلك العدم وهو استمرار واقف على اختيار المكلف وليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي بل عدم مخصوص يصح أن يتوقف على الاختيار ويتعلق به إثر قدرته فإن المكلف قادر يتمكن من أن لا يفعل فيستمر العدم أو يفعل فلا يستمر فصح أن العدم من هذه الجهة إثر قدرته إذ الاستمرار الموقوف على اختياره ليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي بل هو عدم مخصوص متوقف على اختياره فليس هو عدما محضا ومن هنا تعرف أنه لا فرق بين كون مطلوب النهي الكف أو نفي الفعل إذ النفي
المراد هو الموقوف على اختيار الفاعل ولا يكون إلا بانتهائه وامتناعه عنه وقوله ... هذا الذي رجح كل فاضل ...
إشارة إلى ما سلف وأنه الراجح عند أفاضل النظار
ولما فرع الناظم من باب الأمر أخذ في النهي فقال ... فصل وحد النهي قول القائل ... لغيره لا تفعلن مستعليا ...
قد تبين لك فوائد القيود مما قدمناه في شرح رسم الأمر فلا نكرره ... يكره ما عنه نهي مقتضيا ...
ضمير يكره عائد على القائل وهو النهي وهو بيان لعلة النهي وإنها كراهة هيئة إيقاع المنهي عنه وهو لا يخلو عن فائدته وكان غير محتاج إليه قولهم مقتضيا حال من النهي أو من لا تفعلن وقولنا ... مطلقه الدوام لا المقيد ...
هو فاعل مقتضيا ولا المقيد عطف على مطلقه والكل إشارة إلى مسألتين
الأول اقتضاء النهي الدوام وأنه يخالف الأمر في ذلك فإنه تقدم اختيار أن الأمر لا يدل على التكرار والفور بخلاف النهي المطلق فإنه دال على الدوام المختار وإذا دل عليه اقتضاء التكرار والفور واقتصر على التعبير بالدوام لإغنائه عن التصريح بالتكرار فإن اقتضاء الدوام يلزمه إفادة التكرار والفور ولم يقل دالا عوضا عن مقتضيا إشارة إلى أن ذلك من ضرورة النهي ولازمه لا أنه من صيغته ألا ترى إذا قلت لزيد لا تسافر فقد منعته من إدخاله ماهية السفر في الوجود فلا يتحقق امتثاله إلا بعدم إتيانه بجميع
ما يصدق عليه ماهية السفر فلو وقع في الخارج أي فرد من ذلك كان مخالفا لمقتضاه نهيه ولا يخفى أنه من الدلالة الالتزامية وهي عقلية عند الجمهور ولذا قلنا مقتضيا ولم نقل دالا من الدلالة اللفظية ومن جعله منها عبر بدالا
فإن قيل النهي المطلق يعم الأزمان والاحوال جميعا فلا يفيد الدوام إذ الامتناع في الجملة يحقق الامتثال بصدقه بأنه قد امتنع عنه وأما دوام الامتناع فإنما يقتضيه لو قيد بالدوام قلنا صيغة لا تسافر في قوة لا توجد سفرا فهو في معنى النكرة في سياق النفي تفيد العموم كما يأتي
وقد استدل ابن الحاجب ومن تبعه بالإجماع فإنه لا يزال العلماء يستدلون بالنهي على الترك مع اختلاف الأوقات لا يخصونه بلفظ دون لفظ وشاع بينهم وذاع ولم ينكر فكان إجماعا ولولا أنه يقتضي الدوام لما صح ذلك
واعلم أن هذا مختار الجمهور للدليل الذي عرفته وذهب الأقل إلى أن النهي لا يقتضي الدوام إلا بقرينة ثم اختلفوا أيضا فقيل إنه كالأمر في اقتضاء المرة واستدلوا بأنه قد يراد به التكرار نحو لا تقربوا الزنا وقد يراد به المرة كما يقول الطبيب لمريض شرب الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة قالوا والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون النهي حقيقة في القدر المشترك ورد بأن ما ذكرتم من المثال إنما اقتضى عدم التكرار وجود القرينة فهو مجاز ومع ظهور القرينة يتعين الحمل عليه وإلا لامتنع وجود المجاز واستدل الجلال في شرح الفصول للقول المرجوح بأن النهي لدفع المفسدة في الفعل والمفاسد كالمصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص وإلا لما جاز نسخ المناهي ولا تبديل الشرائع وأجيب عنه بأنه ليس المدعى أنه يقتضي الدوام البتة حتى
يمكن التبديل والتحويل بل ذلك بحسب ظاهره فلا ينافيه النسخ لاختلاف الأحوال والأزمان بل قد يقال هذا النسخ والتبديل دال على اقتضاء النهي الدوام هذا كله في النهي المطلق
وقولنا لا المقيد إشارة إلى المسألة الثانية وهي أن النهي يكون مطلقا كما عرفت ومقيدا بشرط أو صفة ونحو ذلك فإذا قيد لم يقتض الدوام نحو لا تكرم زيدا إن كان جاهلا ولا تهن العالم واختلف العلماء أيضا هنا فمال جماعة كأبي عبدالله البصري والمهدي في المعيار إلى هذا وذهب الجمهور إلى أن المقيد يفيد الدوام أيضا إذ التقييد لا يخرجه عن مقتضى وضعه وفي شرح المعيار للمهدي ما يقتضي أنه اختار هذا فإنه قال والأقرب عندي في المطلق أنه يقتضي التأبيد من جهة اللفة كما تقدم تحقيقه وأما المقيد فالأقرب أن الشرط إذا تضمن معنى التعليم اقتضى معنى الدوام نحو لا تدخل الحمام ان لم يكن صعك مئزر فإنا نفهم ان العلة فيه هو كراهة كشف العورة فيستمر ذلك مهما حصلت العلة وان لم يفهم معنى التعليم نحو لا تدخل المسجد إن كان زيد في الدار اعتمد على ما فهم من مقصد الشارط فإن لم يفهم شيئا فالظاهر الدوام كالمطلق إذ تقديره لا يكن منك إيجاد دخول المسجد وزيد في الدار وهذا يقتضي عموم الأوقات فكذلك ما في معناه وهذا التفصيل عائد إلى تصحيح ما قاله الأكثر من أنه للدوام إلا لقرينة انتهى والذي قاله الجمهور هو الأظهر لأن التقييد لا يخرجه عن الدوام وأما المثالان المذكوران فإن النهي فيهما لا يقتضي الدوام بل هو مقرون بوجود العلة التي عللت عليه
وهو على القبح دليل يوحد ...
هذه مسألة أن النهي يدل على قبح المنهي عنه فكلمة على متعلقة بدليل وهو معنى أنه للتحريم ولذا عبرنا بالقبح لأن الكلام في مقتضاه لغة كما ستعرفه من دليل هذا القول بخلاف التحريم فهو شرعي وإن كان هو لا بد له لكن الكلام في مقتضاه لغة وكونه للقبح هو كلام الجمهور مستدلين بذم العقلاء من أهل اللسان العربي إذ العبد خالف نهي سيده وإجماع السلف على الاستدلال للتحريم بمجرد النهي إذا تجرد عن القرائن وتقدم تحقيقه في بحث الأمر
وقيل بل النهي حقيقة في الكراهة توهما من قائله أنه إنما يدل على مرجوحية ترك النهي عنه لا على سبيل التحتم وهذا لا يقتضي التحريم وجوابه أن الذم من خصائص القبح والمكروه لا ذم على من أتاه ولأن السابق إلى فهم اللسان العربي بحسب الظاهر عند التجرد عن القرائن هو القبح المستلزم للذم ومن ثم يستدل به على التحريم وقيل مشترك بينهما لاشتراكهما في رجحان الترك فجعله لأحدهما دون الآخر تحكم ورد بما سمعته قريبا ... في ذلك المنهي لا الفساد ... واختار ذا جمع من النقاد ...
وقولنا في ذلك المنهي يتعلق بيوجد أي يوجد القبح في المنهي عنه بعينه وقوله لا الفساد عطف على القبح أي لا أنه دليل على فساد المنهي عنه وهذه مسألة أن النهي هل يدل على فساد المنهي أو لا وهي مسألة خلاف بسيطة التقاسيم والأطراف والذي في النظم أنه عند نقاد العلماء لا يدل النهي على فساد المنهي عنه في العبادات ولا المعاملات وهذا القول ذهب إليه جماعة ونقل عن أكثر أهل الأصول ودليلهم أنهم قالوا معنى الصحة في العبادات أنها فعلت على وجه لايجب معه القضاء ومعنى الفساد فيها وجوب قضائها لفعلها على غير ذلك الوجه
وأما في المعاملات فمعنى الصحة حصول الملك ونفوذ التصرف فيها على جميع الوجوه والفساد بعكس ذلك قالوا ومعلوم أن النهي لا يدل على شيء من تلك الأحكام وإنما يدل على كون المنهي عنه قبيحا ومكروها ومحظورا وكل هذه الألفاظ لا تقتضي الفساد وأجيب عنه بسؤال الاستفسار وهو ما مرادكم بنفي دلالته على الفساد هي بالمطابقة أو التضمن فمسلم وإن أردتم بالالتزام فممنوع على أنكم قد سلمتم أنه يدل على أنه محظور والمحظور ممنوع عنه شرعا وكل ممنوع منه غير صحيح ضرورة أن الصحيح مأمور به لا ممنوع عنه فالممنوع عنه فاسد
وذهب جماعة كأبي طالب وجمهور الشافعية والمالكية والظاهرية إلى أنه يدل على الفساد مطلقا مستدلين بأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزالوا يستدلون بالنهي على فساد كل مفعول قد نهى عنه الشارع من عبادة ومعاملة مستدلين بأن الشارع نهى عنه في مثل لا تأكلوا الربا وذروا ما بقي من الربا والأنكحة مثل ولا تنكحوا المشركات والبيوع لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تصل حائض إلا بخمار وغير ذلك فكان إجماعا منهم كما سبق نظيره في الاستدلال على حجية الإجماع وكون الأمر للوجوب وبأنه لو لم يدل على الفساد لزم من نفيه حكمه للنفي يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمه للصحة تدل عليها الصحة فمع تساوي الحكمتين أو مرجوحية حكمية النهي يمتنع النهي لخلوه عن الحكمة لتساقط الحكمتين مع التساوي وسقوط الحكمة المرجوحة
إليها أيضا مع الراجحة ومع رجحان حكم النهي يمتنع الصحة
وهذا القول يظهر أنه أرجح من الأول ومن غيره من التفاصيل المعروفة في كتب الأصول ويؤيد ما ذهبنا إليه الحديث الصحيح وهو كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ومعلوم أن المنهي عنه ليس عليه أمره صلى الله عليه و سلم فهو مردود من عبادة ومعاملة وكل مردود لا نفوذ لحكمه فهذا هو الحق وقد تقوم قرائن تصرف عن المقرر فلا تنافيه
ولما انتهى لنا القول في الباب الخامس أخذنا في البحث في الباب السادس فقلنا
الباب السادس في العام والإطلاق ... سادسها في العام والإطلاق ... وضد ذين فاتبع إطلاق ...
أي سادس أبواب الكتاب المنظوم في مسائل العام والإطلاق أي المطلق الآتي بحثه وقوله وضد ذين أي خلاف العام وهو الخاص وخلاف الإطلاق وهو التقييد فقد افاد النظم أن في الباب اربعة أبحاث
العام وهو اسم فاعل من عم الشيء يعم عموما فهو عام والعموم في اللغة شمول أمر لمتعدد فهو أمر معنوي وبحث الأصولي عن الأمر الذي استفيد منه العموم وهو العام ولذا أتى به الناظم وعرفه بقوله ... فالعام ما استغرق صالحا له ... من غير حصر قد عزا مدلوله ...
فكلمة ما جنس الحد وعدل عن قول الأصل لفظ للإشارة إلى ان العموم يكون أيضا من عوارض المعاني وقولنا استغرق صالحا له أي تناول ما يصلح له دفعة كما يشعر به لفظ الاستغراق الدال على الشمول والإحاطة بجميع ما يصلح له فالتقييد بدفعه الذي يأتي به الأصوليون في تعريف العام قد أفاده التعبير باستغرق ووجهه أن قوله ما استغرق يشعر ما يطلق عليه
ويصلح له فالنكرة في الإثبات مفردة ومثناة وجمعا واسم الجمع كقوم ومراتب الأعداد كعشرة لا استغراق فيها كلها لما تصلح له على جهة الإحاطة بل على سبيل البدلية كرجل يتناول كل فرد على البدلية فلما قلنا استغرق ما يصلح له خرج ما ذكر وعلم أنه لا يكون الاستغراق إلا دفعة
فإن قلت نحو المسلمين والرجال معرفين بلام الاستغراق عمومها بالنظر إلى تناول كل جماعة لا الآحاد فلا يتناولان كل فرد فرد فلا يتم دخولهما في التعريف وهما من ألفاظ العام قلت الحق أن التعريف الاستغراقي في الداخل على الجمع قد سلبه معنى الجمعية كما عليه أئمة التفسير وكثير من المحققين فهو كالرجل معرفا بها يدل على كل فرد فرد
وقولنا من غير حصر فصل آخر لإخراج اللفظ المشترك إذا استعمل في جميع معانيه فإنها محصورة وفيه نزاع واختلاف ومرادنا من غير حصر يدل عليه اللفظ لا في الواقع فإنه قد يكون العام محصورا كالسماء والأرض وعلماء البلد
واعلم أنه اشتهر بين علماء الأصول إشكال أورده القرافي حاصله أن دلالة العام على كل فرد فرد من أفراده كما قلتم مشكل لانحصار الدلالات بالثلاث ودلالة المشركين في فاقتلوا المشركين مثلا على زيد المشرك لا تصلح أن تكون من أي الدلالات الثلاث أما المطابقة فظاهر لأن زيدا المشرك ليس تمام ما وضع له لفظ العام والتضمن دلالة اللفظ على جزء معناه والجزء لا يصدق إلا إذا كان المسمى كلا وقد تقدم أن دلالة العام على سبيل العموم والاستغراق لكل فرد فليس هو بكل والالتزام الدلالة على أمر خارج وزيد المشرك ليس بخارج عن معنى العام بل داخل قال فأما أن
يبطل حصر الدلالات اللفظية في الثلاث وإما أن لا يكون العام دالا على شيء من أفراده فلا يتم أنه دال على كل فرد فرد كما هو المدعى
وقد اضطرب الأئمة في حله بما هو مودوع في كتب الأصول
والذي يظهر لي وإن لم يتنبه له أحد هو أن هذا الإشكال وإن أطال الأئمة فيه المقال يفتقر إلى تأمله فإنه قال القرافي الذي أورده إنه لا يدل لفظ اقتلوا المشركين على قتل زيد المشرك إلى آخر كلامه جوابه أن يقال إن أردت أن لفظ المشركين لا يدل على قتل زيد بأي الثلاث فهذا مسلم ولا شك فيه ولا إشكال به وإن أردت أنه لا يدل على المشركين فهذا لا يقوله من يفهم الدلالات ضرورة أنه من إفراد جمعه وأنه يدل عليه تضمنا لأنه جزاء الموضوع له لفظ جمعه
وإذا عرفت هذا فزيد المشرك ما أمر بقتله لكونه زيدا ولا دل لفظ المأمور بقتلهم عليه بل دل اللفظ على الأمر بقتل المشركين واتفق أنه عرف أحد أفراده في الخارج بأنه زيد فكونه زيدا لسنا مأمورين بقتله ولا دل عليه الأمر ولا توجه إليه الخطاب إلينا بقتله بل ولا هو من إفراد العام الذي صدر بحث الإشكال به بل فرده الذي دخل تحته ووقع الأمر بالقتل عليه هو المشرك فاتفقا أنه زيد كاتفاق أنه أحمر وأسود فإنا نقتله لكونه مشركا مدلولا لما أوقع عليه الأمر وتعلق به الخطاب لا لكونه أحمر مثلا وإذا تحققت هذا علمت أن أصول السؤال مغالطي وأن المجيبين لم يفتضوا بكارته وأجابوا على
تسليم الإشكال وما عرفوا أنه ركبه السائل على حق وباطل فقال لا يد على قتل زيد المشرك قلنا ذكر زيد باطل وإدخاله هنا لغو من السائل وقولك المشرك لا يعلق به السؤال ولا يناط على عاتقه هذا الإشكال فليتأمل وإن خفي على المحققين من الرجال فبيد الله الإفضال هذا وفي جمع الجوامع ان مدلوله كلية أي محكوم فيه على كل فرد مطابقة إثباتا أو سلبا لا كل أو محكوم فيه على مجموع الأفراد من حيث هو مجموع ولا كلي ولا محكوم فيه على الماهية من حيث هي أي من غير نظر إلى الإفراد قال ودلالته على أصل المعنى قطعية وعلى كل فرد بخصوصه ظنية انتهى ... خلاف هذا الخاص والتخصيص ... إخراج بعض منه والمنصوص ...
أي خلاف قولنا ما استغرق صالحا له الخاص وهو ما لا يستغرق صالحا له لحصر وقولنا والتخصيص مبتدأ خبره إخراج بعض منه والمنصوص مبتدأ يأتي خبره
والعم ! انه تبع النظم المنظوم في رسم الخاص وهو تبع المعيار وقد أورد عليه بأنه لا ينطبق على المحدود إذ الخاص قد يكون عاما في نفسه نحو لا تقتلوا أهل الذمة فإنه تخصص فاقتلوا المشركين وجزئيا نحو اقتلوا القوم إلا زيدا والرسم لما ذكرنا لا يصدق على شيء منها ولك أن تقول عبارة النظم صحيحة فإن الخاص خلاف العام وليس لفظ هذا عائد إلى رسم العام نفسه بل المراد خلافه في اسمه ورسمه وهو ما أخرج من العام كما أشعر به قولنا والتخصيص إخراج بعض منه أي من العام والمراد إخراجه عما يقتضيه ظاهر اللفظ من تناول إرادة المتكلم به والحكم عليه لا إخراجه عن الحكم نفسه والإرادة في أن الخاص لم يدخل تحتهما من حيث الإرادة والحكم
بحسب الظاهر حتى يخرج ولا إخراجه عن الدلالة فإنها كون اللفظ بحسب الظاهر إذا أطلق وفهم منه المعنى وهذا حاصل مع التخصيص ففي التحقيق ليس هناك إخراج وأن التعليل به مجاز عن عدم الدخول وصار في العرف حقيقة بشيوعه وقولنا منه إشارة بحرف التبعيض إلى أنه لا يجوز التخصيص حتى لا يبقى شيء من إفراد العام ويأتي تحقيقه وقولنا والمنصوص تقدم أنه مبتدأ مراد به الذي نص عليه أئمة الأصول من ألفاظ العموم وهو ما يفيده خبره أعني قولنا ... في الأصل من ألفاظه ما تسمع ... كل جميع ثم ست تتبع ...
أي الذي نص عليه من ألفاظ العموم في أصل المنظوم هي ما تسمعه من ذلك في النظم أولها لفظ كل فهو مرفوع بدل من قولنا ما تسمع فلفظ كل يفيد العموم وهي تضاف إلى نكرة نحو كل نفس ذائقة الموت وإلى معرفة نحو اشتريت كل الدار مفردا أو جمعا نحو كل الرجال أكرمهم وهذا فيما كانت متبوعة وتفيده تابعة نحو فسجد الملائكة كلهم أجمعون ومثلها جميع في إفادتها العموم تابعة ومتبوعة إلا أنها لا تضاف إلى نكرة وقولنا ست تتبع أي ست كلمات بينها قولنا ... أسماء الاستفهام والشرط كمن ... خاف المعاد لم يذق طعم الوسن
بيان لها وهي أسماء الاستفهام وأسماء الشرط والنكرة في سياق النفي والجمع المضاف والموصول والمعرف بلام الجنس كما ستمر بك فأسماء الاستفهام كأي لمن يعلم ولمن لا يعلم نحو أيكم زادته هذه إيمانا فبأي حديث بعده يؤمنون وغير ذلك وأسماء الشروط مثلها الناظم بقوله من خاف المعاد لم يذق طعم الوسن ومنه قوله تعالى وما تفعلوا من خير يعلمه الله ... والنكرات في سياق النافي ... والجمع إن قيد بالمضاف ...
قولنا النافي صفة محذوف أي اللفظ النافي واللفظ أعم من أن يكون بأي أدوات النفي لا التي لنفي الجنس أو غيرها
واعلم أن النكرة في الاثبات قد تفيد العموم لاعتبارات وقرائن يقتضيها المقام نحو ولعبد مؤمن خير من مشرك قول معروف خير من صدقة وهو كثير في الكتاب والسنة وقد ذهب الجمهور القائلون بأن للعموم صيغة إلى الاتفاق على هذه التي قدمناها من ألفاظه والخلاف بينهم فيما عدها منها قولنا ... والجمع إن قيد بالمضاف ...
فإن فيه خلافا هل هو من ألفاظه أم لا ومثاله قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وأكرم علماء البلد ومرادهم بالجمع ما دل على أكثر
من اثنين ! سواء كان له مفرد من جنسه أو لا فيدخل اسم الجمع وهو ما يطلق على ثلاثة فصاعدا بحسب الوضع نحو قوم نوح وغنم القوم وخرج بمفهوم القوم الجمع المفرد إذا أضيف فلا يفيد العموم ويأتي تحقيقه ... ومثلة الموصول في الجنس وما ... بلامه عرف عند العلما ...
أي مثل الجمع المذكور في إفادة العموم الموصول إذا كان للجنس لا إذا كان للعهد نحو وقال الذي آمن ونحو قد سمع الله قول التي تجادلك وقولنا وما بلامه أي لام الجنس فيقال إنها لام الاستغراق نحو إن الإنسان لفي خسر ولذا صح الاستثناء منه ومعيار عمومها أن يصلح وقوع كل موقعها نحو كل إنسان في خسر وقيده في ذلك ليخرج سائر معاني اللازم إيضاحا للمراد وإلا فالكلام في صيغ العموم ووضع لام التعريف حقيقة في الاستغراق كما ذهب إليه جماعة من المحققين سواء دخلت على الجنس نحو الرجل أو اسمه نحو العسل والماء أو الجمع نحو الرجال أو اسمه كالغنم والرهط والقوم كما تقضي به عبارة النظم
واعلم أن إثبات العموم لما ذكر وأنه حقيقة فيه هو قول الجماهير ويروى عن الأئمة الأربعة قال ابن حزم وهو قول الظاهرية واستدل لهذا بتبادر فهم العموم من نفس الصيغ المذكورة لأهل اللسان العربي والتبادر علامة الحقيقة من ذلك قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي فإنه فهم نوح من قوله تعالى وأهلك نجاة ابنه معهم فقال إن ابني من أهلي ومنه قول الملائكة لإبراهيم إنا مهلكوا أهل هذه القرية فهم إبراهيم العموم ف قال إن فيها لوطا وأجابته الملائكة بتحقيق ما فهمه وكذا استثناؤه تعالى
امرأته وهو معيار العموم في الصحيحين لما نزل قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال ابن أم مكتوم إني ضرير فنزل غير أولي الضرر فأقره صلى الله عليه و سلم على فهم العموم ونزل القرآن بالتخصيص وفيهما أنه لما نزل قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا يمانهم بظلم قال الصحابة وأينا لم يظلم نفسه ففهموا العموم من النكرة في سياق النفي وأقرهم صلى الله عليه و سلم وبين لهم أن المراد به ظلم مخصوص هو الشرك والآيات والأحاديث واسعة في هذا
واستدل أيضا بإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن إفادة صيغ العموم له بنفسها فإنه شاع فيهم الاستدلال بذلك بمثل والسارق والسارقة والزاني والزانية يوصيكم الله في أولادكم ولم ينكر فكان إجماعا وقد نفاه العموم لدفع هذين الدليلين بما لا يخرج ألفاظ العموم عن أنها ظاهرة في العموم وهو المدعى أنها حقيقة فيه ظاهرة في معناه وقد تخرج عنه بقرائن كان يراد بالعموم الخصوص ... واختلفوا هل يدخل المخاطب ... تحت خطاب نفسه والواجب ... دخوله والمدح لا يغير ... دلالة العموم وهو الأظهر ...
هاتان مسألتان معروفتان في الأصول تعرف الأولى بدخول المتكلم في خطاب نفسه الوارد بصيغة العموم فاختلف العلماء في ذلك ما أشار إليه النظم وقوله واختلفوا استئناف بيان لهذه المسألة ولهم أقوال
الأول إنه داخل تحت خطاب نفسه الوارد بصيغة العموم وهذا قول الأكثر وإليه أشير بقولنا والواجب دخوله سواء كان خبرا أو أمرا فالأول نحو من قال لا إله إلا الله إلى قوله كان له كعدل نسمة فإنه صلى
الله عليه وآله وسلم داخل في هذا
والثاني نحو من أصابه هم أو حزن فليقل إني عبدك وابن عبدك الحديث فإنه صلى الله عليه و سلم كذلك قالوا وكذا إذا ورد الخطاب بمثل يا ايها الناس يا أيها الذين آمنوا وقل للمؤمنين أو بلغ ما أنزل إليك وأمثالهما فالنبي صلى الله عليه و سلم داخل في مثل هذا وإن كان مبلغا لغيره فهو مخاطب اسم مفعول باعتبار توجيه الخطاب إليه ومخاطب اسم فاعل باعتبار أنه المبلغ الأمر الناهي فهو مأمور بالتبليغ للمكلفين وهو من جملة الملكلفين فهو داخل في عمومات الخطاب ما لم تقم قرينة على خروجه عنه هذا كلام الجمهور وفيه طول لا حاجة إليه وخلافات خارجة عن محل النزاع
وأقول تحقيق المسألة أن المتكلم لا يخلو إما أن يتكلم عن نفسه كقوله من لا يكرم نفسه لا يكرم وقول الآخر من يفعل الحسنات الله يشكرها
فالمتكلم مشمول بكلامه مخبر لنفسه ولغيره وليس الإخبار محصورا في إفادة الخطاب بل المعاني المفادة للإخبارات كثيرة فإن الواعظ مخاطب غيره بمواعظه وهو داخل في ذلك وإما أن يكون المتكلم رسولا إلى المخاطبين متكلما عن غيره ! فالظاهر خروجه عن عموم الخطاب مثل رسل السلطان إذا تكلمت عنه وبلغت أوامره ومن ذلك رسل الله تعالى فإنهم مبلغون عنه تعالى وقرينة الإرسال قاضية بخروجهم عن اللفظ وإن كان اللفظ من حيث مادته يصدق عليهم مثل الناس والذين آمنوا
إذا تقرر هذا فقول من قال يدخل المتكلم في عموم خطابه ينظر إلى أمرين الأول إلى مطلق كونه متكلما وهو خطأ فإنه لا يسمى القرآن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يصح ذلك بل هو كلام الله وإنما
هو مبلغ وحاك فعرفت بهذا أنه خارج عن أصل المسألة ومحل نزاعها لأن المسألة معقودة لدخول المتكلم في كلام نفسه والثاني قولهم لتناوله لغة يتم في المتكلم عن نفسه لا المبلغ عن غيره وقد عقدوا مسألة للمبلغ عن غيره وحكموا بأنه صلى الله عليه و سلم داخل في عموم ما بلغه نحو يا عبادي كما قالوا بدخوله في الأولى ونحو نقول إنما هو صلى الله عليه و سلم مبلغ لا غير إذ الكتاب والسنة كلاهما وحي فهو مبلغ لهما ولو حررت المسألة بأنه هل يدخل المبلغ في عموم كلام من بلغ عنه لكان دخوله صلى الله عليه و سلم في ذلك ظاهرا وهذا بالنسبة إلى القرآن في غاية الوضوح ولعله هو الذي غر من قصر الخلاف عليه وأما بالنسبة إلى السنة فلا كلام في ظهور أنه صلى الله عليه و سلم داخل في عموم كلامه
والتحقيق أنه لا يتكلم إلا بما أمر به غايته أن بعضه وقع بعبارة الكتاب السماوي وبعضه بعبارته صلى الله عليه و سلم فالكل عن الله تعالى وهذا لم يشمله عموم كلامه سواء كان بعبارة الكتاب أو عبارة السنة فالكل عن الله تعالى كما يرشد إليه قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فكل ما آتانا به فهو مبلغ له عن الله ولذا كان الحق أن السنة أحد الوحيين وقال تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى غاية الفرق بينهما أن عبارتها ليس معجزة كالقرآن وأنه لا تصح نسبتها إلا إليه صلى الله عليه و سلم فيقال فيها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يقال فيها قال الله وإذا عرفت هذا علمت أن المسألة وإن تطابقت عليها كتب الأصول لم تحرر وأنه أدخل فيها الخطابيات القرآنية
وتحقيق الحق أنه صلى الله عليه و سلم مرسل إلى نفسه كما أنه مرسل إلى غيره فهو داخل في العمومات القرآنية لا لكونه متكلما كما يقتضيه كلامهم بل لكونه مبلغا لنفسه عن ربه مأمورا بما أمر به غيره إلا ما خص منها لدليل خارجي فهذا وجه دخوله في العموميات القرآنية وكذا نقول في
رسل الملوك ! إنهم غير داخلين في عمومات ما بلغوه إلا أن تقوم قرينة على ذلك فهذه المسألة الأولى
وأما المسألة الثانية فهي ما أشار إليه قولنا والمدح هو مبتدأ لا يغير خبره و دلالة العموم مفعول لا يغير وضمير وهو للمصدر المدلول عليه بفعل التغيير المنفي وهو مبتدأ خبره الأظهر
واعلم أنه اختلف العلماء في العام الوارد في معرض مدح نحو إن الأبرار لفي نعيم أو ذم نحو وإن الفجار لفي جحيم على ثلاثة أقوال
الأول إنه لا يبطل به العموم وهو قول الجمهور وإلى اختياره أشار الناظم بقوله وهو الأظهر ووجهه واضح وهو أن صيغة العموم هي المقتضي لشمولها لإفراد ما تحتها ولا يخرجها عن مقتضاها معنى سيقت لأجله قلت وتخصيص النزاع بما سيق لغرض مدح أو ذم كأن قاله الأول وتبعه الآخر وإلا فكل غرض سيق له العام يلزم فيه الخلاف والحق أنه لا يغير العام غرض سيق له لسلامة المقتضى عن المعارض ... والله لا آكل عام فيما ... يؤكل واختاروا هنا التحريما ...
هذه المسألة وهي هل الفعل المتعدي وغيره إذا وقع في سياق النفي أو ما في معناه من غير ذكر لمفعوله عام أو لا اختلف فيه العلماء وذلك مثل والله لا آكل وإن أكلت فعبدي حر في المتعدي ولا أقعد في غيره وهذا صرح به في الفصول أعني عموم الخلاف له فذهب الجمهور إلى أنه يعم فيقبل التخصيص بالنية إذا نوى مأكولا خاصا أو زمانا أو مكانا ولا يحنث بغير
ما نواه وقالت الحنفية لا يعم فلا يقبل التخصيص فأما إذا ذكر متعلق الفعل وأكد بمصدره نحو لا آكل العنب أو أكلا فاتفقوا على أنه لا يحنث إلا بما تلفظ به أو نواه في صورة التأكيد بالمصدر ومنشأ الخلاف هل متعلق الفعل مقدر فيكون كالملفوظ ملاحظا في المقام او غير مقدر فليس بمقصود وإنما سيق الكلام لنفي حقيقة الفعل فكأنه قال لا يقع مني أكل ولا نزاع في ورود الاعتبارين في فصيح الكلام إنما الكلام ما هو الظاهر منهما فيحمل عليه المحتمل لهما فذهب الجمهور إلى حمله على تقدير مفعوله قالوا لاحتياج الفعل إلى متعلقه إما لتوقفه عليه كالمفعول به أو لأنه من ضرورياته كالزمان والمكان فهو كالملفوظ فيخصص بالنية ولا يحنث إلا بما نواه
وقال الآخرون الأصل عدم التقدير والكلام غير محتاج إلى اعتبار المتعلقات في المقام لعدم توقف صحة الكلام ولا صدقه عليه إذ قد ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم ومناط ذلك ظهور مراد المتكلم وحذفه لمتعلقاته قرينة أن مراده نفي الفعل من غير نظر إلى متعلقاته وإن كان في قوة والله
لا أوجد آكلا وآكلا نكرة في سياق النفي لكن ليس المقصود إلا نفي الفعل من حيث هو من غير ملاحظة لذلك التركيب فليس هو في حكم المقدر فلا اعتبار به وحاصله أن العموم مسلم لكنه على طريق الالتزام في المتعلقات وليس هو بلفظي ولا في حكم اللفظي المقدر فلا يقبل التخصيص بالنية وأجاب الأولون بأن تنزيل المتعدي منزلة اللازم مجاز والأصل هو الحقيقة ولا نسلم أرجحية المجاز للقرينة التي ذكرتم على الحقيقة في المقام وقولنا ... أن يعملوا بالعام قبل الفحص ... عن خاصه من ظاهر أو نص ...
بفتح الهمزة مفعول اختاروا وهي إشارة إلى مسألة العمل بالعام قبل البحث هل له مخصص من ظاهر أو نص وهي مسألة خلاف والذي في النظم الجزم باختيار تحريم العمل قبل البحث في مخصصه وعبارة النظم واصله قاضية بالاتفاق على تحريم العمل به قبل البحث عن مخصصه وهذا الاتفاق صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وهذا إن حملت ضميرا اختاروا على العلماء مطلقا السابق ذكرهم ولك ان تجعله للجمهور من العلماء لأنه اتفاق لهم الجميع
وقد ذهب جماعة من محققي الشافعية كالرازي وأتباعه والسبكي والبرماوي وغيرهم إلى أنه يجب العمل بالعام من دون بحث عن مخصصه قالوا لأنه ظاهر في الاستغراق وهو حقيقة كما عرفت فيجب العمل بالظاهر حتى يرد ما يغيره وقول من قال لا يعمل به حتى يبحث عن مخصصه لأنه قد كثر للعام ذلك أي التخصيص حتى قيل ما من عام إلا وقد خص إلا مثل والله بكل شيء عليم لا يوجب عدم العمل بالعام
لجواز وجود مخصص وإلا لزم أن لا يعمل بالحقيقة حتى يبحث عن مجازها لكثرة المجاز وهذا باطل عند اكثر العلماء وإن قيل بأن فيه خلافا وقولهم بأن احتمال التخصيص في العام أقوى من احتمال غيره كالحقائق للمجاز مسلم ولا يقتضي التوقف في العام عن العمل بظاهره فإن العموم هو الظاهر فلا مقتضى لهجره
وقال الآخرون غلبة التخصيص تنفي الظهور ولا ينافي القول بأنه حقيقة في العموم فيجب البحث حتى يظن عدم التخصيص وأجيب بأنه مانع عن العمل ولا يجب ظن عدم المانع بل يكفي عدم ظنه كما عرف في مواضع
قال الزركشي الواجب العمل بالعام حتى يبلغه المخصص لأن الأصل عدم المخصص ولأن احتمال الخصوص مرجوح وظاهر صيغة العموم راجح والعمل بالراجح واجب بالإجماع
قلت وهذا هو الذي نختاره ونعمل به ونراه الحق لما علم من استدلال الصحابة ومن بعدهم بالعام من غير بحث عن مخصصه وهي قضايا كثيرة ... وأيها الناس لمن قد وجدوا ... ولا يعم اللفظ من سيوجد ... بل بالدليل والذين آمنوا ... ونحوه مما الذكور باينوا ... في لفظه الإناث داخلات ... نقلا أو التغليب والأثبات ...
هذه مشتملة على مسألتين الأولى إذا ورد الخطاب العام بمثل يا أيها الناس و يا أيها الذين آمنوا والمراد به خطاب المشافهة هل يشمل من سيوجد كما يشمل من هو موجود حال الخطاب فاختلف العلماء فيه فقيل إنه لا يعم إلا من وجد وهذا قاله الجمهور قالوا لأنا نقطع بأنه لا يقال لمعدومين يا أيها الناس ونحو وإنكاره مكابرة ورد بأنه ليس النزاع في خطأ المعدومين خاصة في شمول الخطاب الموجه إلى الموجودين لهم وأي مانع من دخولهم بطريق التغليب وهو شائع ذائع في فصيح الكلام
وأقول ينبغي تحرير محل النزاع وهو انه هل يصدق على المعدوم أنه مشافه ومخاطب أي واقع عليه المشافهة والمخاطبة أو غير واقعة عليه ولا ريب أنهما غير واقعين إلا على من سمع الخطاب والمشافهة وليس هو كل موجود بل كل من سمع من المخاطب اسم فاعل وهو الذي يصح منه أن يقول سمعت فلانا يقول
ثم لا كلام أن المخاطب اسم فاعل نحو يا أيها الناس وهو الرسول صلى الله عليه و سلم فمن شافهه وخاطبه كان هو المخاطب اسم مفعول والمشافهة والسامع هذا تحرير محل النزاع وليس الكلام في عموم الحكم الواقع في سياق الخطاب فإنه عام بعموم الرسالة وبه يعرف أن كلام بعض المحققين في حواشيه على ابن الحاجب وهو المقبلي رحمه الله وهو قوله إن الخطاب بمثل يا أيها الناس إما ان يريد المخالف بأن من سيوجد لا يسمى مخاطبا بذلك الخطاب فلا يعمه وإما أنه لا يلزمه مدلوله مثلا وجوب السعي لصلاة الجمعة مثلا بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية إنما يلزم من سمعه من الصحابة وأما من عداهم فبدليل آخر
وكلا الطرفين محل نظر أما الأول فلأن الخطاب نوع من الكلام والتكليم منه تعالى وإن وقع للنبي صلى الله عليه و سلم في الإسراع على ما قيل فليس هو بكل حكم بل الواسطة جبريل فلم يخاطب النبي صلى الله عليه و سلم حقيقة وكذا هو صلى الله عليه و سلم خاطب من حضر ثم بلغ الحاضر الغائب ولم يزل كذلك فكأنه لا يقال للغائب يا أيها الناس كذا المعدوم فلا فرق بين الغائب والمعدوم في امتناع توجيه الخطاب إليه وخطاب كل مشروط وبارتفاع الموانع فيكون صفة الحضور أو الوجود وصفا ملغى ليس بمعتبر في المقام
وأقول قوله فلم يخاطب النبي صلى الله عليه و سلم حقيقة يريد الله
تعالى وهذا مسلم ولا يحتاج إلى نفيه ولا إلى إثباته لأنه ليس من محل النزاع أن الرسول مخاطب اسم مفعول لله تعالى بكل حكم بل بحرف المسألة إذ قال الرسول يا ايها الناس مبلغا عن ربه او قال عن نفسه هل يصدق على من غاب أو لم يوجد أنه مخاطب اسم مفعول للرسول أي واقع عليه الخطاب من المخاطب اسم فاعل أي مخاطب كان الحق أنه لم يقع الخطاب إلا على من سمعه وأما ذكره للقسم الآخر وهو لزوم الحكم للغائب ومن يوجد فهذا أمر قد اتفق عليه الكل لا نزاع فيه وحاصله أنه صلى الله عليه و سلم مخاطب بالإبلاغ للأحكام وقد وقع عليه الخطاب منه تعالى أو من جبريل فقوله فلم يخاطب مبني على أن المدعى أنه تعالى خاطبه صلى الله عليه و سلم بكل الأحكام وليس كذلك وإلا لزم أن لا يصح عقد المسألة في حق الأمة لأنه تعالى لم يخاطب بشرا من الأمة فالمسألة واضحة ولا وجه لما أتى به من الترديد إذ النزاع هل يدخل في خطاب المشافهة من غاب عنها أو من عدم أي هل يصح إيقاع الخطاب عليه مع غيره ويشتق له اسم مفعول كما يشتق للحاضر أم لا من غير نظر إلى من هو المخاطب اسم فاعل وإذا عرفت هذا عرفت انه كان الصواب أن تعنون المسألة بأنه هل يدخل غير حاضر المخاطب في خطاب المشافهة غائبا كان أو معدوما والحق أنه غير داخل لغة ولذا قلنا ولا يعم اللفظ من سيوجد فعلقنا النفي باللفظ ولذا لا يصح أن يقول سمعت أو حدثني أو أخبرني إذا كان غير حاضر مجلس الخطاب والسماع لأنه غير مخاطب ولا سامع وأما لزوم حكم ما بعد الخطاب لكل من غاب ومعدوم فبدليل عموم التشريع على أن عندي أن المسألة قليلة الجدوى إذ الفراغ لفظي وهي في تسمية من لم يحضر موقف الخطاب مخاطبا لا في الأحكام فإنها لازمة بالاتفاق
والتحقيق أن هنا في مثل يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية خطابين الأول مطوي وهو قول يا محمد فإنه مبلغ فلا بد من تقديره كما يدل له التصريح في آيات نحو قل لعبادي فالمخاطب بقل هو الرسول بخطاب جبريل والمخاطب ب يا أيها الذين آمنوا المؤمنون بخطاب الرسول فجبريل مخاطب للرسول حقيقة ومن غاب مبلغ سواء كان غائبا أو معدوما ولذا قال ليبلغ الشاهد الغائب وقال بلغوا عني ولو بآية ومع هذا فمسألة لا فائدة تحتها إذ عموم التشريع بكل حكم وصل إلى المكلف بأي طريق يجب عليه ويلزمه
واعلم أن الجمهور على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة والأحوال فقوله تعالى اقتلوا المشركين أمر بقتل كل مشرك في أي زمان ومكان وحال وهذا لا ينافي قولهم إنه لا يشمل خطاب المشافهة بالعام من سيوجد لأن المراد أن من خوطب يستلزم خطاه بالعام ما ذكر من الثلاثة الأمور ومتى بلغه الحكم لزمه ذلك مع استلزامه الثلاثة فلا يتنافى وقلنا الجمهور لأنه قد ذهب آخرون إلى أن العام مطلق في الثلاثة وعليه ورد إشكال القرافي المعروف بأنه يلزم أن لا يعمل بالعمومات الواردة في الأحكام في هذه الأزمنة لأنه قد عمل بها في زمان ما والمطلق يخرج عن عهدة التكليف به إذا وقع العمل به في صورة ما والتحقيق في الجواب إيراده وأصل المسألة أن من قال إنه مطلق في الثلاثة فمراده أن دلالة الصيغة أي صيغة العموم عليها ليس بحسب الوضع ولكن وجوب العمل بالعام الشامل لأفراده
استغراقا والمحافظة على إجراء حكمه في كل فرد من أفراده يستلزم عموم الثلاثة كما مثلناه ولو أخرجنا مثلا أهل الذمة أو يوم السبت أو سكان بيت المقدس لكون العام مطلقا فيها لكنا قد أبطلنا العمل بالعام في جملة من أفراده التي دل عليها وشملها لفظه وأخرجنا العام عن مقتضى وضعه فالحاصل أن العام بوضعه مطلق في الثلاثة وبإيجاب تعميم الحكم في جميع أفراده مستلزم لها فلمن قال إنه مطلق وجه ولمن قال بعمومه استلزاما وجه
المسألة الثانية مما شمله النظم قولنا والذين آمنو ونحوه إلى آخره إشارة إلى الخلاف فيما وضع من الألفاظ مشتركا بحسب المادة بين الذكور والإناث كما مثلناه وكالمسلمين فإن هذه الصيغ مختصة بالمذكر وإن كانت المادة مشتركة بينهما وأما إذا كانت المادة مشتركة بينهما وأما إذا كانت المادة مختصة بالذكور فلا نزاع فيها كالرجال بخلاف الأول فإنه ذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل تحت عمومه الإناث واستدلوا بإجماع أهل العربية على أن تلك الصيغ موضوعة للذكور فلا يصح دخول الإناث فيها لغة
قال المخالف وهم الحنابلة وبعض الحنفية ألستم تنكرون شمول الأحكام عند التعبير بذلك للفريقين قالوا مسلم ذلك ولكنا نقول إن دخول الإناث في ذلك ليس إلا بأحد أمرين إما بالنقل من الشارع له عن أصل اللغة إلى ما يشمل الإناث ودليل النقل عمل الصحابة ومن بعدهم الخطابات القرآنية والسنية على الفريقين وهذا ما أشار إليه قولنا نقلا أي بالنقل وإما للتغليب كما أشار إليه إيضا في النظم
وأجيب بأنكم إن أردتم بأنه اصطلاح لأهل العربية فمسلم ولا يضرنا وإن أردتم أن ذلك وضع لغوي فممنوع مسندا بأنه قد صح إطلاقه على الفريقين في قوله تعالى قلنا اهبطوا خطابا لآدم
وحواء وإبليس وأدخلوا الباب سجدا أمر لبني إسرائيل ذكورهم والإناث والأصل الحقيقة فيكون مشتركا بين الأحد الداير في عقلاء المذكرين منفردين أو مع الإناث ودعواكم النقل أو التغليب خلاف الأصل
واستدل الجمهور أيضا بحديث أم سلمة بسبب نزول قوله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية فإنها قالت يا رسول الله ما لنا لا نذكر كما يذكر الرجال فأنزل الله الآية على وفق سؤالها وهذا استدلال حسن إلا أنه قد علم دخولهم في مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة اتفاقا والقول بأنه بدليل خارجي خلاف ظاهر الأدلة وخروجهن من بعض الأحكام كصلاة الجمعة كان بدليل خارجي من السنة وتخصيص السنة لهن بذلك دليل دخولهم في ياأيها الذين آمنوا وهذه المسألة قليلة الفائدة للاتفاق في أن الأحكم شاملة للفريقين بأي صيغة حكم على الموضوع في العبارة وقولنا في عجز البيت والأثبات بفتح الهمزة والمثلثة الساكنة فموحدة جمع ثبت أي العلماء الأثبات وهو مبتدأ خبره قولنا قالوا إذا الحكم أتى في البعض ... فليس بالتخصيص فيه نقضي ...
والمراد أنه قال أثبات العلماء إنه إذا ورد حكم والعام محكوما به على بعض أفراده فإنه لا يخصص به العام فقولنا في البعض أي بعض أفراد العام كما أن قولنا الحكم أردنا به حكم العام ومثال المسألة المشهور حديث ابن عباس عند مسلم إذا دبغ الاهاب فقد طهر فهذا عام حكم عليه بطهارته بالدباغ ثم ورد في خاص وهو حديث الصحيحين من حديثه
أيضا أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة ميتة فقال هلا استمتعتم بإهابها فقالوا إنها ميتة فقال صلى الله عليه و سلم إنما حرم من الميتة أكلها ومثله ما رواه مسلم عن ابن عباس عن ميمونه أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة لميمونة ماتت فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به الحديث فحكم هنا على جلد الشاة بالحكم الذي حكم به على كل إهاب فذهب الجمهور إلى أن هذا لا يخص به العام وقال أبو ثور بل يخص به حكم بأنه لا يطهر الدباغ إلا جلد المأكول وقال الجمهور هذا عمل بمفهوم اللقب وقد مر هنا أنه لا يعمل به وتقدم البحث فيه فأغنى عن إعادته هنا وبه يعرف ضعف قول أبي ثور إنما قام الدليل على التخصيص للعلم بالمفهوم المعتبر والمسألة راجعة إلى الخلاف في العمل بمفهوم اللقب وقولنا ... كذا الضمير إن إليه عادا ... إذ لا ينافي ما له أفادا
أي إن حكم الضمير إن عاد إلى بعض إفراد العام لأنه لا يقتضي تخصيص العام فالضمير في قوله إليه عائد إلى البعض الذي سبق ذكره في البيت الأول والمثال المشهور في المسألة قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فإنه عام للبائنات والرجعيات ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وهذا خاص ببعض أفراد العام وهن الرجعيات فإن الأحقية بالرجعة فيهن لا غير فهنا ذهب الجمهور إلى أنه لا منافاة بين عموم اللفظ وعود الضمير إلى بعض أفراده كما قال الناظم إذ لا ينافي أي عود الضمير إلى بعض أفراد العام لا يخرجه عن عمومه بكل أفراد بذلك وذهبت الحنفية إلى أنه يخصص به العموم بمعنى أنه يراد بالمطلقات الرجعيات وغيرهم من البائنات لا يدخلن في الآية فلا يعرف حكمهن من الآية بل من أدلة أخرى بت ولذلك قالت الحنفية في حديث لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل معناه إلا كيلا منه بكيل منه قالوا والضمير محذوف عائد إلى البر الذي يكال لا إلى جميع البر فيجوز بيع حفنة بحفنتين عندهم لأن ذلك غير مكيل فيكون العام وهو البر مخصصا بالضمير
قلت والتحقيق أنه ليس هنا تخصيص وهو إخراج ما دخل بل أريد بالعام ابتداء بعض أفراده فأريد بالمطقات الرجعيات فقط فهو من العام الذي أريد به الخصوص لا من العام المخصوص واختار بعض المحققين كلام الجمهور قائلا بأن الضمير قد وضع لربط معنى متأخر بمعنى متقدم للدلالة على أن المعنى الآخر هو المتقدم سواء كان مذكورا بلفظه أو دلت عليه قرينة كما قال النحاة تقدم ذكره لفظا أو معنى أو حكما فلا يأتي الضمير مخالفا لما قبله بحسب وضعه وهو أغلب استعمالاته وقد يخرج عنه بالقرائن إلى معنى مجازي منه بأن يراد به بعض ما تقدم كالآية فإن ضمير بعولتهن أريد به بعض ما شمله المطلقات بلفظه ظاهرا وخروج الضمير عن أصله وضعه للقرينة
والعلاقة مجاز لا مانع عنه كما في الآية فإن ضمير بعولتهم أريد به البعض من معنى المطلقات فهو من إطلاق الكل على البعض إذ ظاهر مقتضى الضمير عوده على الكل وقد أطلق هنا على البعض وهو انتقال صحيح مجازي كالاستخدام بالضمير وغيره فهذا يؤيد صحة كلام الجمهور لأن اللفظ باق على عمومه والضمير لبعضه
واعلم أن المسألة اشتهرت بما ذكر من أن عود الضمير إلى بعض إفراد العام لا يخصص العام وهذا الحكم جار في الصفة والشرط والاستثناء كما صرح به أبو الحسين ومثلها وهي في الفواصل مستوفاه بت وفي شرح الغاية واعلم أنه قد يعبر عن هذه المسألة بما هو أعم من عود الضمير على بعض ما يتناوله العام بأن يقال تعقيب العام بما يكون مختصا ببعضه هل يقتضي تخصيصه أم لا سواء كان ذلك ضميرا كما سبق أو غيره إلى آخر كلامه
وإذا عرفت ما قررنا من المسائل التي تعلقت بالعام والخاص فاعلم أن التخصيص منقسم إلى متصل ومنفصل وقد شمله قولنا ... واقسم إلى متصل ومنفصل ... مخصص العام فأما المتصل ...
فإنه بيان لقسمي المخصص عند أئمة الأصول فالمتصل هو ما لا يستقل بالإفادة بل يحتاج إلى غيره والمنفصل هو ما يستقل بها والمخصص قسم فاعل هو الدليل وقد يطلق على فاعل التخصيص وكلاهما
صحيحان وإن كان الأصل هو إرادة المتكلم لكن لا بحث عنها إذ هي أمر نفسي وبعد فراغه عن كلامه تعرف إرادته به
واعلم أنه قد اختلف في ما يجوز التخصيص إليه من أفراد العام فقيل يجوز إلى واحد سواء كان العام جمعا أو لا وهذا حكي عن الجمهور مستدلين بأن الباقي من العام بعد التخصيص مجاز كما يأتي تقريره في أواخر باب التخصيص وهو رأي الجمهور قالوا والتخصيص قرينته فالمصحح للاطلاق هو القرينة وقد وجدت فيجوز ولو إلى واحد وقد تقرر أن العام بدل على كل فرد من أفراد مدلوله جمعا كان أو غيره وهو أيضا رأي الجمهور
وتقرر جواز التخصيص وهو إخراج بعض إفراد العام عن حكمه والإخراج إلى أن يبقى واحد صادق على ذلك فالمانع منه هو المحتاج إلى الدليل وقد ورد أيضا في القرآن الذين قال لهم الناس والمراد به واحد وهو نعيم بن مسعود كما عرف في سبب النزول وإن كان هذا من العام المراد به الخصوص لا من العام المخصوص لكنه إذا جاز فيه فليجز في العام المخصوص فإنه لا فارق بينهما إلا الإرادة فكما جاز أن يراد واحد من أفراده ابتداء من دون ملاحظة العموم في العام فليجز أن المراد به واحد من افراده مع ملاحظة العموم وأي فارق مصحح لهذا دون هذا ومن ذلك قوله تعالى وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك فإن المراد به جبريل ومن ذلك وقالت اليهود يد الله مغلولة مع أن القائل بعضهم وفيه آيات أخر فهذا القول أقرب الأقوال وهي خمسة مقصودة في المطولات
فإن قلت وأي فرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص
قلت قال ابن دقيق العيد يجب أن يتنبه لفرق بينهما فالعام المخصوص أعم من العام الذي أريد به الخصوص ألا ترى أن المتكلم أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهره من العموم ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ فكان عاما مخصوصا ولم يكن عاما أريد به الخصوص ويقال إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج وهذا متوجه إذا قصد العموم وفرق بينه وبين أن لا يقصد الخصوص بخلاف ما إذا نطق بالعام يريد به بعض ما تناوله انتهى قوله ... فالشرط والغاية والاستثناء ... والوصف والإبدال بعضا وهنا ...
بيان لأقسام المتصل والفاء جواب أما وقد قسم في النظم إلى خمسة كما ترى وهو رأي الأكثر وبعضهم يسقط منها بدل البعض فالأول الشرط والمراد به اللغوي وهو ما علق الحكم فيه على شيء بأداة شرط نحو أكرم العلماء إن عملوا بالعلم فخص الحكم وهو الأمر بالإكرام بشرط وهو العمل به والثاني منه الغاية وهي لغة طرف الشيء ومنتهاه وقد تطلق على الحرف الدال على ذلك وتارة على مدخوله وهو المراد نحو قوله تعالى وأتموا الصيام إلى الليل واغسلوا أيديكم إلى المرافق وقد اختلف في دخول ما بعدها فيما قبلها على أقوال ثلاثة وقد أطال الرضي في شرح الكافية في ذلك والظاهر أنه يختلف ذلك بحسب المقامات وقرائن
الخطابات وهذا فيما إذا كان حرف الغاية إلى وأما إذا كان حتى فالجمهور من علماء العربية على دخول ما بعدها فيما قبلها ونسب إلى سيبويه وتبعه اكثر العلماء وذهب الأقل إلى احتمال الدخول عدمه واستقر به الرضي وقال لكن الدخول أكثر وأغلب وبه يعرف أن كلام الجمهور هو التفرقة بين حتى و إلى وأن إطلاق النقل عنهم في عدم دخول ما بعد الغاية فيما قبلها فيه إجمال لا ينبغي ثم هذا في حتى الجارة لا في العاطفة فإن دخول ما بعدها فيما قبلها اتفاق
واعلم أنها ترد حتى لغير الغاية بل لتأكيد العموم نحو سلام هي حتى مطلع الفجر لأنه ليس مطلعه من الليل حتى يشمله قوله سلام وليس مثله قراءة القرآن من فاتحته إلى خاتمته لأن ما بعدها داخل فيما قبلها إذ خاتمته آخر سورة منه ونحوه قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن فإن زمان الطهر غير داخل في زمن النهي عن القربان والمقصود أن الغاية التي نحن بصدد بيانها هي ! التي يتقدمها عموم يشملها ينوي بها إخراج بعض مدلول العام هذا ولو قيل إن التخصيص بحتى بمثل قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية من باب الإطلاق والتقييد لكان له وجه أو هو الأوجه بيانه أن قوله حتى يعطوا تقييد للقتال و إلى المرافق تقييد للغسل و إلى الليل تقييد للصيام فالتقييد للأحكام لا للمحكوم عليه والعموم له لا لها هذا ما جنح إليه بعض محققي المتأخرين وهو حسن جدا
والثالث منه الاستثناء والمراد به هنا مجموع كلمة الاستثناء ولفظ المستثنى الذي يقع به تخصيص العام
واعلم أنه اختلف في تحقيق دلالة الاستثناء لإيهامه التناقض فإن قولك عندي له عشرة إلا ثلاثة فيلزم منه إثبات الثلاثة في ضمن العشرة ونفيها في الاستثناء فيلزم التناقض وكيف وهو واقع في كلام الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه و سلم فقرر الجمهور من أهل الأصول والعربية وغيرهم تحقيق دلالته بأن قالوا المراد بقوله عشرة إلا ثلاثة سبعة وكلمة إلا قرينة ذلك فالتخصيص لغيره من المخصصات فإن المراد بالعام المخصص غير ما أخرج منه بالاتفاق ولغيرهم تقارير أخرى في دلالته هذا أولها وهو الذي وعدنا به فيما سبق من أنه مجاز فيما بقي وبقي من إحكام التخصيص بالاستثناء ما يأتي من شرطية الاتصال وعدمه
الرابع منه الوصف والمراد ما أشعر بمعنى يتصف به بعض إفراد العام سواء كان نعتا أو عطف بيان أو حالا وسواء كان مفردا أو جملة أو شبهها من جار ومجرور وظرف نحو وقفت على أولادي العلماء فإنه يقتضي إخراج من ليس بعالم عن الحكم ومن شرطه الاتصال فالمتكلم في الموصوف إلا بقدر نفس أو سعال أو نحوه
الخامس منه بدل البعض نحو قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وأخرج من الناس من لم يستطع بالإبدال منه وتقدمت إشارة إلى أن من علماء الأصول من لم يعده من المخصصات قال لأن المبدل منه في حكم الطرح فلا يتحقق فيه معنى الإخراج وهذا ضعيف لأنه إن أراد أنه كالمهمل فظاهر الفساد كيف وقد جاء في كلام الله تعالى وإن أراد أنه خارج غير مقصود بالحكم فهكذا كل أنواع التخصيص قال شارح التحرير الذي عليه المحققون كالزمخشري أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر بل هو توطئة وتمهيد وليفاد بالمجموع فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد وقولنا في آخر البيت السابق وهنا أي في هذا المقام الذي بينه متعلقة وهو قولنا ... يختار في الثالث أن يتصلا ... إلا كبلع الريق فيما مثلا
الثالث من الخمسة وهو الاستثناء وله شروط ثلاثة
الأول كونه من جنس المستثنى منه وهو شأن المتصل وقد أغنى عن ذكر كونه شرطا إطلاقنا له فيما سلف لأنه إذا أطلق لا يراد به إلا هو
والثاني أن لا يكون مستغرقا للمستثنى منه نحو له عشرة إلا عشرة فإنه يلغو هنا ويأتي فيه الكلام
والثالث هو ما أردناه بقولنا أن يتصلا فإنه يشترط فيه اتصاله في العبارة بما أخرج منه إلا بما لا يعد فصلا عرفا كبلع ! الريق والنفس وهذا رأي الجمهور وينقل عن ابن عباس أنه قال يصح تراخيه إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل مطلقا وقد حمل كلامه على خلافه وهو أنه أراد إذا نوى الاستثناء أولا ثم صرح به هو رواية عن أحمد وقيل بل أراد به التعليق بالمشيئة لا مطلق الاستثناء كما أخرجه الحاكم بسنده إلى ابن عباس أنه قال إذا حلف الرجل على غيره فاستثنى إلى سنة وأن المعنى في قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت أنه إذا ذكرت فاستثن قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين واستدل الجمهور بأنه لو صح الاستثناء لبطل جميع الإقرارات والطلاق والعتاق وأيضا فكان يلزم أن لا يعرف الصدق من الكذب لإمكان تعليق الكذب بعد مدة بما يخرجه عن الكذب واستدلوا بما أخرجه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فاقتصر صلى الله عليه و سلم على ذكر التكفير ولم يقل فليستثن مع اختياره لأمته أيسر الأمور وأسهلها
هذا وقد أشرنا آنفا إلى شرطية أن لا يكون مستغرقا ولا أكثر من المستثنى منه لأنه معهما يلغى الاستثناء ويصير كالعدم فإذا قال علي له عشرة
إلا عشرة أو إلا اثني عشر بطل حكم الاستثناء ولزمه العشرة وهذا لا خلاف فيه قال البرماوي ومحل بطلانه ما لم يتعقبه استثناء بعضه نحو له علي عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة فإن فيه وجوها أحدها يلزمه عشرة لأن الاستثناء الأول لم يصح والثاني مترتب عليه ثانيهما يلزمه ثلاثة واستثناء الكل من الكل إنما لم يصح إذا اقتصر عليه أما إذا أتى بعده باستثناء صحيح فإنه يصح إذ الكل بآخره وهذا هو المرجح وثالثهما يلزمه سبعة والاستثناء الأول لم يصح فسقط من البين
وأما ما عدا المستغرق كالمساوي والأكثر فهو وإن وقع في الأكثر نزاع فلا ينهض دليل على بطلانه نحو عشرة إلا خمسة في الأول إلا تسعة في الثاني فلا حاجة إلى ذكره بعدم رجحانه
واعلم أنه اشتهر اشتراط الاتصال في الاستثناء بلا خلاف فيه وفي شهرته وإلا ففي جمع الجوامع أن الشرط المخصص به يشترط اتصاله كالاستثناء وكذلك في العود إلى الكل كما يأتي في الاستثناء نحو أكرم بني تميم واحسن إلى ربيعة وأكرم مضر إن جاؤوك ... وأنه نفي من الإثبات ... وعكسه أيضا وأما الآتي ... بعد الذي تعطفه من الجمل ... فهو إلى الكل خلافا للأقل ...
أشار به إلى مسألتين معروفتين الأولى أن الاستثناء بعد الاثبات يفيد نفي الحكم عما بعد كلمة الاستثناء نحو قام القوم إلا زيدا فإنه دال على إثبات القيام للقوم ونفيه عن زيد وعكسه أيضا وهو إنه إثبات من النفي نحو ليس له علي إلا درهم فإنه يفيد ثبوت الدرهم عليه في ذمته هذا كلام الجمهور فيهما وخالفه الحنفية في ذلك فقيل خلافهم في الأمرين معا كما أشار إليه النظم وقال الرازي وغيره إن خلافهم في أنه من النفي إثبات
وأما إنه من الإثبات نفي فلا يخالفون فيه إلا أنه خلاف ما يظهر من استدلالهم وقال القرافي في تحرير محل النزاع إنه اتفق العلماء أبو حنيفة وغيره على أن إلا للإخراج وأن المستثنى مخرج وأن كل شيء خرج من نقيضه دخل في النقيض الآخر فهذه ثلاثة أمور متفق عليها وبقي أمر رابع مختلف فيه وهو انا إذا قلنا قام القوم إلا زيدا فهناك أمران القيام والحكم به فاختلفوا هل المستثنى مخرج من القيام أو من الحكم به فنحن نقول من القيام فندخل في نقيضه ! وهو عدم القياس والحنفية يقولون هو مستنثى من الحكم فيدخل فيخرج عن نقيضه وهو عدم الحكم فيكون غير محكوم عليه فأمكن أن يكون وأن لا يكون فعندنا انتقل إلى عدم القيام وعندهم انتقل إلى عدم الحكم وعند الجميع هو مخرج وداخل في نقيض ما أخرج منه فافهم ذلك حتى يتحرر لك محل النزاع
قال والعرف في الاستعمال شاهد بأنه إنما قصد إخراجه من القيام لا من الحكم به ولا يفهم أهل العرف إلا ذلك فيكون هو اللغة فإن الأصل عدم النقل والتغيير انتهى
ويريد بأنه مخرج من الحكم أن قول القائل قام القوم إلا زيدا معناه أحكم على القوم بالقيام سوى زيد فلا أحكم عليه بنفي ولا إثبات استدل الجمهور بأنه قد ثبت النقل عن أهل العربية أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وهو المعتمد في إثبات المدلولات اللغوية قالوا وأيضا لو لم يكن كذلك لم تكن كلمة لا إله إلا الله لإثبات التوحيد واللازم باطل من الضرورة من الدين بيان ذلك أن التوحيد إنما يتم بإثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه والمفروض على كلامهم أنه إنما يفيد النفي دون الإثبات
قالت الحنفية نحن نقول إن كلمة الإخراج بكلمة إلا والإسناد ووقع قبل الحكم أي الخارجي فلا حكم حينئذ في المستثنى وأطالوا في بيان هذا بما لا يليق بالاختصار قالوا وأما كلمة التوحيد فالتوحيد حصل بالإخبار بكلمة الشهادة لأن إنكار واجب الوجوب غير متحقق ولا واقع فثبوته متحقق ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فالمحتاج إليه في كلمة الشهادة إنما هو نفي الإلهية وإذا انتفت استلزم ثبوت وحدة الله تعالى بالضرورة وإن لم يثبت بحسب الدلالة الوضعية قالوا وإثبات التوحيد بالعرف الشرعي لا بمدلول الاستثناء بحسب اللغة على فرض تحقق من ينكر واجب الوجوب كما فرض في الدهري هذا خلاصة تكلف الحنفية قال ابن دقيق العيد في شرح الإيمان وكل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم لذلك منهم من غير احتياج لأمر آخر فإن ذلك هو المقصود الأعظم في الإسلام انتهى وقد تقدم كلام القرافي بأنه لا يفهم أهل العرف إلا ذلك
المسألة الثانية هي ما أشار إليه قولنا وأما الآتي بعد الذي تعطفه من الجمل المراد بالآتي هو الاستثناء الوارد بعد جمل تقدمته متعاطفة فإنه يعود إلى جميعها إلا لقرينة كما أشرنا إليه بقولنا إلا لأمر وقد أفاد أن محل النزاع في الجمل المتعاطفة لا إذا كانت بغير عطف لأن الفصل إذا كان لكمال الانقطاع فهو قرينة على أن الاستثناء لا يعود إلى الجميع وإن كان لكمال الاتصال فهو قرينة على عوده إلى الجميع
وقولنا من الجمل بيان لأنه في تعاطف الجمل لا المفردات فإنه يعود فيها إلى الجميع وهو اتفاق كما يفهم من كلام ابن الحاجب وقولنا تعطفه شامل لأي حرف من حروف النسق من الواو والفاء وثم
إذا عرفت هذا ففي المسألة خلاف
الأول ما في النظم وهو عوده إلى الجميع وهو كلام جمهور العلماء واستدلوا بأن التخصيص بالمشيئة والشرط يعود إلى الجميع من الجمل اتفاقا فكذا الاستثناء مثله إذا لكل تخصيص بالمتصل بل قيل الاستثناء شرط في المعنى فإنه لا فرق بين قولك القذفة فساق إن لم يتوبوا أو إلا أن يتوبوا وأيضا الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط والصفة فيجب أن يكون المستثنى كذلك ما لم يصرف عنه صارف كما أشرنا إليه وذلك في آية القذف فإن قوله تعالى إلا الذين تابوا بعد الثلاث الجمل لا يعود إلى الأول اتفاقا أعني سقوط جلد القذف في التوبة والخلاف في المسألة لأبي حنيفة فقال بعوده إلى الأخيرة
والثاني الوقف واستدل الحنفية بأن الأصل فيه الاتصال بالمستثنى منه وهو منتف في غير الجملة الآخرة وأجيب بأن ذلك يلزم في المفردات والاتفاق واقع على أن يعود فيها إلى الجميع ومنها أي من أدلة الحنفية أن عوده إلى ما يليه وهي الآخرة يكون حقيقة إذ هي الأصل في الاستثناء والعود إلى الكل إما أن يكون مشتركا أو مجازا والحقيقة أولى من كل منهما ويجاب بأن دعوى أن الأصل عوده إلى الآخرة محل النزاع واستدل لهم بأن المستثنى واقع بعد عاملين فهو من باب التنازع وقد وقع الاتفاق أن المعمول في باب التنازع يكون لأحدهما ولم يقل أحد بأنه هنا يعود إلى الأول فقط فيكون الظاهرعوده في الجمل إلى الآخيرة وهو المطلوب ورد بأن هذا إنما يتم على قول من يقول العامل في المستثنى هو ما تقدمه وليس هو كلام الجمهور
فهم قائلون إن العامل حرف الاستثناء فلا يكون من باب التنازع وإنما يلزم من جعل العامل ما تقدمه
واعلم أن هذا كله مبني على إرادة الظاهر عند الإطلاق حيث لا قرينة وأما معها فيدور الكلام عليها واشتهر أمر الخلاف في آية القذف فإنه ذهب القائل بعوده إلى الآخرة عدم قبول شهادة القاذف إذا تاب فعند غير الحنيفية تقبل شهادته وعندهم لا تقبل وأما الأولى فلا يعود إليها اتفاقا فلا يسقط الحد لأنه حق لآدمي هذا وقد تبين لك معنى قولنا في صدر البيت الآتي أعني قولنا ... إلا لأمر وأتاك المنفصل ... وهو الذي بما أفاد يستقل ...
هذا هوالقسم الثاني من المخصصات وهوالمنفصل وقد أفاد النظم رسمه بأنه الذي يستقل بالإفادة بنفسه من غير حاجة إلى ضمه إلى غيره فكلمة ما مصدرية في قولنا بما أفاد سواء كان متصلا بما قبله مع استقلاله نحو أكرم بني تميم ولا تكرم بني فلان منهم أو منفصلا عنه وهو الأكثر وقوعا في المخصصات المنفصلة ولذا سموه منفصلا وقد بينه قولنا ... يجوز بالأربعة الأدلة ... والعقل والمفهوم عند الجلة ...
فالأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس وزيد العقل والمفهوم وقولنا عند الجلة عائد إلى الجميع لوقوع الخلاف في كل منها ثم أخذ في بيان المختار فقال ... واختير تخصيصك للكتاب ... بكل ما مر لدى الأصحاب ...
أي واختار الجمهور تخصيص عموم القرآن لكل واحد من الأربعة وبالعقل والمفهوم فأفاد أن رأي الجمهور تخصيص الكتاب به وهو الأول ونحو والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء فهذا عام لكل مطلقة وقد خصه قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وخص الله عموم الآية السابقة الشاملة للمدخولة وغيرها
بقوله فالمطلقة الغير المدخولة فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
وقد نقل الخلاف عن بعض الظاهرية وقالوا لايجوز تخصيص القرآن به وقد ثبت ما ذكرناه بالدليل وإيراد خلافه وأدلته وردودها في المطولات
والثاني تخصيصه بالسنة متواترة أو آحادية ومثاله حديث لا ميراث لقاتل ولا وصية لوارث والنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها بين خالتها بت والتخصيص بها متواترة ادعي فيه الإجماع وآحادية قاله الأئمة الأربعة والجمهور وخالف فيه آخرون على تفاصيل في المطولات كلها مرجوحة
ودليل الجمهور أن الأحاديث الآحادية قد قام الدليل على أنها من الأدلة الشرعية فيجب العمل بها ما لم يعارضها أقوى منها ودلالة العام هنا وإن
كانت قطعية المتن فمدلولها ظني والخاص هنا وإن كان متنه ظنيا فدلالته قطعية فقد تعارضا في القطعية والظنية فكان العمل بالخاص أرجح للجمع بين الدليلين والإعمال خير من الإهمال
وأيضا فقد أجمعت الصحابة على ذلك فخصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها أخرجه الجماعة من حديث أبي هريرة ومن ذلك تخصيصهم عمومات آيات المواريث بالآحادية من الأحاديث كما أشرنا إليه قريبا وبالجملة فمن عرف السنن وقضايا الصحابة علم وقوع ذلك منهم بلا تردد وللمخالف أدلة لا تنهض على مدعى فلا يفتقر الناظر إلى سردها وردها بعد بيان الراجح
الثالث تخصيصه بالإجماع وهو قول الجمهور بل قد قيل إنه إجماع ومثاله تخصيص النساء والعبيد من قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله فإن سقوط السعي إلى الجمعة عنهما ثابت بالإجماع وقد نوقش في المثال ولكنه لا يبطل المدعي لأنه قد تقرر بأن الاجماع من الأدلة والدليل يجب العمل به ومن العمل به تخصيص العام عند الاحتياج إلى الجمع بين الأدلة وإعمالها
الرابع تخصيصه بالقياس ومثلوه بتنصيف الحد على العبد قياسا على الأمة الثابت بقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قالوا فالعبد إذا زنى فعليه نصف الحد قياسا على الأمة مع شمول آية والزاني له فخصص عموم الكتاب بالقياس وبقي مثال تخصيصه بالعقل ومثل بقوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها فإن العقل خصه بالسماوات والأرض وبالمفهوم يأتي مثاله قولنا ... وهكذا السنة فيما ذكرا ... وخص بالآحاد ما تواترا
أي وكالكتاب العزيز والسنة النبوية في تخصيصها بالأدلة الأربعة والعقل والمفهوم
الأول تخصيصها في الكتاب مثل قوله صلى الله عليه و سلم اصدق ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا آله الا الله خص من أهل الكتاب بقول تعالى حتى يعطوا الجزية وتخصيصها مذهب الجمهور وهو الواضح دليلا
الثاني بالسنة وهي أربعة أقسام لأنه إما أن يكون العام متواترا أو آحادا والخاص كذلك فهذه أربع صور المتواتر بمثله أو بالآحاد فهاتان صورتان والثانية هي التي أشار إليها قولنا وخص بالأحاد ما تواترا أي إن الآحاد يخصص المتواتر والثالثه عكسها والرابعة الآحاد بالآحاد وهي كثيرة الوقوع بل مدار أكثر العموم والخصوص عليه ومثاله حديث فيما سقت السماء العشر أبو داود والنسائي وخص عمومه بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة أخرجه الستة وهذا في تخصيصها في القول يجري فيه تخصيصها بالفعل والتقرير وأمثلة ذلك مبسوطة في الفواصل وغيره من المطولات
والتخصيص بالمفهوم واقع وجواز القول به للأكثر قالوا لأنه قد تقرر أنه ما عدا اللقب من الأدلة فيجب العمل به كما يجب بها ومثاله قوله صلى الله عليه و سلم لي الواجد يحل عقوبته وعرضه أبو داود والنسائي
وابن ماجه فإنه خص عمومه بقوله تعالى ولا تقل لهما أف فمفهومها لا تؤذهما بحبس ولا غيره وهذا من تخصيص السنة بمفهوم الكتاب وتخصيصها بمفهوم السنة في المخالفة قوله صلى الله عليه و سلم الماء لا ينجسه شيء رواه أبو داود وغيره فإنه دال على أن جنس الماء لا ينجسه شيء وقد خص عمومه بمفهوم حديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا رواه مالك وأبو داود وغيرهما فإنه دل بمفهومه على أن ما لم يبلغ قلتين حمل الخبث وأما التخصيص بالقياس ففيه عشرة أقوال
الأول للجمهور أنه يجوز ودليله ما عرفته في غيره من التخصيصات وهو أن القياس دليل شرعي وقد قام الدليل على العمل به فالفرق بين موارده كما وقع للمخالفين فرق من غير فارق عند التحقيق واستيفاء التسعة الأقوال في المطولات من كتب الفن وقد استوفاها في الفواصل وكذلك بالعقل قد قال به الجمهور وسبق بعض أمثلته وبعضهم سمى التخصيص في مثل تدمر كل شيء بأمر ربها أن ما لم تدمره من المشاهدات خص بالحس ويسمى مثل الله خالق كل شيء أن تخصيصه بكونه تعالى ليس خالق نفسه بالعقل وهذا خلاف لفظي ووقع فيه خلاف بمعنى انه لا يقال له تخصيص بالعقل بل أقول هذا من العام الذي أريد به الخصوص فإن قوله تدمر كل شيء لم يرد به دخول السماوات والأرض حتى يحتاج إلى إخراجها بالعقل فعاد النزاع لفظيا
واعلم أن هنا مسائل وقع فيها الخلاف هل يخص بها العام أم لا أشرنا إليها بقولنا
والعام لا يقصره عليه ... سببه ورأي من يرويه ...
وهو إبانة لمسألة عدم قصر العام على سببه وهي من مسائل الخلاف بين أئمة الأصول ورأي الجمهور ما أفاده الناظم من أنه لا يقصر على سببه ولذا يقولون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمراد بالعام المستقل بنفسه في الإفادة بحيث لا يحتاج إلى أن يضم إلى ما قبله وحاصله أن خطاب الشارع على سبب مخصوص وسؤال عن واقعة معينة إن كان لفظه لا يفرض مستقلا بنفسه مثل أن يسأله الرجل عن شيء معين قائلا أيحل هذا قال نعم أو لا فلا سبيل إلى إدعاء العموم فيه فإن العموم فرع استقلال الكلام بنفسه بحيث يفرض الابتداء به من غير تقديم سؤال فإن ذاك يتمسك بعضهم باللفظ وآخرون بالسبب فأما إذا كان لا يثبت الاستقلال من دون تقدم السؤال مستقلا فالجواب تتمة له وكالجزء منه فأما إذا كان كلام الشارع مستقلا والسؤال خاص بحيث لو قدر نطقه به ابتداء لكان ذلك شرعا منه وافتتاح تأسيس ومثاله في السؤال قوله صلى الله عليه و سلم وقد سئل عن بئر بضاعة خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء ومثاله في غير السؤال أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة لميمونة وهي ميتة فقال أيما إهاب دبغ فقد طهر فيعم الأول كل ماء ويعم الثاني كل إهاب فهذا هو موضوع الكلام
وفي شرح العضد إذا كان الجواب غير مستقل فإنه تابع للسؤال في العموم والخصوص والأمثلة مستوفاه في المطولات وهذه المسألة الخلاف فيها نسب إلى الشافعي فقال إنه يقصر العام على سببه ونقل عنه أكثر الصحابة خلاف هذا وهو أنه يقول بقول الأكثر قال الرازي ومعاذ الله ان يصح هذا النقل عن الشافعي أي قصر العامة على السبب كيف وكثير من الآيات نزلت في أسباب خاصة
وفي المسألة أقوال أخرى وأحسنها قول ابن دقيق العيد أنه كان يقتضي السياق وقرائن المقام التخصيص في السبب خص به العام إذ الواجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن وإن لم يقتض المقام التخصيص فالواجب اعتبار العام ودليل الجمهور أن الصحابة ومن بعدهم ما زالوا يستدلون بالعمومات الواردة على أسباب في غير سببها وهي نزلت في خاص كآية الظهار وآية اللعان وغير ذلك من الآيات القرآنية الواردة على أسباب خاصة والأحاديث النبوية
وأيضا فالعبرة بعموم اللفظ ووروده على سبب لا ينافيه بل ذلك بمثابة الحكم على بعض أفراد العام بموافق العام ولم يخالف فيه إلا ابو ثور وأيضا لو أراد قصره عليه لما أتى بعبارة عامة
قال المنازع لو كان العبرة بعموم اللفظ لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد كغيره من أفراد العام وهو لا يجوز بالاتفاق
وأجيب بالفرق بين السبب وغيره من أفراد العام بأنه قطعي الدخول في الإرادة لورود العام عليه فكان كالنص الصريح فيه وإلا لم يكن جوابا عليه فامتنع التخصيص به
وقوله ورأى من يرويه إشارة إلى مسألة فيها خلاف أيضا بين أئمة الأصول وهو تخصيص العموم برأي من يرويه صحابيا كان أو غيره كما أطلقه النظم وبعضهم يخصه بما إذا كان الراوي صحابيا والجمهور على ما يفيده النظم من نفي التخصيص برأي الراوي وخالف في ذلك الحنابلة والحنفية استدل الجمهور بأن العمل بالدليل وهو العموم واجب ومذهب الراوي ليس بدليل عندهم فلا يخص به وإلا لزم ترك الدليل لغير دليل وهو غير جائز
قال المخالف عمل الراوي بخلاف ما رواه دليل على اطلاعه على دليل التخصيص وإلا كان فاسقا لمخالفته الدليل
قلنا الدليل ما رواه لا ما رآه إذ قد يكون دليل التخصيص عنده عن ظن أو اجتهاد وظنه واجتهاده لا يجب علينا اتباعه فيهما ولذا كان الصحابة يخالف بعضهم بعضا في الاجتهادات ولو كان حجة لما جاز خلافه وإذا كان هذا في الصحابي فبالأولى أن لا يعمل برأي غيره
ومن المخصصات المنفية قوله ... كذلك العادة لا تخص ... ولا بإضمار على ما نصوا ... قدر في المعطوف والعام متى ... خص ففي الباقي حقيقة أتى ...
اشتمل النظم على ثلاث مسائل خلافية بين أئمة الأصول والراجح ما في النظم غالبا
الأولى التخصيص بالعادة والمراد بالعادة الفعلية فلا يخص بها العام وذلك كأن يكون من العادة أن يأكل أهل بلدة طعاما مخصوصا كالبر مثلا فصارت عادة فعلية ثم يأتي النهي عن بيع الطعام بالطعام فهذا لا يخص بها
العام فقالوا لأن لفظ العام لم يطرأ عليه ما ينقله عن معناه الأصلي والعادة إنما نشأت من استعمال أكل البر والدلالة اللغوية باقية على حالها فهذه هي المنفية في النظم وأما العادة القولية فلا خلاف أنه يخصص بها كما صرح به أئمة الأصول وذلك كأن يطلق في العرف العام لفظ الطعام على بعض أفراده كالشعير بحيث إذا أطلق العام لم يتبادر منه إلا ذلك الفرد فهذه هي الحقيقة العرفية وهي مقدمة على اللغوية فيخص بها وخالفه الحنفية فقالوا لا فرق بين الفعلية في أنه يخص بهما الجمهور على الفرق لما عرفته
المسألة الثانية قولنا ولا بإضمار على ما نصوا إشارة إلى ما نص عليه علماء الأصول أنه لا يخص العام بإضمار قدر في المعطوف اقتضاه المقام فإنه لا يخص به العام في المعطوف عليه هذا رأي الجمهور وخالفه الحنفية فقالوا يخص به لوجوب المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه مثاله حديث أحمد وأبي داود والنسائي عن علي رضي الله عنه مرفوعا ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده قالوا فيقدر في المعطوف وهو ولا ذو عهد
لفظ بكافر تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه وكافر نكرة في سياق النفي فتعم وتفيد أن المعاهد لا يقتل بالذمي لكنه ثبت الإجماع بأنه يقتل المعاهد بالذمي فخصصنا الكافر الذي قدرناه بالحربي أي جعلناه خاصا به فصار معنى الحديث ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي وهذا مرادنا بقولنا قدر في المعطوف قالوا فيقدر كذلك في المعطوف عليه ضرورة للاشتراك والمساواة بين المتعاطفين فيفيد الحديث جواز قتل المسلم بالذمي وهو رأي الحنفية
وأجيب عن الحنفية بأن اللازم من المشاركة بين المتعاطفين هو المشاركة في الجملة إن اقتضى المقام مقدرا في المعطوف كما ذكرتم فلا يلزم تقديره في المعطوف عليه إذ لا يشترط اشتراكهما في أصل الحكم وهو هنا منع القتل ولا يلزم من ذلك تقدير من جميع ما يمكن اضماره منى احدى الجملتين اذ التقدير خلاف الأصل ويجب أن يقتصر على قدر الحاجة فيه وهذا على تسليم أنه لا بد من تقدير بحربي وإلا فلك أن تقول لا حاجة إلى تقديره بل يبقى قوله ولا ذو عهده في عهده بكافر عاما لكل كافر ويخص بالإجماع على قتل المعاهد بالذمي
المسألة الثالثة قولنا والعام متى خص ففي الباقي حقيقة أتى وهي مسألة العام بعد التخصيص هل هو حقيقة أو مجاز فإنه اختلف علماء الأصول هل يكون حقيقة بعد ذلك مجازا فالنظم أفاد الذي بعده حقيقة وهذا رأي الحنابلة ومتأخري الشافعية ونقل عن الشافعي وعن طائفة كثيرة من المحققين
والقول الثاني أنه مجاز وهو قول أكثر الزيدية ومحققي الأشعرية وابن الحاجب وغيرهم وهذان القولان هما المشهوران وفي المسألة أقوال أخر لا يظهر الراجح منها بل هي مرجوحة فنذكر دليل هذين القولين
قال الأولون الباقي بعد التخصيص من أفراد العموم ولفظ العام
يتناوله حقيقة وإرادة وإخراج بعض أفراد العام من الحكم لبيان ما أريد من العام بقرينة التخصيص ولا يلزم المجاز من ذلك فما كل قرينة تستلزمه إذ قرينة المشترك تعين المعنى المراد من معانيه ولا تصيره مجازا كذلك العام لا يخرج بالقرينة عن موضوعه إذ الاستغراق الذي هو مدلول العام باق في المقام غايته أنه طرأ عليه عدم إرادة البعض وأجيب عنه بأن تناوله للباقي لا يوجب كونه حقيقة فيه إذ قد استعمل في غير ما موضع له فإنه موضوع للأستغراق وقد خرج عنه بقصره على بعض أفراد مدلوله بالقرينة وهذا حقيقة المجاز قلت وهذا الرد ناهض ولهم مقاولات لا تصير كلامهم راجحا
قال أهل القول الثاني الباقي بعض التخصيص تمام المراد والتخصيص هو القرينة على تلك الإرادة ومعلوم ان مدلول العام هو جميع أفراده فلو كان حقيقة في جميعها كما اتفقنا عليه وحقيقة في البعض منها كما قلتم لكان مشتركا وهو خلاف المتفق عليه وأيضا فإنا نقطع بأن الباقي بعد التخصيص هو تمام المراد وهذا هو معنى المجاز لأنه اللفظ المفهوم معناه بواسطة القرينة المعنية للمراد ولا يخفى رجحان هذا القول لا على ما أفاده النظم لأن النظم إنما يحكي قول الأصل
واعلم أن من مشاهير مسائل العام مسألة الخلاف هل هو حجة بعد التخصيص أو ليس بحجة وهذه أخرها صاحب الأصل إلى باب المجمل والمبين وذكرها الناظم هنالك فيأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى
قوله ... وقد جرى التخصيص في الإخبار ... في المذهب المهذب المختار ...
إلمام بمسألة هل يجري التخصيص في الإخبار كما يجري في الإنشاء اتفاقا فخالفت شرذمة قليلة قالوا لأنه يستلزم الكذب وهذه هي شبهة من منع المجاز والحق أن الكل جائز بل واقع قال الله تعالى وأوتيت من كل شيء ومعلوم أنها لم تؤت ما أوتي سليمان من الأشياء وقال الله
تعالى تدمر كل شيء ومعلوم أنها إخبار مخصوص كما سبق ولا حاجة إلى الإطالة في بيان ضعف هذه المقالة
وقوله ... ولم يكن تعارض في القطعي ... مابين عامين كما في الفرعي ...
إبانة لمسألة تعرض لها صاحب الفصول وغيره من أهل رأيه وذلك أنهم قالوا العمومات في المسائل القطعية تكون قطعية الدلالة وذلك كعموم آيات الوعد والوعيد قالوا لأن المطلوب من العموم إما العمل وإما الاعتقاد فإذا كان المطلوب الأول كفى فيه الظن وإذا كان المطلوب الثاني فلا بد من أن يكون قطعي الدلالة لأنه لو جاز أن يكون المراد به غير ظاهره من العموم للزم أن يكون الشارع قد طلب منا العمل بالظن في الاعتقاد والجهل وهو قبيح لا يجوز من الله تعالى بخلاف العمل فإنه لا يقبح العمل بما أفاده الدليل الظني
وأجيب بأن كونه قطعيا في العمليات يستلزم عدم تخصيصه لا بظني إذ لا يعارض الظني القطعي ولا بقطعي للزوم تعارض القواطع لأن الفرض أن هذا الفرق بين إفراد العموم داخل قطعا تحته فإخراجه من الحكم عن إفراد العموم ينافي دخوله تحته وليس هو كذلك إذا كانت دلالته ظنية لأن دخول الفرد المخرج عن العموم غير مقطوع به فيكشف التخصيص عن عدم دخوله وحينئذ فقد ناقضتم أنفسكم لأنكم خصصتم عمومات الوعد المطلقة بالعاصي وعمومات الوعيد المطلقة بالتائب ولو كانت العمومات في مسائل الاعتقاد قطعية لما جاز التخصيص لما عرفت من حصول التنافي بدخول ما خص تحت العام قطعا وخروجه بالتخصيص فيكون داخلا خارجا
فإن قلت التخصيص كشف لنا عن عدم دخوله قلت الفرض أن دخوله مقطوع به فقد لزم من هذه القاعدة تناقض الحكم حيث حكمتم بتخصيص بعض المسائل العلمية وهو لا يجوز فتعين بطلان هذه القاعدة التي
أنجزت إلى ما لا يجوز وتعين الحكم باستواء مدلولات العام في مسائل الاعتقاد وغيره وأيضا فإن العمليات لا بد من حصول الاعتقاد فيها من كون الحكم حلالا أو حراما فإنه لا يعمل بالدليل حتى يعتقد الحكم من تحليل وتحريم وإلا فيلزم اعتقاد الجهل كما في العلمية وهو لا يجوز ومن هنا علمت أن تفريقهم بين العمومين غير صحيح
والإلزام الذي قالوه باعتقاد الجهل مع الدليل الظني باطل لأنه قد قام الدليل على العمل بالأمارات الظنية فيكفي الاعتقاد الراجح فيما أمرنا به والعمل بما ظهر من الأمارات الظنية
وأما اشتراط القطع فقد قام ما قررناه على بطلانه للزوم التناقض معه كما عرفت إذا عرفت هذا عرفت أن الناظم لا يختار ما نظمه من أنه لا يفي التعارض بين العمومين في مسائل الاعتقاد بناء على أن العموم فيها قطعي الدلالة وقرينه أن المراد مسائل الاعتقاد شهرت المسألة بين أهل الفن
وقوله ... وصح في الخاص وفي العام و ما ... كان أخيرا منهما قد علما ... كان له الإعمال لا ما جهلا ... تاريخه فالكل حتما أهملا ...
ضمير صح للتعارض المنفي آنفا أي أنه تعارض العام والخاص ولا يخلو إما أن يعلم تاريخ ورودهما أو يجهل
الأول ذكرت فيه صورتان
الأولى منهما أن يتقاربا أي يتصل أحدهما بالآخر إلا ما لا يعد فاصل كنفس وسعال أو لا
الثانية أن لايتقاربا وهو لا يخلو إما أن يتأخر أحدهما بمدة تتسع للعمل بالأول اولا فهذه الأطراف من القسم الأول قد شملها قولنا
وما كان أخيرا منهما قد علما فإنه وإن كان من جملة الأطراف حالة التقارن فليس المراد بالتقارن الحقيقي لاستحالة ذلك وحينئذ فلا بد أن يتقدم أحدهما ويكون ما اتصل بالمتقدم متأخرا فتشمله عبارة النظم وإذا كان كذلك فإنه يجب إعمال الأخير منهما وهو ما أفاده قوله كان له الإعمال إلا أن إعماله قد يكون على جهة النسخ وقد يكون على جهة التخصيص لأنه يتصور في أطراف ثلاثة هي إما أن يتقارنا أو يتأخر الخاص أو يتأخر العام
الأول تقارنهما نحو أن يرد اقتلوا المشركين ولا تقتلو أهل الذمة أو يعكس فيحكم بأن الأخير مع التقارن العام فهذا حكمه أن يبني الخاص على العام بمعنى أنه يحكم بتخصيص العام ولا يصح الحكم بالنسخ هنا لعدم التراخي
الثاني أن يتأخر الخاص فإما أن يتأخر بمدة لا تتسع للعمل فيها كأن يقال اقتلوا المشركين عند انسلاخ الشهر الفلاني ثم يأتي النهي عن قتل أهل الكتاب قبل انسلاخه فهذا يخصص به العام عند الجمهور وإما أن يتأخر بمدة تتسع للعمل فيها فلا يخلو اما ان يكون قد وقع كأن ينسلخ الشهر الفلاني وقد وقع القتل ثم يرد النهي فهذا نسخ بلا خلاف إذا كملت شروطه أو لم يكن قد وقع كأن ينسلخ الشهر قبل وقوع القتل ثم يرد النهي عن قتل أهل الذمة فهو أيضا ناسخ عند الجمهور المانعين لتأخير البيان عن وقت الحاجة إذ وقت الحاجة إلى البيان هنا هو عند انسلاخ الشهر
الثالث من الأطراف هو أن يتأخر العام عن الخاص فإما أن يتأخر بمدة لا تتسع للعمل بالخاص بني العام على الخاص وكان تخصيصا عند الجمهور وإما أن يتأخر بمدة تتسع للعمل بالخاص فإنه عندهم يكون العام ناسخا للخاص ولا يبقى له أثر فيما تناوله من مدلول العام وهذا هو ظاهر كلام النظم حيث قال كان له الإعمال فإنه إنما لا يتحقق إعمال العام
المتأخر إلا بإبطال الخاص فيما يتناوله وهذا هو الذي عليه الجمهور قالوا ودليله أن الخاص دليل مستقل وبعد مضي الوقت الذي اتسع للعمل بمدلوله لم يبق أي الخاص موجبا للعمل به بعد ورود العام لظهوره في جميع أفراده ولضعف الخاص بعد مضي وقت العمل به وذهب بعض العلماء إلى أنه يكون تخصيصا للعموم وهو قول طائفة منهم الشافعي كما قال الناظم ونجل إدريس إلى آخره واستدلوا بقوة الخاص في دلالة وتقدمه يكون قرينة على أنه لم يرد بالعام جميع أفراده قالوا وإن كان العمل بالدليلين أولى من إبطال العمل بأحدهما
قالوا أيضا فالتخصيص أغلب من النسخ وهذا القول رجحه كثير من المتأخرين وأشرنا إلى ترجيحه بقولنا ... ونجل إدريس يرى أن يعملا ... بكل شيء في الذي تناولا ... تقدم التخصيص أو تأخرا ... أو جهل التاريخ هذا ما يرى ... وأنه الأولى إلى الصواب ... واختاره محققوا الأصحاب ...
ففي حواشي الفصول أنه ذكره الفقيه عبدالله بن زيد للمذهب قال وهو اختيار لوالدي محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى انتهى ونسبه في شرح الغاية إلى المؤيد بالله وأنه صرح به في شرح التجريد
ثم إنه لا يخفى أن بناء العام على الخاص إنما هو إذا كان بينهما عموم وخصوص مطلق فأما إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا يتأتى فيه ما سبق من خلاف إذ ليس تخصيص أحدهما بعموم الآخر بأولى من العكس
فلا بد من تطلب الترجيح بينهما مثال ذلك حديث من بدل دينه فاقتلوه مع نهيه صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء فإن الأول خاص بالمرتدين عام للذكور والإناث والثاني خاص بالنساء عام في الحربيات والمرتدات قال ابن دقيق العيد في حاشية الإلمام وكأن مرادهم بالترجيح الترجيح العام الذي لا يخص مدلول العام وذلك كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجية عن مدلول العام من حيث هو انتهى
هذا وقد سبق تحقيق أقسام ما علم تاريخه وبقي القسم الذي جعل تاريخه فإنه لا يعرف المتقدم من المتأخر فالجمهور أنهما يتعارضان في القدر الذي تناوله الخاص فيجب النظر في الترجيح بينهما فإن ظهر فالمراد وإلا فالواجب اطراحهما فيما تعارضا فيه وهو ما أفاده النظم بقوله لا ما جهلا تاريخه فالكل حتما أهملا أي من كل من العام والخاص بالقدر الذي تناوله الخاص وليس المراد أن يطرح العام بالكلية كما يفيد ظاهر العبارة وهذا إذا تساويا لا لو ظهر وجه ترجيح لأحدهما عمل بالراجح وهذا قول
الأكثر وقيل بل يبنى العام على الخاص وهذا لأبي طالب ويروى عن الشافعية وعن المالكية وذلك لقوة دلالة الخاص على مدلوله ولإمكان العمل بالدليلين إذا جعل الخاص مخصصا للعموم
ولما بلغنا في قراءة شرح الغاية المعروف بالهداية إلى هذا الموضع وقد استوفى المباحث هذه في شرحها أنشدني شيخنا رحمه الله حال القراءة لنفسه في ضبط صور بناء العام على الخاص فقال ... يبنى العموم على الخصوص بأربع ... صور على القول لأجل فقل أجل ... مع جهل تاريخ وعند تقارن ... وتفارق زمنا يضيق عن العمل ... وكذا بمتسع يكون عمومه ... متأخرا والعكس نسخ لم يزل ...
ولما انتهى بناء الكلام إلى آخر أبحاث العام والخاص أخذنا في المطلق والمقيد بقولنا ... فصل حوى المطلق والمقيدا ... فالأول المفيد حيث وردا ... شيوعه في جنسه والثاني ... ما دل مع قيد فخذ تبياني ...
فحقيقة المطلق هو اللفظ المفيد لشيوع جنسه أي شيوع مدلوله في جنسه فالمفيد صفة موصوف ومحذوف والمراد بالشيوع مدلوله في جنسه كون مدلوله حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك من غير تعيين وهذا يوافق قولهم إن المطلوب من المطلق هو الجزئي المطابق للماهية لا كما زعمه في جمع الجوامع تبعا لغيره أن المطلوب هو الماهية إذا عرفت هذا فإنه خرج بقيد الشيوع العلم والمبهمات والمضمرات لما فيها من التعيين نحو زيد وهذا والذي وأنا فهذا فائدة قوله من غير تعيين إذ لولاه لدخل غير العلم من المعارف لاحتمالها حصصا كثيرة تندرج تحت أمر مشترك من حيث الوضع وخرج نحو الأسد وأسامة فإن كلا منهما يدل على
الحيوان المفترس مع الإشارة إلى تعيينه والفرق بين المعرف بلام الجنس وعلم الجنس أن التعيين استفيد من اللام في الأول واستفيد في الثاني من جوهر لفظه وخرج المعرف بلام العهد الخارجي وخرج كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل لأن مدلول العام استغراقي وعموم المطلق بدلي كما عرفت وهو ينافي الشيوع بالتفسير المذكور فهذا رسم المطلق وفوائد قيوده
وأما المقيد فهو ما أفاده قولنا والثاني ما دل أي لفظ دل على بعض مدلول المطلق مع قيد زائد عليه والمراد بالقيد ما يفهم معنى زائدا على ما في المطلق سواء كان معنويا أو لفظيا فمثل زيد في أكرم زيدا بعد قولك أكرم رجلا قد استفيد منه تقييده بذلك الشخص الدال عليه الاسم ومثل رقبة مؤمنة بعد قولك أعتق رقبة قد استفيد من المقيد الملفوظ به وهو مؤمنة المعنى الزائد على المطلق ... وكل ما في العام والخاص أتى ... فخذه منفيا هنا ومثبتا ...
يريد أن كل ما مضى من الأبحاث العام والخاص من متفق عليه ومختار ومزيف فإنه يأتي هنا فإن تقييد المطلق نشيبه بتخصيص العام لكون التقييد كالإخراج ببعض إفراد المطلق كما أن التخصيص لإخراج بعض إفراد العام وإن كانت الصلاحية في المطلق على جهة البدل وفي العام على جهة الشمول والاستغراق فالمراد التنبيه على تشارك العام والمنطلق في أكثر الأحكام التي سبقت في باب العام والخاص وإن كانا يفترقان في أمور كما يأتي وإذا عرفت هذا فاللمطلق والمقيد حالات في النظر إلى الاتحاد في الحكم والسبب والاختلاف في أحدهما أو فيهما معا
الحالة الأولى اتحاد السبب والحكم إليها اشار قولنا ... فإن يكونا وردا في حكم ... يحكم بالتقييد أهل العلم ...
أي إذا ورد المطلق والمقيد في حكم واحد واتحد سببهما فإنه يحكم بالمقيد على المطلق مثاله أن يقال في الظهار أعتق رقبة ثم يقال أعتق رقبة
مؤمنة في الظهار وقوله أهل العلم مراده أكثرهم وإن كان في أصل النظم أنه اتفاق وقد ذكر فيه خلاف النادر والعبارة قاضية في أنه يحمل المطلق على المقيد سواء تقارنا أو تقدم أحدهما أو تأخر أو جهل التاريخ
إذا تقرر هذا فهذا الحكم استدل به الجمهور بأنه جمع بين الدليلين إذ العمل بالمقيد عمل بالمطلق في ظن المقيد فإنه تقرر أن المطلق دال على أفراده على جهة البدل فيصدق المطلق في ضمن أي فرد منها ويكون المقيد دليلا على أنه المراد من المطلوب بالمطلق لا غيره من الإفراد فتحقق كون العامل به عاملا بالمطلق الذي عينه المقيد ولذا يقولون إنه عمل بالمطلق في ضمن المقيد
قالوا وأيضا العمل بالمقيد خروج عن العهدة يقينا بخلاف العمل بالمطلق فقد يكون المطلوب هوالمقيد فلا يخرج عن عهدة التكليف بالمطلق فكان العمل بالمقيد أحوط بل هو الذي يتعين ولو كان مفهوم المقيد لقبا لأن دلالة المطلق على إفراده بدليل والمطلوب هو الجزئي المطابق للماهية فأدنى إمارة تكفي في تعيين ذلك الجزئي وتعيين المطلوب بالمطلق والمنع من العمل بمفهوم اللقب إنما كان لئلا تثبت به الأحكام الشرعية ويجعل دليلا مستقلا بخلاف العمل به هنا فإنما هو على جهة أنه قرينة معينة لما تقرر من أن المطلوب بالمطلق هو الجزئي المطابق للماهية فلم يستقل بالإفادة ومثاله أعتق رقبة أعتق رقبة أنثى فإنها لما كانت الرقبة شائعة بين الأفراد على جهة البدل وجاء التقييد بما ذكر أفاد تعيين ما أريد بالمطلق ولذا جاز تقييد المطلق بالعادة ولم يجز بها التخصيص ما ذاك إلا لأنه يكتفي بأدنى إمارة في تعيين المطلق وهذا قد صرح به المحقق المحلي في شرح الجمع هذا كله إذا اتحدا حكما وسببا وهي الحالة الأولى لا إذا وقع الاختلاف فهي الحالة الثانية فقد أبان حكمه قولنا
لا إن أتى الحكمان من جنسين ... إلا قياسا ثم مثل دين ...
أي لا إن اختلف الحكمان فإنه لا يحكم بالتقييد لظهور التنافي بين المطلق والمقيد من الاختلاف في الحكم وهو المراد من قوله من جنسين وظاهر عبارة النظم أنه لا حمل إذا قد حصل اختلاف الحكمين سواء اتحدا في السبب نحو صم يوما في الكفارة وأطعم طعام الملوك في الكفارة او اختلفا نحو اهد بدنة عن القران وزك بدنة سائمة عن النصاب وقد أفاد في المعيار الاتفاق على أنه لا يحمل المطلق علىالمقيد هنا ومثله في الفصول وعلية السؤال إلا أنه قد قيد هذا الاطلاق في عبارة النظم قوله إلا قياسا إلى آخره فإنه لا يحمل عليه لفظا من حيث الدلالة بخلاف حمله عليه قياسا فإنه ذكر هذا المهدي في المعيار إلا أنه قد استشكل القول بالقياس هنا أي مع الاختلاف في الحكم لأنه لا قياس معه إذ القياس إنما يكون الإلحاق في الحكم
والحاصل أن كلام أهل الأصول مضطرب في الالحاق بالقياس في هذه الحال وإنما صرحوا به في الحالة الثانية التي أفادها قوله ... حكم اختلاف الجنس في الأسباب ... هذا هو المختار في الكتاب
وهو خبر قوله ثم مثل ذين أي أن حكم اختلاف الجنس المتحد في الأسباب وإضافة اختلاف إلى الجنس إنما هو باعتبار اختلاف السب وإلا فالجنس هنا متحد والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة وقرينة المقام تنادى بالمرام من الكلام ومثال ذلك قوله تعالى في الظهار فتحرير رقبة وفي القتل فتحرير رقبة مؤمنة فالجنس متحد وهو الكفارة والسبب مختلف وهو القتل والظهار ففي هذه الصورة لا يحكم بالتقييد إلا على جهة القياس والذي عليه الجمهور قالوا إذ القياس دليل شرعي فإذا ظهر وجه الإلحاق بشروطه عمل به هنا وعبارة الأصل هكذا لا في في حكمين مختلفين من جنسين اتفاقا إلا قياسا ولا حيث اختلف السبب واتحد الجنس على المختار اى ولا حيث اختلف السبب واتحد الجنس إلا قياسا على المختار فقوله على المختار قيد للحمل على القياس في الحالتين وحينئذ يكون رأيه رأي الجمهور في صحة الحمل قياسا في هذه الحالة وهذا هو اولى في حل عبادته لأنه اذا اجيز الحكم بالألحاق قياسا مع الاختلاف في الحكم كما سبق فبالأولى مع اتحاد الحكم كما في هذه الحالة التي نحن بصددها إذ من البعيد أن يصح القياس مع الاختلاف في الحكم ولا يصح مع الاتحاد
وقولنا هذا هو المختار أي الحكم بالقياس في الحالتين وقد اختلف في المسألة على أقوال
الأول أنه يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة سواء وجد الجامع
أم لا قال أئمة من الشافعية إنه ظاهر مذهب الشافعي وعليه جمهور أصحابه
الثاني لا يحمل عليه إلا بدليل من قياس أو غيره وهذا قول الجمهور من الزيدية والمتكلمين
الثالث للحنفية أنه لا يحمل هنا المطلق على المقيد ولو وجد الجامع قالوا لأن أعمال الدليلين واجب مهما أمكن العمل فيعمل بالمطلق على إطلاقه وبالمقيد على تقييده بخلاف ما لو حمل المطلق على المقيد فإنه يلزم منه إبطال المطلق في غير ما دل عليه القيد وقد أجيب عن دليلهم بما لا يقوى على رده
واستدل الأولون القائلون بالحمل قياسا بأن القياس دليل شرعي فإذا وجد الجامع كان بمثابة نص مقيد للمطلق وأجيب بأن من شرط القياس أن يكون لإثبات حكم شرعي وهنا المقيد برقبة مؤمنة دل على إجزاء الرقبة المؤمنة وأما عدم إجزاء غيرها فهو ثابت بالعدم الأصلي لا بحكم شرعي فتعدية الحكم بالقياس لم تكن للحكم الشرعي بل للعدم الأصلي وهو عدم إجزاء الكافرة ولا يخفي قوة كلام الحنفية في المسألة
ولما فرغ الكلام من المطلق والمقيد أردفه بالمجمل والمبين فقال
الباب السابع في المجمل المذكور في الخطاب ... وقد أتى في سابع الأبواب ... المجمل المذكور في الخطاب ...
المجمل في اللغة يقال على المجموع ومنه أجمل الحساب إذا جمعه وعلى الإبهام من أجمل الأمر أي أبهمه وهذا يناسب أن يكون المجمل في الاصطلاح مأخوذا ! منه وقد رسمه الناظم بقوله ... ورسمه ما ليس منه يفهم ... مفصلا ما قصد المكلم ...
أي رسم المجمل ما ليس يفهم منه ما قصد المتكلم فكلمة ما مراد بها اللفظ كما يشعر به قوله ما قصد المكلم وهذا بناء علىالأغلب وإلا فالإجمال قد يكون في الأفعال كالأقول ولك أن تحمله على ما يشملهما فيراد بالمكلم من شأنه التكلم أعم من أن يكون بفعله أو بقوله وهذا أولى ليشمل الأمرين والإجمال في الأفعال كأن يقوم صلى الله عليه و سلم من الركعة الثانية من غير تشهد فإنه متردد بين أن يكون على جهة العمد فيكون من الأدلة الشرعية أو السهو فلا يدخل فيها هذا وقد خرج من الرسم المذكور المبين إذ يفهم منه ما قصد المكلم على جهة التفصيل وخرج المهمل بطريق المفهوم إذ قد أفاد توجه النفي إلى القيد أعني مفصلا أنه يفهم منه شيء في الجملة غير مفصل
إذا تقرر هذا فالمجمل قد يكون في المفرد كعين بناء على أنه لا يصح
حمل المشترك على جميع معانيه ومن قال يصح لم يكن عنده العين مجملا ويكون في المركب أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه يحتمل أن يراد به ولي النكاح المتولى للعقد أو الزوج ويكون في الضمير كما روي عن ابن الجوزي أنه سئل عن علي عليه السلام وأبي بكر رضي الله عنه أيهما أفضل وكان على المنبر فقال من كانت ابنته تحته ونزل وقد يكون في الصفة نحو زيد طبيب ماهر فإنه يحتمل أنه ماهر في الطب ويحتمل أنه طبيب وأنه ماهر وفرق بين الأمرين فإن الأولى تفيد المهارة في الطب والثانية أعم والأمثلة مبسوطة في المطولات
والمراد معرفة الضابط في الرسم ... خلافه يدعونه مبينا ... ثم البيان ما أفاد ما عنى ... من المراد بالخطاب المجمل ... وصح بالسمع البيان فاقبل ...
أي خلاف المجمل يسمونه المبين وهو ما يفهم منه المقصود على جهة التفصيل وهذا صادق على المبين بنفسه نحو السماء والأرض والله بكل شيء عليم وعلى البيان بعد الإجمال ولما كان المقصود هو الآخر صرح به قوله ثم البيان إلى آخر المصراع الأول من البيت الثاني أي البيان شيء أفاد ما عناه المتكلم بالدليل المجمل من مراده فقوله شيء جنس الحد وقوله أفاد ما عنى يدخل فيه المجمل على ما قررناه سابقا من أنه لا بد أن يفيد إفادة ما وقوله بالدليل أخرج المحمل وأما قوله وصح
بالسمع البيان أي صح بيان المجمل بالسمع كتابا وسنة وإجماعا وقياسا نحو وآتوا حقه يوم حصاده فإنه مجمل بينه قوله صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر وما سقي بالنضح نصف العشر أخرجه البخاري وغيره وهذا النوع واسع في الأحكام الشرعية وقد يكون بالسنة الفعلية نحو قوله صلى الله عليه و سلم صلوا كما رأيتموني أصلي أخرجه البخاري وغيره ونحو خذوا عني مناسككم كما في حديث جابر عند مسلم قيل وهو أقوى من البيان بالقول كما يدل له حديث ابن عباس مرفوعا ليس الخبر كالمعاينة رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان ورواه الطبراني وزاد فإن الله أخبر موسى بن عمران عليه السلام عما صنع قومه من بعده فلم يلق الألواح فلما عاين ذلك ألقى الألواح
وأما البيان بالإجماع والقياس ففيه الخلاف الذي وقع في جواز التخصيص بهما واعلم أنه إذا ورد بعد المجمل قول وفعل يفيدان بيانه فإن علم السابق منهما فهو البيان والثاني تأكيد فعلا كان أو قولا وإن جهل فأحدهما هو المبين لا على جهة التعيين لعدم العلم بالسابق والآخر حكم التأكيد هذا إن اتفقا فإن اختلفا أن يأمر صلى الله عليه و سلم بعد نزول الحج بطواف ويطوف طوافين فقيل المبين هو القول تقدم أو تأخر أو جهة وهذا رأي الجمهور قالوا لأن القول يدل على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه فكان بالبيان أولى من الفعل ويحمل الثاني على الندب أو على أنه خاص به صلى الله عليه و سلم
واعلم أنه ذكر في أصل النظم أنه لا يلزم أن تكون شهرته البيان كشهرة المبين فلم نذكره هنا لأنه قد سبق ما يفيده في باب العام والخاص حيث قلنا وخص بالآحاد ما تواترا
والحاصل أنه اختلف هل يشترط أن يكون البيان أقوى من المبين فقال الرازي لا يشترط ذاك فيجوز بالأدنى فيبين المظنون المعلوم قال العضد بعد كلام وأما المجمل فيكفي في بيانه أدنى دلالة ولو مرجوحا إذ لا تعارض انتهى ولابن الحاجب بعض تخليط
هذا وأما مسألة جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو عدم جوازه فتأتي المسألة قريبا
ولما ذكر أئمة الأصول مسائل وقع فيها خلاف هل هي من المجمل ذكرناها هنا بقولنا ... والمدح للشيء دليل الحسنى ... لأنه حث على ما أثنى ... وذمه في القبح قالوا أوضح ... مما يفيد النهي فهو أقبح ...
أي أن مدح الشيء دليل على أنه حسن لأن فيه حثا وتحريضا على العمل به وذم الشيء دليل على أنه قبيح منفر عنه أشد التنفير من النهي فإن النهي قد يكون للكراهة التي هي داخلة تحت الحسن عند الأكثر وهذا معنى قوله أوضح وفرع عليه قوله فهو أقبح
واعلم أن تأخير هذه المسألة إلى هذا المحل وقع تبعا لأصل النظم وهو تبع المهدي فإنه قال ما حاصله إن المدح والذم قد يتردد بين تعليقه بالأشخاص وبالأفعال فجعل هذه المسألة بعض الأصوليين لذلك من المجمل قالوا لأن قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة الآية يحتمل أنه جاء بصفة الذين لمجرد التعريف بصفة الرجل المذموم لا لذمه لما أفادته جملة الصلة في الآية وهو الكنز كما تقول الذي يلبس البياض
أضربه فيحتمل أن ضربه لأجل لبس البياض أو لغيره فكذا هنا يحتمل أن الذم المستفاد من الوعيد لأجل الكنز أو لأجل غيره وكذا في إن الأبرار لفي نعيم يحتمل أن نعيمهم لأجل البر ويحتمل لغيره فصار مجرد المدح والذم على هذا مجملا لا يدل على حسن ولا قبح للاحتمال المذكور وقال الجمهور ليس بمجمل بل الوصف إذا علق الذم أفاد قبحه أو المدح أفاد حسنه ويكون ظاهرا في ذلك وإن احتمل أن يكون لمجرد التعريف فاحتمال مرجوح انتهى
وقد اعترض المهدي صاحب القسطاس وقال النزاع في المسألة للخصم أنه لا عموم في ما علق عليه المدح والذم حتى يستدل بآية الكنز مثلا على وجوب الزكاة في الذهب والفضة على جهة العموم فالاحتمال فيها لعدم تعيين الكنز الذي علق به الذم فالدليل الذي ينهض على الخصم إنما هو في إفادتها العموم وعدم منافاة الذم والمدح له ... قالوا ولا إجمال فيما نكرا ... من الجموع بل يكون ظاهرا ... فيما يرى الأقل في المعاني ... كذلك التحريم للأعيان ... يكون للمعتاد عند الأجزل ... والعام إن خص فغير مجمل ...
اشتمل على ثلاث مسائل الأول في أن الجمع المنكر نحو رجال ليس بمجمل كما قاله الأكثر من أئمة الفن بل إذا ورد وجب حمله على المتحقق من مدلوله وهو أقل مراتب الجمع وهذا معنى قوله بل يكون ظاهرا إلى آخره أي هو ظاهر في أقل المعاني الداخلة تحت مدلوله فيحمل عليه وذهب الأقل إلى
أنه مجمل قالوا لأن مراتب الجموع متفاوتة فليس حمله على بعض منها أولى من الآخر فيكون مجملا وأجيب بأنه وإن كان مترددا بين مراتبها فالترجيح بحمله على ما هو المتحقق كاف في بيان وجه الأولوية للخروج عن الإجمال الذي هو خلاف الأصل
المسألة الثانية قوله كذلك التحريم للأعيان أي لا إجمال فيما أتى ومن التحريم الواقع على الأعيان نحو حرمت عليكم أمهاتكم وهو قول الجمهور كما أفاده قول الأجزل والدليل أن من استقرأ اللغة علم أنه ليس المراد تحريم العين بل التحريم على ما يناسبه مما سيق له الخطاب كالأكل في المأكول والشرب في المشروب واللبس في الملبوس والوطء في الموطؤ فإذا قيل حرمت عليم أمهاتكم أو الخنزير أو الخمر أو الحرير حمل على ما سبق إليه الفهم عرفا من الوطء ونحوه مما يتبادر فيما ذكر وهذا مراد النظم بقوله يكون للمعتاد أي يكون التحريم للأعيان للمعتاد عرفا وخالف في ذلك الأقل وقالوا بل هو مجمل إذ تحريم العين غير متصور فلا بد من إضمار شيء يكون متعلقا للتحريم والأفعال كثيرة فإنه يحتمل تحريم الأم الوطء والنظر والاستخدام وفي تحريم الحرير البيع واللبس واللمس وكذلك سائر ما ذكره
قالوا ولا سبيل إلى إضمار الجميع لأن ما يقدر للضرورة يقتصر فيه على مايدفعها فيتعين إضمار البعض ولا دليل على تعيين شيء من المقدرات إذ ليس حمله على واحد منها أولى من الآخر فيتوقف في ذلك وهو معنى الإجمال وأجيب بالمنع من عدم تعين إضمار بعض معين بل ما سبق إلى الأذهان من العرف هو المراد هذا تقرير المسألة
واعلم أن من الأصوليين من يذكر هذه المسألة في باب العموم وهي المسماة بعموم المقتضى ولم يتقدم ذكرها في النظم ولا شرحه فلنشر إليها وإلى الراجح فيها ونقول تقدم في باب المنطوق أن الدلالة إذا توقفت في الصدق أوالصحة على مقدر محذوف سميت دلالة اقتضاء نحو حرمت
عليكم أمهاتكم ورفع عن أمتي الخطأ ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فالمتقضى اسم فاعل هو المحتاج للإضمار والمقتضى اسم مفعول هو ذلك المحذوف وحاصله إن قام دليل على أحد المحتملات تعين في المقام سواء كان المقدر عاما أو خاصا وإن لم يدل دليل على تقدير شيء لا عام ولا خاص مع احتمال تعدد المقدرات فهل نقدر المحتملات كلها وهوالمراد بعموم المقتضى أو لا يقدر قولان للعلماء الأول أنه يحمل على جميع المقدرات وهو قول الجمهور وهوالمتعين للخروج عن التحكم فيضمر لفظ عام للمقدرات شامل لها وبهذا يندفع ما قاله المخالف في أنه يلزم كثرة الإضمارات بناء منه على أنه يقدر كل ما يمكن تقديره واحدا واحدا فإنا نقول المقدر لفظ واحد يعم جميع التصرفات مثل الانتفاع في تحريم الميتة فإنه يعم الأكل والبيع وغير ذلك
المسألة الثالثة قوله والعام إن خص فغير مجمل وهذه هي مسألة هل يكون العام بعد تخصيصه حجة أو لا وفيها خلاف منتشر وتفاصيل ولنشر إلى ما هو المختار والأقوى حجة فالقول الأول أنه حجة إن خص بمعين لا إن خص بمبهم
وقد قسم الإبهام إلى قسمين إبهام في اللفظ نحو اقتلوا المشركين إلا بعضهم وإبهام في المعنى نحو أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم فإنه إشارة إلى معين في الواقع هو ما يتلى إذا عرفت هذا فإنه
اختيار الجمهور من الزيدية وغيرهم أنه إن خص بمعين نحو اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة فهو حجة وإن خص بمبهم نحو إلا بعضهم أو إلا ما يتلى عليكم فليس بحجة لإجماله واستدلوا على أنه حجة في الباقي بما عرف من استدلال الصحابة بظاهر العمومات المخصوصات وشاع بينهم وذاع فكان إجماعا وأيضا فإنه كان متناولا للباقي بعد إخراج البعض والأصل بقاء تناوله على ما كان عليه حتى يقوم دليل على خلافه والتخصيص لا يوجب نقله عن أصله وتغييره عما شمله بل يزيده قوة وظهورا فإنه إذا قيل اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أفاد ثبوت الحكم على المشركين المخرج منهم أهل الذمة بعد أن كان لفظ المشركين شاملا لأهل الذمة وأهل الحرب فازداد تناول العام للباقي قوة
قالوا وأما إذا خص بمبهم فإنه مع الإبهام لا يعلم ما قصد بالتخصيص فما من فرد إلا وهو محتمل لأن يكون هو المخرج فصار الباقي مجملا وهذا صادق على المبهم في المعنى وفي اللفظ كما قدمناه إذا تقرر هذا فقولنا والعام إن خص فغير مجمل إنما هو رد لقول من يقول إنه إن خص فإنه لا يبقى حجة سواء خص بمعين أو مبهم وهذا يروى عن أبي ثور وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن كثير من الشافعية والحنفية والمالكية قالوا لأن لفظ العام موضوع للاستغراق وقد صار بعد التخصيص للبعض وكل بعض هو فيه مجاز ولا يتعين أحد الأبعاض لتعدد مجازها إذ يحتمل أنه مجاز في كل ما بقي وفي كل بعض فكان مجملا
وأجيب بأن ذلك فيما إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعيين أحدها وهنا الدليل قائم على أن الباقي هو المراد بقاء على الأصل فيصار إليه
وأما قوله ... ولا صلاة في المبينات ... عد كذا الأعمال بالنيات ...
فهذا مما قيل بأنه مجمل فرده الجمهور وقالوا بل هو مبين أعني قوله صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بطهور وكذا قوله صلى الله عليه و سلم الأعمال بالنيات ليس بمجمل وهو بهذا اللفظ رواه الحاكم في الأربعين عن مالك وإن كان قد نقل النووي عن أبي موسى المديني وأقره عليه بأن الذي وقع في الشهاب بإسقاط إنما لا يصح له الإسناد ولكنه قد رواه مالك وابن حبان كما ذكره في تلخيص الحبير وأما بزيادة إنما فهو متفق عليه والمراد أنه قد أشار في النظم إلى إنما ورد فيه النفي على الذات من الأسماء الشرعية مثل لا صلاة إلا بطهور لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل وغير ذلك
من الأسماء الشرعية فإنه لا إجمال فيها وهو قول جمهور العلماء وهو مبني على إثبات الحقائق الشرعية وعلى أن الشرعي مخصوص بالصحيح فيكون التقدير لا صلاة صحيحة ولا صيام صحيح ولا إجمال في هذا ولا يصدق عليه رسمه
وذهب آخرون إلى أنه مجمل قالوا لأنه لا يصح نفي الوقوع لكونه مشاهدا وإنما أريد به أمر آخر وهو غير معلوم لنا فكان مجملا ولأنه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم فصار مجملا ولأنه متردد بين نفى الكمال ونفى الصحة والعمل على أحدهما بغير دليل تحكم
وأجيب بأن الحمل على نفي الصحة أولى لما عرفت ولأنه قال ابن تيمية إنه لا يعرف نفي الكمال في كلام العرب وأيضا فالإجمال خلاف الأصل فلا يحمل عليه
ومما قيل بإجماله وأشير إلى رده ما أشار إليه قوله ... ومثله رفع الخطأ وغيره ... واتبع الأمثال في نظيره ...
أي مثل الأعمال بالنيات رفع الخطأ بصيغة المصدر مرفوع على خبرية مثله وهو إشارة إلى حديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وقوله وغيره إلى ما يماثله من الأحاديث النبوية نحو لا عهد لمن لا دين له ولا هجرة بعد الفتح ولا رضاع بعد الحولين وهو باب واسع في كلام الشارع وغيره نحو لا ملك إلا بالرجال ولا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاده فالجمهور على أنه لا إجمال في ذلك فيحمل على ما يقتضيه العرف
شرعا أو لغة إن ثبت فيه أيهما ففي مثل رفع يقدر فيه المؤاخذة ونحوها ومثله غيره من الأمثلة فيحمل على ما يقتضيه العرف وذهب آخرون إلى أنه مجمل وهو قول مرجوح
وقوله واتبع الأمثال في نظيره إشارة إلى عدة أمثلة ذكرت في مطولات الفن من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم الإثنان فما فوقهما جماعة قالوا فإنه يحتمل أن يراد بها الجماعة اللغوية أو الشرعية التي يحصل الثواب بها ويترتب عليها والجمهور على أنه لا إجمال في ذلك بل يحمل على الشرعي لأن الشارع بعث لتعريف الأحكام الشرعية لا المعاني اللغوية والأمثلة كثيرة
ومن عرف ضابط المجمل والمبين عرف موقع الأمثلة من أي القسمين هي ... وللبيان يحرم التأخير ... عن وقت ما يحتاجه المأمور ... وهكذا التخصيص والتقييد ... هذا اتفاق عند من يفيد ...
هذه مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو حصول الوقت الذي طلب من المكلف فيه تنجيز الفعل فإنه يحرم تأخير البيان للخطاب المجمل عنه كما يأتي دليله ومثله التخصيص للعام والتقييد للمطلق أي يحرم التأخير لهما عن وقت الحاجة إلى بيان ما أريد بالعام والمطلق وهذا اتفاق بين العلماء كما أفاده النظم قيل إلا عند من جوز تكليف ما لا يطاق فإنه لا يمتنع عنده تأخيرها عن وقت الحاجة بل يجوز وإليه أشار قوله عند من يفيد تقييد للاتفاق لأخراج من ذكر وإن وقع في أصل النظم حكاية الإجماع مطلقة تبعا للإمام المهدي في المعيار
والدليل على ما ذكرناه من التحريم أفاده قولنا ... لأنه لو جاز كان يلزم ... من ذاك تكليف لما لا يعلم ...
أي لو جاز تأخير البيان عن وقت الحاجة لزم منه تكليف ما لا يعلمه المكلف وهو قبيح لا يجوز من الحكيم ... وجائز وفقت للصواب ... تأخيره عن زمن الخطاب ... في نهيه وأمره لا في الخبر ... إذ المراد منه إفهام البشر ...
الذي سلف تحريمه هو التأخير للبيان عن زمن الحاجة أما تأخيره عن زمن الخطاب ففيه أقوال
الأول إنه جائز سواء كان الخطاب مجملا أو ظاهرا أريد به خلاف ظاهره كالعام والمطلق وهذا قول الأكثر وسواء كان أمرا أو نهيا أو خبرا
والثاني يجوز تأخيره في الأمر والنهي دون الخبر وهو الذي أفاده الناظم
والثالث لا يجوز مطلقا
وجه القول الثاني وهو التفصيل أن الخطاب في الأمر والنهي إذا وقع من دون بيان سواء كان بمجمل أو ظاهر أريد به خلافه لم يحصل منهما اعتقاد جهل بخلاف الخبر فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب به لأنه إذا وقع بظاهر والمراد خلافه اوقع سامعه في اعتقاد الجهل وإذا كان بمجمل لزم العبث لعدم الفائدة بالإخبار في المجمل وليس المراد من الخبر إلا إفهام السامع وإفادته فهذا هو الدليل لأهل التفصيل وأجيب عن ذلك بأن اعتقاد الجهل مشترك الإلزام فإنه لا بد في الأمر والنهي من اعتقاد وجوب العمل أو الترك وفيه أقوال أخر وتفاصيل في مطولات الفن لا يحتملها الاختصار وقد استدل لمن قال بجواز تأخره عن وقت الخطاب مطلقا بأنه قد وقع والوقوع
فرع الجواز وذلك كآية الخمس فإنه تأخر بيان ذوي القربى حتى وقع البيان بأنهم بنو هاشم وبنو عبدالمطلب وكآية السرقة فإن ظاهر عموم القطع لليدين إلى المنكبين وعموم السرقة في قليل وكثير حتى وردت السنة ببيان الأمرين هذا كله في الظاهر وكذلك في المجمل كالأمر بالصلاة والحج وإذا عرفت أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب فالبحث عنه واجب كما أفاده قوله
والبحث عن واجب في العمل فلا يجوز أن يعمل بظاهر العام ولا المطلق ولا غيرهما قبل البحث عن تخصيص العام وتقييد المطلق وهذا قد تقدم في بحث العام وذكرنا هنالك بأن هذا الحكم يختص بالعام لكثرة المخصصات حتى إنها صيرت ظاهرة مرجوحا فلا يعمل به إلا بعد البحث عن مخصصه بخلاف المطلق
ولما تم المراد بيانه من الكلام على المجمل والمبين أخذ الناظم في الكلام على الظاهر والمؤول فقال ... فصل وللظاهر والمؤول ... رسمان فالظاهر حيث يطلق ... على خلاف النص وهو يصدق ... أيضا على مقابل للمجمل ...
يريد أن للظاهر والمؤول رسمين عند أئمة الفن
أما رسم الظاهر وله إطلاقان
الأول أنه يطلق على ما يقابل النص ورسمه عليه ما يدل على المعنى المقصود الراجح بنفسه مع احتماله لمعنى مرجوح وهذا هو الرسم الأول وهو مراده بقوله حيث يطلق على خلاف النص وعلى هذا المعنى فإن النص قسيم للظاهر وقد خرج من هذا الرسم المؤول فإن المعنى الراجح
المتبادر منه ليس هو المقصود وخرج المجاز أيضا على مقتضى كلام الناظم فإنه جعله من المؤول وكذا العام المخصوص إذ كل منهما لم يدل على المعنى المقصود بنفسه بل بعد البيان بالقرينة والتخصيص
والثاني من إطلاقيه أنه يطلق على ما يقابل المجمل كما أفاده قوله وهو يصدق أيضا فالظاهر على هذا هو ما اتضحت دلالته فيكون على هذا النص قسما من أقسامه ويدخل في المؤول والمجاز والعموم والخصوص وقد رسم على هذا المعنى بأنه ما يفهم منه المراد تفصيلا ولا شك في دخول النص على هذا إلا أنه يخرج منه المؤول وغيره مما ذكرناه وظاهر إطلاقهم دخول مدلول الألفاظ سواء المجمل تحت هذا الإطلاق لكن بالرسم الأول أعني ما اتضحت دلالته فيكون أولى فهذان الرسمان للظاهر باعتبار إطلاقيه
وأشار إلى رسم المؤول بقوله ... وبعد ذا فالرسم للمؤول ... بما به يعني خلاف الظاهر ...
هو مشتق من آل يؤول إذا رجع فهو مؤول لرجوعه بالتأويل إلى المعنى المراد منه ورسمه ما به يعني أي يراد خلاف الظاهر أي ظاهره فالتعريف عوض عن الضمير وبهذا يعرف أنه على هذا قسيم للظاهر بالإطلاق الأول ولذا أتى برسمه زيادة في الإيضاح وإلا فإن كثيرا من أهل الأصول لا يعرفه إما اكتفاء بتعريف التأويل أو لوضوحه بطريق المقابلة بينه وبين الظاهر ... والصرف للفظ عن الظواهر ... إلى المجاز أو بأن يقصر ما ... يفيده اللفظ إذا ما عمما ... وفيهما قرينة للصرف ... فذلك التأويل في ذا العرف ...
قد عرفت أن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره بقرينة فقوله والصرف مبتدأ وقوله فذلك التأويل خبره ودخول الفاء فيه من باب قوله وقائله
قولان فأنكح فتاتهم وقوله إلى المجاز إلى آخره بيان لقسمي التأويل وصرح بقوله أو بأن يقصر إلخ بناء على ما سبق من أن الباقي من العام بعد تخصيصه حقيقة وعلى هذا فالعمومات المخصصات والمطلقات المقيدات من قسم المؤول كما تقتضيه عبارة الناظم وهو ظاهر كلام أئمة الأصول من رسمهم المؤول وكذا المجازات
ولما كان التأويل يختلف في الوضوح والخفاء والقرب والبعد باعتبار قرائنه والأدلة الصارفة لظاهره انقسم إلى أقسام أشار إليها قوله ... وهو قريب وبعيد حسبما ... يقضي الدليل فاختلاف العلماء ... فيه على ما يقتضي وما أتى ... تعسفا فالمراد حتما ثبتا ...
أي أنه ينقسم التأويل إلى قريب وبعيد حسبما يقضي به الدليل فقد يكتفي في بعض الحالات بأدنى دليل في صرفه ورده عن ظاهره فهذا هو القليل وقد يحتاج إلى كثرة مخالفة في الظاهر وتطلب المرجحات فهذا هو البعيد فلذلك تجد العلماء يختلفون في تأويل الأدلة وردها عن ظاهرها إلى القواعد بحسب ما يظهر لكل واحد من القرائن وقد يأتي قسم ثالث في الحقيقة وهو ما فيه تكلف وتعسف ويأتي شيء من ذلك وإذا عرفت هذا فقد عد العلماء أمثلة من الثلاثة الأنواع قالوا فمن القريب تأويل آيات الصفات والأحاديث الواردة فيها فإن الدليل العقلي والشرعي قائم على عدم إرادة ظاهرها فينفق الخلف والسلف على منع حملها على ظاهرها إذا خالف التنزيه ذكر هذا البرماوي في شرح منظومته ومثله في شرح الغاية إلا أن في كونه إجماعا وأنه مذهب السلف تأملا فإن المنقول عن السلف هو ما ذكره الله تعالى في قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
( آل عمران 7 ) ولا يلتفتون إلى ما عدا ذلك قال المقبلي رحمه الله تعالى في الأرواح وهذا هو الحق وهو القدر الضروري وما عداه دعوى وتكلف بما لا يعني يحتمل المنع عقلا ويدخل تحت قوله تعالى وما أنا من المتكلفين إن أتبع إلا ما يوحى إلي ونحوها في منع التقول على الله تعالى بلا سلطان انتهى
وقد عد من القريب أمثلة كما عد من البعيد أمثلة اقتصرنا على بعض من الأمرين فمن البعيد تأويل الحنفية لحديث أيما امرأة نكحت نفسها فنكاحها باطل رواه أبو داود وغيره فقالوا المراد بها الصغيرة والأمة ووجه بعده أن الصغيرة لا يقال لها امرأة
وعدوا من البعيد تأويلهم وكثير من الزيدية قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا بإطعام طعام ستين مسكينا قالوا لأن القصد دفع الحاجة وحاجة ستين مسكينا في يوم واحد كحاجة واحد في ستين يوما فيصح إعطاء واحد في ستين يوما ووجه بعده أن تقدير المضاف خلاف الظاهر وهذه العلة المستنبطة لا تقوى قرينة على ذلك
وأما القسم الثالث فله أيضا أمثلة كثيرة مردودة كتأويل الباطنية قوله تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي بأبي بكر وعمر وعثمان وتأويلهم قوله تعالى أتأتون الذكران من العالمين بعلماء الظاهر وإتيانهم لأخذ فتواهم وأخذ العلم عنهم ومنه تأويل الخوارج لقوله تعالى حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى بعلي بن أبي طالب وأنفسهم وأنهم الذين يدعونه إلى الهدى والأمثلة واسعة من أهل الضلالات والابتداع وتأويل ابن عربي الملحد وأتباعه العذاب بالعذوبة ونحوها من ضلالاته
وقد ذكر قسم رابع سموه متوسطا وأمثلته لا تخفى والمقصود معرفةالقواعد لا تعداد الأمثلة فمن عرفها عرف ما تحتها من الأمثلة
الباب الثامن في النسخ قال ... والنسخ عد ثامن الأبواب ...
النسخ لغة يطلق على الإزالة نحو نسخت الشمس الظل وعلى النقل والتحويل نحو نسخت الكتاب
وفي الاصطلاح قيل إنه بيان لانتهاء مدة الحكم وقيل رفع الحكم وعلى هذا وقع تعريف الناظم بقوله ... ورسمه عند أولي الألباب ... إزالة لمثل حكم شرعي ... بما تراخى من دليل سمعي ...
أي رسم النسخ عند ذوي العقول هو إزلة لمثل حكم شرعي بدليل متراخ سمعي وقال لمثل ولم يقل عينه لأن إزالة العين فيما نسخ بعد فعلهما محال بل المنسوخ هو مثله
وقوله شرعي لإخراج الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الأحكام الشرعية فإن ارتفاعها بها ليس بنسخ اصطلاحي وقوله بما تراخى من دليل سمعي لإخراج إزالة الحكم بموت أو جنون فإنه لا يعد نسخا اصطلاحا وقيده بالتراخي لإخراج نحو صل إلى أن تغيب الشمس فإن ارتفاع الحكم مستفاد
من التقييد بالغاية وهو متصل بالدليل ليس فيه تراخ عنه وكذا غيره من المخصصات التي لا تراخي فيها وإن كان قد قيل إنه لا إزالة في التخصيص مثلا فليس بداخل فإن المخصص للدفع والنسخ للرفع والإزالة ففيه تأمل
وقوله بدليل ولم يقل بحكم لأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل
وقوله من دليل سمعي شامل للإجماع والقياس ويأتي أنه لا ينسخ بهما وقد شمل التعريف أنواع السنة الثلاثة
ولما كان قد خالف في النسخ جماعة من غلاة الإمامية أشار إلى رد كلامهم بقوله ... وجائز ذلك فيما اختاروا ... وإن يكن ما قدم الإشعار ...
هما مسألتان
الأولى جواز النسخ واستدل على جوازه بوقوعه لم تتبع الأحكام الشرعية فمن ذلك وجوب صوم يوم عاشوراء نسخ بإيجاب رمضان ووجوب قتال الواحد العشرة من الكفار ثم نسخ بإيجابه عليه للاثنين ووجوب الوصية للوارث نسخ بآية المواريث وغير ذلك مما يطول تعداده وقد صنفت فيه كتب مستقلة فالمنكر للنسخ من المسلمين إما جاهل أو مخالف في العبارة وإنما يعرف فيها الخلاف لليهود
واستدل لمن نفاه من المسلمين بأنه إما أن يكون الحكم مقيدا إلى غاية فلا ينسخ لعدم تحقق الرفع فيه أو لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فهو جهل أولا لحكمه فهو سفه وبدا وأجيب عن الأول بأنه عاد الخلاف لفظيا فإنا لا نعني بزوال الحكم إلا بالنظر إلى علمنا وإلا فهو مقيد في علم الشارع إلى غاية أبرزها عند نسخه الحكم وعن الثاني أنه قد تقرر عند الكل أن الأحكام كلها منوطة بالحكم والمصالح إلا أنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص فالحكم المنسوخ كان لحكمة انتهت في علم الشارع إلى
زمن نسخه ثم خلفها حكمة أخرى تقتضي حكما آخرا فلا سفه ولا بدا والمسألة الثانية أنه يجوز النسخ وإن لم يتقدم به إشعار وهذا رأي الجمهور وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز إلا إذا تقدم به إشعار نحو قوله تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا وأجيب بأنه لا يتم دعوى الإشعار في كل حكم حكم الله بنفسه ... ونسخ ما قيد بالتأبيد ... وغير إبدال لذي المفيد ...
عطف على قوله وجائز أي وجائز نسخ الشيئين وهو نسخ الحكم الذي قيد بالتأfيد والنسخ لحكم لا إلى بدل وهما مسألتان اختلف العلماء فيهما اختلافا كثيرا
فالأولى مثلوها بنحو أن يقول صوموا رمضان أبدا فالجمهور قائلون بأنه يجوز نسخه واستدلوا بأن التقييد بالتأبيد ليس نصا صريحا في الدوام غايته أنه ظاهر فيه وهو لانيا في النسخ كما قلنا في صيغ العموم أن ظاهرها الاستغراق مع جواز إخراج بعض أفرادها فكذا هنا يجوز إخراج بعض الأزمنة وإن كان التقييد بالأبد ظاهرا في الدوام
قال المانع صحة الأقل التقييد بالأبد ينافي النسخ لأن التقييد به يدل على الدوام والنسخ يدل على القطع وانتهاء الحكم وكون الشيء دائما منقطعا تناقض لا يجوز على الحكيم
وأجيب بأنه بالنظر إلى ظاهر لفظ الأبد مسلم ولا يضر كمنافاة التخصيص لظاهر العموم ولأن لفظ الأبد يستعمل في الزمن الطويل كما نص عليه أهل اللغة وحينئذ فليس الأبد نصا صريحا يدل على أنه للاستمرار في نفس الأمر وحقيقة الخطاب فلا ينافيه النسخ وفي المطولات تقاسيم في المسألة وإطالة وهي قليلة الجدوى فلا نشتغل بها
تنبيه بقولنا صوموا إشارة إلى أن الخلاف في نسخ الإنشاء وأما نسخ الأخبار فقد اختلف في جواز نسخه فقيل لا يجوز وتفصيل البحث أن الخبر إما أن يكون مما يتغير مدلوله كالإخبار بإيمان زيد وكفره أو مما لا يتغير نحو العالم حادث والباري موجود والنار محرقة فالنسخ هنا يكون بأمرين
الأول أن يأمر الشارع بالإخبار بحدوث العالم أو بإيمان زيد ثم ينهى عن الإخبار بذلك فهو جائز بلا خلاف
وهل يجوز النسخ إلى الإخبار بنقيض ما ذكر منعه من قال بالتحسين والتقبيح لأنه أمر بالكذب وجوزه نفاتهما والتحقيق أنه لا يقع النسخ في الخبر إلا بتأويله بالانشاء وحينئذ فلا خلاف
المسألة الثانية ما أشار النظم إليه قوله إلى غير بدل وأنه قول من لهم الإفادة وهم الجمهور وقالوا يجوز إلى غير بدل بل قد وقع وخالف فيه طائفة ودليل الجمهور أنه لو لم يجز لم يقع وقد وقع كفسخ وخالف وجوب الصدقة فإنها نسخة لا إلى بدل استدل المانع بقوله تعالى ما ننسخ من آية الآية فإنه أخبر تعالى أنه يأتي بخير منها أو مثلها فدل على أنه لا ينسخ إلا إلى بدل هو خير من المنسوخ أو مثله وأجيب بأن المراد بلفظ خير منها لا يحكم خير وليس الخلاف في اللفظ وإنما هو في الحكم ولا تدل عليه الآية
قلت ولا يخفى أن اللفظ الذي يبدل به المنسوخ لا بد أن يكون دال على حكم أقله ندب تلاوته وقراءته وأما آية نسخ الصدقة التي استدل بها الجمهور فإنه قد أجيب بأن الحث على الصدقة والترغيب فيها ثابت بدليل عام فلو أراد المناجي تقديم الصدقة بين يدي نجواه لكان داخلا لذلك الدليل العام غايته
أنه وقع النسخ من وجوب التصدق إلى ندبه وهو حكم فالظاهر في المسألة مع الأقل ... كذا أخف الحكم بالأشق ... كالعكس فاتبع ما إليك ألقي ...
أي وكذا يجوز نسخ الحكم الأخف بالأشق وعكسه الأشق بالأخف فنسخ الأشق بالأخف كوجوب مصابرة واحد لعشرة إلى وجوب مصابرته للاثنين ونسخ عدة الوفاة بالحول إلى أربعة أشهر وعشر وكذا بالمساوى كنسخ الاستقبال هذان لا خلاف فيهما وإنما الخلاف في الطرف الأول وهو نسخ الأخف بالأشق فالجمهور على جوازه ووقوعه وخالف فيه بعض الظاهرية وعزي إلى الشافعي ودليل الجمهور أنه قد وقع ولا مانع عنه في الحكمة وذلك في نسخ صوم عاشوراء برمضان واستدل المانع بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله أن يخفف عنكم
قال والنسخ إلى الأثقل ليس بيسير ولا تخفيف وأجيب بأنه قد وقع ذلك فيتعين حمل الآية على أن المراد باليسر والتخفيف في الشريعة من أصلها فإنها الحنيفية السمحة السهلة الخالية عن الأغلال والآصار وإن وقع فيها نسخ أخف بأثقل فإنه لا ينافي اليسر والتخفيف في الجملة
قوله ... ونسخ ما يتلى بدون الحكم ... والعكس أو كليهما عن علم ...
هذه مسألة نسخ التلاوة دون الحكم والعكس نسخ الحكم دون التلاوة أو الكل فهي ثلاث صور كلها في الكتاب العزيز وفي كل سورة خلاف والحق مع الجمهور كما في النظم لوقوعه في الثلاثة الأقسام
أما الأول فكحديث عمر الذي رواه الشافعي وغيره لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة فإنا قد قرأناها وروي عن غيره من الصحابة فهذا منسوخ التلاوة دون الحكم
وأما الثاني فآية الصدقة عند النجوى وآية اعتداد الحول فإنه قد نسخ الحكم مع بقاء التلاوة
وأما الثالث فما رواه مسلم عن عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخ بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي فيما يقرأ من القرآن وهذا صريح بأنها قرآن كما أن قول عمر قرأناها صريح في القرآنية وما قيل من أن شرط القرآن التواتر وهذه المثل بها آحادية فلا يتم أنه من نسخ القرآن إذ القرآن هو المتواتر فقد أجيب عنه بأن شرطية التواتر فيما أثبت الدفتين وأما المنسوخ فلا نسلم ذلك بأن المقصود فيما ذكرناه ثبوت النسخ لما كان قرآنا لا ثبوت قرآنيته بذلك ولا يخفى ضعف الجواب الآخر وبالجملة فعلى قاعدة الجمهور يضعف الاستدلال على نسخ القرآن تلاوة سواء كان حكمه باق أم لا لعدم تقر قرآنية ما جهلوه دليلا ومثالا ... وينسخ الأصل مع المفهوم ... موافقا والأصل في العلوم ... بدونه وعكسه فيما علا ... فحوى الخطاب فاتبع نهج الهدى ...
هذا بيان لما وقع في الخلاف من نسخ المفهوم للموافقة بقسميه أعني الفحوى والمساوي ولا خلاف عند العلماء أنه يجوز نسخ الأصل والمفهوم معا
وهو ما أفاده قوله وينسخ الأصل من المفهوم موافقا إنما اختلفوا هل يجوز نسخ الأصل مع بقاء المفهوم كنسخ التأفيف بدون الضرب وعكسه أو يفصل في ذلك فيه أقوال
المنع مطلقا وهو قول الأكثر
الجواز مطلقا
ونسخ الأصل بدون المفهوم لا العكس وهذا هو الثالث
الرابع أنه يجوز نسخ الأصل بدون الفحوى في الأولى وألا يكون أولى ففيهما أي جواز النسخ في كل واحد من الأصل ولفحوى ما بقاء الآخر وهذا مذهب الإمام يحيى والحفيد والشيخ أحمد الرصاص
الخامس الجواز في الفحوى مع بقاء الأصل لا الأصل مع بقاء الفحوى إلا بدليل آخر وهذا اختيار الفقيه عبدالله بن زيد المدحجي قالوا والدليل على ذلك أن ارتفاع التحريم في الضرب يلزم منه ارتفاع التحريم في التأفيف بطريق الأولى فلا يجوز رفع التحريم في الضرب دون التأفيف لمخالفة ما هو الأولى وهو قطعي الدلالة ولغير هذا القول أدلة لا تخلو عن المناقشة وهذا في مفهوم الموافقة
وأما مفهوم المخالفة فالمختار جواز النسخ كل منهما لأن تبعيته للأصل من حيث دلالة اللفظ عليه معه لا من حيث ذاته فإذا زال الأصل لموجب
لم نسلم زوال المفهوم وإلا لزم ذلك في مفهوم الموافقة وهو خلاف ما قرر آنفا ولا فرق بينهما إلا بأن ذلك الحكم أقوى في الدلالة من حيث التلازم ولكن مجرد القوي لا يسقط الأضعف وهو دلالة مفهوم المخالفة عند معتبريه
مثال نسخ المفهوم مع بقاء أصله حديث إنما الماء من الماء فإنه نسخ مفهومه وهو أنه لا غسل عند عدم الإنزال حديث إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ومثال نسخهما معا أن يقال في الغنم السائمة زكاة ثم بعد مضي إمكان الفعل يقال لا زكاة في السائمة ولا المعلوفة ومثال نسخ الأصل دون المفهوم أن يقال في الغنم السائمة زكاة ثم يرد النسخ بأنه لا زكاة في السائمة فمن قال بأنه يكون نسخا للمفهوم يقول قد بطل الأصل الذي تفرع على دلالته المفهوم فيبطل المفهوم ومن منع من ذلك يقول بل دليل المفهوم باق لم يزل من حيث الدلالة اللفظية ولكن مفهوم النسخ إذا عارض مفهوم المنسوخ كان من تعارض الدليلين إذا وجد مرجح عمل بالأرجح ففي المثال المذكور يرجح مفهوم الأصل المنسوخ للبراءة الأصلية لأنه يدل على أنه لا زكاة في المعلوفة ومفهوم النسخ يدل على أن فيها زكاة ومن يرجح الناقل عن الأصل قال بالعكس هذا في نسخ المفهوم فأما النسخ به فقيل لا ينسخ به لضعف دلالة
المفهوم فلا يقوى على نسخ الأصل وهذا الذي اختاره في جمع الجوامع ... ولا يجوز قبل إمكان العمل ... نسخ لما كان خلافا للأقل ...
هذه مسألة النسخ قبل الإمكان من مشاهير مسائل الخلاف بين ذوي الاتقان وذلك كأن يأتي من الشارح أمر بفعل شيء ثم ينسخه قبل دخول وقته أو بعده ولم يمض منه ما يتسع للعمل بما أمر به فرأى الجمهور من العلماء كالزيدية والمعتزلة والحنابلة وأكثر الحنفية أنه لا يجوز واستدلوا بأنه لو جاز النسخ قبل تمكن المكلف من العمل للزم أن يكون مأمورا بالفعل في الوقت الذي عينه الشارع منهيا عن فعله فيه وأنه جمع بين النقيضين وهكذا إذا رفع قبل الوقت المعين أو كان المأمور به مطلقا ثم نسخ قبل التمكن من فعله بأن لا يمضي عليه ما يتسع للعمل من الوقت المطلق فإنه يلزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وقال آخرون وهو الأقل يجوز النسخ قبل إمكان العمل ودليل جوازه وقوعه فمن ذلك قصة الخليل أمر بذبح ولده كما دل له قوله افعل ما تؤمر وبإقدامه على ذلك ثم نسخ بقوله وفديناه بذبح عظيم قبل التمكن واحتمال أن الوقت موسع حتى يكون النسخ بعد التمكن ينافي حالات الرسل من المبادرة إلى امتثال ما أمروا به
ومن ذلك نسخ فرض الصلاة من خمسين إلى خمسة كما دل له حديث الاسراء وذلك من النسخ قبل التمكن قطعا
وأجيب عن قصة الخليل بأنها ليست من محل النزاع لأن فيما حكاه الله تعالى أنه شاور ولده في ذلك وذلك يقتضي أنه قد مضى وقت يتمكن فيه من الفعل وهو عمل يسير إمرار المحدد على النحر
وأجيب عن حديث فرضية الصلاة بأنه ظاهر في جواز النسخ قبل بلوغ الحكم إلى المكلفين ولا قائل بذلك فيتيعن تأويله على كل حال
وللعلماء تأويلات لا تخلو عن القدح وأحسن ما قيل إنه لا يعد هذا من النسخ إذ ذلك وقع بشفاعته صلى الله عليه و سلم وسؤاله من ربه التخفيف عن أمته
وبالجملة فقد تقرر أنه لا نسخ قبل البلاغ فلا بد من حمله على ما يخلص به الإشكال وإلا كان من المتشابه يجب الإيمان به ونسكت عن الخوض عنه ... وينسخ المزيد بالزيادة ... إن كان لا يجزىء في العباده ... بدونها والنقص باتفاق ... نسخ لما ينقض لا للباقي ...
هما مسألتان الأولى أن يرد دليل يقتضي الزيادة على ما كان قد استقر به التكليف الشرعي وذلك إن كانت الزيادة مغيرة للحكم المزيد عليه ومانعة لأجزائه بدونها كما قال إن كان لا يجزىء فضمير يجزىء عائد للمزيد عليه وذلك بأن تكون غير مستقلة بل جزءا مما زيدت عليه كزيادة ركعة في صلاة الفجر وزيادة التغريب على الجلد وزيادة العدد في الجلد الذي كان قد تقرر أو زيادة شرط كوصف الإيمان في الرقبة فهذه الزيادة قد غيرت حكم الأصل الذي زيدت عليه من الأجزاء فيكون نسخا وهذا رأي جماعة ومنهم من فرق بين الأمثلة فقال إن كان تغييرها بحيث يصير الأول كالعدم فنسخ وذلك كزيادة ركعة في الفجر فإن الركعتين المزيد عليهما لا تصح بعد الزيادة ويجب إعادتها إذا اقتصر عليها وإن لم تغير ذلك التغيير فلا يكون نسخا مثل زيادة العدد في الجلد والتغريب فإن الثمانين مثال من حق الزاني لو اقتصر عليها لا تصير كالعدم بل يعتد بها وإنما يحتاج إلى تكميل العشرين وكذا في التغريب لا يحتاج إلى إعادة الجلد إن اقتصر عليه وغايته أنه اصطلاح
وأنه مبني على أن الإجزاء حكم شرعي فإن المراد بالزيادة هي ما رفع الإجزاء وفي الإجزاء خلاف بين أئمة الأصول منهم من يجعله حكما شرعيا ومنهم من يجعله حكما عدليا فمن جعله شرعيا كانت الزيادة نسخا وإلا فلا
الثانية في النقص وهو إما أن يكون جزءا من المنقوص كركعة أو ركوع أو شرطا كالطهارة فلا خوف وهذا هوالذي أفاده النظم حيث قال والنقص باتفاق نسخ لما ينقص
وقوله لا للباقي هذه فيها أقوال
الأول للجمهور وهو الذي في النظم أنه ليس بنسخ سواء كان جزءا وشرطا متصلا أو منفصلا ودليلهم أنه لو كان الباقي منسوخا لافتقر وجوبه إلى دليل لأن الفرض أنه قد صار منسوخا عند المخالف ولا يفتقر إلى دليل بالإجماع وفي المسألة أقوال واستدلال غير ناهض من أحب معرفتها تطلبها من الفواصل
واعلم أن فائدة الخلاف في كون الزيادة أو النقص نسخا قبول الخبر الآحادي إذا ورد على النص المعلوم من جعلها نسخا لم يقبله ومن جعلها من باب التخصيص أو التقييد قبله ولذا لم تعمل الحنفية بأحاديث وردت بزيادة على النص المعلوم أو نقص لهذه القاعدة من ذلك قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية ثم ورد أنه صلى الله عليه و سلم قضى بالشاهد واليمين كما ثبت عند مسلم وأبي داود وغيرهما ومثل زيادة التغريب على الجلد كما في الصحيحين البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وغير ذلك ... وقال في الأصل بلا نزاع ... يمنع في القياس والإجماع
هما مسألتان
الأولى أنه لا ينسخ القياس والإجماع وإن عدم نسخهما إجماع وهذا الإجماع نقله القرشي في العقد وتبعه المهدي في أصل النظم ولما كان دعوى عدم نسخهما فيه خلاف أشار إليه الناظم بنسبته دعوى الإجماع إلى الأصل بقوله وقال في الأصل فالأولى كون الإجماع لا ينسخ فإنه خالف فيه أبو الحسين الطبري وأبو عبدالله البصري واحتج الجمهور بأنه لا يتصور نسخ بالاجماع لأن الناسخ له إما أن يكون قطعيا فيلزم انعقاد الاجتماع المنسوج على الخطأ وهو لا يجوز فلا يصح وجود دليل قطعي مخالف للإجماع سواء كان من الكتاب أو من السنة وإما أن يكون ظنيا فالظني لا يعارض الإجماع القطعي وإما أن يكون إجماعا فإما أن يكون لا عن دليل فهو خطأ ولا يصح وقوعه للعصمة أو عن دليل لزم خطأ أحد الإجماعين وحينئذ فلا يصح نسخ أحد الإجماعين بشيء على كل تقدير
قالوا وأيضا فالإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه و سلم كما عرف من رسمه ولا يتصور بعده صلى الله عليه و سلم وجود الناسخ من كتاب ولا سنة ولم يأت المجيز بما يتم به مدعاه
الثانية مما تضمنه النظم أنه لا ينسخ القياس وهذا قول الجمهور ودليلهم هو أن من شرط القياس لا يظهر له معارض فإذا ظهر ما يعارضه من
نص أو إجماع أو قياس أقوى منه بطل العمل به فلا نسخ وكذا إذا كان مساويا فإنه يلزم إطراح القياسين معا وعلى كل تقدير لا يتحقق النسخ للقياس وأجيب بأنكم إن أردتم ببطلان القياس عند ظهور المعارض بمعنى أن الحكم الاول الثابت عنه خطأ لا يثاب عليه المجتهد بل هو كالحكم لا عن دليل فهذا ممنوع فإنه ليس على المجتهد إلا ما أداه إليه اجتهاده وإن أردتم ببطلانه أنه لم يبق دليلا شرعيا يجب العمل به عند ظهور المعارض فهذا الذي نعني بنسخه
قالوا وأيضا لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يثبت نسخ الآحاد بالآحاد إذ من شرط العمل بها ألا يظهر معارض لها فنقل ما ذكرتم إلى هنا وأنتم لا تقولون به فلم ينهض دليل الجمهور على المنع
هذا الكلام في كون الإجماع والقياس لا ينسخان ولأئمة الأصول نزاع في نسخ الحكم بهما إليه أشار قوله ... كما هما لا ينسخان حكما ... قال بذا من يرتضيه علما ...
أي كما لا ينسخان في أنفسهما بشيء من الأدلة كما عرفته آنفا كذا لا ينسخان حكما شرعيا وهذا هو رأي الجمهور كما أشار إليه قوله قال بهذا من نرتضيه علما وهو منصوب على التمييز فهنا مقامان
الأول أنه لا ينسخ بالإجماع ودليله يؤخذ مما سلف في كونه لا ينسخ قالوا وإذا وجد إجماع قد نسخ حكما فالناسخ سنده والتحقيق ما عرفته من أنه لا إجماع في عصره صلى الله عليه و سلم فلا يكون حجة وبعد وفاته صلى الله عليه و سلم لا تنسخ الأحكام الثابتة
المقام الثاني النسخ بالقياس فيه أقوال الجمهور على أنه لا ينسخ به وتقدم دليلهم وتقدم أيضا أنه يصح نسخه لقياس مثله لا لغيره من الأحكام
الثابتة بغير القياس قال البرماوي إن أرجح المذاهب هذا وهو نسخ القياس للقياس لا بغيره ونقل عن الشافعي وعن جماعة من أئمة الشافعية وقد مثل في المطولات بمسائل فرضيات تشغل الأوراق ولم يأت بها تكليف بالاتفاق
وقوله ... والنسخ بالآحاد للتواتر ... يمنع والعلم به للناظر ...
هذه مسألة عدم جواز نسخ المتواتر بالآحاد سواء كان المتواتر قرآنا أو سنة فإنه لا يجوز نسخه بالآحاد وهذا هو قول الجمهور وهو مفاد النظم تصريحا استدلوا على ذلك بأن الظني وهو الآحادي لا يقاوم القطعي فلا يجوز رفعه وإبطاله به وخالف آخرون وأجابوا عما ذكر بأنه قد صح تخصيص المتواتر بالآحاد والكل بيان غاية الفرق بينهما أنه بيان في الأعيان والنسخ بيان في الأزمان وهذا الفرق لا يقتضي العمل به في أحدهما دون الآخر
وأجيب من طرف الأولين بأن التخصيص جمع بين الدليلين والنسخ رفع وإبطال وليس جمعا بين الدليلين فاكتفى بالأول بالآحاد دون الآخر فلا بد فيه من المساواة في قوة الدلالة وأجيب بأن دليل المنسوخ وإن كان قطعي الدلالة فإنه ليس قطعيا في الدوام ظني الدكالة فيه تجوز الدوام بالظني ولو كان دوامه قطعيا لما جاز نسخه بالقطعي إذا عرفت هذا فورود الناسخ بيان لانتهاء مدة الحكم الشرعي وإن سمي رفعا فليس هناك رفع حقيقي كما سبقت إليه إشارة وحينئذ فلا يتم الفرق الذي ذكرتم والحاصل أن العام مراد به البعض من أفراده دون الكل منها وورد الخاص قرينة تلك الإرادة وكذا المنسوخ من باب المطلق الذي أريد به المقيد والنسخ قرينة التقييد لأن قوله افعل يصلح للمرة ولأكثر من ذلك إلى أخر الأبد والناسخ قيده ببعض الأوقات وأيضا فالعمل بالناسخ جمع بين الدليلين للعمل بأحدهما في الزمن الأول وبالثاني في الزمن الآخر وبهذا يعرف قوة قول غير الأكثرين وهو جواز نسخ المتواتر بالآحاد كجواز تخصيص العام بها
وأما قوله والعلم به للناظر فإنه إشارة إلى الأطراف التي بها يعرف الناسخ من المنسوخ فالعلم مبتدأ والضمير في به للناسخ والخبر محذوف أي ثابت بما فصله قوله ... إما بنص من نبي الرحمة ... أو من ذوي الإجماع خير أمة ...
وهذه هي مسألة بماذا يعرف الناسخ من المنسوخ فهو يعرف بوجوه إما بنص عن النبي صلى الله عليه و سلم كأن يقول هذا الحكم منسوخ أو في معناه كقوله تعالى الآن خفف الله عنكم الآية ومثل قوله صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور الحديث كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي الحديث وإما بنص عن أهل الإجماع أو ما في معناه سواء كان إجماع الأمة أو إجماع العترة وإنما القصر على الأمة مثال وقد مثل في المطولات بأمثلة فرضية فهذا شيئان مما يعرف به الناسخ ... أو كان عن أمارة قوية ... كقول راو صادق الرويه ... هذا الأخير أو أتت قرينة ... قوية تقضي بما يرونه ... مثل غزاة فبهذا يعمل ... في غير قطعي على ما أصلوا ...
هذا ثالث الأمارات وهو معرفته بأمارة قوية وقد مثلها بقول الراوي هذا آخر الآمرين كما في حديث جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان ومنه حديث علي رضي الله عنه عند مسلم وأبي داود
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بالقيام للجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمر بالجلوس
ورابعها قوله أو أتت قرينة قوية ومثله بقوله مثل غزاة وذلك كأن يقول الراوي هذه الآية نزلت في غزوة حنين مثلا وهذا الحكم نزل في غزوة خيبر وهذا في فتح مكة ونحو ذلك فيعلم المتأخر
ولما اختلف العلماء في أخبار الصحابي بما يشعر بالتأخر هل ينسخ به المعلوم والمظنون أو المظنون لا غير أشار الناظم إليه بقوله في غير قطعي على ما أصلوا أي أنه لا يعمل به إلا في الظني دون القطعي هذا فيما إذا كان الدليلان قطعيين وإن ما أخبر الصحابي بأن أحدهما كان في غزاة كذا وهذا هو قول جماعة من أئمة الأصول قالوا لأن خبره أفاد ظن التأخر والنسخ مترتب على شرطية ذلك فإذا عملنا بقوله لزم رفع المقطوع بالمظنون وهو لا يجوز وقيل بل يجوز رفع القطعي يقول الراوي هذا في غزاة كذا قالوا لأن الفرض أنه قد تعارض قطعيان الناسخ والمنسوخ فلا بد أن يكون أحدهما ناسخ للآخر لما تقرر من أنه لا يجوز تعارض القواطع فقد علم بهذا التقرير
وتكون لديه ملكة لاستخراج الأحكام عن أدلتها كما يأتي في وقوله ظنا لإخراج أخذ الحكم القطعي من الأدلة القطعية فليس ذلك باجتهاد في الاصطلاح
وقوله لحكم الشرع عن دليله لإخراج الحكم العقلي
وبين المراد بالفقيه في الرسم وأن المراد به المجتهد إذا قد طرأ عليه
عرف أخرجه عن معناه بقوله ... وهو الذي يمكن أن يستخرجا ... أحكام شرع ربه مستنتجا ... لها من الادلة المفصلة ... وعنده معرفة مكملة ...
أي أن الفقيه المراد به من يمكنه استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية وقد عرفت من رسم أصول الفقه التفرقة بين الأدلة المجملة والمفصلة
وقوله الذي يمكن يراد به من عنده ملكة وقدرة يستخرج بها الحكم من الدليل وإن لم يحصل منه ذلك فليس الاجتهاد هو استخراج الأحكام الشرعية بالفعل فلا يرد الإشكال المعروف أنه لا يحيط الفقيه بالأحكام الشرعية ولذا ثبت لا أدري عن أئمة مجتهدين لأن المراد في الحال ولو بحثت لاستخرجت الحكم المسؤول عنه وتقدم هذا
وقوله أحكام شرع ربه لإخراج الأحكام العقلية والحسية ولما قدم قوله ظنا لحكم الشرع استغنى عن تقييد الأحكام بالفرعية لأنها الظنية
وقوله عنده معرفة إلى آخره بيان لما هو شرط لحصول إمكان الاستخراج وأنه لا يتمكن منه إلا من له معرفة بما ذكر من قوله ... جامعة للنحو والأصول ... والذكر ثم سنة الرسول ...
فالفقيه الموصوف هو من جمع معرفة النحو والأصول والقرآن والسنة
الأول معرفة النحو بأقسامه من إعراب وتصريف لأن خطاب الشارع عربي يترتب معرفة معانيه على معرفة تراكيبه ولا ريب أن كثيرا منها لا تتم معرفة معناه إلا بمعرفة إعرابه ويكفي من ذلك معرفة مقدمة ابن الحاجب وأحد شروحها للذكي ومقدمته في التصريف أو أخصر منها ففيها ما يستغنى عنه
وأما علم البيان فهو غير ضروري في الاستخراج نعم هو مما يزيد الناظر قوة في استخراج المعاني
وأما المنطق فلا حاجة إليه بل هو مما تذهب بقراءته الأوقات ولا يرى من يعرفه ينتفع به إلا كالفاكهة يتفكه بها وإلا فلا دخل له في الاجتهاد ولكن تعمق الأصوليون بجعله في أول مؤلفاتهم البسيطة كابن الحاجب ومن تبعه فاعموا بصائر الناظرين وظنوا أنه لا يتم لهم معرفة أصول الفقه إلا بتلك الأساطير الباطلة والأقوال التي هي عن حلية الكتاب والسنة عاطلة بل هي لهما مخالفة ومشايلة وفيها عقارب للساعة لقواعد الإسلام وقاتلة لأشرف الأحكام وأول من سن لهم هذه السنة الغزالي فإنه أول من أودعه كتابه في أصول الفقه وقال لا يوثق بعلم من لم يتمنطق وليس كما قال لكنه توسع فيه فظن أنه يفتح به عن مغلق العلوم الأقفال وقد رد كلامه العلماء من المحققين والفحول من أساطين أئمة الدين
والثاني أصول الفقه وهو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استخراج الظن بالأحكام الشرعية أو العلم بها ولا ريب أن التبحر فيه ومعرفة قواعده وخوافيه بها يتمكن من الاجتهاد وهي عمدته عند النقاد
والثالث معرفة كتاب الله تعالى قالوا والمراد معرفة آيات الأحكام وحصروا ذلك في خمسمائة آية قلت ولا دليل على حصرها وكل القرآن وآياته دالة على الأحكام فالأولى أن يقال المراد من معرفة الكتاب إمكان استحضار ما يدل على ما يراد من جزيئات الاستخراج فيرجع إليه عند ذلك وليس بمحصور في معين من الأعداد
الرابع معرفة السنة النبوية وهي بحر لا تنزفه الدلاء ولا تحيط به العلماء ولذا روي عن الشافعي أنه قال علمان تتعذر الإحاطة بهما علم السنة وعلم اللغة وأقرب ما يقال تكفي الأمهات الست المعروفة وقد جمع متونها ابن الأثير في جامع الأصول فإنه لا يكاد حكم من الأحكام تخلو عن دليله وقد اعتنى العلماء بها أي بهذه الكتب الستة وتكلموا على رواتها وعلى
معانيها ولغتها فهي مرجع للمجتهد وأما من قال إنه يكفي سنن أبي داود ونحوه فقصور وتقصير وتساهل كثير وقال بعض الأئمة يكفي المجتهد من علم السنة تلخيص الحبير لابن حجر قلت من يريد الاجتهاد فيما ينوبه ويتعلق بتكاليفه فنعم يكفيه ذلك ومن يريد الفتوى والتصدي للتدريس وغيره فلا يكفيه ثم هذ مبني على أن قبول تصحيح الأئمة وتضعيفهم للرواة اجتهاد لأنه من باب قول أخبار الآحاد وقد ألفنا رسالة في هذا وهي المسماة إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد فيها تحقيق بالغ وبيان لسهولة الاجتهاد قوله ... وما عليه العلماء أجمعوا ... هذا ونختار ولسنا نقطع ...
عطف على قوله للنحو إلى آخره أي وجامعة لمعرفة مسائل الإجماع حتى لا تخفاه مواقعه حتى يحصل له الظن أن الذي قاله غير مخالف لما أجمع عليه العلماء وصرح به في الفصول وهذا هو أهون الشروط إذ قد قدمنا لك أنه لا يتحقق الإجماع إلا في الضروريات وقد ألف فيها جماعة من الأئمة كابن حزم وابن هبيرة والريمي
واعلم أنه قد دخل شرط معرفة الرواة جرحا وتعديلا في معرفة السنة وقال في الحاوي رابعها العلم بأحوال الرواة ونقلة الأحاديث ومن يكون منهم مقبولا ومن يكن غير مقوبلا فلا بد من العلم بذلك ليكون متمكنا من ترجيح الأخبار بعضها على بعض ويعرف طرق الإسناد وهذا أمر مهم لأن الوسائط قد كثرت وخاصة في هذه الأزمنة فلا بد من معرفة صحيحها وفاسدها وقويها وضعيفها ومقدار ما يعرف من ذلك أن يعرف كون الراوي عدلا ضابطا ولا يلزم أن يكون محيطا بسيرهم وأحوالهم وأخبارهم وأنسابهم بل يكفي ما ذكرنا قال نعم لا يمتنع في زمننا لكثرة الوسائط وتطاول الأزمنة أن يكون العلم بأحوال الرواة متعذرا وإذا كان الأمر كما قلنا دار التعويل في ذلك على نقله الحديث والاكتفاء بتعديلهم كالبخاري ومسلم
والترمذي وغيرهم من شيوخ الحديث فإن الظن يغلب بصدق ما نقلوه فلهذا جاز التعويل عليه انتهى
وقد قدمنا لك أنا قد أوضحنا ذلك في رسالتنا إرشاد النقاد قبل معرفة كلام الحاوي بأعوام وأما المهدي فقال في مقدمة الحبر بأنه لا يشترط في معرفة الرواة جرحا وتعديلا ومثله في الفصول قال لأن قبول المراسيل قد استلزم سقوط ذلك قلت لا يخفى ضعف هذا القول بل بطلانه ثم اعلم أنه ليس كل من حوى ما ذكر من شرائط الاجتهاد يتأتى منه استنباط الأحكام بل ذلك موهبة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده وإلا فكم من عالم بالنحو يدرس في فنونه لايقيم لسانه ولا يمكنه تطبيق مسألة على القواعد وبينا ذلك في الرسالة المذكورة نعم قوله ونختار ولسنا نقطع هو متعلق بقوله ... بأنه يجوز عند العقل ... بالاجتهاد حكم خير الرسل ... لا بالوقوع فالخلاف فيه ... والحق لا يخفى على النبيه ...
الإشارة إلى مسألة اجتهاده صلى الله عليه و سلم هل يجوز عقلا أم لا وهل وقع حكمه به أم لا فهما مسألتان
أم جوازه عقلا لا على جهة القطع كما قال ولسنا نقطع فقال الجمهور إنه يجوز عقلا أن يؤذن له صلى الله عليه و سلم أن يأخذ الحكم من الأمارات الشرعية ويكون مخبرا عن الله تعالى بالنظر إلى اعتقاده ولا مانع عنه
والمسألة الثانية أنه لا خلاف في وقوع الاجتهادات منه في الحرب والآراء إنما الخلاف في وقوع الاجتهاد منه في الأحكام الشرعية
فقال الجمهور إنه واقع منه ذلك واستدلوا على الوقوع بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم وبقوله صلى الله عليه و سلم
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وغير ذلك مما دل أنه ليس عن وحي
وأجيب بأن الآية الأولى من غير محل النزاع فإنه فيما يتعلق بالحروب والآراء وكأمره بترك تأبير النخل وأما الحديث فقال تطييبا لقلوب أصحابه لما تكلموا عن الفسخ حين أمرهم به وكان مخيرا بين سوق الهدي وحجه قارنا وعدم سوقه ويفسخ فساقه فلزمه القران فما كرهوا أن يخالف نسكهم نسكه أخبرهم بأنه لو عرف أنهم يكرهون خلاف ما هو عليه لما ساق الهدي وأنه كان مخيرا بين سوقه وعدمه
وذهب قوم إلى أنه لا يقع منه اجتهاد ومستدلين بقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هوى إلا وحي يوحي وبقوله إن أتبع إلا ما يوحى إلي وغير ذلك فدل على أن جميع أحكامه عن الوحي وفي السنة أدلة كثيرة دالة على هذا وقد كان يسأل صلى الله عليه و سلم فلا يجيب حتى يأتيه الوحي كما في قصة الأعرابي الذي سأله ما يصنع في عمرته وغير ذلك مما هو كثير جدا وينشرح له الصدر ويعلم به قوة خلاف ما ذهب إليه الجمهور ولذا قلنا والحق لا يخفى على النبيه على أن ثمرة الخلاف قليلة جدا لأنه صلى الله عليه و سلم واجب علينا اتباعه والانقياد لما حكم به قالوا سواء كان عن اجتهاد أو وحي فلا يتم الإيمان إلا بذلك كما هو نص قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وقال تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله وغير ذلك
ولما تعرض لمسألة اجتهاده صلى الله عليه و سلم تعرضنا لمسألة اجتهاد أصحابه في عصره بقولنا ... والاجتهاد واقع في حضرته ... وغيرها من فائز بصحبته ...
البيت قد أفاد أنه قد وقع الاجتهاد من أصحابه في الأحكام الشرعية من الحاضر في بلدته صلى الله عليه و سلم بغير إذنه ومن الغائب ومن الوالي
وغيره وهذا هو قول الجمهور من العلماء مستدلين بأنه لو لم يجز كما قيل لم يقع لكنه وقع فكان جائزا وهذا دليل على الجواز والوقوع
أما في حضرته بغير إذنه فاتفاقيات قضايا عمر وهي مشهورة معروفة وأقرها صلى الله عليه و سلم بل ونزل في كثير منها آيات محققة مقررة لما قاله وهي قصص معروفة ومنه حديث أبي قتاده في يوم حنين واجتهاد أبي بكر وهي قصته معروفة ومن ذلك تحكيمه صلى الله عليه و سلم لسعد بن معاذ في بني قريظة وكان في حضرته صلى الله عليه و سلم وإذنه
وأما اجتهادهم في غير حضرته فقصة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وصلاته بأصحابه جنبا وأقره صلى الله عليه و سلم والقضايا في ذلك واسعة ومن ذلك قصة أمير المؤمنين علي عليه السلام في اجتهاده في أهل الزبية وإقراره صلى الله عليه و سلم له ومن ذلك قوله وقد بعثه في قصة الحاضر يرى ما لا يرى الغائب
وبالجملة من عرف السنة والسيرة لا يتردد في ضرورة وقوع ذلك وإن من خالف فلا دليل له ناهض ... قالوا وفي المسائل القطعيه ... الحق مع فرد من البريه ...
أي قال علماء الأصول المسائل تنقسم إلى قطعية وهي قسمان قطعية عقلية كحدوث العالم ووجود الصانع وإثبات مطلق صفاته
العلية كالحياة والعلم والقدرة فهذه لا يتوقف إثباتها على السمع والحق فيها مع واحد والمخالف فيها كافر إن اقتضى خلافه إنكار الصانع وتكذيب الرسل
وقطعية سمعية وهي إما معلومة من ضرورة الدين كأركان الإسلام الخمسة وهذه المخالف فيها كافر لأنه يلزم من ذلك تكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم لما علم من ضرورة الدين وقد نقل عن الجاحظ أنه لا إثم في القطعيات على المجتهد وحكوا ذلك على جهة التعميم يعني ولو كان كافرا ونقلوا عن العنبري أنه قال ذلك وزاد أنه مصيب ولو كان كافرا
وقال أبو العباس ابن تيمية في منهاج السنة وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطىء فيها ويقول إن السمع قد دل على ذلك ومنهم من لا يؤثمه والقول المحكي عن عبدالله بن الحسن العنبري هذا معناه أنه كان لا يؤثم المخطىء من المجتهدين من هذه الأمة لا في الأصول ولا في الفروع وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي عليه هذا القول وأما غير هؤلاء فيقول هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية لا الفرعية كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره وقالوا هذا القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين لا في مسائل علمية ولا عملية
قالوا والفروق بين مسائل الأصول والفروع كما لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع فهي كلها باطلة عقلا ولم يفرقوا بفرق صحيح بين
النوعين بل ذكروا فروقا ثلاثة أو أربعة فمنها أن المسائل الأصولية هي التي يطلب فيها الاعتقاد والعلم فقط ومسائل الفروع وهي العملية التي يطلب فيها العمل وهذا باطل فإن المسائل الفروعية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة والصوم لرمضان وكثير من المسائل العلمية لا يأثم المتنازعون فيها كالتنازع في مسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك فليس فيها تكفير ولا تفسيق ولا تأثيم
قالوا والمسائل العملية فيها علم وعمل فإذا كان الخطأ فيها مغفورا فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا ومن الفروق بينهما أن الأصولية ما عليها دليل قطعي والفروعية ما ليس كذلك وهذا ظاهر البطلان فإن كثيرا من المسائل الفرعية عليها أدلة قطعية بالإجماع كتحريم المحرمات
قال ومن الأدلة عدم التأثيم قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا قال الله تعالى قد فعلت ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني بل لا يجزم خطأ إلا إذا أخطأ قطعا قالوا فالقول بالتأتيه في المسائل القطعية مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم قالوا وأيضا فكون المسألة ظنية أو قطعية أمر إضافي بحسب النظر ليس هو وصفا للقول في نفسه فإن الإنسان قد يقطع بأشياء صارت عنده ضرورية إما بالنقل أو بغيره وغيره لا يعرف شيئا من ذلك لا ظنا ولا قطعا وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك يعرف الحق ويقطع بما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا فالقطع والظن حينئذ بحسب ما يفهمه الإنسان وبحسب قدرته على الاستدلال والناس مختلفون في هذا وهذا فعلم أن الفرق لا يطرد ولا ينعكس انتهى
وإنما نقلناه ليعلم أن الصواب عدم التأثيم في القطعيات أيضا لمجتهد من أئمة الإسلام فإن الحكم بالتأثيم يحتاج إلى دليل شرعي والفرض أن الحق مع واحد فتأثيم معينة لا من الدليل عليه على فرض التأثيم وإلا فالأدلة
قاضية بخلاف ذلك ولذا قال الناظم قالوا فنسبه إلى من قال ذلك إذا عرفت فهذا كلامهم في المسائل القطعية
وأشار إلى كلامهم في الظنية بقوله ... وقد حكوا فيما أتت ظنية ... رواية عن أكثر الزيدية ... بأن كلا منهم مصيب ... فما على مجتهد تثريب ...
هذه المسألة المشهورة بين الفقهاء بأن كل مجتهد مصيب أي في ظنيات المسائل وإليه ذهب أكثر الزيدية وغيرهم من أهل المذاهب الأربعة وفيها خلاف
واعلم أنه لا خلاف أن المجتهد غير آثم على كل من القولين كما أفاده قوله فما على مجتهد تثريب أي ملام إنما القائل بالتخطئة يقول في المجتهدين من له أجران ومنهم من له أجر ولكنه لا يعلم إلا بإعلام الله ولا سبيل إليه بعد طي بساط الوحي والمصوبة تقول كل مجتهد له أجران وأنه لا يخطىء ولا فائدة للخلاف إذ كل يجب عليه العمل بما أدى إليه اجتهاده
وتحرير محل النزاع أن معنى مصيب من إصابة السهم الغرض لا من الصواب الذي هو ضد الخطأ فما أدى إليه نظرا لمجتهد فهو حكم الله الواقع ولا حكم له تعالى في المسألة معين فهو نظير الواجب المخير فالمطلوب من المجتهد أحد الأحكام الخمسة لا على جهة التعيين فما ظنه المجتهد فهو حكم الله وما ظنه الآخر فهو حكم الله وهذا معنى قولهم إن حكم الله تابع لنظر المجتهد ولا ذهب الفريق الآخر إلى أن الحق مع واحد وغيره مخطىء خطأ معفو عنه فليس كل مجتهد مصيب ومن إصابة السهم الغرض بل مصيب من الصواب الذي هو ضد الخطأ أي مصيب ما طلب منه وإن كان خطأ بالنسبة إلى حكم الله وما في نفس الأمر
استدل الأولون بادلة عقلية ومقاولات جدلية وبأدلة سمعية نقتصر على
ذكرها قالوا قال تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله فدلت الآية على أن القطع وعدمه حكم الله وإلا لما كان بإذن الله قال المهدي وهو أقوى ما يستدل به من السمع
قلت ولا يخفى أن الآية ليست من محل النزاع في ورود ولا صدور لأنه تعالى أخبر فيها أن الذي وقع من القطع وعدمه كان بإذن الله ولا شك أنه تعالى أخر فيها أن الذي وقع من القطع وعدمه كان بإذن الله ولا شك أنه تعالى قد أذن في الاجتهاد فهو إعلام بأن هذا الاجتهاد الذي وقع من كل بنقيض اجتهاد الآخر كله بإذنه لأنه أذن لكم في الاجتهاد فأين الدلالة في هذا على أنهم أصابوا يوما في نفس الأمر بل الآية دليل أن المجتهد مأذون له في الاجتهاد وإن خايت ما في نفس الأمر بيانه أنه أخبر تعالى عن كونه أذن في الأمرين النقيضين ومعلوم أنهما ليسا هما الحق في نفس الأمر بل ليس فيه إلا حكم واحد والحق في أحدهما ضرورة أنه لا ثالث وقد أصيب ضرورة أنه قد قال كل فريق بأحدهما فدل على أن المجتهد المخطىء مأذون له وإن أخطأ
قالوا قال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما فدلت على أنه تعالى أعطى كل واحد منهما علما وحكما وما أعطاه من الحكم هو عين الصواب وهو المطلوب
وأجيب بأنا لا نسلم أن الحكم والعلم الذي آتاهما الله كان في عين ذلك الحكم المعين الذي هو محل النزاع كما يرشد إليه تخصيص سليمان بتفهيم الله إياه فإنه يدل على ما نريده وهو أن ما وقع من سليمان هو حكم الله تعالى وإلا لما كان له فائدة
قالوا قد استفاضت السنة النبوية بتصويب المجتهد وعدم التخطئة كما قدمناه في صلاة العصر في غزوة بني قريظة واختلاف اجتهادهم في ذلك وإن منهم من صلاها بعد غروب الشمس ومنهم من صلاها في وقتها وأقرهم صلى الله عليه و سلم ولو كان أحدهما مخطئا لعنفوا وبين المصيبة بالثناء عليهم والقضايا في ذلك واسعة في السنة
وأجيب بأن المخطىء عن اجتهاد لا يعاب ولا يذم والثناء على من أصاب الحكم ليس بلازم فعدمه لا يدل على ما ذكرتم بل قد قال صلى الله عليه و سلم لعمرو صليت بأصحابك وأنت جنب قال سمعت الله تعالى يقول ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فلم يقل له بشيء بعد بيان دليل اجتهاده نعم لو كان الفاعل غير مجتهد للامه صلى الله عليه و سلم ألا تراه قال في صابح الشجة لما أفتاه أصحابه بأن يغتسل فمات قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيي السؤال وغايته عدم ذم إحدى الطائفتين لا يدل على أنهما أصابا ما عند الله بل المخطئة منهم مأجورة أجرا واحدا وهي معينة عند الله تعالى
واستدل الفريق الآخر القائلون بالتخطئة بأدلة عقلية جدلية وأدلة سمعية نقتصر أيضا عليها قالوا السنة النبوية قد جاءت صريحة بالتخطئة فوجب الحكم بذلك من ذلك ما أخرجه مسلم وغيره من حديث بريدة مرفوعا إذا حاصرت قوما فلا تنزلهم على حكم الله بل أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أو لا وهذا صريح في المدعي ومن ذلك ما أخرجه الجماعة من حديث عمرو بن العاص إذا اجتهد الحاكم فأصاب
فله أجران وإن اجتهد فاخطأ فله أجر ومن ذلك حديث سعد بن معاذ وقوله صلى الله عليه و سلم لقد حكمت بحكم الله وهو حديث صحيح ومنه حديث سنن أبي داود أن رجلين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولا ماء عندهما فتيمما وصليا ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فقال صلى الله عليه و سلم للذي أعاد لك الأجر مرتين يدل على أنه الذي أصاب لحديث من اجتهد الخ ويحتمل أنه أريد بالمرتين هنا أجر الصلاتين
وقد أجيب عن الأحاديث بما ليس بدافع
قالوا حديث بريدة أحادي والمطلوب في المسألة القطع قلنا لا نسلم بل الظهور والأدلة فيه واضحة قالو وحديث إذا اجتهد الحاكم في غيرمحل النزاع إذ هو في المسائل التي يستنبط الحكم فيها من الإمارات الشرعية والخصومات ليست من ذلك إذ الحق فيها متعين في الخارج فيمكن فيها إصابته وخطأه وقد جعل الشارع أمارات وأدلة في الخصومات ليس على الحاكم إلا العمل بها على الاعتبار الذي أمر به الشارع من عدالة الشهود وغير ذلك مما هو معروف ولذا قال صلى الله عليه و سلم في هذا المقام فإنما أقطع له قطعة من نار ورد هذا بأن الحديث ظاهر في الحاكم فيما اشتمل على الخصومات لتصريحه بلفظه ولكن لا مانع من التعميم بل هو الظاهر يعني الحاكم في الخصومات أو في مسائل الاجتهاد فيصلح دليلا للمدعي وينتهض الاستدلال وقوله صلى الله عليه و سلم فإنما أقطع له قطعة من النار دليل لنا لأنه معلوم أنه لا يحكم صلى الله عليه و سلم إلا بعد اعتبار ما جعله الشارع من الأمارات والأدلة ومع هذا فأخبر أنه قد يكون باطلا في نفس الأمر وإن الأخذ له أخذ قطعة من نار
قالوا وحديث سعد بن معاذ وكونه حكم بحكم الله لا يدل على أن خلافه خطأ بل نحن نقول حكم بحكم الله وكل من حكم على القول بالتصويب فهو حكم الله ودفع بأنه سيق للتنويه بشأن حكم سعد ولو كان كل من حكم فهو حكم الله لخلا الحديث عن الفائدة وكل ما يشوشوا في وجه الأدلة السمعية لا ينهض على دفعها
قالت المخطئة ثبت عن الصحابة التخطئة وشاع وذاع من دون نكير فكان إجماعا من ذلك قول أبي بكر في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان رواه أبو داود وغيره ولو كان الحق غير معين لما أخطأه ومن ذلك ما أخرجه البيهقي عن طريق مسروق قال كنت كاتبا لعمر بن الخطاب فكتبت هذا ما أراه الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فانتهره عمر وقال اكتب هذا ما رآه عمر فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر ومن ذلك قصة المجهضة مع عمر وأنه أرسل لها عمر فضربها الطلق في الطريق خوفا من عمر فمات ولدها فاستشار عمر الصحابة فأشاروا عليه بأنه ليس عليك شيء إنما أنت مؤدب فقال عمر ما تقول يا علي فقال علي إن كانوا قالوا برأيهم فقد اخطأوا وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوك الحديث هو معروف فأثبت التخطئة في محضر الصحابة ولم ينكروا وعدوا من هذا وقائع اتفقت وفتاوى خطأ الصحابة فيها بعضهم بعضا لا حاجة إلى سردها في الأصول بعد معرفة المدعى
قلت تواردت كلمة أئمة الأصول فيما رأيناه على هذا الاستدلال
وعندي أنه ليس من محل النزاع في ورود ولا صدور وذلك أن الكلام ومحل النزاع في خطأ المجتهد لما هو عند الله وفي نفس الأمر ولا يعلم ما عنده تعالى إلا بإعلام رسوله صلى الله عليه و سلم ضرورة أنه علم غيب فالتخطئة من الصحابة لبعضهم ليست مما نحن فيه وإنما مراد القائل لغيره فيما أفتى به هذا خطأ أي في نظري أو باعتبار ما يقوى من الأمارات والأدلة لنا وربما كان ما قالوا إنه خطأ هو الحق عند الله وفي نفس الأمر فما هو مما نحن فيه وإن أريد أن في حكمهم بتخطئة البعض وتصويب الآخر دليلا على أن في الاجتهاد تصويبا وتخطئة وإلا لما نسب بعضهم إلى بعض الخطأ فلا يتم أيضا لأنه يحتمل في قضية المجهضة مثلا أن عليا رضي الله عنه خطأ البعض لكونه لم يوف الاجتهاد حقه بل هذا متعين لأنه لا يعرف ما في نفس الأمر ضرورة ولأنه أيضا قال وإن كانوا قالوا في هواك فدل على أنه متردد في كونهم قالوا في المسألة بنظر وهذا واضح والله أعلم والحق في المسألة مع القائلين بالتخطئة كما لا يعزب عن الناظر في الأدلة التي سقناها ... قالوا ولا يلزمه التكرار ... فيما مضى فيه له اختيار ... ولازم عن ناسخ الأحكام ... والخاص عند جلة الأعلام ...
هذه مسألة هل يلزم المجتهد تكرار النظر في المسألة إذا كان قد سبق له اجتهاد في حادثة وتقرر لديه حكمها وهو ذاكر لحكمه فيها وإن لم يكن مستحضرا لدليله الذي وقع به اجتهاده أم لا
قال الجمهور لا يلزمه ذكر للدليل وقال آخرون يلزمه إذ مجرد ذكره للاجتهاد من دون دليله لا يفيد لغلبة تغير الاجتهادات إذ قد يظهر له عند إعادته النظر ما لم يظهر له فيما سبق وأجيب بمنع غلبة تغيرالاجتهادات ومجرد احتمال التغير لا يوجب الإعادة وتكرار النظر وإلا لزمه تكراره مع ذكر للدليل لاحتمال التغيير ولا قائل به وخلاصته أن مناط صحة الاجتهاد هو ظن أرجحية الحكم عنده فما دام الحكم مظنونا فاحتمال خلافه مرجوح ولا يعتبر وأما إذا زال الظن باجتهاده فهو كمن لم ينظر في المسألة فيجب إعادة النظر وكذا إذا تجدد له ما يقوي الرجوع عن الحكم الأول لأنه إن عمل
بظنه الأول مع ما تجدد كان عاملا بظن مرجوح وأما مسألة البحث عن الناسخ والخاص فتقدم عنه البحث في النسخ وفي العام والخاص ... هذا ولا يجوز أن يقلدا ... مجتهدا محققا وإن غدا ... أعلم أو من صحبة المختار ... أو خصه الحكم على المختار ...
إشارة إلى الخلاف في جواز تقليد المجتهد لغيره من المجتهدين قبل أن ينظر في الدليل لا بعده فيأتي وفي ذلك للعلماء أقوال
الأول عدم الجواز وإن كان أعلم منه وهو الذي في النظم وهو رأي الجمهور وذلك لأنه قد صار مخاطبا بالنظر فيما يحصل له فظن الحكم لتأهله له وكماله فيه فكيف يعدل عنه إلى ظن غيره ويعرض عما أنعم الله به عليه من تأهله لأخذ الأحكام عن وهل هذا إلامن كفر النعمة والأعراض عن المنة وهذا باب دخله أكثر أئمة العلم فكم من إمام من ائمة المذاهب يقطع الناظر في آثارهم أنهم أعلم ممن قلدوه وأكثر اطلاعا وأوسع باعا وأعظم دراية ورواية تراه مقلدا لأحد الأربعة يستخرج لكلامه الدليل ويسعى فيما ضعف من أقواله في ترميم التأويل ويسمي نفسه أو يسميه أهل مذهبه مجتهد المذهب كأن المذهب في نفسه شارع له أدلة وأنه متعبد بمتابعته ويسمون من قلده أي مجتهد المذهب وهو الشافعي مثلا بالمجتهد المطلق وقد بسطنا هذا في سبل السلام في كتاب القضاء
ومسألة الكتاب فيها اقوال سبعة للعلماء
الثاني منها أنه إذا كان المجتهد صحابيا وله قول في المسألة جاز للمجتهد تقليده لحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وأجيب بأنه حديث ضعيف بالاتفاق وعلى تقدير صحته فإن الاقتداء غير التقليد كما حققناه في ما تقدم في بحث كون قول الشيخين حجة وأيضا لو قلنا إنه التقليد لكان في حق من يجوز له وقوله أو خصه إشارة إلى
أحد الأقوال في المسألة وهو أنه يجوز له التقليد فيما يخصه لا في ما يفتي به قالوا لأن السائل إنما يسأله عما عنده فإذا أفتاه بقول غيره كان غاشا له فهذه الأقوال التي حواه النظم وبقية الأقوال لم يقو لنا شيء منها ولم نرتض غير ما قاله الجمهور وهو ما نظمناه ودليله قوله تعالى فاتقوا الله ماستطعتم والمجتهد مستيطع لتحصيله الظن من الدليل فلا يجوز له العدول إلى غيره لأنه كالعدول إلى التيمم مع إمكان الماء وهو لا يجوز وأما أدلة المجيزين فتأتي في أدلة جواز التقليد
وأما بعد نظر المجتهد في المسألة أشار إليه قوله بقوله ... وبعد أن ينظر لا يقلد ... بالاتفاق ثم من يجتهد ...
وذلك أنه بعد النظر وحصول الظن عن الدليل قد صار مجتهدا والمجتهد يحرم عليه التقليد لما عرفته وهو اتفاق وقوله ثم من يجتهد مبتدأ خبره قوله ... يلزمه الترجيح للدلائل ... والأخذ بالراجح في المسائل ...
هذا بيان لحكم المجتهد وأنه يجب عليه أخذه بالراجح في ظنه ويأتي الترجيح وبيان كيفيته وطرقه في باب مستقل هو الباب العاشر هذا إن ظهر له الراجح فإن خفي عليه وحصل التعارض بين الأدلة في نظره ففي النظم إشارة إلى ثلاثة أقوال للعلماء وهو قوله ... فإن خفي الراجح قيل خيرا ... وقيل بل يتبع فيه الأكثرا ... علما وقيل بل بحكم العقل ...
الأول أنه مخير بينها يأخذ بأيها شاء وهو قول طائفة من العلماء ودليله أن كل واحد يصلح مستندا للحكم بحيث لو انفرد تعين العمل به فكونه عارضه ما يماثله فهو كتعدد الأمارات يعمل بأيها شاء إذ العمل بأحدها تحكم ورد بأن ثبوت التخيير حكم شرعي لا بد من الدليل عليه ومجرد التعارض لا يقتضيه شرعا ولا لغة ولا عقلا بل الدليل قائم على امتناعه
وهو أنه لو أفتى المجتهد زيدا بالحل وعمروا بالحرمة ولا مقتضي للتخير سوى التعارض لكان إفتاء بالتشهي وهو لا يجوز لما تقرر أن الأحكام مبنية على الحكمة والمصلحة على الرأيين
القول الثاني وهو قوله وقيل بل يتبع فيه الأكثر علما وهو قول بعض العلماء قالوا يطرح ما وقع فيه التعارض ويرجع إلى تقليد الأعلم كما أنه جاز له قبل النظر تقليده كما سلف فهنا بعد نظره بالأولى لأنه قبل النظر يرجو أنه إذا نظر وجد الراجح وأما بعد النظر فقد ذهب الرجاء فكان تقليده هنا بالأولى ورد بأنه تقدم أنه ليس له تقليد غيره أصلا
الثالث أنه يرجح إلى حكم العقل لعدم صحة الدليل الناقل عنه مع التعارض والمسألة في التعارض تأتي مبسوطة في باب الترجيح ... ولم يصح عند أهل النقل ... قولان قد تعارضا ... في وقت فإن أتى أول عمن يأتي ...
يريد به أنه لم يصح عند العلماء قولان لعالم تعارضا في وقت واحد فإن أتى من عالم قولان متعارضان في مسألة واحدة وكذا في مسألتين تشابهتا فلا بد من حمله على وقتين تجدد له في كل حادثة نظر إذا عرف المتأخر منهما كان العمل عليه وإن لم يعرف فإن أمكن الفرق في المسألتين المتشابهتين صح وقوع القولين وإلا أول ذلك بما يصح وقد روي عن الشافعي أنه قال في سبع عشرة مسألة قولين وحمل على ذلك على وجهين إما على أنه مبني على التخيير أو قال كل قول في وقت فيكون الثاني رجوعا عن الأول إن علم أولهما أو أراد أن فيهما للعلماء قولين أو تحتمل المسألة قولين يصح أن يقول
كل مجتهد بواحد منهما وكذلك أحمد بن حنبل ترى أتباعه يقولون له في المسألة قولان أو ثلاثة وهذا يدل على كمال معرفة العالم وعلى منصبه في الدين والعلم أما العلم فلأن من كان أغوص فكرا وأدق نظرا وأكثر إحاطة بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات لديه أكثر وأما المقتصر على الوجه الواحد طول عمره فحيث لا تردد له ولا إعادة نظر فإنه يدل على قصوره في العلم وأما الدين لأنه لما لم يظهر له وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم العلم ولم يشتغل بترويج ما قاله أولا ويداهن في الدين ... ويعرف المذهب بالنص على ... معين أو بعموم شملا ...
هذا بيان ما يعرف به مذهب العالم وهو بأحد أمرين إما بنصه على أن حكم هذه المسألة عندي كذا نحو الوتر عندي سنة ولا أراه واجبا أو يأتي بلفظ عام تدخل تحته أفراد فحكمها حكمه كأن يقول كل مكيل فإنه يجري عندي فيه الربا فيعلم شموله لكل مكيل ... أو أنه نص على المماثلة ... لتلك أو علة حكم شامله ...
أو يعرف مذهبه بنصه على أن هذه المسألة مثل المسألة الفلانية كأن يقول مثلا الشفعة تثبت عندي لجار الدكان فيعرف ثبوتها عنده لجار الدار لعدم الفارق بين المتماثلين أو ينص على علة الحكم الشاملة لغير ما نص عليه كأن يقول يحرم التفاضل والنسا في البر لاتفاق الجنس والتقدير فإنه يعرف أن رأيه في الشعير والذرة وأمثالهما تحريم التفاضل والنسا فيها
وقول الناظم أو علة حكم أي أو نص على علة الحكم ظاهره أنه لا يدخل أخذ علة الحكم من تنبيه النص أو إيمائه وقد صرح المهدي عليه
السلام بذلك قال لأنه يجوز أن المجتهد ممن يفرق بين المسألتين ولا يجوز مثل هذا في إيماء النص وتنبيهه في الكتاب والسنة لانتفاء ذلك التجويز بخلافه إذا نص على العلة فإنه يكون الإلحاق ظاهرا في كلام المجتهد ولأنه ما صار الإلحاق بهما في كلام الشارع إلا لقيام الدليل على أن مقتضى الحكمة والبلاغة في كلامه يبعد أن يخلو عن الفائدة ويصان عن اللاغية بخلاف كلام المجتهد فليس هناك ما يبعد عنه مع عدم الاعتبار لهما في عبارته فلذا قالوا يجوز الإلحاق مع نصه على العلة لا مع إيمائه وتنبيهه وهذا إذا عرف أن رأيه عدم تخصيص العلة فأما إذا عرف أنه يرى جواز تخصيصها فقد أشار إليه قوله ... وإن رأى جواز تخصيص العلل ...
أي فإنه أيضا لا يمنع من الإلحاق بما نص عليه من الحكم بعلته قال بهذا الأكثر واستدلوا بأن الأغلب على أقوال المجتهدين عدم التخصيص في العلل فيحمل كلامه على الأغلب ولا يحتاج إلى البحث هل يختص هذا النظير الذي يريد أن يلحقه بما نص عليه بل يلحقه بناء على الأغلب وكذا قالوا لا يبحث عن المخصص في عموم كلام المجتهد لقلة التخصيص فيه بخلاف كلام الشارع فيبحث عن تخصيص عموماته لكثرته فيه فوجب البحث
واعلم أن هذه الطرق الأربع التي ذكرت فيما يعرف به مذهب المجتهد تسمى ما عدا الأول بالتخاريج والوجوه على مذهبه قال الجمهور إنه يجوز سلوكها وتضاف إلىالمجتهد بشرط التصريح بأنها أخذت تخريجا من كلامه أو أخذ ذلك من عموم نصه أو من نصه على نظير المسألة وقد منع أئمة من المحققين العمل بذلك
وقد أشبع القول في بطلانها الإمام القاسم بن محمد رحمه الله في كتابة الإرشاد وزيفها قال وبلغنا عن بعض العلماء أنه كان يقول هذا الحكم الذي يعد أنه مخرج ليس بقول للذي خرج على قوله ولا قول للذي خرجه من كلام المجتهد فحينئذ نقول هذا القول لا قائل به فكيف تجري عليه
الديانات والمعاملات وهذه ورطة تورط فيها الفقهاء برمتهم وكلامه طويل في ذلك
قلت وقد بينا في حواشي ضوء النهار أنه قد تقرر أن المخرج ليس بمجتهد والأخذ بتخريجه تقليد له ولا يجوز تقليد غير المجتهد بصريح نصهم فيحرم العمل بها وقد استدل للقائلين بجواز العمل بالتخاريج لأنه قد أطبق عليه الفقهاء في كل عصر من غير نكير فكان إجماعا وأجيب بان الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه و سلم كما عرف في رسمه وهؤلاء الفقهاء ليسوا بمجتهدين بنصكم وبأنه لو سلم فهو إجماع سكوتي لا يقبل في هذه المسألة قالوا كما جاز أخذ الأحكام عن خطاب الشارع فليجز من كلام المجتهدين قلنا قد علم يقينا أن خطاب الشارع كله حق ودليل وأما كلام العالم الذي تطرقه الغفلة والنسيان والذهول عن لوازم كلامه فلا ولهذا تقرر عند المحققين أن لازم المذهب ليس بمذهب وقد بسطنا ذلك في رسالة منع التكفير بالتأويل وفي سبل السلام إليه إشارة نافعة ثم لهم شرط في المخرج على المذهب معروف ذكره المهدي في مقدمة الأزهار ... ثم عليه واجب إن انتقل ... إخباره بأنه عنه رجع ... فلا يتابعه على ما قد وقع ...
الضمير في عليه للمجتهد أي يجب عليه إذا رجع عن حكمه في مسألة وتجدد له خلاف ما قد أعلم من قلده أن يخبره برجوعه لئلا يتابعه على ما قد وقع منه أولا فيعمل غير مستند فيه إليه وسواء قد عمل به أو لا نحو أن يكون رأيه أن مسافة القصر بريد وقد سافر المقلد وقصر ثم رأى أنها ثلاثة أيام فإنه يجب إخباره له بذلك لئلا يبني على الأول أو لم يفعله كما لو لم يسافر وسواء كانت له ثمرة مستدامة كالصلاة أولا لا كالحج فإنه يجب عليه إعلامه وإن كان قد حج فإنه قد يحج في عام آخر وقد رجع عن رأيه الأول
نعم والمسألة متفرعة على مسألة أخرى وهي هل الاجتهاد الأول بمنزلة الحكم أولا فمن قال بالأول لم يكن للإعلام ثمرة ومن قال بالثاني قال
===================ج3333333333333==========
ج333.
كتاب : أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
بوجوبه وهذا الثاني هو رأي الجمهور وتظهر فائدة الخلاف فيمن تزوج من دون ولي ورأيه صحة النكاح بدونه ثم تغير اجتهاده إلى وجوب الولي فإنه يجب عليه تجديد العقد على الثاني دون الأول بت واستدل من قال بأنه بمنزلة حكم الحاكم وهم الأولون بالدليل الذي استدل به من قال لا ينقض حكم الحاكم وهو أنه لو نقض ضاعت فائدة نصب الحكام وهي قطع الخصومات وأدى إلى التسلسل ولا يخفى أنه قياس غير صحيح وأنه دليل غير ناهض ولذا أطلق الناظم ... واختلفوا هل يتجزأ أم لا ... والرسم للتقليد فيما يملى ...
هذه مسألة تجزي الاجتهاد وهل يصح أو لا بمعنى أنه يكون الإنسان مجتهدا في فن دون الآخر وفي مسألة دون الأخرى بحيث يتمكن من استنباط أحكام ذلك الفن أو تلك المسألة على الحل الذي يتمكن منه المجتهد المطلق قال بهذا جمهور العلماء وقال ابن دقيق العيد هو المختار واستدلوا بأن المقصود حصول ما يتعلق بالمسألة بحسب ظن المجتهد وكونه لا يعلم إمارات غيرها من المسائل لا دخل له في تعلق تحقيق الاجتهاد الخاص بل هو والمجتهد المطلق فيما يتعلق بتلك المسألة سواء والقائل بأنه لا يتجزأ استدل بدليل غير ناهض على مدعاه فإنه علل مدعاه بأنه يجوز أن تتعلق المسألة بما لا يعلمه قال المهدي قلنا هذا خلاف الفرض إذ الفرض أنه كالمجتهد المطلق فيها
ولما فرغ من مباحث الاجتهاد أخذ في مباحث التقليد فقوله والرسم للتقليد مبتدأ خبره قوله ... هو اتباع الغير لا بحجة ... وزاد في الأصل ودون شبهة ...
الاتباع مصدر مضاف إلى مفعوله حذف فاعله وهو اتباع المقلد الغير وأريد به المجتهد وقوله لا بحجة متعلق بالاتباع فقوله اتباع شمل قوله وفعله فيدخل فيه اتباع النبي صلى الله عليه و سلم والعمل بالإجماع وقبول الرواية والشهادة
وقوله لا بحجة يخرج جميع ما ذكر فإنه اتباع بحجة قامت على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم وهي المعجزات فكذلك قامت الأدلة على العمل بالإجماع وقبول الرواية بشروطها وقبول الشهادة
وقوله وزاد في الأصل ودون شبهة هذه الزيادة لم نجدها في كلام أهل الأصول بل زادها في أصل النظم ولا فائدة فيها مهمة وقد تكلف لإفادتها معنى بما فيه خفاء وعنه غنى لأنه جعله لإخراج اتباع المخالفين للحق فسمى دليلهم شبهة ورسمه ابن الإمام في الغاية بأنه قبول قول الغير من دون حجته وأخرج الرجوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم والإجماع والعمل بقول الشاهدين بقوله من دون حجته لقيام الحجة على ذلك
قلت إلا أنه يشكل بأنه إن أعيد ضمير حجته إلى القول دخل الرجوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وغيره مما أخرجه بذلك القيد فإنه لا يحتاج إلى حجة خاصة على القول المعين منه صلى الله عليه و سلم ولا من أهل الإجماع ولا من الشهود وإن أعيد إلى القبول خرج ما قصد دخوله في الرسم وهو راجع إلى المجتهد فإنه إنما قبل قوله بحجة هي قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر كما استدل به أهل الأصول لذلك
وقد رسمه في الفصول بقوله قبوله قول الغير بلا مطالبة بحجة وهذا الرسم ظاهر في جعله قيدا للقول ويحتمل أنه للقبول وعلى كل تقدير لا يخلص الرسم من الإشكال وتوضيحه أن يقال قيد بلا حجة إن أعيد إلى الاتباع فهو وإن خرج به اتباع الرسول ونحوه لأن اتباعه صلى الله عليه و سلم كان عن حجة المعجزات إلا أنه يرد عليه أن اتباع المقلد المجتهد كان أيضا عن حجة يأتي ذكرها هي فاسألوا أهل الذكر ونحوها فلا يكون جامعا بل خرج هذا المحدود نفسه وإن جعل قيدا لقول أي اتباع الغير في قوله بغير حجة على قوله لزم أنه غير مانع لدخول قبول الحاكم الشهادة من العدل وقبوله الرواية من الراوي وقد صرحوا بأنه غير تقليد والحاصل أنه رسم فاسد بأي عبارة مما ذكر
هذا ولما كان التقليد ليس بجائز في كل المسائل أشار الناظم إلى الجائز منه بقوله ... والحق عند أكثر الزيدية ... المنع في الأصول والعلمية ...
هذا بيان لما يمتنع فيه التقليد عند من ذكر وهو الأصول وأطلقها ليشمل النوعين
الدينية كوجود الرب وما يجب له ويمتنع من الصفات والوعد والوعيد والفقيه ككون الإجماع حجة والخبر الآحادي والقياس من الحجج وكون الأمر دالا على الوجوب وغير ذلك
وقوله والعلمية صفة موصوف محذوف أي المسائل التي يطلب فيها العلم أي الاعتقاد وهو من عطف الخاص على العام ونكتته ليرتب عليه ما يأتي من قوله وما على الأخير إلخ
هذا والمنع من التقليد فيما ذكر عزوناه إلى قائله واستدلوا بأن العلم بالله وصفاته واجب لقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله والإجماع قائم على ذلك ولو اقتضى التقليد العلم لاجتمع النقيضان وهو العلم بالجبر مثلا وعدمه والتشبيه وعدمه وكون الإجماع حجة وليس بحجة
وأجيب بأن العلم به تعالى وصفاته التي دل عليها القرآن معلوم للعباد بالضرورة عالمهم وعامتهم فإن الله فطر العباد على ذلك كما نطق به الكتاب والسنة فجميع العباد يعلمون وحدانيته تعالى ويعلمون صفاته فطرة الله التي فطر الناس عليها ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله والإقرار بأنه خالقها وخالقهم مستلزم العلم بأنه القادر الحكيم العالم الحي وغير ذلك من صفات كماله بل هم مقرون فطرة أنه الرب الرزاق والمنجي من الظلمات فهذا معلوم لكل واحد لا يجادل فيه إلا مكابر لعقله والقرآن مملوء بهذا وقد استوفيناه في إيقاظ الفكرة
ويدل له أنه خير القرون أصحاب المصطفى صلى الله عليه و سلم وهم أحرص الناس على فعل كل واجب لم يؤمروا بذلك ولا أثر عنهم ذلك ولو وقع لنقل وعلى الجملة أن العلم به تعالى وبصفاته فطري والعلم بما دونوه وسموه أصول الدين وقالوا يجب العلم بمسائله والنظر في دلائله إيجاب بلا دليل واصطلاح على مسائل أكثرها فضول لا أصول وظنية بل وهمية وأما ما يتم به الإيمان فهو في الفطرة الخلقية والجبلة البشرية وقد وسع البحث في غير هذا ... وما على الأخير منها رتبا ... يحرم لا في غيره فأوجبا ... على الذي لم يجتهد ولازم ... عليه أن يعرف من يلازم ... عن علمه يبحث والعداله ...
أي أنه يحرم التقليد في عملي يترتب على علمي الأخير في البيت الأول هي المسائل العلمية وقد مثلوها بالموالاة والمعاداة فإنهما عمليان ترتبا على علمي وهو إيمان من يواليه والكفر أو الفسق لمن يعاديه والتكفير والتفسيق لا يكون إلا بقطعي لأنهما إضرار بالغير فلا يجوز التقليد فيما تفرعا عليه وهو الذي أشار إليه المهدي في المقدمة بقوله ولا في عملي يترتب على علمي وأورد عليه أن الأحكام الفروعية كلها مترتبة على علمي وهو أصول الفقه بل كل ذلك مترتب على التوحيد وصدق الرسل فما وجه تخصيص هذه المسألة بالمنع من التقليد دون غيرها من المسائل الفروعية وسواء قلتم إن مسائل أصول الفقه كلها علمية كما هو مقتضى منعكم أن يقلد فيها أو قلتم بعضها علمي توجه الإيراد على ما يتفرع على ذلك البعض وهو إيراد لا محيص عنه وقد أطال السيد محمد المفتي وتلميذه السيد الحسن الجلال في شرحهما لتكملة الأحكام في هذا المقام الكلام فإنه ذكر المهدي المسألة فيها لكن عبر عنها بصيغة قيل كأنه قد تنبه للإيراد وقوله يحرم متعلق قوله وما على الأخير
وقوله لا في غيره فأوجبا ضمير غيره لما تقدم أي لا في غير ما تقدم من المسائل التي حرم فيها التقليد وهي الأصولية والعلمية والعملي المترتب
على علمي فهذه الثلاثة يحرم التقليد فيها لا فيما عداها فإنهم أوجبوا التقليد لغير المجتهد فيها وهي المسائل العملية قطعية كانت أو ظنية وهذا رأي الجمهور من العلماء وظاهر عبارة المهدي في كتابيه الأزهار والمنهاج ومثل عبارة الفصول أنه جائز وحكاه عن الجمهور وذهب آخرون إلى عدم جواز التقليد مطلقا واستدل القائلون بالوجوب بأنه معلوم أن العلماء في كل عصر لا يزالون يفتون العوام ويقبلون ذلك ويعملون به من دون بيان دليل ذلك وشاع وذاع من غير إنكار فكان إجماعا
قال المخالف هذا دليل الجواز فأين دليل الوجوب
قالوا قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا أمر وأصله الإيجاب وهو عام لإيجاب السؤال على كل من لا يعلم وأجيب بأن المراد اسألوهم عن أدلة ما تخاطبون بالإتيان به لا عن رأيهم وبأن الآية في السؤال عن شيء خاص وهو أنه لم يسل الله إلا رجالا يوحي إليهم كما هو صريح صدر الآية قال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر عن هذا الخاص حيث لم تعلموا البينات والزبر قالوا أيضا قد أوجبتم الاجتهاد على كل واحد في المسائل الأصولية وهي أدق وأخفى من مسائل الفروع والأصل العمل بالعلم وإن لم يكن فبالظن وليس الظن الحاصل بالاجتهاد كالظن الحاصل عن التقليد
قلنا الحق أحق بالاتباع والواجب على العامي السؤال عن المسألة المحتاج إليها ودليلها ولا يجوز له التقليد والمسألة مبسوطة في غير هذا
وعلى إيجاب التقليد أو جوازه تفرعت المسألة المشار إليها بقوله ولازم وهو مبتدأ خبره فاعله الساد مسد خبره وهو قوله أن يعرف من يلازم أي من يلازمه بتقليده إياه ويصح فتح الزاي من يلازم وكسرها وقوله ولازم أي واجب على المقلد معرفة من يلازمه ومعرفته بالبحث عن علمه وعدالته فإنه إنما يقلد من اجتمع فيه الأمران علم المجتهد والعدالة لأن المتصف بهما
يحصل الظن بأن الذي قاله مقتضى الأدلة الشرعية ولا يكون ذاك الظن حاصلا إلا مع عدالته وعلمه إذ مع جهله أو فسقه لا يحصل الظن ذلك فينتفي موجب التقليد ويأتي كيفية بحث المقلد عنهما في حصولهما فيمن قلده وهو المشار إليه بقوله ... ويكتفي عنه أخو الجهاله ... بأن يراه مفتيا بالحق ... في بلد عن آمر محق ...
أي من كان جاهلا للأمرين المشترطين في المقلد اسم مفعول فإنه يكفيه في معرفة اتصاف من يريد تقليده بهما أن يراه مفتيا بما يظنه حقا لانتصابه للفتيا من غير قدح فيه من أهل العلم والفضل فإنه يكفيه معرفا للأمرين وهذا مبني على ما وقع عليه الإجماع من أنه لا يجوز أن يفتي إلا المجتهد العدل لأنه مخبر عن أحكام الله ولا يخبر عنها إلا من يعرفها ولا تقبل الرواية عنها إلا من عدل وهذا هو الذي ذكره الأصوليون
وأما زيادة الناظم لقوله عن آمر محق ... لا يرتضى نصبا لذي التأويل ...
فهذا شرط ذكره المهدي وحكاه عنه في الفصول وهو أن يكون ذلك في بلد شوكته لإمام حق لا يرى نصب أهل التأويل وهو لإخراج تقليد مجتهد فاسق التأويل فإنه لا يقبل فتياه هذا رأي جماعة من المعتزلة واختاره المهدي ومن تبعه وقال الجمهور من أهل الأصول بقبول فتيا فاسق التأويل ودليلهم ما قدمناه في باب الأخبار من قبول روايتهم فإن إجتهاده إخبار عن ظنه الحكم الشرعي عن دليله فيقبل كما تقبل روايته
ثم ذكر الناظم أنه يلزم المقلد البحث عن الأفضل فقال ... والأفضل الأولى من المفضول ... فليتحر البحث عنه التابع ... إذا أراد أنه يتابع
أي يجتهد إذا تعدد المجتهدون واختلفوا في الأفضلية علما أو ورعا أو فيهما فالأفضل أولى وأحق بالاتباع مع جواز تقليد المفضول هذا ما يفيده النظم وهو في أصله وهو رأي أئمة الأصوليين واختاره ابن الحاجب وقيل يجب عليه تحري الأفضل وتقليده ولا يقلد المفضول مع وجود الأفضل هذا ويعرف ذلك من ثناء أهل العلم عليه واشتهاره وذلك لأن المجتهدين عند المقلد كالأمارات الشرعية عند المجتهد فكما يجب على المجتهد اتباع ما هو الأقوى كذلك يجب على المقلد اتباع الأقوى في تحصيل الظن ورد بأن الإجماع من الصحابة وغيرهم على إقرار المفتي والمستفتي على أخذ الفتيا من أي عالم من دون تطلب مفضول من أفضل ولا بحث عن ذلك ولا قول المفتي له أطلب فتواك من فلان لأنه أفضل وأجيب بأن إثبات الإجماع في حيز الامتناع
وأشار أيضا إلى بعض أحوال من يختار تقليده فقال ... والحي والأعلم أولى فيه ... من ميت أو ورع فقيه ...
اشتمل البيت على مسألتين على طريق اللف والنشر
الأولى أن تقليد الحي أولى من الميت بناء على جواز تقليده بعد موته ووجه الأولوية أنه أجمع من جوز التقليد في الفروع على جواز تقليد الحي بخلاف الميت فاختلفوا في جواز تقليده كما يأتي بيانه واتباع ما أجمع على جوازه أولى مما اختلف فيه ولأنه يمكنه مراجعته فيما يشكل ويأخذ عنه بأقوى الطرق من المشافهة ونحوها وهذا مفقود في الميت فكان تقليده للحي أولى
المسألةالثانية أن الأعلم أولى من الأورع وهذا رأي الأكثر قالوا لأن تعلق العلم بمسائل الاجتهاد أكثر ولأن الظن الحاصل بقول الأعلم أقوى والأولوية تثبت بهذا القدر
واعلم أنه اختلف في جواز تقليد الميت فقيل يحرم وادعى عليه الإجماع وقيل يجوز وادعى عليه الإجماع أيضا واستدل للجواز بالوقوع
بلا نكير فكان إجماعا بيان ذلك أن الأمة في كل قطر عاملة بمذاهب الأئمة كالهادي والناصر والفقهاء الأربعة قال الإسنوي ولأنه لو بطل قول القائل بموته لم يعتبر شيء من أقواله كروايته وشهادته ووصاياه انتهى والمنع من تقليده قد وسع الاستدلال عليه السيد محمد بن إبراهيم في كتابه القواعد وبسط ذلك بما لا تتسع له هذه الأوراق ... كذلك المشهور بين الأمة ... بالعلم والفضل من الأئمة ...
أي أن المشهور المذكور من أئمة أهل البيت أولى بالتقليد من غيره أئمة الاجتهاد من غيرهم من العباد فالتعريف من الأئمة للمعهود بين أهل المذهب من الزيدية وإنما حملناه على هذا لأنه المعروف في كتبهم ولو لم يحمل على هذا كان تكرارا لما سلف آنفا من أن الأفضل أولى من المفضول واستدلوا للأولوية بما ثبت في فضائل الأول من أدلة الكتاب والسنة كآية المباهلة والتطهير وأحاديث واسعة قد بسطت في مطولات الفن
قالوا فتقليد الواحد من تلك الجملة أولى من تقليد غيره وهذا إذا حصلت المساواة بين العالمين مثلا وكان أحدهما قرشيا أو هاشميا فإنه أولى وقد صرحت علماء الشافعية بأن تقليد الشافعي أولى من تقليد غيره لقرابته من النبي صلى الله عليه و سلم فكيف لا يكون ذلك في أئمة أهل البيت لأنهم أقرب إليه صلى الله عليه و سلم وهذه الأولوية لا تبلغ حد الوجوب ... ثم التزام مذهب يعين ... أولى وفي الإيجاب خلف بين ...
هذه مسألة التزام المقلد مذهب إمام معين فقيل إنه أولى من غيره من عدمه قالوا للبعد من تتبع الرخص وشهوات النفس وهذا للجمهور وقيل بل يجب وهو قول الأقل
قالوا فيعزم على التزام مذهب إمام معين ولا يعمل إلا بقوله في عزائمه ورخصه لأن أقوال المجتهدين عند المقلد كالأمارات الشرعية عند المجتهد إذا اختار أحدهما وجب عليه اتباعه وضعف هذا بأنه إذا عمل المجتهد بالقياس
مثل لم يقل أحد إنه لا يعمل به في جميع الأحكام بل هذا التعليل في عدم الالتزام أوضح
واعلم أن الأولوية الالتزام أو إيجابه بدعة نشأت من تفرق العباد في الدين واتباع كل لما عليه أهل قطره من التقليد المبين وكل هذا باطل ويأتي بماذا يكون ملتزما
ثم إذا التزم مذهب معين فقالوا يحرم انتقاله إلى غيره كما أفاده قوله ... والانتقال بعد الالتزام ... يحرم فيما اختير للأعلام ...
وقد اختلف العلماء في جواز انتقال الملتزم من مذهب من التزم مذهبه إلى غيره كما أفاده البيت فادعى جماعة تحريم الانتقال بعد التزام وإليه أشير بقوله فيما اختير للأعلام قال المحرم مستدلا للتحريم بقوله إن قول المجتهد عند المقلد كالدليل عند المجتهد فلا يجوز له الخروج كما لا يجوز للمجتهد
وأجيب بأنه إنما يحرم على المجتهد الانتقال لأنه متى حصل له من نظره في أمارة ظن الحكم جزم بوجوب عمله بمقتضاه لانعقاد الإجماع على أنه يجب عليه العمل بمقتضى ظنه وليس كذلك المقلد فإن ظنه لا يفضي به إلى علم إذا لم ينعقد الإجماع على وجوب اتباعه لظنه بل انعقد على خلافه ولا يخفى ظهور هذا الرد
ومن قال بحرمة الانتقال بعد الالتزام قد استثنى ما أفاده قوله ... إلا إلى ترجيح ذي الأهلية ...
أي أنه يجب الانتقال بعد الالتزام إذا تمكن الملتزم من الترجيح بين الأدلة حيث صار مجتهدا مطلقا أو في مسألة على القول بالتجزي لما عرفت من أنه يحرم على المجتهد التقليد أو إذا ظهر له فوات كمال من التزم مذهبه في علمه أو عدالته وجب الانتقال عنه أو فسق بعد عدالته فإنه ينتقل عنه فيما تعقب من أقواله بعد فسقه لا فيما قبله فقد نفذ ما عمله وصح
ولما اختلف العلماء بماذا يكون ملتزما على أقوال أشار إليها قوله ... والالتزام حاصل بالنية ...
وذلك بأن يعزم على العمل بقول إمام معين سواء عمل أو لا وهذا قول الجمهور لأنه النية مبادىء الأعمال وأساسها فإنه إذا نوى عملا صار له حكمه وهذا القول الأول
والثاني ما أفاده قوله ... وقيل مع لفظ يكون أو عمل ...
فهذا أخص من الأول لأنه ضم إلى النية أحد أمرين اللفظ والعمل قالوا لأن الالتزام إيجاب على النفس فلا بد من اللفظ كالنذر أو العمل لكونه أقوى في الدلالة من النية وضعف كونه إيجابا بل هواختيار منه
وأشير إلى بقية الأقوال بقوله ... وقيل يكفي وحده وقيل بل ... بالابتدا وقيل باعتقاده ... لقوله أو سائل عن مراده ...
الثالث أنه يكون ملتزما بعمله بقول مجتهد فلا يحتاج إلى عزم ولا تلفظ وهذا رأي ابن الحاجب
الرابع أنه يصير ملتزما بالشروع في العمل فإذا شرع فيه حرم الانتقال وهو مراده بقوله وقيل بالابتداء
الخامس ما أفيد بقوله وقيل باعتقاده لقول المجتهد اعتقاد صحته لأن اعتقاد الصحة مرجح يجب اتباعه كما يجب على المجتهد اتباع الدليل الراجح في ظنه
والسادس أفاده قوله أو سائل عن مراده وهو بالتخفيف قال القائل بهذا إنه يصير المقلد ملتزما بسؤاله للمجتهد ولا يجوز له بعد سؤاله الانتقال عنه وقوله عن مراده أي مراد نفسه أي الملتزم من أي مسألة أراد السؤال عنها دينية
واعلم أنه قد ذكر السيد محمد المفتي في شرحه للتكملة اضطراب الكلام في التفرقة بين المقلد والملتزم والمستفتي وأطال في نقل كلامهم ثم قال وقولي في ذلك وإن كنت قاصرا أن يقال الاستفتاء السؤال عن حكم الحادثة والتقليد هو العزم على العمل بقول الصالح بلا حجة خاصة ولا شبهة زائدة على مقاله ولا يكون كذلك إلا مع اعتقاد صحته عنده والالتزام منه هو التزام العزم على العمل بقوله هذا هو الذي ينبغي أن يجروا عليه من ذلك الاصطلاح انتهى ... هذا وقد حرم أن يقلدا ... مجتهدين عنده فصاعدا ... يجمع قولين لهم في حكم ... في صورة يمنعها ذو العلم ... مثل نكاح غاب عنه الشاهد ... مع الولي فهو عقد فاسد ...
هذه مبنية على القول بعدم وجوب الالتزام فإذا جاز للعامي العمل بما شاء من أقوال المجتهدين فليس له أن يجمع بين قولين مختلفين في حكم واحد لا يقول به أي بالجمع أحد من العلماء في ذلك الحكم وقد مثله الناظم بالنكاح من دون ولي تقليدا لأبي حنيفة وبدون شهود شهود تقليدا لمالك إن هذا نكاح فاسد على قول كل من قلده أما الأول فلأنه فاسد عنده إذ لا شهود وأما الثاني فإنه فاسد عنده إذ لا ولي
فائدة أما لو قلد جماعة العلماء وتتبع رخص أقوالهم فمنعه الجمهور وادعي الإجماع على ذلك وليس بصحيح فإنه قال أبو اسحاق المروزي من علماء الشافعية والعز بن عبدالسلام إنه يجوز له وهو الظاهر ممن لم يوجب الالتزام ... وجائز أن يفتي المقلد ... حكاية عما يرى المجتهد ... إذا غدا أهلا لأن يخرجا ... هذا على ماقاله أهل الحجا
الإجماع واقع على أنه لا يفتي إلا المجتهد وإنما اختلف هل يجوز لغيره في صورة خاصة وهو الافتاء بمذهب مجتهد آخر فقيل يجوز أن يفتي به وإن لم يكن أهلا للتخريج بل الشرط أن يكون عارفا بأقوال من يفتي بمذهبه مطلعا عليها فيكون كالراوي وهذا رأي المؤيد وجماعة
وقيل لا يجوز إلا إذا كان أهلا للتخريج عنه وهو المعروف في الاصطلاح بمجتهد المذهب وهذا هو الذي أفاده النظم
قالوا لأن الإفتاء بالمذهب كالحكم المستنبط من الأدلة الشرعية لا يعرفه إلا من هو أهل للتخريج هذا وأما نقل مذهب المجتهد فيما قد نص عليه فليس من الفتيا بالاستنباط بل من باب الرواية يشترط فيه ما يشترط فيها من العدالة والضبط وقيل لا يجوز مطلقا وهو قول أبي الحسين ولو قيل إن كان السائل يريد مذهب إمامه مثلا كمذهب الهادي جاز للمقلد حكاية ذلك من باب الرواية وإن كان سائلا عن الحكم في المسألة بالدليل لم يجز للمقلد إفتاؤه إلا أن يكون عارفا به على القول بتجزي الاجتهاد ... وعند أن يختلف المفتونا ... ففيه أقوال لمن يفتونا ...
أي أنه إذا سأل الفتيا سائل وسأل جماعة واختلفوا عليه في الأجوبة وهم المرادون بقوله المفتونا فإنه جمع مفت وقوله لمن يفتونا فعل مضارع صلة لمن وهو المستفتي وقوله ففيه أقوال وهي خمسة قد تضمنها قوله ... فقيل بالأول منها يعمل ... وقيل ما يراه أولى يقبل ...
هذان قولان
الأول أنه يعمل بالأول لأنه قد حصل به ظن الحكم والأصل عدم
الناقل ورد بأنه مع الاختلاف يزول ذلك الظن وتتعارض عند المقلد أقوال أهل الفتيا كالمجتهد عند تعارض الأمارات
الثاني أنه يعمل بما يراه أولى لأن العمل بأقوى الأمارات هوالمتعين على المجتهد فكذا على المقلد ورد بأن قوة أحد الرأيين لديه صادر عن وهم إذ ليس بأهل للترجيح والوهم لا اعتبار به وليس ظنه كظن المجتهد إذ ذلك صادر عن أمارات شرعية وظن المقلد صادر عن أقوال المفتين والفرق بين الأمرين واضح ... وقيل بالتخيير عند البعض ... وقيل بالأخف فيه يقضي ... في حق ربه وبالأشق ... في حق ما يلزمه للخلق ...
هذا هو القول الثالث وهو أنه يخير المستفتي بين القولين أو الأقوال فيعمل بأيها شاء ووجهة أن أقوالهم قد صارت لديه كالأمارات الشرعية المتعارضة في نظر المجتهد فيجب التخيير كما في خصال الكفارة
الرابع أنه يأخذ بالأخف في حق الله تعالى لأنه تعالى أخبر أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر وبأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج ويأخذ بالأشق في حق المخلوقين لكونه أحوط ورد بأنه تعالى يريد اليسر فيما تعلق من الأحكام بحق الله وبحق العباد ... وقيل بل فيهم بحكم الحاكم ... مخيرا في حق رب العالم ...
وهذا هو الخامس وهو أنه يعمل في حق العباد إذا كانت الفتوى فيما يتعلق بمعاملتهم بحكم الحاكم لأنه منصوب لفصل الشجار وتغليق باب الخصومات وأما إذا كانت في حق الله تعالى فإنه مخير بين أقوال المفتين وهذا إنما يتم إذا كانت حقوق العباد متعلقة بالخصومات وإلا فكثير منها لا يحتاج إلى
الشجار فلا يحتاج إلى الحاكم وحكم الحاكم من دون مرافعة كقول أهل الفتيا ... هذا ومن لم يعقل التقليدا ... مغفلا لجهله بليدا ... فكل ما يفعله صحيح ... هذا الذي يقضي به الترجيح ... معتقد الجواز ما لم يخرق ... إجماعنا لكنه فيما بقي ... يفتي برأي العلما من شيعته ... ثم بأدنى جهة من جهته ...
هذه المسألة أي مسألة الجاهل الذي لا يعقل التقليد ولا رشد له بمسائل الفروع وإنما يقبل ضروريات الدين قال العلماء من كان بهذه الصفة فإن الحكم فيما يفعله معتقدا جوازه هو الصحة كما قال فكل ما يفعله صحيح إلا أن يخرق الإجماع فإنه ينكر عليه ولو اعتقده جائزا والمراد الإجماع القطعي لا الظني فإنه بمثابة الدليل الظني هذا رأي الجمهور وقد أشير إلى رجحانه حيث قال هذا الذي يقضي به الترجيح ووجهه ما تقرر أنه لا إنكار في الظنيات على من يعتقد جواز الشيء إذ من شرط الإنكار اعتقاد الحرمة فالجاهل ينزل منزلة المجتهد في عدم التضييق عليه من حيث أن كلا منهما لا يلتزم بطريقة مخصوصة بل ما اعتقد جوازه عمل به وهذا معنى قول الفقهاء الجاهل كالمجتهد
وأما حكمه فيما عدا ذلك فقد أشار إليه النظم بقوله يفتي إلخ فينزل منزلة العامي الذي يعقل التقليد من حيث لم يعلم الجواز فيفتي بمذهب العلماء من شيعته الذي هو من جهتهم وذلك كعوام الزيدية في قطر اليمن يفتون بمذهب الهادي ثم إذا عدم أفتي برأي علماء أقرب جهة إليه كالمستفتي إذا عدم العلماء في بلاده وجب عليه الخروج إلى أقرب جهة إليه وهذا من الناظم متابعة للأصل وإلا فالظاهر أنه يفتي بمذهب أي إمام من الأئمة ولا دليل على ما ذكر من الترتيب ولنا بحمد الله أبحاث على هذه المسائل أودعناها رسالة مستقلة ولا يحتمل هنا التطويل بذكرها
ولم نجز بحمد الله الكلام على تاسع الأبواب وما قبله أخذ في ذكر عاشرها وهو آخرها فقال
الباب العاشر في الترجيح والتصحيح ... وعاشر الأبواب في الترجيح ... بين الأمارت وفي التصحيح ...
الترجيح هو مأخوذ من الرجحان وهو الفضل والزيادة في أحد الشيئين لغة وقوله في التصحيح أي تصحيح العمل بالأدلة إذ لم يتم إلا بعد معرفة الراجح عند التعارض وهذا أصل الترجيح وقوله بين الأمارات إشارة إلى ما عليه الجمهور من أنه لا يقع التعارض بين القطعيات
وأما في الاصطلاح فما أفاده قوله ... وهو اقتران بعضها بأمر ... يقوى به كما أتى في الزبر ...
الزبر المزبور أي المكتوب في هذا الباب فهو مصدر بمعنى المفعول أورده لقصد البيان والإيضاح وليس من تعريف الترجيح بل تعريفه اقتران بعض الأمارات على الحكم بشيء يقوى به على المعارض لها وجعله الاقتران من باب إطلاق اسم الشيء على مسببه إذ الاقتران سبب الترجيح ففيه مسامحة ويحتمل أنه حقيقة عرفية لأهل الفن في الترجيح المصطلح ... ثم لها التقديم بالإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
أي للأمارة الراجحة التقديم على المرجوحة فيجب العمل بما هو الأقوى للقطع بالعمل كذلك من الصحابة ومن بعدهم من العلماء إذ العمل بالمرجوح مع وجود الراجح لا يقبله عقل عاقل وفي قوله بالإجماع إشارة إلى رد ما يروى عن الباقلاني من أنه إنما يقع الترجيح بالمقطوع به كتقديم النص على القياس وأما المظنون وهو الترجيح بالأحوال والأوصاف الآتية فلا ترجيح بها ... والمورد الظن بلا نزاع ...
أي ليس محل ورود الترجيح إلا فيما يثير الظن بلا نزاع بين الجمهور فلا يقع بين ظني وقطعي لانتفاء الظن معه ولا بين قطعيين إذ يلزم اجتماع النقيضين للقطع بثبوت أحد المدلولين في نفس الأمر ... ما بين عقلي أتى ونقلي ... مثلين أو ضدين فيما يملي ...
بيان لمورد التعارض وأنه يكون بين نقلين كالكتاب والسنة والإجماع وعقليين كالقياس فإفراد قوله نقلي وعقلي باعتبار كل واحد من المتعارضين وقوله مثلين يعني يكون التعارض بين مثلين من نقليين أو عقليين أو ضدين كالعقلي والنقلي
إذا عرفت هذا فالتعارض بين النقليات على أربع أقسام
الأول بحسب السند وهو الطريق الموصل إلى الدليل سواء كان ذلك مما يرجع إلى الراوي كزيادة الحفظ والإتقان أو مما يرجع إلى الرواية كالإسناد والإرسال
الثاني بحسب المتن وهو نفس الدليل كتقديم النهي على الأمر
الثالث بحسب الحكم كالإباحة والحظر
الرابع بحسب أمر خارج كموافقة لدليل آخر أو عمل الخلفاء الأربعة
بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم
وإذا تقرر هذا فالقسم الأول يختص بالدليل من السنة
وأما ما عداه فإنه مشترك بين السنة والكتاب والإجماع وقد وقع الترتيب في النظم لهذه الأربعة كما ذكرناه
أما الأول فأنواع منها قوله ... إن كان نقليا فترجيح الخبر ... بكثرة الراوي له من البشر ...
أي أنه يرجح أحد الخبرين المتعارضين بكثرة الرواة لأنه إذا كان عدد أحد الدليلين أكثر كان أقوى ظنا إذ العدد الكثير أبعد عن الخطأ من العدد الأقل ولأن كل واحد من الدليلين يفيد ظنا فإذا انضم إلى أحدهما غيره ازداد الظن قوة وهذا رأي أكثر العلماء
ومن طريق الترجيح بحسب الراوي ما أفاده قوله ... أو كونه أدرى بما يرويه ... أو زائدا في حفظ ما يمليه ...
أي من طريق الترجيح الرواية أن يكون الراوي أدرى بما يرويه وأعرف لكونه ذا بصيرة في علم الشريعة والأحكام لأنه يقوى الظن بروايته على رواية من لم يتصف بصفته أو يكون زائدا في الحفظ بأن عرف أنه أضبط وأتقن لحفظ ما يرويه ويعرف بخبرة الأئمة لحفظه ... أو زاد في التوثيق والمباشر ... وصاحب القصة فيها الحاضر ... أولى ومن شافه من أملاه ... أو من غدا أقرب من معناه ... أو كان من أكابر الصحابة ... فالكل أولى عند ذي الإصابة ...
اشتملت الأبيات على أنواع من طرق الترجيح بحسب الراوي
الأول أنه يرجح بكثرة التوثيق وعبر عنه في جمع الجوامع بشهرة
عدالته قال في شرحه لشدة الوثوق به وقد دخل فيه زيادة الورع والذكاء والفطنة إذ هذه الصفات مما يزداد بها توثيق الراوي فيزداد بها الظن قوة ومن ذلك ما أفاده قوله وصاحب القصة وهو مبتدأ تقديره خبره أولى كما دل له الأول
ومثال الأول ما رواه أحمد وغيره عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة وهي حلال وبنى بها وهو حلال قال وكنت السفير بينهما وقد عارضه حديث الصحيحين عن ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم تزوجها وهو محرم فيقدم ويرجح حديث أبي رافع لكونه مباشر القصة لقوله وكنت السفير بينهما
ومثال الثاني حديث ميمونة عند مسلم وغيره وقالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن حلال بسرف فيقدم أيضا على رواية ابن عباس لكونها المباشرة
وقوله ومن شافه من أملاه أي وإن كان أحد الراويين مشافها برواية من روى عنه ومعارضه غير مشافه فالأولى من رواه من دون حجاب بينه وبين الراوي وذلك كرواية القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبدا فترجح على رواية الأسود عن عائشة أنه كان حرا لمشافهة القاسم بن محمد عمته وأخذه عنها من دون حجاب دون الأسود لأن الأمن من تطرق الخلل في الأول دون الثاني أكثر فالظن به أقوى
وقوله أو من غدا أقرب من معناه بالغين المعجمة المكان أي يرجح من كان أقرب مكانا من الراوي على غيره ومثاله حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه و سلم أهل بالحج مفردا كما رواه مسلم على رواية من روى أنه قرن أو تمتع لأن ابن عمر أخبر أنه كان حين لبى صلى الله عليه و سلم تحت جران ناقته والجران بالجيم فراء فألف ونون باطن العنق وهذا مجرد مثال وإلا فقد روي عن ابن عمر نفسه من طريق الشيخين ما يخالف هذه الرواية
وقوله أو كان من أكابر الصحابة أي او كان راوي أحد المتعارضين من أكابر الصحابة فإنها ترجح روايته على رواية من كان من صغارهم لقرب الأكابر من مجلسه صلى الله عليه و سلم في الأغلب وحرصهم عى معرفة الأحكام الشرعية والحق أنه لا يرجح برواية الأكابر على الأصاغر مطلقا ولا الأصاغر كذلك وإنما يرجع إلى حال الراوي فقد يكون من الأصاغر مع قربه واختصاصه برسول الله صلى الله عليه و سلم كابن عباس وعبدالله بن جعفر وأنس بن مالك وأبي هريرة فهو أولى ولذا قيل المراد بالأكابر هنا الأكابر في العلم لا في السن ... أو سابق الإسلام أو مشهورا ... في نسب الآباء لا مغمورا ...
أي وترجح رواية من كان سابق الإسلام على رواية متأخره عند التعارض ووجهه أن السابق أكثر خبرة وأعرف بمواقع الأحكام من المتأخر وبين هذا الوجه والذي قبله العموم والخصوص من وجه من حمل الأكابر على الأكابر في العام والحق أنه أيضا هنا لا يرجح متقدم الإسلام على الإطلاق بل قد تقوى رواية المتأخر لمرجح آخر من أحفظية ونحوها
وقوله أو مشهورا أي ترجح رواية من كان مشهور في نسبه على المغمور فيه لأن المشهور فيه يكون أكثر تحريا وأشد صونا لنفسه من غيره كذا قيل ... أو لم يكن ملتبسا بالضعفا ... أو سامعا من بعد أن تكلفا
بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم
أي وترجيح رواية من لم يلتبس بالضعيف على رواية من التبس به قالوا لأن الوثوق به أقوى من الوثوق بمن التبس بالضعفاء لجواز أن يكون هو الضعيف
وقوله أو سامعا من بعد أن تكلفا أي فإن روايته أرجح من رواية من سمع قبل التكليف لأن المحتمل من بعد التكليف يكون أحفظ وأضبط ممن تحمل قبله وهذا أغلبي ... أو زاد من عدله أو زادوا ... عدالة فحط بما أفادوا ...
أي ترجح رواية من كثر معدولوه على من قلوا أو كان من عدلوا أحدهما أزكى وأتقى على من عدل المعارض له وهذا مراده بقوله أو زاد من عدله أو زادوا عدالة وإن استووا عددا ... والحكم في التعديل قد تقدما ... فكن على ترتيبه مقدما ...
أشار بهذا إلى الترجيح بالتعديل بطرق التعديل المتقدمة في باب الأخبار وهي مراتب أعلاها التصريح بالتعديل نحو عدل ثقة ثم الحكم بشهادته من حاكم يعتبر العدالة ثم العمل بروايته ممن لا يقبل رواية المجهول فيرجح على هذا الترتيب ونحوه وهذا آخر طرق الترجيح بحسب الراوي وهو القسم الأول من الأربعة ويلحق به قوله ... وإن تعارض الحديث المرسل ... فما رواه ضابط لا يرسل ... عن غير عدل فله التقدم ... على سواه وهو قول أقوم
هذه مسألة تعراض المرسلين فيرجح مرسل الضابط لما يرويه الذي عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل على من لم يعرف بذلك وذلك لقوة الظن بالمرسل الأول دون الثاني وتقدم في باب الأخبار شيء من هذا فإن كان أحدهما يرسل عن المجاهيل فإنها لا تقبل روايته فضلا عن أن يعارض بها غيرها وهذا إذا تعارض مرسلان
فأما إذا تعارض مرسل ومسند فقد أفاده قوله ... ويقبل المسند مما يرسل ... وقيل بالعكس وقيل الأمثل ...
هذه إشارة إلى ثلاثة أقوال
الأول أنه إذا تعارض المسند والمرسل قدم الأول فإنه أولى من الثاني وهذا رأي الجمهور قالوا لأن تطرق الخلل في المسند أقل من المرسل
وقيل العكس وهو الثاني وهو تقديم المرسل وترجيحه على المسند وهذا رأي الحنفية وبعض الزيدية قالوا لأن الراوي لا يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وهو كالقاطع بأن الذي رواه صدر عنه صلى الله عليه و سلم وأجيب بأن المراد المسند الصحيح فإن أريد بالقطع قوة الظن فمن أسند أيضا كذلك وإن أريد القطع حقيقة فغير مسلم وأيضا فعدالة رواة المسند تعرف بالبحث عن رجاله بخلاف رجال المرسل فإنهم لا يعرفون إذا بإرساله جهلوا
الثالث قوله وقيل الأمثل ... الاستوا ورجح المشهور ... ومرسل التابع والمذكور ... في مثل ما أخرجه البخاري ... ومسلم من سنة المختار ...
فقوله الاستوا خبر الأمثل وهذا ثالث الأقوال أنه لا ترجيح لأحدهما على الأخر بل هما سواء وهذا رأي جماعة من أئمة الأصول واختاره المهدي قالوا لأن المعتبر عدالة الراوي وقد قيل كل من المسند والمرسل فلا مزية لأحدهما على الآخر إذا تعارضا
وأجيب بأن باب الترجيح ليس مناطه مجرد اعتبار العدالة المترتب عليها القبول وإلا لحكم بالاستواء في كل ما تقدم وما يأتي إذ لا بد في كل من المتعارضين أن يكون مقبولا على انفراده وإذا كان كذلك فالمسند أرجح لما عرفت
وقوله والمذكور مبتدأ خبره قوله في مثل ما أخرجه البخاري الخ أي أنه يرجح ما اشتهر بالصحة من كتب الحديث كالبخاري ومسلم على غيرهما لتلقي الأمة لهما بالقبول والمراد فيما ذكر بما أخرجه الشيخان التمثيل وإلا فغيرهما ممن عرف رجال الإسناد بالثقة والقبول مثلهما وقد حققنا هذا في مسألة ثمرات النظر وبسطناه بسطا شافيا
هذا وقد ذكرت مرجحات أخر بحسب الرواية في المطولات لم تأت والنعت بها إذ المقصود ذكر الأشهر الأكثر كما سنصرح به آخر باب الترجيح
القسم الثاني الترجيح بحسب المتن وهو أنواع منها ما أفاده قوله ... والنهي أولى من مفاد الأمر ... والأمر من إباحة ويجري ... ترجيح ما قل على ما كثرا ... فالاحتمال فاتبع ما ذكرا ...
فإذا تعارض أمر ونهي يرجح النهي لأنه قد تقرر أن النهي لدفع المفسدة والأمر لجلب المصلحة ودفع المفاسد أهم عند الشارع من جلب المصالح لما علم من أن مبنى الأحكام الشرعية على جلب المصالح ودفع المفاسد وإن جهلناها فيما نرجحه
إن قلت قد تقدم أن النهي أمر بضده والأمر نهي عن ضده فقد
اشتمل كل واحد منهما على الآخر وحينئذ فلا مزية لأحدهما على الآخر فلا يتم الترجيح المذكور
قلت أجيب بأن النهي الصريح أدل على كونه لدرء المفاسد وأقوى من الدلالة الالتزامية المستفادة للنهي من الأمر فإن المقصود أولا وبالذات في النهي دفع المفسدة كما أن المقصود أولا وبالذات في الأمر لجلب المصلحة فيندفع ما قيل من أن كلا منهما قد استلزم دفع مفسدة وجلب مصلحة وقوله والأمر من إباحة أي إذا تعارضا فإنه يرجح الأمر على الإباحة لما في ذلك من الاحتياط لاستواء المباح في الفعل والترك دون الأمر فإنه واجب الفعل فكان أرجح وهذا رأي الجمهور وقيل بل ترجح الإباحة لأنها تكون قرينة على أن الأمر ليس على ظاهره من الوجوب والإعمال خير من الإهمال واختار هذا المهدي وأن الإباحة أرجح من الأمر
وقوله ما دل على ما كثرا في الاحتمال مراده إذا تعارض ما احتماله أقل للمعاني مع ما احتماله أكثر ومثلوه بالإباحة والأمر إذا تعارضا قدمت الإباحة لوحدة معناها بخلاف الأمر فإنه متعدد المعاني كما عرفت في مباحث الأمر وهذا مجرد مثال وإلا فالقول المختار أنه حقيقة في الوجوب فلا أكثرية لمعانيه ... وفي المجاز قدم الحقيقه ... عليه واعكس هذه الطريقه ... فيه إذا عارضه المشترك ... لأنه عند المجاز يترك ...
أي إذا وقع التعارض بين الحقيقة بأحد معانيه وبين المجاز فإن الحقيقة غير المشترك تقدم عليه في كونها الأصل عند الإطلاق وقوله واعكس هذه الطريقة وهو أنه إذا تعارض اللفظ بين المجاز المشترك فإنه
يرجح المجاز على المشترك لأن المجاز في الكلام أغلب من الاشتراك وتقدم تحقيق ذلك في الباب الرابع ... وفي المجازين يرى الترجيح ... بما هوالأقرب والصريح ... في النص من غير الصريح أرجح ... والعام عند خاصه مطرح ...
هذه المسائل من الترجيح
الأولى إذا تعارض مجازان فإنه يرجح الأقرب إلى الحقيقة وذلك مثل حديث لا عمل إلا بنية فإن النفي هنا لا يصح أن يكون حقيقة فيحتمل أن يراد نفي الصحة أو نفي الكمال وهما مجازان على أي تقدير إلا أنه يرجح نفي الصحة لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة وهو نفي الذات لأن ما لا يصح كالعدم
الثانية قوله والصريح أي النص الصريح إذا عارضه نص غير صريح رجح الصريح على غيره ومثاله قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله في قتل الخطأ مع قوله صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ فالأول صريح في إيجاب ما ذكر فهو أرجح من الحديث
الثالثة قوله والعام أي إذا تعارض هو والخاص اطرح العام وقدم عليه الخاص لكونه أقوى دلالة من العام على الخاص إذ هو نص فيه وهذا على رأي الشافعي أنه يقدم الخاص مطلقا كما قدمناه ولذا أطلقناه هنا ... كذاك تخصيص العموم قدما ... على خصوص أولته العلما ...
أي كما قدم ما سبق قدم أيضا تخصيص العموم على التخصيص المؤول لكثرته ومثاله ما جعل عليكم في الدين من حرج مع قوله
في أربعين السائمة شاة فإنه يخصص عموم الحرج بالإيجاب في الشاة وهو أولى من تأويله في القيمة كما تقوله الحنفية ... ثم الذي ما خص بالعموم ... أولى من المخصوص في العلوم ...
أي أنه إذا تعارض عموم مخصوص وعموم لم يخص فإنه يرجح الأخير على الأول لأنه أقوى دلالة على إفراده مما قد دخله التخصيص إذ قد يلحقه به ضعف حتى قيل إنه لا يستدل به كما سلف وقيل بل يرجح الذي قد خص على ما لم يخص لأن الغالب على العموم التخصيص فيكون العمل به أرجح لأنه بعد تخصيصه لا يحتاج إلى تطلب مخصص له بخلاف الذي لم يخص ... والشوط إن عم هوالمقدم ... على عموم أي لفظ يعلم ...
هذا بيان لكيفية العمل إن تعارض صيغ العموم فإنه إذا وقع بينها التعارض قدم الشرط المقيد له على كل صيغة من صيغه وذلك كـ ما و من و أي الشرطيات ووجه تقديمه أنه يفيد التعليل للحكم ما كان للتعليل فهو أدل على المقصود وأدعى للقبول ولا يخفى أن هذا أي إفادته التعليل أغلبي ثم ظاهره أنه يقدم أيضا على النكرة المنفية ب لا التي لنفي الجنس وهو ظاهر الكتب الأصولية وقيل بل هي أرجح لأنها نص في الاستغراق ... و ما و من وجمعنا المعرف ... باللام من جنس بها يعرف ...
أي ما و من الموصولتان والجمع المعرف باللام فهي أرجح منه لأن الجنس المعرف باللام يقوى احتماله للعهد بخلاف الاسم الموصول
والجمع المعرف بها فاحتمال العهد فيها بعيد لقلة استعماله في العهد استعمال الجنس المعرف باللام
القسم الثالث الترجيح بحسب الحكم وهو أنواع من ذلك ما أفاده قوله ... ثم على الندب الوجوب رجحا ... والنفي للإثبات أيضا طرحا ...
أي إذا تعارض ما يقتضي الوجوب وما يقتضي الندب فإنه يرجح الوجوب لما في ذلك من الاحتياط وحمله على الندب يستلزم جواز الترك بخلاف الحمل على الوجوب وقد تقدم في ترجيح الأمر على الإباحة والنهي على الأمر ما يتعلق بالمقام فلا فرق بين ما هنا وما هناك إلا بحسب الاعتبار فإذا اعتبرت نفس صيغة الأمر والنهي مثلا كان من الترجيح بحسب المتن وإن اعتبر بحسب التحريم والوجوب كان مما نحن فيه
وقوله والنفي للإثبات الخ هذه مسألة ترجيح الإثبات على النفي إذا تعارضت فإنه يرجح الإثبات ويطرح النفي إذ يصير مرجوحا وهو مطرح عند وجود الراجح ووجهه أنه اشتمل الإثبات على زيادة علم لم تكن في النفي إذ غاية ما يفيد النفي أنه لم يعلم الراوي مدلوله ولأنه يفيد التأسيس والنفي يفيد التأكيد بالنظر إلى الأصل والتأسيس خير من التأكيد ... ودافع الحد على ما أوجبا ... لا في الطلاق عندهم فالمجتبى ... مثل العتاق فيهما الإيجاب ...
المراد إذا تعارض دليل يقضي بدفع الحد ودرئه عن من أوجب عليه وآخر يقضي بإيجاب الحد فإنه يرجح الدافع لأن الحدود تدرأ بالشبهات والتعارض شبهة يدفع بها الحد قال المهدي في المعيار هذا رأي الفقهاء
وقوله لا كالطلاق الخ أي إذا تعارض ما يقتضي الطلاق أو يقتضي العتاق وما يقتضي خلافهما فإنه يرجح المثبت لهما على النافي وهذا رأي جماعة من أئمة الأصول ووجهه أنها إذا تعارضت بينة النفي والإثبات قدمت بينه الإثبات فكذا في تعارض الخبرين وفيه خلاف بينهم مبسوط في المطولات قيل والأولى أن يفرق بين الأمرين فيرجح المثبت على النافي في العتق لما ثبت من حث الشارع عليه وترغيبه فيه والعكس في الطلاق فيرجح النافي لكونه أبغض الحلال إلى الله كما ثبت عند أبي داود
القسم الرابع الترجيح بحسب الخارج أشار إليه بقوله ... ثم الذي يعضده الكتاب ... أو غيره من أيما دليل ...
أي إذا تعارض دليلان أحدهما يعضده القرآن أو غيره من الأدلة عقلية أو نقلية كما أفاده التعميم في قوله أيما دليل فإنه أرجح مما لا يعضده شيء ووجهه أن الظن لكثرة الأدلة يزداد قوة مثاله حديث من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وقد عارضه النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة لكن عضد الأول ظواهر الكتاب مثل حافظوا على الصلوات وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ونحوهما مما يدل على المسارعة إلى فعل الطاعات والأمثلة كثيرة ... أو خلفاء أحمد الرسول ...
أي أو عضده عمل الخلفاء الأربعة فإنه أرجح ما لم يعضده عملهم ... أو ساكنون طيبة أو أعلم ... فإنه عندهم المقدم
أي أن الدليل إذا عضده عمل أهل المدينة فإنه أرجح لأنها مهبط الوحي وقبة الإسلام فيقوى الظن بعمل أهلها في الدليل وكذلك عمل الأعلم بأحد الدليلين فإنه يكون الأرجح من دليل لم يعمل به لكونه أعرف بمأخذ الأحكام وأخبر بمواقع الأدلة فيقوى الظن بما عمل به ... ثم الذي فسره راويه ... فإنه أدرى بما يرويه ...
أي يرجح ما فسره راويه على غيره مما لم يفسر لكونه أعرف بمعنى ما رواه وأخبر به مثل حديث البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإنه يحتمل التفرق بالأقوال أو بالأبدان ففسره فعل ابن عمر أنه كان إذا أراد إمضاء البيع يمشي قليلا ثم يرجع ... وهكذا قرينة التأخر ... من طرق الترجيح عند الأكثر ...
أي ومثل ما سلف قرينة التأخر فإنها تكون مرجحة كتأخر إسلام الراوي أو تأريخه للحديث تأريخا متأخرا وهذه المرجحات باعتبار الأغلب وإلا فقد يعرض للمجتهد خلاف ما قرر بقرائن تقوم لديه تقتضي ذلك وإلى هنا انتهى ما ذكر من المرجحات النقلية
وقد ذكر أئمة الأصول مرجحات عقلية أشار إليها قوله ... هذا وها هنا قد انتهت ... مرجحات النقل والعقل أتت ...
المراد بالعقلية ما يتعلق بالقياس وسمي عقليا لأن التعميم بالعلة وإثباتها في مفردات ما ألحق بالأصل عند النص على العلة عقلي وهذا توجيهه للتسمية في الجملة وإلا فبعد التعبد بالقياس قد صار نقليا شرعيا وإذا عرفت هذا فالترجيح بين القياسين عند تعارضهما لا يخلو عن أربعة أقسام إما أن يكون بحسب حكم الأصل أو بحسب العلة نفسها أو بحسب دليل العلة أو بحسب الفرع فهذه أربعة أنواع الأول ما أفاد قوله ... ففي القياسين دع الظنيا ... لما يكون حكمه قطعيا
أي إذا وقع التعارض في القياسين فإنه يرجح ما يكون حكم أصله قطعيا لقطعية الدليل وإن كان كل من القياسين ظنيا من حيث الإلحاق إلا أنه يقوى الظن فيما يكون حكم أصله قطعيا لقوة الطريق في القياس ... أو ما يكون في الدليل أقوى ... فإنه مقدم بالأولى ...
وذلك بأن ثبت الحكم في أحد الأصلين بطريق المنطوق وفي الثاني بالمفهوم أو يكون ثابتا في أحدهما بالنص وفي الآخر بالعموم فإنه يقدم الأقوى لقوة الظن وهذا أعم من الذي قبله لأنه قد دخل تحت قوله أو ما يكون في الدليل ... كذاك ما لا نسخ بالإجماع ... فيه على ذي الخلف والنزاع ...
أي يرجع ما لا ينسخ حكم أصله بالاتفاق على ما يكون حكم أصله مختلفا في نسخه والأمثلة في المطولات وهذا إلى هنا انتهى القسم الأول
وأما القسم الثاني وهو ما يكون الترجيح فيه بحسب علة حكم الأصل فهو أنواع من ذلك ما أفاده بقوله ... كذا الذي تكون فيه العلة ... أقوى له التقديم عند الجلة ...
أي يرجح أحد القياسين ما تكون علته أقوى على غيره وتعرف قوتها بأمور نبه النظم عليها بقوله ... بكونها موجودة في الأصل ... لقوة المسلك فيها النقلي ...
أي ما يكون طريقه العلة فيه أقوى من طريق الآخر وهوالمراد بقوله لقوة المسلك أي مسلك وجودها ومثاله أن يقال في الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمم مع قول الآخر طهارة بمائع فلا تفتقر إليها كغسل النجاسة فيرجح الأول لقوة طريق وجود العلة فيه وهو كونها طهارة حكمية
أو كونها العلة أو يصحبها ... وصف فيقوى عنده موجبها ...
أي يرجح أحد القياسين بقوة مسلك كونها العلة بأن تكون طريق العلة بأحد القياسين بالنص صريحا وفي الآخر بالإيماء والتنبيه وقوله أو يصحبها أي وتعرف قوة العلة بأن تصحبها علة أخرى في أحد القياسين فإنها أرجح مما تضمنه علة واحدة ... أو مقتضى الحظر أو الوجوب ... أو ماله تشهد بالمطلوب ... أصولنا أو كان منها يظهر ... أو الصحابي قاله أو أكثر ...
هذه أيضا من الطرق التي يعرف بها قوة العلة وهو كونها تفيد مقتضى الحظر أو الوجوب دون القياس الذي عارض ما هي فيه فيفيد الإباحة ومثاله أن يعلل تحريم التفاضل بالكيل فتدخل النورة قياسا على السنة المنصوصة فهذا القياس أرجح مما علل فيه التحريم بالطعم لأنه يقضي بإباحة التفاضل في النورة
وقوله أو ماله تشهد بالمطلوب أصولنا هي فاعل تشهد وهذا ثاني ما أشار إليه النظم مقل أن يقال في تعين الماء لإزالة النجاسة طهارة تراد للصلاة فيتعين لها الماء كطهارة الحدث فيقال عين يراد زوالها فيصح بالخل كما يصح بالحت فإن التطهير بالحت مخالف للأصول المقررة فيرجح الأول
وقوله أو كان منها يظهر أي أو كان التعليل منها أي أصولنا ما يظهر أي تعرف قوة العلة بكونها منتزعة من الأصول وهذا الوجه غير الذي قبله للفرق بين كون الشيء منتزعا من الأصول وبين كونها تشهد له بموافقتها إياه
وقوله أو الصحابي رابع ما أشار إليه أي وتعرف قوة العلة بأن تظهر من الصحابي كأن ينص بعض الصحابة عليها أو ينص عليها أكثر من
واحد سواء كان الأكثر صحابة أو غيرهم من العلماء وهو كما مضى من الترجيح بتفسير الراوي أو عمل الأكثر ... ثم الحقيقي من الأوصاف ... كذا الثبوتي بلا خلاف ...
أي يرجح القياس الذي وصفه حقيقي على المعارض له إذا كان وصفه غير حقيقي بل إقناعي ونحوه كأن يقول محرم المثلث مشروب يسكر كثيره فيحرم كالخمر مع قول الحنفي مشرب طيب ذهب خبثه بالنار فلا يحرم كسائر الأشربة فإن الوصف في الأول حقيقي بخلاف الآخر فإنه إقناعي
وقوله كذا الثبوتي أي أنه يرجح القياس الذي وصفه ثبوتي على معارضه الذي وصفه نفي
وقوله بلا خلاف أي في انه بالوصف الثبوتي لا أنه لا خلاف في ترجيح الثبوتي بل فيه خلاف مثاله أن يقال في خيار الصغيرة إذا بلغت غير عالمة بالخيار وقد زوجها في صغرها غير أبيها ولا جدها متمكنة من العلم فلا تعذر بالجهل كسائر الأحكام الشرعية فإنه يرجح على ما يقال جاهلة بالخيار فتعذر كالأمة إذا أعتقت تحت العبد لأن الوصف في الأول ثبوتي بخلاف الثاني فإن الجهل عدمي ... وهكذا الباعث أيضا أرجح ... من الأمارات على ما رجحوا ...
أي وكذا يرجح قياس كان الوصف باعثا على الحكم على معارضه من القياس الذي كان الوصف فيه أمارة مجردة مثاله أن يقال في الصغيرة الثيب صغيرة فيولى عليها في النكاح كما لو كانت بكرا فلو قيل ثيب فلا يولى عليها في النكاح كما لو كانت بالغة كان القياس الأول أرجح لكون التعليل بالصغر فيه باعثا على التولية بخلاف الثيوبة
وما أتى مطردا منعكسا ... أولى وما يطرد مما عكسا ...
أشار إلى شيئين
الأول القياس ذو الوصف المطرد المنعكس أولى من المعارض له إذ لم يكن وصفه كذلك لسلامته عن المفسدة وبعده عن الخلاف فيقوى الظن بالأولى على غيره مثاله قول الشافعي في مسح الرأس فرض في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه وقول الحنفي مسح تعبدي في الوضوء فلا يسن تثليثه كمسح الخف فإن علة الأول مطردة غير منعكسة لأن المضمضة والاستنشاق ليسا فرضا عنده ويسن تثليثها وعلة الثاني مطردة منعكسة إذ التعليل واقع بالمسح
وقوله وما يطرد مما عكسا هذا الثاني من الشيئين أي وما يطرد أولى مما يعكس أي أنه يرجح القياس الذي علته مطردة على قياس وصفه منعكس غير مطرد مثاله قول الشافعي في عدم عتق غير الأصول والفصول قرابة لا يحرم صرف الزكاة إليه فلا يعتق كابن العم فيقول الحنفي ذو رحم محرم فيعتق عليه كالأبوة فعلة الشافعي مطردة ولكنها غير منعكسة فإنه لو ملكه كافرا لم يعتق عليه مع أنها تحرم صرف الزكاة إليه وعلة الحنفي وإن كانت منعكسة فهي غير مطردة لنقضها بابن العم الرضيع
وأما القسم الثالث وهو الترجيح بحسب دليل العلة فأنواع أيضا من ذلك ما دل عليه قوله
وقدم السبر على المناسبة ... وهي ترى أقدم من وصف الشبه ...
أي أنه يقدم القياس الذي تثبت علتة بالسبر على قياس تثبت علته بالمناسبة ووجهه أن السبر دائر بين الإثبات والنفي فلا يحتمل معارضا بخلاف المناسبة فإنه لا يتعرض فيها لنفي المعارض فربما احتملت معارضتها والأمثلة معروفة في المطولات والمقصود إثبات القاعدة
وأما القسم الرابع وهو الترجيح بحسب الفرع فأنواع منها ما اشتمل عليه قوله ... ورجح الوصف الذي بالقطع ... وجوده محقق في الفرع ...
أي أنه يرجح القياس الذي يقطع بوجود علة الحكم في الفرع على ما يظن وجودها كأن يقال في جلد الكلب حيوان لا يجوز بيعه فلا يطهر جلده بالدبغ كالخنزير فإنه أرجح مما لو قيل حيوان يحتاج الإنسان إلى مزاولته فيطهر بالدبغ جلده كالثعلب فإن القياس الأول أرجح للقطع بوجود الوصف في الفرع وهو عدم جواز البيع ... وما بنص ثابت في الجملة ... أو شارك الأصل بعين العلة ...
اشتمل على مرجحين
الأول قوله وما بنص إلخ أي ما ثبت حكم الفرع بنص على سبيل
الجملة فهو أرجح مما لم يثبت أصلا بل يحاول إثبات حكم الفرع ابتداء مثاله أن يقال في تعيين حد الخمر الثابت بالنص من دون تعيين فاحشة مظنة للافتراء فيحد صاحبها ثمانين كالقذف فهو أولى مما يقول الخصم مائع فلا يحد شاربه كالماء لأن القياس الأول أثبت على جهة التفصيل لما ثبت بالنص في الجملة بخلاف الآخر فإنه أثبت في الفرع حكما ابتداء
والثاني قوله أو شارك الأصل بعين العلة إلا أنه لم يتم فهم معناه إلا بالبيت الآخر وهو قوله ... وعين حكم الأصل كان أقدما ... أو كان في عين وجنس قاسما ...
أي إذا شارك الفرع الأصل في عين العلة وعين الحكم فإنه أولى مما لم يشاركه في ذلك مثل أن يشاركه في عين الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وعين العلة أو جنس الحكم وجنس العلة ووجهه أن المشاركة في العينين عين الحكم وعين العلة يدل على كمال الاتحاد بين الأصل والفرع فيكون أولى من المشارك في الثلاثة الأخر وأمثلة كل ذلك في المطولات وأثبتها في الفواصل وقوله قاسما أي قاسم الفرع الأصل فيما ذكر
فما كان كذلك فهو أرجح من المشاركة في جنس الحكم وجنس العلة لأن المشاركة في عين واحد منهما تدل على أن التشابه بينهما أقوى ... وما غدا في عينها والجنس ... مشاركا قدم عند العكس ...
أي والفرع المشارك في عين العلة وجنس الحكم أولى من العكس يعني وهو ما يشارك في عين الحكم وجنس العلة ووجهه أن العلة هي العمدة في التعدية ومع المشاركة في عينها يقوى التشابه بينهما من العكس هذا نظم ما شمله الأصل
وللترجيح أنواع أخر وللمقامات مرجحات وقد أشار إلى ذلك بقوله ... وأوجه الترجيح لا تنحصر ... فيما له من صور قد ذكروا ... وهي على أهل الذكا لا تخفى ... إن وافقوا من الإله لطفا ...
فإنه لا علم إلا ما علمتنا وهو يقول لرسوله وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما اللهم علمنا ما جهلنا وحفظنا ما علمنا وذكرنا ما نسينا وارزقنا العمل بما علمنا واجعلنا هداة مهديين ... خاتمة تذكر في الحدود ... تميز الحد من المحدود ...
هذه خاتمة أتى بها المصنف في الحدود فقوله تميز الحد جملة حالية من الحدود لا من الخاتمة لأن الخاتمة تشتمل على بيان أقسام الحدود وتعريف كل قسم منها وعلى بيان أنواع الترجيح في الحدود السمعية كما تعرفه
والحد لغة المنع ومنه قيل للحاجب حدادا
وفي الاصطلاح ما أفاده قوله ... فالحد ما يميز المذكورا ... عن غيره كما ترى مسطورا
أي ما يميز ما قصد حده عن غيره وهو معنى قولهم الحد ما يميز الشيء عما عداه
كما ترى أي فيما يأتي من تعريف كل حد وهذا التعريف شامل لأنواع الحد الآتية
ولما انقسم الحد إلى لفظي ومعنوي بين كل واحد بقوله ... والحد لفظي ومعنوي ... فالكشف بالأجلى هو اللفظي ...
هذا لف ونشر أي الحد انقسم إلى لفظي نسبة إلى اللفظ لكونه يكون بلفظ آخر ومعنوي يكون المراد منه الكشف عن حقيقة الشيء إما بالذات أو باللازم فاللفظي هو الكشف عن اللفظ بلفظ أجلى منه نحو أن يقال الخندريس الخمر والغضنفر الأسد وهو تفصيل اللفظ الخفي بالجلي وعليه دونت كتب اللغة في غالبها ... والمعنوي عند أهل العلم ... إما حقيقي وإما رسمي ...
هذا تقسيم للمعنوي إلى حقيقي وهوالمشتمل على بيان حقيقة الشيء الذاتية وإلى رسمي وهوالمشتمل على التعريف باللازم للشيء لزوم الأثر للمؤثر أخذا من رسم الدار أثرها ثم هما أيضا ينقسمان إلى ما يفيده قوله ... والكل إما ناقص أو تام ... فهذه أربعة أقسام ...
أي كل واحد من الحقيقي والرسمي إما ناقص وإما تام فكانت أربعة أقسام وقد بين في النظم كل قسم منها على الترتيب المذكور
فالقسم الأول الحد التام وهو المفاد بقوله ... فالتام من أولها ما ركبا ... من جنس ما يذكر أعني الأقربا ... وفصله الأقرب وهو الأشرف ... لأنه يكشف ما يعرف
من أولها أي الأربعة وهو الحقيقي ما ركب من جنس المحدود وفصله القريب لا مطلق الجنس والفصل ولذا قيده بقوله أعني الأقربا ووصف الفصل به وذلك لأن المقصود بالحد الحقيقي بيان حقيقة المحدود بما يختص به ومثاله المعروف حيوان ناطق في حد الإنسان فالحيوان جنسه القريب لأنه تمام المشترك بين الإنسان وبين غيره في الجنسية فيقع جوابا عن الماهية وعن جميع ما يشاركها فصله فقد سبق تحقيق الكليات الخمس في الباب الثالث وظاهر النظم سواء قدم الجنس كما مثل او الفصل كأن يقال الإنسان ناطق حيوان وهو رأي كثير من المحققين لأن اجتماع الجنس والفصل القريبين هو المراد المبين للذات
وقوله وهو الأشرف أي الحد الحقيقي التام أشرف الأقسام الأربعة لكونه يكشف عن المحدود كشفا تاما ببيان ذاتياته
والقسم الثاني وهو الحد الناقص بينه قوله ... وناقص الحد الحقيقي غدا ... يختص بالفصل القريب لا سوى ...
أي أن الحد الناقص ما كان بالفصل القريب وحده مثل الإنسان ناطق وإنما كان ناقصا لوقوع الخلل في صورة الحد بإسقاط جنسه القريب وإلا فالمحدود ليس بناقص لأن الفصل القريب مستلزم للجنس القريب فقد أفاد ما هو المقصود بالحد وهو تصور حقيقة الشيء وتميزه عما عداه
ولما كان قد يؤتى مع الفصل القريب بالجنس البعيد ولكنه لا يخرج به الحد عن كونه ناقصا أشار إليه بقوله ... وقد يضم جنسه البعيد ... إليه لكن ما له مزيد ...
أي قد يضم الجنس البعيد إلى الفصل القريب بالحد الناقص نحو الإنسان جسم ناطق ولا يخرجه عن كونه حدا ناقصا ولذا قال ما له مزيد أي لا يكمل بهذه الزيادة
القسم الثالث والرابع الرسم التام والرسم الناقص وقد اشتمل على بيانهما قوله ... والتام من ثانيهما ما فيه ... جنس له وخاصة تليه ... أعني قريبا فإذا ما فقدا ... وإن أتى من أي جنس أبعدا ... أو عرضيات به تختص ... فالكل رسم قد عراه النقص ...
اشتملت على بقية الأربعة فالتام من ثانيهما أي ثاني القسمين وهما الحقيقي والرسمي وهو ثالث الأقسام الرسم التام وهو ما يركب من الجنس القريب والخاصة نحو الإنسان حيوان ضاحك والتقييد ب تليه بيان للغالب وإلا فلو قيل الإنسان ضاحك حيوان كان رسما تاما وحقيقة الخاصة عند المناطقة إذ هذه الأبحاث على اصطلاحهم هي الخارجة عن الماهية المقولة على ما تحت حقيقة واحدة ويسمى هذا القسم رسما تاما لمشابهتها الحد التام من حيث اشتماله على الجنس القريب وعلى ما هو مختص به وهو الخاصة
والقسم الرابع الرسم الناقص أفاده قوله فإذا ما فقد الجنس القريب فالألف للإطلاق لا يتوهم أنه ضمير تثنية فالناقص ما كان بالخاصة وحدها نحو الإنسان ضاحك أو مع الجنس البعيد نحو الإنسان جسم ضاحك أو كان بالعرضيات التي تختص كلها بحقيقة واحدة نحو الإنسان ماش على قدميه عريض الأظفار بادي البشرة مستوي القامة فإنه هذه تختص بالإنسان لا يتم تعريفه إلا بها كلها وإنما سمي ناقصا لنقصانه لفقد الجنس القريب
ولما كان الحد يشترط فيه شرائط قال ... واعلم بأن الحد في العلوم ... يصان عما قد حوى منظومي ... عن المساوي في جلاه والخفا ... وأن يكون ما به قد عرفا ... له على محدوده التوقف ... فإن هذا عندهم مزيف ...
هذا بيان لما يجب أن يحترز عن الإتيان به في الحدود فلا يصح الحد بالمساوي في الجلاء كالمتضايفين نحو الأب من له الابن لأنهما يتعقلان معا
بالضرورة وكالمتضادين نحو السواد ضد البياض لتعلقهما معا عادة والحد لا بد أن يكون معلوما يوصل إلى تصور مجهول ومع تساويهما في الجلي تضيع فائدته ولا بد من صيانته عن المساوي في الخفاء كتعريف الزرافة بحيوان يشبه جلده جلد النمر لمن لا يعرف النمر إذ لا يفيد تصور المحدود
وقوله وأن يكون ما به قد عرفا أي يصان الحد عن أن يكون بما يتوقف معرفته على معرفة المحدود للزوم الدور سواء كان بمرتبة أو أكثر كما يفيده قوله ... برتبة تكون أو مراتب ...
أي يكون التوقف بمرتبة مثل تعريف الكيفية بما يقع به المشابهة ثم يقال والمشابهة اتفاق الكيف أو يكون بمرتبتين كتعريف الاثنين بأول عدد ينقسم بمتساويين ثم تعريف المتساويين بالشيئين الغير المتفاضلين ثم تعريف الشيئين بالاثنين أو بثلاث مراتب كتعريف الاثنين بالزوج الأول وتعريف الزوج الأول بالمنقسم بالمتساويين إلى آخر ما تقدم وإنما لم يصح هذا التعريف التوقفي لما عرفت من أنها لا بد أن تكون معرفة الحد متقدمة على معرفة المحدود ولو بوجه عام وتوقف معرفة أحدهما على الآخر ينافي ذلك ... ومن غريب اللفظ للمخاطب ...
أي ولا بد من صيانته عن إيراده بلفظ غريب للمخاطب أي لأجل إفادته المخاطب نحو النار جوهر يشبه النفس ونحو ذلك مما لا يكون معروفا عند المخاطب إلا مثل المجاز المشهور فشهرته تخرجه عن الغرابة
هذا وقد أشير إلى أنه يجري الترجيح في الحدود فأبانه بقوله ... وقد جرى الترجيح في الحدود ... سمعية تفضي إلى المقصود ...
أي أنه كما يقع الترجيح بين الأدلة يقع بين الحدود وقيدها بالسمعية لأن العقلية لا بحث للأصولي عنها ومعنى أنها سمعية أنها وضعت لتصوير ما استفيد من الأدلة الشرعية كقولهم الصلاة عبادة ذات أذكار
وأركان تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ونحو ذلك مما يحده الفقهاء في أنواع العبادات والمعاملات والظاهر أنهم يريدون بأنه يجري بينها الترجيح أن ما كان أكثر جمعا ومنعا فهو أولى من القاصر عنهما ونحو ذلك
وقد بحثنا في شرحنا سبل السلام في كتاب الحدود عن المراد بحدود الله تعالى فمن مرجحات الحدود السمعية ما أفاده قوله ... بما أتى فيه بلفظ أعرفا ... أو كونه الأعرف مما عرفا ...
أي يرجح الحد الذي ألفاظه أعرف وأظهر على الحد الذي ليس كذلك ومثاله أن نقول الحنابلة حدوث صفة شرعية في الإنسان عند خروج المني أو عند سببه تمنع من القراءة والآخر الجنابة خروج المني على وجه الشهوة فالأول يقتضي أن الجنابة غير خروج المني والثاني يقتضي أنها نفس خروجه فيكون الأول أرجح لكونه أصرح ولما في الثاني من التجوز وهذا مثال وهو مناقش فيه
وقوله أو كونه الأعرف مما عرفا أي يرجح أحدهما بكونه أعرف وأظهر من الحد الآخر وذلك بأن يكون أحدهما شرعيا والآخر حسيا مثل أن يقال التيمم هو التطهر بالتراب مع قول الآخر هو مسح الوجه واليدين بالتراب فالأول حكم شرعي والثاني حسي فيكون أرجح لكونه أظهر ونحو ذلك من الأمثلة ... أو عم أو سمعا غدا موافقا ... أو لغة في نقله قد طابقا ...
أي يرجح الحد الأعم على الآخر الأخص لكثرة الفائدة فيه ومثاله الخمر مائع يقذف بالزبد فهو أرجح من قول الآخر هو العصير من ماء العنب لشموله لأنواع الخمر من التمر والشعير وغيرهما أو وافق السمع فإنه أرجح مما لا يوافقه كأن يقال الخمر ما أسكر مع قول الآخر هو العصير من العنب فإن الأول موافق الدليل السمعي وهو كل مسكر حرام أو وافق لغة كالمثال المذكور فإنه مأخوذ عن مخامرة العقل فيعم كل مسكر
أو ما يعمل أهل طيبة ... أو خلفا سيد البرية ... أو علماء أمة الرسول ... أو بعضهم فاخصصه بالقبول ...
هذا من الترجيح بالأمور الخارجية والمراد من قوله أو علماء أمة الرسول إلا كثير منهم إذ لو كان المراد الإجماع تعين عدم مخالفته
وقوله أو بعضهم أي الأقل منهم فإنه أرجح مما انفرد به واحد ... أو قرر الحظر أو النفي وما ... يدفع حدا فهو عند العلما ... مقدم إلى سوى ما ذكرا ... مما يراه الذكا معتبرا ... بذهنه وفكره السليم ... ولطف رب العزة العليم ...
أي أنه يرجح أحد الحدين بأن يكون مقررا للحظر دون الآخر أو مقررا للنفي والآخر للإثبات وأمثلتها معروفة
وقوله بذهنه وفكره السليم يتعلق بقوله معتبرا وهذه إشارة إلى كثرة طرق الترجيح في الحدود السمعية كما في الادلة السمعية وقد ذكرت في مطولات الفن ما ذكر وكثير من المرجحات لم تذكر في الكتب الأصولية وهو يعرف من تتبع الموارد الشرعية فمدار الترجيح على ما يقوى للناظر وهو يختلف باختلاف صفاء الذهن وقوة الذكاء والفكر السليم ولذا قيل إنها لا تنحصر طرق الترجيح ... فمنه عز كل لطف يسأل ... ثم عليه لا سوى المعول ...
تقدم منه وعليه يفيد الحصر وهو كذلك وهل من غيره يطلب كل مطلوب او على سواه يعول في كل أمر مرغوب ... نسأله الكافل من هباته ... بغاية تبلغنا جناته ...
لا يخفى لطف الجمع بين الكافل والغاية مع التورية ومناسبة حسن الختام ... ثم صلاة الله والسلام ... على الذي طاب به الختام
ختام كل الأنبياء والرسل ... وهو ختام كل قول أمل ... محمد وآله الأطهار ... مدى اختلاف الليل والنهار ...
اردف الدعاء بالصلاة على المصطفى وآله الأتقياء لما تقرر من مشروعية ذكره صلى الله عليه و سلم عند ذكر ربه والحث على ختم الدعاء بها والترغيب فيها على الإطلاق ولا يخفى حسن الختام في المقام ولطف قوله على الذي طاب به الختام نسأل الله أن يختم لنا برضاه ويوزعنا شكر ما أولاه ونسأله المزيد من نعماه والحمد لله أولا وآخرا
قال في المنقولة منه وهي نسخة المؤلف وجرى عليها قلمه بالتصحيح ما لفظه قال المؤلف حفظه الله وأبقاه وأدام في درج المعالي ارتقاه وافق تمام هذا المختصر بعد العصر من يوم الثلاثاء 19 شهر جمادى الأولى من سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف 1173 ووافق الفراغ من زبره بعناية مؤلفه مولانا الذي حاز قصب السبق في مضمار الكلام وغريبه وجاز طرف البلاغة في مضمار الكلام ومعرضه من بحر علمه نمير وروض أدبه نضير السيد العلامة الخطير والكامل الفهامة الشهير عز الإسلام محمد بن إسماعيل الأمير لا زالت ذاته العلية متسمة بأشراف سمات المعالي ولا برحت في الأيام مبتسمة له ابتسام الصدق عن اللآلي ولا فتئت أندية المعارف بفتيت عوارفه مغمورة وما انفكت ذيول الآداب بوجوده على طلبها مصحوبة مجرورة ولا برحت رؤوس ذو النصب بارتفاع كلمته محفوظة مقصورة آمين اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه يوم الاثنين 14 شهر جمادى الآخرة سنة 1180 هجرية انتهى
ووقع الفراغ من تحصيل هذه النسخة قبيل المغرب يوم الجمعة حادي وعشرين شهر شعبان المنتظم في سلك سنة 1326 هجرية بقلم الحقير المفتقر إلى كرم سبحانه أحمد بن أحمد بن يحيى بن أحمد الحيمي السياغي غفر الله ذنوبهم وستر عيوبهم وجميع المؤمنين والمؤمنات ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق