
ج5 وج6. الكتاب : أصول السرخسي
المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى
حرمة الاجتماع بين المتلاعنين، وبعد التعليل تكون حرمة الاجتماع بين غير المتلاعنين.
فإن قيل: فقد فعلتم ما أنكرتموه في فصول، منها أن حكم نص الربا المساواة بين القليل والكثير قبل التعليل، ثم بعد التعليل خصصتم القليل من الحنطة فلم يبق حكم النص بعد التعليل بالكيل في المنصوص على ما كان قبله.
وكذلك الشاة بصورتها ومعناها صار مستحقا للفقير بالنص، ثم بالتعليل بالمالية أبطلتم حقه عن الصورة فلم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله، وجوزتم هذا التعليل لابطال حق المستحق مع أنه لا يجوز استعمال القياس في إبطال حق المستحق عن الصورة أو المعنى كما في سائر
حقوق العباد.
وقد ثبت بالنص حق الاصناف في الصدقات لوجود الاضافة إليهم بلام التمليك، ثم بالتعليل بالحاجة غيرتم هذا الحكم في المنصوص وجوزتم الصرف إلى صنف واحد.
وثبت بالنص وجوب التكفير بإطعام عشرة مساكين، ثم بالتعليل غيرتم هذا الحكم في المنصوص فجوزتم الصرف إلى مسكين واحد في عشرة أيام.
وبالنص ثبت لزوم التكبير عند الشروع في الصلاة، ثم بالتعليل بالثناء وذكر الله على سبيل التعظيم غيرتم هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم افتتاح الصلاة بغير لفظ التكبير.
وبالنص ثبت وجوب استعمال الماء لتطهير الثوب عن النجاسة، ثم غيرتم بالتعليل بكونه مزيلا للعين والاثر هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم تطهير الثوب النجس باستعمال سائر المائعات سوى الماء.
قلنا: أما الاول فهو دعوى من غير تأمل، وإنا ما خصصنا القليل من البر إلا بالنص، فإن النص قوله عليه السلام: لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء والاصل في الاستثناء من النفي أن المستثنى منه في معنى المستثني، وعلى هذا بنى علماؤنا مسائل: في الجامع: إذا قال إن كان في هذه الدار إلا رجل فعبده حر، فإذا في الدار سوى الرجل دابة أو ثوب لم يحنث، وإن كان فيها سوى الرجل امرأة أو صبي حنث.
ولو كان قال إلا حمارا فإذا فيها حيوان آخر سوى الحمار يحنث، وإن كان فيها ثوب سوى الحمار لم
يحنث، وإن كان قال إلا ثوب فأي شئ يكون في الدار سوى الثوب مما هو مقصود بالامساك في الدور يحنث، فعرفنا أن المستثنى منه في معنى المستثنى، والمستثنى هنا حال التساوي في الكيل، واستثناء الحال من العين لا يكون، فعرفنا بدلالة النص أن المستثنى من عموم الاحوال
حال التساوي وحال المجازفة وحالة التفاضل، وهذا لا يتحقق إلا في الكثير، وإلا فيما يكون مقدرا شرعا، فعرفنا أن اختصاص القليل كان بدلالة النص وأنه كان مصاحبا للتعليل لا أن يكون ثابتا بالتعليل.
وأما الزكاة فنحن لا نبطل بالتعليل شيئا من الحق المستحق لانه تبين خطأ من يقول بأن الزكاة حق الفقراء مستحقة لهم شرعا، بل الزكاة محض حق الله تعالى، فإنها عبادة محضة وهي من أركان الدين، وهذا الوصف لا يليق بما هو حق العبد، ومعنى العبادة فيها أن المؤدي يجعل ذلك القدر من ماله خالصا لله تعالى حتى يكون مطهرا لنفسه وماله، ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى، فإنه وعد الرزق لعباده وهو لا يخلف الميعاد، ومعلوم أن حاجات العباد تختلف، فالامر بإنجاز المواعيد لهم من مال مسمى يتضمن الاذن في الاستبدال ضرورة ليكون المصروف إلى كل واحد منهم عين الموعود له، بمنزلة السلطان يجيز أولياءه بجوائز مختلفة يكتبها لهم ثم يأمر واحدا بإيفاء ذلك كله من مال يسميه بعينه، فإنه يكون ذلك إذنا له في الاستبدال ضرورة والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص، فعرفنا أن ذلك كان ثابتا بالنص ولكنه كان مجامعا للتعليل، ثم التعليل بحكم شرعي لا بحق مستحق لاحد، فإن المؤدى بعد ما صار لله تعالى بابتداء يد الفقير يكون كفاية له من الله باستدامة اليد فيه، وثبت بهذا النص كونه محلا صالحا لكفاية الفقير، وصلاحية المحل وعدم صلاحيته حكم شرعي كالخمر لا يكون محلا صالحا للبيع والخل يكون محلا صالحا له، وهذه الصلاحية تثبت بالامر بالصرف إلى الفقير، لان باعتبار كونه مطهرا يصير من جملة الاوساخ، وإليه أشار عليه السلام في قوله: يا معشر
بني هاشم إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس، وعوضكم منها خمس
الخمس فتبين أنه بمنزلة الماء المستعمل، ولهذا كان الحكم في شريعة من قبلنا أن الصدقات المقبولة والقرابين كانت تأكلها النار ولا يجوز الانتفاع بها، وفي شريعتنا لا يحل شئ منها للغني ويحل للفقير لحاجته، بمنزلة حل الميتة عند الضرورة، فعرفنا أن حكم النص صلاحية المحل للصرف إلى كفاية الفقير، وبعد التعليل تبقى هذه الصلاحية كما كانت قبلها ويتعدى حكم الصلاحية إلى سائر المحال كما هو حكم التعليل في القياس الشرعي، وبهذا يتبين أن اللام في قوله: للفقراء لام العاقبة، أي تصير لهم باعتبار العاقبة، ولكن بعد تمام أداء الصدقات يجعل المال لله بابتداء التسليم إلى الفقراء، أو يكون المراد بيان المصرف الذي يكون المال بقبضهم لله تعالى خالصا هو، لا بمنزلة الكعبة فإن الاركان باعتبار التوجه إليها تصير صلاة لا أن تكون الصلاة حقا للكعبة، ثم كل صنف من هذه الاصناف جزء من المصارف بمنزلة جزء من الكعبة، واستقبال جزء منها كاستقبال جميعها في حكم الصلاة وهو ثابت بالنص لا بالتعليل، فكذلك الصرف إلى صنف لما فيه من سد خلة المحتاج بمنزلة الصرف إلى الاصناف لا بطريق التعليل.
وحكم الاطعام كذلك، فإن حكم النص أن المساكين العشرة محل لصرف طعام الكفارة إليهم، وهذا الحكم باق في المنصوص بعد التعليل كما قبله، ولكن ثبت بدلالة النص للتنصيص على صفة المسكنة في المصروف إليه أن المطلوب سد الخلة، وعلم يقينا تجدد الحاجة للمسكين بتجدد الايام فصار بدلالة النص ما يقع به التكفير سد عشر خلات وهو ثابت بالصرف إلى مسكين واحد في عشرة أيام كما يثبت بالصرف إلى عشرة مساكين.
وأما التكبير فلا نقول حكم النص وجوب التكبير بعينه عند الشروع في الصلاة، ولكن الواجب التعظيم باللسان، لان اللسان من الاعضاء الظاهرة من وجه، والصلاة
تعظيم الله تعالى بجميع الاعضاء، فتعلق بكل عضو ما يليق به من التعظيم، ثم التعظيم
باللسان يكون بالثناء والذكر، فكان ذكر الله على سبيل التعظيم لتحقيق أداء الفعل المتعلق باللسان، ولا عمل لذلك الفعل في تعيين التكبير، بل التكبير آلة صالحة لذلك، وقد بقيت بعد هذا التعليل آلة صالحة لاقامة هذا الفعل بها كما قبل التعليل.
وكذلك غسل النجاسة بالمائعات فالمستحق ليس هو الغسل بعينه بل إزالة النجاسة عن الثوب حتى لا يكون مستعملا لها عند لبسه، ألا ترى أنه لو قطع موضع النجاسة بالمقراض أو ألقى ذلك الثوب أصلا لم يلزمه الغسل، ثم الماء آلة صالحة لازالة النجاسة باستعماله، وبعد التعليل يبقى كذلك آلة صالحة لازالة النجاسة لاستعماله، وحكم الغسل طهارة المحل باعتبار أنه لم يبق فيه عين النجاسة ولا أثرها، فكل مائع ينعصر بالعصر فهو يعمل عمل الماء في المحل، ثم طهارة المحل في الاصل وانعدام ثبوت صفة النجاسة في المزيل بابتداء ملاقاة النجاسة إلى أن يزايل الثوب بالعصر حكم شرعي ثبت بالنص، وبالتعليل تعدى هذا الحكم إلى الفروع وبقي في الاصل على ما كان قبل التعليل.
ولا يدخل على هذا التطهير من الحدث بسائر المائعات سوى الماء، لان عمل الماء في إزالة عين عن المحل الذي يلاقيه، أو في إثبات صفة الطهارة للمحل بواسطة الازالة، وليس في أعضاء المحدث عين تزول باستعمال الماء، فإن أعضاءه طاهرة، وإنما فيها مانع حكمي من أداء الصلاة غير معقول المعنى، وقد ثبت بالنص رفع ذلك المانع بالماء وهو غير معقول المعنى، وقد بينا أن مثل هذا الحكم لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر.
ولا يدخل على هذا الجواب تصحيح الوضوء بغير النية كغسل النجاسة، لان الذي لا يعقل المعنى فيه ما هو مزال عن المحل عند استعمال الماء،
فأما الماء في كونه مزيلا إذا استعمل في المحل معقول المعنى فلا حاجة إلى اشتراط النية لحصول الازالة به كما في غسل النجاسات، فعلم أن هذه الحدود إنما يقف المرء عليها عند التأمل عن إنصاف.
وأما بيان القسم الخامس ففيما قاله علماؤنا: إنه لا يجوز قياس السباع سوى
الخمس المؤذيات على الخمس بطريق التعليل في إباحة قتلها للمحرم وفي الحرم، لان في النص قال عليه الصلاة والسلام: خمس يقتلن في الحل والحرم وإذا تعدى الحكم إلى محل آخر يكون أكثر من خمس فكان في هذا التعليل إبطال لفظ من ألفاظ النص، بخلاف حكم الربا فإن النبي عليه السلام لم يقل الربا في ستة أشياء، ولكن ذكر حكم الربا في أشياء فلا يكون في تعليل ذلك النص إبطال شئ من ألفاظ النص.
ومن هذا النوع تعليل الشافعي حكم الربا في الاشياء الاربعة بالطعم فإن في النص قال عليه الصلاة والسلام: والفضل ربا: أي الفضل حرام يفسد به العقد لانه ربا، والتعليل بالطعم يبطل كون الفضل ربا، لانه يقول بعلة الطعم فساد البيع في هذه الاموال أصل إلى أن يوجد المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي، فيكون هذا إبطالا لبعض ألفاظ النص.
ومن ذلك تعليله لرد شهادة القاذف للفسق الثابت بالقذف، فإنه إبطال لبعض ألفاظ النص وهو قوله تعالى: (أبدا) فإن رد الشهادة باعتبار الفسق لا يتأبد، فكيف يتأبد وسببه وهو الفسق بعرض أن ينعدم بالتوبة، فكان هذا تعليلا باطلا لتضمنه إبطال لفظ من ألفاظ النص.
ومن جملة ما لا يكون استعمال القياس فيه طريقا لمعرفة الحكم، النذر بصوم يوم النحر، وأداء الظهر يوم الجمعة في المصر بغير عذر قبل أداء الناس
الجمعة، وفساد العقد لسبب الربا، فإن الكلام في هذه الفصول في موجب النهي وأن عمله بأي قدر يكون، والنهي أحد أقسام الكلام كالامر، فيكون طريق معرفته موجبة عند الاطلاق التأمل في معاني كلام أهل اللسان دون القياس الشرعي.
ومن ذلك الكلام في الملك الثابت للزوج على المرأة بالنكاح أنه في حكم ملك العين أو في حكم ملك المنفعة، فإنه لا مدخل للقياس الشرعي فيه، لان بعد النكاح نفسها وأعضاؤها ومنافعها مملوكة لها فيما سوى المستوفى منها بالوطئ على ما كان قبل النكاح، فإثبات ملك عليها بدون تمكن الاشارة
إلى شئ من عينها أنه مملوك عليها يكون حكما ثابتا بخلاف القياس، وقد بينا أن مثل هذا لا يقبل التعليل وأنه ملك ضروري ظهر شرعا لتحقق الحاجة إلى تحصيل السكن والنسل بمنزلة حل الميتة عند الضرورة فلا يقبل التعليل، ولان التعليل إنما يجوز بشرط أن يكون الفرع نظير الاصل في الحكم الذي يقع التعليل له، ولا نظير لملك النكاح من سائر أنواع الملك، لان سائر أنواع الملك يثبت في محل مخلوق ليكون مملوكا للآدمي، وهذا الملك في الاصل يثبت على حرة هي مخلوقة لتكون مالكة، وأي مباينة فوق المالكية والمملوكية، فإذا ثبت أنه لا نظير لهذا الملك من سائر الاملاك ثبت أنه لا يمكن المصير إلى التعليل فيه لمعرفة صفته.
ومن ذلك الكلام في موجب الالفاظ حتى يصير في الرهن أنه يد الاستيفاء حقا للمرتهن، بمنزلة اليد التي تثبت في المحل بحقيقة الاستيفاء، أم حق البيع في الدين، ثم اليد شرط لتتميم السبب كما في الهبة اليد شرط لتتميم السبب، والحكم ثبوت الملك في المحل بطريق العلة، فهذا مما لا يمكن إثباته (في القياس)
بالقياس الشرعي، لان أحكام العقود مختلفة شرعا ووضعا، وباعتبار الاختلاف يعلم أنه ليس بعضها نظيرا للبعض، ومن شرط صحة التعليل أن يكون الفرع نظيرا للاصل، بل طريق معرفة حكم الرهن التأمل فيما لاجله وضع هذا العقد وشرع، فنقول: إنه مشروع ليكون وثيقة لجانب الاستيفاء لا مؤكدا للوجوب، ألا ترى أنه يختص بالمال الذي هو محل للاستيفاء فأما محل الوجوب فالذمة، وإذا كان وثيقة لجانب الاستيفاء علم أن موجبه من جنس ما يثبت بحقيقة الاستيفاء، والثابت بحقيقة الاستيفاء ملك العين وملك اليد، ثم بالرهن لا يثبت ملك العين.
فعرفنا أن موجبه ملك يد الاستيفاء بمنزلة الكفالة فإنها وثيقة لجانب الوجوب ولهذا اختصت بالذمة، ثم كان موجبها من جنس ما يثبت بحقيقة الوجوب وهو ملك المطالبة، لان الثابت بالحقيقة ملك أصل الدين في ذمة من يجب عليه وثبوت حق المطالبة بالاداء، فالثابت بالوثيقة التي هي لجانب الوجوب من جنسه وهو حق المطالبة
حتى يملك مطالبة الكفيل بالدين مع بقاء أصله في ذمة المديون.
ومن ذلك الكلام في المعتدة بعد البينونة أنه هل يقع عليها الطلاق ؟ فإن تعليل الخصم بأنه ليس له عليها ملك متعة ولا رجعة لا يلحقها طلاقه كمنقضية العدة تعليل باطل، لان الخلاف في أن العدة التي هي حق من حقوق النكاح هل تكون بمنزلة أصل النكاح في بقائها محلا لوقوع الطلاق عليها باعتباره أم لا ؟ وفي منقضية (العدة) لا عدة، ففي أي وجه يستقيم هذا التعليل ليثبت به هذا الحكم للخصم ؟ وكذلك هذا التعليل في نكاح الاخت في عدة الاخت بعد البينونة من الخصم باطل، لان الكلام في أن العدة التي هي حق النكاح هل تقوم مقام النكاح في بقاء المنع الثابت بسبب النكاح أم لا ؟ وفي منقضية العدة لا عدة، وهذا لان النافي ينكر أن يكون الحكم مشروعا وما ليس
بمشروع كيف يمكن إثباته بالقياس الشرعي.
ومن هذا النوع تعليله في إسلام المروي في المروي، لان العقد جمع بدلين لا يجري فيهما ربا الفضل فكان بمنزلة الهروي مع المروي، لان الكلام في أن الجنس هل هو علة لتحريم النساء، وفي الهروي مع المروي لا جنس، وبهذا تبين أن حجة المدعي المثبت غير حجة المنكر النافي.
ومن هذا النوع الكلام فيما إذا قال لامرأته أنت طالق تطليقة بائنة أن الرجعة تنقطع بهذا اللفظ أم لا ؟ فإن تعليل الخصم بأنه ما اعتاض عن طلاقها يكون تعليلا باطلا، لان الكلام في أن صفة البينونة هل هي مملوكة للزوج بالنكاح كأصل الطلاق أم لا ؟ فالخصم ينكر كون ذلك مملوكا له، ونحن نقول إن ذلك مملوك له وإنما لم يثبت بصريح لفظ الطلاق لا لانه غير مملوك له بل لانه ساكت عن هذه الصفة، فإن وصفها بالطلاق يجامع النكاح ابتداء وبقاء، فإنما طريق معرفة هذا الحكم التأمل في موضوع هذا الملك وفيما صار له أصل الطلاق مملوكا له، فإذا ثبت باعتباره أن الوصف مملوك له كان التصريح به بذلك الوصف عملا، وعند عدم التصريح به لا يثبت لان سببه لم يوجد، كما لا يثبت أصل الطلاق إذا لم يوجد منه التكلم بلفظ الطلاق أو بلفظ آخر قائما مقامه.
ومن هذا النوع تعليل الخصم في عقد الاجارة أنها توجب ملك البدل في الحال بالقياس على عقد البيع، فإن شرط صحة القياس أن يكون الاصل والفرع نظيرين، وفي باب البيع ما هو المعقود عليه قائم مملوك في الحال، وفي الاجارة ما هو المعقود عليه معدوم غير مملوك عند العقد، فعلم أنهما متغايران، وإذا لم يكن أحدهما نظيرا للآخر في الحكم الذي وقع التعليل لاجله لا يستقيم تعدية الحكم من أحدهما إلى الآخر بالقياس الشرعي.
ومن نوع ما بدأنا به هذا الفصل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للاعرابي في حديث كفارة الفطر كلها أنت وعيالك فإن من الناس من اشتغل بتعليل ذلك لتعدية الحكم إلى غير الاعرابي فيتطرق به (إلى) القول بانتساخ حكم الكفارة وذلك لا يجوز عندنا، لان النبي عليه السلام خص الاعرابي بصحة التكفير منه بالصرف إلى نفسه وعياله، وكان ذلك بطريق الاكرام له، وقد بينا أن مثل هذا لا يقبل التعليل، والله تعال أعلم.
فصل: في الركن ركن القياس هو الوصف الذي جعل علما على حكم العين مع النص من بين الاوصاف التي يشتمل عليها اسم النص، ويكون الفرع به نظيرا للاصل في الحكم الثابت باعتباره في الفرع، لان ركن الشئ ما يقوم به ذلك الشئ وإنما يقوم القياس بهذا الوصف.
ثم هذا الوصف قد يكون لازما للاصل وذلك نحو إيجاب الزكاة عندنا في الحلي باعتبار صفة الثمنية في الاصل، وعند الخصم إثبات حكم الربا في الذهب والفضة بعلة الثمنية والثمنية صفة لازمة لهذين الجوهرين، فإنهما خلقا جوهري الاثمان لا يفارقهما هذا الوصف بحال، وقد يكون عارضا أو اسما نحو قوله عليه السلام للمستحاضة في بيان علة نقض الطهارة: إنه دم عرق انفجر والدم اسم علم والانفجار صفة عارضة.
مثاله تعليل علمائنا نص
الربا بالكيل والوزن فإن ذلك وصف عارض يختلف باختلاف عادات الناس في الاماكن والاوقات، وقد يكون حكما نحو قول رسول الله عليه السلام للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته الحديث، فإن الدين عبارة عن الوجوب في الذمة، وذلك حكم قد بين لها حكما بالاستدلال بحكم آخر، وذلك دليل جواز التعليل بالحكم، وقد يكون هذا الوصف فردا
وقد يكون مثنى، وقد يكون عددا.
فالفرد نحو تعليل ربا النساء بوصف واحد وهو الجنس أو الكيل أو الوزن عند اتحاد المعنى، والمثنى نحو علة (حرمة) التفاضل، فإنه القدر مع الجنس، والعدد نحو تعليلنا في نجاسة سؤر السباع بأنه حيوان محرم الاكل لا للكرامة ولا بلوى في سؤره، وإنما يكون العدد من الاوصاف علة إذا كانت لا تعمل حتى ينضم بعضها إلى بعض، فإن كل وصف يعمل في الحكم بانفراده فإنه لا يكون التعليل بالاوصاف كلها، وقد يكون ذلك الوصف في النص، وقد يكون في غيره.
أما ما يكون في النص فغير مشكل، فإنه إنما يعلل النص والتعليل بوصف فيه يكون صحيحا لا محالة.
وأما ما يكون في غيره فنحو ما روي أن النبي عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم، فإن هذه الرخصة معلولة بإعدام العاقد وذلك ليس في النص، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الآبق وعن بيع الغرر، وهو معلول يعجز البائع عن تسليم المبيع أو جهالة في المبيع في نفسه على وجه يفضي إلى المنازعة وهذا ليس في النص، قال عليه السلام: لا تنكح الامة على الحرة ثم علل الشافعي هذه الحرمة بإرقاق الحر جزءا منه وهو الولد مع غنيته عنه وهذا ليس في النص، ولكن ذكر البيع يقتضي بائعا، وذكر السلم يقتضي عاقدا، وذكر النكاح يقتضي ناكحا، وما يثبت بمقتضى النص فهو كالمنصوص.
وكذلك عللنا نحن نهي رسول الله عليه السلام عن صوم يوم النحر بعلة رد الضيافة التي للناس في هذا اليوم من الله تعالى بالقرابين وذلك ليس في النص.
وكل نهي جاء لا لمعنى في عين المنهي عنه فهو من هذا النوع.
ومن التعليل بالحكم ما يقوله علماؤنا في بيع المدبر (إنه تعلق عتقه بمطلق الموت فإن التعلق حكم ثابت بالتعليق فيكون ذلك استدلالا) بحكم على حكم،
وإنما جاز هذا كله لان الدليل الذي يثبت به كون الوصف حجة في الحكم قد ثبت بالدليل أنه علة الحكم شرعا.
ثم لا خلاف أن جميع الاوصاف التي يشتمل عليها اسم النص لا تكون علة، لان جميع الاوصاف لا توجد إلا في المنصوص والحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة، ولا خلاف أن كل وصف من أوصاف المنصوص لا يكون علة للحكم بل العلة للحكم بعضها، فإن الحنطة تشتمل على أوصاف فإنها مكيلة موزونة مطعومة مقتات مدخر حب شئ جسم، ولا يقول أحد إن كل وصف من هذه الاوصاف علة لحكم الربا فيها بل العلة أحد هذه الاوصاف.
واتفقوا أنه لا يتخير المعلل حتى يجعل أي هذه الاوصاف شاغلة من غير دليل، لان دعواه لوصف من بين الاوصاف أنه علة بمنزلة دعواه الحكم أنه كذا، فكما لا يسمع منه دعوى الحكم إلا بدليل فكذلك لا تسمع منه الدعوى في وصف أنه هو العلة إلا بدليل.
ثم اختلف العلماء في الدليل الذي به يكون الوصف علة للحكم.
قال أهل الطرد: هو الاطراد فقط من غير أن يعتبر فيه معنى معقول.
وتفسير الاطراد عند بعضهم: وجود الحكم عند وجود ذلك الوصف.
وعند بعضهم يشترط أن يوجد الحكم عند وجوده وينعدم عند عدمه، وأن يكون المنصوص عليه قائما في الحالين ولا حكم له.
وعند بعضهم يعتبر الدوران وجودا وعدما.
فأما قيام الحكم في المنصوص (عليه في الحالين) ولا حكم له فهو مفسد للقياس لا أن يكون مصححا له.
وقال جمهور الفقهاء: انعدام الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل صحة العلة ووجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل
فساد العلة، ولكن دليل صحة العلة أن يكون الوصف صالحا للحكم ثم يكون
معدلا بمنزلة الشاهد، فإنه لا بد من أن يكون صالحا للشهادة لوجود ما به يعتبر أهلا للشهادة فيه، ثم يكون معدلا بظهور عدالته عند التعديل، ثم يأتي بلفظ الشهادة من بين سائر الالفاظ حتى تصير شهادته موجبة العمل بها.
ثم لا خلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله أن صفة الصلاحية للعلة بالملاءمة، ومعناها أن تكون موافقة العلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة غير نائية عن طريقهم في التعليل، لان الكلام في العلة الشرعية، والمقصود إثبات حكم الشرع بها، فلا تكون صالحة إلا أن تكون موافقة لما نقل عن الذين بنيانهم عرف أحكام الشرع.
ثم الخلاف وراء ذلك في العدالة فقال علماؤنا: عدالة العلة تعرف بأثرها، ومتى كانت مؤثرة في الحكم المعلل فهي علة عادلة، وإن كان يجوز العمل بها قبل ظهور التأثير، ولكن إنما يجب العمل بها إذا علم تأثيرها ولا يجوز العمل بها عند عدم الصلاحية بالملاءمة، بمنزلة الشهادة فإن الشاهد قبل أن تثبت الصلاحية للشهادة فيه لا يجوز العمل بشهادته، وبعد ظهور الصلاحية قبل العلم بالعدالة كالمستور لا يجب العمل بشهادته، ولكن يجوز العمل حتى إن قضى القاضي بشهادة المستور قبل أن تظهر عدالته يكون نافذا.
وقال بعض أصحاب الشافعي: عدالة الوصف بكونه مخيلا، أي موقعا في القلب خيال الصحة للعلة ثم العرض على الاصول بعد ذلك احتياط.
وقال بعضهم: بل العدالة بالعرض على الاصول، فإذا لم يعارضه أصل من الاصول لا ناقضا ولا معارضا فحينئذ يصير معدلا وأدنى ما يكفي لذلك أصلان، بمنزلة عدالة الشاهد، فإن معرفة ذلك بعرض حالهم على المزكين وأدنى ما يكفي لذلك عنده اثنان، فعلى قول هذا الفريق من أصحابه لا يجوز العمل به وإن كان مخيلا قبل العرض على الاصول، وعلى قول الفريق الاول يجوز العمل به لانه صار معدلا بكونه
مخيلا.
ثم العرض على الاصول احتياط، والنقض جرح، والمعارضة دفع.
أما أهل الطرد احتجوا بالظواهر الموجبة للعمل بالقياس، فإنها لا تخص علة دون علة، فيقتضي الظاهر جواز العمل بكل وصف والتعليل به إلا ما قام عليه دليل، وأن كل وصف يوجد الحكم عند وجوده فإنه وصف صالح لان يكون علة، وهذا لان علل الشرع أمارات للاحكام وليست على نهج العلل العقلية، وأمارة الشئ ما يكون موجودا عند وجوده، وكما يجوز إثبات أحكام الشرع بعين النص من غير أن يعقل فيه المعنى على أن يجعل اسم النص أمارة ذلك الحكم يجوز إثبات الحكم بوصف ثابت باسم النص من غير أن يعقل فيه المعنى، على أن يكون ذلك الوصف علة للحكم، فإن للشرع ولاية شرع الاحكام كيف يشاء، ففي اشتراط كون المعنى معقولا فيما هو أمارة حكم الشرع إثبات نوع حجر لا يجوز القول به أصلا.
والفريق الثاني منهم استدلوا بمثل هذا الكلام، ولكنهم قالوا: العلة ما يتغير به حكم الحال على ما نبينه في موضعه، ووجود الحكم مع وجود الوصف قد يكون اتفاقا وقد يكون لكونه علة لا تتعين جهة كونه مغيرا إلا بانعدام الحكم عند عدمه، فبه يتبين أنه لم يكن اتفاقا.
ثم الحكم الثابت بالعلة إذا كان بحيث يحتمل الرفع لا يبقى بعد انعدام العلة، كالحكم الثابت بالبيع وهو الملك لا يبقى بعد فسخ البيع ورفعه، واشتراط قيام المنصوص عليه في الحالين ولا حكم له ليعلم به أن ثبوت الحكم بوجود علته لا بصورة النص، وذلك نحو آية الوضوء، ففي النص ذكر القيام إلى الصلاة والعلة الموجبة للطهارة الحدث، فإن الحكم يدور مع الحدث وجودا وعدما، والمنصوص عليه وهو القيام إلى الصلاة قائم في الحالين ولا حكم له، وقوله
عليه السلام: لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان فيه تنصيص على الغضب، والعلة فيه شغل القلب حتى دار الحكم معه وجودا وعدما، والمنصوص عليه قائم في الحالين ولا حكم له، وقال عليه السلام: الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، ثم العلة الموجبة للحرمة والفساد الفضل على الكيل،
لان الحكم يدور معه وجودا وعدما، والمنصوص عليه وهو (الحنطة بالحنطة) قائم في الحالين ولا حكم له.
وجواب أهل الفقه عن هذه الكلمات ظاهر، فإن الظواهر الدالة على جواز العمل بالقياس بالاتفاق لا تدل على أن كل وصف من أوصاف الاصل صالح لان يكون علة، فإنه لو كان كذلك لتحير المعلل وارتفع معنى الابتلاء بطلب الحكم في الحوادث أصلا، وإذا اتفقنا على أن دلالة هذه النصوص لوصف من بين أوصاف الاصل قد ابتلينا بطلبه حين أمرنا بالاعتبار، فلا بد من أن يكون في ذلك الوصف معنى معقول يمكن التمييز به بينه وبين سائر الاوصاف ليوقف عليه، وما هذا إلا نظير النصوص المثبتة لصفة الشهادة لهذه الامة، فإن ذلك لا يمنع القول باختصاص الصلاحية ببعض الاوصاف واختصاص الاداء بلفظ الشهادة من بين سائر الالفاظ، وهذا لان أوصاف النص تعلم بالحس أو السماع وذلك يشترك فيه أهل اللغة وغيرهم ممن له حاسة صحيحة مع الفقهاء، ثم التعليل بالقياس لاثبات الحكم قد اختص به الفقهاء، فعرفنا أن اختصاصهم بذلك لم يكن إلا لمعنى معقول في الوصف الذي هو علة لا يمكن الوقوف عليه إلا بالتأمل من طريق الفقه.
وقوله علل الشرع أمارات.
قلنا: هي أمارات من حيث إنها غير موجبة بذواتها ولكنها موجبة للحكم بجعل الشرع إياها موجبة العمل بها، ومعلوم أنه لا يمكن العمل
بها إلا بعد معرفة عينها، وطريق ذلك التعيين بالنص أو الاستنباط بالرأي، وقد انعدم التعيين بالنص ولا يتأتى فيه الاستنباط بالرأي إذا لم يكن الحكم معقول المعنى، لان العقل طريق يدرك به ما يعقل كما أن الحس طريق يدرك به ما يحس دون ما لا يحس، وليس هذا نظير الاحكام الثابتة بالنص غير معقول المعنى، لان النص موجب بنفسه، فإنه كلام من يثبت علم اليقين بقوله وقد حصل التعيين بالنص هناك، فكونه غير معقول المعنى لا يعجزنا عن العمل به، فأما التعليل ببعض الاوصاف فهو غير موجب بنفسه وإنما يجب العمل به بطريق أنه إعمال الرأي ليتوصل به إلى الحجة في حكم شرعي، وما لم يكن معقول المعنى لا يتأتى إعمال الرأي فيه.
ثم الدليل على أن الدوران لا يصلح أن يكون علة أن الحكم كما يدور مع العلة وجودا وعدما يدور مع الشرط وجودا وعدما، فإن من قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر فالعتق بهذا الكلام يدور مع الدخول وجودا وعدما، وأحد لا يقول دخول الدار علة العتق بل هو فإن قيل: الاصل دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما، فأما الشرط شرط العتق عارض لا يكون إلا بعد تعليق الحكم به نصا.
قلنا: فأين ذهب قولك إن علل الشرع أمارات، فإنه لا يفهم من ذلك اللفظ إلا أن الشرع جعلها أمارة للحكم بأن علق الحكم بها، وأي فرق بين تعليق حكم العتق من المولى بدخول الدار شرطا وبين التعليق الثابت شرعا، ثم هناك دوران الحكم بمجرده لا يدل على كونه علة فهنا كذلك، ثم هب كان الاصل هو دوران الحكم مع العلة ولكن مع هذا احتمال الدوران مع الشرط قائم وبالاحتمال لا تثبت العلة.
فأما اشتراط قيام المنصوص عليه في الحالين
ولا حكم له فقد جعل ذلك بعضهم مفسدا للقياس باعتبار ما ذكرنا أن شرط صحة التعليل هو أن يبقى الحكم في المنصوص عليه بعد التعليل على ما كان قبله، فإذا جعل التعليل على وجه لا يبقى للنص حكم بعده يكون ذلك آية فساد القياس لا دليل صحته، فأما من شرط ذلك مستدلا بما ذكرنا فالجواب عن كلامه أن هذا وهم ابتلي به لقلة تأمله، لان المقصود بالتعليل تعدية حكم النص إلى محل لا نص فيه، فكيف يجوز أن لا يبقى للنص حكم بعد التعليل ؟ وإذا لم يبق له حكم فالتعدية بعد التعليل في أي شئ يكون.
فأما آية الوضوء فنحن لا نقول إن الحدث علة لوجوب الوضوء، ولكن من شرط القيام لاداء الصلاة الطهارة عن الحدث، فكان تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، ولكن سقط ذكر الحدث للايجاز والاختصار على ما هو عادة أهل اللسان في إسقاط بعض الالفاظ إيجازا إذا كان في الباقي
دليل عليه، ففي المذكور هنا دليل على المحذوف وهو قوله تعالى: (ولكن يريد ليطهركم) .
(وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقوله تعالى عند ذكر البدل: (أو جاء أحد منكم من الغائط) وقد علم أن البدل إنما يجب عند عدم الاصل بما يجب به الاصل، فظهر أنا إنما جعلنا الحدث شرطا لوجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة بدلالة النص لا بطريق التعليل والاستنباط بالرأي.
وكذلك قوله عليه السلام: لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان إنما عرفنا أن المراد النهي عن القضاء عند شغل القلب لمخافة الغلط بدليل الاجماع لا بطريق الاستنباط بالرأي، والاجماع حجة سوى الرأي، فإن التعليل بالرأي يكون بعد الاجماع بالاتفاق، وكيف يستقيم أن لا يكون للنص حكم بعد التعليل والشرع ما جعل التعليل بالرأي إلا بعد النص
وإلا لاثبات الحكم فيما لا نص فيه.
وبيان هذا في حديث معاذ حين قال له: (كيف تقضي) وحديث نص الربا هكذا، فإن المساواة في الكيل إنما عرفناه بالنص لا بالرأي وهو قوله عليه السلام في بعض الروايات مكان قوله (مثل بمثل) (كيل بكيل) أو بالاجماع، فقد اتفقوا أنه ليس المراد من قوله (مثل بمثل) إلا المماثلة في الكيل، وكذلك (في) قوله: (إلا سواء بسواء) اتفاق أن المراد المساواة في الكيل، فعرفنا أن من قال في هذه المواضع بأن الحكم دار مع العلة وجودا وعدما والمنصوص عليه قائم في الحالين ولا حكم له، فهو مخطئ غير متأمل في مورد النص ولا فيما هو طريق التعليل في الفقه.
ثم الدليل على أن انعدام الحكم عند عدم الوصف لا يكون دليل صحة العلة ما ذكرنا من الشرط، ولان ثبوت الحكم لما كان بورود الشرع به فانعدام الحكم عند انعدام العلة الموجبة شرعا يكون بالعدم الذي هو أصل فيه لا أن يكون مضافا إلى العلة حتى
يكون دليل صحة العلة.
والدليل على أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل فساد العلة اتفاق الكل على أن الحكم يجوز أن يكون ثابتا في محل بعلل، ثم بانعدام بعضها لا يمتنع بقاء الحكم بالبعض الذي هو باق، كما لا يمتنع ثبوت الحكم ابتدا بتلك العلة، وبهذا يتبين أنه لا بد من القول بأنه لا ينعدم الحكم إلا بانعدام جميع العلل التي كان الحكم ثابتا بكل واحد منها، فعرفنا أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل فسادها، وفساد القول بأن دليل صحة العلة دوران الحكم معه وجودا وعدما كالمتفق عليه، فإن القائسين اتفقوا أن علة الربا أحد أوصاف الاصل، وادعى كل واحد منهم أن الصحيح ما ذهب إليه، ومعلوم أن كل قائل
يمكنه أن يستدل على صحة علته بدوران الحكم معه وجودا وعدما.
وكذلك لو قال إن العلة في تكفير المستحل للخمر معنى الشدة والمرارة كان ذلك فاسدا بالاتفاق، فإن أحدا لا يقول بتكفير مستحل سائر الاشربة مع وجود الشدة والمرارة.
ثم هذا القائل يتمكن من تصحيح قوله بدوران الحكم معه وجودا وعدما، فإن العصير قبل أن يتخمر لا يكفر مستحله، وبعد التخمر يكفر مستحله لوجود الشدة والمرارة، ثم بعد التحلل لا يكفر مستحله لانعدام الشدة والمرارة، إلا أن يقول بتخصيصه وقد قامت الدلالة على فساد القول بتخصيص العلل الشرعية على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فيفسد به أيضا القول بتخصيص ما هو دليل صحة العلة، لان ذلك حجة شرعية ثابتة بطريق الرأي.
فإن قيل: مثل هذا يلزم القائلين بأن دليل صحة العلة الاثر، فإن الحكم يدور مع العلة المأثورة وجودا وعدما عند من لا يجوز تخصيص العلة وهو الصحيح.
قلنا: نعم ولكن لا نجعل الدوران دليل صحة العلة، وإنما نجعل كونه مؤثرا في الاصول دليل صحة العلة ولا يتحقق معنى دوران الحكم مع هذا الاثر في جميع الاصول، فأما دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما يكون اتفاقا.
فأما الذين قالوا من أصحاب الشافعي: بأن الاثر الذي هو دليل صحة
العلة أن يكون مخيلا، حجتهم أن هذا الاثر مما لا يحس بطريق الحس ولكنه يعقل فيكون طريق الوقوف عليه تحكيم القلب، حتى إذا تخايل في القلب به أثر القبول والصحة كان ذلك حجة للعمل به، بمنزلة التحري في باب القبلة عند انقطاع سائر الادلة، فإن تحكيم القلب فيه جائز ويجب
العمل بما يقع في قلب من ابتلي به من أنه جهة الكعبة، وعليه دل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد رضي الله عنه: ضع يدك على صدرك واستفت قلبك، فما حك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به فعرفنا أن العدالة تحصل بصفة الا خالة ثم العرض على الاصول بعد ذلك احتياط والعمل به قبله جائز، بمنزلة ما لو كان الشاهد معلوم العدالة عند القاضي فإن العمل بشهادته جائز له، والعرض على المزكين بعد ذلك نوع احتياط، فإن لم يعجل ورجع إلى المزكين فهو احتياط أخذ به لجواز أن يظهر له بالرجوع إليهم ما لم يكن معلوما له، قال: وهذا بخلاف شهادة الشاهد فإن بصفة الصلاحية هناك لا تثبت العدالة، لان الشاهد مبتلى بالامر والنهي، وهو أمين فيما اؤتمن من حقوق الشرع، ويتوهم منه أداء الامانة فيكون عدلا به والخيانة فلا يكون عدلا معه، وإذا لم يكن أداء الامانة منه معلوم القاضي لا يصير عدلا عنده ما لم يعرض حاله على المزكين.
فأما الوصف الذي هو علة بعدما علم صفة الصلاحية فيه تصير عدالته معلومة إذ ليس فيه توهم الخيانة، فلهذا كان العرض على الاصول هنا احتياطا، فإن سلم عما يناقضه ويعارضه بكونه مطردا في الاصول فحكم وجوب العمل به يزداد وكادة، وإن ورد عليه نقض فذلك النقض جرح، بمنزلة الشاهد الذي هو معلوم العدالة إذا ظهر فيه طعن من بعض المزكين، فإن ذلك يكون جرحا في عدالته إلا أن يتبين له أنه لم يكن عدلا، والمعارضة دفع بمنزلة شاهد آخر يشهد بخلاف ما شهد به العدل.
وأما الفريق الثاني فإنهم قالوا: كونه مخيلا أمر باطن لا يمكن إثباته
على الخصم، وما لم تثبت صفة العدالة بما يكون حجة على الخصم لا يمكن
إلزام الخصم به، وأثبتنا صفة العدالة فيه بما أثبتنا صفة الصلاحية وهو الملاءمة، فإن ذلك يكون بالعرض على العلل المنقولة عن السلف، حتى إذا علم الموافقة كان صالحا، وبعد صفة الصلاحية يحتمل أن لا يكون حجة، لان العلل الشرعية لا توجب الحكم بذواتها فلا بد من إثبات صفة العدالة فيه بالعرض على الاصول، حتى إذا كان مطردا سالما عن النقوض والمعارضات فحينئذ تثبت عدالته من قبل أن الاصول شهادة لله على أحكامه كما كان الرسول في حال حياته، فيكون العرض على الاصول وامتناع الاصول من رده بمنزلة العرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وسكوته عن الرد، وذلك دليل عدالته باعتبار أن السكوت بعد تحقق الحاجة إلى البيان لا يحل، فعرفنا أن بالعرض على الاصول تثبت العدالة، كما أن عدالة الشاهد تثبت بعرض حاله على المزكين.
والفرق الثاني الذي قالوا ليس بقوي، فإن بعد ثبوت صفة الصلاحية للشاهد إنما بقي احتمال الكذب في أدائه، وهنا بعد ثبوت صفة الصلاحية بقي الاحتمال في أصله أن الشرع جعله علة للحكم أم لا، فإنه إن ورد عليه نقض أو معارضة يتبين به أن الشرع ما جعله علة للحكم، لان المناقضة اللازمة لا تكون في الحجج الشرعية، قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وكذلك المعارضة اللازمة لا تكون في الحجج الشرعية فإذا كان هناك مع بقاء الاحتمال في الوصف لا يكون حجة للعمل به فهنا مع بقاء الاحتمال في الاصل لان لا يكون حجة كان أولى، وكما أن طريق رفع ذلك الاحتمال هناك العرض على المزكين والادنى فيه اثنان، فالطريق هنا العرض على الاصول وأدنى ذلك أصلان، إذ لا نهاية للاعلى، وفي الوقوف على ذلك حرج بين، وبهذا التقرير يتبين أن العرض على جميع الاصول ليس بشرط عنده، كما ذهب إليه بعض
شيوخنا وشيوخه، فإن من شرط ذلك لم يجد بدا من العمل بلا دليل،
لانه وإن استقصى في العرض فالخصم يقول وراء هذا أصل آخر (هو) معارض أو ناقض لما يدعيه، فلا يجد بدا من أن يقول لم يقم عندي دليل النقض والمعارضة، ومثل هذا لا يصلح حجة لالزام الخصم على ما نبينه في بابه، قالوا: والذي يحقق ما ذكرنا أن المعجزة التي أوجبت علم اليقين كان طريق ثبوتها السلامة عن النقوض والمعارضات، كما قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فبهذا يتبين أن طريق إثبات الحجة لما لا نحس هذا.
وأما علماؤنا إنهم يقولون: حاجتنا إلى إثبات دليل الحجة فيما لا يحس ولا يعاين، وطريق ذلك أثره الذي ظهر في موضع من المواضع، ألا ترى أن الطريق في معرفة عدالة الشاهد هذا، وهو أن ينظر إلى أثر دينه في منعه عن ارتكاب ما يعتقد فيه الحرمة، فإذا ظهر أثر ذلك في سائر المواضع يترجح جانب الصدق في شهادته بطريق الاستدلال بالاثر، وهو أن الظاهر أنه ينزجر عن شهادة الزور لاعتقاده الحرمة فيه.
وكذلك الدلالة على إثبات الصانع تكون بآثار صنعته بطريق الوصف والبيان على وجه مجمع عليه، كما نبينه في موضعه.
وكذلك في المحسوسات كالجرح ونحو ذلك، فإنه يستدل عليه بأثره حسا، والاستدلال بالمحسوس لغير المحسوس يكون بالاثر أيضا، فتبين أن ما به يصير الوصف حجة بعد الصلاحية بالملاءمة على ما قرره الخصم وهو ظهور أثره في الاصول، فأما الا خالة فهو عبارة عن مجرد الظن إذ الخيال والظن واحد، والظن لا يغني من الحق شيئا.
وأحسن العبارات فيه أن يجعل
بمنزلة الالهام وهو لا يصلح للالزام على الغير، على ما نبينه، ثم هذا شئ في الباطن لا يطلع عليه غير صاحبه ومثله لا يكون حجة على الغير، كالتحري الذي استشهد به، فإن ما يؤدي إليه تحري الواحد لا يكون حجة على أصحابه، حتى لا يلزمهم اتباعه في تلك الجهة، وكلامنا فيما يكون حجة
لالزام الغير العمل به، ثم كل خصم يتمكن من أن يقول يخايل في قلبي أثر القبول والصحة للوصف الذي دعاه، بل للحكم الذي هو المقصود، وصفة التعارض لا يجوز أن يكون لازما في الحجج الشرعية كصفة المناقضة.
وكذلك الاطراد لا يستقيم أن يجعل دليل كونه حجة، لانه عبارة عن عموم شهادة هذا الوصف في الاصول فيكون نظير كثرة أداء الشهادة من الشاهدين في الحوادث عند القاضي، أو تكرار الاداء منه في حادثة واحدة وذلك لا يكون موجبا عدالته.
قوله بأن الاصول مزكون كالرسول، قلنا: لا كذلك، بل كل أصل شاهد، فالاصول كجماعة الشهود أو عدد الرواة للخبر، ودليل صحة الخبر وكونه حجة إنما يطلب من متن الحديث، فالاثر للوصف بمنزلة دليل الصحة من متن الخبر، والاطراد في الاصول بمنزلة كثرة الرواة، فكيف يستقيم أن يجعل الاصول مزكين ولا معرفة لهم بهذا الوصف وحاله، وأنى تكون التزكية ممن لا خبرة له ولا معرفة بحال الشاهد ؟ وما قالوا: إن المعجزة بمثل هذا صارت حجة فهو غلط، وإنما صارت حجة بكونها خارجة عن حد مقدور البشر، فإن القرآن بهذه الصفة، ولكن الكفار كانوا يتعنتون فيقولون إنه من جنس كلام البشر، كما أخبر الله تعالى عنهم (قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) فطولبوا بالاتيان بمثله ليظهر به تعنتهم فإنهم
لو قدروا على ذلك ما صبروا على الامتناع عنه إلى القتال وفيه ذهاب نفوسهم وأموالهم.
فإن قيل: في اعتبار الاثر اعتبار ما لا يمكن الوقوف فيه على حد معلوم يعقل أو يظهر للخصوم.
قلنا: لا كذلك فإن الاثر فيما يحس معلوم حسا كأثر المشي على الارض، وأثر الجراحة على البدن، وأثر الاسهال في الدواء المسهل، وفيما يعقل معلوم بطريق اللغة نحو عدالة الشاهد، فإنه يعلم بأثر دينه في المنع كما بينا، وهذا الاثر الذي ادعيناه يظهر للخصم بالتأمل، فإنه عبارة عن أثر ظاهر في بعض المواضع سوى المتنازع فيه، وهو موافق
للعلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والسلف من الفقهاء، رضوان الله عليهم أجمعين.
فمن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة: إنها من الطوافين عليكم والطوافات لانها علة مؤثرة فيما يرجع إلى التخفيف، لانه عبارة عن عموم البلوى والضرورة في سؤره، وقد ظهر تأثير الضرورة في إسقاط حكم الحرمة أصلا بالنص، وهو قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) والاشارة إليه لدفع نجاسة سؤره أو لاثبات حكم التخفيف في سؤره يكون استدلالا له بعلة مؤثرة.
وكذلك قوله عليه السلام: إنها دم عرق انفجر فإنه استدلال بعلة مؤثرة في نقض الطهارة، وهو أن الدم في نفسه نجس، وبالانفجار يصل إلى موضع يجب تطهير ذلك الموضع منه، ووجوب التطهير لا يكون إلا بعد وجود ما يعدم الطهارة.
فإن قيل: هذا ليس بتعليل منه لانتقاض الطهارة بدم الاستحاضة بل لبيان أنه ليس بدم الحيض.
قلنا: قد قال أولا ليست بالحيضة، وهذا اللفظ كاف
لهذا المقصود فلا بد من أن يحمل قوله (ولكنها دم عرق انفجر) على فائدة جديدة وليس ذلك إلا بيان علة للحدث الموجب للطهارة.
وقال عليه السلام لعمر رضي الله عنه في القبلة: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك ؟ فهذا إشارة إلى علة مؤثرة، أي الفطر ضد الصوم، وإنما يتأدى الصوم بالكف عن اقتضاء الشهوتين، فكما أن اقتضاء شهوة البطن بما يصل إلى الحلق لا بما يصل إلى الفم حتى لا تكون المضمضة موجبة للفطر، فكذلك اقتضاء شهوة الفرج يكون بالايلاج أو الانزال لا بمجرد القبلة التي هي المقدمة.
وكذلك قوله للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين ؟ الحديث، هو إشارة إلى العلة المؤثرة وهو أن صاحب الحق يقبل من غير من عليه الحق إذا جاء بحقه فأداه على سبيل الاحسان والمساهلة مع من عليه الحق، والله هو المحسن المتفضل على عباده فهو أحق من أن يقبل منك.
وقال في حرمة الصدقة على بني هاشم: أرأيت لو تضمضت بماء أكنت شاربه ؟ ففيه إشارة إلى علة مؤثرة وهو
أن الصدقة من أوساخ الناس لكونها مطهرة من الذنوب فهي كالغسالة المستعملة، والامتناع من شرب ذلك يكون بطريق الاخذ بمعالي الامور، فكذلك حرمة الصدقة على بني هاشم يكون على وجه التعظيم والاكرام لهم ليكون لهم خصوصية بما هو من معالي الامور.
وكذلك الصحابة حين اختلفوا في الجد مع الاخوة اشتغلوا بالتعليل لاظهار صفة القرب بالوادي الذي تتشعب منه الانهار والشجرة التي ينبت منها الاغصان، وما ذلك إلا باعتبار المؤثر في العلم بتفاوت القرب بطريق محسوس، وابن عباس علل في ذلك بقوله: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الاب أبا.
فهو استدلال المؤثر من حيث اعتبار أحد الطرفين بالطرف الآخر في القرب.
وقال عمر لعبادة
بن الصامت حين قال: ما أرى النار تحل شيئا في الطلاء أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فتشربه، فهذا استدلال بمؤثر وهو التغيير بالطباع.
وعلل محمد في كتاب الطلاق فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها ثلاثا أن اليمين لا يبقى، لانه ذهب تطليقات ذلك الملك كله، وهذا تعليل بوصف مؤثر، فإن اليمين لا تنعقد إلا في الملك باعتبار تطليقات مملوكة أو مضافة إلى الملك، والاضافة إلى الملك لم توجد هنا، فعرفنا أنها انعقدت على التطليقات المملوكة، وقد أوقع كلها والكل من كل شئ لا يتصور فيه تعدد، فعرفنا أنه لم يبق شئ من الجزاء واليمين شرط وجزاء، فكما لا يتصور انعقادها بدون الجزاء لا يتصور بقاؤها إذا لم يبق شئ من الجزاء.
وقال أبو حنيفة رحمه الله فيمن اشترى قريبه مع غيره حتى عتق نصيبه منه لا يضمن لشريكه شيئا، لان شريكه رضي بالذي وقع به العتق بعينه، يعني ملك القريب الذي هو متمم لعلة العتق، وهذا تعليل بوصف مؤثر، فإن ضمان العتق إنما يجب بالافساد أو الاتلاف لملك الشريك فيكون واجبا بطريق الجبران له ورضاه بالسبب يغني عن الحاجة إلى الجبران، لان الحاجة إلى ذلك لدفع الضرر عنه وقد اندفع ذلك حكما حين رضي به كما لو أذن له نصا أن يعتقه.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن أودع صبيا مالا فاستهلكه
لا ضمان عليه، لانه سلطه على ما فعل، أي حين مكنه من المال، فقد سلطه على إتلافه حسا، والتسليط يخرج فعل المسلط من أن يكون جناية في حق المسلط، ثم بقوله: احفظ، جعل التسليط مقصورا على الحفظ بطريق العقد، وهذا في حق البالغ صحيح وفي حق الصبي لا يصح أصلا وفي حق العبد المحجور لا يصح في حالة الرق.
وعلل الشافعي في الزنا أنه لا يوجب حرمة المصاهرة، وقال: الزنا فعل رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه، فهذا استدلال في الفرق بوصف مؤثر، أي ثبوت
حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة، فيجوز أن يكون سبب الكرامة ما يحمد المرء عليه ولا يجوز أن يكون سببه ما يعاقب المرء عليه وهو الزنا الموجب للرجم.
وقال: النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال، لان النكاح ليس بمال.
وهذا تعليل بوصف مؤثر، يعني أن المال مبتذل وملك النكاح مصون عن الابتذال، وفي شهادة النساء مع الرجال ضرب شبهة أو هي حجة ضرورة فما يكون مبتذلا تجري المساهلة فيه وتكثر البلوى والحاجة إليه فيمكن إثباته بحجة فيها شبهة أو بما هو حجة ضرورة، فأما ما يكون مصونا عن الابتذال فإن البلوى لا تكثر فيه وهو عظيم الخطر أيضا فلا يثبت إلا بحجة أصلية خالية عن الشبهة، فعرفنا أن طريق تعليل السلف هو الاشارة إلى الوصف المؤثر، فعلى هذا النمط يكون أكثر ما عللنا به في الخلافيات.
منها أن علماءنا قالوا في أنه لا يشترط التكرار في المسح بالرأس لاكمال السنة إنه مسح فلا يسن تكراره (كالمسح بالخف والتيمم.
وقال الشافعي: هو ركن أصلي في الطهارة فيسن فيه التكرار) كالغسل في المغسولات، فكان المؤثر ما قلنا، لان في لفظ المسح ما يدل على التخفيف، فإن المسح يكون أيسر من الغسل لا محالة، وتأدى الفرض في هذا المحل بفعل المسح دليل التخفيف أيضا، وكون الاستيعاب فيه ليس بشرط بخلاف المغسولات تخفيف آخر، والاكتفاء بالمرة الواحدة لاقامة الفرض والسنة من باب التخفيف، ففي قولنا مسح إشارة إلى ما هو مؤثر فيه وليس في قوله ركن إشارة إلى ما ينفيه، ثم المقصود بالسنة
الاكمال، وفي الممسوح لما لم يكن الاستيعاب شرطا فبالمرة الواحدة مع الاستيعاب يحصل الاكمال، فعرفنا أنه يصير به مؤديا الفريضة والسنة، وفي المغسولات لما كان الاستيعاب شرطا لا يحصل بالمرة إلا إقامة الفرض فلا بد من التكرار
لاقامة السنة، وليس في قوله ركن إشارة إلى هذا الفرق، وفي قولنا مسح إشارة إليه، فكان المؤثر ما قلنا.
وقلنا في صوم الشهر بمطلق النية إنه يتأدى لانه صوم عين وهو يقول لا بد من نية الفرض لانه صوم فرض، فكان المؤثر ما قلنا، لان المقصود بالنية في الاصل التمييز ولا يراد بنية الجهة إلا التمييز بين تلك الجهة وغيرها، وإذا كان المشروع في هذا الزمان عينا ليس معه غيره، يصاب بمطلق الاسم فارتفعت الحاجة إلى الجهة للتمييز، وليس في صفة الفرضية ما ينفي هذا التعيين حتى يثبت به مساس الحاجة إلى نية الجهة للتمييز.
وقلنا في الضرورة إذا حج بنية النفل لا يقع حجة عن الفرض، لانها عبادة تتأدى بأركان معلومة بأسبابها كالصلاة، وهذا إشارة إلى وصف مؤثر وهو أن تتأدى هذه العبادة بمباشرة أركانها لا بوقتها، فصحة أداء هذه الاركان في الوقت فرضا لا ينفي صحة أدائها نفلا، وإذا بقي الاداء بصفة النفلية مشروعا من هذا الوجه فتعيينه جهة النفل بالنية صادق محله، فيجب اعتباره لا محالة بخلاف الصوم في الشهر.
وعللنا في الثيب الصغيرة أن الاب يزوجها لانها صغيرة ولا يزوج البكر البالغة إلا برضاها لانها بالغة، والخصم قال في الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها من غير رضاها لانها ثيب، وفي البكر البالغة يزوجها من غير رضاها لانها بكر فكان المؤثر ما قلنا، لان ثبوت ولاية الاستبداد بالعقد يكون على وجه النظر للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة ذلك بنفسه مع حاجته إلى مقصوده كالنفقة، والمؤثر في ذلك الصغر والبلوغ دون الثيابة والبكارة.
وكذلك في سائر المواضع إنما ظهر الاثر للصغر والبلوغ في الولاية لا للثيابة والبكارة،
يعني الولاية في المال والولاية على الذكر، فعرفنا أنا سلكنا طريق السلف،
في الاستدلال بالوصف (المؤثر).
فإن قيل: كيف يستقيم هذا والقياس لا يكون إلا بفرع وأصل، فإن المقايسة تقدير الشئ بالشئ، وبمجرد ذكر الوصف بدون الرد إلى الاصل لا يكون قياسا.
قلنا قد قال بعض مشايخنا: هذا النوع من التعليل عند ذكر الاصل يكون مقايسة وبدون ذكر الاصل يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي، بمنزلة ما قاله الخصم إن تعليل النص بعلة تتعدى إلى الفرع يكون مقايسة وبعلة لا تتعدى لا يكون مقايسة، لكن يكون بيان علة شرعية للحكم قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن نقول: هو قياس على كل حال، فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه، وربما لا يقع الاستغناء عنه فنذكره.
فمما يقع الاستغناء عن ذكره ما قلنا في إيداع الصبي لانه سلطه على ذلك فإنه بهذا الوصف يكون مقيسا على أصل واضح وهو أن من أباح لصبي طعاما فتناوله لم يضمن، لانه بالاباحة سلطه على تناوله، وتركنا ذكر هذا الاصل لوضوحه.
ومما يذكر فيه الاصل ما قال علماؤنا في طول الحرة إنه لا يمنع نكاح الامة، لان كل نكاح يصح من العبد بإذن المولى فهو صحيح من الحر كنكاح حرة، وهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن الرق ينصف الحل الذي يبتنى عليه عقد النكاح شرعا ولا يبدله بحل آخر، فيكون الرقيق في النصف الباقي بمنزلة الحر في الكل، لانه ذلك الحل بعينه ولكن في هذا المعنى بعض الغموض فتقع الحاجة إلى ذكر الاصل.
وكذلك عللنا في جواز نكاح الامة الكتابية للمسلم قلنا كل امرأة يجوز لمسلم نكاحها إذا كانت مسلمة يجوز له نكاحها إذا كانت كتابية كالحرة، وهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن تأثير الرق في تنصيف الحل، وما يبتنى على الحل الذي في جانب المرأة غير متعدد ليتحقق معنى التنصيف في عدد،
فإن المرأة لا تحل إلا لرجل واحد فيظهر حكم التنصيف في الاحوال، وهو
أن الامة من المحللات منفردة عن الحرة، ومن المحرمات مضمومة إلى الحرة فلا يتزوجها على حرة ويتزوجها إذا لم يكن تحته حرة، ثم النصف الباقي في جانب الامة هو الثابت في حق الحرة، فإذا كان بهذا الحل يتزوج الحرة مسلمة كانت أو كتابية عرفنا أنه يتزوج الامة مسلمة كانت أو كتابية، ولكن في هذا الكلام بعض الغموض فيذكر الاصل عند التعليل، فعرفنا أن جميع ما ذكرنا استدلال بالقياس في الحقيقة وأنه موافق لطريق السلف في تعليل الاحكام الشرعية.
فصل: الحكم حكم العلة التي نسميها قياسا أو علة ثابتة بالرأي تعدية حكم النص بها إلى فرع لا نص فيه عندنا.
وعلى قول الشافعي حكمها تعلق الحكم في المنصوص بها، فأما التعدية بها جائز وليس بواجب حتى يكون التعليل بدونها صحيحا.
وإنما يتبين هذا بفصلين سبق بيانهما: أحدهما تعليل الاصل بما لا يتعدى لمنع قياس غيره عليه، عندنا لا يكون صحيحا وعنده يصح.
والثاني التعدية بالتعليل إلى محل منصوص عليه لا يصح عندنا خلافا له.
ثم حجته في هذه المسألة اعتبار العلل الشرعية بالعلل العقلية كما أن الوجود هناك يتعلق بما هو علة له، فالوجوب في العلل الشرعية يتعلق بالعلة ويكون هو الحكم المطلوب بها دون التعدية، وإنما نعني بالوجوب وجوب العمل على وجه يبقى فيه احتمال الخطأ.
واعتبر العلة المستنبطة من النص بالعلة المنصوص عليها في الشرع، فكما أن الحكم هناك يتعلق بالعلة وتكون علة صحيحة بدون التعدية فكذلك هنا، ألا ترى أن الاسباب الموجبة
للحدود والكفارات جعلت سببا شرعا ليتعلق الحكم بها بالنص من غير تعدية إلى محل آخر، فكذلك العلل الشرعية يتعلق الحكم بها في المنصوص تعدى بها إلى محل آخر أو لم يتعد.
والجواب ما هو حجتنا.
أن نقول: ما ينازعنا فيه من العلة لا يكون حجة للحكم إلا بعد النص كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ: فإن لم تجده في الكتاب والسنة ؟
قال: اجتهد رأيي.
وما يكون عاملا بعد النص كان شرط عمله انعدام النص في المحل الذي يعمل فيه، فعرفنا أنه لا عمل له في محل منصوص، وإذا لم يجز أن يكون عاملا على وجه المعارضة بحكم النص بخلافه عرفنا أنه لا عمل له في موضع النص فلا يمكن أن يجعل حكمه تعلق حكم الشرع به في المنصوص، يوضحه أن بالاجماع هذه العلة لا يجوز أن يتغير بها حكم النص، ومعلوم أن التغيير دون الابطال، فإذا كان الحكم في المنصوص مضافا إلى النص قبل التعليل، فلو قلنا بالتعليل يصير مضافا إلى العلة كان إبطالا، ولا شك أنه يكون تغييرا، على معنى أن فيه إخراج سائر أوصاف النص من أن يكون الحكم مضافا إليها، وكما لا يجوز إخراج بعض المحال الذي تناوله النص من حكم النص بالتعليل لا يجوز إخراج بعض الاوصاف عن ذلك بالتعليل، يوضحه أن العلة ما يتغير بها حكم الحال، ومعلوم أن حكم النص لا يتغير بالعلة في نفسه، فعرفنا أنه يتغير بها الحال في محل آخر وهو المحل الذي تعدى إليه الحكم، فيثبت فيه بها بعد أن لم يكن ثابتا، وهذا لا يتحقق في علة لا توجب تعدية الحكم، فهذا تبين أن حكم العلة على الخصوص تعدية الحكم لا إيجاب الحكم بها ابتداء، بمنزلة الحوالة فإنها لما كانت مشتقة من التحويل كان حكمها الخاص تحول الدين الواجب بها من ذمة إلى
ذمة من غير أن تكون مؤثرة في إيجاب الدين بها ابتداء.
ومن فهم هذا سقط عنه مؤنة الحفظ في ثلاثة أرباع ما يستعمل الناس القياس فيه، لان جميع ما يتكلم الناس فيه على سبيل المقايسة أربعة أقسام: الموجب للحكم وصفته، وما هو شرط في العلة وصفته، والحكم الثابت في الشرع وصفته، والحكم المتفق على كونه مشروعا معلوما بصفته أهو مقصور على المحل الذي ورد فيه النص أم تعدى إلى غيره من المحال الذي يماثله بالتعليل.
وإنما يجوز استعمال القياس في القسم الرابع، فأما الاقسام الثلاثة فلا مدخل للقياس فيها في الاثبات ولا في النفي، لان الموجب ما جعله الشرع موجبا على ما بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها بل بجعل الشرع إياها موجبة، فلا مجال للرأي في معرفة ذلك وإنما طريق معرفته السماع ممن
ينزل عليه الوحي.
وصفة الشئ معتبر بأصله، وكما لا يكون موجبا بدون ركنه لا يكون موجبا بدون شرطه، ولا مدخل للرأي في معرفة شرطه ولا صفة شرطه، كما لا مدخل للرأي في أصله، وكذلك نصب الحكم ابتداء إلى الشرع، وكما ليس إلى العباد ولاية نصب الاسباب فليس إليهم ولاية نصب الاحكام، لانها مشروعة بطريق الابتلاء فأنى يهتدى بالرأي إليه، كيف يتحقق معنى الابتلاء فيما يستنبط بالرأي ابتداء، فعرفنا أن التعليل في هذه الاقسام لا يصادف محلها، والاسباب الشرعية لا تصح بدون المحل كالبيع المضاف إلى الحر والنكاح المضاف إلى محرمة، ولان حكم التعليل التعدية، ففي هذه المواضع الثلاثة لا تتحقق التعدية، فكان استعمال القياس في هذه المواضع الثلاثة بمنزلة الحوالة قبل وجوب الدين وذلك باطل لخلوه عن حكمه وهو التحويل.
وكما لا يجوز استعمال القياس لاثبات الحكم في هذه المواضع
لا يجوز للنفي، لان المنكر لذلك يدعي أنه غير مشروع وما ليس بمشروع كيف يمكن إثباته بدليل شرعي، وإن كان يدعي رفعه بعد الثبوت وهو نسخ وإثبات النسخ بالتعليل بالرأي لا يجوز، فعرفنا أن ما يصنعه بعض الناس من استعمال القياس في مثل هذه المواضع ليس بفقه وأنه يكون من قلة التأمل، يتبين ذلك عند النظر.
وأما بيان الموجب في مسائل.
منها (أن) الجنس بانفراده هل يحرم النسأ، فإن الكلام فيه بطريق القياس للاثبات أو للنفي باطل، وإنما طريق إثباته الرجوع إلى النص أو دلالته أو إشارته أو مقتضاه، لان الثابت بهذه الوجوه كالثابت بالنص والموجب للحكم لا يعرف إلا بالنص كالحكم الواجب، فإنه إذا وقع الاختلاف في الوتر هل هي بمنزلة الفريضة زيادة على الخمس كان الاشتغال بإثباته بطريق القياس خطأ، وإنما أثبت ذلك أبو حنيفة رحمه الله بالنص المروي فيه وهو قوله عليه السلام: إن الله تعالى زادكم صلاة، ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر فكذلك طريق
إثبات كون الجنس علة الرجوع إلى النص ودلالته، وهو أنه قد ثبت بالنص حرمة الفضل الخالي عن العوض إذا كان مشروطا في العقد، وباشتراط الاجل يتوهم فضل مال خال عن المقابلة باعتبار صفة الحلول في أحد الجانبين، ولم يسقط اعتباره بالنص لكونه حاصلا بصنع العباد، والشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما بني أمره على الاحتياط، فكما أن حقيقة الفضل تكون ربا فكذلك شبهة الفضل، وللجنسية أثر في إظهار ذلك، وكما أن القياس لا يكون طريقا للاثبات هنا لا يكون طريقا للنفي، لان من ينفي إنما يتمسك بالعدم الذي هو أصل، فعليه الاشتغال بإفساد دليل خصمه، لانه متى ثبت أن ما ادعاه
الخصم دليل صحيح لا يبقى له حق التمسك بعدم الدليل، فأما الاشتغال بالقياس ليثبت العدم به يكون ظاهر الفساد.
ونظيره الاختلاف في أن السفر هل يكون مسقطا شطر الصلاة فإنه لا مدخل للقياس هنا في الاثبات ولا في النفي، وإنما يعرف ذلك بالنص ودلالته وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ولا معنى للتصدق هنا سوى الاسقاط، ولا مرد لما أسقطه الله عن عباده بوجه.
وكذلك الخلاف في أن استتار القدم بالخف هل يكون مانعا من سراية الحدث إلى القدم لا مدخل للقياس فيه في النفي ولا في الاثبات، وإنما يثبت ذلك بالنص ودلالته وهو قوله عليه السلام: إني أدخلتهما وهما طاهرتان ففي هذا إشارة إلى أن الحدث ما سرى إلى القدمين لاستتارهما بالخف.
وكذلك الخلاف في أن مجرد الاسلام بدون الاحراز بالدار هل يوجب تقوم النفس والمال أم لا، وأن خبر الواحد هل يكون موجبا للعلم، وأن القياس هل يكون موجبا للعمل به ؟ هذا كله لا مدخل للتعليل بالرأي في إثباته ولا في نفيه.
وأما بيان صفته فنحو الاختلاف الواقع في النصاب أنه موجب للزكاة بصفة النماء أم بدون هذا الوصف موجب، وفي اليمين أنها موجبة للكفارة بصفة أنها مقصودة أم بصفة أنها معقودة، وفي القتل بغير حق أنه موجب
للكفارة بصفة أنه حرام أم اشتماله على الوصفين الحظر والاباحة من وجهين، وكفارة الفطر أنها واجبة بفعل موصوف بأنه جماع أو هو فطر بجناية متكاملة ؟ فإن هذا كله مما لا مدخل للرأي في إثبات الوصف المطلوب به ولا في نفيه.
وبيان الشرط فنحو اختلاف العلماء في اشتراط الشهود في النكاح للحل، واختلافهم في اشتراط التسمية في الذكاة للحل فإنه لا مدخل للرأي في معرفة
ما هو شرط في السبب شرعا لا في الاثبات ولا في النفي، كما لا مدخل له في أصل السبب بأن بالشرط يرتفع الحكم قبل وجوده، فإذا لم يكن للرأي مدخل فيما يثبته عرفنا أنه لا مدخل للرأي فيما يرفعه أو يعدمه.
وكذلك الخلاف في أن البلوغ عن عقل هل يكون شرطا لوجوب حقوق الله تعالى المالية نحو الزكوات والكفارات، ولايجاب ما هو عقوبة مالية نحو حرمان الميراث بالقتل، أو دفع الاختلاف في أن البلوغ عن عقل هل يكون شرطا لصحة الاداء فيما لا يحتمل النسخ والتبديل، فإن هذا لا مدخل للقياس فيه في الاثبات والنفي.
وكذلك في أن بلوغ الدعوة هل تكون شرطا لاهدار النفوس والاموال بسبب الكفر، فإن هذا مما لا يمكن معرفته بالقياس، والتعليل بالرأي فيه للاثبات أو النفي يكون ساقطا.
وكذلك الاختلاف في اشتراط الولي في النكاح، فأما في ثبوت الولاية للمرأة على نفسها يجوز استعمال القياس، لان المعنى الذي به تثبت الولاية للمرء على نفسه معقول وهو متفق عليه في الاصل وهو الرجل، فيستقيم تعدية الحكم به إلى المرأة.
فإن قيل: فقد اختلفنا في التقابض في المجلس أنه هل يشترط في بيع الطعام بالطعام ؟ وقد تكلمتم بالقياس، وإليه أشار محمد فقال: من قبل أنه حاضر ليس له أجل.
قلنا: لان هناك قد وجد أصل كان هذا الحكم، وهو بقاء العقد بعد الافتراق عن المجلس من غير قبض فيه ثابت بالاتفاق، وهو بيع الطعام وسائر الامتعة بالدراهم فأمكن تعليل ذلك الاصل لتعدية الحكم به إلى الفرع، والخصم وجد أصلا للحكم الذي ادعاه وهو فساد
العقد بعد الافتراق من غير قبض كما في الصرف استقام تعليله أيضا لتعدية الحكم به إلى الفرع، ومثله لا يوجد في اشتراط التسمية في الذكاة، فإن الخصم
لا يجد فيه أصلا يسقط فيه اشتراط التسمية لحل الذبيحة، فإن أصله الناسي، ونحن لا نقول هناك سقط شرط التسمية، ولكن نجعل الناسي كالمسمى حكما بدلالة النص، كما يجعل الناسي كالمباشر لركن الصوم وهو الامساك حكما بالنص، وهذا معلول عن القياس وتعليل مثله لتعدية الحكم لا يجوز.
وكذلك في النكاح فإنه لا يجد أصلا يكون فيه اتفاق على صحة النكاح وثبوت الحل به بغير شهود حتى لعلل ذلك الاصل فيتعدى الحكم فيه إلى هذا الفرع.
فإن قيل: لا كذلك، فإن النكاح عقد معاملة حتى يصح من الكافر والمسلم، وقد وجدنا أصلا في عقود المعاملات يسقط اشتراط الشهود لصحته شرعا وهو البيع وإن كان يترتب عليه حل الاستمتاع، فنعلل ذلك الاصل لتعدية الحكم به إلى الفرع.
قلنا: من حيث إن النكاح معاملة أمد لا يشترط فيه الشهود، فخصم هذا المعلل يقول بموجب علته، وإنما يدعي شرط الشهود فيه اعتبار أنه عقد مشروع للتناسل وأنه يرد على محل له خطر، وهو مصون عن الابتذال، فلاظهار خطره يختص شرط الشهود، ولا نجد أصلا في المشروعات بهذه الصفة لتعليل ذلك الاصل فيعدى الحكم به إلى الفرع.
وأما بيان صفته فنحو الاختلاف في صفة العدالة في شهود النكاح وفي صفة الذكورة، وفي صفة الموالاة والترتيب والنية في الوضوء، فإن الوضوء شرط الصلاة، فكما لا مدخل للرأي في إثبات أصل الشرط به فكذلك في إثبات الصفة فيما هو شرط.
وأما بيان الحكم فنحو الاختلاف في الركعة الواحدة، أهي صلاة مشروعة أم لا ؟ وفي القراءة المشروعة في الاخريين بالاتفاق، أهي فريضة
أم لا، وفي القراءة المفروضة في الاوليين، أتتعين الفاتحة ركنا أم لا ؟ فإنه لا مدخل للرأي في إثبات هذا الحكم، وفي المسح بالخف والمسح على الجرموق وعلى العمامة أهو جائز أم لا ؟ وأمثلة هذا في الكتب تكثر، فإن كل موضع يكون الكلام فيه في الحكم ابتداء أهو ثابت شرعا أم لا، لا مدخل للرأي في ذلك حتى يشتغل فيه بالتعليل للاثبات أو للنفي.
وأما بيان صفته فنحو الاختلاف في صفة صدقة الفطر والاضحية والوتر، والاختلاف في صفة الابانة بالطلاق عند القصد إليه من غير جعل، وفي صفة الملك الثابت بالنكاح وهو الذي يقابله البدل أهو مشترك بين الزوجين أم يختص الرجل به ؟ وفي صفة ملك النكاح أنه في حكم ملك المنفعة أو في حكم ملك العين، وفي صفة الطلاق المشروع أنه مباح بأصل الوضع أو مكروه، والاباحة صفة عارضة فيه للحاجة، وفي صفة البيع المشروع حال بقاء المتعاقدين في المجلس (أنه لازم بنفس العقد أو متراخ إلى قطع المجلس)، وفي صفة الملك الثابت بعقد الرهن أنه ملك اليد من جنس ما يثبت به حقيقة الاستيفاء أو ملك المطالبة بالبيع في الدين من جنس ما يثبت بالكفالة، وأمثلة هذه الفصول في الكتب أكثر من أن تحصى، ذكرنا من كل قسم طرفا لبيان الطريق للمتأمل فيه.
وأما بيان القسم الرابع: فنحو الاختلاف في المسح بالرأس أنه هل يسن تثليثه فإنه يوجد في الطهارة ما هو مسح ولا يكون التكرار فيه مسنونا فيمكن تعليل ذلك المتفق عليه لتعدية الحكم به إلى الفرع المختلف فيه، ويوجد في أعضاء الطهارة ما يكون التكرار فيه مسنونا بالاتفاق، فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام بعد
ذلك يقع في الترجيح.
وكذلك إذا وقع الاختلاف في اشتراط تعيين النية في
الصوم، فإن هناك أصلا متفقا عليه يتأدى فيه الصوم بمطلق النية، وهو النفل الذي هو عين مشروعا في وقته فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع، وهناك أصل في الصوم الذي هو فرض لا يتأدى إلا بتعيين النية، وهو صوم القضاء فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام في الترجيح بعد ذلك.
فإن قيل: فقد تكلمتم بالقياس في العذر بصوم يوم النحر وكون الصوم فيه مشروعا أم لا حكم لا مدخل للرأي فيه ثم اشتغلتم بالمقايسة فيه.
قلنا: لانا وجدنا أصلا متفقا عليه في كون الصوم مشروعا فيه وهو سائر الايام فأمكن تعدية الحكم بتعليله إلى الفرع، ثم يبقى وراء ذلك الكلام في أن النهي الذي جاء لمعنى في صفة هذا اليوم وهو أنه يوم عيد عمله يكون في إفساد المشروع مع بقائه في الاصل مشروعا أو في رفع المشروع وانتساخه، وهذا لا نثبته بالرأي وإنما نثبته بدليل النص، وهو الرجوع إلى موجب النهي أنه الانتهاء على وجه يبقى للمنتهي اختيار فيه كما قررنا.
وقد تبين بما ذكرنا أن المجيب متى اشتغل بالتعليل بالرأي فالذي يحق على السائل أن ينظر أولا أن المتنازع فيه هل هو محل له وأن ما نذكره من العلة هل يتعدى الحكم به إلى الفرع، فإن لم يكن بهذه الصفة لا يشتغل بالاعتراض على علته ولكن يتبين له بطريق الفقه أن هذا التعليل في غير موضعه، وأنه مما لا يصلح أن يكون حجة حتى يتحول المجيب إلى شئ آخر أو يبين بطريق الفقه أنه تعليل صحيح في محله موافق لطريق السلف في تعليلاتهم ليكون ما يجري بعد ذلك بينهما على طريق الفقه.
فصل: في بيان القياس والاستحسان
قال رضي الله عنه: اعلم بأن القسم الرابع الذي بيناه في الفصل المتقدم يشتمل على هذين الوجهين، وهو القياس والاستحسان عندنا، وقد طعن بعض الفقهاء في تصنيف له على عبارة علمائنا في الكتب: إلا أنا تركنا القياس واستحسنا، وقال: القائلون بالاستحسان يتركون العمل بالقياس الذي هو حجة شرعية
ويزعمون أنهم يستحسنون ذلك، وكيف يستحسن ترك الحجة والعمل بما ليس بحجة لاتباع هوى أو شهوة نفس ؟ فإن كانوا يريدون ترك القياس الذي هو حجة فالحجة الشرعية هو حق وماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن كانوا يريدون ترك القياس الباطل شرعا فالباطل مما لا يشتغل بذكره.
وقد ذكروا في كتبهم في بعض المواضع أنا نأخذ بالقياس، فإن كان المراد هذا فكيف يجوزون الاخذ بالباطل.
وذكر من هذا الجنس ما يكون دليل قلة الحياء وقلة الورع وكثرة التهور لقائله.
فنقول وبالله التوفيق: الاستحسان لغة: وجود الشئ حسنا، يقول الرجل: استحسنت كذا: أي اعتقدته حسنا على ضد الاستقباح، أو معناه: طلب الاحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال تعالى: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) وهو في لسان الفقهاء نوعان: العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولا إلى آرائنا نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى: (متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي.
وكذلك قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ولا يظن بأحد من الفقهاء أنه يخالف هذا النوع من الاستحسان.
والنوع الآخر هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل
إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الاصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، فإن العمل به هو الواجب، فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل التأمل على معنى أنه يمال بالحكم عن ذلك الظاهر لكونه مستحسنا لقوة دليله، وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد، فإن أهل النحو يقولون: هذا نصب على التفسير، وهذا نصب على المصدر، وهذا نصب على الظرف، وهذا نصب على التعجب،
وما وضعوا هذه العبارات إلا للتمييز بين الادوات الناصبة.
وأهل العروض يقولون: هذا من البحر الطويل، وهذا من البحر المتقارب، وهذا من البحر المديد، فكذلك استعمال علمائنا عبارة القياس والاستحسان للتمييز بين الدليلين المتعارضين، وتخصيص أحدهما بالاستحسان لكون العمل به مستحسنا، ولكونه مائلا عن سنن القياس الظاهر، فكان هذا الاسم مستعارا لوجود معنى الاسم فيه، بمنزلة الصلاة فإنها اسم للدعاء ثم أطلقت على العبادة المشتملة على الاركان من الافعال والاقوال لما فيها من الدعاء عادة.
ثم استحسان العمل بأقوى الدليلين لا يكون من اتباع الهوى وشهوة النفس في شئ.
وقد قال الشافعي في نظائر هذا: أستحب ذلك.
وأي فرق بين من يقول أستحسن كذا، وبين من يقول أستحبه ؟ بل الاستحسان أفصح اللغتين، وأقرب إلى موافقة عبارة الشرع في هذا المراد.
وظن بعض المتأخرين من أصحابنا أن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس في موضع الاستحسان، وشبه ذلك بالطرد مع المؤثر، فإن العمل بالمؤثر أولى وإن كان العمل بالطرد جائزا.
قال رضي الله عنه:
وهذا وهم عندي فإن اللفظ المذكور في الكتب في أكثر المسائل: إلا أنا تركنا هذا القياس، والمتروك لا يجوز العمل به، وتارة يقول إلا أني أستقبح ذلك، وما يجوز العمل به من الدليل شرعا فاستقباحه يكون كفرا، فعرفنا أن الصحيح ترك القياس أصلا في الموضع الذي نأخذ بالاستحسان، وبه يتبين أن العمل بالاستحسان لا يكون مع قيام المعارضة ولكن باعتبار سقوط الاضعف بالاقوى أصلا.
وقد قال في كتاب السرقة: إذا دخل جماعة البيت وجمعوا المتاع فحملوه على ظهر أحدهم فأخرجه وخرجوا معه: في القياس القطع على الحمال خاصة، وفي الاستحسان يقطعون جميعا.
وقال في كتاب الحدود: إذا اختلف شهود الزنا في والزاويتين في بيت واحد: في القياس لا يحد المشهود عليه، وفي الاستحسان يقام الحد.
ومعلوم أن الحد يسقط بالشبهة وأدنى درجات المعارض ايراث الشبهة، فكيف يستحسن إقامة الحد في موضع الشبهة.
وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله:
تصحح ردة الصبي استحسانا.
ومعلوم أن عند قيام دليل المعارضة يرجح الموجب للاسلام وإن كان هو أضعف كالمولود بين كافر ومسلمة، وكيف يستحسن الحكم بالردة مع بقاء دليل موجب الاسلام، فعرفنا أن القياس متروك أصلا في الموضع الذي يعمل فيه بالاستحسان، وإنما سميناهما تعارض الدليلين باعتبار أصل الوضع في كل واحد من النوعين، لا أن بينهما معارضة في موضع واحد.
والدليل على أن المراد هذا ما قال في كتاب الطلاق: إذا قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق فقالت: قد حضت فكذبها الزوج فإنها لا تصدق في القياس باعتبار الظاهر وهو أن الحيض شرط الطلاق كدخولها الدار وكلامها زيدا، وفي الاستحسان تطلق، لان الحيض شئ
في باطنها لا يقف عليه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه بمنزلة المحبة والبغض.
قال: وقد يدخل في هذا الاستحسان بعض القياس يعني به أن في سائر الاحكام المتعلقة بالحيض قبلنا قولها نحو حرمة الوطئ وانقضاء العدة، فاعتبار هذا الحكم بسائر الاحكام نوع قياس، ثم ترك القياس الاول أصلا لقوة دليل الاستحسان، وهو أنها مأمورة بالاخبار عما في رحمها منهية عن الكتمان، قال تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) ومن ضرورة النهي عن الكتمان كونها أمينة في الاظهار، وإليه أشار أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: من الامانة أن تؤتمن المرأة على ما في رحمها.
فصار ذلك القياس متروكا باعتراض هذا الدليل القوي الموجب للعمل به.
فالحاصل: أن ترك القياس يكون بالنص تارة، وبالاجماع أخرى، وبالضرورة أخرى.
فأما تركه بالنص فهو فيما أشار إليه أبو حنيفة رحمه الله في أكل الناسي للصوم: لولا قول الناس لقلت يقضي.
يعني به رواية الاثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو نص يجب العمل به بعد ثبوته واعتقاد البطلان في كل قياس يخالفه.
وهذا اللفظ نظير ما قال عمر رضي الله عنه في قصة الجنين: لقد كدنا أن نعمل برأينا فيما فيه أثر.
وكذلك القياس يأبى جواز السلم باعتبار أن المعقود عليه معدوم عند العقد، تركناه بالنص وهو الرخصة الثابتة بقوله عليه السلام: (ورخص في السلم) وأما ترك القياس بدليل الاجماع فنحو الاستصناع فيما فيه للناس تعامل، فإن القياس يأبى جوازه، تركنا القياس للاجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا (وهذا) لان القياس فيه
احتمال الخطأ والغلط، فبالنص أو الاجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه، فيكون واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه.
وأما الترك لاجل الضرورة فنحو الحكم بطهارة الآبار والحياض بعدما نجست، والحكم بطهارة الثوب النجس إذا غسل في الاجانات، فإن القياس يأبى جوازه، لان ما يرد عليه النجاسة يتنجس بملاقاته، تركناه للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس، فإن الحرج مدفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ فيه بالقياس فكان متروكا بالنص.
وكذلك جواز عقد الاجارة فإنه ثابت بخلاف القياس لحاجة الناس إلى ذلك، فإن العقد على المنافع بعد وجودها لا يتحقق لانها لا تبقى زمانين فلا بد من إقامة العين المنتفع بها مقام الاجارة في حكم جواز العقد لحاجة الناس إلى ذلك.
ثم كل واحد منهما نوعان في الحاصل: فأحد نوعي القياس ما ضعف أثره وهو ظاهر جلي، والنوع الآخر منه ما ظهر فساده واستتر وجه صحته وأثره.
وأحد نوعي الاستحسان ما قوي أثره وإن كان خفيا، والثاني ما ظهر أثره وخفي وجه الفساد فيه.
وإنما يكون الترجيح بقوة الاثر لا بالظهور ولا بالخفاء، لما بينا أن العلة الموجبة للعمل بها شرعا ما تكون مؤثرة، وضعيف الاثر يكون ساقطا في مقابلة قوي الاثر ظاهرا كان أو خفيا، بمنزلة الدنيا مع العقبى.
فالدنيا ظاهرة والعقبى باطنة، ثم ترجح العقبى حتى وجب الاشتغال بطلبها والاعراض عن طلب الدنيا لقوة الاثر من حيث البقاء
والخلود والصفاء، فكذلك القلب مع النفس والعقل مع البصر.
وبيان ما يسقط اعتباره من القياس لقوة الاثر الاستحسان الذي هو القياس المستحسن في سؤر سباع الطير، فالقياس فيه النجاسة اعتبارا بسؤر سباع الوحش بعلة
حرمة التناول، وفي الاستحسان لا يكون نجسا لان السباع غير محرم الانتفاع بها، فعرفنا أن عينها ليست بنجسة، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حرمة الاكل، لانها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها ولعابها يتجلب من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير، لانها تأخذ الماء بمنقارها ثم تبتلعه ومنقارها عظم جاف، والعظم لا يكون نجسا من الميت فكيف يكون نجسا من الحي.
ثم تأيد هذا بالعلة المنصوص عليها في الهرة، فإن معنى البلوى يتحقق في سؤر سباع الطير، لانها تنقض من الهواء ولا يمكن صون الاواني عنها خصوصا في الصحارى، وبهذا يتبين أن من ادعى أن القول بالاستحسان قول بتخصيص العلة فقد أخطأ، لان بما ذكرنا تبين أن المعنى الموجب لنجاسة سؤر سباع الوحش الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وقد انعدم ذلك في سباع الطير فانعدم الحكم لانعدام العلة وذلك لا يكون من تخصيص العلة في شئ، وعلى اعتبار الصورة يتراءى ذلك ولكن يتبين عند التأمل انعدام العلة أيضا، لان العلة وجوب التحرز عن الرطوبة النجسة التي يمكن التحرز عنها من غير حرج، وقد صار هذا معلوما بالتنصيص على هذا التعليل في الهرة ففي كل موضع ينعدم بعض أوصاف العلة كان انعدام الحكم لانعدام العلة فلا يكون تخصيصا وبيان الاستحسان الذي يظهر أثره ويخفى فساده مع القياس الذي يستتر أثره ويكون قويا في نفسه حتى يؤخذ فيه بالقياس ويترك الاستحسان فيما يقول في كتاب الصلاة: إذا قرأ المصلي سورة في آخرها سجدة فركع بها في القياس تجزيه، وفي الاستحسان لا تجزيه عن السجود، وبالقياس نأخذ، فوجه الاستحسان أن الركوع غير السجود وضعا، ألا ترى أن الركوع في الصلاة
لا ينوب عن سجود الصلاة فلا ينوب عن سجدة التلاوة بطريق الاولى، لان القرب بين ركوع الصلاة وسجودها أظهر من حيث إن كل واحد منهما موجب التحريمة، ولو تلا خارج الصلاة فركع لها لم يجز عن السجدة ففي الصلاة أولى، لان الركوع هنا مستحق لجهة أخرى وهناك لا، وفي القياس قال: الركوع والسجود يتشابهان، قال تعالى: (وخر راكعا) : أي ساجدا، ولكن هذا من حيث الظاهر مجاز محض، ووجه الاستحسان من حيث الظاهر اعتبار شبه صحيح ولكن قوة الاثر للقياس مستتر ووجه الفساد في الاستحسان خفي.
وبيان ذلك أنه ليس المقصود من السجدة عند التلاوة عين السجدة، ولهذا لا تكون السجدة الواحدة قربة مقصودة بنفسها حتى لا تلزم بالنذر إنما المقصود إظهار التواضع وإظهار المخالفة للذين امتنعوا من السجود استكبارا منهم، كما أخبر الله عنهم في مواضع السجدة.
قلنا: ومعنى التواضع يحصل بالركوع ولكن شرطه أن يكون بطريق هو عبادة وهذا يوجد في الصلاة، لان الركوع فيها عبادة كالسجود ولا يوجد خارج الصلاة، ولقوة الاثر من هذا الوجه أخذنا بالقياس وإن كان مستترا وسقط اعتبار الجانب الآخر في مقابلته.
وكذلك قال في البيوع: إذا وقع الاختلاف بين المسلم إليه ورب السلم في ذرعان المسلم فيه في القياس يتحالفان، وبالقياس نأخذ، وفي الاستحسان القول قول المسلم إليه.
ووجه الاستحسان أن المسلم فيه مبيع فالاختلاف في ذرعانه لا يكون اختلافا في أصله بل في صفته من حيث الطول والسعة، وذلك لا يوجب التحالف كالاختلاف في ذرعان الثوب المبيع بعينه.
ووجه القياس أنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم وذلك يوجب التحالف، ثم أثر القياس مستتر ولكنه قوي من حيث إن عند
السلم إنما يعقد بالاوصاف المذكورة لا بالاشارة إلى العين، فكان الموصوف بأنه خمس في سبع غير الموصوف بأنه أربع في ستة، فبهذا يتبين أن الاختلاف
هنا في أصل المستحق بالعقد فأخذنا بالقياس لهذا.
وقال في الرهن: إذا ادعى رجلان كل واحد منهما عينا في يد رجل أنه مرهون عنده بدين له عليه وأقاما البينة، ففي الاستحسان يقضي بأنه مرهون عندهما، بمنزلة ما لو رهن عينا من رجلين، وهو قياس البيع في ذلك، وفي القياس تبطل البينتان، لانه تعذر القضاء بالرهن لكل واحد منهما في جميعه فإن المحل يضيق عن ذلك، وفي نصفه لان الشيوع يمنع صحة الرهن، وأخذنا بالقياس لقوة أثره المستتر، وهو أن كل واحد منهما هنا إنما يثبت الحق لنفسه بتسمية على حدة، وكل واحد منهما غير راض بمزاحمة الآخر معه في ملك اليد المستفاد بعقد الرهن، بخلاف الرهن من رجلين فهناك العقد واحد فيمكن إثبات موجب العقد به متحدا في المحل وذلك لا يمكن هنا، وهذا النوع يعز وجوده في الكتب لا يوجد إلا قليلا، فأما النوع المتقدم فهو في الكتب أكثر من أن يحصى.
ثم فرق ما بين الاستحسان الذي يكون بالنص أو الاجماع، وبين ما يكون بالقياس الخفي المستحسن أن حكم هذا النوع يتعدى وحكم النوع الآخر لا يتعدى، لما بينا أن حكم القياس الشرعي التعدية، فهذا الخفي وإن اختص باسم الاستحسان لمعنى فهو لا يخرج من أن يكون قياسا شرعيا فيكون حكمه التعدية، والاول معدول به عن القياس بالنص وهو لا يحتمل التعدية كما بينا.
وبيانه فيما إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن والمبيع غير مقبوض، في القياس القول قول المشتري، لان البائع يدعي عليه زيادة في حقه وهو
الثمن، والمشتري منكر واليمين بالشرع في جانب المنكر، والمشتري لا يدعي على البائع شيئا في الظاهر إذ المبيع صار مملوكا له بالعقد، ولكن في الاستحسان يتخالفان، لان المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع إليه عند إحضار أقل الثمنين والبائع منكر لذلك، والبيع كما يوجب استحقاق الملك على البائع
يوجب استحقاق اليد عليه عند وصول الثمن إليه، ثم هذا الاستحسان لكونه قياسا خفيا يتعدى حكمه إلى الاجازة وإلى النكاح في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإلى ما لو وقع الاختلاف بين الورثة بعد موت المتبايعين، وإلى ما بعد هلاك السلعة إذا أخلف بدلا بأن قتل العبد المبيع قبل القبض ولو كان الاختلاف في الثمن بينهما بعد قبض المبيع، فإن حكم التخالف عند قيام السلعة فيه يثبت بالنص بخلاف القياس فلا يحتمل التعدية، حتى إذا كان بعد هلاك السلعة لا يجري التخالف سواء أخلف بدلا أو لم يخلف.
وفي الاجازة بعد استيفاء المعقود عليه لا يجري التخالف، وإن كان الاختلاف بين الورثة بعد قبض السلعة لا يجري التخالف.
وقد يكون القياس الذي في مقابلة الاستحسان الذي قلنا أصله مستحسن ثابت بالاثر نحو ما قال في الصلاة: وإذا نام في صلاته فاحتلم: في القياس يغتسل ويبني كما إذا سبقه الحدث، وذلك مستحسن بالاثر، وفي الاستحسان لا يبني.
وفي هذا النوع المأخوذ به هو الاستحسان على كل حال، لانه في الحقيقة رجوع إلى القياس الاصلي ببيان يظهر به أن هذا ليس في معنى المعدول به من القياس الاصلي بالاثر من كل وجه، فلو ثبت الحكم فيه كان بطريق التعدية، والمعدول به عن القياس بالاثر لا يحتمل التعدية، وذلك البيان أن الحدث الصغرى لا يحوجه إلى كشف العورة ولا إلى عمل كثير، وتكثر البلوى فيه من الصلاة،
بخلاف الحدث الكبرى، فإذا لم يكن في معناه من كل ما له كان إثبات الحكم فيه بطريق التعدية لا بالنص بعينه وذلك لا وجه له.
فتبين بجميع ما ذكرنا أن القول بالاستحسان لا يكون تخصيص العلة في شئ، ولكن في اختبار هذة العبارة اتباع الكتاب والسنة والعلماء من السلف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وكثيرا ما كان يستعمل ابن مسعود هذه العبارة، ومالك بن أنس في كتابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع.
وقال الشافعي رحمه الله: أستحسن في المتعة ثلاثين درهما.
فعرفنا أنه لا طعن في هذه العبارة، ومن حيث المعنى
هو قول بانعدام الحكم عند انعدام العلة، وأحد لا يخالف هذا، فإنا إذا جوزنا دخول الحمام بأجر بطريق الاستحسان فإنما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس لانعدام علة الفساد، وهو أن فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة بل لانها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم، والتسلم وهذا لا يوجد هنا وفي نظائره، فكان انعدام الحكم لانعدام العلة لا أن يكون بطريق تخصيص العلة.
فصل: في بيان فساد القول بجواز التخصيص في العلل الشرعية قال رضي الله عنه: زعم أهل الطرد أن الذي يقولون بالعلل المؤثرة ويجعلون التأثير مصححا للعلل الشرعية لا يجدون بدا من القول بتخصيص العلل الشرعية، وهو غلط عظيم كما نبينه.
وزعم بعض أصحابنا أن التخصيص في العلل الشرعية جائز وأنه غير مخالف لطريق السلف ولا لمذهب أهل السنة، وذلك خطأ عظيم من قائله، فإن مذهب من هو مرضي من سلفنا أنه لا يجوز التخصيص في العلل الشرعية، ومن جوز ذلك فهو مخالف لاهل السنة،
مائل إلى أقاويل المعتزلة في أصولهم.
وصورة التخصيص أن المعلل إذا أورد عليه فصل يكون الجواب فيه بخلاف ما يروم إثباته بعلته، يقول موجب علتي كذا إلا أنه ظهر مانع فصار مخصوصا باعتبار ذلك المانع، بمنزلة العام الذي يخص منه بعض ما يتناوله بالدليل الموجب للتخصيص.
ثم من جوز ذلك قال: التخصيص غير المناقضة لغة وشرعا وفقها وإجماعا.
أما اللغة فلان النقض إبطال فعل قد سبق بفعل نشأه كنقض البنيان.
والتخصيص بيان أن المخصوص لم يدخل في الجملة فكيف يكون نقضا ؟ ألا ترى أن ضد النقض البناء والتأليف، وضد الخصوص العموم.
ومن حيث السنة التخصيص جائز في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والتناقض لا يجوز فيهما بحال.
ومن حيث الاجماع فالقياس الشرعي يترك العمل به في بعض المواضع بالنص أو الاجماع أو الضرورة، وذلك يكون تخصيصا لا مناقضة، ولهذا بقي ذلك القياس موجبا للعمل في غير ذلك الموضع،
والقياس المنتقض فاسد لا يجوز العمل به في موضع.
ومن حيث المعقول إن المعلل متى ذكر وصفا صالحا وادعى أن الحكم متعلق بذلك الوصف فيورد عليه فصل يوجد فيه ذلك الوصف ويكون الحكم بخلافه، فإنه يحتمل أن يكون ذلك لفساد في أصل علته، ويحتمل أن يكون ذلك لمانع منع ثبوت الحكم، ألا ترى أن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب النامي، ثم يمتنع وجوب الزكاة بعد وجوده لمانع وهو انعدام حصول النماء بمضي الحول، ولم يكن ذلك دليل فساد السبب، والبيع بشرط الخيار يمنع ثبوت الملك به لمانع وهو الخيار المشروط لا لفساد أصل السبب وهو البيع.
فأما إذا قال هذا الموضع صار مخصوصا من علتي لمانع فقد ادعى شيئا محتملا فيكون مطالبا
بالحجة، فإن أبرز مانعا صالحا فقد أثبت ما ادعاه بالحجة فيكون ذلك مقبولا منه وإلا فقد سقط احتجاجه، لان المحتمل لا يكون حجة، وبه فارق المدعي التخصيص في النص، فإنه لا يطالب بإقامة الدليل على ما يدعي أنه صار مخصوصا مما استدل به من عموم الكتاب والسنة، لانه ليس فيما استدل به احتمال الفساد، فكان جهة التخصيص متعينا فيه بالاجماع، وهنا في علته احتمال الفساد، فما لم يتبين دليل الخصوص فيما ادعى أنه مخصوص من علة لا ينتفي عنه معنى الفساد، فلهذا لا يقبل منه ما لم يتبين المانع.
ثم جعل القائل الموانع خمسة أقسام: ما يمنع أصل العلة، وما يمنع تمام العلة، وما يمنع ابتداء الحكم، وما يمنع تمام الحكم، وما يمنع لزوم الحكم، وذلك يتبين كله حسا وحكما، فمن حيث الحس يتبين هذا كله في الرمي، فإن انقطاع الوتر أو انكسار فوق السهم يمنع أصل الفعل الذي هو رمي بعد تمام قصد الرامي إلى مباشرته، وإصابة السهم حائطا أو شجرة ترده عن سننه يمنع تمام العلة بالوصول إلى المرمى، ودفع المرمي إليه عن نفسه بترس يجعله أمامه يمنع ابتداء الحكم الذي يكون الرمي لاجله بعد تمام العلة بالوصول إلى المقصد وذلك الجرح والقتل، ومداواته الجراحة بعدما أصابه حتى اندمل وبرأ يمنع تمام الحكم، وإذا صار به صاحب فراش ثم تطاول حتى أمن الموت منه يمنع
لزوم الحكم، بمنزلة صاحب الفالج إذا تطاول ما به وامن الموت منه كان بمنزلة الصحيح في تصرفاته.
وفي الحكميات اضافة البيع الحر يمنع انعقاد اصل العلة، واضافة الى مال الغير يمنع انعقاد تمام العلة في حق المالك حتى يتعين جهة البطلان فيه بموته، واشتراط الخيار من المالك لنفسه في البيع يمنع ابتداء الحكم، وثبوت خيار الرؤية للمشترى يمنع الحكم حتى لا تتم
الصفقة معه، وثبوت خيار العيب يمنع لزوم الحكم حتى يتمكن من رده بعد تمام الصفقة بالنقض.
والحجة لعلمائنا في ابطال القول بتخصيص العلة الاستدلال بالكتاب، والمعقول، والبيان الذى لا يمكن انكاره.
اما الكتاب فقوله تعالى: (قل الذكرين حرم ام الانثيين، اما اشتملت عليه ارحام الانثيين نبئونى بعلم ان كنتم صادقين) ففيه مطالبة الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة على وجه لا مدفع لهم فصاروا محجوجين به.
وذلك الوجه انهم إذا بينوا احد هذه المعاني ان الحرمة لاجله انتقض عليهم باقرار هم بالحل في الموضع الاخر مع ذلك المعنى فيه، ولو كان التخصيص في علل الاحكام الشرعية جائزا ما كانوا محجوجين، فان احدا لا يعجز من ان يقول امتنع ثبوت حكم الحرمة في ذلك الموضع لمانع، وقد كانوا عقلاء يعتقدون الحل في الموضع الاخر لشبهة أو معنى تصورهم عندهم.
وقوله تعالى: (نبئونى بعلم) اشارة الى ان المصير الى تخصيص العلل الشرعية ليس من العلم في شئ فيكون جهلا.
واما المعقول فلان العلل الشرعية حكمها التعدية كما قررنا، وبدون التعدية لا تكون صحيحة اصلا، لانها خالية عن موجبها، وإذا جاز قيام المانع في بعض المواضع الذى يتعدى الحكم إليه بهذه العلة جاز قيامه في جميع المواضع فيؤدى الى القول بانها علة صحيحة من غير ان يتعدى الحكم بها الى شئ من الفروع، وقد اثبتنا فساد هذا القول بالدليل.
ثم ان كان تعدية الحكم بها الى فرع
دليل صحتها فانعدام تعدية الحكم بها الى فرع اخر توجد فيه تلك العلة دليل فسادها، ومع مساواة دليل الصحة والفساد لا تثبت الحجة الشرعية موجبة
للعمل يقرره ان المانع الذى يدعى في الموضع المخصوص لابد ان يكون ثابتا بمثل ما ثبتت به العلة الموجبة للحكم، لانه إذا كان دونه لا يصلح دافعا له ولا مانعا لحكمه، وإذا كان مثلا له فذلك المانع يمكن تعليله بعلة توجب تعدية حكم النفى الى سائر الفروع مثل الذى علله المعلل بما اشار إليه من الوصف لاثبات الحكم فيه فتتحقق المعارضة بينهما من هذه الوجه، واى مناقصة ابين من التعارض على وجه المضادة بصفة التساوى ثم قد بينا فيما سبق ان دليل الخصوص يشبه النسخ بصيغة والاستثناء بحكمه، فانه مستقل بنفسه كدليل النسخ ولا يكون ذلك الا مقارنا معنى كالاستثناء، وواحد من هذين الوجهين لا يتحقق في العلل، فان نسخ العلة بالعلة لا يجوز والخصم يجوز ان يكون المانع علة مثل العلة التى يدعى تخصيصها، وكيف يجوز النسخ والعلة فيها احتمال الفساد لكونها مستنبطة بالراى.
فإذا ظهر ما يمنع العمل بها اصلا تتعين جهة الفساد فيها، بخلاف النص فانه لا يحتمل جهة الفساد، فالنسخ يكون بيانا لمدة العمل به.
ولهذا نوع بيان اخر، فان بالخصوص يتبين انه معمول به في بعض المحال دون البعض، وذلك انما يجوز فيما يجوز القول فيه بالنسخ مع صحته حتى يقال انه معمول به في بعض الاوقات دون البعض، والاستثناء انما يكون في العبارات ليتبين به في بعض الاوقات دون البعض، والاستثناء وذلك لا يتحقق في المعاني الخالصة.
فيتبين بما ذكرنا ان القول بالتخصيص مستقيم في النصوص من حيث ان بدليل الخصوص لا يتمكن شبهة الفساد في النص بوجه، بل يتبين ان اسم النص لم يكن متناولا للموضع المخصوص، مع كون العام صحيحا موجبا للعمل قطعا قبل قيام دليل الخصوص، فمن تخصيص العلة لا يجد بدا من القول بتصويب المجتهدين أجمع، وعصمته الاجتهاد عن احتمال الخطأ والفساد كعصمة النص من ذلك،
وهذا تصريح بأن كل مجتهد مصيب لما هو الحق حقيقة وأن الاجتهاد يوجب علم اليقين، وفيه قول بوجوب الاصلح، وفيه من وجه آخر قول بالمنزلة بين المنزلتين، وبالخلود في النار لاصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة.
فهذا معنى قولنا: إن في القول بجواز تخصيص العلة ميلا إلى أصول المعتزلة من وجوه.
ولكنا نقول: انعدام الحكم لا يكون إلا بعد نقصان وصف أو زيادة وصف وهو الذي يسمونه مانعا مخصصا، وبهذه الزيادة والنقصان تتغير العلة لا محالة، فيصير ما هو علة الحكم منعدما حكما، وعدم الحكم عند انعدام العلة لا يكون من تخصيص العلة في شئ.
وبيان هذا أن الموجب للزكاة شرعا هو النصاب النامي الحولي، عرف بقوله عليه السلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) والمراد نفي الوجوب، والعلل الشرعية لا توجب الحكم بذواتها بل بجعل الشرع إياها موجبة على ما بينا أن الموجب هو الله تعالى، والاضافة إلى العلة لبيان أن الشرع جعلها موجبة تيسيرا علينا، فإذا كانت بهذا الوصف موجبة شرعا عرفنا أن عند انعدام هذا الوصف ينعدم الحكم لانعدام العلة الموجبة.
ولا يلزمنا جواز الاداء لان العلة الموجبة غير العلة المجوزة للاداء، وقد قررنا هذا فيما سبق أن الجزء الاول من الوقت مجوز أداء الصلاة فرضا وإن لم يكن موجبا للاداء عينا مع أن هذا الوصف مؤثر، فإن النماء الذي هو مقصود إنما يحصل بمضي المدة، ألا ترى أن الوجوب يتكرر بتكرر الحول لتجدد معنى النماء بمضي كل حول، وكذلك البيع بشرط الخيار، فإن الموجب للملك شرعا البيع المطلق ومع شرط الخيار لا يكون مطلقا بل بهذه الزيادة يصير البيع في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وقد بينا أن المتعلق بالشرط غير المطلق، ولصفة الاطلاق تأثير أيضا
فإن الموجب للملك بالنص التجارة عن تراض وتمام الرضا يكون عند إطلاق الايجاب لا مع شرط الخيار، فظهر أن العلة تنعدم بزيادة وصف أو نقصان
وصف، وهو الحاصل الذي يجب مراعاته، فإنهم يسمون هذا المعنى المغير مانعا مخصصا، فيقولون: انعدام الحكم مع بقاء العلة بوجود مانع وذلك تخصيص كالنص العام يلحقه خصوص فيبقى نصا فيما وراء موضع الخصوص.
ونحن نقول: تنعدم العلة حين ثبت المغير فينعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا في العلل مستقيم، بخلاف النصوص فإن بالنص الخاص لا ينعدم النص العام، وعلى هذا الطريق ما استحسنه علماؤنا من القياس في كتبهم، فإن الاستحسان قد يكون بالنص، وبوجود النص تنعدم العلة الثابتة بالرأي، لانه لا معتبر بالعلة أصلا في موضع النص ولا في معارضة حكم النص.
وكذلك الاستحسان إذا كان بسبب الاجماع، لان الاجماع كالنص من كتاب أو سنة في كونه موجبا العلم.
وكذلك ما يكون عن ضرورة فإن موضع الضرورة مجمع عليه أو منصوص عليه ولا يعتبر بالعلة في موضع النص فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة وكذلك إذا كان الاستحسان بقياس مستحسن ظهر قوة أثره، لما بينا أن الضعيف في معارضة القوي معدوم حكما.
وبيان ما ذكرنا في أن النائم إذا صب في حلقه ماء وهو صائم لم يفسد صومه على قول زفر، لانه معذور كالناسي أو أبلغ منه، وفسد صومه عندنا لفوات ركن الصوم، والعبادة لا تتأدى بدون ركنها فيلزم على هذا الناسي.
فمن يجوز تخصيص العلة يقول: انعدم الحكم هناك لوجود مانع وهو الاثر فكان مخصوصا من هذه العلة بهذا الطريق مع بقاء العلة.
ونحن نقول: انعدم الحكم في الناسي لانعدام العلة حكما، فإن النسيان لا صنع فيه لاحد من
العباد، وقد ثبت بالنص أن الله تعالى أطعمه وسقاه، وصار فعله في الاكل ساقط الاعتبار، وتفويت الركن إنما يكون بفعل الاكل، فإذا لم يبق فعله في الاكل شرعا كان ركن الصوم قائما حكما، وإنما لم يحصل الفطر هنا لانعدام العلة الموجبة للفطر، ثم النائم ليس في معناه، لان الفعل الذي يفوت به ركن الصوم مضاف إلى العباد هنا فيبقى معتبرا مفوتا ركن
الصوم، بخلاف إذا كان مضافا الى من له الحق.
وكذلك قلنا: إن المغصوب يصير مملوكا للغاصب عند تقرر الضمان عليه، لان بهذا السبب لما تقرر الملك في ضمان القيمة وهو حكم شرعى فيقرر الملك فيما يقابله فيلزم على هذا فصل المدبر من حيث انه يتقرر الملك في قيمته للمغصوب منه ولا يثبت الملك في المدبر للغاصب، فمن يرى تخصيص العلة يقول امتنع ثبوت الحكم في المدبر مع وجود العلة لمانع وهو انه غير محتمل للنقل من ملك الى ملك.
ونحن نقول: انعدمت العلة الموجبة للملك في المدبر فينعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا لان العلة تقرر الملك في قيمة هي بدل عن العين وقيمة المدبر ليس ببدل عن عينها، لان شرط كون القيمة بدلا عن العين ان تكون العين محتملا للتمليك وذلك لا يوجد في المدبر، لان المدبر جرى فيه عتق من وجه والعتق في المحل يمنع وجوب قيمة العين بسبب الغصب، ولكن الضمان واجب باعتبار الجناية التى تمكنت من الغاصب بتفويت يده، لان مع جريان العتق فيه من وجه قد بقيت اليد والمالية مستحقة للمالك، فان انعدام ذلك يعتمد ثبوت العتق في بقيت اليد كل وجه، فعرفنا انه انما انعدم الحكم لانعدام العلة بوجود ما يغيرها.
وكذلك إذا قلنا في الزنا انه ثبتت به حرمة المصاهرة، لان ثبوت الحرمة
في الاصل باعتبار الولد الذى يتخلق من الماءين فيصير بواسطة الولد امهاتها وبناتها في حقه كامهاته وبناته، وابناؤه وآباؤه في حقها كآبائها وابنائها.
ثم الوطء في محل الحرث سبب لحصول هذا الولد فيقام مقامه، ويلزم على هذا انه لا يتعدى الحرمة الى الاخوات والعمات والخالات من الجانبين، فمن يقول بتخصيص العلة يقول: امتنع ثبوت الحكم مع قيام العلة في هذه المواضع للنص أو الاجماع.
ونحن نقول، انما انعدم الحكم لانعدام العلة، لان في النص الموجب لحرمة المصاهرة ذكر الامهات والبنات والاباء والابناء خاصة، فامتداد الحرمة الى الاخوات والعمات والخالات يكون تغييرا
واثباتا لحرمة أخرى، لان المقصور غير الممتد، وانما يعلل المنصوص، ولا يجوز تبديل المنصوص بالتعليل، فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة لا لمانع مع قيام العلة.
وكذلك ان الزم ان الموطوءة لا تحرم على الواطئ بواسطة الولد والقرب بينهما امس، فالتخريج هكذا انه انما انعدم الحكم هناك لانعدام العلة باعتبار مورد النص كما قررنا.
وهذا اصل كبير، وفقه عظيم.
من ترك التعنت وتامل عن انصاف يخرج له جميع ما لم يذكر بما هو من نظائر ما ذكرنا عليه.
وعمدة هذا الفقه معرفته دليل الخصوص، فان النصين إذا كان احدهما عاما والاخر خاصا فالعام لا ينعدم بالخاص حقيقة ولا حكما، وليس في واحد من النصين توهم الفساد، فعرفنا ان الخاص كان مخصصا للموضع الذى تناوله من حكم العم مع بقاء العام حجة فيما وراء ذلك وان تمكن فيه نوع شبهة من حيث انه صار كالمستعار فيما هو حقيقة حكم العام.
فاما العلة وان كانت مؤثرة ففيها احتمال الفساد والخطاء وهى تحتمل الاعدام حكما،
فإذا جاء ما يغيرها جعلناها معدومة حكما في ذلك الموضع، ثم انعدم الحكم لانعدام العلة، ولا يكون فيها شئ من معنى التناقض، ولا يكون من التخصيص في شئ، والله اعلم.
باب وجوه الاحتجاج بما ليس بحجة مطلقا قال رضى الله عنه: فهذا الباب يشتمل على فصول.
فالذي نبدأ به الاحتجاج بلا دليل، فان العلماء اختلفوا فيه على أقاويل.
قال بعضهم: لا دليل حجة للنافى على خصمه ولا يكون حجة للمثبت.
وقال بعضهم: هي حجة دافعة لا موجبة.
والذى دل عليه مسائل الشافعي رحمه الله انها حجة دافعة لابقاء ما ثبت بدليله لا لاثبات ما لم يعلم ثبوته بدليله.
والذى دل عليه مسائل اصحابنا ان هذا في حق الله تعالى، فاما في حق
العباد لا تكون هي حجة لاحد الخصمين على الآخر في الدفع ولا في الايجاب لا في الابقاء ولا في الاثبات ابتداء.
فأما الفريق الاول احتجوا وقالوا: أقوى المناظرة ما يكون في إثبات التوحيد وفي أمور النبوة، فقد علمنا الله تعالى الاحتجاج بلا دليل على نفي الشرك بقوله: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجادل المشركين في إثبات نبوته، وكانوا ينفون ذلك وهو يثبت، ثم كانوا لا يطالبون على هذا النفي بشئ فوق قولهم لا دليل على نبوته، واشتغل بعد جحودهم بإثبات نبوته بالآيات المعجزة، والبراهين القاطعة، فعرفنا بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه إلى أن يثبت الخصم ما يدعي ثبوته بالدليل، وهذا لان النافي إنما لا يطالب بدليل لكونه متمسكا بالاصل وهو عدم الدليل الموجب أو المانع
والمحرم أو المبيح، ووجوب التمسك بالاصل إلى أن يظهر الدليل المغير له طريق في الشرع، ولهذا جعل الشرع البينة في جانب المدعي لا في جانب المنكر، لانه متمسك بالاصل وهو أنه لا حق للغير في ذمته ولا في يده وذلك حجة له على خصمه في الكف عن التعرض له ما لم يقم الدليل، وأيد ما ذكرنا قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) الآية، فقد علم نبيه عليه السلام الاحتجاج بعدم الدليل الموجب للحرمة على الذين كانوا يثبتون الحرمة في أشياء كالسائبة والوصيلة والحام والبحيرة، فثبت بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه.
وهذا الذي ذهبوا إليه غير موافق لشئ من العلل المنقولة عن السلف في نفي الحكم وإثباته وهو ينتهي إلى الجهل أيضا، فإنا نقول لهذا القائل: لا دليل على الاثبات عندك أو عند غيرك فإن خصمك يدعي قيام الدليل عنده، وكما أن دعواه الدليل عنده لا يكون حجة عليك حتى تبرزه فدعواك عليه أن لا دليل عندي لا يكون حجة عليه، وإن قلت لا دليل عندي فهذا إقرار منك بالجهل والتقصير في الطلب، فكيف يكون حجة على غيرك ! وإن انعدم منك التقصير في الطلب فأنت معذور إذا لم تقف على الدليل وعذرك لا يكون
حجة على الغير أصلا، ألا ترى أن في زمان النبي عليه السلام كان الناسخ ينزل فيبلغ ذلك بعض الناس دون البعض ومن لم يبلغه يكون معذورا في العمل بالمنسوخ ولا يكون ذلك حجة له على غيره.
فإن قيل: قولكم هذا غير موافق لتعليل السلف فاسد، وقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا خمس في العنبر لان الاثر لم يرد به.
وهذا احتجاج بلا دليل.
قلنا: هذا أن لو ذكر هذا اللفظ على سبيل الاحتجاج على من يوجب فيه
الخمس وليس كذلك، بل إنما ذكره على وجه بيان العذر لنفسه ثم علل فيه بعلة مؤثرة في موضع الاحتجاج على الغير على ما ذكر محمد رحمه الله، فإنه قال: لا خمس في اللؤلؤ والعنبر.
قلت: لم ؟ قال: لانه بمنزلة السمك.
قلت: وما بال السمك لا يجب فيه الخمس ؟ قال: لانه بمنزلة الماء.
وهو إشارة إلى مؤثر، فإن الاصل في الخمس الغنائم وإنما يوجب الخمس فيما يصاب مما كان أصله في يد العدو ووقع في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى الغنيمة، والمستخرج من البحار لم يكن في يد العدو قط، لان قهر الماء مانع قهرا آخر على ذلك الموضع، ثم القياس أن لا يجب الخمس في شئ وإنما أوجب الخمس في بعض الاموال بالاثر، فبين أن ما لم يرد فيه الاثر يؤخذ فيه بأصل القياس، وهذا لا يكون احتجاجا بلا دليل.
ثم نقول لهذا القائل: إنك بهذه المقالة تثبت شيئا لا محالة وهو صحة اعتقادك أن لا دليل يوجب إثبات الحكم في هذه الحادثة فعليك الدليل لاثبات ما تدعي صحته عندك، ولا دليل على خصمك لانه ينفي صحة اعتقادك هذا، ولا دليل على النافي بزعمك، ثم قولك لا دليل شئ تقوله عن علم أو لا عن علم ؟ فإن زعمت أنك تقوله عن علم فالعلم الذي يحدث للمرء لا يكون إلا بدليل، وإن زعمت أنك تقوله لا عن علم فقد نهيت عن ذلك، قال تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقال تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه)
الاية، فما يكون مذموما منهيا عنه نصا فكيف يصلح حجة على الغير ! وايد ما ذكرنا قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى، تلك امانيهم) الاية، فقد علم رسوله مطالبة النافي باقامة الدليل وذلك تنصيص على ان لا دليل لا يكون حجة والدليل عليه الخصومات،
فان انكار الخصم لا يكون حجة له على المدعى بوجه ما حتى انه بعد ما احضر مرة وجحد إذا طلب احضاره مرة اخرى احضره القاضى، وان طلب ان يكفله بنفسه أو بالعين الذى فيه الدعوى اجيره القاضى على ذلك، وإذا طلب يمينه حلفه على ذلك، فلو كان لا دليل حجة للنافى على خصمه لم يبق للمدعى عليه سبيل بعد انكاره وقوله لا حجة للمدعى.
فاما جعل الشرع القول قول المنكر فذلك باعتبار دليل من حيث الظاهر، وهو ان المدعى عين في يده واليد دليل الملك ظاهرا، أو دين في ذمته وذمته بريئة ظاهرا، ومع هذا قوله لا يكون حجة على خصمه وان حلف حتى لا يصير المدعى مقضيا عليه بشئ، ولكنه لا يتعرض له ما لم يات بحجة يثبت بها الحق عليه.
يحقق ما قلنا ان الاصل هو التفاوت بين الناس في العلم بالادلة الشرعية، واليه اشار الله تعالى في قوله: (وفوق كل ذى علم عليم) وهذا شبه المحسوس لمن يرجع الى احوال الناس، فقد يقف بعضهم على علم لا يقف عليه البعض، ومع هذا التفاوت لا يتمكن النافي من الاحتجاج بلا دليل الا بعد وقوفه على كل علم يبتنى عليه احكام الشرع، ومن ادعى هذه الدرجة لنفسه منا فهو متعنت لا يناظر، وكيف يتمكن احد من هذه الدعاوى مع قوله تعالى: (وما اوتيتم من العلم الا قليلا) وإذا علمنا يقينا ان المحتج بلا دليل لم يبلغ جميع انواع العلم عرفنا ان استدلاله بما لم يبلغه على الخصم باطل، ولهذا صح هذا النوع من الاحتجاج فيما نص الله تعالى عليه، لان الله تعالى عالم بالاشياء كلها لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا تخفى عليه خافية، فبإخباره ان لا برهان لمن يدعى الشرك حصل لنا علم اليقين بانه لا دليل على الشرك بوجه.
وكذلك قوله تعالى، (قل لا اجد فيما اوحى الى محرما) فقد صار معلوما يقينا انه لا دليل على حرمة ذلك، فكان
الاحتجاج صحيحا، ومثله لا يتصور فيما يحتج به النافي على خصمه.
ولا نقول بان نفى الكفار نبوة رسول الله وقولهم لا دليل على نبوته كان حجة لهم عليه بوجه، ولكن كان ذلك اظهارا منهم لجهلهم، وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يزيل ذلك الجهل عنهم باظهار المعجزات الدالة على نبوته.
فاما اهل المقالة الثابتة فانهم قالوا المنتفى معدوم والمعدوم ليس بشئ وانما يحتاج الى الدليل لاثبات المدلول عليه، ومعلوم ان العدم لا يكون متعلقا بدليل ولا بعدم الدليل، ولكن عدم الدليل يدل عليه كما يدل الحدث على المحدث، ثم الدليل قد يكون قائما على الاثبات عند البعض دون البعض، يقول النافي لا دليل على الاثبات محتمل يجوز ان يكون كما قال وهو انه ليس فيه دليل مشروع عند احد، ويجوز ان يكون عليه دليل عند غيره ولم يبلغه، ودعوى المثبت دليل الاثبات محتمل ايصا يجوز ان يكون صدقا بوجود الدليل عنده، ويجوز ان يكون كذبا أو غلطا فاستوى الجانبان من هذا الوجه، كما ان دعوى المثبت الدليل لا يكون حجة على خصمه ما لم يبرز الدليل لكونه محتملا والمحتمل لا فقول النافي لا دليل لا يكون حجة على خصمه لكونه محتملا ولكنه دافع لدعوى المثبت عنه بطريق المساواة في الاحتمال.
فقلنا ان قوله: لا دليل، حجة دافعة لا موجبة.
والشافعي يحتج بهذا الكلام ايضا لانه يقول: إذا كان قوله لا دليل مستندا الى دليل لا يخالف ما يقوله يكون دلك الدليل حجة على الخصم لا بمجرد قوله لا دليل.
وبيان هذا ان ما يكون محتملا للبقاء من الاحكام والصحة في العلل والجواهر فانه إذا ثبت وجوه بالدليل يكون باقيا ما لم يعترض ما يزيله، الا ترى ان الملك بالشراء متى ثبت، أو الحل بالنكاح متى ثبت،
أو الحرمة بالتطليقات الثلاث متى ثبت يكون باقيا، الا يعترض عليه
ما يزيله فما يمضي من الازمنة بعد صحة الدليل المثبت للحكم يكون الحكم فيه باقيا بذلك لدليل على احتمال أن يطرأ ما يزيله، وقبل ظهور طريان ما يزيله يكون الحكم ثابتا بذلك الدليل، بمنزلة النص العام فإنه موجب للحكم في كل ما يتناوله على احتمال قيام دليل الخصوص، فما لم يقم دليل الخصوص كان الحكم ثابتا بالعام وكان الاحتجاج به على الخصم صحيحا، فكذلك قول القائل فيما هو منتف لا دليل على إثباته، أو فيما هو ثابت بدليله لا دليل على نفيه يكون احتجاجا بذلك الدليل وذلك الدليل حجة على خصمه، فأما ما لا يستند إلى دليل فلا يبقى فيه إلا الاحتجاج بقوله لا دليل فذلك يكون حجة كما قلتم.
وعلى هذا الاصل قال: الصلح على الانكار باطل، لان نفي المنكر دعوى المدعي يستند إلى دليل وهو المعلوم من براءة ذمته في الاصل أو اليد التي هي دليل لملك له في عين المدعي، فيكون ذلك حجة له على خصمه في إبقاء ما ثبت عليه، وبعد ما ظهرت براءة ذمته في حق المدعي بهذا الدليل يكون أخذه المال رشوة على الكف عن الدعوى ولا يكون ذلك اعتياضا عن حقه فيكون باطلا، بخلاف ما إذا شهد بحرية عبد إنسان ثم اشتراه بعد ذلك فإن الشراء يكون صحيحا ويلزمه الثمن للبائع، لان نفي البائع حريته ودعواه بقاء الملك له مستند إلى دليل وهو الدليل المثبت للملك له في العبد، فيكون ذلك حجة له على خصمه في إبقاء ملكه، وباعتباره هو إنما يأخذ العوض على ملك له، وباعتباره لا يثبت الاتفاق بينهما على فساد ذلك السبب، فبهذا تعين فيه وجه الصحة ووجب الثمن على المشتري ثم يعتق عليه بعدما دخل في ملكه باعتبار زعمه.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: الدليل المثبت للحكم لا يكون موجبا بقاء الحكم بوجه من الوجوه ولكن بقاؤه بعد الوجود لاستغناء البقاء عن دليل لا لوجود الدليل المنفي.
فعرفنا أنه ليس للدليل الذي استند إليه الحكم عمل في البقاء أصلا، وأن دعوى البقاء فيما عرف ثبوته بدليله محتمل كدعوى
الاثبات فيما لا يعلم ثبوته بدليله، فكما أن هناك يستوي المثبت والنافي في أن قول كل واحد منهما لا يكون حجة على خصمه بغير دليل فكذلك هنا، وله فارق العام فإنه موجب للحكم في كل ما تناوله قطعا على احتمال قيام دليل الخصوص، فما لم يظهر دليل الخصوص كان الحكم ثابتا بنص موجب له، وهنا الدليل المثبت للحكم غير متعرض للازمنة أصلا فلا يكون ثبوته في الازمنة بعد قيام الدليل بدليل مثبت له، ولهذا لا يكون قيام دليل النفي من دليل الخصوص في شئ بل يكون نسخا، كما بيناه في باب النسخ، يوضحه أنه لما لم يكن ذلك الدليل عاملا الآن في شئ صار قول المتمسك به لا دليل على ارتفاعه كلاما محتملا، كما أن قول خصمه قام الدليل على ارتفاعه كلام محتمل فتتحقق المعارضة بينهما على وجه لا يكون زعم أحدهما حجة على الآخر ما لم يرجح قوله بدليل.
وعلى هذا الاصل قلنا في الصلح على الانكار إنه جائز، لان الدليل المثبت لبراءة ذمة المنكر أو للملك له فيما في يده غير متعرض للبقاء أصلا فكان دعوى المدعي أن المدعي حقي وملكي خبرا محتملا، وإنكار المدعى عليه لذلك خبر محتمل أيضا فكما لا يكون خبر المدعي حجة على المدعى عليه في إلزام التسليم إليه لكونه محتملا، فكذلك خبر المدعي عليه لا يكون حجة على المدعي في فساد الاعتياض عنه بطريق الصلح، ولهذا لو صالحه أجنبي على مال جاز بالاتفاق، ولو ثبت براءة ذمته في حق المدعي بدليل كما ذكره
الخصم لم يجز صلحه مع الاجنبي، كما لو أقر أنه مبطل في دعواه ثم صالح مع أجنبي.
والدليل عليه فصل الشهادة بعتق العبد على مولاه فإن الشاهد إذا اشتراه صح الشراء ولزمه الثمن لهذا المعنى، وهو أن ما أخبر به الشاهد لكونه محتملا لم يصر حجة على مولى العبد حتى جاز له الاعتياض عنه بالبيع من غيره، فيجوز له الاعتياض عنه بالبيع من الشاهد وإن كان زعمه معتبرا في حقه حتى إنه يعتق كما اشتراه لا من جهته حتى لا يكون ولاؤه له، وما كان ذلك إلا بالطريق الذي قلنا، فإن الدليل الموجب للملك للمولى لا يكون دليل بقاء ملكه بل بقاء الملك بعد ثبوته لاستغنائه عن الدليل المنفي.
وعلى هذا الاصل قلنا: مجهول الحال يكون حرا باعتبار الظاهر، ولكن لو جنى عليه جناية
فزعم الجاني أنه رقيق لا يلزمه أرش الجناية على الاحرار حتى تقوم البينة على حريته، لان ثبوت الحرية للحال ليس بدليل موجب لذلك بل باعتبار أصل الحرية لاولاد آدم وذلك لا يجوب البقاء فكان عدواه الحرية لنفسه فئ الحال محتملا ودعوى الغير الرق عليه محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق عليه محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق فيه لغيره ويجعل القول قوله في الحرية، وبالمحتمل لا يثبت دعوى استحقاق أرش الاحرار بسبب الجناية عليه غيره حتى يقيم البينة على حريته، لان قبل إقامة البينة ليس معه إلا الاحتجاج بلا دليل وذلك دافع عنه ولا يكون حجة له على غيره.
وعلى هذا لو قذف إنسانا ثم زعم أنه عبد وقال المقذوب بل هو حر، فإنه لايقام حد الاحرار عليه حتى تقوم البينة للمقذوف على حريته.
وكذلك لو قطع يد إنسان ثم زعم أنه عبد وأنه لاقصاص عليه.
وكذلك لو شهد في حادثة ثم زعم المشهود عليه أنه عبد فإن شهادته لا تكون حجة حتى تقوم البينة على حريته.
والشافعي رحمه الله يخالفنا في جميع ذلك للاصل الذى بينا له.
وعلى هذا لو اشترى شقصا من دار فطلب الشفيع الشفعة وقال
المشترى ما في يدك مما تدعى به الشفعة ليس بملك لك بل هي ملكى فإنه يكون القول قول مدعى الشفعة في دفع دعوى المشترى عما في يده، ويكون القول قول المشترى في إنكاره حق الشفعة له، حتى إن لشفيع ما لم يقم البينة على أن العين الذى في يده ملكه لا يستحق الشفعة عندنا، لان خبر كل واحد منهما محتمل فلا يكون حجة على خصمه في استحقاق ما في يده.
وعند الشافعي ملك الشفيع فيما في يده ثابت باعتبار أن قوله مستند إلى دليل ثبت فيستحق به الشفعة.
ونظير ما قاله علماؤنا قول المولى لعبده: إن لم أدخل اليوم الدار فأنت حر، ثم قال المولى بعد مضى اليوم قد دخلت وقال العبد لم تدخل، فإن القول قول المولى حتى لا يعتق العبد، ومعلوم أن قول العبد مستند إلى دليل من حيث الظاهر وهو أن الاصل عدم الدخول ولكن لما كان قوله في الحال محتملا قول المولى كذلك لم يثبت استحقاقه على المولى بما هو محتمل.
وكذلك المفقود فإنه لا يرث أحدا من أقاربه إذا مات قبل أن يظهر حاله
ومعلوم أن بقاءه حيا مستند إلى دليل وهو ما علم من حياته، ولكن لما لم يكن ذلك دليلا للبقاء اعتبر في الحال الاحتمال، فقيل لا يرثه أحد لاحتمال بقائه حيا، ولا يرث أحدا لاحتمال أنه ميت.
فإن قيل: عندي إذا استند قوله إلى دليل إنما يقبل قوله على خصمه في إبقاء ما هو مقصود له: في مسألة العتق لا مقصود للعبد في نفى دخول المولى الدار وإنما مقصوده في العتق ودعواه العتق ليس بمستند إلى دليل مثبت له.
وكذلك عدوى من يدعى حياة المفقود بعد ما مات قريب له ليس بمقصود للمدعى حتى يعتبر فيه الاستناد إلى دليله،
فأما دعوى المنكر براءة ذمته أو كون ما في يده ملكا له مقصود له وهو يستند إلى دليل كما بينا.
وكذلك دعوى مجهول الحال الحرية لنفسه مقصود له.
ودعوى الشفيع الملك لنفسه فيما في يده مقصود له، فإذا كان هذا مستندا إلى دليله وهو مقصود له كان حجة له على خصمه.
قلنا: لا فرق، فإن دعوى المنكر فساد الصلح غير مقصود له ولكن يترتب عليه ما هو المقصود له وهو سقوط المطالبة عنه بتسليم ما التزمه بالصلح، كما أن دعوى العبد أن المولى لم يدخل الدار غير مقصود له ولكن يترتب عليه ما هو مقصود له وهو عتقه باعتبار وجود الشراط.
ثم هناك لكون ما أخبر به محتملا لم يجعل حجة على خصمه، ولا يعتبر استناده إلى دليل باعتبار الاصل، فكذلك في مسألة الصلح فصل ومن الاحتجاج بلا دليل الاستدلال باستصحاب الحال، وذلك نحو ما يقول بعض أحصابنا في حكم الزكاة في مال الصبى إن الاصل عدم الوجوب فيستصحبه حتى يقوم دليل الوجوب، وفى الاستئناف أن وجوب الحقتين في مائة وعشرين ثابت بالنص والاجماع فيجب استصحابه حتى يقوم الدليل المغير، وهذا النوع من التعليل باطل، فإن ثبوت العدم وإن كان بدليل معدم فذلك لا يوجب
بقاء العدم، كما أن الدليل الموجد للشئ لا يكون دليل بقائه موجودا فكذلك الدليل المثبت للحكم لا يكون دليل بقائه ثابتا، ألا ترى أن عدم الشراء لا يمنع وجود الشراء في المستقبل، والشراء الموجب للملك لا يمنع انعدام الملك بدليله في المستقبل، ولكن البقاء بعد الوجود لاستغنائه عن الدليل، لا لان الدليل المثبت له موجب لبقائه، كما أن ثبوت الحياة بسببه لا يكون
دليل بقاء الحياة، يوضحه أن بعد ثبوت حكم هو نفي إيجاده يستدعي دليلا، فمن ادعى وجوده احتاج إلى إثباته على خصمه بدليل.
وكذلك من ادعى بقاءه منفيا فهو محتاج إلى إثباته بدليله على الخصم، إذ الدليل الاول غير موجب لذلك فليس أحدهما بالاحتجاج على صاحبه لعدم قيام الدليل بأولى من الآخر، وما كان البقاء فيما يحتمل البقاء بعد الوجود إلا نظير الوجود في الاعراض التي لا تبقى وقتين، فإن وجود شئ منه بدليل لا يكون دليل وجود مثله في الوقت الثاني.
وبيان هذا في البعير الزائد على المائة والعشرين فإن عند الخصم ينتهي به عفو الحقتين فيتم به نصاب ثلاث بنات لبون.
وعندنا هو ابتداء العفو لنصاب آخر، وليس في إيجاب الحقتين في مائة وعشرين ما يدل على واحد من الامرين، فكان الاحتجاج به لايجاب الحقتين بعد هذه الزيادة عند كمال الحول يكون احتجاجا بلا دليل.
ثم استصحاب الحال ينقسم أربعة أقسام: أحدها استصحاب حكم الحال مع العلم يقينا بانعدام الدليل المغير، وذلك بطريق الخبر عمن ينزل عليه الوحي أو بطريق الحس فيما يعرف به، وهذا صحيح قد علمنا الاستدلال به في قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) الآية، وهذا لانه لما علم يقينا بانعدام الدليل المغير وقد كان الحكم ثابتا بدليله وبقاؤه يستغني عن الدليل فقد علم بقاؤه ضرورة.
والثاني: استصحاب حكم الحال بعد دليل مغير ثابت بطريق النظر
والاجتهاد بقدر الوسع، وهذا يصلح لابلاء العذر وللدفع ولا يصلح للاحتجاج به على غيره، لان المتأمل وإن بالغ في النظر فالخصم يقول قام الدليل عندي بخلافه، وبالتأمل والاجتهاد لا يبلغ المرء درجة يعلم بها يقينا أنه لم يخف
عليه شئ من الادلة، بل يبقى له احتمال اشتباه بعض الادلة عليه، وما كان في نفسه محتملا عنده لا يمكنه أن يحتج به على غيره.
والثالث: استصحاب حكم الحال قبل التأمل والاجتهاد في طلب الدليل المغير وهذا جهل، لان قبل الطلب لا يحصل له شئ من العلم بانتفاء الدليل المغير ظاهرا ولا باطنا، ولكنه يجهل ذلك بتقصير منه في الطلب، وجهله لا يكون حجة على غيره ولا عذرا في حقه أيضا إذا كان متمكنا من الطلب إلا أن لا يكون متمكنا منه.
وعلى هذا قلنا: إذا أسلم الذمي في دار الاسلام ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى عليه زمان فعليه قضاء ما ترك، بخلاف الحربي إذا أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان.
وعلى هذا قلنا: من لم يجتهد بعد الاشتباه في أمر القبلة حتى صلى إلى جهة فإنه لا تجزيه صلاته ما لم يعلم أنه أصاب، بخلاف ما إذا اجتهد وصلى إلى جهة فإنه تجزيه صلاته وإن تبين أنه أخطأ.
والنوع الرابع: استصحاب الحال (لاثبات الحكم ابتداء، وهذا خطأ محض وهو ضلال محض ممن يتعمده لان استصحاب الحال) كاسمه، وهو التمسك بالحكم الذي كان ثابتا إلى أن يقوم الدليل المزيل، وفي إثبات الحكم ابتداء لا يوجد هذا المعنى، ولا عمل لاستصحاب الحال فيه صورة ولا معنى، وقد بينا في مسألة المفقود أن الحياة المعلومة باستصحاب الحال يكون حجة في إبقاء ملكه في ماله على ما كان، ولا يكون حجة في إثبات الملك له ابتداء في مال قريبه إذا مات.
وبعض أصحاب الشافعي يجعلونه حجة في ذلك، لا باعتبار أنهم يجوزون إثبات الحكم ابتداء باستصحاب الحال، بل باعتبار أنه يبقى للوارث
الملك الذي كان للمورث، فإن الوراثة خلافة، وقد بينا أن عنده استصحاب
الحال فيما يرجع إلى الابقاء حجة على الغير.
ولكنا نقول: هذا البقاء في حق المورث، فأما في حق الوارث فصفة المالكية تثبت له ابتداء واستصحاب الحال لا يكون حجة فيه بوجه.
وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ادعى عينا في يد إنسان أنه له ميراث من أبيه وأقام الشاهدين فشهدا أن هذا كان لابيه لم تقبل هذه الشهادة.
وفي قول أبي يوسف الآخر تقبل، لان الوراثة خلافة فإنما يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث، ولهذا يرد بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه المورث، وما ثبت فهو باق لاستغناء البقاء عن دليل.
وهما يقولان في حق الوارث: هذا في معنى ابتداء التملك، لان صفة المالكية تثبت له في هذا المال بعد أن لم يكن مالكا، وإنما يكون البقاء في حق المورث أن لو حضر بنفسه يدعي أن العين ملكه فلا جرم إذا شهد الشاهدان أنه كان له كانت شهادة مقبولة كما إذا شهدا أنه له، فأما إذا كان المدعي هو الوارث وصفة المالكية للوارث تثبت ابتداء بعد موت المورث فهذه الشهادة لا تكون حجة للقضاء بالملك له، لان طريق القضاء بها استصحاب الحال وذلك غير صحيح.
فصل ومن هذه الجملة الاستدلال بتعارض الاشباه، وذلك نحو احتجاج زفر رحمه الله في أنه لا يجب غسل المرافق في الوضوء، لان من الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فمع الشك لا تثبت فرضية الغسل فيما هو غاية بالنص، لان هذا في الحقيقة احتجاج بلا دليل لاثبات حكم، فإن الشك الذي يدعيه أمر حادث فلا يثبت حدوثه إلا بدليل.
فإن قال: دليله تعارض الاشباه.
قلنا: وتعارض الاشباه أيضا حادث فلا يثبت إلا بالدليل.
فإن قال: الدليل عليه ما أعده من الغايات مما يدخل بالاجماع وما لا يدخل بالاجماع.
قلنا: وهل تعلم أن هذا المتنازع فيه
من أحد النوعين بدليل ؟ فإن قال أعلم ذلك.
قلنا: فإذن عليك أن لا تشك فيه بل
تلحقه بما هو من نوعه بدليله.
وإن قال: لا أعلم ذلك.
قلنا: قد اعترفت بالجهل، فإن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه وذلك لا يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل.
فصل ومن هذه الجملة الاحتجاج بالاطراد على صحة العلة إما وجودا أو وجودا وعدما، فإنه احتجاج بلا دليل في الحقيقة، ومن حيث الظاهر هو احتجاج بكثرة أداء الشهادة، وقد بينا أن كثرة أداء الشهادة وتكرارها من الشاهد لا يكون دليل صحة شهادته.
ثم الاطراد عبارة عن سلامة الوصف عن النقوض والعوارض، والناظر وإن بالغ في الاجتهاد بالعرض على الاصول المعلومة عنده فالخصم لا يعجز من أن يقول عندي أصل آخر هو مناقض لهذا الوصف أو معارض، فجهلك به لا يكون حجة لك علي، فتبين من هذا الوجه أنه احتجاج بلا دليل، ولكنه فوق ما تقدم في الاحتجاج به من حيث الظاهر، لان من حيث الظاهر الوصف صالح، ويحتمل أن يكون حجة للحكم إذا ظهر أثره عند التأمل، ولكن لكونه في الحقيقة استدلالا على صحته بعدم النقوض والعوارض لم يصلح أن يكون حجة لاثبات الحكم.
فإن قيل: أليس أن النصوص بعد ثبوتها يجب العمل بها، واحتمال ورود الناسخ لا يمكن شبهة في الاحتجاج بها قبل أن يظهر الناسخ فكذلك
ما تقدم ؟ قلنا: أما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا احتمال للنسخ في كل نص كان حكمه ثابتا عند وفاته، فأما في حال حياته فهكذا نقول: إن الاحتجاج به لاثبات الحكم ابتداء صحيح، فأما لابقاء الحكم أو لنفي الناسخ لا يكون صحيحا، لان احتمال بقاء الحكم واحتمال قيام دليل النسخ فيه كان بصفة واحدة، وقد قررنا هذا في باب النسخ.
ثم الطرديات الفاسدة أنواع.
منها ما لا يشكل فساده على أحد.
ومنها ما يكون (بزيادة وصف في الاصل به يقع الفرق.
ومنها ما يكون) بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا.
ومنها ما يكون استدلالا بالنفي والعدم.
وبيان النوع الاول: فيما علل به بعض أصحاب الشافعي لكون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة لانها عبادة ذات أركان لها تحليل وتحريم، فكان من أركان ما له عدد السبع كالحج في حق الطواف، وربما يقولون: الثلاث أحد عددي مدة المسح فلا يتأدى به فرض القراءة في الصلاة كالواحد، وما دون الثلاث قاصر عن السبع فلا يتأدى به فرض القراءة كما دون الآية.
ونحو ما يحكى عن بعضهم في أن الرجعة لا تحصل بالفعل، لان الوطئ فعل ينطلق مرة ويتعلق أخرى فلا تثبت به الرجعة كالقتل.
ونحو ما يحكى عن بعض أصحابنا في الوضوء بغير النية أن هذا حكم متعلق بأعضاء الطهارة فلا تشترط النية في إقامته كالقطع في السرقة والقصاص.
هذا النوع مما لا يخفى فساده على أحد، ولم ينقل من هذا الجنس شئ عن السلف إنما أحدثه بعض الجهال ممن كان بعيدا من طريق الفقهاء، فأما علل السلف ما كانت تخلو عن الملاءمة أو التأثير، ولهذا كان الواحد منهم يتأمل مدة فلا يقف في حادثة إلا على قياس أو قياسين، والواحد من المتأخرين ربما
يتمكن في مجلس واحد من أن يذكر في حادثة خمسين علة من هذا النحو أو أكثر، ولا مشابهة بين غسل الاعضاء في الطهارة وبين القطع في السرقة، ولا بين مدة المسح والقراءة في الصلاة، ولا بين الطواف بالبيت وقراءة الفاتحة، فعرفنا أن هذا النوع مما لا يخفى فساده.
وأما ما يكون بزيادة وصف فنحو تعليل بعض أصحاب الشافعي في مس الذكر إنه حدث، لانه مس الفرج فينتقض الوضوء به كما لو مسه عند البول، فإن هذا القياس لا يستقيم إلا بزيادة وصف في الاصل وبذلك
الوصف يثبت الفرق بين الفرع والاصل ويثبت الحكم به في الاصل.
وكذلك قولهم في إعتاق المكاتب عن الكفارة إنه تكفير بتحرير المكاتب فلا يجوز، كما لو أدى بعض بدل الكتابة ثم أعتقه، لان استقامة هذا القياس بزيادة وصف في الاصل به يقع الفرق، وهو أن المستوفى من البدل يكون عوضا، والتكفير لا يجوز بالاعتاق بعوض.
ونحو ما علل بعضهم في شراء الاب بنية الكفارة إنه تكفير بتحرير أبيه فلا يجوز، كما لو كان حلف بعتقه إن ملكه، فإن استقامة هذا التعليل بزيادة وصف به يقع الفرق من حيث إن المحلوف بعتقه إذا عتق عند وجود الشرط لا يصير مكفرا به وإن نواه عند ذلك أبا كان أو أجنبيا.
والنوع الثالث: نحو ما يعلل به بعض أصحاب الشافعي في أن الاخ لا يعتق على أخيه إذا ملكه.
قال: عتق الاخ تتأدى به الكفارة فلا يثبت بمجرد الملك كعتق ابن العم.
وهذا تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا، فإن عندنا عتق القريب وإن كان مستحقا عند وجود الملك تتأدى به الكفارة حتى قلنا: إذا اشترى أباه بنية الكفارة يجوز، خلافا
للشافعي رحمه الله.
ونحو ما علل به بعضهم في الكتاب الحالة أنها لا تمنع جواز التكفير بتحريره فتكون فاسدة كالكتابة على القيمة، فإن هذا تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا، لان التكفير بإعتاق المكاتب كتابة صحيحة جائزة عندنا، وربما يكون هذا الاختلاف في الاصل نحو ما يعلل به بعض.
أصحاب الشافعي في الافطار بالاكل والشرب إنه إفطار بالمطعوم، فلا يوجب الكفارة كما لو كان في يوم أبصر الهلال وحده ورد الامام شهادته.
وأما النوع الرابع: فنحو تعليل الشافعي في النكاح إنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال لانه ليس بمال، وفي الاخ لا يعتق على أخيه لانه ليس
بينهما بعضية، وفي المبتوتة إنه لا يلحقها الطلاق لانه ليس بينهما نكاح، وفي إسلام المروي بالمروي إنه يجوز لانه لم يجمع البدلين الطعم والثمنية، وهذا فاسد لانه استدلال بعدم وصف والعدم لا يصلح أن يكون موجبا حكما، وقد بينا أن العدم الثابت بدليل لا يكون بقاؤه ثابتا بدليل فكيف يستدل به لاثبات حكم آخر.
فإن قيل: مثل هذا التعليل كثير في كتبكم.
قال محمد رحمه الله: ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف لانه ليس بمال، والزوائد لا تضمن بالغصب لانه لم يغصب الولد.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: العقار لا يضمن بالغصب لانه لم ينقله ولم يحوله.
وقال فيما لا يجب فيه الخمس: لانه لم يوجف عليه المسلمون.
وقال في تناول الحصاة: لا تجب الكفارة لانه ليس بمطعوم.
وقال في الجد: لا يؤدي صدقة الفطر عن النافلة لانه ليس عليه ذلك.
فهذا استدلال بعدم وصف أو حكم.
قلنا: أولا هذا عندنا غير مذكور على وجه المقايسة بل على وجه الاستدلال
فيما كان سببه واحدا معينا بالاجماع نحو الغصب، فإن ضمان الغصب سببه واحد عين وهو الغصب، فالاستدلال بانتفاء الغصب على انتفاء الضمان يكون استدلالا بالاجماع.
وكذلك وجوب ضمان المال بسبب يستدعي المماثلة بالنص وله سبب واحد عين وهو إتلاف المال، فيستقيم الاستدلال بانتفاء المالية في المحل على انتفاء هذا النوع من الضمان، وكذلك إذا كان دليل الحكم معلوما في الشرع بالاجماع نحو الخمس فإنه واجب في الغنيمة لا غير وطريق الاغتنام الايجاف عليه بالخيل والركاب، فالاستدلال به لنفي الخمس يكون استدلالا صحيحا، وقد بينا أنه إبلاء العذر في بعض المواضع لا الاحتجاج به على الخصم.
فأما تعليل النكاح بأنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال يكون تعليلا بعدم الوصف وعدم الوصف لا يعدم الحكم لجواز أن يكون الحكم ثابتا باعتبار وصف آخر، لانه وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما يثبت مع الشبهات والاصل المتفق عليه الحدود والقصاص، وبهذا الوصف لا يصير النكاح بمنزلة الحدود والقصاص حتى يثبت مع الشبهات بخلاف الحدود والقصاص، فعرفنا أن بعدم هذا الوصف لا ينعدم وصف آخر يصلح التعليل به لاثباته بشهادة
النساء مع الرجال.
وكذلك ما علل به من أخوات هذا الفصل فهو يخرج على هذا الحرف إذا تأملت.
فصل ومن هذا النوع الاحتجاج بأن الاوصاف محصورة عند القائسين، فإذا قامت الدلالة على فساد سائر الاوصاف إلا وصفا واحدا تثبت به صحة ذلك الوصف ويكون حجة.
هذا طريق بعض أصحاب الطرد.
وقد جوز الجصاص رحمه الله تصحيح الوصف للعلة بهذا الطريق.
قال الشيخ رحمه الله: وقد كان
بعض أصدقائي عظيم الجد في تصحيح هذا الكلام، بعلة أن الاوصاف لما كانت محصورة وجميعها ليست بعلة للحكم بل العلة وصف منها، فإذا قام الدليل على فساد سائر الاوصاف سوى واحد منها ثبت صحة ذلك الوصف بدليل الاجماع كأصل الحكم، فإن العلماء إذا اختلفوا في حكم حادثة على أقاويل، فإذا ثبت بالدليل فساد سائر الاقاويل إلا واحدا ثبت صحة ذلك القول، وذلك نحو اختلاف العلماء في جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه، فإنا إذا أفسدنا قول من يقول بالرجوع إلى قول القائف، وقول من يقول بالقرعة، وقول من يقول بالتوقف إنه لا يثبت النسب من واحد منهما يثبت به صحة قول من يقول بأنه يثبت النسب منهما جميعا.
وإذا قال لنسائه الاربعة: إحداكن طالق ثلاثا ووطئ ثلاثا منهن حتى يكون ذلك دليلا على انتفاء المحرمة عنهن تعين بها الرابعة محرمة، فكان تقرب هذا من الادلة العقلية.
قال الشيخ: وعندي أن هذا غلط لا نجوز القول به، وهو مع ذلك نوع من الاحتجاج بالدليل.
أما بيان الغلط فيه وهو أن ما يجعله هذا القائل دليل صحة علته هو الدليل على فساده، لانه لا يمكنه سلوك هذا الطريق إلا بعد قوله بالمساواة بين الاوصاف في أن كل وصف منها صالح أن يكون علة للحكم، وبعد ثبوت هذه المساواة فالدليل الذي يدل على فساد بعضها هو الدليل على فساد ما بقي منها، لانه متى علم المساواة بين شيئين في الحكم ثم ظهر لاحدهما حكم بالدليل فذلك الدليل يوجب مثل
ذلك الحكم في الآخر، كمن يقول لغيره: اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول أعط زيدا درهما، يكون ذلك تنصيصا على أنه يعطي عمرا أيضا درهما، فعرفنا أنه لا وجه للتحرز عن هذا الفساد إلا ببيان تفاوت بين هذا الوصف وبين سائر الاوصاف في كونه علة للحكم، وذلك التفاوت لا يتبين إلا ببيان التأثير
أو الملاءمة فيضطر إلى بيانه شاء أو أبى، ثم وإن قام الدليل على فساد سائر الاوصاف على وجه لا عمل لذلك الدليل في إفساد هذا الوصف الواحد، فنحن نتيقن أن ذلك الدليل كما لا يوجب فساد هذا الوصف لا يوجب صحته، فلا يبقى على تصحيح هذا الوصف دليلا سوى أنه لم يقم الدليل على فساده، ولو جاز إثبات الوصف موجبا للحكم بهذا الطريق لجاز إثبات الحكم بدون هذا الوصف بهذا الطريق، وهو أن يقول حكم الحادثة كذا لانه لم يقم الدليل على فساد هذا الحكم، وما قاله من الاستدلال بالحكم فهو وهم، لان بإفساد مذهب الخصم لا يثبت صحة مذهب المدعي للحكم بوجه من الوجوه، وكيف يثبت ذلك والمبطل دافع والمدعي للحكم مثبت وحجة الدفع غير حجة الاثبات.
ثم الدليل على أن بقيام دليل الفساد في سائر الاوصاف لا تثبت صحة الوصف الذي ادعاه المعلل في الشرعيات أن من أحكام الشرع ما هو غير معلول أصلا بل الحكم فيه ثابت بالنص، فبقيام الدليل على فساد سائر الاوصاف لا ينعدم احتمال قيام الدليل على فساد هذا الوصف حقيقة ولا حكما من هذا الوجه، لجواز أن يكون هذا النص غير معلول أصلا، وبه فارق العقليات، ثم احتمال الصحة والفساد في هذا الوصف بالاجماع كان مانعا من جعله حجة لاثبات الحكم قبل قيام الدليل على فساد سائر الاوصاف، فكذلك بعده لان احتمال تعينه قائم.
باب: وجوه الاعتراض على العلل قال رضي الله عنه: العلل نوعان: طردية ومؤثرة.
والاعتراض على كل نوع من وجهين: فاسد وصحيح.
فالاعتراضات الفاسدة على العلل المؤثرة أربعة: المناقضة، وفساد الوضع، ووجود الحكم مع عدم العلة، والمفارقة بين
الاصل والفرع.
والصحيحة أربعة: الممانعة، ثم القلب المبطل، ثم العكس
الكاسر، ثم المعارضة بعلة أخرى.
فأما المناقضة فإنها لا ترد على العلل المؤثرة، لان التأثير لا يتبين إلا بدليل الكتاب أو السنة أو الاجماع.
وهذه الادلة لا تتناقض، فإن أحكام الشرع عليها تدور ولا تناقض في أحكام الشرع، وقد بينا أنه لا توجد العلة بدون الحكم على الوجه الذي ظهر أثرها في الحكم، بل لا بد أن ينعدم الحكم لتغير وصف بنقصان أو زيادة، وبه تتبدل العلة فتنعدم العلة المؤثرة التي أثبت المعلل الحكم بها، وانعدام الحكم عند انعدام العلة لا يكون دليل انتقاض العلة.
وهو نظير الشاهد فإنه مع استجماع شرائط الاداء إذا ترك لفظة الشهادة أو زاد عليها فقال فيما أعلم فإنه لا يجوز العمل بشهادته، وكان ذلك باعتبار انعدام العلة الموجبة للعمل بشهادته معنى.
وبيان هذا أنا إذا عللنا في تكرار المسح بالرأس أنه مسح مشروع في الطهارة فلا يستن تثليثه كالمسح بالخف لا يدخل الاستنجاء بالاحجار نقضا، لان المسح هناك غير مشروع في الطهارة إنما المشروع إزالة النجاسة العينية حتى لو تصور خروج الحدث من غير أن يتنجس شئ مما هو طاهر لم يجب المسح أصلا، وإزالة النجاسة غير المسح وهو لا يحصل بالمرة إلا نادرا، فعرفنا أن انعدام الحكم لانعدام العلة.
وأما فساد الوضع فهو اعتراض فاسد على العلة المؤثرة، لانه دعوى لا يمكن تصحيحها، فإن تأثير العلة إنما يثبت بدليل موجب للحكم كما بينا، ومعلوم أنه لا يجوز دعوى فساد الوضع في الكتاب والسنة والاجماع.
وأما وجود الحكم مع عدم العلة فإن الحكم يجوز أن يكون ثابتا بعلة أخرى، لان ثبوته بعلة لا ينافي كونه ثابتا بعلة أخرى، ألا ترى أن الحكم يجوز أن يثبت بشهادة الشاهدين، ويجوز أن يثبت بشهادة أربعة
حتى إذا رجع اثنان قبل القضاء يبقى القضاء واجبا بشهادة الباقيين.
وكذلك يجوز أن يكون الاصل معلولا بعلتين يتعدى الحكم بإحداهما إلى فروع
وبالاخرى إلى فروع أخر فلا يكون انعدام العلة مع بقاء الحكم في موضع ثابتا بالعلة الاخرى دليل فساد العلة.
فأما المفارقة فمن الناس من ظن أنها مفاقهة، ولعمري المفارقة مفاقهة ولكن في غير هذا الموضع، فأما على وجه الاعتراض على العلل المؤثرة تكون مجادلة لا فائدة فيها في موضع النزاع.
وبيان هذا من وجوه ثلاثة: أحدها أن شرط صحة القياس لتعدية الحكم إلى الفروع تعليل الاصل ببعض أوصافه لا بجميع أوصافه، وقد بينا أنه متى كان التعليل بجميع أوصاف الاصل لا يكون مقايسة، فبيان المفارقة بين الاصل والفرع بذكر وصف آخر لا يوجد ذلك في الفرع ويرجع إلى بيان صحة المقايسة، فأما أن يكون ذلك اعتراضا على العلة فلا.
ثم ذكر وصف آخر في الاصل يكون ابتداء دعوى والسائل جاهل مسترشد في موقف المنكر إلى أن تتبين له الحجة لا في موضع الدعوى، وإن اشتغل بإثبات دعواه فذلك لا يكون سعيا في إثبات الحكم المقصود وإنما يكون سعيا في إثبات الحكم في الاصل وهو مفروغ عنه، ولا يتصل ما يثبته بالفرع إلا من حيث إنه ينعدم ذلك المعنى في الفرع وبالعدم لا يثبت الاتصال، وقد بينا أن العدم لا يصلح أن يكون موجبا شيئا، فكان هذا منه اشتغالا بما لا فائدة فيه.
والثالث ما بينا أن الحكم في الاصل يجوز أن يكون معلولا بعلتين ثم يتعدى الحكم إلى بعض الفروع بإحدى العلتين دون الاخرى، فبان انعدام في الفرع الوصف الذي يروم به السائل الفرق، وإن سلم له أنه علة لاثبات
الحكم في الاصل فذلك لا يمنع المجيب من أن يعدي حكم الاصل إلى الفرع بالوصف الذي يدعيه أنه علة للحكم، وما لا يكون قدحا في كلام المجيب فاشتغال السائل به يكون اشتغالا بما لا يفيد، وإنما المفاقهة في الممانعة حتى يبين المجيب تأثير علته، فالفقه حكمة باطنة، وما يكون مؤثرا في إثبات الحكم شرعا فهو الحكمة الباطنة، والمطالبة به تكون مفاقهة،
فأما الاعراض عنه والاشتغال بالفرق يكون قبولا لما فيه احتمال أن لا يكون حجة لاثبات الحكم، واشتغالا بإثبات الحكم بما ليس بحجة أصلا في موضع النزاع وهو عدم العلة، فتبين أن هذا ليس من المفاقهة في شئ، والله أعلم.
فصل: الممانعة قال رضي الله عنه: اعلم بأن الممانعة أصل الاعتراض على العلة المؤثرة من حيث إن الخصم المجيب يدعي أن حكم الحادثة ما أجاب به، فإذا لم يسلم له ذلك يذكر وصفا يدعي أنه علة موجبة للحكم في الاصل المجمع عليه وأن هذا الفرع نظير ذلك الاصل، فيتعدى ذلك الحكم بهذا الوصف إلى الفرع، وفي هذا الحكم دعويان فهو أظهر في الدعوى من الاول، أي حكم الحادثة، وإن كانت المناظرة لا تتحقق إلا بمنع دعوى السابق عرفنا أنها لا تتحقق إلا بمنع هذه الدعاوى أيضا فيكون هو محتاجا إلى إثبات دعاويه بالحجة، والسائل منكر فليس عليه سوى المطالبة لاقامة الحجة بمنزلة المنكر في باب الدعاوى والخصومات، وإليه أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث قال للمدعي: (ألك بينة) وبالممانعة يتبين العوار، ويظهر المدعي من المنكر، والملزم من الدافع بعدما ثبت شرعا أن حجة أحدهما
غير حجة الآخر.
ثم الممانعة على أربعة أوجه: ممانعة في نفس العلة، وممانعة في الوصف الذي يذكر المعلل أنه علة، وممانعة في شرط صحة العلة أنه موجود في ذلك الوصف، وممانعة في المعنى الذي به صار ذلك الوصف علة للحكم.
أما الممانعة في نفس العلة فكما بينا أن كثيرا من العلل إذا تأملت فيها تكون احتجاجا بلا دليل، وذلك لا يكون حجة على الخصم لاثبات
الحكم.
وبيان هذا فيما علل به الشافعي رحمه الله في النكاح أنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال كالحدود والقصاص.
وهذا النوع لا يصلح حجة لايجاب الحكم عندنا على ما بينا، فترك الممانعة فيه تكون قبولا من الخصم ما لا يكون حجة أصلا وذلك دليل الجهل، فكانت الممانعة في هذا الموضع دليل المفاقهة.
وأما ممانعة الوصف الذي هو العلة فبيانه فيما علل به أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن الايداع من الصبي تسليط على الاستهلاك، فإن مثل هذا الوصف لا بد أن يكون ممنوعا عند الخصم، لان بعد ثبوته لا يبقى للمنازعة في الحكم معنى.
ونحو ما علل به أبو حنيفة فيمن اشترى قريبه مع غيره أن الاجنبي رضي بالذي وقع العتق به بعينه ونحو ما علل به علماؤنا في صوم يوم النحر أنه مشروع لانه منهي عنه، والنهي يدل على تحقق المشروع ليتحقق الانتهاء عنه كما هو موجب النهي، فإن عند الخصم مطلق النهي بمنزلة النسخ حتى ينعدم به المشروع أصلا.
فلا بد من هذه الممانعة لمن يريد الكلام في المسألة على سبيل المفاقهة.
وأما الممانعة في الشرط الذي لا بد منه ليصير الوصف علة، بيانه فيما
ذكرنا أن من الاوصاف ما يكون مغيرا حكم الاصل ومن شرط صحة العلة أن لا يكون مغيرا حكم النص، وذلك نحو تعليل الاشياء الاربعة بالطعم فإنه يغير حكم النص، لان الحكم في نصوص الربا حرمة الفضل على القدر وثبوت الحرمة إلى غاية وهو المساواة، والتعليل بالطعم يثبت في المنصوص حرمة فضل لا على القدر، وحرمة مطلقة لا إلى غاية المساواة، يعني في الحفنة من الحنطة، وفيما لا يدخل تحت القدر من المطعومات التي هي فرع في هذا الحكم، فلا بد من هذه الممانعة، لان الحكم لا يثبت بوجود ركن الشئ مع انعدام شرطه.
وأما الممانعة في المعنى الذي يكون به الوصف علة موجبة للحكم شرعا فهو المطالبة ببيان التأثير، لما بينا أن العلة به تصير موجبة للحكم شرعا وهي الحكمة الباطنة التي يعبر عنها بالفقه.
والحاصل أن في الدعوى والانكار يعتبر المعنى دون الصورة، فقد يكون المرء مدعيا صورة وهو منكر معنى، ألا ترى أن المودع إذا ادعى رد الوديعة يكون منكرا للضمان معنى، ولهذا كان القول قوله مع اليمين، وإنما جعل الشرع اليمين في جانب المنكر.
والبكر إذا قالت: بلغني النكاح فرددت، وقال الزوج بل سكتت، فالقول قولها عندنا، وهي في الصورة تدعي الرد ولكنها تنكر ثبوت ملك النكاح عليها في المعنى، فكانت منكرة لا مدعية.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: إذا اختلف المتبايعان في الثمن بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري مع يمينه، وهو في الصورة يدعي بيعا بأقل الثمنين ولكنه في المعنى منكر للزيادة التي يدعيها البائع، فعرفنا أنه إنما يعتبر المعنى في الدعوى والانكار
دون الصورة.
إذا ثبت هذا فنقول: هذه الوجوه من الممانعة تكون إنكارا من السائل فلا حاجة به إلى إثبات إنكاره بالحجة، واشتغاله بذلك يكون اشتغالا بما لا يفيد، وقوله إن الحكم في الاصل ما تعلق بهذا الوصف فقط بل به وبقرينة أخرى يكون إنكارا صحيحا من حيث المعنى وإن كان دعوى من حيث الصورة، لان الحكم المتعلق بعلة ذات وصفين لا يثبت بوجود أحد الوصفين.
وذلك نحو ما يعلل به الشافعي رحمه الله في اليمين المعقودة على أمر في المستقبل لانها يمين بالله مقصودة فيتعدى الحكم بهذا الوصف إلى الغموس.
فإنا نقول: الحكم في الاصل ثبت بهذا الوصف مع قرينة وهو توهم البر فيها فيكون هذا منعا لما ادعاه الخصم والخصم هو المحتاج إلى إثبات دعواه بالحجة.
فأما قول السائل: ليس المعنى في الاصل ما قلت وإنما المعنى فيه كذا، هو إنكار صورة ولكنه من حيث المعنى دعوى وهو دعوى غير مفيد في موضع النزاع، لانه لا يمكنه أن يقول في موضع النزاع لتقرير ذلك المعنى سوى أن هذا المعنى معدوم في موضع النزاع، وعدم العلة لا يوجب عدم الحكم وإن كان هذا يصلح للترجيح به من وجه، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
فصل: القلب والعكس قال رضي الله عنه: تفسير القلب لغة: جعل أعلى الشئ أسفله وأسفله أعلاه.
من قول القائل: قلبت الاناء إذا نكسه، أو هو: جعل بطن الشئ ظهرا والظهر بطنا.
من قول القائل: قلبت الجراب إذا جعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وقلبت الامر إذا جعله ظهرا لبطن.
وقلب العلة على هذين الوجهين.
وهو نوعان: أحدهما جعل المعلول علة والعلة معلولا،
وهذا مبطل للعلة، لان العلة هي الموجبة شرعا والمعلول هو الحكم الواجب به فيكون فرعا وتبعا للعلة، وإذا جعل التبع أصلا والاصل تبعا كان ذلك دليل بطلان العلة.
وبيانه فيما قال الشافعي في الذمي إنه يجب عليه الرجم لانه من جنس من يجلد بكره مائة فيرجم ثيبه كالمسلم.
فيقلب عليه فنقول: في الاصل إنما يجلد بكره لانه يرجم ثيبه فيكون ذلك قلبا مبطلا لعلته باعتبار أن ما جعل فرعا صار أصلا وما جعله أصلا صار تبعا.
وكذلك قوله: القراءة ركن يتكرر فرضا في الاوليين فيتكرر أيضا فرضا في الاخريين كالركوع.
وهذا النوع من القلب إنما يتأتى عند التعليل بحكم لحكم، فأما إذا كان التعليل بوصف لا يرد عليه هذا القلب، إذ الوصف لا يكون حكما شرعيا يثبت بحكم آخر.
وطريق المخلص عن هذا القلب أن لا يذكر هذا على سبيل التعليل بل على سبيل الاستدلال بأحد الحكمين على الآخر، فإن الاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في الحوادث، روينا ذلك عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم، ولكن شرط هذا الاستدلال أن يثبت أنهما نظيران متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه، هذا على ذاك في حال وذاك على هذا في حال، بمنزلة التوأم فإنه يثبت حرية الاصل لاحدهما أيهما كان بثبوته للآخر، ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته للآخر، وذلك نحو ما يقوله علماؤنا رحمهم الله.
وبيانه فيما قال علماؤنا: إن الصوم عبادة تلزم بالنذر فتلزم بالشروع كالحج، فلا يستقيم قلبهم علينا، لان الحج إنما يلزم بالنذر لانه يلزم بالشروع،
لانا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى،
على وجه يكون المعنى فيها لازما، والرجوع عنها بعد الاداء حرام، وإبطالها بعد الصحة جناية، فبعد ثبوت المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذاك تارة وذاك على هذا تارة.
وكذلك قولنا في الثيب الصغيرة من يكون موليا عليه في ماله تصرفا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا كالبكر، وفي البكر البالغة من لا يكون موليا عليه في ماله تصرفا لا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا كالرجل، يكون استدلالا صحيحا بأحد الحكمين على الآخر، إذ المساواة قد تثبت بين التصرفين من حيث إن ثبوت الولاية في كل واحد منهما باعتبار حاجة المولى عليه وعجزه عن التصرف بنفسه، فلا يستقيم قلبهم إذا ذكرنا هذا على وجه الاستدلال، لان جواز الاستدلال بكل واحد منهما على الآخر يدل على قوة المشابهة والمساواة وهو المقصود بالاستدلال، بخلاف ما علل به الشافعي، فإنه لا مساواة بين الجلد والرجم، أما من حيث الذات فالرجم عقوبة غليظة تأتي على النفس والجلد لا، ومن حيث الشرط الرجم يستدعي من الشرائط ما لا يستدعي عليه الجلد كالثيوبة.
وكذلك لا مساواة بين ركن القراءة وبين الركوع، فإن الركوع فعل هو أصل في الركعة، والقراءة ذكر هو زائد، حتى إن العاجز عن الاذكار القادر على الافعال يؤدي الصلاة، والعاجز عن الافعال القادر على الاذكار لا يؤديها، ويسقط ركن القراءة بالاقتداء عندنا وعند خوف فوت الركعة بالاتفاق، ولا يسقط ركن الركوع.
وكذلك لا مساواة بين الشفع الثاني والشفع الاول في القراءة، فإنه يسقط في الشفع الثاني شطر ما كان مشروعا في الشفع الاول وهو قراءة السورة، والوصف المشروع فيه في الشفع الاول وهو الجهر بالقراءة، ومع انعدام المساواة لا يمكن الاستدلال بأحدهما على الآخر، والقلب يبطل التعليل على وجه المقايسة.
والنوع الثاني من القلب: هو جعل الظاهر باطنا بأن يجعل الوصف الذي
علل به الخصم شاهدا عليه لصاحبه في إثبات ذلك الحكم بعد أن كان شاهدا له، وهذه معارضة فيها مناقضة، لان المطلوب هو الحكم، فالوصف الذي يشهد بإثباته من وجه وينفيه من وجه آخر يكون متناقضا في نفسه، بمنزلة الشاهد الذي يشهد لاحد الخصمين على الآخر في حادثة، ثم للخصم الآخر عليه في عين تلك الحادثة فإنه يتناقض كلامه، بخلاف المعارضة بعلة أخرى فإنه لا يكون فيها معنى التناقض، بل للاشتباه يتعذر العمل إلى أن يتبين الرجحان لاحدهما على الآخر، فأما ما يشهد لك على خصمك وبخصمك عليك في حادثة واحدة في وقت واحد بأنه يتحقق فيه التعارض مع التناقض.
وبيان ذلك فيما علل به الشافعي في صوم رمضان بمطلق النية إنه صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كصوم القضاء.
فإنما نقلب عليه فنقول: إنه صوم فرض فبعد ما تعين مرة لا يشترط لادائه تعيين بنية أخرى كصوم القضاء.
وعلل في سنة التكرار في المسح بالرأس فإنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه واليدين.
فإنا نقلب عليه فنقول: ركن في الوضوء فبعد إكماله بالزيادة على المفروض في محل الفريضة لا يسن تثليثه كالمغسولات، وإقامة الفرض هنا يحصل بمسح الربع وبالاستيعاب يحصل الاكمال بالزيادة على الفريضة في محل الفريضة، كما في المغسولات بالغسل ثلاثا يحصل الاكمال بالزيادة على القدر المفروض وهو الاستيعاب في محل المفروض.
فإن قيل: هذا القلب إنما يتأدى بزيادة وصف، وبهذه الزيادة يتبدل الوصف ويصير شيئا آخر فيكون هذا معارضة لا قلبا.
قلنا: نعم في هذا زيادة وصف ولكنها تفسير للحكم على وجه التقرير له لا على وجه التغيير، فإنا نبين
بهذه الزيادة أن صوم رمضان لما تعين مشروعا في الزمان وغيره ليس بمشروع كان قياسه من القضاء ما بعد التعيين بالشروع فيه، والاستيعاب في المسح بالرأس لما لم يكن ركنا كان قياسه من المغسولات بعد حصول الاستيعاب ما إذا حصل الاكمال في المغسولات بالزيادة بعد الاستيعاب، فيكون تقريرا لذلك الوصف بهذا التفسير لا تغييرا.
وتفسير العكس لغة وهو: رد الشئ على سننه وراءه، مأخود من عكس المرآة، فإن نورها يرد نور بصر الناظر فيما وراءه على سننه حتى يرى وجهه كأن له في المرآة وجها وعينا يبصر به.
وكذلك عكس الماء نور الشمس، فإنه يرد نورها حتى يقع على جدار بمقابلة الماء كأن في الماء شمسا.
ثم العكس في العلة على وجهين: أحدهما رد الحكم على سننه بما يكون قلبا لعلته حتى يثبت به ضد ما كان ثابتا بأصله، نحو قولنا في الشروع في صوم النفل إن ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع كالحج، وعكسه إن ما لا يلتزم بالنذر لا يلتزم بالشروع كالوضوء، فيكون العكس على هذا المعنى ضد الطرد، وهذا لا يكون قادحا في العلة أصلا بل يصلح مرجحا لهذا النوع من العلة على العلة التي تطرد ولا تنعكس على ما نبينه في بابه.
والنوع الآخر ما يكون عكسا يوجب الحكم لا على سنن حكم الاصل، بل على مخالفة حكم الاصل، وذلك نحو ما يعلل به الشافعي في أن الصوم عبادة لا يمضي في فاسدها فلا تصير لازمة بالشروع فيها كالوضوء، وعكسه الحج فهذا التعليل له، نظير التعليل الاول لنا، ونحن إذا قلنا بأن ما يلتزم بالنذر من العادة يلتزم بالشروع كالحج فهو يقول ينبغي أن يستوي حكم الشروع فيه بنية النفل وحكم الشروع فيه على ظن أنه عليه كالحج، فيكون في هذا العكس نوع
كسر للعلة حيث تمكن الخصم به من إثبات حكم هو مخالف للحكم الاول ولكنه ليس بقوي، فإن الحكم الذي تعلقه مجمل غير مفسر وما علقنا به من الحكم مفسر فالمفسر أولى من المجمل، ثم هو تعلق به حكم التسوية والحكم المقصود شئ آخر يختلف فيه الفرع والاصل على سبيل التضاد، فإن في الاصل يستويان حتى يجب القضاء فيهما، وفي الفرع عنده يستويان حتى يسقط القضاء فيهما، وإنما يستقيم هذا التعليل إذا كان المقصود عين التسوية، ولانه في هذا
العكس ينص على حكم آخر سوى ما ذكرناه في التعليل، فلا يكون إبطالا بطريق النظر وإنما يكون العكس دفعا لما فيه من الابطال والمناقضة، فإذا عرى عن ذلك لم يكن دفعا، ولانه علل بحكم مجمل لا يتصل بالمتنازع فيه إلا بكلام هو ابتداء وليس للسائل دلك، فظهر أن العكس سؤال ضعيف.
فصل في المعارضة وقد بينا تفسير المعارشة فيما مضى، وهذا الفصل لبيان إقسامها، وتمييز الفاسد من الصحيح منها.
فنقول: المعارضة نوعان: نوع في علة الاصل: ونوع في حكم الفرع.
فالذي في حكم الفرع على خمسة أوجه: معارضة بالتنصيص على خلاف حكم العلة في ذلك المحل بعينه، ومعارضة بتغيير هو تفسير لذلك الحكم على وجه التقرير له: ومعارضة بتغيير فيه إخلال بموضع الخلاف: ومعارضة فيها نفى ما لم يثبته المعلل أو إثبات ما لم ينفه المعلل ولكنه يتصل بموضع التعليل، ومعارضة بإثبات حكم في غير المحل الذى أثبت المعلل الحكم فيه بعلته والذى في علة الاصل أنواع ثلاثة: معارضة بذكر علة في الاصل لا تتعدى إلى فرع: ومعارضة بذكر علة تتعدى إلى فرع الحكم فيه متفق
عليه، ومعارضة بعلة تتعدى إل يفرع الحكم فيه مختلف فيه.
وبيان الوجه الاول من الاوجه الخمسة في تكرار المسح بالرأس، فإن الخصم يقول: ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالمغسول، ونحن نعارضه بقولنا: مسح في الطهارة فلا يسن تثليثه كالمسح بالخف، فهذه معارضة صحيحة لما فيها من التنصيص على خلاف حكم علته في ذلك المحل بعينه، وبيان الوجه الثاني في هذا الموضع أيضا، فإنا نقول: ركن في الوضوء فبعد صفة الاكمال بالزيادة على القدر المفروض في الفريضة لا يسن تثليثه كما في المغسولات.
فهقه معارضة بتغيير هو تفسير للحكم في تقريره.
وهذان وجهان في المعارضة المحوجة إلى الترجيح، لان عند صحة المعارضة يصار إلى الترجيح.
وبيان الوجه الثالث: فيما يعلل به في غير الاب والجد هل تثبت لهم ولاية التزويج على الصغيرة ؟ فنقول إنها صغيرة فتثبت علهيا ولاية التزويج كالتى لها أب، وهم يعارضون ويقولون: هذه صغيرة فلا تثبت عليها ولاية التزويج للاخ كالتى لها أب، فتكون هذه معارضة بتغيير فيه إخلال بموضع النزاع، لان موضع النزاع ثبوت ولاية التزويج على اليتيمة لاتعيين الولى الزوج لها، وهو في معارضته علل لنفى الولاية بشخص بعينه، ولكنه يقول: إن موضع النزاع إثبات الولاية للاقارب سوى الاب والجد على الصغيرة وأقربهم الاخ، فنحن بهذه المعارضة ننفي ولاية الاخ عنها، ثم ولاية من وراء الاخ منتفية عنها بالاخ، فمن هذا الوجه يظهر معنى الصحة في هذه العمارضة وإن لم يكن قويا.
وبيان الوجه الرابع فيما ذكرنا في النوع الثاني من العكس، وذلك فيما
يعلل به في مسألة الكافر يشترى عبدا مسلما إنه مال يملك الكافر بيعه فيملك شراءه كالعبد الكافر، فيقولون: وجب أن يستوى حكم شرائه ابتداء وحكم استدامة الملك فيه كالعبد الكافر الكافر.
فنقول: في هذه المعارضة إثبات ما لم ينفه بالتعليل وهو التسوية بين أصل الشراء وبين استدامة الملك به فلا تكون متصلة بموضع النزاع إلا بعد البناء بإثبات التسوية بين الاستدامة وابتداء الشراء، وليس للسائل هذا البناء، فلم تكن هذه المعارضة صحيحة بطريق النظر وإن كان يظهر فيها معنى الصحة عند إثبات التسوية بينهما.
وبيان الوجه الخامس فيما يقوله أبو حنيفة رضى الله عنه في المرأة إذا نعى إليها زوجها فاعتدت وتزوجت بروج آخر وولدت منه أولادا ثم جاء الزوج الاول حيا، فإن نسب الاولاد يثبت من الاول لاونه صاحب فراش صحيح عليها وثبوت النسب باعتبار الفراش.
وهما يعارضان بأن الثاني صاحب فراش حاصر ومع صفة الفساد يثبت النسب من صاحب الفراش
كما لو تزوج امرأة بغير شهود ودخل بها، فهذه معارضة بإثبات حكم في غير المحل الذي وقع التعليل، إذ الفاسد غير الصحيح والكلام في أن النسب بعدما صار مستحقا بثبوته لشخص هل هو يجوز أن يثبت لغيره باعتبار فراشه، فإن الاول بفراشه السابق يصير مستحقا نسب أولادها ما بقي فراشها، فيقع الكلام بعد هذا في الترجيح، أن أصل الفراش للثاني باعتبار كونه حاضرا وكونه صاحب الماء هل يترجح على الفراش الصحيح الذي للغائب حتى ينتسخ به حكم الاستحقاق الثابت بفراشه أم لا ؟ وأبو حنيفة يقول: هذا لا يكون صالحا للترجيح، لان الشئ لا ينسخه إلا ما هو
مثله أو فوقه، والفاسد من الفراش مع هذه القرائن لا يكون مثلا للصحيح فلا ينسخ به حكم الاستحقاق الثابت بالصحيح، وبعدما صار النسب مستحقا لزيد لا يمكن إثباته لعمرو بوجه ما، والنكاح بغير شهود ليس من هذا المحل في شئ، فعرفنا أنه معارضة في غير محل الحكم.
فأما وجوه المعارضة في علة الاصل فهي فاسدة كلها لما بينا أن ذكر علة أخرى في الاصل لا يبقى تعليله بما ذكره المعلل، لجواز أن يكون في الاصل وصفان فيتعدى الحكم بأحد الوصفين إلى الفروع دون الآخر، ثم إن كان الوصف الذي يذكره المعارض لا يتعدى إلى فرع فهو فاسد، لما بينا أن حكم التعليل التعدية فما لا يفيد حكمه أصلا يكون فاسدا من التعليل، فإن كان يتعدى إلى فرع فلا اتصال له بموضع النزاع إلا من حيث إنه تنعدم تلك العلة في هذا الموضع، وقد بينا أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم، فعرفنا أنه لا اتصال لتلك العلة بموضع النزاع في النفي ولا في الاثبات، وكذلك إن كانت تتعدى إلى فرع مختلف فيه فالمتعدية إلى فرع مجمع عليه تكون أقوى من المتعدية إلى فرع مختلف فيه، ولما تبين فساد تلك تبين فساد هذا بطريق الاولى.
ومن الناس من يزعم أن هذه معارضة حسنة فيها معنى الممانعة، لان بالاجماع علة الحكم أحد الوصفين لا كلاهما فإذا ظهرت صحة علة السائل بظهور حكمها وهو التعدية يتبين فساد العلة الاخرى.
بيانه: أنا نقول في تعليل الحنطة إنه باع مكيلا بمكيل من جنسه متفاضلا، ثم تعدى الحكم بها إلى الحص وغيره.
والخصم يعارض فيقول: باع مطعوما بمطعوم من جنسه متفاضلا لتعدي الحكم به إلى المطعومات التي هي غير مقدرة كالتفاح
ونحوها، وقد ثبت باتفاق الخصمين أن علة الحكم أحدهما فإذا ثبت صحة ما ادعاه أحدهما علة انتفى الآخر بالاجماع، فكانت في هذه المعارضة ممانعة من هذا الوجه.
ولكنا نقول: لا تنافي بين العلتين ذاتا لجواز أن يعلق الحكم بكل واحد منهما، فمن أنكر صحة ما ادعاه خصمه من العلة لا يفسد ذلك بمجرد تصحيح علته بل بذكر معنى مفسد في علة خصمه، كما أنه لا يثبت وجه صحة علته بإفساد علة خصمه بل بمعنى هو دليل الصحة في علته، فعرفنا أن هذه المعارضة فاسدة أيضا.
ثم السبيل في كل كلام يذكره أهل الطرد على سبيل المفارقة إذا كان فقيها أن يذكره على وجه الممانعة فيكون ذلك فقها صحيحا من السائل على حد الانكار لا بد من قبوله منه.
وبيان ذلك أن الخصم يقول في عتق الرهن إن هذا تصرف من الراهن مبطل لحق المرتهن عن المرهون، فلا ينفذ بغير رضاه كالبيع، والفرق لنا بين هذا وبين البيع أن ذاك يحتمل الفسخ بعد وقوعه، فيمكن القول بانعقاده على وجه يتمكن المرتهن من فسخه، والعتق لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه، وهو بهذا التعليل يلغي أصل العتق ولا نسلم له هذا الحكم في الاصل، ثم من شرط صحة العلة أن لا يكون مغيرا حكم الاصل، فإن كان هو بالتعليل يغير حكم الاصل فيجعل الحكم فيه الالغاء دون الانعقاد على وجه التوقف منعناه من التعليل لانه ينعدم به شرط صحة التعليل، وإن أثبت به حكم الاصل وهو امتناع اللزوم بعد الانعقاد في محله لمراعاة حق المرتهن فهذا لا تصور له فيما لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه، وكذلك إن رده على إعتاق المريض فإن ذلك عندنا ليس يلغو،
فإن كان يعلل لالغاء العتق من الراهن فهذا تعليل يتغير به حكم الاصل وذلك غير صحيح عندنا فنمنعه بهذا الطريق، وعلى الوجه الذى هو حكم الاصل وهو
تأخير تنفيذ الوصية عن قضاء الدين لا يمكنه إثباته بهذا التعليل في الفرع فكانت الممانعة صحيحة بهذا الطريق، وكذلك تعليل الخصم في قتل العمد بأنه قتل آدمى مضمون فيكون موجبا للمال كالخطأ، فإن الفرق بين الفرع والاصل لاهل الطرف أن في الخطأ لا يمكن إيجاب مثل التلفف من جنسه وهنا المثل من جنسه واجب، والاولى أن يقول في الاصل المال إنما يجب حلفا عما هو الاصل لفوات الاصل، وهو بهذا التعليل يوجب المال في الفرع أصلا فيكون في هذا التعليل يعرض بحكم الاصل بالتغيير، وشرط صحة التعليل أن لا يكوم متعرضا لحكم الاصل، فنمنعه من التعليل بهذا الطريق حتى يكون كلاما من السائلا على حد الانكار صحيحا.
فصل في وجوه دفع المناقضة قد ذكرنا أن المناقضة لا ترد على العلل الؤثرة، لان دليل الصحة فيها بالتأثير الثابت بالاجماع، والنقض لايرد على الاجماع وإنما يرد النقض على العلل الطردية، لان دليل صحتها الاطراد وبالمناقضة ينعدم الاطراد، ثم تقع الحاجة إلى معرفة وجه دفع النقض صورة أو سؤالا معتبرا عن العلل.
والحاصل فيه أن المجيب متى وفق بين ما ذكر من العلة وبين ما يورد نقضا عليها بتوفيق بين فإنه يندفع النقض عنه، وإذا لم يمكنه التوفيق بينهما يلزمه سؤال النقض، بمنزلة التناقض الذى يقع في مجلس القاضى من الدعوى والشهادة وبين شهادة الشهود، فإن ذلك ينتفى بتوفيق صحيح بين ثم وجوه الدفع أربعة، دفع بمعنى الوصف الذى جعله علة بما هو ثابت بصيغته ظاهرا، ودفع بمعنى الوصف الذى هو ثابت بدلالته وهى التى صارت بها حجة وهو التأصير الذى قلنا، ودفع بالحكم الذى هو المقصود، ودفع بالفرض المطلوب بالتعليل.
فبيان الوجه الاول في تكرار المسح فإنا نقول: مسح فلا يسن تثليثه كالمسح بالخف، فيورد عليه الاستنجاء بالاحجار نقضا، فندفعه بمعنى الوصف الثابت بصيغته ظاهرا، وهو قولنا: مسح، فإن في الاستنجاء بالاحجار لا معتبر بالمسح بل المعتبر إزالة النجاسة حتى لو تصور خروج الحدث من غير أن يتلوث شئ منه من ظاهر البدن لا يجب المسح، والدليل عليه أن الاستطابة بالماء بعد إزالة عين النجاسة بالحجر فيه أفضل، ومعلوم أن في العضو الممسوح لا يكون الغسل بعد المسح أفضل، وكذلك إذا قلنا في الخارج من غير السبيلين إنه حدث لانه خارج نجس يورد عليه ما إذا لم يسل عن رأس الجرح: ودفع هذا النقض بمعنى الوصف ظاهرا وهو قولنا: خارج، فما لم يسل فهو طاهر لتقشير الجلد عنه وليس بخارج إنما الخارج ما يفارق مكانه وتحت كل موضع من الجلد بلة وفى كل عرق دم، فإذا تقشر الجلد عن موضع ظهر ما تحته فلا يكون خارجا كمن يكون في البيت إذا رفع البنيان الذى كان هو مستترا به يكون ظاهرا ولا يكون خارجا، وإنما يسمى خارجا من البيت إذا فارق مكانه، ولهذا لا يجب تطهير ذلك الموضع، لانه ما لم يصر خارجا من مكانه لا يعطى له حكم النجاسة.
وبيان الوجه الثاني في هذين الفصلين أيضا، فإن تأثير قولنا مسح أنه طهارة حكمية غير معقولة المعنى وهى مبنية على التخفيف، إلا ترى أنه لا تأثير للمسح في إثبات صفة الطهارة بعد تنجس المحل حقيقة، وأنه يتأدى ببعض المحل للتخفيف، فلا يرد عليه الاستنجاء، لان المطلوب هناك إزالة عين النجاسة ولهذا لا تنم باستعمال الحجر في بعض المحل دون العبض، فباعتبار الاستيعاب فيه والقصد إلى تطهير المحل بإزالة حقيقة النجاسة عنه يشبه
الاستنجاء الغسل في الاعضاء المغسولة دون المسح له وكذلك قولنا الخارج النجس كان حجة بالتأثير لها وهو وجوب التطهير في ذلك الموضع، فإن بالاجماع غسل ذلك الموضع للتطهير واجب ووجوب التطهير في البدن باعتبار ما يكون منه لا يحتمل التجزى، فيندفع ما إذا لم تسل النجاسة لانه لم يجب
هناك تطهير ذلك الموضع بالغسل.
فعرفنا أنه انعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا يكون مرجحا للعلة فكيف يكون نقضا ؟ ! وسنقرر هذا في بيان ترجيح العلة التي تنعكس على العلة التي لا تنعكس.
وبيان الوجه الثالث فيما يعلل به في النذر بصوم يوم النحر أنه يوم فيصح إضافة النذر إليه كسائر الايام، فيورد عليه يوم الحيض نقضا، ووجه الدفع بالحكم الذي هو المقصود بالتعليل وهو صحة إضافة النذر بالصوم إليه وذلك اليوم يصح إضافة النذر بالصوم إليه، فإنها لو قالت: لله علي أن أصوم غدا، يصح نذرها وإن حاضت من الغد، وإنما فسد نذرها بالاضافة إلى الحيض لا إلى اليوم.
وكذلك يعلل في التكفير بالمكاتب، فنقول: عقد الكتابة يحتمل الفسخ فلا تخرج الرقبة من جواز التكفير بعتقها كالبيع والاجارة، فيورد عليه نقضا ما إذا أدى بعض بدل الكتابة، وطريق الدفع بالحكم وهو أن هذا العقد لا يخرج الرقبة من أن تكون محلا للتكفير بها، وهنا العقد لا يخرج الرقبة من ذلك، ولكن معنى المعاوضة هو الذي يمنع صحة التكفير بذلك التحرير، وبعض أهل النظر يعبرون عن هذا النوع من الدفع بأن التعليل للجملة فلا يرد عليه الافراد نقضا، وفقهه ما ذكرنا.
وبيان الوجه الرابع من الدفع فيما عللنا به الخارج من غير السبيلين، فإنه خارج نجس فيكون حدثا كالخارج من السبيلين، فيورد عليه دم الاستحاضة
مع بقاء الوقت نقضا.
وللدفع فيه وجهان: أحدهما أن ذلك حدث عندنا ولكن يتأخر حكمه إلى ما بعد خروج الوقت ولهذا تلزمها الطهارة بعد خروج الوقت وإن لم يكن خروج الوقت حدثا، والحكم تارة يتصل بالسبب وتارة يتأخر عنه، فهذا الدفع من جملة الوجه الثالث ببيان أنه حدث بالجملة والثاني أن المقصود بهذا التعليل التسوية بين الفرع والاصل وقد سوينا، فإن الخارج المعتاد من السبيل إذا كان دائما يكون حدثا موجبا للطهارة بعد خروج الوقت لا في الوقت، فكذلك الذي هو غير المعتاد والذي هو خارج من غير سبيل.
وكذا إذا عللنا في أن السنة في التأمين الاخفاء بقولنا إنه ذكر لا يدخل عليه الاذان ولا التكبيرات التي يجهر بها الامام، لان الغرض التسوية بين التأمين
وبين سائر الاذكار في أن الاصل هو الاخفاء وذلك ثابت، إلا إن جهر الامام بالتكبيرات لا لانها ذكر بل لاعلام من خلفه بالانتقال من ركن إلى ركن، والجهر بالاذان والاقامة كذلك أيضا، ولهذا لا يجهر المقتدي بالتكبيرات ولا يجهر المنفرد بالتكبيرات ولا بالاذان والاقامة، فيدفع النقض ببيان الغرض المطلوب بالتعليل وهو التسوية بين هذا الذكر وبين سائر أذكار الصلاة.
وبعض أهل النظر يعبرون عن هذا فيقولون: مقصودنا بهذا التعليل التسوية بين الفرع والاصل وقد سوينا بينهما في موضع النقض كما سوينا في موضع التعليل، فيتبين به وجه التوفيق بطريق يندفع به التناقض، والله أعلم.
باب الترجيح قال رضي الله عنه: الكلام في هذا الباب في فصول: أحدها في معنى الترجيح لغة وشريعة، والثاني في بيان ما يقع به الترجيح، والثالث في بيان المخلص من تعارض يقع في الترجيح، والرابع في بيان ما هو فاسد من
وجوه الترجيح.
فأما الاول فنقول: تفسير الترجيح لغة إظهار فضل في أحد جانبي المعادلة وصفا لا أصلا، فيكون عبارة عن مماثلة يتحقق بها التعارض، ثم يظهر في أحد الجانبين زيادة على وجه لا تقوم تلك الزيادة بنفسها فيما تحصل به المعارضة أو تثبت به المماثلة بين الشيئين، ومنه الرجحان في الوزن فإنه عبارة عن زيادة بعد ثبوت المعادلة بين كفتي الميزان وتلك الزيادة على وجه لا تقوم منها المماثلة ابتداء ولا يدخل تحت الوزن منفردا عن المزيد عليه مقصودا بنفسه في العادة نحو الحبة في العشرة، وهذا لان ضد الترجيح التطفيف، وإنما يكون التطفيف بنقصان يظهر في الوزن أو الكيل بعد وجود المعارضة بالطريق الذي تثبت به المماثلة على وجه لا تنعدم به المعارضة، فكذلك الرجحان يكون بزيادة وصف على وجه لا تقوم به المماثلة ولا ينعدم بظهوره أصل المعارضة، ولهذا لا تسمى زيادة درهم على العشرة في أحد
الحانبين رجحانا، لان المماثلة تقوم به أصلا، وتسمى زيادة الحبة ونحوها رجحانا لان المماثلة لا تقوم بها عادة.
وكذل في لا شريعة هو عبارة عن زيادة تكون وصفا لا أصلا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للوازن: " زن وأرجح فإنا معشر الانبياء هكذا زن " ولهذاد لا يثبت حكم الهبة في مقدار الرجحان، لانه زيادة تقوم وصفا لا مقصودا بسببه، بخلاف زيادة الدرهم على العشرة، فإنه يثبت فيه حكم الهبة حتى لو لم يكن متميزا كان الحكم فيه كالحكم في هبة المشاع لانه مما تقوم به المماثلة فإنه يكون مقصودا بالوزن فلا بد من أن يجعل مقصودا في التمليك بسببه وليس ذلك إلا الهبة، فإن قضاء العشرة يكون بمثلها عشرة، فيتبين أن بالرجحان لا ينعدم أصل المماثلة
لانه زيادة وصف بمنزلة زيادة وصف الجودة - وما يكون مقصودا بالوزن تنعدم به المماثلة ولا يكون ذلك من الجرحان في شئ وعلى هذا قلنا في العلل في الاحكام: إن ما يصلح علة للحكم ابتداء لا يصلح للترجيح به وإنما يكون الترجيح بمالا يصلح علة موجبة للحكم.
وبيان ذلك في الشهادات، فإن أحد المدعيين لو أقام شاهدين وأقام الاخر أربعة من الشهود لم يترجح الذى شهد له أربعة لان زيادة الشهادين في حقه علة تامة للحكم فلا يصلح مرجحا للحجة في جانبه، وكذلك زيادة شاهد واحد لاحد المدعيين، لانه من جنس ما تقوم به الحجة إصلا فلا يقع الترجيح به إصلا وإنما يقع الترجيح بما يقوى ركن الحجة أو يقوى معنى الصدق في الشهادگة وذلك فى أن تتعارض شهادة المستور مع شهادة العدل بأن أقام أحد المدعيين مستورين والاخر عدلين، فإنه يترجح الذى شهد به العدلان بظهور ما يؤكد معنى الصدق في شهادة شهوده.
وكذلك في النسب أو النكاح لو ترجح حجة أحد الخصمين باتصال القضاء بها، لان ذلك مما يؤكد ركن الحجة، فإن بقضاء القاضى يتم معنى الحجة في الشهادة ويتعين جانب الصدق - وعل يهذا قلنا في العلتين إذا تعارضتا لاتترجح إحداهما بانضمام علة إخرى إليها، وإنما تترجح بقوة الاثر فيها، فبه يتأكد ما هو الركن في صحة العلة.
وكذلك الخبران إذا تعارضا لا يترجح أحدهما على الاخر بل بما به يتأكد معنى الحجة
فيه وهو الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يرجح المشهور بكثرة رواته على الشاذ لظهور زيادة القوة فيه من حيث الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترجح بفقه الراوى وحسن ضبطه وإتقانه، لانه يتقوى به معنى الاتصال برسول الله على الوجه الذى وصل إلينا بالنقل.
وكذلك
الايتان إذا وقعت المعارضة بينهما لاتترجح إحداهما بآية أخرى بل تترجح بقوة في معنى الحجة وهو أنه نص مفسر والاخر مؤول وكذلك لا يترجح أحد الخبرين بالقياس.
فعرفنا أن ما يقع به الترجيح هو مالا يصلح علة للحكم ابتداء، بل ما يكون مقويا لما به صارت العلة موجبة للحكم.
وعلى هذا قلنا لو أن رجلا جرح رجلا جراحة وجرحه آخر عشر جراحات فمات من ذلك فإن الدية عليهما نصفان.
لان كل جراحة علة تامة ولا يترجح أحدهما بزيادة عدد في العلة في جانبه حته يصير القتل مضافا إليه دون صاحبه بل يصير مضافا إلى فعلهما على وجوه التساوى.
ولو قطع أحدهما يده ثم جز الاخر رقبته فالقاتل هو الذى جز رقبته دون الاخر لزيادة قوة فيما هو علة القتل من فعله وهو أنه لا يتوهم بقاؤه حيا بعد فعله بخلاف فعل الاخر.
وعلى هذا الاصل رجحنا سبب استحقاق الشفعة للشريك في نفس المبيع على السبب في حق الشريك في حقوق المبيع، ثم رجحنا الشريك في حقوق المبيع على الجار لزيادة وكادة في الاتصال الذى ثبت بالجوار، فإن اتصال الملكين في حق الشريك في نفس المبيع في كل جزء في حق الشريك في حقوق المبيع الاتصال فيما هو بيع من المبيع، وفى حق الجار لا اتصال من حيث الاختلاط فيما هو مقصود ولا فيما هو تبع وإنما الاتصال من حيث المجاورة بين الملكين مع تميز أحدهما من الاخر، ثم من كان جواره من ثلاث جوانب لا يترجح عل يمن كان جواره من جانب واحد لان الموجود في جانبه زيادة العلة من حيث العدد فلا يثبت به الترجيح.
وعلى هذا قلنا: صاحب القليل يساوى صاحب الكثير في استحقاق الشقص المبيع بالشفعة، لان الشركة بكل جزء علة تامة لاستحقاق جميع الشقص المبيع بالشفعة، فإنما وجد في جانب صاحب الكثير كثرة العلة وبه لا يقع الترجيح.
وهكذا يقول الشافعي في اعتبار أصل الترجيح، فإنه لا يجرح
صاحب الكثير هنا حتى يكون لصاحب القليل حق المزاحمة معه في الاخذ بالشفعة، إلا أنه يجعل الشفعة من جملة مرافق الملك فتكون مقسومة بين الشفعاء على قدر الملك، كالولد والربح والثمار من الاشجار المشتركة، أو يجعل هذا بمنزلة ملك المبيع فيجعله مقسوما على مقدار ما يلتزم كل واحد من المشترين من بدله وهو الثمن، حتى إذا باع عبدا بثلاثة آلاف درهم من رجلين على أن يكون على أحدهما ألف درهم وعلى الآخر بعينه ألفا درهم فإن الملك بينهما في المبيع يكون أثلاثا على قدر الملك.
وهذا غلط منه لانه جعل الحكم مقسوما على قدر العلة، أو بنى العلة على الحكم، وذلك غير مستقيم.
وعلى هذا اتفقت الصحابة في امرأة ماتت عن ابني عم أحدهما زوجها، فإن للزوج النصف والباقي بنيهما العصوبة ولا يترجح الزوج بسبب الزوجية لان ذلك علة أخرى لاستحقاق الميراث سوى ما يستحق به العصوبة، فلا تترجح علته بعلة أخرى ولكن يعتبر كل واحد من السببين في حق من اجتمع في حقه السببان بمنزلة ما لو وجد كل واحد منهما في شخص آخر.
وكذلك قال أكثر الصحابة في ابني عم أحدهما أخ لام إنه لا يترجح بالاخوة لام على الآخر ولكن له السدس بالفرضية، والباقي بينهما نصفان بالعصوبة.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يترجح ابن العم الذي هو أخ لام لان الكل قرابة فتقوى إحدى الجهتين بالجهة الاخرى بمنزلة أخوين أحدهما لاب وأم والآخر لاب.
وأخذنا بقول أكثر الصحابة، لان العصوبة المستحقة بكونه ابن عم مخالف للمستحق بالاخوة، ولهذا يكون استحقاق ابن العم العصوبة بعد استحقاق الاخ بدرجات، والترجيح بقرابة الام في استحقاق العصوبة إنما يكون عند اتحاد جهة العصوبة والاستواء في المنزلة، كما في حق الاخوان فحينئذ يقع الترجيح بقرابة الام لانه لا يستحق بها العصوبة ابتداء فيجوز
أن تتقوى بها علة العصوبة في جانب الاخ لاب وأم، إذ الترجيح يكون بعد المعارضة والمساواة، فأما قرابة الاخوة فهي ليست من جنس قرابة ابن العم حتى تتقوى بها العصوبة الثابتة لابن العم الذي هو أخ لام بل يكون هذا السبب بمنزلة الزوجية فتعتبر حال اجتماعهما في شخص واحد بحال انفراد كل واحد من السببين في شخص آخر.
وكثير من المسائل تخرج على ما تركنا من الاصل في هذا الفصل إذا تأملت.
فصل وما ينتهى إليه ما يقع به الترجيح في الحاصل أربعة: أحدها قوة الاثر، والثاني قوة الثبات على الحكم المشهود به، والثالث كثرة الاصول، والرابع عدم الحكم عند عدم العلة.
أما الوجه الاول فلان المعنى الذي به صار الوصف حجة الاثر، فمهما كان الاثر أقوى كان الاحتجاج به أولى لصفة الوكادة فيما به صار حجة.
فذلك نحو دليل الاستحسان مع القياس، ونحو الاخبار إذا تعارضت، فإن الخبر لما كان حجة لمعنى الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يزيد معنى الاتصال وكادة من الاشتهار، وفقه الراوي وحسن ضبطه واتقانه كان الاحتجاج به أولى.
فإن قيل: أليس أن الشهادات متى تعارضت لم يترجح بعضها بقوة عدالة بعض الشاهد، وهي إنما صارت حجة باعتبار العدالة ثم بعد ظهور عادلة الفريقين لا يقع الترجيح بزيادة معنى العدالة ؟ قلنا: العدالة ليست بذي أنواع متفاوتة حتى يظهر لبعضها قوة عند المقابلة بالبعض، وهي عبارة عن التقوى والانزجار عن ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه، وذلك مما لا يمكن الوقوف فيه على حد أن يرجح البعض بزيادة قوة عند الرجوع إلى حده، بخلاف تأثير
العلة فإن قوة الاثر عند المقابلة تظهر على وجه لا يمكن إنكاره.
وبيان هذا في مسائل.
منها أن الشافعي علل في طول الحرة أنه يمنع نكاح الامة لان في هذا العقد إرقاق جزء منه مع استغنائه عنه، فلا يجوز كما لو كان تحته حرة، وهذا الوصف بين الاثر، فإن الارقاق نظير القتل من وجه، ألا نرى أن الامام في الاسارى يتخير بين القتل والاسترقاق ؟ فكما يحرم عليه قتل ولده شرعا يحرم عليه إرقاقه مع استغنائه عنه.
وقلنا: هذا النكاح يجوز لعبد المسلم، فإن المولى إذا دفع إليه مالا وأذن له في أن ينكح به ما شاء من حرة أو أمة جاز له أن ينكح الامة، فلما كان طول الحرة لا يمنع نكاح الامة للعبد المسلم لا يمنع للحر لوجود الحرة في الدنيا.
وتأثير ما قلنا أن تأثير الرق
في تنصيف الحل الذى يترتب عليه عقد النكاح وحقيقة التنصيف في أن يكون حكم العبد في النصف الباقي له وحكم الحر في جميع ذلك سواء فما يكون شرطا في حق الحر يكون شرطا في حق العبد كالشهود وخلو المرأة عن العدة، وما لا يكون شرطا في حق العبد لا يكون شرطا في حق الحر كالخطبة وتسمية المهر لا يكون في حق العبد.
ثم تظهر قوة التأثير لما قلنا في الرجوع إلى الاصول، فإن الرق من أوصاف النقصان والحرية من أوصاف الكمال، وهذا لاحل كرامة يختص به البشر فكيف يجوز القول بأنه يتسع الحل بسبب الرق حتى يحل للعبد ما لا يحل للحر.
وبزداد قوة بالنظر في أحوال البشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل أمته بزيادة اتساع في حله حتى جاز له نكاح تسع نسوة أو إلى ما لا يتناهى على حسب ما اختفوا فيه.
فتبين بهذا تحقيق معنى الكرامة في زيادة الحل وظهر أنه لا يجوم القول بزيادة حل العبد على حل الحر.
ويظهر ضعف أثر علته في الرجوع إلى الاصول، فإن
إرقاق الماء دون التضييع لا محالة، ويحل له أن يضيعماءه بالعزل عن الحرة بإذنها فلان يجوز تعريض ما به الرق بنكاح الامة كان أولى.
ويزداد ضعفا بالرجوع إلى أحوال البشر، فان من ملك نفسه على وجه يأمن أن يقع في الحرام يجوز له نكاح الامة ولا يحل له قتل ولده إذا أمن جانبه بحال من الاحوال.
وعلى هذا قلنا: للحر أن يتزوج أمة على أمة، لان ذلك جائز للعبد فيجوز للحر من الوجه الذى قررنا، ولا يجوز للعبد أن ينكح أمة على حرة كما لا يجوز ذلك للحر، لان العبد في النصف الباقي له مثل الحر في الحكم.
وعلل في حرمة نكاح الامة الكتابية على المسلم بأنها أمة كافرة فلا يجوز نكاحها للمسلم كالمجوسة.
وهذا بين الاثر من وجهين: أحدهما أن الرق مؤثر في حرمة النكاح حتى لا يجوز نكاح الامة على الحرة.
والكفر كذلك، فإذا اجتمع الوصفان في شخص تغلظ معنى الحرمة فيها فيلتحق بالكفر المتغلظ بعدم الكتاب في المنع من النكاح.
والثانى أن جواز نكاح الامة بطريق الضرورة عند غشية العنت وهذه الضرورة ترتفع بحل الامة المسلمة فلا حاجة إلى حل الامة الكتابية للمسلم النكاح، وقلنا نحن: اليهودية
والنصرانية دين يجوز للمسلم نكاح الحرة من أهلها فيجوز نكاح الحرة من أهلها فيجوز نكاح الامة كدين الاسلام.
وتأثيره فيما بينا أن الرق يؤثر في التنصيف من الجانبين فيما يبتنى على الحل.
إلا أن ما يكون متعددا فالتنصيف يظهر في العدد كالطلاق والعمدة والقسم، والنكاح الذى يبتنى على الحل في جانب الرجل متعدد، فالتنصيف يظهر في العدد، وفى جانب المرأة غير متعدد فإنها لا تحل لرجلين بحال، ولكن من حيث الاحوال متعدد حال تقدم نكاحها على نكاح الحرة وحال التأخر وحال المقارنة، فيظهر التنصيف باعتبار الاحوال، وفى الحال الواحد يجتمع معنى الحل
ومعنى الحرمة فيترجح معنى الحرمة بمنزلة الطلاق والعدة فإن طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان، وفى الحقيقة هما حالتان: حالة الانفراد عن الحرة بالسبق وحالة الانضمام إلى الحرة بالمقارنة أو التأخر، فتكون محللة في إحدى الحالتين دون الاخرى ثم تظهر قوة هذا الاثر بالتأمل في الاصول، فإن الحل تارة يثبت بالنكاح وتارة بملك اليمين، ووجدنا أن الامة الكتابية كالامة المسلمة في الحل يملك اليمين فكذلك في الحل بانكاح، ولسنا نسلسم أنه يتغلظ كفر الكتابية برقها في حكم النكاح، فإنه لو كان كذلك لم يحل ببملك اليمين كالمجوسية.
ثم النقصان أو الخبث الثابت بكل واحد منهما من وجه سوى الوجه الاخر، و - نما يظهر التغليظ عند إمكان إثبات الاتحاد بينهما ومع اختلاف الجهة لا يتأتى ذلم، وقد بينا أن انضمام علة إلى علة ل يوجب قوة في الحكم ولا نسلم أن إباحة نكاح الامة بطريق الضرورة لما بينا أن الرقيق في النصف الباقي مساو للحر، فكما أن نكاح الحرة يكون أصلا مشروعا لا بطريق الضرورة فكذلك نكاح الامة في النصف الباقي لها، ونعتبرها بالعبد بل إولى لان معنى عدم الضرورة في حق الامة أضهر منه في حق العبد فإنها تستمع بمولاها بملك اليمين.
والعبد لا طريق له سوى ؟ ؟ ؟ ؟ ثم لم بجعل بقاء ما بقى في حق العبد بعد التنصيف بالرق ثابتا بطريق الضرورة
ففي حق الامة أولى.
وعلل الشافعي رحمه الله فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الاسلام أو في دار الحرب، فإن كان قبل الدخول يتعجل الفرقة، وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء العدة، فإن الحادث اختلاف الدين بين الزوجين فيوجب الفرقة عند عدم العدة كالردة، وسوى بينهما في الجواب فقال: إذا ارتد أحدهما قبل الدخول تتعجل الفرقة في الحال، وبعد الدخول يتوقف
على انقضاء ثلاث حيض.
وبيان أثر هذا الوصف في ابتداء النكاح، فإن مع اختلاف الدين عند إسلام المرأة وكفر الزوج لا ينعقد النكاح ابتداء، كما أن عند ردة أحدهما لا ينعقد النكاح ابتداء، فكذلك في حالة البقاء تستوي ردة أحدهما وإسلام أحدهما إذا كان على وجه يمنع ابتداء النكاح، وفي الردة إنما يثبت هذا الحكم للاختلاف في الدين لا لمنافاة الردة النكاح فإنهما لو ارتدا معا - نعوذ بالله - لا تقع الفرقة بينهما، وإنما انعدم الاختلاف في الدين هنا، فأما الردة فمتحققة، ومع تحقق المنافي لا يتصور بقاء النكاح كالمحرمية بالرضاع والمصاهرة.
وقلنا نحن: الاسلام سبب لعصمة الملك، فلا يجوز أن يستحق به زوال الملك بحال، وكفر الذي أصر منهما على الكفر كان موجودا وصح معه النكاح ابتداء وبقاء، فلا يجوز أن يكون سببا للفرقة أيضا.
ولا يقال هذا الكفر إنما لم يكن سببا للفرقة في حال كفر الآخر لا بعد إسلامه، كما لا يكون سببا للمنع من ابتداء النكاح في حال كفر الآخر لا بعد إسلامه، لان اعتبار البقاء بالابتداء في أصول الشرع ضعيف جدا، فإن قيام العدة وعدم الشهود يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع البقاء والاستغناء عن نكاح الامة بنكاح الحرة يمنع نكاحها ابتداء ولا يمنع البقاء، إذا تزوج الحرة بعد الامة، فإن ظهر أن واحدا من هذين السببين لا يصلح سببا لاستحقاق الفرقة ولا بد من دفع ضرر الظلم المتعلق عنها، لان ما هو المقصود بالنكاح وهو الاستمتاع فائت شرعا، جعلنا السبب تفريق القاضي بعد عرض الاسلام على الذي يأبى منهما، وهو قوي الاثر بالرجوع إلى الاصول، فإن التفريق باللعان وبسبب الجب والعنة وبسبب الايلاء يكون ثابتا باعتبار هذا المعنى محالا به على من كان فوات الامساك بالمعروف من جهته،
فهنا أيضا يحال به على من كان فوات الامساك بالمعروف بالاصرار على الكفر من جهته، ولا يثبت إلا بقضاء القاضي.
فأما الردة فهي غير موضوعة للفرقة بدليل صحتها حيث لا نكاح وبه فارق الطلاق، وإذا لم يكن موضوعا للفرقة عرفنا أن حصول الفرقة بها لكونها منافية للنكاح حكما وذلك وصف مؤثر، فإن النكاح يبتنى على الحل الذي هو كرامة، وبعد الردة لا يبقى الحل، لان الردة سبب لاسقاط ما هو كرامة، ولازالة الولاية والمالكية الثابتة بطريق الكرامة، فجعلها منافية للنكاح حكما يكون قوي الاثر من هذا الوجه، ومع وجود المنافي لا يبقى النكاح سواء دخل بها أو لم يدخل.
فأما إذا ارتدا معا فحكم بقاء النكاح بينهما معلوم بإجماع الصحابة بخلاف القياس، وقد بينا أن المعدول به عن القياس بالنص أو بالاجماع لا يشتغل فيه بالتعليل ولا بإثبات الحكم فيه بعلة، وقد بينا فساد اعتبار حالة البقاء بحالة الابتداء، فلا يجوز أن يجعل امتناع صحة النكاح بينهما ابتداء بعد الردة علة للمنع من بقاء النكاح، وهذا لان البقاء لا يستدعي دليلا مبقيا، وإنما يستدعي الفائدة في الابقاء، وبعد ردتهما نعوذ بالله يتوهم منهما الرجوع إلى الاسلام وبه تظهر فائدة البقاء.
فأما الثبوت ابتداء يستدعي الحل في المحل وذلك منعدم بعد الردة، وعند ردة أحدهما لا يظهر في الابقاء فائدة مع ما هما عليه من الاختلاف.
وعلى هذا علل الشافعي رحمه الله في عدد الطلاق فإنه معتبر بحال الزوج لانه هو المالك للطلاق وعدد الملك معتبر بحال المالك كعدد النكاح، وهذا بين الاثر، لان المالكية عبارة عن القدرة والتمكن من التصرف، فإذا كان الزوج هو المتمكن من التصرف في الطلاق بالايقاع عرفنا أنه هو المالك له، وإنما يتم الملك باعتبار كمال حال المالك بالحرية كما أن ملك التصرف بالاعتاق وغيره إنما يتم بكمال حال المالك بالحرية.
وقلنا نحن: الطلاق تصرف بملك بالنكاح فيتقدر بقدر ملك النكاح وذلك يختلف باختلاف حال المرأة في الرق والحرية، لان الملك إنما يثبت في المحل
باعتبار صفة الحل، والحل الذي يبتنى عليه النكاح في حق الامة على النصف منه في حق الحرة فبقدر ذلك يثبت الملك، ثم بقدر الملك يتمكن المالك من الابطال، كما أن بقدر ملك اليمين يتمكن من إبطاله بالعتق، حتى إنه إذا كان له عبد واحد يملك إعتاقا واحدا، فإن كان له عبدان يملك عتقين.
ثم ظهر قوة الاثر لما قلنا بالرجوع إلى الاصل وهو أن ما يبتنى على ملك النكاح ويختص به فإنه يختلف باختلاف حالها، وذلك نحو القسم في حال قيام النكاح والعدة وحق المراجعة باعتبارها بعد الطلاق، فعرفنا أنه يتقدر ما يبتنى على ملك النكاح بقدر الملك الثابت بحسب ما يسع المحل له.
وعلى هذا علل في تكرار المسح بأنه ركن في الوضوء فيسن فيه التكرار كالغسل.
وقلنا نحن: إنه مسح فلا يسن فيه التكرار كالمسح بالخف، ثم كان تأثير المسح في إسقاط التكرار أقوى من تأثير الركنية في سنة التكرار فيه، فإن التكرار مشروع في المضمضة والاستنشاق وليسا بركن، وتأثير المسح في التخفيف فإن الاكتفاء بالمسح فيه مع إمكان الغسل ما كان إلا للتخفيف، وعند الرجوع إلى الاصول يظهر معنى التخفيف بترك التكرار بعد الاكمال مع ما فيه من دفع الضرر الذي يلحقه بإفساد عمامته بكثرة ما يصيب رأسه من البلة.
وعلى هذا علل في اشتراط تعيين النية في الصوم بأنه صوم فرض، وهو بين الاثر، فإن اشتراط النية لمعنى التقرب وصفة الفرضية قربة كالاصل.
وقلنا نحن: صوم عين، وتأثيره أن اشتراط النية، في العبادة في الاصل للتمييز بين أنواعها بتعين نوع منها، وهذا متعين شرعا فلا معنى لاشتراط
النية للتعيين، ومعنى القربة يتم بوجود أصل النية، فباعتبار قوة الاثر من هذا الوجه يظهر الترجيح.
وما يخرج على هذا من المسائل لا يحصى وفيما ذكرنا كفاية لمن يحسن التأمل في نظائرها.
وأما الوجه الثاني وهو الترجيح بقوة ثبات الحكم المشهود به فلان أصل ذلك إنما يكون عن نص أو إجماع، وما يكون ثبوته بالنص أو الاجماع يكون ثابتا متأكدا، فما يظهر فيه زيادة القوة في الثبات عند العرض على الاصول يكون راجحا باعتبار ما به صار حجة.
وبيان ذلك في مسألة
مسح الرأس أيضا، فإن الوصف الذي عللنا به له زيادة قوة الثبات على الحكم المشهود به، ألا ترى أن سائر أنواع المسح كالتيمم والمسح على الخف والمسح على الجورب عند من يجيزه والمسح على الجبائر يظهر الخفة فيها بترك اعتبار التكرار، وليس للوصف الذي علل به قوة الثبات بهذه الصفة، فإن في الصلاة أركانا كالقيام والقراءة والركوع والسجود، ثم تمامها يكون بالاكمال لا بالتكرار، فعرفنا أن الركنية ليس بوصف قوي ثابت في إثبات سنة التكرار به، وكذلك في الصوم، فإن صفة العينية قوي ثابت في إسقاط اشتراط نية التعيين فيه حتى يتعدى إلى سائر العبادات، كالزكاة إذا تصدق بالنصاب على الفقير وهو لا ينوي الزكاة، والحج إذا أطلق النية ولم يعين حجة الاسلام، والايمان بالله تعالى.
ويتعدى إلى غير العبادات نحو رد الودائع والغصوب ورد المبيع على البائع لفساد البيع.
وصفة الفرضية ليس بقوي ثابت في اشتراط نية التعيين بعدما صار متعينا في الصوم لا في غير الصوم.
وكذلك ما علل به علماؤنا في أن المنافع لا تضمن بالاتلاف لان ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص، وباعتبار ما هو المقصود وهو الجبران،
وبين العين والمنفعة تفاوت في المالية من الوجه الذي ذكرنا، فلا يجوز أن يوجب على المتلف فوق ما أتلف في صفة المالية، كما لا يوجب الجيد بإتلاف الردئ.
وقال الشافعي رحمه الله: المنافع تضمن بالعقد الجائز والفاسد بالدراهم فتضمن بالاتلاف كالاعيان، ثم تأثيره تحقق الحاجة إلى التحرر عن إهدار حق المتلف عليه، فإنه نظير تحقق الحاجة إلى ملك المنفعة بالعوض بالعقد.
ثم هو يزعم أن علته أقوى في ثبات الحكم المشهود به عليه من وجهين: أحدهما أنه إذا لم يكن بد من الاضرار بأحدهما فمراعاة جانب المظلوم وإلحاق الخسران بالظالم بإيجاب الزيادة عليه أولى من إهدار حق المظلوم.
والثاني أن في إيجاب الضمان إهدار حق الظالم فيما هو وصف محض وهو صفة البقاء، وفي الاصل هما شيئان وهو كونهما منتفعا به، غير أن في طرف الظالم فضل صفة وهو البقاء، فبهدر صيانة الاصل (هدر) حق المظلوم.
وإذا قلنا: لا يجب الضمان كان فيه إهدار حق المتلف عليه في أصل المالية، ولا شك أن الوصف دون الاصل.
ونحن نقول: قوة ثبات الحكم فيما اعتبرناه، لان في إيجاب الزيادة معنى الجور، ولا يجوز نسبة ذلك إلى الشرع بغير واسطة من العباد بحال من الاحوال، وإذا لم نوجب الضمان فإنما لا نوجب لعجزنا عن إيجاب المثل في موضع ثبت اشتراط المماثلة فيه بالنص، وبه فارق ضمان العقد، فإنه غير مبني على المماثلة بأصل الوضع، وكيف يكون مبنيا على ذلك والمبتغي به الربح والامتناع من الاقدام عند تحقق العجز أصل مشروع لنا ؟ والثاني أن في إيجاب الزيادة إهدار حق المتلف في هذه الزيادة في الدنيا والآخرة.
وإذا قلنا: لا يجب الضمان لا يهدر حق المتلف عليه أصلا بل يتأخر إلى الآخرة وضرر التأخير دون ضرر الاهدار.
ولا يدخل على هذا
إتلاف ما لا مثل له من جنسه، لان الواجب هو مثل المتلف في المالية شرعا إلا أنه آل الامر إلى الاستيفاء وذلك يبتنى على الوسع.
قلنا يتقدر بقدر الوسع ويسقط اعتبار أدنى تفاوت في القيمة، لانه لا يستطاع التحرز عن ذلك ولكن لا يتحقق في هذا معنى نسبة الجور إلى الشرع، فالواجب شرعا هو المثل لا غير، وما اعتبر من ترجيح جانب المظلوم فهو ضعيف جدا، لان الظالم لا يظلم ولكن ينتصف منه مع قيام حقه في ملكه، فلو لم نوجب الضمان لسقط حق المظلوم لا بفعل مضاف إلينا، وعند ايجاب الضمان يسقط حق الظالم في الوصف بمعنى مضاف الينا وهو أنا نلزمه أداء ذلك بطريق الحكم به عليه، ومراعاة الوصف في الوجوب كمراعاة الاصل، ألا ترى أن في القصاص الذي يبتنى على المساواة التفاوت في الوصف كالصحيحة مع الشلاء يمنع جريان القصاص، ولا ينظر إلى ترجيح جانب المظلوم وإلى ترجيح جانب الاصل على الوصف، فعرفنا أن قوة الثبات فيما قلنا.
وعلى هذا قلنا: إن ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف في الشهادة على الطلاق قبل الدخول، وملك القصاص لا يضمن بالاتلاف في الشهادة على العفو، وقد بينا فيما سبق أن وجوب الدية عند إتلاف النفس أو الاطراف على وجه لا يمكن إيجاب المثل فيه حكم ثابت بالنص بخلاف القياس وهو لصيانة المحل عن
الاهدار لا للماثلة على وجه الخبران، لان النفوس بأطرافها مصونة عن الابتذال وعن الاهدار.
وأما الوجه الثالث: وهو الترجيح بكثرة الاصول فلان كثرة الاصول في المعنى الذي صار الوصف به حجة بمنزلة الاشتهار في المعنى الذي صار الخبر به حجة، وهذا يظهر إذا تأملت فيما ذكرنا من المسائل وغيرها،
وما من نوع من هذه الانواع الثلاثة إذا قررته في مسألة إلا وتبين به إمكان تقرير النوعين الآخرين فيه أيضا.
وأما الوجه الرابع: وهو الترجيح بعدم الحكم عند عدم العلة فهو أضعف وجوه الترجيح، لما بينا أن العدم (لا يوجب شيئا، وأن العدم لا يكون متعلقا بعلة، ولكن انعدام الحكم عند انعدام العلة) يصلح أن يكون دليلا على وكادة اتصال الحكم بالعلة، فمن هذا الوجه يصلح للترجيح.
وبيانه في المسح بالرأس أيضا، فإن التعليل بأنه ركن لا يكون في القوة كالتعليل بأنه مسح، لان حكم ثبوت التكرار لا ينعدم بانعدام الركنية كما في المضمضة والاستنشاق، وحكم سقوط التكرار ينعدم بانعدام وصف المسح كما في اغتسال الجنب والحائض، فإنه يسن فيه صفة التكرار لانه ليس بمسح.
وكذلك في كل ما يعقل تطهيرا صفة التكرار فيه يكون مسنونا، وفيما لا يعقل تطهيرا لا يسن فيه صفة التكرار، وقولنا مسح ينبئ عن ذلك.
وكذلك قلنا في الاخ إذا ملك أخته إن بينهما قرابة محرمة للنكاح، وينعدم حكم العتق بالملك عند انعدام هذا المعنى كما في بني الاعمام، وهو إذا قال شخصان يجوز لاحدهما أن يضع زكاة ماله في صاحبه فلا يعتق أحدهما على صاحبه إذا ملكه لانعدام هذا الحكم عند انعدام هذا المعنى، فإن المسلم لا يجوز له أن يضع زكاة ماله في الكافر، وذلك لا يدل على أنه يعتق أحدهما على صاحبه إذا ملكه.
وكذلك قلنا في بيع الطعام بالطعام إنه لا يشترط قبضه في المجلس لانه عين بعين، وينعدم هذا الحكم عند انعدام
هذا الوصف، فإنه في باب الصرف يشترط القبض من الجانبين، لان الاصل فيه النقود وهي لا تتعين في العقود فكان دينا بدين، وفي السلم يشترط
القبض في رأس المال، لان المسلم فيه دين ورأس المال في الغالب نقد فيكون دينا بدين، فعرفنا أنه ينعدم الحكم عند انعدام العلة.
وهو يعلل فيقول: مالان لو قوبل كل واحد منهما بجنسه يحرم التفاضل بينهما فيشترط التقابض في بيع أحدهما بالآخر كالذهب والفضة.
ثم الحكم لا ينعدم عند انعدام هذا المعنى في السلم، فإنه يشترط قبض رأس المال في المجلس، وإن جمع العقد هناك بدلين لا يحرم التفاضل إذا قوبل كل واحد منهما بجنسه.
فهذا بيان الفصل الرابع.
فصل وأما المخلص من التعارض في دليل الترجيح فطريق بيانه أن نقول: إن كل محدث موجود بصورته ومعناه الذي هو حقيقة له، ثم تقوم به أحوال تحدث عليه، فإذا قام دليل الترجيح لمعنى في ذات أحد المتعارضين وعارضه دليل الترجيح لمعنى في حال الآخر على مخالفة الاول فإنه يرجح المعنى الذي هو في الذات على المعنى الذي هو في الحال لوجهين: أحدهما أن الذات أسبق وجودا من الحال، فبعدما وقع الترجيح لمعنى فيه لا يتغير بما حدث من معنى في حال الآخر بعد ذلك، بمنزلة ما لو اتصل الحكم باجتهاد فتأيد به ثم لم ينسخ بما يحدث من اجتهاد آخر بعد ذلك، وإذا اتصل الحكم بشهادة المستورين بالنسب أو النكاح لرجل لم يتغير بعد ذلك بشهادة عدلين لآخر.
والثاني أن الاحوال التي تحدث على الذات تقوم به فكان الذات بمنزلة الاصل وما يقوم به من الحال بمنزلة التبع، والاصل لا يتغير بالتبع على أي وجه كان.
وبيان هذا فيما اتفقوا عليه أن ابن الاخ لاب وأم يكون مقدما في العصوبة على العم، لان المرجح فيه معنى في ذات
القرابة وهو الاخوة التي هي مقدمة على العمومة، وفي العم المرجح هو زيادة القرب باعتبار الحال.
وكذلك العمة لام مع الخالة لاب وأم إذا اجتمعتا فللعمة الثلثان، باعتبار أن المرجح في حقها هو معنى في ذات القرابة وهو الادلاء بالاب، وفي الاخرى معنى في حالها وهو اتصالها من الجانبين بأم الميت.
ولو كانا أخوين أحدهما لاب وأم والآخر لاب فإنه يقدم في العصوبة الذي لاب وأم، لانهما استويا في ذات القرابة فيصار إلى الترجيح باعتبار الحال وهو زيادة الاتصال لاحدهما.
ولو كان ابن الاخ لاب معه ابن ابن أخ لاب وأم فإن الاخ لاب يقدم في العصوبة، باعتبار الحال لما استويا في ذات القرابة وهو الاخوة.
وربما خفي على الشافعي هذا الحد في بعض المسائل فهو معذور لكونه خفيا، ومن أصاب مركز الدليل فهو مأجور مشكور.
وبيانه في مسائل الغصب فإن علماءنا أثبتوا الترجيح باعتبار الصناعة والخياطة والطبخ والشي، وقالوا فيمن غصب ساحة وأدخلها في بنائه ينقطع حق المغصوب منه عن الساحة، لان الصنعة التي أحدثها الغاصب فيها قائمة من كل وجه غير مضاف إلى صاحب العين، وعين الساحة قائم من وجه مستهلك من وجه، لانه صار مضافا إلى الحادث بعمل الغاصب وهو البناء، فرجحنا ما هو قائم من كل وجه باعتبار معنى في الذات، وأسقطنا اعتبار معنى قوة الحال في الجانب الآخر وهو أنه أصل، وفي الساحة إذا بنى عليها لما استويا في أن كل واحد منهما قائم من كل وجه، فرجحنا باعتبار الحال حق صاحب الساحة على حق صاحب البناء (لان قوام البناء) للحال بالساحة وقوام الساحة ليس بالبناء.
وكذلك الثوب إذا قطعه وخاطه، واللحم إذا طبخه أو شواه، لان الوصف الحادث بعمل الغاصب قائم من كل وجه، وما هو حق المغصوب منه قائم من وجه مستهلك
من وجه باعتبار العمل المضاف إلى الغاصب، فيترجح ما هو قائم من كل وجه.
وكذلك قلنا صوم رمضان يتأدى بالنية الموجودة في أكثر النهار لان الامساك
في جميع النهار ركن واحد، وشرط كونه صوما شرعيا النية ليحصل بها الاخلاص، فإذا ترجح جانب الوجود باقتران النية بأكثر هذا الركن قلنا يحصل به امتثال الامر.
ف الشافعي يقول: يؤخذ في العبادات بالاحتياط، فإذا انعدمت النية في جزء من هذا الركن يترجح جانب العدم على جانب الوجود لاجل الاحتياط في أداء الفريضة، فكان ما اعتبره معنى في الحال وهو أنه فرض يؤخذ فيه بالاحتياط، وما اعتبرناه معنى في الذات، والمرجح في الذات أولى بالاعتبار من المرجح في الحال.
وقال أبو حنيفة: إذا كان لرجل مائتا درهم وخمس من الابل السائمة فسبق حول السائمة فأدى عنها شاة ثم باعها بمائتي درهم فإنه لا يضم ثمنها إلى ما عنده ولكن ينعقد على الثمن حول جديد، فلو استفاد مائتي درهم بهبة أو ميراث فإنه يضمها إلى أقرب المالين في الحول، وإن كان المستفاد ربح أحد المالين أو زيادة متولدة من عين أحد المالين يضم ذلك إلى الاصل، وإن كان أبعد في الحول لان المرجح هنا معنى في الذات وهو كونه نماء أحد المالين فيسقط بمقابلته اعتبار الحال في المال الآخر وهو القرب في الحول، وفي الاول لما استوى الجانبان فيما يرجع إلى الذات صرنا إلى الترجيح باعتبار الحال.
والمسائل على هذا الاصل يكثر تعدادها، والله أعلم.
فصل وأما الفاسد من الترجيح فأنواع أربعة: أحدها ما بينا من ترجيح قياس بقياس آخر، لان كل واحد منهما علة شرعية لثبوت الحكم بها فلا تكون إحداهما مرجحة للاخرى بمنزلة زيادة العدد في الشهود.
وكذلك ترجيح أحد
القياسين بالخبر فاسد، لان القياس متروك بالخبر فلا يكون حجة في مقابلته والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة كما بينا.
وكذلك ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب فاسد، لان الخبر لا يكون حجة في معارضة النص.
والنوع الثاني الترجيح بكثرة الاشباه فإنه فاسد عندنا.
وبيانه فيما يقوله الخصم: إن الاخ يشبه الاب من وجه وهو المحرمية ويشبه ابن العم من وجوه نحو جريان القصاص من الطرفين، وقبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه،
وجواز وضع الزكاة لكل واحد منهما في صاحبه، وحل حليلة كل واحد منهما لصاحبه وغير ذلك من الاحكام.
قالوا: فيرجح باعتبار كثرة الاشباه، وهو فاسد عندنا لان الاصول شواهد، وقد بينا أن الترجيح بزيادة عدد الشهود في الخصومات فاسد، وفي الاحكام الترجيح بكثرة العلل فاسد، فكذلك الترجيح بكثرة الاشباه.
والنوع الثالث الترجيح بعموم العلة، وذلك نحو ما يقوله الخصم: إن تعليل حكم الربا في الاشياء الاربعة بالطعم أولى لانه يعم القليل والكثير، والتعليل بالقدر يخص الكثير وما يكون أعم فهو أولى.
وعندنا هذا فاسد، لان إثبات الحكم بالعلة فرع لاثبات الحكم بالنص، وعندنا الترجيح في النصوص لا يقع بالعموم والخصوص، وعنده الخاص يقضي على العام، كيف يقول في العلل إن ما يكون أعم فهو مرجح على ما يكون أخص، ثم معنى العموم والخصوص يبتنى على الصيغة، وذلك إنما يكون في النصوص، فأما العلل فالمعتبر فيها التأثير أو الاحالة على حسب ما اختلفا فيه، ولا مدخل للعموم والخصوص في ذلك.
والنوع الرابع الترجيح بقلة الاوصاف، وذلك نحو ما يقوله الخصم في أن ما جعلته علة في باب الربا وصف واحد وهو الطعم، فأما الجنسية عندي شرط
وأنتم تجعلون علة الربا ذات وصفين، فتترجح علتي باعتبار قلة الاوصاف.
وهذا فاسد عندنا لما بينا أن ثبوت الحكم بالعلة فرع لثبوته بالنص، والنص الذي فيه بعض الايجاز والاختصار لا يترجح على ما فيه بعض الاشباع في البيان فكذلك العلة بل أولى، لان ثبوت الحكم هناك بصيغة النص الذي يتحقق فيه الاختصار والاشباع، وهنا باعتبار المعنى المؤثر ولا يتحقق فيه الايجاز والاشباع.
باب: وجوه الاعتراض على العلل الطردية التي يجوز الاحتجاج بها هذه الوجوه أربعة: القول بموجب العلة، ثم الممانعة، ثم بيان فساد الوضع، ثم النقض.
فنقدم بيان القول بموجب العلة لان المصير إلى المنازعة عند تعذر إمكان الموافقة، وأما مع إمكان الموافقة وتحصيل المقصود به فلا معنى للمصير إلى المنازعة.
ثم تفسير القول بموجب العلة هو التزام ما رام المعلل التزامه بتعليله.
وبيان ذلك فيما علل به الشافعي رحمه الله في تكرار المسح بالرأس أنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل في المغسول، لانا نقول بموجب هذا.
فنقول: يسن تثليثه وتربيعه أيضا، لان المفروض هو المسح بربع الرأس عندنا، وعنده أدنى ما يتناوله الاسم، ثم استيعاب جميع الرأس بالمسح سنة، وبالاستيعاب يحصل التثليث والتربيع ولكن في محل غير المحل الذي قام فيه الفرض، لانه لا فرق بين أن يكون تثليث الفعل في محل أو محال، فإن من دخل ثلاث أدور يقول دخلت ثلاث دخلات، كما أن من دخل دارا واحدة ثلاث مرات يقول دخلت ثلاث دخلات، فإن غير الحكم فقال وجب أن يسن تكراره.
قلنا: الآن هذا في الاصل ممنوع، فإن المسنون في
الغسل ليس هو التكرار مقصودا عندنا بل الاكمال، وذلك بالزيادة على الفريضة إلا أن هناك الاستيعاب فرض، فالزيادة بعد ذلك الاكمال لا يكون إلا بالتكرار، فكان وقوع التكرار فيه اتفاقا لا أن يكون مقصودا، وهنا الاستيعاب ليس بفرض فيحصل الاكمال فيه بالاستيعاب لوجود الزيادة على القدر المفروض، والاكمال يحصل به في الاركان نحو القراءة في الصلاة، فالاكمال يكون فيه بالاطالة لا بالتكرار، وكذلك الاكمال في الركوع والسجود، ولان الاكمال فيما يعقل فيه المعنى وهو التطهير بتسييل الماء على العضو إنما يكون بالتكرار كما في غسل النجاسة العينية عن البدن أو الثوب يكون الاكمال فيه بالتكرار إلى طمأنينة القلب، فأما في المسح الذي لا يعقل فيه معنى التطهير لا يكون
للتكرار فيه تأثير في الاكمال، بل الاكمال فيه يكون بالاستيعاب الذي فيه زيادة على القدر المفروض، وعند ذلك يضطر المعلل إلى الرجوع إلى طلب التأثير بوصف الركنية ووصف المسح الذي تدور عليه المسألة، ثم يظهر تأثير المسح في التخفيف، وتحقيق معنى الاكمال فيه بالاستيعاب كما في المسح بالخف، ويتبين أنه لا أثر للركنية في اشتراط التكرار، فإن التكرار مسنون في المضمضة والاستنشاق مع انعدام الركنية، ويتبين أن ما يكون ركنا وما يكون سنة وما يكون أصلا وما يكون رخصة في معنى الاكمال بالزيادة على القدر المفروض سواء، ثم في المسح الذي هو رخصة لما لم يكن الاستيعاب ركنا كالمسح بالخف كان الاكمال فيه بالاستيعاب لا بالتكرار، وكذلك في المسح الذي هو أصل، وفيما يكون مسنونا لما كان إقامة أصل السنة فيه بالاستيعاب كان الاكمال فيه بالتكرار كالمضمضة، وكذلك فيما هو ركن إذا كان إقامة الفرض لا تحصل إلا بالاستيعاب كان الاكمال فيه بالتكرار، فيظهر فقه المسألة من هذا الوجه.
ومن ذلك ما علل به الشافعي في صوم التطوع إنه باشر فعل قربة لا يمضي في فاسدها فلا يلزمه القضاء بالافساد، لانا نقول بموجب هذه العلة، فإن عندنا القضاء لا يجب بالافساد وإنما يجب بما وجب به الاداء وهو الشروع، فإن غير العبارة وقال وجب أن لا يلزم بالشروع كالوضوء.
قلنا: الشروع في العبادة باعتبار كونها مما لا يمضي في فاسدها لا يكون ملزما عندنا بل باعتبار كونها مما تلتزم بالنذر، وعدم اللزوم باعتبار الوصف الذي قاله لا يمنع اللزوم باعتبار الوصف الذي قلنا، ولا بد من إضافة الحكم إلى الوصف الذي هو ركن تعليله، فإن لم يجب باعتبار وصف لا يدل على أنه لا يجب باعتبار وصف آخر، وعند ذلك يضطر إلى إقامة الدليل على أن الشروع غير ملزم وأنه ليس نظير النذر في كونه ملزما، فتبين فقه المسألة.
ومن ذلك قولهم إسلام المروي في المروي جائز لانه أسلم مذروعا في مذروع فيجوز كإسلام الهروي بالمروي، لانا نقول بموجبه، فإن كونه مذروعا في مذروع لا يفسد العقد عندنا ولكن هذا الوصف لا يمنع فساد العقد باعتبار
معنى آخر هو مفسد، ألا ترى أنه يفسد بذكر شرط فاسد فيه وبترك قبض رأس المال في المجلس مع أنه أسلم مذروعا في مذروع.
فإذا جاز أن يفسد هذا العقد مع وجود هذا الوصف باعتبار معنى آخر بالاتفاق فلماذا لا يجوز أن يفسد باعتبار الجنسية، فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة والاشتغال بأن الجنسية لا تصلح علة لفساد هذا العقد بها إن أمكنه ذلك.
ومن ذلك تعليلهم في الطلاق الرجعي إنها مطلقة فتكون محرمة الوطئ كالمبانة، لانا نقول بموجبه، فإنا لا نجعلها محللة الوطئ لكونها مطلقة بل لكونها منكوحة، وبالاتفاق مع كونها مطلقة إذا كانت منكوحة تكون محللة
الوطئ كما بعد المراجعة، فإن الطلاق الواقع بالرجعة لا يرتفع ولا تخرج من أن تكون مطلقة، فيضطر حينئذ إلى الرجوع إلى فقه المسألة، وهو أن وقوع الطلاق هل يمكن خللا في النكاح أو هل يكون محرما للوطئ مع قيام ملك النكاح، وعلى هذا يدور فقه المسألة.
ومن ذلك ما قالوا في المختلعة لا يلحقها الطلاق لانها ليست بمنكوحة، فإن عندنا باعتبار هذا الوصف لا يكون محلا لوقوع الطلاق عليها عند الايقاع، ولكن هذا لا يبقى وصفا آخر فيها يكون به محلا لوقوع الطلاق عليها، وهو ملك اليد الباقي له عليها ببقاء العدة، فيضطر بهذا إلى الرجوع إلى فقه المسألة.
ومن ذلك تعليلهم في إعتاق الرقبة الكافرة عن كفارة الظهار فإنه تحرير في تكفير فلا يتأدى بالرقبة الكافرة كما في كفارة القتل، لانا نقول بموجب هذا، فإن عندنا لا يتأدى الواجب من الكفارة بهذا الوصف الذي قال بل بوجود الامتثال منه للامر، كما يتأدى بصوم شهرين متتابعين، وبإطعام ستين مسكينا عند العجز عن الصوم، فيضطر عند ذلك إلى الرجوع إلى فقه المسألة، وهو أن الامتثال لا يحصل هنا بتحرير الرقبة الكافرة كما لا يحصل في كفارة القتل، لان المطلق محمول على المقيد.
ومن ذلك قولهم في الاخ إنه لا يعتق على أخيه إذا ملكه لانه ليس
بينهما جزئية، فإنا نقول بموجبه، فباعتبار انعدام الجزئية بينهما لا يثبت العتق عندنا، ولكن انعدام الجزئية لا ينفي وجود وصف آخر به تتم علة العتق وهو القرابة المحرمة للنكاح، فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة، وهو أن القرابة المحرمة للنكاح هل تصلح متممة لعلة العتق مع الملك بدون الولاد أم لا.
وأكثر ما يذكر من العلل الطردية يأتي عليها هذا النوع من
الاعتراض، وهو طريق حسن لالجاء أصحاب الطرد إلى الشروع في فقه المسألة.
فصل: في الممانعة قال رضي الله عنه: الممانعة على هذا الطريق على أربعة أوجه: إحداها في الوصف، والثانية في صلاحية الوصف للحكم، والثالثة في الحكم، والرابعة في إضافة الحكم إلى الوصف، وهذا لان شرط صحة العلة عند أصحاب الطرد كون الوصف صالحا للحكم ظاهرا وتعليق الحكم به وجودا وعدما.
أما بيان النوع الاول فيما علل به الشافعي في الكفارة على من أفطر بالاكل والشرب قال: هذه عقوبة تتعلق بالجماع فلا تتعلق بغير الجماع كالرجم.
لانا لا نسلم أن الكفارة تتعلق بالجماع وإنما تتعلق بالافطار على وجه يكون جناية متكاملة، وعند هذا المنع يضطر إلى بيان حرف المسألة، وهو أن السبب الموجب للكفارة الفطر على وجه تتكامل به الجناية أو الجماع المعدم للصوم، وإذا ثبت أن السبب هو الفطر بهذه الصفة ظهر تقرر السبب عند الاكل والشرب وعند الجماع بصفة واحدة.
وبيان النوع الثاني في تكرار المسح بالرأس فإن الخصم إذا علل فقال: هذه طهارة مسح فيسن فيها التثليث كالاستنجاء بالاحجار.
قلنا: لا نسلم هذا الوصف في الاصل، فإن الاستنجاء إزالة النجاسة العينية، فأما أن يكون طهارة بالمسح فلا، ولهذا لو لم يتلوث شئ من ظاهر بدنه لا يكون عليه الاستنجاء، ولهذا كان الغسل بالماء أفضل.
ثم المسح الذي يدل على التخفيف لا يكون صالحا لتعليق حكم التثليث به، وبدون الصلاحية لا يصلح
التعليل، فيضطر عند هذا المنع إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو إثبات التسوية بين الممسوح والمغسول بوصف صالح لتعلق حكم التكرار به، أو التفرقة
بينهما بوصف المسح والغسل، فإن أحدهما يدل على الاستيعاب والآخر يدل على التخفيف بعين المسح.
وكذلك تعليلهم في بيع تفاحة بتفاحتين إنه باع مطعوما بمطعوم من جنسه مجازفة، فلا يجوز كبيع صبرة بصبرة من حنطة.
لانا نقول: يعني بهذا المجازفة ذاتا أم قدرا ؟ فلا يجد بدا من أن يقول ذاتا، فنقول: حينئذ يعني المجازفة في الذات صورة أم عيارا، فلا يجد بدا من أن يقول عيارا، لان المجازفة من حيث الصورة في الذات لا تمنع جواز البيع بالاتفاق، فإن بيع قفيز حنطة بقفيز حنطة جائز مع وجود المجازفة في الذات صورة، فربما يكون أحدهما أكثر في عدد الحبات من الآخر.
وإذا ادعى المجازفة عيارا قلنا: هذا الوصف إنما يستقيم فيما يكون داخلا تحت المعيار والتفاح وما أشبهه لا يدخل تحت المعيار، فلا يكون هذا الوصف صالحا لهذا الحكم، ولان المساواة كيلا شرط جواز العقد في الاموال الربوية بالاجماع، ومن ضرورته أن يكون ضده وهو الفضل في المعيار مفسدا للعقد، والفضل في المعيار لا يتحقق فيما لا يدخل تحت المعيار، كما أن المساواة في المعيار الذي هو شرط الجواز عنده لا يتحقق فيما لا يدخل تحت المعيار، فيضطر عند هذا إلى بيان الحرف الذي تدور عليه المسألة، وهو أن حرمة العقد في هذه الاموال عند المقابلة بجنسها أصل، والجواز يتعلق بشرطين: المساواة في المعيار، واليد باليد.
وعندنا جواز العقد فيها أصل كما في سائر الاموال، والفساد باعتبار فضل هو حرام وهو الفضل في المعيار، وذلك لا يتحقق إلا فيما تتحقق فيه المساواة في المعيار، إذ الفضل يكون بعد تلك المساواة، ولا تتحقق هذه المساواة فيما لا يدخل تحت المعيار أصلا.
ومن ذلك تعليلهم في الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها لانها ثيب يرجى
مشورتها، فلا ينفذ العقد عليها بدون رأيها كالنائمة والمغمى عليها.
لانا نقول: ما تعنون بقولكم بدون رأيها ؟ رأي قائم في الحال أم رأي سيحدث أم أيهما كان ؟ فإن قالوا أيهما كان فهو باطل من الكلام، لان الثيب المجنونة تزوج في الحال، ورأيها غير مأنوس عنها لتوهم الافاقة، فلا نجد بدا من أن نقول المراد رأي قائم لها، وهذا ممنوع في الفرع، فإنه ليس لها رأي قائم في الحال في المنع ولا في الاطلاق، فإن من لم يجوز تزويجها لم يفصل في ذلك بين أن يكون العقد برأيها (وبدون رأيها) ومن جوز العقد فكذلك لم يفصل، فعرفنا أنه ليس لها رأي قائم، وما سيحدث من علة أو مانع لا يجوز أن يكون مؤثرا في الحكم قبل حدوثه، ومن جوز حدوثه في المنع لا في الاثبات، إذ الحكم لا يسبق علته، فيضطر عند بيان المنع بهذه الصفة إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن رأي الولي هل يقوم مقام رأيها لانعدام اعتبار رأيها في الحال شرعا فيما يرجع إلى النظر لها كما في المال والبكر والغلام، أم لا يقوم رأيه مقام رأيها لما في ذلك من تفويت الرأي عليها إذا صارت من أهل الرأي بالبلوغ ؟ وبمثل هذا الحد يتبين عوار من شرع في الكلام بناء على حسن الظن قبل أن يتميز له الصواب من الخطأ بطريق الفقه.
وبيان الممانعة في الحكم كثيرة.
منها تعليلهم في تكرار المسح بأنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه، لانا لا نسلم هذا الحكم في الاصل، فالمسنون هناك عندنا ليس التكرار، بل الاكمال بالزيادة على قدر المفروض في محله من جنسه كما في أركان الصلاة، فإن إكمال ركن القراءة بالزيادة على القدر المفروض في محله من جنسه وهو تلاوة القرآن.
وكذلك
الركوع والسجود إلا أن في الغسل لما كان الاستيعاب فرضا لا يتحقق فيه الاكمال بهذه الصفة إلا بالتكرار، فكان التكرار مسنونا لغيره وهو تحصيل صفة الاكمال به لا لعينه، وفي الممسوح الاستيعاب ليس بركن فيقع الاستغناء عن التكرار في إقامة سنة الكمال، بل بالزيادة على القدر
المفروض باستيعاب جميع الرأس بالمسح مرة واحدة يحصل الاكمال، وما كان مشروعا لغيره فإنما يشرع باعتباره في موضع تتحقق الحاجة إليه، فأما إذا كان ما شرع لاجله يحصل بدونه لا يفيد اعتباره، ألا ترى أنه لو كرر المسح في ربع الرأس أو أدنى ما يتناوله الاسم لا يحصل به كمال السنة ما لم يستوعب جميع الرأس بالمسح، فبهذا يتبين أن الاكمال هنا بالاستيعاب وأنه هو الاصل، فيجب المصير إليه إلا في موضع يتحقق العجز عنه بأن يكون الاستيعاب ركنا، كما في المغسولات، فحينئذ يصار إلى الاكمال بالتكرار، ولا يلزمنا المسح بالاذنين فإنه مسنون لاكمال المسح بالرأس، وإن لم يكن في محل المفروض حتى لا يتأدى مسح الرأس بمسح الاذنين بحال، لان ذلك المسح لاكمال السنة في المسح بالرأس، ولهذا لا يأخذ لاذنيه ماء جديدا عندنا، ولكن يمسح مقدمهما ومؤخرهما مع الرأس، والمسح فيهما أفضل من الغسل إلا أن كون الاذنين من الرأس لما كان ثابتا بالسنة دون نص الكتاب يثبت اتحاد المحل فيما يرجع إلى إكمال السنة به ولا تثبت المحلية فيما يتأدى به الفرض الثابت بالنص، فقلنا لا ينوب مسح الاذنين عن المسح بالرأس لهذا.
ومن ذلك تعليلهم في صوم رمضان بمطلق النية أنه صوم فرض فلا يتأدى بدون التعيين بالنية كصوم القضاء.
فإنا نقول: ما تعنون لهذا الحكم ؟
التعين بالنية بعد التعين أو قبل التعين أم في الوجهين جميعا ؟ فلا يجدون بدا من أن يقولوا قبل التعين، لان بعد التعين التعيين غير معتبر، وهو ليس بشرط في تأدي صوم القضاء، وإذا قالوا قبل التعين قلنا: هذا ممنوع في الفرع، فإن التعين حاصل هنا بأصل الشرع إذ المشروع في هذا الزمان صوم الفرض خاصة، فغيره ليس بمشروع، فلا نجد بدا حينئذ من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن نية التعيين هل يسقط اشتراطه بكون المشروع متعينا في ذلك الزمان أم لا يسقط اعتباره ؟.
ومن ذلك تعليلهم في بيع المطعوم الذي لا يدخل تحت المعيار بجنسه أنه باع مطعوما بمطعوم من جنسه لا تعرف المساواة بينهما في المعيار فيكون حراما كبيع صبرة حنطة بصبرة حنطة.
فإنا نقول: إيش تعنون بهذا الحكم ؟ أهو حرمة مطلقة أم حرمة إلى غاية التساوي ؟ فإن قالوا: بنا غنية عن بيان هذا.
قلنا: لا كذلك، فالحرمة الثابتة إلى غاية غير الحرمة المطلقة، والحكم الذي يقع التعليل له لا بد أن يكون معلوما.
فإن قال: أعني الحرمة المطلقة، منعنا هذا الحكم في الاصل، لان الحرمة هناك ثابتة إلى غاية وهي المساواة في القدر، وإن عنى الحرمة إلى غاية فقد تعذر إثبات هذه الحرمة بالتعليل في الفرع، لان إثبات الحرمة إلى غاية إنما يتحقق في مال تتصور فيه تلك الغاية، وما لا يدخل تحت المعيار لا يتصور فيه الغاية وهي المساواة في المعيار، فكيف يتحقق إثبات الحرمة فيه إلى غاية ؟ وعند هذا المنع يضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة كما أشرنا إليه.
ومن ذلك تعليلهم في السلم في الحيوان أنه مال يثبت دينا في الذمة مهرا فيثبت دينا في الذمة سلما كالثياب.
فإنا نقول: ما معنى قولكم يثبت دينا
في الذمة ؟ أتريدون به معلوم الوصف أم معلوم المالية والقيمة ؟ فإن قال: أعني معلوم الوصف، منعنا ذلك في الاصل وهو المهر، فقد قامت الدلالة لنا على أنه لا يشترط فيما يثبت في الذمة مهرا أن يكون معلوم الوصف.
فإن قال: نعني معلوم المالية والقيمة، منعنا ذلك في الفرع، فإن الحيوان بعد ذكر الاوصاف يتفاوت في المالية تفاوتا فاحشا.
وإن قالوا: لا حاجة بنا إلى هذا التعيين، قلنا لا كذلك، فاعتبار أحد الدينين بالآخر لا يصح ما لم يثبت أنهما نظيران ولا طريق لثبوت ذلك إلا الايجاد في الطريق الذي يثبت به كل واحد من الدينين في الذمة، وعند ذلك يضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن إعلام المسلم فيه على وجه لا يبقى فيه تفاوت فاحش فيما هو المقصود، وهو المالية على وجه يلتحق بذوات الامثال في صفة المالية هل يكون شرطا لجواز عقد السلم أم لا ؟
ومن ذلك تعليلهم في اشتراط التقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام أن العقد جمع بدلين يجري فيهما ربا الفضل فيشترط التقابض كالاثمان، فإنا نقول: إيش المراد بقولكم فيشترط فيهما تقابض ؟ أهو التقابض لازالة صفة الدينية أو لاثبات زيادة معنى الصيانة، وأحدهما يخالف الآخر فلا بد من بيان هذا.
فإن قالوا: لمعنى الصيانة، منعنا هذا الحكم في الاثمان، فاشتراط التقابض هناك عندنا لازالة صفة الدينية، فإن النقود لا تتعين في العقود ما لم تقبض، والدين بالدين حرام شرعا.
وإن قالوا: لازالة صفة الدينية، لا يتمكنون من إثبات هذا الحكم في الفرع، فالطعام يتعين في العقد بالتعيين من غير قبض فلا يجدون بدا من الرجوع إلى حرف المسألة، وهو بيان أن اشتراط القبض في الصرف ليس لازالة صفة الدينية بل للصيانة عن معنى
الربا، بمنزلة المساواة في القدر.
ومن ذلك قولهم في من اشترى أباه ناويا عن كفارة يمينه إنه عتق الاب فلا تتأدى به الكفارة كما لو ورثه، لانا نقول: إن عنيتم أنه لا تتأدى الكفارة بالعتق فنحن نقول في الفرع لا تتأدى الكفارة بالعتق، بل الكفارة تتأدى بفعل منسوب إلى المكفر والعتق وصف في المحل ثابت شرعا، وإن عنيتم الاعتاق فهذا غير موجود في الاصل، لانه لا صنع للوارث في الارث حتى يصير به معتقا، وعند هذا لا بد من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن شراء القريب هل هو إعتاق بطريق أنه متمم علة العتق ؟ أم ليس بإعتاق وإنما يحصل العتق به حكما للملك ؟ ومن ذلك قولهم في أن الكفارة لا تتأدى بطعام الاباحة إنه نوع تكفير يتأدى بالتمليك (فلا يتأدى بدون التمليك) كالكسوة، لانا نقول: لا تتأدى بدون التمليك مع امتثال الامر (أم بدون امتثال الامر.
فإن قال: بي غنية عن بيان هذا، قلنا: لا كذلك، لان التكفير مأمور به شرعا فلا يتأدى
المأمور به إلا بما فيه امتثال الامر.
فإن قال: مع امتثال الامر، منعنا هذا الحكم في الاصل وهو إعارة الثوب من المسكين.
وإن قال: بدون امتثال الامر) قلنا: هذا مسلم، ولكنا نمنع انعدام امتثال الامر في الفرع، والمأمور به هو الاطعام، وحقيقته التمكين من الطعام، فيضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن حقيقة معنى الاطعام أهو التمكين بالتغدية والتعشية أم التمليك ؟ ومنه قولهم في القطع والضمان إنهما يجتمعان لانه أخذ مال الغير بغير إذن مالكه فيكون موجبا للضمان كالاخذ غصبا.
فإنا نقول: ما معنى
هذا الحكم ؟ أهو أن يكون موجبا للضمان مع وجود ما ينافيه، أم عند عدم ما ينافيه ؟ فإن قال: مع وجود ما ينافيه، منعنا ذلك في الاصل، فإن غصب الباغي مال العادل لا يكون موجبا للضمان، وإن كان آخذا بغير حق وبغير إذن المالك.
وإن قال: عند عدم ما ينافيه، قلنا: بموجبه ولكن لا نسلم انعدام ما ينافي الضمان هنا، فإن قطع اليد بسبب السرقة مناف للضمان عندنا أو مسقط له كالابراء، فلا يجد بدا من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن استيفاء القطع هل يكون منافيا للضمان أم لا ؟ وأما بيان إضافة الحكم إلى الوصف فهو على ما ذكرنا في القول بموجب العلة، فإن إضافة الحكم إلى العلل الطردية ليس بدليل موجب إضافة الحكم إلى ذلك الوصف، بل لكونه موجودا عند وجوده ومعدوما عند عدمه، وقد بينا أن العدم لا يصلح لاضافة الحكم إليه، وكذلك كل تعليل يكون بنفي وصف أو حكم، فإنا نمنع صلاحية ذلك الوصف لاضافة الحكم إليه، نحو تعليلهم في الاخ أنه لا يعتق على أخيه إذا ملكه لانه ليس بينهما بعضية كابن العم، فإنا نمنع في ابن العم أن يكون انتفاء العتق عند دخوله في ملكه لهذا الوصف، إذ العدم لا يجوز أن يكون موجبا شيئا.
وكذلك قولهم في النكاح إنه لا يثبت بشهادة الرجال والنساء لانه ليس بمال كالحدود.
فإنا نمنع إضافة هذا الحكم في الحدود إلى هذا الوصف، لانه كون الحد ليس بمال لا يصلح علة لامتناع ثبوته بشهادة النساء مع الرجال.
وتعليلهم في الاحصار بالمرض أنه لا يفارقه ما حل به بالاحلال، كالذي ضل الطريق الممانعة في الاصل على هذا الوجه.
وتعليلهم في المبتوتة أنها لا تستوجب النفقة ولا يلحقها الطلاق لانها ليست بمنكوحة كالمطلقة
قبل الدخول، فإنا نمنع إضافة هذا الحكم في الاصل إلى هذا الوصف، إذ العدم لا يصلح أن يكون موجبا شيئا.
وعلى هذا فخرج ما شئت من المسائل.
فصل: في بيان فساد الوضع قال رضي الله عنه: اعلم بأن فساد الوضع في العلل بمنزلة فساد الاداء في الشهادة وأنه مقدم على النقض، لان الاطراد إنما يطلب بعد صحة العلة، كما أن الشاهد إنما يشتغل بتعديله بعد صحة أداء الشهادة منه، فأما مع فساد في الاداء لا يصار إلى التعليل لكونه غير مفيد.
ثم تأثير فساد الوضع أكثر من تأثير النقض، لان بعد ظهور فساد الوضع لا وجه سوى الانتقال إلى علة أخرى، فأما النقض فهو جحد مجلس يمكن الاحتراز عنه في مجلس آخر.
وبيانه فيما قال الشافعي في إسلام أحد الزوجين إن الحادث بينهما اختلاف الدين، فالفرقة به لا تتوقف على قضاء القاضي كالفرقة بردة أحد الزوجين.
لانا نقول: هذا الاختلاف إنما حصل بإسلام من أسلم منهما، فأما باعتبار بقاء من بقي على الكفر الحال حال الموافقة فقد كان بينهما الموافقة وهذا على دينه، فعرفنا أن الاختلاف الحادث بإسلام المسلم منهما هو سبب لعصمة الملك وزيادة معنى الصيانة فيه، فالتعليل به لاستحقاق الفرقة يكون فاسدا وضعا في الفرع وإن كان صحيحا في الاصل، من حيث إن الاختلاف هناك حادث بالردة وهي سبب لزوال الملك والعصمة.
وكذلك قولهم في المسح بالرأس إنه ركن في الطهارة فيسن تثليثه كغسل الوجه فاسد وضعا، لانه يرد المسح المبني
على التخفيف إلى الغسل المبني على المبالغة ليثبت في المسح زيادة غلظ فوق ما في الغسل، فإن في الغسل الاكمال بالتثليث في محل الفرض خاصة، وبهذا
التعليل يجعل التثليث في الممسوح مشروعا للاكمال في موضع الفرض وغير موضع الفرض، فإن الفرض يتأدى بالربع وهو يجعل التثليث مسنونا بالاستيعاب.
ومن ذلك قولهم في الضرورة إذا حج بنية النفل يقع عن الفرض لان فرض هذه العبادة يتأدى بمطلق النية، فيتأدى بنية النفل أيضا كالزكاة، فإن التصدق بالنصاب على الفقير بمطلق النية لما كان يتأدى به الزكاة فنية النفل كان كذلك.
ولكنا نقول: هذا فاسد وضعا، لانه بهذا الطريق يرد المفسر إلى المجمل، ويحمل المقيد على المطلق، وإنما المجمل يرد إلى المفسر ليصير به معلوم المراد، والمطلق يحمل على المقيد عنده في حادثتين أو في حكمين، وعندنا في حادثة واحدة في حكم واحد، حتى رددنا مطلق القراءة في صوم ثلاثة أيام في اليمين إلى المقيد بالتتابع في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، وأحد لا يقول المقيد يحمل على المطلق، وهو نظير مطلق النقد ينصرف إلى نقد البلد المعروف لدلالة العرف، فأما المقيد بنقد آخر فإنه لا يحمل على المطلق لينصرف إلى نقد البلد.
ومن ذلك قولهم في علة الربا إن صفة الطعم معنى يتعلق به البقاء، يعنون أن بقاء النفس يكون بالطعم فيكون ذلك علة موجبة لزيادة شرطين في العقد على المطعوم عند مقابلة الجنسية.
ونحن نقول: هذا فاسد وضعا، لان البيع في الاصل ما شرع إلا للحاجة ولهذا اختص بالمال الذي بذله لحوائج الناس، وصفة الطعم تكون عبارة عن أعظم أسباب الحاجة إلى ذلك المال، لان ما يتعلق به البقاء يحتاج إليه كل واحد، وذلك إنما يصلح علة لصحة العقد وتوسعة الامر فيه لا للحرمة، لان تأثير الحاجة في
الاباحة بمنزلة إباحة الميتة عند الضرورة، ولهذا حل لكل واحد من الغانمين تناول مقدار الحاجة من الطعام والعلف الذي يكون في الغنيمة في دار الحرب قبل القسمة بخلاف سائر الاموال، فكانت العلة فاسدة وضعا مع أنه لا تأثير لها في إثبات المماثلة بين العوضين الذي هو شرط جواز العقد بالنص.
ومن ذلك قولهم في طول الحرة إن الحر لا يجوز له أن يرق ماءه مع غنيته عنه، كما لو كان تحته حرة، فإن تأثير الحرية في أصل الشرع في استحقاق زيادة النعمة والكرامة وفي إثبات صفة الكمال في الملك، ولهذا حل للحر أربع نسوة بالنكاح ولم يحل للعبد إلا اثنتان، فالتعليل لاثبات الحجر عن العقد بصفة الحرية فيما لا يثبت الحجر عنه بسبب الرق يكون فاسدا في الوضع مخالفا لاصول الشرع.
ومن ذلك قولهم فيمن جن في وقت صلاة كامل أو في يوم واحد في الصوم إنه لا يلزمه القضاء، لان الخطاب عنه ساقط أصلا ووجوب القضاء يبتنى على وجوب الاداء، بمنزلة ما لو جن أكثر من يوم وليلة في الصلاة، أو استوعب الجنون الشهر كله في الصوم.
ونحن نقول: هذا فاسد وضعا، لان الحادث بالجنون عجز عن فهم الخطاب والائتمار بالامر ولا أثر للجنون في إخراجه من أن يكون أهلا للعبادة، لان ذلك يبتنى على كونه أهلا لثوابها، والاهلية لثواب العبادة بكونه مؤمنا والجنون لا يبطل إيمانه، ولهذا يرث المجنون قريبه المسلم، ولا يفرق بين المجنونة وزوجها المسلم.
والدليل عليه أنه لا يبطل إحرامه بسبب الجنون، فدل أنه لا يبطل به إيمانه فكذلك لا يبطل صومه، حتى لو جن بعد الشروع في الصوم بقي صائما، ولا وجه لانكار هذا، فإن بعد صحة الشروع في الصوم لا يشترط قيام
الاهلية للبقاء فيها سوى الكف عن اقتضاء الشهوات، والجنون لا ينفي تحقق هذا الفعل، وإذا بقي صائما حتى تأدى منه عرفنا أنه تأدى فرضا كما شرع
فيه، ولا يتحقق ذلك إلا مع تقرر سبب الوجوب في حقه.
والدليل عليه بقاء حجة الاسلام فرضا له بعد الجنون، وبقاء ما أدى من الصلاة في حالة الافاقة فرضا في حقه، فبهذا التحقيق يتبين أن سبب الوجوب متحقق مع الجنون، والخطاب بالاداء ساقط عنه لعجزه عن فهم الخطاب، وذلك لا ينفي صحة الاداء فرضا، بمنزلة من لم يبلغه الخطاب، فإنه تتأدى منه العبادة بصفة الفرضية كمن أسلم في دار الحرب ولم تبلغه فرضية الخطاب لا يكون مخاطبا بها ومع ذلك إذا أداها كانت فرضا له.
وكذلك النائم والمغمى عليه، فإن الخطاب بالاداء ساقط عنهما قبل الانتباه والافاقة ثم كان السبب متقررا في حقهما، فكان التعليل بسقوط فعل الاداء عنه لعجزه عن فهم الخطاب على نفي سبب الوجوب في حقه أصلا، فيكون فاسدا وضعا مخالفا للنص والاجماع، ولان الخطاب بالاداء يشترط لثبوت التمكن من الائتمار وذلك لا يكون بدون العقل والتمييز، فسقوطه لانعدام شرطه لا يجوز أن يكون دليلا على نفي تقرر السبب، وثبوت الوجوب الذي هو حكم السبب على وجه لا صنع للعبد فيه بل هو أمر شرعي يختص بمحل صالح له وهو الذمة، فإذا ثبت تقرر السبب ثبت صحة الاداء، ووجوب القضاء عند عدم الاداء بشرط أن لا يلحقه الحرج في القضاء، فإن الحرج عذر مسقط بالنص، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فعند تطاول الجنون حقيقة أو حكما بتكرار الفوائت من الصلوات وباستيعاب الجنون الشهر كله أسقطنا القضاء
لدفع الحرج وهو عذر مسقط.
ومعنى الحرج فيه أنه تتضاعف عليه العبادة المشروعة في وقتها، ولا يشتبه معنى الحرج في الاداء عند تضاعف الواجب، ولهذا أسقطنا بعذر الحيض قضاء الصلوات لانها تبتلى بالحيض في كل شهر عادة، والصلاة يلزمها في اليوم والليلة خمس مرات، فلو أوجبنا القضاء تضاعف الواجب في زمان الطهر، ولا يسقط بالحيض قضاء الصوم، لان فرضية
الصوم في السنة في شهر واحد وأكثر الحيض في ذلك الشهر عشرة، فإيجاب قضاء عشرة أيام في أحد عشر شهرا لا يكون فيه كثير حرج، ولا يؤدي إلى تضاعف الواجب في وقته.
وكذلك إذا لزمها صوم شهرين في كفارة القتل فأفطرت بعذر الحيض لم يلزمها الاستقبال، بخلاف ما إذا لزمها صوم عشرة أيام متتابعة بالنذر فأفطرت بعذر الحيض في خلالها يلزمها الاستقبال، لانها قلما تجد شهرين خاليين عن الحيض عادة، ففي التحرز عن الفطر بعذر الحيض في شهرين معنى الحرج ولا يتحقق ذلك في عشرة أيام، ولهذا أسقطنا قضاء العبادات عن الصبي بعد البلوغ، لان الصبي لا يكون إلا متطاولا عادة فيتحقق معنى الحرج في إيجاب القضاء.
ولم يسقط القضاء عن النائم لانه لا يكون متطاولا عادة فلا يلحقه الحرج في إيجاب القضاء بعد الانتباه، وألحقنا الاغماء بالجنون في حكم الصلاة، لان ذلك يوجد عادة في مقدار ما يتكرر به الفائت من الصلاة، وألحقناه بالنوم في حكم الصوم لانه لا يتطاول عادة بقدر ما يثبت به حكم تطاول الجنون في حكم الصوم وهو أن يستوعب الشهر كله.
ومن ذلك قولهم في النقود إنها تتعين في عقود المعاوضات لانها تتعين في التبرعات كالهبة والصدقة فتتعين في المعاوضات بمنزلة الحنطة وسائر السلع، لانا
نقول: هذا التعليل فاسد وضعا، فإن التبرعات مشروعة في الاصل للايثار بالعين لا لايجاب شئ منها في الذمة، والمعاوضات لايجاب البدل بها في الذمة ابتداء، ألا ترى أن البيع في العرف الظاهر إنما يكون بثمن يجب في الذمة ابتداء، والنكاح يكون بصداق يجب في الذمة ابتداء، فكان اعتبار ما هو مشروع للالزام في الذمة ابتداء إنما هو مشروع لنقل الملك واليد في العين من شخص إلى شخص في حكم التعيين فاسدا وضعا، ألا ترى أن البيع لما كان لنقل الملك واليد في عين المعقود عليه لم يجز أن يكون موجبا المبيع في الذمة ابتداء لا رخصة بسبب الحاجة إليه في السلم، وذلك حكم ثابت بخلاف القياس،
ففيما يكون البيع موجبا له في الذمة ابتداء وهو الثمن لا يجوز أن يجعل موجبه نقل الملك واليد فيه من شخص إلى شخص بالتعيين، وقد عرفنا أنه لا يستحق النقد بالعقد الذي هو معاوضة إلا ثمنا، ومع التعيين لا يمكن إثبات موجبه، فظهر أن هذا التعيين لم يصادف محله وأنه بمنزلة هبة المال دينا في ذمته من إنسان فإنه لا يكون صحيحا، لان موجب الهبة نقل الملك واليد في العين، فلا يجوز أن يجعل موجبه الايجاب في الذمة ابتداء بالشك، وما كان تعيين النقد في عقد المعاوضة إلا نظير الايجاب في الذمة ابتداء بعقد الهبة، فكما أن ذلك ينافي صحة العقد لان موجبه نقل الملك في العين واليد، فبدون موجبه لا يكون صحيحا، فهنا لو تعين بطل العقد، لانه ينعدم ما هو موجب هذا العقد في الثمن وهو الالزام في الذمة ابتداء، وفي الحنطة كذلك، فإنه متى كان ثمنا كان واجبا في الذمة ابتداء، فأما بعد التعيين يصير مبيعا فيكون موجب العقد فيه تحويل ملك العين واليد من شخص إلى شخص، والسلع لا تكون إلا مبيعة، ولهذا لا يجوز ترك التعيين فيها في غير موضع الرخصة
وهو السلم الذي هو ثابت بخلاف القياس، لانه لو صح ذلك كان ثابتا بالعقد في الذمة ابتداء وهو خلاف موجب العقد فيها.
ومن ذلك قولهم في المشتري إذا أفلس في الثمن قبل النقد إنه يثبت للبائع حق نقض البيع واسترداد سلعته، لان الثمن أحد العوضين في البيع، فالعجز عن تسليمه بحكم العقد يثبت للمتملك حق فسخ العقد دفعا للضرر عن نفسه، كالعوض الآخر وهو المبيع إذا كان عينا فعجز البائع عن تسليمه بالاباق أو كان دينا كالسلم، فعجز البائع عن تسليمه بانقطاعه عن أيدي الناس.
لانا نقول: هذا التعليل فاسد وضعا، فإن موجب البيع في المبيع استحقاق ملك العين واليد، ولهذا لا نجوز بيع العين قبل وجود الملك واليد للبائع في المبيع، لانه لا يتحقق منه اكتساب سبب استحقاق ذلك لغيره إذا لم يكن مستحقا له، وكذلك في المبيع الدين يشترط قدرته على التسليم باكتسابه حكما بكونه موجودا في العالم وباشتراط الاجل الذي هو مؤثر
في قدرته على التسليم باكتسابه في المدة أو إدراك غلاته، فإنه موجب بالعقد في الثمن التزامه في الذمة ابتداء، والشرط فيه ذمة صالحة للالتزام فيها، ولهذا لا يشترط قيام ملك المشتري في الثمن وقدرته على تسليمه عند العقد حقيقة وحكما.
فتبين بهذا أن بسبب العجز عن تسليم المعقود عليه يتمكن خلل فيما هو موجب العقد فيه (وهو) مستحق به، وبسبب العجز عن تسليم الثمن لا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد فيه وهو التزام (الثمن) في الذمة، وأي فساد أبين من فساد قول من يقول إذا ثبت حق الفسخ عند تمكن الخلل في موجب العقد ينبغي أن يثبت حق الفسخ بدون تمكن الخلل في موجب العقد.
والدليل على ما قلنا جواز إسقاط حق قبض الثمن بالابراء أصلا وعدم
جواز ذلك في المبيع المعين قبل القبض، حتى إنه إذا وهبه من البائع وقبله كان فسخا للبيع بينهما.
ولا يدخل على ما ذكرنا الكتابة، فإن عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة بعد محل الاجل تمكن المولى من الفسخ، والبدل هناك معقود به يثبت في الذمة ابتداء ولا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد فيه بسبب العجز عن تسليمه، لان موجب العقد لزوم بدل الكتابة على أن يصير ملكا للمولى بعد حل الاجل بالاداء، فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا، ولهذا لا تجب الزكاة في بدل الكتابة ولا تصح الكفالة به.
فعرفنا أن الملك هناك لا يسبق الاداء، فإذا عجز عن الاداء فقد تمكن الخلل في الملك الذي هو موجب العقد فيه، فأما هنا موجب العقد ملك الثمن دينا في الذمة ابتداء وذلك قد تم بنفس العقد، وبسبب الافلاس لا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد، ولهذا لو مات مفلسا لا يتمكن البائع من فسخ العقد أيضا، وإن لم تبق صلاحية المحل وهو الذمة بعد موته مفلسا، لان بنفس العقد قد تم موجب العقد فيه، فما كان فواته بعد ذلك إلا بمنزلة هلاك المبيع بعد القبض، وذلك لا يوجب انفساخ العقد ولا يثبت للمشتري به حق الفسخ فهذا مثله.
وهذه المسائل فقههم فيها بطريق إحالة العلة أظهر وأنور للقلوب، وقد بينا فساد الوضع
في عللهم فيها ليتبين لك أن أكثر ما يعللون به في المسائل بهذا الطريق فاسد إذا تأملت فيه، وأن أعدل الطرق في تصحيح العلة ما كان عليه السلف من اعتبار التأثير.
فصل: المناقضة قد بينا تفسير النقض وحده فيما مضى، وهذا الفصل لبيان الدفع بالمناقضة يلجئ أصحاب الطرد إلى الاحتجاج بالتأثير.
وبيانه فيما علل به الشافعي رحمه الله في اشتراط النية في الوضوء أن التيمم والوضوء طهارتان كيف يفترقان، لان عند إطلاق إنكار التفرقة بينهما ينتقض بكل وجه يفترقان فيه من اشتراط أصل الفعل في التيمم دون الوضوء، ومن اشتراط الاعضاء الاربعة في الوضوء دون التيمم، ومن صفة كل واحد منهما، وغير ذلك مما يفترقان فيه.
فإن قال: عنيت إثبات التسوية بينهما في اشتراط النية خاصة بهذا الوصف، قلنا: هو باطل بغسل النجاسة عن الثوب أو البدن فإنه طهارة ثم لا يشترط فيه النية، فيضطر عند ذلك إلى الرجوع إلى التأثير، وهو أن كل واحد منهما طهارة حكمية غير معقولة المعنى بل ثابتة شرعا بطريق التعبد، إذ ليس على الاعضاء شئ يزول بهذه الطهارة والعبادة لا تتأدى بدون النية، بخلاف غسل النجاسة فإنه معقول بما فيه من إزالة عين النجاسة عن الثوب أو البدن.
ونحن نقول: الماء بطبعه مطهر كما أنه بطبعه مزيل فإنه خلق لذلك، قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره يعمل في التطهير من غير النية، كالنار لما كانت محرقة بطبعها تعمل في الاحراق بغير النية، ثم الحدث لا يختص بالاعضاء بل يثبت حكمه في جميع البدن كالجنابة والحيض والنفاس، لانه لو اختص بموضع كان أولى المواضع به مخرج الحدث ولا يثبت لزوم التطهير في ذلك الموضع، فعرفنا أنه ثابت في جميع البدن إلا أن الشرع أقام غسل الاعضاء التي هي ظاهرة، وهي بمنزلة الامهات في تطهيرها بالماء، مقام جميع البدن تيسيرا على العباد، لان إقامة الغسل فيها تيسير على وجه
لا يتيسر في سائر أجزاء البدن، وسبب الحدث تعم به البلوى ويعتاد تكراره في كل وقت، وبقي حكم تطهير جميع البدن بالغسل في الجنابة والحيض والنفاس
على أصل القياس، فظهر أن ما لا يعقل فيه المعنى بل هو ثابت شرعا إقامة المحال المخصوصة مقام جميع البدن لا فعل هو استعمال الماء في حصول الطهارة به، وكلامنا في اشتراط النية في الفعل الذي يحصل به الطهارة دون المحل، وفي هذه الطهارة من الحدث والجنابة بمنزلة غسل النجاسة.
وكذلك المسح بالرأس فإنه قائم مقام فعل الغسل الذي هو تطهير في ذلك العضو بمعنى التيسير، بخلاف التيمم فإنه في الاصل تلويث وتغبير وهو ضد التطهير، ولهذا لا يرتفع به الحدث، فعرفنا أنه جعل طهارة لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة فإنما يكون طهارة بشرط إرادة الصلاة، وهذا الشرط لا يتحقق إلا بالنية، وما يقول إن في الوضوء والاغتسال معنى العبادة فشرط العبادة النية فهو مسلم عندنا، ومتى لم توجد النية لا يكون وضوءه عبادة، ولكن الطهارة التي هي شرط صحة أداء الصلاة ما يكون مزيلا للحدث لا ما يكون عبادة، واستعمال الماء في محل الطهارة بدون النية مزيل للحدث، فبهذا التقرير تبين أن الوضوء نوعان: نوع هو عبادة وهو لا يحصل بدون النية، ونوع هو مزيل للحدث وهو حاصل بغير النية بمنزلة الغسل الذي هو مزيل للنجاسة وهو مثبت شرط جواز الصلاة.
ومن ذلك قولهم: الطلاق ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال كالحدود.
فإن مطلق هذه العبارة تنتقض بالبكارة والرضاع فلا بد من الرجوع إلى التأثير وهو أن شهادة النساء مع الرجال ليس بحجة أصلية، ولكنها حجة ضرورة يجوز العمل بها شرعا فيما تكثر به البلوى والمعاملة فيه بين الناس في كل وقت، وذلك الاموال وما يتبع الاموال، ففيما لا يكثر فيه البلوى لا تجعل فيه شهادة النساء
حجة، والنكاح والطلاق والوكالة وما أشبه ذلك لا يوجد فيها من عموم البلوى
مثل ما يكون في الاموال.
ونحن نقول: إنها حجة أصلية بمنزلة شهادة الرجال، ولكن فيها ضرب شبهة باعتبار نقصان عقل النساء لتوهم الضلال والنسيان لكثرة غفلتهن، ولهذا ضمت إحدى المرأتين إلى الاخرى ليكونا كرجل واحد في الشهادة، فإنما لا يثبت بهذه الشهادة ما يندرئ بالشبهات كالحدود، فأما النكاح يثبت مع الشبهات، ألا ترى أنه أسرع ثبوتا من المال حتى يصح من الهازل والمكره والمخطئ عندنا، وكذلك الطلاق والوكالة فإنها تثبت مع الجهالة فتحتمل التعليق بالشرط، فكانت أقرب إلى الثبوت مع الشبهة من الاموال بخلاف الحدود.
ومن ذلك قولهم: الغصب عدوان محض فلا يكون سببا للملك في العين كالقتل، لان هذا ينتقض باستيلاد الاب جارية ابنه واستيلاد أحد الشريكين الجارية المشتركة، فإنه عدوان من حيث إنه حرام ثم كان سببا للملك، فيضطر المعلل عند إيراد هذا النقض إلى الرجوع إلى التأثير، وهو أن الفعل إنما يتمخض عدوانا إذا خلا عن نوع شبهة، واستيلاد أحد الشريكين لم يخل عن ذلك، فإنه باعتبار جانب ملكه يتمكن شبهة في هذا الفعل، وكذلك ما للاب من الحق في مال ولده يمكن شبهة.
فنقول عند ذلك: الغصب الذي هو عدوان محض لا يكون سببا لملك العين عندنا ولكن ثبوت الملك في بدل العين وهو حكم مشروع غير موصوف بأنه عدوان هو الذي ثبت به الملك في العين شرطا له على ما قررنا.
ومن ذلك قوله في المنافع: إن المتلف مال فيكون مضمونا على المتلف ضمانا يستوفى كالعين، لان ظاهر هذا ينتقض بما إذا كان المتلف معسرا لا يجد شيئا.
فإن قال هناك الضمان واجب عندي ولكن يتأخر الاستيفاء لعجز من عليه عن المثل الذي يؤدي به الضمان.
قلنا: هكذا نقول في الفرع، فإن
عندنا يتأخر استيفاء الضمان إلى الآخرة للعجز عن المثل الذي يوفي به هذا
الضمان، فإن ضمان العدوان يتقدر بالمثل بالنص وليس للمنفعة مثل في صفة المالية يمكن استيفاؤها في الدنيا، وعند ذلك يتبين فقه المسألة أن المانع من إلزام الضمان عندنا انعدام المماثلة لظهور التفاوت بين المنافع والاعيان في صفة المالية، وقد تقدم بيان ذلك، فيقرر بما ذكرنا أن الاعتماد على الاطراد من غير طلب التأثير ضعيف في باب الاحتجاج، وأنه بمنزلة الاحتجاج بلا دليل على ما أوضحنا فيه السبيل.
فصل: في بيان الانتقال قال رضي الله عنه: الانتقال على أربعة أوجه: انتقال من علة إلى علة أخرى لاثبات الاولى بها، وانتقال من حكم إلى حكم لاثباته بالعلة الاولى، وانتقال من حكم إلى حكم (آخر) لاثباته بعلة أخرى.
وهذه الاوجه الثلاثة مستقيمة على طريق النظر لا تعد من الانقطاع.
أما الاول فلان المعلل إنما التزم إثبات الحكم بما ذكره من العلة ويمكنه من ذلك بإثبات العلة، فما دام سعيه فيما يرجع إلى إثبات تلك العلة يكون ذلك وفاء منه بما التزم لا أن يكون إعراضا عن ذلك واشتغالا بشئ آخر.
وبيان هذا فيما إذا عللنا في نفي الضمان عن الصبي المستهلك للوديعة بأنه استهلاك عن تسليط صحيح ثم نشتغل بإثبات هذه العلة، فإنه يكون هذا انتقالا من علة إلى أخرى لاثبات العلة الاولى بها، ولا يشك أحد في أن ذلك مستقيم على طريق النظر، وعلى هذا إذا اشتغل بإثبات الاصل الذي يتفرع منه موضع الخلاف حتى يرتفع الخلاف بإثبات الاصل فإن ذلك حسن صحيح، نحو ما إذا وقع الاختلاف في الجهر بالتسمية، فإذا قال المعلل: هذا يبتنى على أصل وهو أن التسمية ليست
بآية من الفاتحة ثم يشتغل بإثبات ذلك الاصل حتى يثبت الفرع بثبوت الاصل يكون مستقيما.
وكذلك إذا علل بقياس فقال خصمه: القياس عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بقول صحابي، فيقول خصمه: قول الواحد
من الصحابة عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بخبر الواحد، فيقول خصمه: خبر الواحد عندي ليس بحجة، فيحتج بكتاب على أن خبر الواحد حجة، فإنه يكون طريقا مستقيما، ويكون هذا كله سعيا في إثبات ما رام إثباته في الابتداء.
وأما الثاني فلان الانتقال من حكم إلى حكم إنما يكون عند موافقة الخصم في الحكم الاول، وما كان مقصود المعلل إلا طلب الموافقة في ذلك الحكم، فإذا وافقه خصمه فيه فقد تم مقصوده، ثم الانتقال بعده إلى حكم آخر ليثبته بالعلة الاولى يدل على قوة تلك العلة في إجرائها في المعلولات وعلى حذاقة المعلل في إثبات الحكم بالعلة، وذلك نحو ما إذا عللنا في تحرير المكاتب عن كفارة اليمين، لان الكتابة عقد معاوضة يحتمل الفسخ فلا تخرج الرقبة من أن تكون محلا للصرف إلى الكفارة كالبيع، فإذا قال الخصم: عندي عقد الكتابة لا يخرج الرقبة من الصلاحية لذلك، ولكن نقصان الرق هو الذي يخرج الرقبة من ذلك فنقول: بهذه العلة يجب أن لا يتمكن نقصان في الرق لان ما يمكن نقصانا في الرق لا يكون فيه احتمال الفسخ، فهذا إثبات الحكم الثاني بالعلة الاولى أيضا وهو نهاية في الحذاقة.
وكذلك إن تعذر إثبات الحكم الثاني بالعلة الاولى فأراد إثباته بالعلة بعلة أخرى، لانه ما ضمن بتعليله إثبات جميع الاحكام بالعلة الاولى وإنما ضمن إثبات الحكم الذي زعم أن خصمه ينازعه فيه، فإذا أظهر الخصم الموافقة فيه واحتاج إلى إثبات حكم آخر يكون له أن يثبت ذلك بعلة
أخرى ولا يكون هذا انقطاعا منه.
فأما الوجه الرابع وهو الانتقال من علة إلى علة أخرى لاثبات الحكم الاول، فمن أهل النظر من صحح ذلك أيضا ولم يجعله انقطاعا، استدلالا بقصة الخليل عليه السلام حين حاج اللعين بقوله تعالى: (ربي الذي يحيي ويميت) فلما قال اللعين: (أنا أحيي وأميت) حاجه بقوله تعالى: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) وكان ذلك (منه)
انتقالا من حجة إلى حجة لاثبات شئ واحد، وقد ذكر الله تعالى ذلك عنه على وجه المدح له به، فعرفنا أنه مستقيم.
وكذلك المدعي إذا أقام شاهدين فعورض بجرح فيهما كان له أن يقيم شاهدين آخرين لاثبات حقه.
والمذهب الصحيح عند عامة الفقهاء أن هذا النوع من الانقطاع، لانه رام إثبات الحكم بالعلة الاولى، فانتقاله عنها إلى علة أخرى قبل أن يثبت الحكم بالعلة الاولى لا يكون إلا لعجز عن إثباته بالعلة الاولى، وهذا انقطاع على ما نبينه في فصله.
ثم مجالس النظر للابانة، فلو جوزنا الانتقال فيها من علة إلى علة أدى ذلك إلى أن يتطاول المجلس ولا يحصل ما هو المقصود وهو الابانة، وكان هذا نظير نقض يتوجه على العلة، فإنه لا يشتغل بالاحتراز عنه، ولكن إذا تعذر دفعه بما ذكره المعلل في الابتداء يظهر به انقطاعه في ذلك المجلس فهذا مثله.
فأما قصة الخليل عليه الصلاة والسلام فهو ما انتقل قبل ظهور الحجة الاولى له، ولكن الاولى كانت حجة ظاهرة لم يطعن خصمه فيها إنما ادعى دعوى مبتدأة بقوله: (أنا أحيي وأميت) وكل ما صنعه معلوم الفساد عند المتأملين إلا أنه كان في القوم من يتبع الظاهر ولا يتأمل في حقيقة المعنى فخاف الخليل عليه الصلاة والسلام الاشتباه
على أمثالهم فضم إلى الحجة الاولى حجة ظاهرة لا يكاد يقع فيها الاشتباه فبهت الذي كفر.
وهذا مستحسن في طريق النظر لا يشك فيه، فإن المعلل إذا أثبت علته يقول: والذي يوضح ما ذكرت.
فيأتي بكلام آخر هو أوضح من الاول في إثبات ما رام إثباته، وهذا لان حجج الشرع أنوار فضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج، وذلك لا يكون دليلا على ضعف أحدهما أو بطلان أثره فكذلك ضم حجة إلى حجة، وإنما جعلنا هذا انقطاعا في موضع يكون الانتقال للعجز عن إثبات الحكم بالعلة الاولى.
ثم كل هذه التصرفات للمجيب لا للسائل، فإن المجيب بان والسائل هادم مانع، والحاجة إلى هذه الانتقالات للباني المثبت لا للمانع الدافع.
فصل: بيان الانقطاع ووجوه الانقطاع أربعة: أحدها - وهو أظهرها - السكوت على ما أخبر الله به عن اللعين عند إظهار الخليل صلى الله عليه وسلم حجته بقوله: (فبهت الذي كفر) .
والثاني: جحد ما يعلم ضرورة بطريق المشاهدة، لان سعي المعلل ليجعل الغائب كالشاهد، والعلم بالمشاهدات يثبت ضرورة، فإذا اشتغل الخصم بجحد مثله علم أنه ما حمله على ذلك إلا عجزه عن دفع علة المعلل، فكان انقطاعا.
والثالث: المنع بعد التسليم، فإنه يعلم أنه لا شئ يحمله على المنع بعد التسليم إلا عجزه عن الدفع لما استدل به خصمه.
ولا يقال يحتمل أن يكون تسليمه عن سهو أو غفلة، لان عند ذلك يبين وجه الدفع بطريق التسليم ثم يبنى عليه استدراك ما سها فيه، فأما أن يرجع عن التسليم إلى المنع من غير بيان الدفع بطريق التسليم فذلك لا يكون إلا للعجز.
والرابع: عجز المعلل عن تصحيح العلة التي قصد إثبات الحكم بها حتى انتقل منها إلى علة أخرى لاثبات الحكم، فإن ذلك انقطاع، لان حكم الانقطاع مقتضب من لفظه، وهو قصور المرء عن بلوغ مغزاه، وعجزه عن إظهار مراده ومبتغاه.
وهذا العجز نظير العجز ابتداء عن إقامة الحجة على الحكم الذي ادعاه، والله أعلم.
باب: أقسام الاحكام وأسبابها وعللها وشروطها وعلاماتها اعلم أن جملة ما ثبت بالحجج الشرعية الموجبة للعلم بما تقدم ذكرها قسمان: الاحكام المشروعة وما يتعلق بها المشروعات.
فنبدأ ببيان قسم الاحكام فنقول: هذه الاحكام أربعة: حقوق الله خالصا، وحقوق العباد خالصا أيضا، وما يشتمل على الحقين وحق الله فيه أغلب، وما يشتمل عليهما وحق العباد فيه أغلب.
فأما حقوق الله خالصة فهي أنواع ثمانية: عبادات محضة، وعقوبات محضة، وعقوبة قاصرة، ودائرة بين العبادة والعقوبة، وعبادة فيها معنى المئونة، ومئونة فيها معنى العبادة، ومئونة فيها معنى العقوبة، وما يكون قائما بنفسه وهي على ثلاثة أوجه: ما يكون منه أصلا، وما يكون زائدا على الاصل، وما يكون ملحقا به.
فأما العبادات المحضة فرأسها الايمان بالله تعالى، والاصل فيه التصديق بالقلب، فإنه لا يسقط بعذر ما من إكراه أو غيره، وتبديله بغيره يوجب الكفر على كل حال، والاقرار باللسان ركن فيه مع التصديق بالقلب في أحكام الدنيا والآخرة جميعا، وقد يصير الاقرار أصلا في أحكام الدنيا بمنزلة
التصديق، حتى إذا أكره على الاسلام فأسلم باللسان فهو مسلم في أحكام الدنيا لوجود ركن الاقرار، وقيام السيف على رأسه دليل على أنه غير مصدق بالقلب، ولهذا لا يحكم بالردة إذا أكره المرء عليها، لان التكلم باللسان هناك دليل محض على ما في الضمير من غير أن يجعل أصلا بنفسه، والاقرار باللسان وإن كان دليلا على التصديق فعند الاكراه يجعل أصلا بنفسه يثبت به الايمان في أحكام الدنيا بمنزلة التصديق، ويستوي إن أكره الحربي على ذلك أو الذمي عندنا لهذا المعنى.
وعند الشافعي متى كان الاكراه بحق بأن كان المكره حربيا لا أمان له كذلك الجواب، ومتى كان بغير حق بأن أكره الذمي عليه فإنه لا يصير مسلما به.
ثم الصلاة بعد الايمان من أقوى الاركان، فإنها عماد الدين ما خلت عنها شريعة المرسلين.
وهي تشمل الخدمة بظاهر البدن وباطنه، ولكنها صارت قربة بواسطة البيت الذي عظمه الله وأمرنا بتعظيمه لاضافته إلى نفسه فقال: (أن طهرا بيتي للطائفين) الآية، حتى لا تتأدى هذه القربة إلا باستقبال القبلة في حالة الامكان، وفي ذلك من معنى التعظيم ما أشار الله تعالى إليه في قوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ليعلم به أن المطلوب
وجه الله، ووجه الله لا جهة له، فجعل الشرع استقبال جهة الكعبة قائما مقام ما هو المطلوب لاداء هذه القربة.
وأصل الايمان فيه تقرب إلى الله تعالى بلا واسطة، وفي الصلاة تقرب بواسطة البيت فكانت من شرائع الايمان لا من نفس الايمان.
ثم الزكاة التي تؤدي بأحد نوعي النعمة وهو المال، فالنعم الدنيوية نعمتان: نعمة البدن، ونعمة المال، والعبادات مشروعة لاظهار شكر النعمة بها في الدنيا ونيل الثواب في الآخرة، فكما أن شكر نعمة البدن
بعبادة تؤدي بجميع البدن وهي الصلاة، فشكر نعمة المال بعبادة مؤداة بجنس تلك النعمة، وإنما صار الاداء قربة بواسطة المصروف إليه وهو المحتاج، على معنى أن المؤدي يجعل ذلك المال خالصا لله تعالى في ضمن صرفه إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى، لهذا كان دون الصلاة بدرجة، فإنها قربة بواسطة البيت الذي ليس من أهل الاستحقاق بذاته، وهذا قربة بواسطة الفقير الذي هو من أهل أن يكون مستحقا بنفسه لحاجته.
ثم الصوم الذي هو من جنس المشروع شكرا لنعمة البدن، ولكنه دون الصلاة من حيث إنه لا يشتمل على أعمال متفرقة على أعضاء البدن، بل يتأدى بركن واحد وهو الكف عن اقتضاء الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، فإنما صارت قربة بواسطة النفس المحتاجة إلى نيل اللذات والشهوات، فهي أمارة بالسوء كما وصفها الله تعالى به، ففي قهرها بالكف عن اقتضاء شهواتها لابتغاء مرضاة الله تعالى معنى القربة، وبالتأمل في هذه الوسيلة يتبين أنه دون ما سبق.
ثم الحج الذي هو زيارة البيت المعظم، وعبادة بطريق الهجرة يشتمل على أركان تختص بأوقات وأمكنة، وفيها معنى القربة باعتبار معنى التعظيم لتلك الاوقات والامكنة.
فأما العمرة فإنها سنة قوية باعتبار أن أركانها من جنس أركان الحج، وما بينا من الوسيلة لا يوجب عددا من القربة ولهذا لا تتكرر فرضية
الحج في العمر، فعرفنا أن العمرة زيارة، وهي سنة قوية فعلها رسول الله عليه السلام وأمر بها.
والجهاد قربة باعتبار إعلاء كلمة الله وإعزاز الدين، ولما فيه من توهين
المشركين ودفع شرهم عن المسلمين، ولهذا سماه رسول الله عليه السلام سنام الدين.
وكان أصله فرضا لان إعزاز الدين فرض ولكنه فرض كفاية، لان المقصود وهو كسر شوكة المشركين ودفع شرهم وفتنتهم يحصل ببعض المسلمين فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
والاعتكاف قربة زائدة لما فيها من تعظيم المكان المعظم بالمقام فيه وهو المسجد، ولما في شرطها من منع النفس عن اقتضاء الشهوات، يعني الصوم.
والمقصود بها تكثير الصلاة إما حقيقة أو حكما بانتظار الصلاة في مكانها على صفة الاستعداد لها بالطهارة.
وأما صدقة الفطر فهي عبادة فيها معنى المئونة، ولهذا لا تتأدى بدون نية العبادة بحال، ولا تجب إلا على المالك لما يؤدي به حقيقة بمنزلة الزكاة، ولكن لا يشترط لوجوبها صفة كمال الملك والولاية حتى تجب على الصبي في ماله بخلاف الزكاة، وتجب على الغير بسبب الغير، فعرفنا أن فيها معنى المئونة كالنفقة.
وأما العشر فهو مئونة فيه معنى العبادة.
والخراج مئونة فيه معنى العقوبة من حيث إن وجوب كل واحد منهما باعتبار حفظ الاراضي وإنزالها، إلا أن في الخراج معنى الذل على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى آلة الزراعة في دار قوم فقال: ما دخل هذا في دار قوم إلا ذلوا وكأن ذلك لما في الاشتغال بالزراعة من الاعراض عن الجهاد، وإنما يلتزم الخراج من يشتغل بعمل الزراعة، ولهذا لا يبتدأ المسلم بالخراج في أرضه ويبقى عليه الخراج بعد إسلامه، لانه يتردد بين المئونة والعقوبة فلا يمكن إيجابه على المسلم ابتداء لمعنى المئونة لمعارضة معنى العقوبة إياه، ولا يمكن إسقاطه
بعد الوجوب إذا أسلم باعتبار معنى العقوبة لمعارضة معنى المئونة إياه.
وأما العشر
ففيه معنى العبادة على معنى أنه مصروف إلى الفقير كالزكاة، وقد بينا أن بواسطة هذا المصروف يثبت فيه معنى القربة وإن كان وجوبه باعتبار مئونة الارض، ولهذا يجب في الاراضي النامية من غير اشتراط المالك لها نحو الاراضي الموقوفة وأرض المكاتب، ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا تحولت الارض العشرية إلى ملك الذمي تصير خراجية، لان فيها معنى العبادة والكافر ليس من أهل العبادة أصلا، وكل واحد منهما واجب بطريق المئونة فعند تعذر أحدهما يتعين الآخر، والخراج يبقى وظيفة الارض بعد انتقال الملك فيها إلى المسلم، لان المسلم من أهل أن توجب عليه المئونة التي فيها معنى العقوبة، فإنه بعد الاسلام أهل لالزام العقوبة عند تقرر سببها منه، والكافر ليس بأهل العبادة أصلا، فالاهلية للعبادة تبتنى على الاهلية لثوابها.
وقال أبو يوسف رحمه الله: يتضاعف العشر على الكافر اعتبارا بالصدقات المضاعفة في حق بني تغلب.
وأبى هذا أبو حنيفة رحمه الله، لان التضعيف حكم ثابت بخلاف القياس بإجماع الصحابة في قوم بأعيانهم، وغيرهم من الكفار ليسوا بمنزلتهم، فأولئك لا تؤخذ منهم الجزية، وغيرهم من الكفار تؤخذ منهم الجزية.
ومحمد رحمه الله يقول: تبقى عشرية كما كانت، لان البقاء باعتبار معنى المئونة كالخراج في حق المسلم.
ثم عنه روايتان في مصرف هذا العشر: في إحداهما يصرف إلى المقاتلة كالخراج لاعتبار معنى المئونة الخالصة (وفي الاخرى تكون مصروفة إلى الفقراء والمساكين، لانها لما بقيت باعتبار معنى المئونة تبقى) على ما كانت مصروفة إلى من كانت مصروفة إليه قبل هذا كالخراج في حق المسلم.
وأما الحق القائم بنفسه فنحو خمس الغنائم والمعادن والركاز، فإنه لا يكون واجبا ابتداء على أحد، ولكن باعتبار الاصل الغنيمة كلها لله تعالى، كما قال تعالى: (قل الانفال لله) وهذا لانها أصيبت لاعلاء كلمة الله تعالى، إلا أن
الله تعالى جعل أربعة أخماسها للغانمين على سبيل المنة عليهم، فبقي الخمس له كما
كان في الاصل مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه.
وكذلك خمس المعادن فإن الموجود ما كان لاحد فيه حق، فجعل الشرع أربعة أخماسه للواجد وبقي الخمس لله مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه، ولهذا جاز وضع خمس الغنيمة فيمن هو من جملة الغانمين عند حاجتهم، وفي آبائهم وأولادهم، وجاز وضع خمس المعدن في الواجد عند الحاجة، فعرفنا أنه ليس بواجب عليه بل هو حق الله تعالى قائم كما كان، ولهذا جاز صرفه إلى بني هاشم، لان باعتبار هذا المعنى لا يتمكن فيه معنى الاوساخ بخلاف الصدقات، وأمر الله بصرف البعض منه إلى ذوي القربى، وكان ذلك عندنا باعتبار النصرة المخصوصة التي تحققت منهم بالانضمام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال ما هجره الناس، ودخول الشعب معه لمؤانسته والقيام بنصرته، فإن ذلك كان فعلا من جنس القربة، فيجوز أن يتعلق به استحقاق ما هو صلة ومنة من الله تعالى كاستحقاق أربعة الاخماس، فأما القرابة خلقة لا تستحق بذاتها مال الله تعالى، ثم صيانة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استحقاق عوض مالي بمقابلتها أولى من إثبات الاستحقاق بسبب القرابة.
ولا يجوز جعل القرابة قرينة للنصرة أو النصرة قرينة للقرابة، لما بينا أن الترجيح إنما يكون بما لا يصلح علة بانفرادها للاستحقاق دون ما يصلح لذلك.
وعلى هذا الاصل استحقاق المصاب من الغنيمة وتمامه يكون بالاحراز بالدار بعد الاخذ.
والمسائل على هذا الاصل يكثر تعدادها إذا تأملت، وذلك معلوم فيما أملينا من فروع الفقه.
فأما العقوبات المحضة فهي الحدود التي شرعت زواجر عن ارتكاب أسبابها
المحظورة حقا لله تعالى خالصا، نحو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر.
أما العقوبة القاصرة فنحو حرمان الميراث بسبب مباشرة القتل المحظور، فإنها عقوبة ولكنها قاصرة حتى تثبت في حق الخاطئ والنائم إذا انقلب
على مورثه، ولا تثبت في حق الصبي والمجنون عندنا أصلا، لانها عقوبة والاهلية للعقوبة لا تسبق الخطاب، بخلاف الخاطئ إذا كان بالغا عاقلا، فالبالغ العاقل مخاطب ولكنه بسبب الخطأ يعذر مع نوع تقصير منه في التحرز، والصبي لا يوصف بالتقصير الكامل والناقص فلا يثبت في حقه ما يكون عقوبة قاصرة كانت أو كاملة، ولهذا لا تثبت في حق القائد والسائق والشاهد إذا رجع عن شهادته، وحافر البئر وواضع الحجر، لانه جزاء على مباشرة القتل المحظور، والموجود من هؤلاء تسبب لا مباشرة.
وعند الشافعي هذا ضمان يتعلق بهذا الفعل بمنزلة الدية، فيثبت في حق المسبب والمباشر جميعا وفي حق الصبي والبالغ، وهذا غلط بين، لان الضمان ما يجب جبرانا لحق المتلف عليه ويسقط باعتبار رضاه أو عفو من يقوم مقامه، وحرمان الميراث ليس من ذلك في شئ.
فأما الدائر بين العبادة والعقوبة كالكفارات، لانها ما وجبت إلا جزاء على أسباب توجد من العباد، فسميت كفارة باعتبار أنها ستارة للذنب، فمن هذا الوجه عقوبة فإن العقوبة هي التي تجب جزاء على ارتكاب المحظور الذي يستحق المأثم به، وهي عبادة من حيث إنها تجب بطريق الفتوى ويؤمر من عليه بالاداء بنفسه من غير أن تقام عليه كرها، والشرع ما فوض إقامة شئ من العقوبات إلى المرء على نفسه، وتتأدى بما هو محض العبادة.
فعرفنا أنها دائرة بين العبادة والعقوبة، وأن سببها دائر بين الحظر والاباحة كاليمين المعقودة على أمر في المستقبل والقتل بصفة الخطأ، ولهذا لم نجعل الغموس
والعمد المحض سببا لوجوب الكفارة.
وعند الشافعي رحمه الله هذه الكفارات وجوبها بطريق الضمان، وقد بينا أن هذا غلط، ووجوب الضمان في الاصل بطريق الجبران وذلك لا يتحقق فيما يخلص لله تعالى، لان الله تعالى يتعالى عن أن يلحقه خسران حتى تتحقق الحاجة إلى الجبران، وكان معنى العبادة في هذه الكفارات مرجحا على معنى العقوبة كما أشرنا إليه، وتكفير الاثم به باعتبار أنه طاعة وحسن في نفسه، قال تعالى: (إن الحسنات
يذهبن السيئات) ولهذا أوجبنا الكفارة على المخطئ والمكره والبار في اليمين والحنث جميعا بأن حلف لا يكلم هذا الكافر فيسلم ثم يكلمه، ولهذا لم نوجب شيئا من هذه الكفارات على الكافر.
فأما كفارة الفطر في رمضان فمعنى العقوبة فيها مرجح على معنى العبادة حتى إن وجوبها يستدعي جناية متكاملة، عرفنا ذلك بخبر الاعرابي حيث قال هلكت وأهلكت.
وقال عليه السلام: من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر فاتفق العلماء على أنه يسقط بعذر الخطأ والاشتباه، فلما ظهر رجحان معنى العقوبة فيها من هذا الوجه جعلنا وجوبها بطريق العقوبة، فقلنا إنها تندرئ بالشبهات حتى لا تجب على من أفطر بعد ما أبصر هلال رمضان وحده للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: صومكم يوم تصومون أو بصورة قضاء القاضي يكون (اليوم) من شعبان، ولم يوجب على المفطر في يوم إذا اعترض مرض أو حيض في ذلك اليوم لتمكن الشبهة، ولم يوجب على من أفطر وهو مسافر وإن كان الاداء مستحقا عليه في ذلك الوقت بعينه بكونه مقيما في أول النهار، ولم يوجب على من نوى قبل انتصاف النهار ثم أفطر للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وقلنا بالتداخل
في الكفارات والاكتفاء بكفارة واحدة إذا أفطر في أيام من رمضان، لان التداخل من باب الاسقاط بطريق الشبهة، وأثبتنا معنى العبادة في الاستيفاء لانها سميت كفارة، فإنه يجوز أن يكون الوجوب بطريق العقوبة، والاستيفاء بطريق الطهرة كالحدود بعد التوبة، ولا يجوز أن يكون الوجوب بطريق العبادة والاستيفاء بطريق العقوبة بحال.
وما يجتمع فيه الحقان وحق الله فيه أغلب فنحو حد القذف عندنا.
فأما حد قطاع الطريق فهو خالص لله تعالى بمنزلة العقوبات المحضة، ولهذا لا نوجب على المستأمن إذا ارتكب سيئة في دارنا بمنزلة حد الزنا والسرقة بخلاف حد القذف.
وأما ما يجتمع فيه الحقان وحق العباد أغلب فنحو القصاص، فإن فيها حق الله تعالى، ولهذا يسقط بالشبهات، وهي جزاء الفعل في الاصل، وأجزية الافعال تجب لحق الله تعالى، ولكن لما كان وجوبها بطريق المماثلة عرفنا أن معنى حق العبد راجح فيها، وأن وجوبها للجيران بحسب الامكان كما وقعت الاشارة إليه في قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) ولهذا جرى فيه الارث والعفو والاعتياض بطريق الصلح بالمال كما في حقوق العباد.
وأما ما يكون محض حق العباد فهو أكثر من أن يحصى نحو ضمان الدية وبدل المتلف والمغصوب وما أشبه ذلك.
وهذه الحقوق كلها تشتمل على أصل وخلف.
فالاصل فيما ثبت به الايمان التصديق والاقرار، ثم قد يكون الاقرار مستندا في حق المكره على أنه قائم مقام التصديق، ثم التصديق والاقرار من الابوين يثبت الايمان في حق الولد الصغير على أنه خلف عن التصديق والاقرار في حقه، ثم تبعية الدار في حق الذي سبى صغيرا وأخرج إلى دار الاسلام وحده حلف عن تبعية الابوين
في ثبوت حكم الايمان له، ثم تبعية السابي إذا قسم أو بيع من مسلم في دار الحرب خلف عن تبعية الدار في ثبوت حكم الايمان له حتى إذا مات يصلى عليه.
وكذلك في شرائط الصلاة، فإن من شرائطها الطهارة، والاصل فيه الوضوء أو الاغتسال، ثم التيمم يكون خلفا عن الاصل في حصول الطهارة التي هي شرط الصلاة به كما قال تعالى: (ولكن يريد ليطهركم) وهو خلف مطلق في قول علمائنا رحمهم الله.
وعند الشافعي رحمه الله هو خلف ضروري، ولهذا لم يعتبر التيمم قبل دخول الوقت في حق أداء الفريضة، ولم يجوز أداء الفريضتين بتيمم واحد لانه خلف ضروري فيشترط فيه تحقق الضرورة بالحاجة إلى إسقاط الفرض عن ذمته، وباعتبار كل فريضة تتجدد ضرورة أخرى، ولم يجوز التيمم للمريض الذي لا يخاف الهلاك على نفسه لان تحقق الضرورة عند خوف الهلاك على نفسه، وجوز التحري في إناءين أحدهما طاهر
والآخر نجس لان الضرورة لا تتحقق مع وجود الماء الطاهر عنده ومع رجاء الوصول إليه بالتحري فلا تكون فرضية التيمم وشرط طلب الماء لان الضرورة قبل الطلب لا تتحقق.
وعندنا هو بدل مطلق في حال العجز عن الاصل فثبت الحكم به على الوجه الذي يثبت بالاصل ما بقي عجزه.
ثم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما التراب خلف عن الماء.
وعند محمد رحمه الله التيمم خلف عن الوضوء.
وتظهر المسألة في المتيمم: عند محمد لا يؤم المتوضئين لان التيمم خلف فكان المتيمم صاحب الخلف، وليس لصاحب الاصل القوي أن يبني صلاته على صلاة صاحب الخلف، كما لا يبني المصلي بركوع وسجود صلاته على صلاة المومي.
وعندهما التراب كان خلفا عن الماء في حصول الطهارة به ثم بعد حصول الطهارة كان شرط الصلاة موجودا في حق كل واحد منهما
بكماله بمنزلة الماسح يؤم الغاسلين لهذا المعنى، وقد يكون التيمم خلفا ضرورة في حال وجود الماء وهو أن يخاف فوات صلاة الجنازة أن لو اشتغل بالوضوء أو يخاف فوات صلاة العيد أن لو اشتغل بالوضوء.
ثم الخلافة هنا عند محمد بين التيمم والوضوء بطريق الضرورة حتى لو صلى عليها بالتيمم ثم جئ بجنازة أخرى يلزمه تيمم آخر وإن لم يجد بين الجنازتين من الوقت ما يمكنه أن يتوضأ فيه.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله التراب خلف عن الماء فيجوز له أن يصلي على الجنائز ما لم يدرك من الوقت مقدار ما يمكنه أن يتوضأ فيه على وجه لا تفوته الصلاة على جنازة.
وهذا الذي بينا يتأتى في كل حق مما سبق ذكره إلا أن ببيان ذلك يطول الكتاب، والحاجة إلى معرفة الاصل هنا وهو أن الخلف يجب بما به يجب الاصل، وشرط كونه خلفا أن ينعقد السبب موجبا للاصل بمصادفته محله، ثم بالعجز عنه يتحول الحكم إلى الخلف، وإذا لم ينعقد السبب موجبا للاصل باعتبار أنه لم يصادف محله لا يكون موجبا للخلف حتى إن الخارج من البدن إذا لم يكن موجبا للوضوء كالدمع والبزاق والعرق لا يكون موجبا للتيمم، والطلاق قبل الدخول لما لم يكن موجبا لما هو الاصل وهو الاعتداد بالاقراء لا يكون موجبا لما هو خلف عنه وهو الاعتداد بالاشهر، واليمين الصادقة لما لم تكن موجبة للتكفير بالمال لا تكون موجبة لما هو
خلف عنه وهو التكفير بالصوم، واليمين الغموس عندنا لما لم تنعقد موجبة للاصل وهو البر باعتبار أنها أضيفت إلى محل ليس فيه تصور البر لا تنعقد موجبة لما هو خلف عنه وهو الكفارة، واليمين على مس السماء ونحوه لما انعقدت موجبة للبر لمصادفتها محلها كانت موجبة لما هو خلف عن البر وهو الكفارة، وقد تقدم بيان هذا فيمن أسلم في آخر الوقت بعدما بقي منه مقدار
ما لا يمكنه أن يصلي فيه، فإن الجزء الآخر من الوقت لما صلح أن يكون موجبا لاداء الصلاة صلح موجبا لما هو خلف عنه وهو القضاء.
وعلى هذا الاصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا جاء المشهود بقتله حيا أو رجع الشهود والولي جميعا بعد استيفاء القصاص فاختار ولي القتيل تضمين الشهود فإنهم يرجعون على الولي بما يضمنون، لان السبب وهو الضمان الذي لزمهم بطريق العدوان موجب للملك في المضمون، والمضمون وهو الدم مما يحتمل أن يكون مملوكا في الجملة، ألا ترى أن نفس من عليه القصاص في حكم القصاص كالمملوك لمن له القصاص، فإذا انعقد السبب موجبا للاصل لمصادفة محله ينعقد موجبا للخلف وهو الدية عند العجز عن إثبات ما هو الاصل وهو القصاص، بمنزلة من غصب مدبرا فغصبه منه آخر وأبق من يده، ثم ضمن المولى الغاصب الاول فإنه يرجع على الغاصب الثاني بالضمان وإن لم يملك المدبر، ولكن لما انعقد السبب موجبا للاصل بمصادفته محله يثبت الخلف قائما مقامه.
وكذلك شهود الكتابة ببدل مؤجل إذا رجعوا فضمنهم المولى قيمة المكاتب كان لهم أن يرجعوا على المكاتب ببدل الكتابة، لان السبب قد تقرر موجبا للاصل وهو الملك في المضمون لمصادفته محله فثبت (به الخلف)، وهو الرجوع ببدل الكتابة لوجود العجز عما هو الاصل، وهو ملك الرقبة باعتبار قيام الكتابة.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول قد وجد من الشهود التعدي بإتلاف النفس حكما ومن الولي التعدي بإتلاف النفس حقيقة والمساواة ثابتة بين الحكمي والحقيقي في حكم الضمان، ثم إذا اختار تضمين المتلف حقيقة
وهو الولي لم يرجع على الشهود بشئ، لانه ضمن بجنايته من حيث الاتلاف فكذلك إذا اختار تضمين الشهود قلنا لا يرجعون على الولي، لانهم ضمنوا
بجنايتهم، بخلاف ما إذا شهدوا بالقتل الخطأ وأخذ الولي الدية، لان وجوب الضمان هناك باعتبار تملك المال على من ألزمه القاضي الدية، فإذا ضمن الولي كان هو المتملك والمملوك سالم له، وإذا ضمن الشهود كانوا هم الذين تملكوا والمملوك في يد المولى أو قد صرفه إلى حاجته فيرجعون عليه بما ملكوه لهذا المعنى.
قولهما إن السبب هنا انعقد موجبا للاصل، ممنوع، لان الدم لا يملك بالضمان بحال، وفي القصاص الذي قالا الولي لا يملك نفس من عليه القصاص وإنما يستوفيه بطريق الاباحة، ولهذا لم يكن له حق الاستيفاء في الحرم، ولا يتحول حقه إلى البدل إذا قتل من عليه القصاص ظلما وإذا لم يكن محلا للملك عرفنا أن السبب ما انعقد موجبا للاصل، ولو كان الدم بمحل أن يملك لم يكن إيجاب الضمان للشهود على الولي أيضا، لانه صار متلفا عليهم ملك الدم، وإتلاف ملك الدم لا يوجب الضمان سواء أتلفه حقيقة أو حكما، ألا ترى أن من قتل من عليه القصاص فإنه لا يضمن لمن له القصاص شيئا.
وكذلك شهود العفو إذا رجعوا أو المكره على العفو لا يضمن أحد منهم شيئا، وإن أتلف ملك الدم الثابت لمن له القصاص، وبه فارق المدبر والمكاتب، لان هناك ما هو الاصل وهو ملك الرقبة في الموضع الذي يكون ثابتا يكون موجبا ضمان خلفه عند الاتلاف، فكذلك إذا انعقد السبب موجبا للاصل ثم لم يعمل لعارض وهو التدبير والكتابة قلنا يكون موجبا لما هو خلفه وهو القيمة وبدل الكتابة فيرجع بهما.
فصل: في بيان الكلام في القسم الثاني وهو السبب أما الكلام في القسم الثاني فنقول: تفسير السبب لغة: الطريق إلى الشئ
قال تعالى: (وآتيناه من كل شئ سببا فأتبع سببا) أي طريقا.
وقيل هو بمعنى الباب، قال تعالى: (لعلي أبلغ الاسباب أسباب السموات) : أي أبوابها، ومنه قول زهير: ولو نال أسباب السماء بسلم أي أبوابها.
وقيل هو بمعنى الحبل، قال تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء) الآية يعني بحبل من سقف البيت، فالكل يرجع إلى معنى (واحد) وهو طريق الوصول إلى الشئ.
وفي الاحكام السبب: عبارة عما يكون طريقا للوصول إلى الحكم المطلوب من غير أن يكون الوصول به ولكنه طريق الوصول إليه، بمنزلة طريق الوصول إلى مكة، فإن الوصول إليها يكون بمشي الماشي وفي ذلك الطريق لا بالطريق، ولكن يتوصل إليها من ذلك الطريق عند قصد الوصول إليها.
وكذلك الحبل، فإنه طريق للوصول إلى قعر البئر أو إلى الماء الذي في البئر ولكن لا بالحبل بل بنزول النازل أو استقاء النازح بالحبل.
وأما تفسير العلة فهي: المغيرة بحلولها حكم الحال، ومنه سمي المرض علة لان بحلولها بالشخص يتغير حاله، ومنه يسمى الجرح علة لان بحلوله بالمجروح يتغير حكم الحال.
وقيل العلة: حادث يظهر أثره فيما حل به لا عن اختبار منه، ولهذا سمي الجرح علة، ولا يسمى الجارح علة، لانه يفعل عن اختيار، ولانه غير حال بالمجروح.
وفي أحكام الشرع العلة معنى في النصوص وهو تغير حكم الحال بحلوله بالمحل يوقف عليه بالاستنباط، فإن قوله عليه السلام: الحنطة بالحنطة مثلا بمثل غير حال بالحنطة ولكن في الحنطة وصف هو حال بها وهو كونه مكيلا مؤثرا في المماثلة ويتغير حكم الحال بحلوله فيكون علة لحكم الربا فيه، حتى إنه لما لم يحل
القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لا يتغير حكم العقد فيه بل يبقى بعد هذا النص على ما كان عليه قبله.
وكذلك البيع علة للملك شرعا، والنكاح علة للحل شرعا، والقتل العمد علة لوجوب القصاص شرعا، باعتبار أن الشرع جعلها موجبة لهذه الاحكام، وقد بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها وأنه لا موجب إلا الله إلا أن ذلك الايجاب غيب في حقنا فجعل الشرع الاسباب التي يمكننا الوقوف عليها علة لوجوب الحكم في حقنا للتيسير علينا، فأما في حق الشرع فهذه العلل لا تكون موجبة شيئا، وهو نظير الاماتة، فإن المميت والمحيي هو الله تعالى حقيقة ثم جعله مضافا إلى القاتل بعلة القتل فيما ينبني عليه من الاحكام.
وكذلك أجزية الاعمال، فإن المعطي للجزاء هو الله تعالى بفضله ثم جعل ذلك مضافا إلى عمل العامل بقوله تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون) فهذا هو المذهب المرضي التوسط بين الطريقين، لا كما ذهب إليه الجبرية من إلغاء العمل أصلا، ولا كما ذهب إليه القدرية من الاضافة إلى العمل حقيقة وجعل (العامل) مستبدا بعمله.
ثم هذه العلل الشرعية تسمى نظرا، وتسمى قياسا، وتسمى دليلا أيضا على معنى أنه يوقف به على معرفة الحكم، والدليل على الشئ ما يوقف به على معرفته كالدخان دليل على النار، والبناء دليل على الباني، ولكن ما يكون علة يجوز أن يسمى دليلا، وما يكون دليلا محضا لا يجوز أن يسمى علة، ألا ترى أن حدوث الاعراض دليل على حدوث الاجسام ولا يجوز أن يقال إنها علة لحدوث الاجسام، والمصنوعات دليل على الصانع ولا يجوز أن يقال إنها علة للصانع تعالى، فعرفنا أن الدليل قط لا يكون علة، وقد تكون العلة دليلا.
وأما الشرط فمعناه لغة: العلامة اللازمة، ومنه يقال أشراط الساعة:
أي علاماتها اللازمة لكون الساعة آتية لا محالة، ومنه الشرطي لانه نصب نفسه على زي وهيئة لا يفارقه ذلك في أغلب أحواله فكأنه لازم له، ومنه شرط الحجام لانه يحصل بفعله في موضع المحاجم علامة لازمة، ومنه الشروط في الوثائق لانها تكون لازمة، فعرفنا أن الشرط في اللغة: العلامة اللازمة، ومنه سمى أهل اللغة حرف إن حرف الشرط، من قول القائل لغيره: إن أكرمتني أكرمتك، فإن قوله أكرمتك بصيغة الفعل الماضي، ولكن بقوله إن أكرمتني يصير إكرام المخاطب علامة لازمة لاكرام المخاطب إياه، فكان شرطا من هذا الوجه.
وفي أحكام الشرع (الشرط) اسم لما يضاف الحكم إليه وجودا عنده لا وجوبا به، فإن قول القائل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق، يجعل دخول الدار شرطا حتى لا يقع الطلاق بهذا اللفظ إلا عند الدخول، ويصير الطلاق عند وجود الدخول مضافا إلى الدخول موجودا عنده لا واجبا به، بل الوقوع بقوله أنت طالق عند الدخول، ومن حيث إنه لا أثر للدخول في الطلاق من حيث الثبوت به ولا من حيث الوصول إليه لم يكن الدخول سببا ولا علة، ومن حيث إنه مضاف إليه وجودا عنده كان الدخول شرطا فيه، ولهذا لا نوجب الضمان على شهود الشرط بحال، وإنما نوجب الضمان على شهود التعليق بعد وجود الشرط إذا رجعوا.
وقد يقام الشرط مقام السبب في حكم الضمان عند تعذر إضافة الاتلاف إلى السبب نحو حافر البئر على الطريق يكون ضامنا لما يسقط فيه، وهو صاحب الشرط من حيث إنه أزال بفعله المسكة عن الارض وهو محل يستقر فيه الثقيل، والمحال في حكم الشروط ولكن لما
تعذر إضافة الاتلاف إلى ما هو السبب حقيقة وهو ثقل الماشي ومشبه جعل مضافا إلى الشرط في حكم الضمان، حتى لو دفع الواقع في البئر إنسان فإن الضمان يكون على الدافع دون الحافر، لان السبب هنا صالح لاضافة الاتلاف إليه.
وسنقرر هذا في فصل الشرط، إن شاء الله تعالى.
أما العلامة لغة فهي: المعرف بمنزلة الميل والمنارة، والميل علامة الطريق لانه معرف له، والمنارة علامة الجامع لانها معرفة له، ومنه سمي المميز بين الارضين من المسناة منار الارض، قال عليه السلام: لعن الله من غير منار الارض: أي العلامة التي تعرف بها لتمييز بين الارضين.
وكذلك في أحكام الشرع: العلامة ما يكون معرفا للحكم الثابت بعلته من غير أن يكون الحكم مضافا إلى العلامة وجوبا لها لا وجودا عندها، على ما نبينه في فصل على حدة إن شاء الله تعالى.
فصل: في بيان تقسيم السبب قال رضي الله عنه: اعلم بأن أسباب الاحكام الشرعية أنواع أربعة: سبب صورة لا معنى وهو يسمى سببا مجازا، وسبب صورة ومعنى وهو يسمى سببا محضا، وسبب فيه شبهة العلة، وسبب هو بمعنى العلة.
وقد بينا أن السبب: ما هو طريق الوصول إلى الشئ.
فأما الذي يسمى السبب مجازا فنحو اليمين بالله تعالى: يسمى سببا للكفارة مجازا باعتبار الصورة، وهو ليس بسبب معنى، فإن أدنى حد السبب أن يكون طريقا للوصول إلى المقصود، والكفارة باليمين إنما تجب بعد الحنث، وهي مانعة من الحنث موجبة لضده وهو البر، فعرفنا أنه ليس بسبب للكفارة معنى قبل الحنث ولكن يسمى سببا مجازا، لانه طريق الوصول إلى وجوب
الكفارة بعد زوال المانع وهو البر وكذلك النذر المعلق بالشرط الذي لا يريد كونه، سبب لوجوب المنذور صورة لا معنى، لانه يقصد به منع ما يجب المنذور عند وجوده وهو إيجاد الشرط، وإنما يكون سببا بعد زوال المانع حقيقة.
وكذلك الطلاق والعتاق المعلق بالشرط، فإن التعليق سبب صورة لا معنى، لانه بالتعليق يمنع نفسه مما يقع الطلاق والعتاق عند وجوده.
وعلى هذا قلنا: التعليق بالملك صحيح وإن لم يكن الملك موجودا في الحال، لان المعلق ليس بطلاق ولا هو سبب الطلاق حقيقة ولكن يصير سببا عند وجود الشرط، وهذا لان الطلاق والعتاق لا يكون بدون المحل والتعليق يمنع الوصول إلى المحل.
وكذلك النذر، فإنه التزام في الذمة والتعليق يمنع وصول المنذور إلى الذمة، والتصرف بدون المحل لا يكون سببا كبيع الحر، إلا أن هناك ينعقد تصرف آخر وهو اليمين، لانه عقد مشروع لمقصود وفي ذلك المقصود التصرف صادف محله وهو ذمة الحالف، بخلاف بيع الحر فإنه لا ينعقد أصلا، وعلى هذا لا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث بالمال ولا بالصوم، لانها ليست بسبب للكفارة معنى، والاداء قبل تحقق السبب لا يجوز، بخلاف تعجيل الكفارة بعد الجرح قبل زهوق الروح في الآدمي والصيد، لانه سبب محض من حيث إنه طريق مفض إلى القتل عند زهوق الروح بالسراية، يوضحه أن اليمين لا تبقى بعد الحنث لانها مشروعة لمقصود وهو البر، وذلك يفوت بالحنث أصلا، والعقد لا يبقى بعد فوات مقصوده.
ولما كانت الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث الذي يرتفع به اليمين عرفنا أن اليمين ليست بسبب لها معنى إذ العقد لا يكون سببا للحكم الذي يثبت (بعد فسخه.
وكذلك اليمين بالطلاق، فإن الطلاق إنما يكون واقعا بما يبقى بعد وجود الشرط وهو قوله
أنت طالق، والنذر إنما يثبت) باعتبار ما يبقى بعد وجود الشرط وهو قوله على صوم أو صلاة، فعرفنا أن الموجود قبل وجود الشرط لا يكون سببا معنى، بخلاف كفارة القتل فإنه جزاء الفعل والفعل بالسراية يتقرر ولا يرتفع، فكان قبل السراية سببا وملك النصاب قبل كمال الحول هكذا، لانه يتقرر عنده ما لاجله كان النصاب سببا وهو معنى النمو، إلا أن مع هذا التعليق بالشرط لكونه سببا، مجازا أثبتنا فيه معنى السببية بوجه، بخلاف ما يقوله زفر رحمه الله إنه لا يثبت فيه حكم السببية بوجه.
وبيان هذا في تنجيز الثلاث بعد
صحة التعليق فإنه مبطل للتعليق عندنا، لان التعليق يمين وموجبه البر فإذا كان هذا السبب مضمونا (بالبر) كان له شبهة السببية في الحكم الذي يجب به بعد فوات البر على وجه الخلف عنه، كالغصب، فإنه موجب ضمان الرد في العين ثم له شبهة السببية في حكم ضمان القيمة الذي ثبت خلفا عن رد العين عند فوات العين، فكما يشترط قيام الملك وصفة الحل في المحل لبقاء ما هو سبب للحكم حقيقة فكذلك يشترط لبقاء ما فيه شبهة السببية للحكم، وتنجيز الثلاث يفوت ذلك كله.
وزفر يقول: ليس في التعليق شبهة السببية للحكم وهو الطلاق والعتاق وإنما هو تصرف آخر وهو اليمين محلها الذمة واشتراط الملك في المحل عند انعقاده ليترجح جانب الوجود على جانب العدم حتى يصح إيجاب اليمين به، وهذا غير معتبر في حال البقاء، ألا ترى أن بعد التطليقات الثلاث لو علق الطلاق ابتداء بالنكاح كان صحيحا، وصفة الحل الذي به يصير المحل محلا للطلاق معدوم أصلا.
ولكنا نقول: الملك سبب هو في معنى العلة، فإن النكاح علة لملك الطلاق، فالتطليق بمنزلة سبب هو في معنى العلة، على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فأما الاضافة إلى وقت لا تعدم السببية معنى
كما يعدمه التعليق بالشرط، ولهذا قلنا في قوله تعالى: (فعدة من أيام أخرى) : إنه لا يخرج شهود الشهر من أن يكون سببا حقيقة في حق جواز الاداء.
وقوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) يخرج المتمتع من أن يكون سببا لصوم السبعة قبل الرجوع من منى حتى لو أداه لا يجوز، لانه لما تعلق بشرط الرجوع فقبل وجود الشرط لا يتم سببه معنى، وهناك إضافة الصوم إلى وقت فقبل وجود الوقت يتم السبب فيه معنى حتى يجوز الاداء.
وأما السبب المحض وهو: ما يكون طريقا للوصول إلى الحكم ولكن
لا يضاف الحكم إليه وجوبا به ولا وجودا عنده بل تتخلل بين السبب والحكم العلة التي يضاف الحكم إليها وتلك العلة غير مضافة إلى السبب، وذلك نحو حل قيد العبد، فإنه طريق لوصول العبد إلى الاباق الذي هو متو مالية المولى فيه، ولكن يتخلل بينه وبين الاباق الذي تتوى به المالية قصد وذهاب من العبد وهو غير مضاف إلى السبب السابق، فيبقى حل القيد سببا محضا.
وعلى هذا قلنا: لو فتح باب الاصطبل فندت الدابة أو باب القفص فطار الطير لم يجب الضمان عليه، لان العلة قوة الدابة في نفسها على الذهاب وقوة الطير على الطيران، وهو غير مضاف إلى السبب الاول.
وكذلك لو دل إنسانا على مال الغير فأتلفه أو على نفسه فقتله أو على قافلة حتى قطع الطريق عليهم لم يكن ضامنا شيئا، لان الدلالة سبب محض من حيث إنه طريق الوصول إلى المقصود، ويتخلل بينه وبين حصول المقصود ما هو علة وهو غير مضاف إلى السبب الاول، وذلك الفعل الذي يباشره المدلول.
وعلى هذا قلنا: لو قال لرجل هذه المرأة حرة فتزوجها، فذهب وتزوجها واستولدها ثم ظهر أنها كانت أمة فإنه لا يرجع بضمان قيمة الاولاد
على المخبر، بخلاف ما إذا زوجها منه على أنها حرة، لان إخباره سبب للوصول إلى المقصود، ولكن تخلل بينه وبين المقصود وهو الاستيلاد ما هو علة فهو غير مضاف إلى السبب الاول، وذلك عقد النكاح الذي باشرته المرأة على نفسها.
وعلى هذا قلنا: الموهوب له الجارية إذا استولدها ثم استحقت لم يرجع بقيمة الاولاد على الواهب، والمستعير إذا أتلف العين باستعماله ثم ظهر الاستحقاق لم يرجع بالقيمة على المعير، لان الهبة والاعارة سبب ولكن تخلل بينه وبين حصول الاولاد ما هو علة وهو الاستيلاد والاستعمال المفضي إلى التلف، وذلك غير مضاف إلى السبب الاول، بخلاف المشتري إذا استولدها ثم ظهر الاستحقاق فإنه يرجع بقيمة الاولاد، لان بمباشرة عقد الضمان قد التزم له صفة السلامة عن العيب، ولا عيب فوق الاستحقاق، وبمباشرة عقد التبرع لا يصير ملتزما سلامة المعقود عليه عن العيب، ولهذا لا يرجع بالعقد في الوجهين لانه لزمه بدلا عما استوفاه ولا رجوع
له بسبب العيب فيما استوفاه لنفسه، وإن كان البائع ضمن له صفة السلامة عن العيب.
وزعم بعض أصحابنا أن رجوع المغرور باعتبار الكفالة وذلك باشتراط البدل، فإن البائع يصير كأنه قال ضمنت لك سلامة الاولاد على أنه إن لم يسلم لك فأنا ضامن لك ما يلزمك بسببه.
وهذا الضمان لا يثبت في عقد التبرع وإنما يثبت في حق الضمان باشتراط البدل إلا أن الاول أصح.
وقد قال في كتاب العارية: العبد المأذون إذا آجر دابة فتلفت باستعمال المستأجر ثم ظهر الاستحقاق رجع المستأجر بما ضمن من قيمتها على العبد في الحال، والعبد لا يؤاخذ بضمان الكفالة ما لم يعتق، وهو مؤاخذ بالضمان الذي يكون سببه العيب بعدما التزم صفة السلامة عن العيب بعقد الضمان.
ولا يدخل
على ما قلنا دلالة المحرم على قتل الصيد، فإنها توجب عليه ضمان الجزاء وهي سبب محض لا يتخلل بينها وبين المقصود ما هو العلة وهو القتل من المدلول، وهذا لان وجوب الضمان عليه بجنايته بإزالة الامن عن الصيد، فإن أمنه في البعد عن أيدي الناس وأعينهم، وقد التزم بعقد الاحرام الامن للصيد عنه، فإذا صار بالدلالة جانيا من حيث إزالته الامن كان ضامنا لذلك، إلا أن قبل القتل لا يجب عليه الضمان لبقاء التردد، فقد يتوارى الصيد على وجه لا يقدر المدلول عليه فيعود آمنا كما كان، فبالقتل تستقر جنايته بإزالة الامن.
فهو نظير الجراحة التي يتوهم فيها الاندمال بالبرء على وجه لا يبقى لها أثر، فإنه يستأني فيها مع كون الجرح جناية، ولكن لبقاء التردد يستأني حتى يتقرر حكمها في حق الضمان، بخلاف الدلالة على مال الغير، فإن حفظ الاموال بالايدي لا بالبعد عن الايدي والاعين، فالدال لا يصير جانيا بإزالة الحفظ بدلالته، وهذا بخلاف المودع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة فإنه يصير ضامنا، لانه جان بترك ما التزمه من الحفظ بعقده وهو ترك التضييع وبالدلالة يصير مضيعا، فهو نظير المحرم يدل على قتل الصيد حتى يصير ضامنا لتركه ما التزمه بالعقد وهو أمن الصيد عنه.
وعلى هذا قلنا: من أخرج ظبية من الحرم فولدت فهو ضامن للولد لانها بالحرم آمنة، وثبوت يده عليها يفوت معنى الصيدية، فيثبت به معنى إزالة الامن في حق الولد،
بخلاف الغاصب فإنه لا يكون ضامنا للزوائد لان الاموال محفوظة بالايدي، فإنما يجب الضمان هنا بالغصب الذي هو موجب قصر يد المالك عن ماله، وذلك غير موجود في الزيادة مباشرة ولا تسبيبا، ولا ينكر كونه متعديا في إمساك الولد، ولهذا نجعله آثما ونوجب عليه رده.
ولكنا نقول: هو ليس بغاصب
للولد تسبيبا ولا مباشرة، وبتعد آخر سوى الغصب لا يوجب ضمان الغصب، واليد الثابتة على الام عند انفصال الولد عنها حكم الغصب لا نفس الغصب، فعرفنا أنه لم يثبت الغصب في الولد بطريق السراية ولا قصدا بطريق المباشرة ولا بطريق التسبب بغصب الام، لان قصر يد المالك تكون بإزالة يده عما كان في يده، أو بإزالة تمكنه من أخذ ما لم يكن في يده، وذلك غير موجود في الولد أصلا قبل أن يطالبه بالرد.
ومن السبب المحض أن يدفع سكينا إلى صبي فيجأ الصبي به نفسه، فإنه لا يجب على الدافع ضمان وإن كان فعله بعلة طريق الوصول، ولكن قد تخلل بينه وبين المقصود ما هو علة وهو غير مضاف إلى السبب الاول، وذلك قتل الصبي به نفسه، بخلاف ما إذا سقط من يده على رجله فعقره، لان السقوط من يده مضاف إلى السبب الاول وهو مناولته إياه، فكان هذا سببا في معنى العلة، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
وكذلك لو أخذ صبيا حرا من يد وليه فمات في يده بمرض لم يضمن الآخذ شيئا، بخلاف ما إذا قربه إلى مسبعة حتى افترسه سبع، فإن السبب هنا بمعنى العلة باعتبار الاضافة إليه، فإنه يقال لولا تقريبه إياه من هذه المسبعة ما افترسه السبع، ولا يقال لولا أخذه من يد وليه لم يمت من مرضه.
ولو قتل الصبي في يد الآخذ رجلا فضمن عاقلته الدية لم يرجعوا به على عاقلة الآخذ، لانه تخلل بين السبب ووجوب الضمان عليهم ما هو علة وهو غير مضاف إلى ذلك التسبيب.
وعلى هذا لو قال لصبي: ارق هذه الشجرة فانفضها لي، فسقط كان ضامنا، بخلاف ما لو قال: كل ثمرتها أو فانفضها لنفسك، لان كلامه تسبيب قد تخلل بينه وبين السقوط ما هو علة وهو صعود الصبي الشجرة لمنفعة نفسه، وفي الاول لما كان صعوده لمنفعة الآمر صار بسببه في معنى العلة بطريق
==================د6.=================ج6..... ==================
ج66666666666666.
الكتاب : أصول السرخسي
المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى
الاضافة إليه.
وكذلك لو حمل صبيا على الدابة فسقط ميتا كان الحامل ضامنا لديته، ولو سيرها الصبي فسقط منها فمات لم يضمن الذي حمله عليها شيئا.
ليعلم أن السائل على هذا الاصل أكثر من أن تحصى.
ومما هو في معنى السبب المحض ما هو أحد شطري علة الحكم، نحو إيجاب البيع وأحد وصفي علة الربا، فإنه سبب محض على معنى أنه طريق الوصول إلى المقصود عند غيره، وذلك الغير ليس بمضاف إليه، فيكون سببا محضا.
فإن قيل: قد جعلتم حد السبب ما يتخلل بينه وبين المقصود ما هو علة للحكم، وهنا الذي يتخلل هو الوصف الآخر وهو ليس بعلة للحكم بانفراده، فكيف يستقيم قولكم إن أحد الوصفين سبب محض ؟ قلنا: هو مستقيم من حيث إن الحكم متى تعلق بعلة ذات وصفين فإنه يضاف إلى آخر الوصفين على معنى أن تمام العلة به حصل، ولهذا قلنا: إن الموجب للعتق القرابة القريبة مع الملك ثم يضاف العتق إلى آخر الوصفين وجودا، حتى إذا كان العبد مشتركا بين اثنين ادعى أحدهما نسبه كان ضامنا لشريكه، وإذا اشترى نصف قريبه من أحد الشريكين كان ضامنا لشريكه.
وكذلك النسب مع الموت موجب للارث فيضاف إلى آخر الوصفين ثبوتا، حتى إن شهود النسب بعد الوفاة إذا رجعوا ضمنوا، بخلاف شهود النسب في حالة الحياة، فإذا ثبت أن إضافة الحكم إلى آخر الوصفين وهو يتخلل بين الوصف الاول وبين الحكم، عرفنا أن الوصف الاول في معنى السبب المحض.
وهذا أصل مستمر في الشروط والعلل جميعا، حتى قلنا: إذا قال لامرأته إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق، فأبانها ودخلت إحدى الدارين في غير ملكه ثم تزوجها
فدخلت الاخرى في ملكه تطلق، لان الحكم يكون مضافا إلى تمام الشرط وجودا عنده، وذلك حصل بدخول الدار الاخرى، فيشترط قيام الملك عنده لا عند دخول الاولى.
ومن الاسباب السفينة إذا كانت تحتمل مائة من وقد جعل فيها ذلك القدر فوضع إنسان آخر فيها منا فغرقت كان ضامنا
للجميع، لان تمام علة الغرق حصل بفعله.
وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما في المثلث: إن السكر منه حرام، ثم السكر الذي هو حرام القدح الاخير، لان تمام علة الاسكار عندها فيكون مضافا إليها خاصة.
ومحمد رحمه الله ترك هذا الاصل في هذه المسألة احتياطا لاثبات الحرمة، فإنها تثبت باعتبار الصورة تارة وباعتبار المعنى أخرى.
وأما السبب الذي هو في معنى العلة فنحو قود الدابة وسوقها فإنه طريق الوصول إلى الاتلاف غير موضوع له ليكون علة، وهو في معنى العلة من حيث إن الاتلاف مضاف إليه، يقال: أتلفه بقود الدابة أو سوقها.
وكذلك إذا أشرع جناحا في الطريق أو وضع حجرا أو ترك هدم الحائط المائل بعد التقدم إليه فيه، فهذا كله سبب في معنى العلة.
وكذلك إذا أدخل دابته زرع إنسان حتى أكلت الدابة الزرع، فهذا سبب في معنى العلة للاتلاف، ولهذا كان موجبا عليه ضمان المتلف، ولا يكون شئ من هذا موجبا لحرمان الميراث ولا الكفارة، فإن ذلك جزاء مباشرة الفعل.
وكذلك قطع حبل القنديل المعلق وشق الزق وفيه مائع: سبب هو في معنى العلة.
وكذلك شهادة الشهود بالقصاص يكون سببا للقتل من غير مباشرة، لان قضاء القاضي بعد الشهادة يكون عن اختيار.
وكذلك استيفاء الولي والشهادة غير موضوعة للقتل في الاصل، ولهذا لا يوجب الكفارة ولا يثبت حرمان
الميراث في حق الشهود، ولا يوجب عليهم القصاص.
والشافعي رحمه الله لا ينكر هذا ولكن يقول هو تسبيب قوي من حيث إنه قصد به شخصا بعينه فيصلح أن يكون موجبا للقود عليه، لان فيه معنى العلة من حيث إن قضاء القاضي من موجبات الشهادة، والقتل مضاف إلى ذلك.
إلا أنا نقول: القاضي إنما يقضي عن اختيار منه وليس في وسع الشاهد ما يظهره القاضي بقضائه أو يوجبه، فبقيت شهادة الشهود تسبيبا في الحقيقة، ولا مماثلة بين التسبيب والمباشرة، ووجوب القصاص يعتمد المباشرة.
وعلى هذا قال في السير: إذا قال للغزاة: أدلكم على حصن في دار الحرب تجدون فيه الغنائم، فإن ذهب معهم حتى دلهم عليه كان شريكهم في المصاب، لان فعله تسبيب
فيه معنى العلة، وإن وصف لهم الطريق حتى وصلوا إليه بوصفه ولم يذهب معهم لم يكن شريكهم في المصاب، لان ما صنعه تسبيب محض وليس فيه من معنى العلة شئ.
وأما السبب الذي له شبهة العلة كحفر البئر في الطريق، فإنه سبب للقتل من حيث إيجاد شرط الوقوع وهو زوال المسكة وليس بعلة في الحقيقة، فالعلة ثقل الماشي في نفسه، والسبب المطلق مشيه في ذلك الموضع، فأما الحفر فهو إيجاد شرط الوقوع ولكن له شبهة العلة من حيث إن الحكم يضاف إليه وجودا عنده لا ثبوتا به، ولهذا لم يكن موجبا الكفارة ولا حرمان الميراث، فإن ذلك جزاء الفعل وفعله تم من غير اتصال بالمقتول، وإنما اتصل بالمقتول عند الوقوع بسبب آخر وهو مشيه، إلا أنه يجب ضمان الدية عليه، لان ذلك بدل المتلف لا جزاء الفعل وقد حصل التلف مضافا إلى حفره وجودا عنده، فإذا كان ذلك تعديا منه وجب الضمان عليه بمقابلة المتلف حتى لو اعترض على فعله ما يمكن
إضافة الحكم إليه، نحو دفع دافع إياه في البئر، فإنه يكون الضمان على الدافع دون الحافر.
وعلى هذا قلنا: إذا تزوج كبيرة ورضيعة فأرضعت الكبيرة الرضيعة، فإن الزوج يغرم نصف صادق الصغيرة ثم يرجع به على الكبيرة إن تعمدت الفساد، وإن لم تتعمد ذلك لم يرجع عليها بشئ، لان ثبوت الحرمة بالارضاع وذلك موجود من الصبية، إلا أن إلقام الثدي إياها سبب من الكبيرة له شبهة العلة من حيث إن الحكم يضاف إليه وجودا عنده.
وهذا الضمان ليس بضمان إتلاف ملك النكاح، فإنه لا يضمن بالاتلاف عندنا، ولكن ضمان تقرير نصف صداق على الزوج، فإذا صار ذلك مضافا إلى فعلها وجودا عنده كان لفعلها شبهة العلة، وقد كانت متعدية في ذلك حين تعمدت الفساد، فيلزمها ضمان العدوان، والله أعلم.
فصل: في تقسيم العلة قال رضي الله عنه: أنواع العلة ستة: علة اسما ومعنى وحكما وهو حقيقة العلة، وعلة اسما لا معنى ولا حكما وهو يسمى علة مجازا، وعلة
اسما ومعنى لا حكما، وعلة تشبه السبب، وعلة معنى وحكما لا اسما، وعلة اسما وحكما لا معنى.
فالاول: نحو البيع للملك، والنكاح للحل، والاعتاق لزوال الرق وإثبات الحرية، وإيقاع الطلاق للوقوع، فإن هذا كله علة اسما من حيث إنه موضوع لهذا الموجب، فإن هذا الموجب مضاف إليه لا بواسطة، وهو علة معنى من حيث إنه مشروع لاجل هذا الموجب، وهو علة حكما من حيث إن هذا الحكم يثبت به ولا يجوز أن يتراخى عنه.
واختلف مشايخنا في أن مثل هذه العلة المطلقة هل يجوز أن تكون موجودة والحكم متأخر عنه ؟ فمنهم من
جوز ذلك وقال: الذي لا يجوز كون العلة خالية عن الحكم، فأما يجوز أن لا يتصل الحكم بها ولكن يتأخر لمانع.
والاصح عندنا أنه لا يجوز تأخر الحكم عن هذه العلة ولكن الحكم يتصل ثبوته بوجود هذه العلة بعد صحتها لا محالة، وهو عندنا بمنزلة الاستطاعة مع الفعل لا يجوز القول بأنها تسبق الفعل.
وأما العلة اسما لا معنى ولا حكما: فبيانها فيما ذكرنا من تعليق الطلاق والعتاق بالشرط واليمين قبل الحنث، فإنها علة اسما لا معنى ولا حكما، لان العلة معنى وحكما ما يكون ثبوت الحكم عند تقرره لا عند ارتفاعه، وبعد الحنث لا تبقى اليمين بل ترتفع، وكذلك بعد وجود الشرط في اليمين بالطلاق والعتاق لا يبقى اليمين.
وأما العلة اسما ومعنى لا حكما: فنحو البيع الموقوف، فإنه علة للملك اسما من حيث إنه بيع حقيقة موضوع لهذا الموجب، ومعنى من حيث إنه منعقد شرعا بين المتعاقدين لافادة هذا الحكم، فإن انعقاده وتمامه معنى بما هو من خالص حقها، وليس فيه تعدي الضرر إلى الغير، وهو ليس بعلة حكما لما في ثبوت الملك به من الاضرار بالمالك في خروج العين عن ملكه من غير رضاه، ولهذا إذا وجد الاجازة منه يستند الحكم إلى وقت العقد حتى يملكه المشتري بزوائده، فيتبين به أن العلة موجودة اسما ومعنى.
وكذلك إذا صرح بشرط الخيار للبائع فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، لان خيار الشرط داخل على الحكم لا على أصل البيع، وكان القياس أن لا يجوز اشتراط الخيار في البيع لمعنى الغرر إلا أنا لو أدخلنا الشرط على أصل السبب دخل على الحكم ضرورة، ولو أدخلناه على الحكم خاصة لم يكن داخلا
على أصل السبب، فكان معنى الغرر والجهالة في هذا أقل، وإذا ظهر أن الشرط دخل على الحكم خاصة عرفنا أن البيع بهذا الشرط علة اسما ومعنى لموجبه لا حكما، ولهذا لو سقط الخيار يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يملك البيع بالزيادة المتصلة والمنفصلة، إلا أن أصل الملك لما صار متعلقا بالشرط لم يكن موجودا قبل الشرط أصلا، فالعتق الموجود في هذه الحالة من المشتري لا يتوقف على أن ينفذ ثبوت الملك له إذا سقط الخيار، وفي الاول إنما يثبت في الملك صفة التوقف لا التعليق بالشرط وتوقف الشئ لا يعدم أصله، فثبت إعتاقه بصفة التوقف أيضا على أن ينفذ بنفوذ الملك له بالاجارة.
ومن هذا النوع الاجارة، فإنها علة للملك اسما ومعنى لا حكما، لانها تتناول المعدوم حقيقة، والمعدوم لا يكون محلا للملك، ولهذا لم يثبت الملك في الاجر لانعدام العلة حكما، ويملك بشرط التعجيل لوجود العلة اسما ومعنى، إلا أن هناك وجود العلة اسما ومعنى من حيث إن المنتفع به جعل كالمنفعة التي هي المقصودة بالعقد، فأما العقد في حق الحكم حقيقة وهو ملك المنفعة صار مضافا إلى حالة الوجود فيقتضي الملك في الاجر على حال استيفاء المنفعة لهذا، ولا يثبت مستندا إلى وقت العقد، لان إقامة العين مقام المنفعة في حكم صحة الايجاب دون الحكم، وعلى هذا الطلاق الرجعي، فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، لان حكم زوال الملك به متعلق بشرط انقضاء العدة قبل الرجعة، وهو في حكم حرمة المحل ركن من أركان العلة، فعرفنا أنه
ليس بعلة حكما، ولهذا لم يثبت زوال ملك الحل به ولا حرمة الوطئ أصلا.
وأما العلة التي تشبه السبب فصورتها أن يكون ما يضاف إليه الحكم أصله
موجودا وصفته منتظرا متأخرا في وجوده خطر.
فمن حيث وجود الاصل كان علة لان الصفة تابعة للاصل وبانعدام الوصف لا ينعدم الاصل، ومن حيث إن كونه موجبا للحكم باعتبار الصفة وهو منتظر متأخر فالاصل قبل وجود الوصف كان طريقا للوصول إليه فكان سببا.
وبيان ذلك في النصاب للزكاة فإنه سبب لوجوب الزكاة بصفة النماء، وحصول هذا النماء منتظر لا يكون إلا بعد مدة قدر الشرع تلك المدة بالحول، وبما ذكره لم ينتصب الحول شرطا، فإنه قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وحتى كلمة غاية لا كلمة شرط، وبانعدام صفة النماء للحال لا ينعدم أصل المال الذي يضاف إليه هذا الحكم شرعا، فجعلناه علة تشبه السبب حتى يجوز التعجيل بعد كمال النصاب، ولا يكون المؤدى زكاة للمال لانعدام صفة العلة، بخلاف المسافر إذا صام في شهر رمضان، والمقيم إذا صلى في أول الوقت، فالمؤدى يكون فرضا لوجود العلة، مطلقة بصفتها، ثم إذا تم الحول حتى وجب الزكاة جاز المؤدى عن الزكاة باعتبار أن الاداء وجد بعد وجود العلة، ولو كان محض سبب لم يكن المؤدى قبل وجود العلة محسوبا من الزكاة كالمؤدى قبل كمال النصاب.
فبهذا يتبين أن حولان الحول ليس بتأجيل فيه، لان التأجيل مهلة لمن عليه الحق بعد كمال العلة فإذا أسقط المهلة بالتعجيل كان في الحال مؤديا للواجب وهنا لا يكون في الحال مؤديا للواجب، وإذا تم الحول ونصابه غير كامل كان المؤدى تطوعا، فعرفنا أن النصاب قبل وجود صفة النماء يمضي المدة يكون علة في معنى السبب، حتى يثبت حكم الاداء بحسب هذه العلة، ولا يثبت الوجوب أصلا بل يكون المؤدى موقوف الصحة على أن يكون عن الواجب إذا تم ما هو صفة العلة باستناد حكم الوجوب إليه، وعلى أن يكون تطوعا إذا لم يتم ذلك الوصف.
ولا يدخل على هذا إذا كانت الابل علوفة، فعجل عنها الزكاة ثم جعلها سائمة، لان هناك أصل العلة لم يوجد
وهو المال النامي، فإن الغناء مطلقا لا يحصل شرعا إلا بالمال النامي، وبما لا يحصل الغناء من المال لا تكون العلة موجودة بمنزلة ما دون النصاب.
وعلى هذا مرض الموت، فإنه علة للحجر عن التبرعات فيما هو حق الوارث بعد الموت بصفة إيصال الموت به وهذا منتظر، فكان الموجود في الحال علة تشبه السبب، فإذا تم باتصال الموت به استند حكمه إلى أول المرض حتى يبطل تبرعه بما زاد على الثلث، وإذا برأ من مرضه كان تبرعه نافذا لان العلة لم تتم بصفتها.
وكذلك الجرح علة لوجوب الكفارة في الصيد والآدمي بصفة السراية وهي صفة منتظرة، فكان الموجود قبل السراية علة تشبه السبب حتى يجوز أداء الكفارة بالمال والصوم جميعا، وإذا اتصل به الموت كان المؤدى جائزا عن الواجب، وهذا كله لان الوصف لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالموصوف، فلا يمكن جعل الموصوف أحد وصفي العلة ليكون سببا لا علة كما بينا في فصل السبب، ولا يمكن جعل الوصف علة معنى وحكما بمنزلة آخر الوصفين وجودا من علة هي ذات وصفين، فلهذا جعلناها علة تشبه السبب.
ومن هذا النوع علة العلة، وذلك أن تكون العلة موجبة للحكم بواسطة تلك العلة من موجبات العلة الاولى فتكون بمنزلة علة توجب الحكم بوصف وذلك الوصف قائم بالعلة، فكما أن الحكم هناك يكون مضافا إلى العلة دون الصفة فهنا يكون أيضا مضافا إلى العلة دون الواسطة، وذلك نحو الرمي، فإنه يوجب تحرك السهم ومضيه في الهواء ونفوذه في المقصود حتى يبتنى عليه علة القتل، ولكن هذه الواسطات من موجبات الرمي، فكان الرمي علة تامة لمباشرة القتل حتى يجب القصاص على الرامي، ولهذا قلنا في شراء القريب إنه إعتاق تتأدى به الكفارة إذا نواه، لان الشراء موجب للملك والملك في القريب
موجب للعتق، فيصير الحكم مضافا إلى السبب الاول لكون الواسطة من موجباته، بخلاف ما إذا اشترى المحلوف بعتقه بنية الكفارة، لان الواسطة وهي الشرط يضاف إليه العتق وجودا عنده، لا وجوبا به، والعتق عند وجوده
مضاف إلى ما وجد من التعليق بما هو باق بعد وجود الشرط، وهو قوله أنت حر، ولم تقترن به نية الكفارة.
وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في المزكين لشهود الزنا: إذا رجعوا ضمنوا لان التزكية في معنى علة العلة فإن الموجب للحكم بالرجم شهادة الشهود، والشهادة لا تكون موجبة بدون التزكية، فمن هذا الوجه يصير الحكم مضافا إلى التزكية، ومن حيث إن التزكية صفة للشهادة بقي الحكم مضافا إلى الشهادة أيضا، فأي الفريقين رجع كان ضامنا.
ومما هو نظير العلة التي تشبه السبب ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في رجل قال: آخر عبد أشتريه فهو حر، فاشترى عبدا ثم عبدا ثم مات، فإنه يعتق الثاني من حين اشتراه.
وكذلك لو قال: آخر امرأة أتزوجها فهي طالق، لان الثاني موصوف بصفة الآخرية باعتبار معنى منتظر، وهو أن لا يشتري بعده غيره حتى يموت، ولا يتزوج بعدها غيرها فلم يكن الحكم ثابتا في الحال لمعنى الانتظار في هذا الوصف، فإذا زال الانتظار وتقرر الوصف كان الحكم ثابتا من حين وجدت العلة لا من حين زوال الانتظار، كما هو حكم العلة التي تشبه السبب.
وقد جعل بعض مشايخنا الايجاب المضاف إلى وقت من هذا القسم.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه من القسم الثالث فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، ولهذا لو نذر أن يتصدق بدرهم غدا فتصدق به اليوم جاز عن المنذور للحال، ولو كان هذا من نظير القسم الرابع لتأخر حكم جوازه عن المنذور إلى مجئ ذلك الوقت كما بينا في تعجيل الزكاة.
وكذلك قال أبو يوسف رحمه الله في النذر
بالصوم والصلاة إذا أضافه إلى وقت في المستقبل: يجوز تعجيله قبل ذلك الوقت لوجود العلة اسما ومعنى، وإن تأخر حكم وجوب الاداء إلى مجئ ذلك الوقت بمنزلة الصوم في حق المسافر.
وقال محمد رحمه الله: لا يجوز اعتبارا لما يوجبه على نفسه في وقت بعينه بما أوجب الله عليه في وقت بعينه حتى لا ينفك ذلك الوقت عن وجوب الاداء أو وجود الاداء فيه، وإذا جاز التعجيل خلا الوقت المضاف عن ذلك أصلا.
فأما العلة التي هي معنى حكما لا اسما، فهو آخر الوصفين من علة تشتمل
على وصفين مؤثرين في العتق، نحو ما بينا في القرابة المحرمة للنكاح مع الملك، فإنهما وصفان مؤثران في العتق، ثم آخرهما وجودا يكون علة معنى وحكما، والمراد بالمعنى كونه مؤثرا فيه، وبالحكم أنه يثبت الحكم عنده، وهذا لان الوصف الثاني مع الاول استويا في الوجوب بهما وترجح الثاني بالوجود عنده فكان علة معنى وحكما لا اسما، فإن الحكم مضاف إلى الوصفين جميعا، فمن حيث الاسم الوصف الثاني شطر العلة.
وعلى هذا قلنا: أحد وصفي علة الربا يحرم النسأ بانفراده لان كل واحد من الوصفين علة معنى وحكما إذا تأخر وجوده عن الوصف الآخر، وحرمة النسأ مبني على الاحتياط وهو أسرع ثبوتا من حرمة الفضل لقوله عليه السلام: إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد فجعل ثابتا بوجود أحد الوصفين.
ولا يدخل على هذا حكم الشهادة، فإن شهادة الشاهد الثاني بعد الاول لا تجعل علة للاستحقاق معنى وحكما وإن كان استحقاق الحكم عنده يكون، لان هناك الاستحقاق لا يثبت بالشهادة بل بقضاء القاضي، وقضاء القاضي يكون بشهادة الشاهدين جميعا فلا يتصور فيه كون أحدهما سابقا والآخر متمما لعلة الاستحقاق.
فأما العلة اسما وحكما لا معنى، فهو السفر والمرض في ثبوت الرخص بهما فإنها في الشريعة مضافة إلى السفر والمرض، فعرفنا أن كل واحد منهما علة اسما، وكذلك من حيث الحكم، فحكم جواز الترخص بالفطر ونحوه يثبت عند وجود السفر والمرض، فأما المعنى المؤثر في هذه الرخصة فهو المشقة التي تلحقه بالصوم دون السفر والمرض، لما بينا أن المعنى ما يكون مؤثرا في الحكم وذلك المشقة، وإليه أشار الله تعالى في قوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) إلا أن المشقة باطن تتفاوت أحوال الناس فيه ولا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السفر بصفة مخصوصة مقام تلك المشقة لكونه دالا عليها غالبا، وكذلك أقام المرض بوصف مخصوص مقام تلك المشقة، فعرفنا أنه علة اسما وحكما لا معنى، ولهذا لو أصبح مقيما صائما ثم سافر فأفطر لم تلزمه الكفارة لوجود علة الاسقاط اسما، وإن انعدم
معنى وحكما حتى لا يكون الفطر مباحا له في هذا اليوم أصلا.
وعلى هذا قلنا: النوم في كونه حدثا علة اسما وحكما لا معنى، إذ المعنى الذي هو مؤثر في الحدث خروج نجس من البدن أو من أحد السبيلين على حسب ما اختلف العلماء فيه وذلك غير موجود في النوم إلا أن النوم بصفة مخصوصة وهو أن يكون مضطجعا أو متكئا لكونه دليل استرخاء المفاصل يقوم مقام خروج شئ من البدن تيسيرا.
وعلى هذا حكم النسب فإن ملك النكاح علة لثبوت النسب اسما وحكما لا معنى، لان المعنى الذي هو مؤثر في النسب كون الولد مخلوقا من مائه ولكنه باطن، فقام النكاح الذي هو ظاهر مقامه تيسيرا.
وكذلك المس عن شهوة والنكاح في حكم حرمة المصاهرة، فإنه يكون اسما وحكما لا معنى.
وكذلك الاستبراء، فإن استحداث ملك الوطئ بملك اليمين علة لوجوب الاستبراء اسما وحكما لا معنى،
لان المؤثر في إيجاب الاستبراء اشتغال الرحم بماء الغير لمقصود صيانة مائه عن الخلط بماء آخر، وذلك باطن فقام السبب الظاهر الدال عليه وهو استحداث ملك الوطئ بملك اليمين مقام ذلك المعنى في وجوب الاستبراء به.
ولم يقم ملك النكاح مقام ذلك المعنى لان زوال ملك النكاح بعد وجود السبب الموجب لشغل الرحم يعقب عدة بها يحصل المقصود وهو براءة الرحم فلا حاجة إلى إيجاب الاستبراء عند حدوث ملك، وأما زوال ملك اليمين بعد الوطئ لا يعقب وجوب ما هو دليل براءة الرحم، فتقع الحاجة إلى إيجاب الاستبراء عند حدوث ملك الحل بملك اليمين لمقصود براءة الرحم.
وأمثلة هذا النوع أكثر من أن تحصى.
وهذا في الحاصل نوعان: أحدهما إقامة الداعي مقام المدعو كالمس والنكاح الداعي (إلى) ما يثبت به معنى البعضية.
والثاني إقامة الدليل مقام المدلول كاسترخاء المفاصل بالنوم، فإنه دليل خروج شئ من البدن، والتقاء الختانين في كونه موجبا للاغتسال، لانه دليل خروج المني عن شهوة، والمباشرة الفاحشة في كونه حدثا عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمة الله عليهما، لانه دليل خروج شئ منه حين انتشرت الآلة بالمباشرة.
وعلى
هذا قلنا: إذا قال لامرأته: إن كنت تحبيني أو تبغضيني فأنت كذا، فإن إخبارها به في المجلس يكون دليل وجود ما جعله شرطا، فجعل قائما مقام المدلول.
وفيه ثلاثة أوجه من الفقه: أحدها الضرورة والعجز عن الوقوف على ما هو الحقيقة كما في المحبة والبغض، وبه تعدى الحكم إلى قوله إن حضت فأنت كذا، فقالت حضت فإنه يقام خبرها به مقام حقيقة الشرط في وقوع الطلاق.
والثاني الاحتياط في باب الحرمات والعبادات.
والثالث دفع الحرج عن الناس فيما تتحقق فيه الحاجة لهم، ولهذا جعل الشرع في باب الاجارة
ملك العين المنتفع به مقام ملك المعقود عليه وهو المنفعة في جواز العقد، وأقام سبب وجود المنفعة وهو كون العين منتفعا بها مقام حقيقة وجودها، لانها بعد الوجود لا تبقى وقتين فلا يمكن إبراد العقد عليها وتسليمها، فلدفع الحرج فيما للناس حاجة إليه أقام الشرع غير المقصود بالعقد مقام المقصود فيما ينبني عليه عقد المعاوضة، وهو وجود المعقود عليه وكونه مملوكا للعاقد.
فهذه حدود يتم بمعرفتها فقه الرجل، ولكن في ضبط حدودها بعض الحرج لما فيها من الدقة، فلا يطلبها فقيه بكسل، ولا يقفن عن طلبها بفشل، والله الهادي لمن جاهد في سبيله.
فصل: في بيان تقسيم الشرط وهي ستة أقسام: شرط محض، وشرط في حكم العلة، وشرط فيه شبهة العلة، وشرط في معنى السبب، وشرط اسما لا حكما، وشرط بمعنى العلامة الخالصة.
فأما الشرط المحض فهو ما يتوقف وجود العلة على وجوده ويمتنع وجود العلة حقيقة بعد وجودها صورة، حتى يوجد ذلك الشرط فتصير موجودة عندها حقيقة، على ما بينا في الفرق بين الشرط والعلة أن الحكم مضاف إلى الشرط وجودا عنده لا وجوبا به، وذلك نحو كلمات الشرط كلها كقوله لعبده إن دخلت الدار فأنت حر أو إذا دخلت أو متى دخلت أو كلما دخلت، فإن التحرير الذي هو علة يتوقف وجوده على وجود الشرط حقيقة بعد
ما وجد صورته بكلماته من المولى، وعند وجود الشرط يوجد التحرير حقيقة فيثبت به حكم العتق.
وعلى هذا حكم العبادات والمعاملات، فإنها تعلقت بأسباب جعلها الشرع سببا للوجوب كما بينا، ثم وجود العلة حقيقة يتأخر إلى وجود
ما هو شرط فيه وهو العلم به أو ما يقوم مقام العلم به، حتى إن النص النازل قبل علم المخاطب به جعل في حقه كأنه غير نازل، ولهذا قلنا: من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان ثم علم بذلك فإنه لا يلزمه قضاء شئ باعتبار السبب في الماضي، وإذا أسلم في دار الاسلام يلزمه القضاء لا لان العلم ليس بشرط ولكن لان شيوع الخطاب في دار الاسلام وتيسير الوصول إليه بأدنى طلب يقوم مقام وجود العلم به، فتصير العلة موجودة حقيقة بوجود الشرط حكما، وعلى هذا تؤدى العبادات بأداء أركانها نحو الصلاة، فإن أركانها القيام والقراءة والركوع والسجود، ثم لا يوجد الاداء بها إلا بعد وجود الشرط وهو النية والطهارة.
وكذلك المعاملات، فإن ركن النكاح وهو الايجاب والقبول لا يوجد به انعقاد العقد إلا عند وجود الشرط وهو الشهود، ثم هذا النوع من الشرط إنما يعرف بصيغته أو بدلالته، فمتى وجد صيغة كلمة الشرط لم ينفك عن معنى الشرط.
والذي قاله بعض المتأخرين من مشايخنا في قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) إنه مذكور على سبيل العادة، وإنه لا فائدة فيه سوى أن الحاجة إلى الكتابة أمس في هذه الحالة، قال رضي الله عنه: هذا ليس بقوي عندي، لان تحت هذا الكلام أنه ليس في ذكر هذا الشرط فائدة معنى الشرط، وكلام الله تعالى منزه عن هذا، بل فيه فائدة الشرط.
وبيانه أن الامر للايجاب تارة وللندب أخرى، والمراد الندب هنا بدليل ما بعده وهو قوله: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) فإنه للندب دون الايجاب، وعقد الكتابة وإن كان مباحا قبل أن يعلم فيه خيرا فإنما يصير مندوبا إليه إذا علم أن فيه خيرا، فظهر فائدة الشرط من هذا الوجه.
وكذلك قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا) فإنه غير مذكور على وفاق العادة
عندنا بل لبيان الندب، فإن نكاح الامة مع طول الحرة وإن كان مباحا
له إلا أنه غير مندوب إليه وإنما يندب إليه بشرط عدم طول الحرة.
وكذلك قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) غير مذكور على وفاق العادة بل هو بمعنى الشرط حقيقة، لان المراد هو القصر في أحوال الصلاة كالاداء راكبا بالايماء والايجاز في القراءة وتخفيف الركوع والسجود، وذلك إنما يوجد عند وجود هذا الشرط وهو الخوف، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) وقال تعالى: (فإن اطمأننتم فأقيموا الصلاة) فأما قوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) فهو غير مذكور بصيغة الشرط فيه، وقوله تعالى: (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) وحكم الجواز لا يثبت إلا عند وجود هذا الشرط.
وبيان دلالة الشرط فيما قال علماؤنا: إذا قال لنسوة: المرأة التي أتزوجها منكن طالق، أو قال لاربع نسوة له: المرأة التي تدخل الدار منكن طالق، فإنه يتوقف وجود العلة حقيقة على وجود التزوج والدخول لوجود دلالة الشرط فيه، وهو أنه مذكور على سبيل الوصف للنكرة، بخلاف ما لو قال: هذه المرأة التي أتزوجها أو هذه المرأة التي تدخل الدار، فإنه مذكور على سبيل الوصف للعين فلا يكون شرطا ولا يتوقف وجود العلة على وجوده، ولو أتى بصيغة الشرط في الوجهين يوقف وجود العلة على وجوده بأن قال: إن تزوجت امرأة منكن أو هذه المرأة إن تزوجتها.
وأما الشرط الذي هو حكم العلة فنحو شق الزق حتى يسيل ما فيه
من الدهن، وقطع حبل القنديل حتى يسقط فينكسر، فإن الشق في الصورة مباشرة إتلاف جزء من الزق، وفي حق الدهن هو إيجاد شرط السيلان، ولكن جعل هذا الشرط في حكم العلة حتى يجعل كأنه باشر إراقة الدهن، لان المائع لا يكون محفوظا إلا بوعاء، فإزالة ما به تماسكه يكون مباشرة تفويت ما كان محفوظا به، وكذلك القنديل على ما هو مصنوع له
عادة لا يكون محفوظا إلا بحبل يعلقه به، فكان قطع ذلك الحبل مباشرة تفويت ما كان محفوظا به فيكون إلقاء وكسرا.
وعلى هذا جرح الانسان إذا اتصل به السراية يكون مباشرة القتل حتى يجب القصاص به إذا كان عمدا، لان الحياة لا يمكن إزهاقه حقيقة بالاخذ والاخراج ولكنه محفوظ في البدن بسلامة البنية، فنقض البنية بالجرح والقطع يكون تفويتا لما كان به محفوظا، فيجعل ذلك مباشرة علة القتل حكما، بخلاف الطلاق والعتاق فإنه محفوظ عند المالك بامتناعه عن التكلم بكلمة الايقاع، فبعد ما تكلم بكلمة الايقاع كان التعليق بالشرط للمنع من الوقوع، ومن أن يكون ذلك التكلم علة حقيقة، وإذا صار عند وجود الشرط علة حقيقة كان الحكم مضافا إلى العلة ثبوتا به، وإلى الشرط وجودا عنده، فلم يكن الشرط هناك في حكم العلة، حتى كان وجوب الضمان عند الرجوع على شهود التعليق دون شهود الشرط، ولا ضمان على شهود الشرط إذا رجعوا دون شهود التعليق.
وعلى هذا قال أبو حنيفة فيمن قيد عبده ثم قال: إن كان في قيدك عشرة أرطال حديد فأنت حر وإن حل هذا القيد فأنت حر، فشهد الشاهدان أن في القيد عشرة أرطال حديد فأعتقه القاضي ثم حل القيد، فإذا فيه خمسة أرطال، فإن الشهود يضمنون قيمة العبد، لان قضاء القاضي عنده بشهادة الزور ينفذ
ظاهرا وباطنا، فكان العتق ثابتا بقضاء القاضي بعد شهادتهما قبل أن يحل القيد، وهما في الصورة شاهدا الشرط، ولكنهما مثبتان علة العتق بشهادتهما، لانهما شهدا أن المولى علق عتقه بشرط موجود، والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا، فكأنهما شهدا بتنجيز العتق، فضمنا لاثباتهما شرطا هو علة في الحكم.
وأما الشرط الذي يشبه العلة، فهو أن يعارضه ما لا يصلح أن يكون علة للحكم بانفراده، ومتى عارضه ما يصلح علة بانفراده فذلك الشرط لا يشبه العلة لمعنى وهو أن الاصل في إضافة الحكم إليه (العلة)
وعلل الشرع فيما يرجع إلى ثبوت الحكم بها كأنها شروط على معنى أنها أمارات غير موجبة للحكم بذواتها، بل بجعل الشرع إياها كذلك، والشرط من وجه يشبهها على معنى أن الحكم يصير مضافا إلى الشرط وجودا عنده، فأمكن جعله خلفا عن العلة في الحكم، فقلنا: متى عارض الشرط ما لا يصلح أن يكون علة في الحكم صار موجودا بعد وجود الشرط، فلا بد من أن يجعل الشرط خلفا عن العلة في إثبات الحكم به، ومتى أمكن جعل المعارض علة بانفراده فلا حاجة إلى إثبات هذه الخلافة، فلم يجعل للشرط شبه العلة.
وبيانه فيما قلنا: إن حفر البئر في الطريق إيجاد شرط الوقوع بإزالة المسكة عن ذلك الموضع إلا أن ما عارضه من العلة وهو ثقل الماشي لا يصلح بانفراده علة الاتلاف بطريق العدوان، وما هو سببه وهو مشيه، لا يصلح علة لذلك فإنه مباح مطلقا، فكان الشرط بمنزلة العلة في إضافة الحكم إليه حتى يجب الضمان على الحافر، ولكن لا يصير مباشرا للاتلاف حتى تلزمه الكفارة ولا يحرم عن الميراث، فكان لهذا الشرط شبه العلة
لا أن يكون على حكما.
وقلنا في شهود التعليق وشهود الشرط: إذا رجعوا فالضمان على شهود التعليق خاصة، لانهم نقلوا قول المولى أنت حر، وهذا بانفراده علة تامة لاضافة حكم العتق إليه فلم يكن للشرط هناك شبه العلة، فلهذا لا يضمن شهود الشرط شيئا سواء رجع الفريقان أو رجع شهود الشرط خاصة.
وكذلك إذا رجع شهود التخيير وشهود الاختيار، فإن الضمان على شهود الاختيار خاصة، لان التخيير سبب وما عارضه وهو الاختيار علة تامة للحكم، فكان الحكم مضافا إليه دون السبب، فلم يضمن شهود السبب شيئا كما لا يضمن شهود الشرط.
وعلى هذا قلنا: إذا اختلف حافر البئر مع ولي الواقع فيها وقال الحافر أوقع فيها نفسه، وقال الولي لا بل وقع فيها، فالقول قول الحافر استحسانا، لان الحفر شرط جعل خلفا عن العلة لضرورة كون العلة غير صالحة، فالحافر يتمسك بما هو الاصل وهو صلاحية
العلة للحكم وينكر سبب الخلافة، وذلك حكم ضروري فكان القول قوله، بخلاف الجارح إذا ادعى أن المجروح مات بسبب آخر، وقال الولي: مات من تلك الجارحة، فإن القول قول الولي، لان الجارح صاحب علة لا صاحب شرط كما بينا، والاصل في العلة الصلاحية للحكم، فكان الولي هو المتمسك بالاصل هنا.
وعلى هذا قلنا: إذا غصب من آخر حنطة فزرعها فإن الزرع يكون مملوكا للغاصب، لان ما هو العلة لحصول الخارج وهو قوة الارض والهواء والماء مسخر بتقدير الله تعالى لا اختيار له، فلا يصلح لاضافة الحكم إليه، والالقاء الذي هو شرط جامع بين هذه الاشياء يجعل كالعلة خلفا عنها في الحكم، فبهذا الطريق يصير الزرع كسب الغاصب مضافا إلى عمله فيكون مملوكا له، وإذا سقط الحب في الارض من غير صنع أحد بأن هبت به
الريح فقد تعذر جعل هذا الشرط خلفا عن العلة، فجعل المحل الذي هو في حكم الشرط كالعلة خلفا حتى يكون الخارج لصاحب الحنطة لكونها محلا لما حصل وهو الخارج.
وأما الشرط الذي هو في معنى السبب فهو أن يعترض عليه فعل من مختار ويكون سابقا عليه، وذلك نحو ما إذا حل قيد عبد فأبق لم يضمن عند أصحابنا جميعا، وحل القيد إزالة المانع للعبد من الذهاب فكان شرطا، فقد اعترض عليه فعل من مختار وهو الذهاب من العبد الذي هو علة تلف المالية فيه، فما هو الشرط كان سابقا عليه، وما هو العلة غير مضاف إلى السابق من الشرط، فتبين به أنه بمنزلة السبب المحض، لان سبب الشئ يتقدمه، وشرطه يكون متأخرا عن صورته وجودا، وإذا كان بمعنى السبب كان تلف المالية مضافا إلى ما اعترض عليه من العلة دون ما سبق من السبب.
وعلى هذا لو أرسل دابة في الطريق فجالت يمنة أو يسرة عن سنن الطريق ثم سارت فأصابت شيئا فلا ضمان
على المرسل، لان الارسال هناك سبب محض وقد اعترض عليه فعل من مختار وهو غير منسوب إلى السبب الاول حين لم تذهب على سنن إرساله حتى يكون سابقا بذلك الارسال، فكان الاول المتقدم شرطا بمعنى السبب، ثم في الوجهين يضاف الهلاك إلى ما اعترض من الفعل دون ما سبق، وفعل الدابة لا يوجب الضمان على مالكها.
وعلى هذا قلنا في الدابة المنفلتة: إذا أتلفت زرع إنسان ليلا أو نهارا لم يضمن صاحبها شيئا، لانه لم يوجد منه علة ولا سبب ولا شرط يصير به الاتلاف مضافا إليه.
وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: إذا فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الاسطبل فندت الدابة في فور ذلك، فإن الفاتح للباب لم يضمن شيئا، لان فعله شرط لانه إزالة المانع
من الانطلاق وذلك شرط الانطلاق، ثم اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إليه، فكان الاول شرطا في معنى السبب فلا يصير الهلاك مضافا إليه، وقد اعترض عليه ما هو العلة، بخلاف حفر البئر إذا وقع فيه الماشي، فإن ما اعترض هناك من مشيه لا يصلح أن يكون علة الاتلاف حين لم يكن عالما بعمق ذلك المكان، حتى لو أوقع نفسه في البئر لم يضمن الحافر شيئا، لان ما اعترض علة صالحة للحكم وهو فعل حصل من مختار على وجه القصد إليه، ولهذا لو مشى على قنطرة واهية موضوعة بغير حق وهو عالم به فانخسفت به لم يضمن الواضع شيئا، وكذلك إذا مشى في موضع من الطريق قد صب فيه الماء وهو عالم به فزلقت رجله.
ولكن محمدا رضي الله عنه يقول فعل الدابة هدر شرعا وهو غير صالح لاضافة الحكم إليه فيكون مضافا إلى الشرط السابق الذي هو في معنى السبب، بخلاف فعل العبد من الاباق فإنه صالح شرعا لاضافة الحكم إليه.
والجواب لهما أن فعل الدابة لا يصلح لايجاب حكم به، ولكن يصلح لقطع الحكم، ألا ترى أن في الدابة التي أرسلها صاحبها في الطريق إذا جالت يمنة أو يسرة اعتبر فعلها في قطع حكم إرسال صاحبها.
وكذلك الصيد إذا خرج من الحرم يعتبر فعله في
قطع الحكم وهو الحرمة الثابتة له بسبب الحرم.
وإذا صال على إنسان فكذلك الجواب.
وبظاهر هذا الكلام يقول الشافعي في الجمل إذا صال على إنسان فقتله إنه لا يضمن شيئا، لان فعل الجمل صالح لقطع الحكم الثابت به وهو العصمة والتقوم الثابت فيه لحق المالك.
ولكنا نقول: فعل الدابة غير صالح لايجاب الشئ على مالكها، وفي إسقاط حقه في تضمين المتلف إيجاب حكم عليه وهو الكف عن الاعتداء على من اعتدى عليه بإتلاف ماله ومثله لا يوجد في صيد الحرم.
وعلى هذا قلنا: لو أرسل كلبا على صيد مملوك لانسان فقتله الكلب أو أشلاه على بعير
إنسان فقتله أو على ثوب إنسان فخرقه، لم يضمن شيئا، لان ما وجد منه من الاشلاء سبب قد اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إلى ذلك السبب، فإن بمجرد الاشلاء لا يكون سابقا له، بخلاف ما إذا أرسل كلبه المعلم على صيد فذبحه فإنه يجعل كأنه ذبحه بنفسه في حكم الحل، لان الاصطياد نوع كسب ينفي عنه معنى الحرج ويبني الحكم فيه على قدر الامكان، فأما في ضمان العدوان يجب الاخذ بمحض القياس، لان مع الشك في السبب الموجب للضمان لا يجب الضمان بحال.
وعلى هذا قلنا: لو أوقد نارا في ملكه فهبت الريح بها إلى أرض جاره حتى أحرقت كدسه لم يضمن، ولو ألقى شيئا من الهوام على الطريق فانقلبت من مكان إلى مكان آخر ثم لدغت إنسانا لم يضمن الملقي شيئا.
فما كان من هذا الجنس فتخريجه على الاصل الذي قلنا.
وأما الشرط اسما لا حكما وهو المجاز في هذا الباب فنحو الشرط السابق وجودا فيما علق بالشرطين، نحو أن يقول لعبده إن دخلت هاتين الدارين فأنت حر، فإن دخوله في الدار الاولى شرط اسما لا حكما، لان الحكم غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عنده، ولهذا لم يعتبر علماؤنا قيام الملك عند وجود الشرط الاول خلافا لزفر رضي الله عنه، وهذا لان الملك في المحل شرط
لنزول الجزاء أو لصحة الايجاب، والحكم غير مضاف إلى الشرط وجوبا به فإنه لا تأثير للشرط في ذلك، ولا وجودا عنده فإنه لا يترك الطلاق في المحل ما لم يتم الشرط، فلو اعتبرنا الملك عند وجوده إنما يعتبر لبقاء اليمين ومحل اليمين الذمة، فكانت باقية ببقاء محلها من غير أن يشترط فيه الملك في المحل.
وأما الشرط الذي هو علامة فنحو الاحصان لايجاب الرجم، فإنه علامة
يعرف بظهوره كون الزنا موجبا للرجم، وهو في نفسه ليس بعلة ولا سبب ولا شرط محض في إيجاب الرجم.
وحد الشرط: ما يمتنع ثبوت العلة حقيقة بعد وجودها صورة إلى وجوده، كما في تعليق الطلاق بدخول الدار، والزنا موجب للعقوبة بنفسه ولا يمتنع ثبوت الحكم به إلى وجود الاحصان، كيف ولو وجد الاحصان بعد الزنا لا يثبت بوجوده حكم الرجم ؟ فعرفنا أنه غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عند وجوده، ولكنه يعرف بظهوره أن الزنا حين وجد كان موجبا للرجم فكان علامة، ولهذا لا يوجب الضمان على شهود الاحصان إذا رجعوا، بخلاف ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في المزكين لشهود الزنا إذا رجعوا بعد الرجم، فإن التزكية بمنزلة علة العلة (كما بينا) ولهذا يثبت الاحصان بعد الزنا بشهادة رجل وامرأتين عندنا خلافا لزفر، لانه لما كان معرفا ولم يكن الرجم مضافا إليه وجوبا ولا وجودا كانت هذه الحالة كغيرها من الاحوال في حكم الشهادة، فكما ثبت النكاح بشهادة رجل وامرأتين في غير هذه الحالة فكذلك في هذه الحالة.
فإن قيل: أنا أثبت النكاح بهذه الشهادة ولكن لا يثبت التمكن للامام من إقامة الرجم، لانه كما لا مدخل لشهادة النساء في إيجاب الرجم فلا مدخل لشهادتهن في إثبات التمكن من إقامة الرجم، بمنزلة ما لو كان الزاني عبدا مسلما لنصراني فشهد عليه نصرانيان أن مولاه كان أعتقه قبل الزنا، فإنه تثبت الحرية بهذه الشهادة ولا يثبت تمكن الامام من إقامة الرجم عليه، لانه كما لا مدخل لشهادة الكفار في إيجاب الرجم على المسلم فلا مدخل لشهادتهم
في إثبات التمكن من إقامة الرجم على المسلم.
قلنا: هذا ليس بصحيح، لان شهادة النساء دخلها الخصوص في المشهود به لا في المشهود عليه، والمشهود به
ليس يمس الرجم أصلا، وشهادة الكفار دخلها الخصوص في المشهود عليه لا في المشهود به فإن شهادتهم حجة في الحد على الكفار ولكنها ليست بحجة على المسلم، والاقامة عند الشهادة تكون على المسلم وهو حادث فلا تجعل شهادتهم فيه حجة، وهذا لان في الموضعين جميعا في الشهادة معنى تكثير محل الجناية من حيث الجناية على نعمة الحرية في أحد الموضعين وعلى نعمة إصابة الحلال بطريقه في الموضع الآخر وهو الاحصان.
ثم في تكثير محل الجناية يتضرر الجاني والجاني مسلم، وشهادة الكفار فيما يتضرر به المسلم لا تكون حجة أصلا، فأما شهادة النساء فيما يتضرر به الرجل تكون حجة، وإنما لا تكون حجة فيما تضاف إليه العقوبة وجوبا به أو جودا عنده، وذلك لا يوجد في هذه الشهادة أصلا.
وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا علق طلاقا أو عتاقا بولادة امرأة ولم يقر بأنها حبلى ثم شهدت القابلة على ولادتها، يثبت بها وقوع الطلاق والعتاق، لان هذا شرط بمنزلة العلامة من حيث إن الطلاق إنما يصير مضافا إلى نفس الولادة وجودا عندها، وأما ظهور الولادة فمعرف لا يضاف إليه الطلاق وجوبا به ولا وجودا عنده، والولادة تظهر بشهادة النساء في غير هذه الحالة حتى يثبت النسب بشهادة القابلة وحدها، فكذلك في هذه الحالة كما في مسألة الاحصان.
ولكن أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الولادة شرط محض من حيث إنه يمنع ثبوت علة الطلاق والعتاق حقيقة إلى وجوده ثم لا يكون الطلاق والعتاق من أحكام الولادة، وشهادة القابلة حجة ضرورية في الولادة لانه لا يطلع عليها الرجال، فإنما تكون حجة فيما هو من أحكام الولادة أو مما لا تنفك الولادة عنه خاصة، فأما في الطلاق والعتاق هذا الشرط كغيره من الشرائط.
وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد في المعتدة إذا جاءت بولد فشهدت القابلة على الولادة: يثبت النسب بشهادتها
وإن لم يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا إقرار من الزوج بالحبل، لان الولادة لثبوت النسب شرط بمنزلة العلامة، فإن بها يظهر ويعرف ما كان موجودا في الرحم قبل الولادة، وكان ثابت النسب من حين وجد، فلم يكن النسب مضافا إلى الولادة وجوبا بها ولا وجودا عندها، والولادة في غير هذه الحالة تثبت بشهادة القابلة وحدها، يعني إذا كان هناك فراش قائم أو حبل ظاهر أو إقرار من الزوج بالحبل، فكذلك في هذه الحالة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الولادة بمنزلة المعرف كما قالا ولكن في حق من يعرف الباطن، فأما في حقنا فالنسب مضاف إلى الولادة، لانا نبني الحكم على الظاهر ولا نعرف الباطن، فما كان باطنا يجعل في حقنا كالمعدوم إلى أن يظهر بالولادة، بمنزلة الخطاب النازل في حق من لم يعلم به، فإنه يجعل كالمعدوم ما لم يعلم به، وإذا صار النسب مضافا إلى الولادة من هذا الوجه لا تثبت الولادة في حقه إلا بما هو حجة لاثبات النسب، بخلاف ما إذا كان الفراش قائما، فالفراش المعلوم هناك مثبت للنسب قبل الولادة فكانت الولادة علامة معرفة، وكذلك إذا كان الحبل ظاهرا أو أقر الزوج بالحبل فقد كان السبب هناك ثابتا بظهور ما يثبته لنا قبل الولادة.
وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه: استهلال المولود في حكم الارث لا يثبت بشهادة القابلة وحدها، لان حياة الولد كان غيبا عنا وإنما يظهر عند استهلاله فيصير مضافا إليه في حقنا، والارث يبتنى عليه، فلا يثبت بشهادة القابلة كما لا يثبت حق الرد بالغيب بشهادة النساء في جارية اشتراها بشرط البكارة إذا شهدت أنها ثيب قبل القبض ولا بعده ولكن يستحلف البائع، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الاستهلال (معرف، فإن حياة الولد لا تكون مضافا إليه
وجوبا به ولا وجودا عنده، ونفس الاستهلال) في غير حالة التوريث يثبت بشهادة القابلة حتى يصلى على المولود، فكذلك في حالة التوريث.
فصل: في بيان تقسيم العلامة العلامة أنواع أربعة: علامة هي دلالة الوجود فيما كان موجودا قبله.
ومنه علم الثوب، ومنه علم العسكر، وهذا حد العلامة المحضة.
وعلامة هي بمعنى الشرط، وذلك الاحصان في حكم الرجم كما بينا.
وعلامة هي علة فقد بينا أن العلل الشرعية بمنزلة العلامات للاحكام، فإنها غير موجبة بذواتها شيئا بل بجعل الشرع إياها موجبة وعلامة تسمية ومجازا وهي علل الحقائق المعتبرة بذواتها على ما نبينها في موضعها.
وقد جعل الشافعي عجز القاذف عن إقامة أربعة من الشهداء علامة لبطلان شهادة القاذف لا شرطا حتى قال القذف مبطل شهادته قبل ظهور عجزه عن إقامة الشهود، ثم ظهور العجز يعرف لنا هذا الحكم فكان علامة، بخلاف الجلد فإنه فعل يقام على القاذف فكان العجز فيه شرطا، لان إقامة الحد يصير مضافا إليه وجودا عنده، فأما سقوط شهادته أمر حكمي فيثبت بنفس القذف لانه كبيرة، لما فيه من إشاعة الفاحشة وهتك ستر العفة على المسلم، فالاصل في الناس هو العفة عن الزنا، والتمسك بالاصل واجب حتى يتبين خلافه، وباعتبار هذا الاصل كان القذف كبيرة، فيكون بمنزلة سائر الكبائر في ثبوت سمة الفسق وسقوط الشهادة بنفسها.
ولكنا نقول: العجز عن إقامة أربعة من الشهداء شرط لاقامة الجلد ولابطال شهادة القاذف، والحكم المعلق بالشرط لا يكون ثابتا قبل وجود الشرط، وهذا لان كل واحد منهما فعل خوطب الامام بإقامته على القاذف وأحدهما معطوف على الآخر، كما قال تعالى: (فاجلدوهم
ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) ثم هذا العجز الذي هو شرط يثبت بما ثبت به العجز عن دفع سائر الحجج في إلزام الحكم بها، وذلك بأن يمهله على قدر ما يرى إلى آخر المجلس أو إلى المجلس الثاني، والذي قال القذف كبيرة قلنا: هذه الصفة للقذف غير ثابت بنفسه مستحقا شرعا بدليل أنه يتمكن من إثباته بالبينة وهو في نفسه خبر متميل بين الصدق
والكذب، وقد يتعين فيه معنى الحسبة إذا كان الزاني مصرا غير تائب، وللقاذف شهود يشهدون عليه بالزنا ليقام عليه الحد، وكيف يكون نفس القذف كبيرة وقد تتم به الحجة موجبا للرجم، فإن الشهود على الزنا قذفة في الحقيقة، ثم كانت شهادتهم حجة لايجاب الرجم، فعرفنا أن ما ادعاه الخصم من المعنى الذي يجعل به نفس القذف مسقطا للشهادة بحث لا يمكن تحقيقة، وبعدما ظهر عجزه عن إقامة الشهود إنما تسقط شهادته بسبب ظهور عجزه وهو من حيث الظاهر حتى إن بعد إقامة الحد عليه وبطلان شهادته لو أقام أربعة من الشهداء على زنا المقذوف فإن الشهادة تكون مقبولة حتى يقام الحد على المشهود عليه، ويصير القاذف مقبول الشهادة إن لم يتقادم العهد، وإن تقادم العهد يصير مقبول الشهادة أيضا وإن كان لا يقام الحد على المشهود عليه.
أورد ذلك في المنتقى رواية عن أبي يوسف أو محمد، هذا قول أحدهما، وفي قول الآخر لا تقبل الشهادة بعد إقامة الحد عليه، لان إقامة الحد على القاذف حكم يكذب الشهود في شهادتهم على المقذوف بالزنا، وكل شهادة جرى الحكم بتعين جهة الكذب فيها لا تكون مقبولة أصلا، كالفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعادها بعد التوبة، والله المجزي لمن اتقى وأحسن.
باب: أهلية الآدمي لوجوب الحقوق له وعليه وفي الامانة التي حملها الانسان قال رضي الله عنه: فهذه الاهلية نوعان: أهلية الوجوب، وأهلية الاداء فأما أهلية الوجوب وإن كان يدخل في فروعها تقسيم فأصلها واحد، وهو الصلاحية لحكم الوجوب، فمن كان فيه هذه الصلاحية كان أهلا للوجوب عليه، ومن لا فلا.
وأهلية الاداء نوعان: كامل، وقاصر.
فالكامل: ما يلحق به العهدة والتبعية.
والقاصر: ما لا يلحق به ذلك.
فنبدأ ببيان أهلية الوجوب.
فنقول: أصل هذه الاهلية لا يكون إلا بعد ذمة صالحة لكونها محلا للوجوب، فإن المحل هو الذمة، ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحال، ولهذا اختص به الآدمي دون سائر الحيوانات التي ليست لها ذمة صالحة.
ثم الذمة في اللغة هو: العهد، قال تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) وقال عليه السلام: وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم ومنه يقال أهل الذمة للمعاهدين، والمراد بهذا العهد ما أشار الله تعالى في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) والجنين ما دام مجننا في البطن ليست له ذمة صالحة، لكونه في حكم جزء من الام ولكنه منفرد بالحياة معد ليكون نفسا له ذمة، فباعتبار هذا الوجه يكون أهلا لوجوب الحق له من عتق أو إرث أو نسب أو وصية، ولاعتبار الوجه الاول لا يكون أهلا لوجوب الحق عليه، فأما بعدما يولد فله ذمة صالحة، ولهذا لو انقلب على مال إنسان فأتلفه كان ضامنا له، ويلزمه مهر امرأته بعقد الولي عليه، وهذه حقوق تثبت شرعا.
ثم بعد هذا زعم بعض مشايخنا أن باعتبار صلاحية الذمة يثبت وجوب حقوق الله
تعالى في حقه من حين يولد.
وإنما يسقط ما يسقط بعد ذلك بعذر الضمان لدفع الحرج.
قال: لان الوجوب بأسباب هي الوجوب شرعا وقد تقدم بيانها، وتلك الاسباب متقررة في حقه والمحل صالح للوجوب فيه فيثبت الوجوب باعتبار السبب والمحل، وهذا لان الوجوب خبر ليس للعبد فيه اختيار حتى يعتبر فيه عقله وتمييزه، بل هو ثابت عند وجود السبب علينا شرعا شئنا أو أبينا، قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) والمراد بالعنق الذمة، وإنما يعتبر تمييزه أو تمكنه من الاداء في وجوب الاداء، وذلك حكم وراء أصل الوجوب، ألا ترى أن النائم والمغمى عليه يثبت حكم وجوب الصلاة في حقهما بوجود النسب مع عدم التمييز والتمكن من الاداء للحال ثم يتأخر وجوب الاداء إلى الانتباه والافاقة، وهذا
لان الله تعالى لما خلق الانسان لحمل أمانته أكرمه بالعقل والذمة ليكون بها أهلا لوجوب حقوق الله تعالى عليه، ثم أثبت له العصمة والحرية والمالكية ليبقى فيتمكن من أداء ما حمل من الامانة، ثم هذه الحرية والعصمة والمالكية ثابتة للمرء من حين يولد، المميز وغير المميز فيه سواء، فكذلك الذمة الصالحة لوجوب الحقوق فيها ثابتا له من حين يولد يستوي فيه المميز وغير المميز، ثم كما يثبت الوجوب بوجود السبب شرعا في محله تثبت الحرمة، يعني الحرمة بالنسب والرضاع والمصاهرة، وتلك الحرمة تثبت في حق المميز وغير المميز لوجود السبب بعد صلاحية المحل وإن كان ذلك حكما شرعيا، فكذلك الوجوب، ثم وجوب الاداء بعد هذا يكون بالامر الثابت بالخطاب، وذلك لا يكون إلا بعد اعتدال الحال والعلم به، وقد بينا أن المطالبة بأداء الواجب غير أصل الوجوب، وهو تأويل الحديث المروي (رفع القلم عن ثلاث) فالمراد بالقلم الحساب، وذلك ينبني على وجوب الاداء (دون أصل الوجوب كما في الدين المؤجل إنما تكون
المحاسبة بعد وجوب الاداء) بمضي الاجل، وأصل الوجوب ثابت لوجود سببه.
وزعم بعض مشايخنا أن الوجوب لا يثبت إلا بعد اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل، لان الموجب هو الله تعالى لما خاطب به عباده من الامر والنهي، وحكم هذا الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به علما معتبرا في الالزام شرعا وذلك إنما يكون بعد اعتدال الحال.
ومن جعل السبب موجبا فقد أخلى صيغة الامر عن حكمه، لان حكم الامر المطلق الوجوب واللزوم، وإذا كان الوجوب ثابتا بالسبب قبل ثبوت الخطاب في حقه لم يبق للامر حكم، فيؤدي هذا إلى القول بأنه لا فائدة في أوامر الله تعالى ونواهيه، وأي قول أقبح من هذا ! ولانه لا يفهم من الوجوب شئ سوى وجوب الاداء وذلك لا يكون إلا بعد اعتدال الحال وهو حكم الامر بالاتفاق، فعرفنا أن الوجوب كذلك، فكانت الاسباب بمنزلة العلامات في حقنا لنعرف بظهورها الوجوب بحكم
الامر، وقد بينا أن الحكم غير مضاف إلى العلامة وجوبا ولا وجودا.
والدليل عليه أن الوجوب لفائدة راجعة إلى العباد، فإن الله يتعالى عن أن تلحقه المنافع والمضار، أي يوصف بالحاجة إلى إيجاب حق على عبده لنفسه، والفائدة للعباد ما يكون لهم به من الجزاء، وذلك لا يكون إلا بالاداء الذي يكون عن اختيار من العبد، فإثبات الوجوب بدون أهلية وجوب الاداء وبدون تصور الاداء يكون إثبات حكم شرعي هو خال من الفائدة والقول به لا يجوز.
قال رضي الله عنه: وكلا الطريقين عندي غير مرضي، لما في الطريق الاول من مجاوزة الحد في الغلو، وفي الطريق الثاني من مجاوزة الحد في التقصير، فإن القول بأنه لا عبرة للاسباب التي جعلها الشرع سببا لوجوب حقوقه على سبيل الابتلاء للعباد ولتعظيم بعض الاوقات أو الامكنة وتفضيلها على بعض
نوع تقصير، والقول بأن الوجوب ثابت بنفس السبب من غير اعتبار ما هو حكم الوجوب نوع غلو، ولكن الطريق الصحيح أن يقول بأن بعد وجوب السبب والمحل لا يثبت الوجوب إلا بوجود الصلاحية لما هو حكم الوجوب، لان الوجوب غير مراد ذمة لعينه بل لحكمه، فكما لا يثبت الوجوب إذا وجد السبب بدون نفس المحل فكذلك لا يثبت إذا وجد السبب والمحل بدون حكم، وهذا لان بدون الحكم لا يكون مفيدا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن فائدة الحكم في الدنيا تحقيق معنى الابتلاء، وفي الآخرة الجزاء وذلك باعتبار الحكم، ونعني بهذا الحكم وجوب الاداء ووجود الاداء عند مباشرة العبد عن اختيار حتى يظهر به المطيع من العاصي، فيتحقق الابتلاء المذكور في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وكذلك المجازاة في الآخرة ينبني على هذا كما قال تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون) وهذا لان الوجوب خبر لا اختيار فيه للعبد كما قالوا، وإنما ينال العبد الجزاء على ما له فيه اختيار، فتبين أن
الوجوب بدون حكمه غير مفيد، فلا يجوز القول بثبوته شرعا، ولهذا قلنا: إن قتل الاب ابنه لا يكون موجبا للقصاص، والسبب هو العمد المحض موجود والمحل موجود، ولكن لانعدام فائدة الوجوب وهو التمكن من الاستيفاء فإن الولد لا يكون متمكنا من أن يقصد قتل أبيه شرعا بحال.
قلنا: لا يثبت الوجوب أصلا، وهذا أعدل الطرق، ففيه اعتبار السبب في ثبوت الوجوب به إذا كان موجبا حكمه وقد جعله الشرع كذلك، وفيه اعتبار الامر لاثبات ما هو حكم الوجوب به وهو لزوم الاداء أو إسقاط الواجب به عن نفسه.
ومن تأمل صيغة الاوامر ظهر له أن موجبها ما قلنا، فإنه قال: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) والاقامة والايتاء هو إسقاط الواجب بالاداء.
وكذلك قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وقوله تعالى: (وأتموا الحج) فإن مباشرة فعل الصوم وإتمام الحج يكون إسقاط الواجب والامر لالزام ذلك.
ثم على هذا الطريق يتبين التقسيم في الحقوق، فنقول: أما حقوق العباد فما يكون فيه غرما أو عوضا كالثمن في البيع فالوجوب ثابت في حق الصبي الذي لا يعقل لوجود سببه وثبوت حكمه وهو وجوب الاداء بوليه الذي هو نائب عنه، لان المقصود المال هنا دون الفعل، فإن المراد به رفع الخسران بما يكون جبرانا له أو حصول الربح وذلك بالمال يكون، وأداء وليه كأدائه في حصول هذا المقصود به.
وما كان منه صلة له شبه المؤونة كنفقة الزوجات والاقارب فوجوبه ثابت في حقه عند وجود سببه، لان في حق نفقة الزوجات معنى العوضية، وفي نفقة الاقارب معنى مؤونة اليسار، والمقصود إزالة حاجة المنفق عليه بوصول كفايته إليه وذلك بالمال يكون، وأداء الولي فيه كأدائه، فعرفنا أن الوجوب فيه غير خال عن الحكمة
وما يكون صلة له شبه الجزاء لا يثبت وجوبه في حقه أصلا، وذلك كتحمل العقل فإنه صلة ولكنها شبه الجزاء على ترك حفظ السفيه والاخذ على يد الظالم، ولهذا يختص برجال العشيرة الذين هم من أهل هذا الحفظ دون النساء فلا يثبت ذلك في حق الصبي أصلا.
وكذلك ما يكون جزاء بطريق العقوبة كالقتل لاجل الردة بطريق الغرامة كالعقل لا يثبت وجوبه في حقه أصلا لانعدام ما هو حكم الوجوب في حقه.
فأما في حقوق الله تعالى فنقول: وجوب الايمان بالله تعالى في حق الصبي الذي لا يعقل لا يمكن القول به لانعدام الاهلية لحكم الوجوب وذلك الاداء وجوبا أو وجودا في حقه، فما كان القول
بالوجوب هنا إلا نظير القول بالوجوب باعتبار السبب بدون المحل كما في حق البهائم وذلك لا يجوز القول به.
وكذلك العبادات المحضة، البدني والمالي في ذلك سواء، لان حكم الوجوب لا يثبت في حقه بحال فلا يثبت الوجوب، وبيانه أن الوجوب أفعال يتحقق في مباشرتها معنى الابتلاء وتعظيم حق الله تعالى، ولا تصور لذلك من الصبي الذي لا يعقل بنفسه، ولا يحصل ذلك بأداء وليه، لان ثبوت الولاية عليه يكون جبرا بغير اختياره وبمثله لا يصير هو متقربا حقيقة ولا حكما، فلو جعلنا أداء الوالي كأدائه فيما هو مالي كان يتبين به أن المقصود هو المال لا الفعل، وذلك مما لا يجوز القول به، فلهذا لا يثبت في حقه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، يقرره أنه لو كان الوجوب ثابتا ثم سقوط الحكم لدفع الحرج بعذر الصبي لكان ينبغي أن يقال: إذا أنفق الاداء منه كان مؤديا للواجب كصوم الشهر في حق المريض والمسافر والجمعة في حق المسافر، إنه إذا أدى كان موديا للواجب وبالاتفاق لا يكون هو مؤديا للواجب، وإن تصور منه ما هو ركن هذه العبارات، فعرفنا أن الوجوب غير ثابت أصلا.
وكذلك قال محمد رضي الله عنه في صدقة الفطر لرجحان معنى العبادة والقربة فيها.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: فيها معنى المؤونة فيثبت الوجوب
كخبر الفاسق الواحد.
ولفظ الكتاب مشتبه فإنه قال حتى يخبره رجلان أو رجل عدل فقيل: معناه: رجلان أو رجل عدل لان صيغة هذا النعت للفرد والجماعة واحد، ألا ترى أنه يقال: شاهدا عدل.
ومن اعتمد القول الاول قال اشتراط زيادة العدد للتوكيد هنا بمنزلة اشتراط العدد في إخبار العدول في الشهادات فإنها للتوكيد، واستدل عليه بما قال في الاستحسان: لو أخبر أحد المخبرين بطهارة الماء والآخر
بنجاسته وأحدهما عدل والآخر غير عدل فإنه يعتمد خبر العدل منهما.
ولو كان في أحد الجانبين مخبران وفي الجانب الآخر واحد واستووا في صفة العدالة فإنه يأخذ بقول الاثنين.
وكذلك في الجرح والتعديل كما يرجح خبر العدل على خبر غير العدل يترجح خبر المثنى من العدول على خبر الواحد، فعرفنا أن في زيادة العدد معنى التوكيد.
والذي أسلم في دار الحرب إذا لم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان لم يلزمه القضاء، فإن أخبره بذلك فاسق فقد قال مشايخنا هو على الخلاف أيضا: عند أبي حنيفة لا يعتبر هذا الخبر في إيجاب القضاء عليه، وعندهما يعتبر.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه يعتبر الخبر هنا في إيجاب القضاء عندهم جميعا لان هذا المخبر نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور من جهته بالتبليغ كما قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب فهو بمنزلة رسول المالك إلى عبده، ثم هو غير متكلف في هذا الخبر ولكنه مسقط عن نفسه ما لزمه من الامر بالمعروف فلهذا يعتبر خبره.
فصل: في أقسام الرواة الذين يكون خبرهم حجة قال رضي الله عنه: اعلم بأن الرواة قسمان: معروف، ومجهول.
فالمعروف نوعان: من كان معروفا بالفقه والرأي في الاجتهاد، ومن كان معروفا بالعدالة وحسن الضبط والحفظ ولكنه قليل الفقه.
فالنوع الاول كالخلفاء الراشدين والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبي موسى الاشعري وعائشة وغيرهم من المشهورين بالفقه من الصحابة رضي الله عنهم، وخبرهم حجة موجبة
للعلم الذي هو غالب الرأي، ويبتني عليه وجوب العمل، سواء كان الخبر موافقا للقياس أو مخالفا له، فإن كان موافقا للقياس تأيد به، وإن كان مخالفا للقياس يترك القياس ويعمل بالخبر.
وكان مالك بن أنس يقول يقدم القياس على خبر الواحد في العمل به،
لان القياس حجة بإجماع السلف من الصحابة، ودليل الكتاب والسنة والاجماع أقوى من خبر الواحد فكذلك ما يكون ثابتا بالاجماع.
ولكنا نقول: ترك القياس بالخبر الواحد في العمل به أمر مشهور في الصحابة ومن بعدهم من السلف لا يمكن إنكاره حتى يسمون ذلك معدولا به عن القياس، وعليه دل حديث عمر رضي الله عنه، فإن حمل ابن مالك رضي الله عنه حين روي له حديث الغرة في الجنين قال: كدنا أن نقضي فيه برأينا فيما فيه قضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به.
وفي رواية: لولا ما رويت لرؤينا خلاف ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهى عن كراء المزارع فتركناه لاجل قوله، ولان قول الرسول صلى الله عليه وسلم موجب للعلم باعتبار أصله وإنما الشبهة في النقل عنه.
فأما الوصف الذي به القياس فالشبهة والاحتمال في أصله لانا لا نعلم يقينا أن ثبوت الحكم المنصوص باعتبار هذا الوصف من بين سائر الاوصاف، وما يكون الشبهة في أصله دون ما تكون الشبهة في طريقه بعد التيقن بأصله، يوضحه أن الشبهة هنا باعتبار توهم الغلط والنسيان في الراوي وذلك عارض، وهناك باعتبار التردد بين هذا الوصف وسائر الاوصاف وهو أصل، ثم الوصف الذي هو معنى من المنصوص كالخبر والرأي، والنظر فيه كالسماع، والقياس كالعمل به، ولا شك أن الوصف ساكت عن البيان والخبر بيان في نفسه فيكون الخبر أقوى من الوصف في الابانة، والسماع أقوى من الرأي في الاصابة، ولا يجوز ترك القوي بالضعيف.
فأما المعروف بالعدالة والضبط والحفظ كأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما وغيرهما ممن اشتهر بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسماع منه مدة
في حقه وإن عقل ما لم يعتدل حاله بالبلوغ، فإن باعتبار عقله يصحح الاداء منه
وصحة الاداء تستدعي كون الحكم مشروعا ولا تستدعي كونه واجب الاداء، فعرفنا بهذا أن حكم الوجوب وهو وجوب الاداء معدوم في حقه (وقد بينا أن الوجوب لا يثبت باعتبار السبب والمحل بدون حكم الوجوب) إلا أنه إذا أدى يكون المؤدي فرضا، لان بوجود الاداء صار ما هو حكم الوجوب موجودا بمقتضى الاداء (وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام الحكم فإذا صار موجودا بمقتضى الاداء) كان المؤدى فرضا، بمنزلة العبد فإن وجوب الجمعة في حقه غير ثابت، حتى إنه إن أذن له المولى أو حضر الجامع مع المولى كان به أن لا يؤدي، ولكن إذا أدى كان المؤدى فرضا، لان ما هو حكم الوجوب صار موجودا بمقتضى الاداء، وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام حكمه.
وكذلك المسافر إذا أدى الجمعة كان مؤديا للغرض مع أن وجوب الجمعة لم يكن ثابتا في حقه قبل الاداء بالطريق الذي ذكرنا، والله أعلم.
فصل: في بيان أهلية الاداء قال رضي الله عنه: هذه الاهلية نوعان: قاصرة وكاملة فالقاصرة باعتبار قوة البدن، وذلك ما يكون للصبي المميز قبل أن يبلغ، أو المعتوه بعد البلوغ فإنه بمنزلة الصبي من حيث إن له أصل العقل وقوة العمل بالبدن وليس له صفة الكمال في ذلك حقيقة ولا حكما.
والكاملة تبتنى على قدرتين: قدرة فهم الخطاب وذلك يكون بالعقل، وقدرة العمل به وذلك بالبدن.
ثم يبتنى على الاهلية القاصرة صحة الاداء، وعلى الكاملة وجوب الاداء وتوجه الخطاب به، لان الله تعالى قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقبل التمييز والتمكن من الاداء لا وجه لاثبات التكليف بالاداء، لانه تكليف ما لا يطاق وقد نفى الله تعالى ذلك بهذه الآية، ولا تصور للاداء على الوجه المشروع وهو
أن يكون على قصد التقرب إلى الله تعالى، وبعد وجود أصل العقل والتمكن من الاداء قبل كماله في إلزام الاداء حرج، قال الله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) وقال تعالى (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) وفي إلزام خطاب الاداء قبل إكمال العقل من معنى الاضرار والحرج ما لا يخفى.
ثم أصل العقل يعرف بالعيان، وذلك نحو أن يختار المرء في أمر دنياه وأخراه ما يكون أنفع لديه ويعرف به مستوى عاقبة الامر فيما يأتيه ويذره، ونقصانه يعرف بالتجربة والامتحان، وبعد الترقي عن درجة النقصان ظاهرا تتفاوت أحوال البشر في صفة الكمال فيه على وجه يتعذر الوقوف عليه، فأقام الشرع اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل مقام كمال العقل حقيقة في بناء إلزام الخطاب عليه تيسيرا عل العباد، ثم صار صفة الكمال الذي يتوهم وجوده قبل هذا الحد ساقط الاعتبار، وبقاء توهم النقصان بعد هذا الحد كذلك، على ما بينا أن السبب الظاهر متى قام مقام المعنى الباطن للتيسير دار الحكم معه وجودا وعدما وأيد هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم : (رفم القلم عن ثلاث) والمراد بالقلم الحساب، والحساب إنما يكون بعد لزوم الاداء، فدل أن ذلك لا يثبت إلا بالاهلية الكاملة، وهو اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل.
وعلى هذا قلنا: ما يكون من حقوق الله تعالى فهو صحيح الاداء عند وجود الاهلية القاصرة.
وذلك أنواع: فمنها ما يكون صفة الحسن متعينا فيه على وجه لا يحتمل غيره، وصفة كونه مشروعا متعين فيه على وجه لا يحتمل أن لا يكون مشروعا بحال، وذلك نحو الايمان بالله تعالى، فإنه صحيح من الصبي العاقل في أحكام الدنيا والآخرة جميعا لوجود حقيقته بعد وجود الاهلية للاداء، فإن حقيقته يكون بالتصديق بالقلب والاقرار باللسان، ومن رجع إلى نفسه علم أنه في مثل هذه الحالة
كان يعتقد وحدانية الله تعالى بقلبه، والاقرار منه مسموع لا يشك فيه ولا في كونه صادقا فيما يقر به، والحكم بوجود الشئ يبتنى على وجود حقيقته،
قال فيمن وطئ جارية امرأته: فإن طاوعته فهي له وعليه مثلها، وإن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها فإن القياس الصحيح يرد هذا الحديث ويتبين أنه كالمخالف للكتاب والسنة المشهورة والاجماع.
ثم هذا النوع من القصور لا يتوهم في الراوي إذا كان فقيها لان ذلك لا يخفى عليه لقوة فقهه، فالظاهر أنه إنما روى الحديث بالمعنى عن بصيرة فإنه علم سماعه (من رسول الله كذلك مخالفا للقياس ولا تهمة في روايته فكأنما سمعنا ذلك) من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزمنا ترك كل قياس بمقابلته، ولهذا قلت رواية الكبار من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ألا ترى إلى ما روي عن عمرو بن ميمون قال صحبت ابن مسعود سنين فما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة، فإنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذه البهر والفرق وجعلت فرائصه ترتعد فقال نحو هذا أو قريبا منه أو كلاما هذا معناه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا.
فبهذا يتبين أن الوقوف على ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من معاني كلامه كان عظيما عندهم فلهذا قلت رواية الفقهاء منهم، فإذا صحت الرواية عنهم فهو متقدم على القياس.
ومع هذا كله فالكبار من أصحابنا يعظمون رواية هذا النوع منهم ويعتمدون قولهم، فإن محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أخذ بقول أنس بن مالك رضي الله عنه في مقدار الحيض وغيره، وكان درجة أبي هريرة فوق درجته، فعرفنا بهذا أنهم ما تركوا العمل بروايتهم إلا عند الضرورة لانسداد باب الرأي من الوجه الذي قررنا.
فأما المجهول فإنما نعني بهذا اللفظ من لم يشتهر بطول الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما عرف بما روي من حديث أو حديثين، نحو وابصة بن معبد،
وسلمة بن المحبق، ومعقل بن سنان الاشجعي رضي الله عنهم وغيرهم.
ورواية هذا النوع على خمسة أوجه: أحدها أن يشتهر لقبول الفقهاء روايته والرواية عنه، والثاني أن يسكتوا عن الطعن فيه بعدما يشتهر، والثالث أن يختلفوا في الطعن في روايته، والرابع أن يطعنوا في روايته من غير خلاف بينهم في ذلك، والخامس أن لا تظهر روايته ولا الطعن فيه فيما بينهم.
أما من قبل السلف منه روايته وجوزوا النقل عنه
فهو بمنزلة المشهورين في الرواية، لانهم ما كانوا متهمين بالتقصير في أمر الدين، وما كانوا يقبلون الحديث حتى يصح عندهم أنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وحسن ضبطه، أو لانه موافق لما عندهم مما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعض المشهورين يروى عنه.
وكذلك إن سكتوا عن الرد بعد ما اشتهر روايته عندهم، لان السكوت بعد تحقق الحاجة لا يحل إلا على وجه الرضا بالمسموع، فكان سكوتهم عن الرد دليل التقرير، بمنزلة ما لو قبلوه وردوا عنه.
وكذلك ما اختلفوا في قبوله وروايته عنه عندنا، لانه حين قبله بعض الفقهاء المشهورين منهم فكأنما روى ذلك بنفسه.
وبيان هذا في حديث معقل بن سنان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لبروع بنت واشق الاشجعية بمهر مثلها حين مات عنها زوجها ولم يسم لها صداقا فإن ابن مسعود رضي الله عنه قبل روايته وسر به لما وافق قضاءه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي رضي الله عنه رده فقال: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه حسبها الميراث لا مهر لها.
فلما اختلفوا فيه في الصدر الاول أخذنا بروايته، لان الفقهاء من القرن الثاني كعلقمة ومسروق والحسن ونافع بن جبير قبلوا روايته فصار معدلا بقبول الفقهاء روايته.
وكذلك أبو الجراح صاحب راية الاشجعيين صدقه في هذه الرواية.
وكأن عليا رضي الله عنه إنما لم يقبل روايته لانه كان مخالفا للقياس عنده، وابن مسعود
رضي الله عنه قبل روايته لانه كان موافقا للقياس عنده.
فتبين بهذا أن رواية مثل هذا فيما يوافق القياس يكون مقبولا ثم العمل يكون بالرواية.
وأما إذا ردوا عليه روايته ولم يختلفوا في ذلك فإنه لا يجوز العمل بروايته، لانهم كانوا لا يتهمون برد الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بترك العمل به وترجيح الرأي بخلافه عليه، فاتفاقهم على الرد دليل على أنهم كذبوه في هذه الرواية وعلموا أن ذلك وهم منه.
ولو قال الراوي أوهمت لم يعمل بروايته، فإذا ظهر دليل ذلك ممن هو فوقه أولى.
وبيان هذا في حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر رضي الله عنه قال: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت.
قال عيسى
يسترق والاسترقاق عقوبة على وجه الجزاء على الكفر، فإن الكفار حين أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم على ذلك فجعلهم عبيد عبيده، وفي الاسترقاق إتلاف حكمي بطريق الجزاء لم يثبت استحقاقه، فكيف لا يثبت استحقاق الاتلاف الحقيقي إذا صحت ردته شرعا ؟ قلنا: أما الضرب إذا أساء الادب فهو تأديب للرياضة في المستقبل وليس بجزاء على الفعل الماضي منه بطريق العقوبة، بمنزلة ضرب الدواب للتأديب، وقد ورد الشرع به فقال: (تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار) وأما الاسترقاق فليس بطريق الجزاء ولكن ما كان مباحا غير معصوم وهو محل التملك كالصيود، وذراري أهل الحرب بهذه الصفة.
فإن قيل: فقد قلتم العصمة للآدمي أصل ثم زوال هذه العصمة الثابتة كرامة تكون بطريق الجزاء قلنا: لا كذلك ولكن زوال هذه العصمة كزوال صفة الصحة التي هي نعمة بالمرض، وصفة الحياة بالموت وصفة الغنى بملك المال بالفقر بهلاك المال، وأحد لا يقول إن ذلك جزاء بطريق العقوبة.
فأما ما يتردد من حقوق الله تعالى ويحتمل أن لا يكون مشروعا في بعض الاوقات
أو لا يكون حسنا في بعض الاوقات فإنه يثبت حكم صحة الاداء فيه قبل البلوغ باعتبار الاهلية القاصرة، ولا يثبت وجوب الاداء المالي والبدني فيه سواء كالصلاة والصوم والزكاة والحج عندنا، فإن في وجوب الاداء قبل اعتدال الحال إلزام العهدة وفي صحة الاداء فيما كان منه بدنيا محض المنفعة، لانه يعتاد أداءها فلا يشق ذلك عليه بعد البلوغ، ولهذا صح منه التنفل بجنس هذه العبادات بعد أداء ما هو مشروع بصفة الفرضية في حق البالغين، وما كان منه ماليا ففي صحة الاداء منه إضرار به في العاجل باعتبار نقصان ملكه فيبتنى ذلك على الاهلية الكاملة، ثم ليس من ضرورة صحة أداء البدني اللزوم، فإن من شرع في صوم أو صلاة على ظن أنها عليه ثم تبين أنها ليست عليه يصح منه الاتمام مع انعدام صفة اللزوم حتى إذا فسد لا يجب القضاء، وفي الحج إذا شرع بالظن ثم تبين أنه ليس عليه تنعدم صفة اللزوم حتى إذا أحصر فتحلل لم يلزمه القضاء ويصح الاتمام منه بعد انتفاء صفة اللزوم.
والخصم
يفرق بين المالي والبدني في هذا النوع باعتبار أن المالي يقبل النيابة في الاداء فيتوجه الخطاب بالاداء في حقه على أن ينوب الولي عنه في الاداء، والبدني لا يحتمل هذه النيابة، فلو توجه عليه الخطاب به لحقه العهدة بسببه فربما يعجز عن الاداء لصغره، ثم يتضاعف عليه وجوب الاداء بعد البلوغ فيلحقه الحرج، فلدفع الحرج قلنا لا يثبت في حقه خطاب الاداء فيما هو بدني، وهذا لا معنى له، لان الواجب في الموضعين الفعل، فالاقامة والايتاء كل واحد منهما فعل، وقد بينا أن هذا الفعل لازم بطريق القربة وذلك لا يتحقق بأداء الولي، إذ الولاية ثابتة عليه شرعا بغير اختياره، وبمثل هذه الولاية لا تتأدى العبادة.
ثم هو لا يلزمه الخطاب بالايمان كما هو مذهبنا، ولو كان المعنى فيه الحرج الذي يلحقه بتضاعف الاداء بعد البلوغ لكان الخطاب بالايمان يثبت في حقه لانه بدني، ولا يتضاعف وجوب الاداء
عليه بعد البلوغ لتوجه الخطاب في حالة الصغر، بل ينبني عليه صحة الاداء فرضا على مذهبه، وقد جوز مثل هذا في العبادات البدنية لتوفير المنفعة عليه حتى قال: إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره فإن المؤدى يجوز عن الفرض، لان سقوط الخطاب لمعنى النظر، ومعنى النظر هنا في توجه الخطاب عليه في أول الوقت حتى لا تلزمه الاعادة.
وكذلك قال: إذا أحرم بالحج ثم بلغ قبل الوقوف فإن حجه يكون عن الفرض، لان معنى النظر هنا في إلزام الخطاب إياه سابقا على الاحرام، فكان ينبغي أن يقول مثل هذا في الايمان.
ونحن أثبتنا هذا في الصلاة والاحرام، لان توجه الخطاب لما كان لا يثبت إلا بعد البلوغ مقصورا عليه فالمؤدي قبله إذا كان بحيث يتردد بين الفرض والنفل لا يمكن أن يجعل فرضا بحال، أرأيت لو صلى رجل بعد زوال الشمس أربع ركعات قبل نزول فرضية الظهر ثم نزلت فرضية الظهر قبل مضي الوقت أكان ذلك جائزا عن فرضه ؟ هذا شئ لا يقول به أحد.
وعلى هذا قلنا: إحرامه صحيح باعتبار الاهلية القاصرة ولكن لا تلزمه الكفارات بارتكاب المحظورات،
الكذب محظور عقله فنستدل بانزجاره عن سائر ما نعتقده محظورا على انزجاره عن الكذب الذي نعتقده محظورا، أو لما كان منزجرا عن الكذب في أمور الدنيا فذلك دليل انزجاره عن الكذب في أمور الدين وأحكام الشرع بالطريق الاولى، فأما إذا لم يكن عدلا في تعاطيه فاعتبار جانب تعاطيه يرجح معنى الكذب في خبره، لانه لما لم يبال من ارتكاب سائر المحظورات مع اعتقاده حرمته فالظاهر أنه لا يبالي من الكذب مع اعتقاده حرمته، واعتبار جانب اعتقاده يدل على الصدق في خبره فتقع المعارضة ويجب التوقف، وإذا كان ترجيح جانب الصدق باعتبار عدالته وبه يصير الخبر
حجة للعمل شرعا، فعرفنا أن العدالة في الراوي شرط لكون خبره حجة.
فأما اشتراط الاسلام: لانتفاء تهمة الكذب لا باعتبار نقصان حال المخبر بل باعتبار زيادة شئ فيه يدل على كذبه في خبره، وذلك لان الكلام في الاخبار التي يثبت بها أحكام الشرع، وهم يعادوننا في أصل الدين بغير حق على وجه هو نهاية في العداوة فيحملهم ذلك على السعي في هدم أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه، وإليه أشار الله تعالى في قوله: (لا يألونكم خبالا) : أي لا يقصرون في الافساد عليكم، وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان، فإنهم كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته من كتابه بعدما أخذ عليهم الميثاق بإظهار ذلك فلا يؤمنون من أن يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية، بل هذا هو الظاهر، فلاجل هذا شرطنا الاسلام في الراوي لكون خبره حجة، ولهذا لم نجوز شهادتهم على المسلمين، لان العداوة ربما تحملهم على القصد للاضرار بالمسلمين بشهادة الزور، كما لا تقبل شهادة ذي الضغن لظهور عداوته بسبب الباطن، وقبلنا شهادة بعضهم على بعض لانعدام هذا المعنى الباعث على الكذب فيما بينهم.
وبهذا تبين أن رد خبره ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في خبره، بمنزلة شهادة الاب للولد فإنها لا تكون مقبولة لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته وهو شفقة الابوة وميله إلى ولده طبعا.
وأما بيان حد هذه الشروط وتفسيرها فنقول: العقل نور في الصدر به يبصر
القلب عند النظر في الحجج بمنزلة السراج، فإنه نور تبصر العين به عند النظر فترى ما يدرك بالحواس لا أن السراج يوجب رؤية ذلك ولكنه يدل العين عند النظر عليه، فكذلك نور الصدر الذي هو العقل يدل القلب على معرفة ما هو غائب عن الحواس من غير أن يكون موجبا لذلك، بل القلب يدرك (بالعقل) ذلك بتوفيق الله تعالى،
وهو في الحاصل عبارة عن الاختيار الذي يبتنى عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة، ولهذا لا يعتبر من البهائم لخلوه عن هذا المعنى، والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الانسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة، وهذا لان العقل لا يكون موجودا في الآدمي باعتبار أصله ولكنه خلق من خلق الله تعالى يحدث شيئا فشيئا، ثم يتعذر الوقوف على وجود كل جزء منه بحسب ما يمضي من الزمان على الصبي إلى أن يبلغ صفة الكمال، فجعل الشرع الحد لمعرفة كمال العقل هو البلوغ تيسيرا للامر علينا، لان اعتدال الحال عند ذلك يكون عادة والله تعالى هو العالم حقيقة بما يحدثه من ذلك في كل أحد من عباده من نقصان أو كمال، ولكن لا طريق لنا إلى الوقوف على حد ذلك، فقام السبب الظاهر في حقنا مقام المطلوب حقيقة تيسيرا، وهو البلوغ مع انعدام الآفة، ثم يسقط اعتبار ما يوجد من العقل للصبي قبل هذا الحد شرعا لدفع الضرر عنه لا للاضرار به، فإن الصبا سبب للنظر له، ولهذا لم يعتبر فيما يتردد بين المنفعة والمضرة ويعتبر فيما يتمخض منفعة له.
ثم خبره في أحكام الشرع لا يكون حجة للالزام دفعا لضرر العهدة عنه كما لا يجعل وليا في تصرفاته في أمور الدنيا دفعا لضرر العهدة عنه، ولهذا صح سماعه وتحمله للشهادة قبل البلوغ إذا كان مميزا، فقد كان في الصحابة من سمع في حالة الصغر وروي بعد البلوغ وكانت روايته مقبولة، لانه ليس في ذلك من معنى ضرر لزوم العهدة شئ، وإنما يكون ذلك في الاداء، فيشترط لصحة أدائه على وجه يكون حجة كونه عاقلا مطلقا، ولا يحصل ذلك إلا
استحق الرضخ، لان ذلك محض منفعة يثبت بالاهلية القاصرة كالاحتطاب
والاحتشاش، وينبغي أن يكون هذا على أصل الخصم أيضا، فإنه يقول: كل منفعة من هذا الجنس يصلح له بوليه فإنه لا يكون أهلا لتحصيل ذلك لنفسه بنفسه، وما لا يحصل له بوليه يكون هو أهلا لتحصيله ذلك لنفسه.
وفي قبول الهبة والصدقة له قولان: في أحدهما لا يصح ذلك منه بنفسه ويصح من الولي ذلك في حقه، وفي القول الآخر على عكس هذا.
ثم استحقاق الرضخ بسبب القتال محض منفعة لا يمكن تحصيله له من قبل الولي بمباشرته سببه فينبغي أن يجعل هو أهلا لتحصيله لنفسه بمباشرته سببه.
فأما ما هو ضرر محض فنحو إبطال الملك في الطلاق والعتاق، ونقل الملك بالهبة والصدقة، فإنه محض ضرر في العاجل لا يشوبه منفعة، ولهذا ينبني صحته شرعا على الاهلية الكاملة فلا يثبت بالاهلية القاصرة حتى لا يملكه الصبي بنفسه ولا بواسطة الولي إذا باشر ذلك في حقه.
وزعم بعض مشايخنا أن هذا الحكم غير مشروع في حق الصبي أصلا حتى إن امرأته لا تكون محلا للطلاق.
قال رضي الله عنه: وهذا عندي وهم، فإن الطلاق يملك بملك النكاح إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك وإنما الضرر في الايقاع، حتى إذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا، وبهذا يتبين فساد قول من يقول: إنا لو أثبتنا ملك الطلاق في حقه كان خاليا عن حكمه وهو ولاية الايقاع، والسبب الخالي عن حكمه غير معتبر شرعا كبيع الحر وطلاق البهيمة، فإن الحكم ثابت في حقه عند الحاجة حتى إذا أسلمت امرأته وعرض عليه الاسلام فأبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، وإذا ارتد وقعت الفرقة بينه وبين امرأته وكان طلاقا في قول محمد، وإذا وجدته امرأته مجبوبا فخاصمت في ذلك فرق بينهما.
ولم يبين في الجامع أن هذه الفرقة
تكون بطلاق أم لا.
وقال بعض مشايخنا إنها تكون بطلاق اكتفاء
بالاهلية القاصرة عند تحقق الحاجة إلى دفع الضرر عنها.
وقال بعضهم: هذه تكون بغير طلاق، لان الصبي المميز والرضيع الذي لا يعقل في هذا الحكم سواء، وينعدم في حق الرضيع الاهلية القاصرة والكاملة جميعا.
وإذا كاتب الاب أو الوصي نصيب الصغير من عبد مشترك بينه وبين غيره واستوفى بدل الكتابة صار الصبي معتقا بنصيبه حتى يضمن قيمة نصيب شريكه إن كان موسرا، وهذا الضمان لا يجب إلا بالاعتاق فيكفي بالاهلية القاصرة في جعله معتقا للحاجة إلى دفع الضرر عن الشريك، فعرفنا أن الحكم ثابت في حقه عند الحاجة، فأما بدون الحاجة لا يجعل ثابتا، لان الاكتفاء بالاهلية القاصرة لتوفير المنفعة على الصبي وهذا المعنى لا يتحقق فيما هو ضرر محض.
فأما ما يتردد بين المنفعة والضرر فنحو المعاوضات كالبيع والشراء والنكاح، وهذا ثابت في حق الصبي عند مباشرة الولي أو عند المباشرة بإذن الولي، لان معنى توفير المنفعة فيه متوهم، وكذلك معنى الضرر ولا يندفع معنى الضرر إلا بالرأي الكامل وذلك يحصل عند مباشرة الولي أو عند مباشرة الصبي بعد استطلاع رأي الولي، فإذا اندفع توهم الضرر التحق بما تتمخض فيه المنفعة فيكون للصبي فيه عبارة صحيحة بالاهلية القاصرة، وهذا لان بهذه الاهلية اعتبرت عبارته في تصحيح التصرف شرعا في حق الغير فلان يعتبر في حق نفسه كان أولى.
والمعنى فيه ما بينا أن في تصحيح عبارته نوع منفعة لا تحصل له تلك المنفعة بمباشرة الولي، ثم فيه فتح طريق يحصل المقصود عليه من وجهين: أحدهما بمباشرته بنفسه، والآخر بمباشرة الولي فيكون ذلك أنفع منه إذا كان الطريق واحدا، وقد بينا أن بالاهلية القاصرة يثبت ما فيه توفير
المنفعة عليه.
ثم على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لما صار الرأي القاصر في حقه مجبورا بانضمام رأي الولي إليه التحقق بالبالغ حتى نفذ تصرفه بالغبن الفاحش مع الاجانب كما ينفذ من البالغ، ولما اندفع معنى توهم الضرر برأي الولي جعل بمنزلة ما لو اندفع ذلك برأيه الكامل بعد البلوغ فينفذ تصرفه بالغبن الفاحش
والمقصود ما في باطن الكتاب لا عين الكتاب فلا يتم ضبطه إلا بمعرفة ذلك، ولهذا استحب المتقدمون من السلف تقليل الرواية، ومن كان أكرمهم وأدوم صحبة وهو الصديق رضي الله عنه كان أقلم رواية، حتى روي عنه أنه قال: إذا سئلتم عن شئ فلا ترووا ولكن ردوا الناس إلى كتاب الله تعالى.
وقال عمر رضي الله عنه: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.
ولما قيل ل زيد بن أرقم ألا تروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: قد كبرنا ونسينا والرواية عن رسول الله شديد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات ! فقد جمع أهل الحديث في هذا الباب آثارا كثيرة ولاجلها قلت رواية أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال بعض الطاعنين إنه كان لا يعرف الحديث.
ولم يكن على ما ظن، بل كان أعلم أهل عصره بالحديث، ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلت روايته.
وبيان هذا أن الانسان قد ينتهي إلى مجلس وقد مضى صدر من الكلام فيخفى على المتكلم حاله لتوقفه على ما مضى من كلامه مما يكون بعده بناء عليه، فقلما يتم ضبط هذا السامع لمعنى ما يسمع بعدما فاته أول الكلام، ولا يجد في تأمل ذلك أيضا، لانه لا يرى نفسه أهلا بأن يؤخذ الدين عنه، ثم يكون من قضاء الله تعالى أن يصير صدرا يرجع إليه في معرفة أحكام الدين، فإذا لم يتم ضبطه في الابتداء لم ينبغ له أن يجازف في الرواية، وإنما ينبغي أن يشتغل بما وجد منه الجهد التام في ضبطه فيستدل بكثرة
الرواية ممكن كان حاله في الابتداء بهذه الصفة على قلة المبالاة، ولهذا ذم السلف الصالح كثرة الرواية، وهذا معنى معتبر في الروايات والشهادات جميعا، ألا ترى أن من اشتهر في الناس بخصلة دالة على قلة المبالات من قضاء الحاجة بمرأى العين من الناس أو الاكل في الاسواق يتوقف في شهادته.
فهذا بيان تفسير الضبط.
وأما العدالة: فهي الاستقامة.
يقال: فلان عادل إذا كان مستقيم السيرة في الانصاف والحكم بالحق.
وطريق عادل، سمى به الجادة، وضده الجور.
ومنه يقال: طريق جائر إذا كان من البنيات.
ثم العدالة نوعان: ظاهرة.
وباطنة.
فالظاهرة
تثبت بالدين والعقل على معنى أن من أصابها فهو عدل ظاهرا، لانهما يحملانه على الاستقامة ويدعوانه إلى ذلك.
والباطنة لا تعرف إلا بالنظر في معاملات المرء، ولا يمكن الوقوف على نهاية ذلك لتفاوت بين الناس فيهما، ولكن كل من كان ممتنعا من ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه فهو على طريق الاستقامة في حدود الدين.
وعلى هذه العدالة نبني حكم رواية الخبر في كونه حجة، لان ما تثبت به العدالة الظاهرة يعارضه هوى النفس الشهوة الذي تصده عن الثبات على طريق الاستقامة، فإن الهوى أصل فيه سابق على إصابة العقل، ولا يزايله بعدما رزق العقل، وبعدما اجتمعا فيه يكون عدلا من وجه دون وجه، فيكون حاله كحال الصبي العاقل والمعتوه الذي يعقل من جملة العقلاء، وقد بينا أن المطلق يقتضي الكامل، فعرفنا أن العدل مطلقا من يترجح أمر دينه على هواه، ويكون ممتنعا بقوة الدين عما يعتقد الحرمة فيه من الشهوات، ولهذا قال في كتاب الشهادات: إن من ارتكب كبيرة فإنه لا يكون عدلا في الشهادة، وفيما دون الكبيرة من المعاصي إن أصر على ارتكاب شئ لم يكن مقبول الشهادة.
وكان ينبغي أن لا يكون مقبول الشهادة أصر أو لم يصر، لانه فاسق بخروجه عن الحد المحدود له شرعا،
والفاسق لا يكون عدلا في الشهادة، إلا أن في القول بهذا سد الباب أصلا فغير المعصوم لا يتحقق منه التحرر عن الزلات أجمع، لان لله تعالى على العباد في كل لحظة أمرا ونهيا يتعذر عليهم القيام بحقهما، ولكن التحرر عن الاصرار بالندم والرجوع عنه غير متعذر، والحرج مدفوع، وليس في التحرز عن ارتكاب الكبائر الموجبة للحد معنى الحرج، فلهذا بنينا حكم العدالة على التحرز المتأتي عما يعتقد الحركة فيه، ولهذا قلنا صاحب الهوى إذا كان ممتنعا عما يعتقد الحرمة فيه فهو مقبول الشهادة وإن كان فاسقا في اعتقاده ضالا، لانه بسبب الغلو في طلب الحجة والتعمق في اتباعه أخطأ الطريق فضل عن سواء السبيل، وشدة اتباع الحجة لا تمكن تهمة الكذب في شهادته وإن أخطأ الطريق، وكذلك الكافر من أهل الشهادة إذا كان عدلا في تعاطيه بأن كان منزجرا عما يعتقد الحرمة فيه، إلا أنه غير مقبول الشهادة على المسلمين
الفصول على شئ معلوم، فإنه يعتبر عبارته في الاختيار بين الابوين لالزام الحكم به، ولا يعتبر عبارته في الحكم بإسلامه إذا سمع منه الاقرار به، ولا شك أن المنفعة في هذا أظهر في الدنيا والآخرة، وتعتبر عبارته في الوصية والتدبير ولا تعتبر في صحة البيع والشراء، ومعنى المنفعة فيه أظهر منه في الوصية، وإنما له حرف واحد يطرده في جميع هذه الفصول، وهو أن كل منفعة يمكن تحصليها له بمباشرة وليه لا تعتبر عبارته في ذلك، وما لا يمكن تحصيله به بمباشرة وليه تعتبر عبارته فيه، فالمنفعة المقصودة من البيع والشراء يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، والمنفعة المطلوبة بالوصية لا يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، وكذلك المنفعة التي له باختيار أحد الابوين لا يمكن تحصيلها له بمباشرة الولي فتعتبر عبارته في ذلك، والمنفعة المطلوبة بالاسلام يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، فإنه يصير مسلما بإسلام أحد الابوين تبعا وإن كان عاقلا فلا تعتبر عبارته في ذلك.
وقرر الشافعي رحمه الله هذا من طريق الفقه فقال: كونه موليا عليه سمة العجز، وكونه وليا دليل القدرة وبينهما مغايرة على سبيل المضادة فلا يجوز اجتماعهما.
قال الشافعي: ولهذا لا أصحح ردته بنفسه، لان حكم الردة في حقه لما كان يثبت بطريق التبعية للابوين يسقط اعتبار مباشرته لذلك بنفسه.
ثم قرر الشافعي رحمه الله هذا فقال: إذا أسلم أحد أبويه يحكم بإسلامه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه، فإذا كان لا يعتبر اعتقاده في استدامة ما كان ثابتا في حقه فلان لا يعتبر اعتقاده في إثبات ما لم يكن ثابتا كان أولى.
ولكنا نقول: هذا شئ نطرده من غير أن نتبين صحته بدليل شرعي، فإنه لا منافاة بين تحصيل منفعة له بواسطة الولي في حالة وبين تحصيل تلك المنفعة له بمباشرته بنفسه في حالة أخرى، ألا ترى أنه يصير مسلما بإسلام أبيه تارة وبإسلام أمه أخرى، وإنما تتحقق هذه (المنافاة) في حالة واحدة، ونحن إذا جعلناه مسلما بإسلام نفسه لا نجعله تبعا في تلك الحالة، وفي الحال الذي يكون تبعا لابويه لا يكون مسلما بإسلام نفسه، وما هذا إلا نظير العبد يكون تبعا لمولاه في السفر والاقامة في حالة واحدة،
ويكون أصلا بنفسه في حالة.
وهو إذا خلى المولى بينه وبين ذلك، وهذا لما في تصحيح عبارته من تحصيل منفعة مقصودة له لا يحصل ذلك بمباشرة الولي بما في توسيع الطرق عليه من المنفعة التي لا تحصل إذا كان جهة الاصابة واحدا عينا، وإذا أسلم أحد أبويه فإنما نجعله مسلما تبعا، لانه في نفسه غير معتقد شيئا ولا واصف لشئ سوى ذلك، حتى لو علم أنه معتقد للكفر بأن وصف ذلك نجعله مرتدا ونجعل حكمه كحكم من أسلم بنفسه ثم ارتد (نعود بالله تعالى) بعد ذلك.
فهذا تمام البيان فيما ينبني على الاهلية القاصرة والكاملة، والله أعلم بالحقيقة والصواب.
هذا شئ نطرده من غير أن نتبين صحته بدليل شرعي، فإنه لا منافاة بين تحصيل منفعة له بواسطة الولي في حالة وبين تحصيل تلك المنفعة له بمباشرته بنفسه في حالة أخرى، ألا ترى أنه يصير مسلما بإسلام أبيه تارة وبإسلام أمه أخرى، وإنما تتحقق هذه (المنافاة) في حالة واحدة، ونحن إذا جعلناه مسلما بإسلام نفسه لا نجعله تبعا في تلك الحالة، وفي الحال الذي يكون تبعا لابويه لا يكون مسلما بإسلام نفسه، وما هذا إلا نظير العبد يكون تبعا لمولاه في السفر والاقامة في حالة واحدة،
ويكون أصلا بنفسه في حالة.
وهو إذا خلى المولى بينه وبين ذلك، وهذا لما في تصحيح عبارته من تحصيل منفعة مقصودة له لا يحصل ذلك بمباشرة الولي بما في توسيع الطرق عليه من المنفعة التي لا تحصل إذا كان جهة الاصابة واحدا عينا، وإذا أسلم أحد أبويه فإنما نجعله مسلما تبعا، لانه في نفسه غير معتقد شيئا ولا واصف لشئ سوى ذلك، حتى لو علم أنه معتقد للكفر بأن وصف ذلك نجعله مرتدا ونجعل حكمه كحكم من أسلم بنفسه ثم ارتد (نعود بالله تعالى) بعد ذلك.
فهذا تمام البيان فيما ينبني على الاهلية القاصرة والكاملة، والله أعلم بالحقيقة والصواب.
وفي نهاية نسخة المكتبة الاحمدية: تم الكتاب ونجز وهذا آخره، ووافق الفراغ من كتابته يوم الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الاول، سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، على يد العبد الفقير إلى ربه، المعترف بذنبه، الراجي عفو ربه: عمر بن أحمد بن محمد الجرهمي الحنفي عفا الله تعالى عنهم أجمعين تكرما، بالمدرسة المقدمية الجولينية الحنفية، بدمشق المحروسة، رحم الله واقفها ونور ضريحه، الحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلامه.
المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى
حرمة الاجتماع بين المتلاعنين، وبعد التعليل تكون حرمة الاجتماع بين غير المتلاعنين.
فإن قيل: فقد فعلتم ما أنكرتموه في فصول، منها أن حكم نص الربا المساواة بين القليل والكثير قبل التعليل، ثم بعد التعليل خصصتم القليل من الحنطة فلم يبق حكم النص بعد التعليل بالكيل في المنصوص على ما كان قبله.
وكذلك الشاة بصورتها ومعناها صار مستحقا للفقير بالنص، ثم بالتعليل بالمالية أبطلتم حقه عن الصورة فلم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله، وجوزتم هذا التعليل لابطال حق المستحق مع أنه لا يجوز استعمال القياس في إبطال حق المستحق عن الصورة أو المعنى كما في سائر
حقوق العباد.
وقد ثبت بالنص حق الاصناف في الصدقات لوجود الاضافة إليهم بلام التمليك، ثم بالتعليل بالحاجة غيرتم هذا الحكم في المنصوص وجوزتم الصرف إلى صنف واحد.
وثبت بالنص وجوب التكفير بإطعام عشرة مساكين، ثم بالتعليل غيرتم هذا الحكم في المنصوص فجوزتم الصرف إلى مسكين واحد في عشرة أيام.
وبالنص ثبت لزوم التكبير عند الشروع في الصلاة، ثم بالتعليل بالثناء وذكر الله على سبيل التعظيم غيرتم هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم افتتاح الصلاة بغير لفظ التكبير.
وبالنص ثبت وجوب استعمال الماء لتطهير الثوب عن النجاسة، ثم غيرتم بالتعليل بكونه مزيلا للعين والاثر هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم تطهير الثوب النجس باستعمال سائر المائعات سوى الماء.
قلنا: أما الاول فهو دعوى من غير تأمل، وإنا ما خصصنا القليل من البر إلا بالنص، فإن النص قوله عليه السلام: لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء والاصل في الاستثناء من النفي أن المستثنى منه في معنى المستثني، وعلى هذا بنى علماؤنا مسائل: في الجامع: إذا قال إن كان في هذه الدار إلا رجل فعبده حر، فإذا في الدار سوى الرجل دابة أو ثوب لم يحنث، وإن كان فيها سوى الرجل امرأة أو صبي حنث.
ولو كان قال إلا حمارا فإذا فيها حيوان آخر سوى الحمار يحنث، وإن كان فيها ثوب سوى الحمار لم
يحنث، وإن كان قال إلا ثوب فأي شئ يكون في الدار سوى الثوب مما هو مقصود بالامساك في الدور يحنث، فعرفنا أن المستثنى منه في معنى المستثنى، والمستثنى هنا حال التساوي في الكيل، واستثناء الحال من العين لا يكون، فعرفنا بدلالة النص أن المستثنى من عموم الاحوال
حال التساوي وحال المجازفة وحالة التفاضل، وهذا لا يتحقق إلا في الكثير، وإلا فيما يكون مقدرا شرعا، فعرفنا أن اختصاص القليل كان بدلالة النص وأنه كان مصاحبا للتعليل لا أن يكون ثابتا بالتعليل.
وأما الزكاة فنحن لا نبطل بالتعليل شيئا من الحق المستحق لانه تبين خطأ من يقول بأن الزكاة حق الفقراء مستحقة لهم شرعا، بل الزكاة محض حق الله تعالى، فإنها عبادة محضة وهي من أركان الدين، وهذا الوصف لا يليق بما هو حق العبد، ومعنى العبادة فيها أن المؤدي يجعل ذلك القدر من ماله خالصا لله تعالى حتى يكون مطهرا لنفسه وماله، ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى، فإنه وعد الرزق لعباده وهو لا يخلف الميعاد، ومعلوم أن حاجات العباد تختلف، فالامر بإنجاز المواعيد لهم من مال مسمى يتضمن الاذن في الاستبدال ضرورة ليكون المصروف إلى كل واحد منهم عين الموعود له، بمنزلة السلطان يجيز أولياءه بجوائز مختلفة يكتبها لهم ثم يأمر واحدا بإيفاء ذلك كله من مال يسميه بعينه، فإنه يكون ذلك إذنا له في الاستبدال ضرورة والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص، فعرفنا أن ذلك كان ثابتا بالنص ولكنه كان مجامعا للتعليل، ثم التعليل بحكم شرعي لا بحق مستحق لاحد، فإن المؤدى بعد ما صار لله تعالى بابتداء يد الفقير يكون كفاية له من الله باستدامة اليد فيه، وثبت بهذا النص كونه محلا صالحا لكفاية الفقير، وصلاحية المحل وعدم صلاحيته حكم شرعي كالخمر لا يكون محلا صالحا للبيع والخل يكون محلا صالحا له، وهذه الصلاحية تثبت بالامر بالصرف إلى الفقير، لان باعتبار كونه مطهرا يصير من جملة الاوساخ، وإليه أشار عليه السلام في قوله: يا معشر
بني هاشم إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس، وعوضكم منها خمس
الخمس فتبين أنه بمنزلة الماء المستعمل، ولهذا كان الحكم في شريعة من قبلنا أن الصدقات المقبولة والقرابين كانت تأكلها النار ولا يجوز الانتفاع بها، وفي شريعتنا لا يحل شئ منها للغني ويحل للفقير لحاجته، بمنزلة حل الميتة عند الضرورة، فعرفنا أن حكم النص صلاحية المحل للصرف إلى كفاية الفقير، وبعد التعليل تبقى هذه الصلاحية كما كانت قبلها ويتعدى حكم الصلاحية إلى سائر المحال كما هو حكم التعليل في القياس الشرعي، وبهذا يتبين أن اللام في قوله: للفقراء لام العاقبة، أي تصير لهم باعتبار العاقبة، ولكن بعد تمام أداء الصدقات يجعل المال لله بابتداء التسليم إلى الفقراء، أو يكون المراد بيان المصرف الذي يكون المال بقبضهم لله تعالى خالصا هو، لا بمنزلة الكعبة فإن الاركان باعتبار التوجه إليها تصير صلاة لا أن تكون الصلاة حقا للكعبة، ثم كل صنف من هذه الاصناف جزء من المصارف بمنزلة جزء من الكعبة، واستقبال جزء منها كاستقبال جميعها في حكم الصلاة وهو ثابت بالنص لا بالتعليل، فكذلك الصرف إلى صنف لما فيه من سد خلة المحتاج بمنزلة الصرف إلى الاصناف لا بطريق التعليل.
وحكم الاطعام كذلك، فإن حكم النص أن المساكين العشرة محل لصرف طعام الكفارة إليهم، وهذا الحكم باق في المنصوص بعد التعليل كما قبله، ولكن ثبت بدلالة النص للتنصيص على صفة المسكنة في المصروف إليه أن المطلوب سد الخلة، وعلم يقينا تجدد الحاجة للمسكين بتجدد الايام فصار بدلالة النص ما يقع به التكفير سد عشر خلات وهو ثابت بالصرف إلى مسكين واحد في عشرة أيام كما يثبت بالصرف إلى عشرة مساكين.
وأما التكبير فلا نقول حكم النص وجوب التكبير بعينه عند الشروع في الصلاة، ولكن الواجب التعظيم باللسان، لان اللسان من الاعضاء الظاهرة من وجه، والصلاة
تعظيم الله تعالى بجميع الاعضاء، فتعلق بكل عضو ما يليق به من التعظيم، ثم التعظيم
باللسان يكون بالثناء والذكر، فكان ذكر الله على سبيل التعظيم لتحقيق أداء الفعل المتعلق باللسان، ولا عمل لذلك الفعل في تعيين التكبير، بل التكبير آلة صالحة لذلك، وقد بقيت بعد هذا التعليل آلة صالحة لاقامة هذا الفعل بها كما قبل التعليل.
وكذلك غسل النجاسة بالمائعات فالمستحق ليس هو الغسل بعينه بل إزالة النجاسة عن الثوب حتى لا يكون مستعملا لها عند لبسه، ألا ترى أنه لو قطع موضع النجاسة بالمقراض أو ألقى ذلك الثوب أصلا لم يلزمه الغسل، ثم الماء آلة صالحة لازالة النجاسة باستعماله، وبعد التعليل يبقى كذلك آلة صالحة لازالة النجاسة لاستعماله، وحكم الغسل طهارة المحل باعتبار أنه لم يبق فيه عين النجاسة ولا أثرها، فكل مائع ينعصر بالعصر فهو يعمل عمل الماء في المحل، ثم طهارة المحل في الاصل وانعدام ثبوت صفة النجاسة في المزيل بابتداء ملاقاة النجاسة إلى أن يزايل الثوب بالعصر حكم شرعي ثبت بالنص، وبالتعليل تعدى هذا الحكم إلى الفروع وبقي في الاصل على ما كان قبل التعليل.
ولا يدخل على هذا التطهير من الحدث بسائر المائعات سوى الماء، لان عمل الماء في إزالة عين عن المحل الذي يلاقيه، أو في إثبات صفة الطهارة للمحل بواسطة الازالة، وليس في أعضاء المحدث عين تزول باستعمال الماء، فإن أعضاءه طاهرة، وإنما فيها مانع حكمي من أداء الصلاة غير معقول المعنى، وقد ثبت بالنص رفع ذلك المانع بالماء وهو غير معقول المعنى، وقد بينا أن مثل هذا الحكم لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر.
ولا يدخل على هذا الجواب تصحيح الوضوء بغير النية كغسل النجاسة، لان الذي لا يعقل المعنى فيه ما هو مزال عن المحل عند استعمال الماء،
فأما الماء في كونه مزيلا إذا استعمل في المحل معقول المعنى فلا حاجة إلى اشتراط النية لحصول الازالة به كما في غسل النجاسات، فعلم أن هذه الحدود إنما يقف المرء عليها عند التأمل عن إنصاف.
وأما بيان القسم الخامس ففيما قاله علماؤنا: إنه لا يجوز قياس السباع سوى
الخمس المؤذيات على الخمس بطريق التعليل في إباحة قتلها للمحرم وفي الحرم، لان في النص قال عليه الصلاة والسلام: خمس يقتلن في الحل والحرم وإذا تعدى الحكم إلى محل آخر يكون أكثر من خمس فكان في هذا التعليل إبطال لفظ من ألفاظ النص، بخلاف حكم الربا فإن النبي عليه السلام لم يقل الربا في ستة أشياء، ولكن ذكر حكم الربا في أشياء فلا يكون في تعليل ذلك النص إبطال شئ من ألفاظ النص.
ومن هذا النوع تعليل الشافعي حكم الربا في الاشياء الاربعة بالطعم فإن في النص قال عليه الصلاة والسلام: والفضل ربا: أي الفضل حرام يفسد به العقد لانه ربا، والتعليل بالطعم يبطل كون الفضل ربا، لانه يقول بعلة الطعم فساد البيع في هذه الاموال أصل إلى أن يوجد المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي، فيكون هذا إبطالا لبعض ألفاظ النص.
ومن ذلك تعليله لرد شهادة القاذف للفسق الثابت بالقذف، فإنه إبطال لبعض ألفاظ النص وهو قوله تعالى: (أبدا) فإن رد الشهادة باعتبار الفسق لا يتأبد، فكيف يتأبد وسببه وهو الفسق بعرض أن ينعدم بالتوبة، فكان هذا تعليلا باطلا لتضمنه إبطال لفظ من ألفاظ النص.
ومن جملة ما لا يكون استعمال القياس فيه طريقا لمعرفة الحكم، النذر بصوم يوم النحر، وأداء الظهر يوم الجمعة في المصر بغير عذر قبل أداء الناس
الجمعة، وفساد العقد لسبب الربا، فإن الكلام في هذه الفصول في موجب النهي وأن عمله بأي قدر يكون، والنهي أحد أقسام الكلام كالامر، فيكون طريق معرفته موجبة عند الاطلاق التأمل في معاني كلام أهل اللسان دون القياس الشرعي.
ومن ذلك الكلام في الملك الثابت للزوج على المرأة بالنكاح أنه في حكم ملك العين أو في حكم ملك المنفعة، فإنه لا مدخل للقياس الشرعي فيه، لان بعد النكاح نفسها وأعضاؤها ومنافعها مملوكة لها فيما سوى المستوفى منها بالوطئ على ما كان قبل النكاح، فإثبات ملك عليها بدون تمكن الاشارة
إلى شئ من عينها أنه مملوك عليها يكون حكما ثابتا بخلاف القياس، وقد بينا أن مثل هذا لا يقبل التعليل وأنه ملك ضروري ظهر شرعا لتحقق الحاجة إلى تحصيل السكن والنسل بمنزلة حل الميتة عند الضرورة فلا يقبل التعليل، ولان التعليل إنما يجوز بشرط أن يكون الفرع نظير الاصل في الحكم الذي يقع التعليل له، ولا نظير لملك النكاح من سائر أنواع الملك، لان سائر أنواع الملك يثبت في محل مخلوق ليكون مملوكا للآدمي، وهذا الملك في الاصل يثبت على حرة هي مخلوقة لتكون مالكة، وأي مباينة فوق المالكية والمملوكية، فإذا ثبت أنه لا نظير لهذا الملك من سائر الاملاك ثبت أنه لا يمكن المصير إلى التعليل فيه لمعرفة صفته.
ومن ذلك الكلام في موجب الالفاظ حتى يصير في الرهن أنه يد الاستيفاء حقا للمرتهن، بمنزلة اليد التي تثبت في المحل بحقيقة الاستيفاء، أم حق البيع في الدين، ثم اليد شرط لتتميم السبب كما في الهبة اليد شرط لتتميم السبب، والحكم ثبوت الملك في المحل بطريق العلة، فهذا مما لا يمكن إثباته (في القياس)
بالقياس الشرعي، لان أحكام العقود مختلفة شرعا ووضعا، وباعتبار الاختلاف يعلم أنه ليس بعضها نظيرا للبعض، ومن شرط صحة التعليل أن يكون الفرع نظيرا للاصل، بل طريق معرفة حكم الرهن التأمل فيما لاجله وضع هذا العقد وشرع، فنقول: إنه مشروع ليكون وثيقة لجانب الاستيفاء لا مؤكدا للوجوب، ألا ترى أنه يختص بالمال الذي هو محل للاستيفاء فأما محل الوجوب فالذمة، وإذا كان وثيقة لجانب الاستيفاء علم أن موجبه من جنس ما يثبت بحقيقة الاستيفاء، والثابت بحقيقة الاستيفاء ملك العين وملك اليد، ثم بالرهن لا يثبت ملك العين.
فعرفنا أن موجبه ملك يد الاستيفاء بمنزلة الكفالة فإنها وثيقة لجانب الوجوب ولهذا اختصت بالذمة، ثم كان موجبها من جنس ما يثبت بحقيقة الوجوب وهو ملك المطالبة، لان الثابت بالحقيقة ملك أصل الدين في ذمة من يجب عليه وثبوت حق المطالبة بالاداء، فالثابت بالوثيقة التي هي لجانب الوجوب من جنسه وهو حق المطالبة
حتى يملك مطالبة الكفيل بالدين مع بقاء أصله في ذمة المديون.
ومن ذلك الكلام في المعتدة بعد البينونة أنه هل يقع عليها الطلاق ؟ فإن تعليل الخصم بأنه ليس له عليها ملك متعة ولا رجعة لا يلحقها طلاقه كمنقضية العدة تعليل باطل، لان الخلاف في أن العدة التي هي حق من حقوق النكاح هل تكون بمنزلة أصل النكاح في بقائها محلا لوقوع الطلاق عليها باعتباره أم لا ؟ وفي منقضية (العدة) لا عدة، ففي أي وجه يستقيم هذا التعليل ليثبت به هذا الحكم للخصم ؟ وكذلك هذا التعليل في نكاح الاخت في عدة الاخت بعد البينونة من الخصم باطل، لان الكلام في أن العدة التي هي حق النكاح هل تقوم مقام النكاح في بقاء المنع الثابت بسبب النكاح أم لا ؟ وفي منقضية العدة لا عدة، وهذا لان النافي ينكر أن يكون الحكم مشروعا وما ليس
بمشروع كيف يمكن إثباته بالقياس الشرعي.
ومن هذا النوع تعليله في إسلام المروي في المروي، لان العقد جمع بدلين لا يجري فيهما ربا الفضل فكان بمنزلة الهروي مع المروي، لان الكلام في أن الجنس هل هو علة لتحريم النساء، وفي الهروي مع المروي لا جنس، وبهذا تبين أن حجة المدعي المثبت غير حجة المنكر النافي.
ومن هذا النوع الكلام فيما إذا قال لامرأته أنت طالق تطليقة بائنة أن الرجعة تنقطع بهذا اللفظ أم لا ؟ فإن تعليل الخصم بأنه ما اعتاض عن طلاقها يكون تعليلا باطلا، لان الكلام في أن صفة البينونة هل هي مملوكة للزوج بالنكاح كأصل الطلاق أم لا ؟ فالخصم ينكر كون ذلك مملوكا له، ونحن نقول إن ذلك مملوك له وإنما لم يثبت بصريح لفظ الطلاق لا لانه غير مملوك له بل لانه ساكت عن هذه الصفة، فإن وصفها بالطلاق يجامع النكاح ابتداء وبقاء، فإنما طريق معرفة هذا الحكم التأمل في موضوع هذا الملك وفيما صار له أصل الطلاق مملوكا له، فإذا ثبت باعتباره أن الوصف مملوك له كان التصريح به بذلك الوصف عملا، وعند عدم التصريح به لا يثبت لان سببه لم يوجد، كما لا يثبت أصل الطلاق إذا لم يوجد منه التكلم بلفظ الطلاق أو بلفظ آخر قائما مقامه.
ومن هذا النوع تعليل الخصم في عقد الاجارة أنها توجب ملك البدل في الحال بالقياس على عقد البيع، فإن شرط صحة القياس أن يكون الاصل والفرع نظيرين، وفي باب البيع ما هو المعقود عليه قائم مملوك في الحال، وفي الاجارة ما هو المعقود عليه معدوم غير مملوك عند العقد، فعلم أنهما متغايران، وإذا لم يكن أحدهما نظيرا للآخر في الحكم الذي وقع التعليل لاجله لا يستقيم تعدية الحكم من أحدهما إلى الآخر بالقياس الشرعي.
ومن نوع ما بدأنا به هذا الفصل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للاعرابي في حديث كفارة الفطر كلها أنت وعيالك فإن من الناس من اشتغل بتعليل ذلك لتعدية الحكم إلى غير الاعرابي فيتطرق به (إلى) القول بانتساخ حكم الكفارة وذلك لا يجوز عندنا، لان النبي عليه السلام خص الاعرابي بصحة التكفير منه بالصرف إلى نفسه وعياله، وكان ذلك بطريق الاكرام له، وقد بينا أن مثل هذا لا يقبل التعليل، والله تعال أعلم.
فصل: في الركن ركن القياس هو الوصف الذي جعل علما على حكم العين مع النص من بين الاوصاف التي يشتمل عليها اسم النص، ويكون الفرع به نظيرا للاصل في الحكم الثابت باعتباره في الفرع، لان ركن الشئ ما يقوم به ذلك الشئ وإنما يقوم القياس بهذا الوصف.
ثم هذا الوصف قد يكون لازما للاصل وذلك نحو إيجاب الزكاة عندنا في الحلي باعتبار صفة الثمنية في الاصل، وعند الخصم إثبات حكم الربا في الذهب والفضة بعلة الثمنية والثمنية صفة لازمة لهذين الجوهرين، فإنهما خلقا جوهري الاثمان لا يفارقهما هذا الوصف بحال، وقد يكون عارضا أو اسما نحو قوله عليه السلام للمستحاضة في بيان علة نقض الطهارة: إنه دم عرق انفجر والدم اسم علم والانفجار صفة عارضة.
مثاله تعليل علمائنا نص
الربا بالكيل والوزن فإن ذلك وصف عارض يختلف باختلاف عادات الناس في الاماكن والاوقات، وقد يكون حكما نحو قول رسول الله عليه السلام للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته الحديث، فإن الدين عبارة عن الوجوب في الذمة، وذلك حكم قد بين لها حكما بالاستدلال بحكم آخر، وذلك دليل جواز التعليل بالحكم، وقد يكون هذا الوصف فردا
وقد يكون مثنى، وقد يكون عددا.
فالفرد نحو تعليل ربا النساء بوصف واحد وهو الجنس أو الكيل أو الوزن عند اتحاد المعنى، والمثنى نحو علة (حرمة) التفاضل، فإنه القدر مع الجنس، والعدد نحو تعليلنا في نجاسة سؤر السباع بأنه حيوان محرم الاكل لا للكرامة ولا بلوى في سؤره، وإنما يكون العدد من الاوصاف علة إذا كانت لا تعمل حتى ينضم بعضها إلى بعض، فإن كل وصف يعمل في الحكم بانفراده فإنه لا يكون التعليل بالاوصاف كلها، وقد يكون ذلك الوصف في النص، وقد يكون في غيره.
أما ما يكون في النص فغير مشكل، فإنه إنما يعلل النص والتعليل بوصف فيه يكون صحيحا لا محالة.
وأما ما يكون في غيره فنحو ما روي أن النبي عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم، فإن هذه الرخصة معلولة بإعدام العاقد وذلك ليس في النص، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الآبق وعن بيع الغرر، وهو معلول يعجز البائع عن تسليم المبيع أو جهالة في المبيع في نفسه على وجه يفضي إلى المنازعة وهذا ليس في النص، قال عليه السلام: لا تنكح الامة على الحرة ثم علل الشافعي هذه الحرمة بإرقاق الحر جزءا منه وهو الولد مع غنيته عنه وهذا ليس في النص، ولكن ذكر البيع يقتضي بائعا، وذكر السلم يقتضي عاقدا، وذكر النكاح يقتضي ناكحا، وما يثبت بمقتضى النص فهو كالمنصوص.
وكذلك عللنا نحن نهي رسول الله عليه السلام عن صوم يوم النحر بعلة رد الضيافة التي للناس في هذا اليوم من الله تعالى بالقرابين وذلك ليس في النص.
وكل نهي جاء لا لمعنى في عين المنهي عنه فهو من هذا النوع.
ومن التعليل بالحكم ما يقوله علماؤنا في بيع المدبر (إنه تعلق عتقه بمطلق الموت فإن التعلق حكم ثابت بالتعليق فيكون ذلك استدلالا) بحكم على حكم،
وإنما جاز هذا كله لان الدليل الذي يثبت به كون الوصف حجة في الحكم قد ثبت بالدليل أنه علة الحكم شرعا.
ثم لا خلاف أن جميع الاوصاف التي يشتمل عليها اسم النص لا تكون علة، لان جميع الاوصاف لا توجد إلا في المنصوص والحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة، ولا خلاف أن كل وصف من أوصاف المنصوص لا يكون علة للحكم بل العلة للحكم بعضها، فإن الحنطة تشتمل على أوصاف فإنها مكيلة موزونة مطعومة مقتات مدخر حب شئ جسم، ولا يقول أحد إن كل وصف من هذه الاوصاف علة لحكم الربا فيها بل العلة أحد هذه الاوصاف.
واتفقوا أنه لا يتخير المعلل حتى يجعل أي هذه الاوصاف شاغلة من غير دليل، لان دعواه لوصف من بين الاوصاف أنه علة بمنزلة دعواه الحكم أنه كذا، فكما لا يسمع منه دعوى الحكم إلا بدليل فكذلك لا تسمع منه الدعوى في وصف أنه هو العلة إلا بدليل.
ثم اختلف العلماء في الدليل الذي به يكون الوصف علة للحكم.
قال أهل الطرد: هو الاطراد فقط من غير أن يعتبر فيه معنى معقول.
وتفسير الاطراد عند بعضهم: وجود الحكم عند وجود ذلك الوصف.
وعند بعضهم يشترط أن يوجد الحكم عند وجوده وينعدم عند عدمه، وأن يكون المنصوص عليه قائما في الحالين ولا حكم له.
وعند بعضهم يعتبر الدوران وجودا وعدما.
فأما قيام الحكم في المنصوص (عليه في الحالين) ولا حكم له فهو مفسد للقياس لا أن يكون مصححا له.
وقال جمهور الفقهاء: انعدام الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل صحة العلة ووجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل
فساد العلة، ولكن دليل صحة العلة أن يكون الوصف صالحا للحكم ثم يكون
معدلا بمنزلة الشاهد، فإنه لا بد من أن يكون صالحا للشهادة لوجود ما به يعتبر أهلا للشهادة فيه، ثم يكون معدلا بظهور عدالته عند التعديل، ثم يأتي بلفظ الشهادة من بين سائر الالفاظ حتى تصير شهادته موجبة العمل بها.
ثم لا خلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله أن صفة الصلاحية للعلة بالملاءمة، ومعناها أن تكون موافقة العلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة غير نائية عن طريقهم في التعليل، لان الكلام في العلة الشرعية، والمقصود إثبات حكم الشرع بها، فلا تكون صالحة إلا أن تكون موافقة لما نقل عن الذين بنيانهم عرف أحكام الشرع.
ثم الخلاف وراء ذلك في العدالة فقال علماؤنا: عدالة العلة تعرف بأثرها، ومتى كانت مؤثرة في الحكم المعلل فهي علة عادلة، وإن كان يجوز العمل بها قبل ظهور التأثير، ولكن إنما يجب العمل بها إذا علم تأثيرها ولا يجوز العمل بها عند عدم الصلاحية بالملاءمة، بمنزلة الشهادة فإن الشاهد قبل أن تثبت الصلاحية للشهادة فيه لا يجوز العمل بشهادته، وبعد ظهور الصلاحية قبل العلم بالعدالة كالمستور لا يجب العمل بشهادته، ولكن يجوز العمل حتى إن قضى القاضي بشهادة المستور قبل أن تظهر عدالته يكون نافذا.
وقال بعض أصحاب الشافعي: عدالة الوصف بكونه مخيلا، أي موقعا في القلب خيال الصحة للعلة ثم العرض على الاصول بعد ذلك احتياط.
وقال بعضهم: بل العدالة بالعرض على الاصول، فإذا لم يعارضه أصل من الاصول لا ناقضا ولا معارضا فحينئذ يصير معدلا وأدنى ما يكفي لذلك أصلان، بمنزلة عدالة الشاهد، فإن معرفة ذلك بعرض حالهم على المزكين وأدنى ما يكفي لذلك عنده اثنان، فعلى قول هذا الفريق من أصحابه لا يجوز العمل به وإن كان مخيلا قبل العرض على الاصول، وعلى قول الفريق الاول يجوز العمل به لانه صار معدلا بكونه
مخيلا.
ثم العرض على الاصول احتياط، والنقض جرح، والمعارضة دفع.
أما أهل الطرد احتجوا بالظواهر الموجبة للعمل بالقياس، فإنها لا تخص علة دون علة، فيقتضي الظاهر جواز العمل بكل وصف والتعليل به إلا ما قام عليه دليل، وأن كل وصف يوجد الحكم عند وجوده فإنه وصف صالح لان يكون علة، وهذا لان علل الشرع أمارات للاحكام وليست على نهج العلل العقلية، وأمارة الشئ ما يكون موجودا عند وجوده، وكما يجوز إثبات أحكام الشرع بعين النص من غير أن يعقل فيه المعنى على أن يجعل اسم النص أمارة ذلك الحكم يجوز إثبات الحكم بوصف ثابت باسم النص من غير أن يعقل فيه المعنى، على أن يكون ذلك الوصف علة للحكم، فإن للشرع ولاية شرع الاحكام كيف يشاء، ففي اشتراط كون المعنى معقولا فيما هو أمارة حكم الشرع إثبات نوع حجر لا يجوز القول به أصلا.
والفريق الثاني منهم استدلوا بمثل هذا الكلام، ولكنهم قالوا: العلة ما يتغير به حكم الحال على ما نبينه في موضعه، ووجود الحكم مع وجود الوصف قد يكون اتفاقا وقد يكون لكونه علة لا تتعين جهة كونه مغيرا إلا بانعدام الحكم عند عدمه، فبه يتبين أنه لم يكن اتفاقا.
ثم الحكم الثابت بالعلة إذا كان بحيث يحتمل الرفع لا يبقى بعد انعدام العلة، كالحكم الثابت بالبيع وهو الملك لا يبقى بعد فسخ البيع ورفعه، واشتراط قيام المنصوص عليه في الحالين ولا حكم له ليعلم به أن ثبوت الحكم بوجود علته لا بصورة النص، وذلك نحو آية الوضوء، ففي النص ذكر القيام إلى الصلاة والعلة الموجبة للطهارة الحدث، فإن الحكم يدور مع الحدث وجودا وعدما، والمنصوص عليه وهو القيام إلى الصلاة قائم في الحالين ولا حكم له، وقوله
عليه السلام: لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان فيه تنصيص على الغضب، والعلة فيه شغل القلب حتى دار الحكم معه وجودا وعدما، والمنصوص عليه قائم في الحالين ولا حكم له، وقال عليه السلام: الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، ثم العلة الموجبة للحرمة والفساد الفضل على الكيل،
لان الحكم يدور معه وجودا وعدما، والمنصوص عليه وهو (الحنطة بالحنطة) قائم في الحالين ولا حكم له.
وجواب أهل الفقه عن هذه الكلمات ظاهر، فإن الظواهر الدالة على جواز العمل بالقياس بالاتفاق لا تدل على أن كل وصف من أوصاف الاصل صالح لان يكون علة، فإنه لو كان كذلك لتحير المعلل وارتفع معنى الابتلاء بطلب الحكم في الحوادث أصلا، وإذا اتفقنا على أن دلالة هذه النصوص لوصف من بين أوصاف الاصل قد ابتلينا بطلبه حين أمرنا بالاعتبار، فلا بد من أن يكون في ذلك الوصف معنى معقول يمكن التمييز به بينه وبين سائر الاوصاف ليوقف عليه، وما هذا إلا نظير النصوص المثبتة لصفة الشهادة لهذه الامة، فإن ذلك لا يمنع القول باختصاص الصلاحية ببعض الاوصاف واختصاص الاداء بلفظ الشهادة من بين سائر الالفاظ، وهذا لان أوصاف النص تعلم بالحس أو السماع وذلك يشترك فيه أهل اللغة وغيرهم ممن له حاسة صحيحة مع الفقهاء، ثم التعليل بالقياس لاثبات الحكم قد اختص به الفقهاء، فعرفنا أن اختصاصهم بذلك لم يكن إلا لمعنى معقول في الوصف الذي هو علة لا يمكن الوقوف عليه إلا بالتأمل من طريق الفقه.
وقوله علل الشرع أمارات.
قلنا: هي أمارات من حيث إنها غير موجبة بذواتها ولكنها موجبة للحكم بجعل الشرع إياها موجبة العمل بها، ومعلوم أنه لا يمكن العمل
بها إلا بعد معرفة عينها، وطريق ذلك التعيين بالنص أو الاستنباط بالرأي، وقد انعدم التعيين بالنص ولا يتأتى فيه الاستنباط بالرأي إذا لم يكن الحكم معقول المعنى، لان العقل طريق يدرك به ما يعقل كما أن الحس طريق يدرك به ما يحس دون ما لا يحس، وليس هذا نظير الاحكام الثابتة بالنص غير معقول المعنى، لان النص موجب بنفسه، فإنه كلام من يثبت علم اليقين بقوله وقد حصل التعيين بالنص هناك، فكونه غير معقول المعنى لا يعجزنا عن العمل به، فأما التعليل ببعض الاوصاف فهو غير موجب بنفسه وإنما يجب العمل به بطريق أنه إعمال الرأي ليتوصل به إلى الحجة في حكم شرعي، وما لم يكن معقول المعنى لا يتأتى إعمال الرأي فيه.
ثم الدليل على أن الدوران لا يصلح أن يكون علة أن الحكم كما يدور مع العلة وجودا وعدما يدور مع الشرط وجودا وعدما، فإن من قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر فالعتق بهذا الكلام يدور مع الدخول وجودا وعدما، وأحد لا يقول دخول الدار علة العتق بل هو فإن قيل: الاصل دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما، فأما الشرط شرط العتق عارض لا يكون إلا بعد تعليق الحكم به نصا.
قلنا: فأين ذهب قولك إن علل الشرع أمارات، فإنه لا يفهم من ذلك اللفظ إلا أن الشرع جعلها أمارة للحكم بأن علق الحكم بها، وأي فرق بين تعليق حكم العتق من المولى بدخول الدار شرطا وبين التعليق الثابت شرعا، ثم هناك دوران الحكم بمجرده لا يدل على كونه علة فهنا كذلك، ثم هب كان الاصل هو دوران الحكم مع العلة ولكن مع هذا احتمال الدوران مع الشرط قائم وبالاحتمال لا تثبت العلة.
فأما اشتراط قيام المنصوص عليه في الحالين
ولا حكم له فقد جعل ذلك بعضهم مفسدا للقياس باعتبار ما ذكرنا أن شرط صحة التعليل هو أن يبقى الحكم في المنصوص عليه بعد التعليل على ما كان قبله، فإذا جعل التعليل على وجه لا يبقى للنص حكم بعده يكون ذلك آية فساد القياس لا دليل صحته، فأما من شرط ذلك مستدلا بما ذكرنا فالجواب عن كلامه أن هذا وهم ابتلي به لقلة تأمله، لان المقصود بالتعليل تعدية حكم النص إلى محل لا نص فيه، فكيف يجوز أن لا يبقى للنص حكم بعد التعليل ؟ وإذا لم يبق له حكم فالتعدية بعد التعليل في أي شئ يكون.
فأما آية الوضوء فنحن لا نقول إن الحدث علة لوجوب الوضوء، ولكن من شرط القيام لاداء الصلاة الطهارة عن الحدث، فكان تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، ولكن سقط ذكر الحدث للايجاز والاختصار على ما هو عادة أهل اللسان في إسقاط بعض الالفاظ إيجازا إذا كان في الباقي
دليل عليه، ففي المذكور هنا دليل على المحذوف وهو قوله تعالى: (ولكن يريد ليطهركم) .
(وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقوله تعالى عند ذكر البدل: (أو جاء أحد منكم من الغائط) وقد علم أن البدل إنما يجب عند عدم الاصل بما يجب به الاصل، فظهر أنا إنما جعلنا الحدث شرطا لوجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة بدلالة النص لا بطريق التعليل والاستنباط بالرأي.
وكذلك قوله عليه السلام: لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان إنما عرفنا أن المراد النهي عن القضاء عند شغل القلب لمخافة الغلط بدليل الاجماع لا بطريق الاستنباط بالرأي، والاجماع حجة سوى الرأي، فإن التعليل بالرأي يكون بعد الاجماع بالاتفاق، وكيف يستقيم أن لا يكون للنص حكم بعد التعليل والشرع ما جعل التعليل بالرأي إلا بعد النص
وإلا لاثبات الحكم فيما لا نص فيه.
وبيان هذا في حديث معاذ حين قال له: (كيف تقضي) وحديث نص الربا هكذا، فإن المساواة في الكيل إنما عرفناه بالنص لا بالرأي وهو قوله عليه السلام في بعض الروايات مكان قوله (مثل بمثل) (كيل بكيل) أو بالاجماع، فقد اتفقوا أنه ليس المراد من قوله (مثل بمثل) إلا المماثلة في الكيل، وكذلك (في) قوله: (إلا سواء بسواء) اتفاق أن المراد المساواة في الكيل، فعرفنا أن من قال في هذه المواضع بأن الحكم دار مع العلة وجودا وعدما والمنصوص عليه قائم في الحالين ولا حكم له، فهو مخطئ غير متأمل في مورد النص ولا فيما هو طريق التعليل في الفقه.
ثم الدليل على أن انعدام الحكم عند عدم الوصف لا يكون دليل صحة العلة ما ذكرنا من الشرط، ولان ثبوت الحكم لما كان بورود الشرع به فانعدام الحكم عند انعدام العلة الموجبة شرعا يكون بالعدم الذي هو أصل فيه لا أن يكون مضافا إلى العلة حتى
يكون دليل صحة العلة.
والدليل على أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل فساد العلة اتفاق الكل على أن الحكم يجوز أن يكون ثابتا في محل بعلل، ثم بانعدام بعضها لا يمتنع بقاء الحكم بالبعض الذي هو باق، كما لا يمتنع ثبوت الحكم ابتدا بتلك العلة، وبهذا يتبين أنه لا بد من القول بأنه لا ينعدم الحكم إلا بانعدام جميع العلل التي كان الحكم ثابتا بكل واحد منها، فعرفنا أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل فسادها، وفساد القول بأن دليل صحة العلة دوران الحكم معه وجودا وعدما كالمتفق عليه، فإن القائسين اتفقوا أن علة الربا أحد أوصاف الاصل، وادعى كل واحد منهم أن الصحيح ما ذهب إليه، ومعلوم أن كل قائل
يمكنه أن يستدل على صحة علته بدوران الحكم معه وجودا وعدما.
وكذلك لو قال إن العلة في تكفير المستحل للخمر معنى الشدة والمرارة كان ذلك فاسدا بالاتفاق، فإن أحدا لا يقول بتكفير مستحل سائر الاشربة مع وجود الشدة والمرارة.
ثم هذا القائل يتمكن من تصحيح قوله بدوران الحكم معه وجودا وعدما، فإن العصير قبل أن يتخمر لا يكفر مستحله، وبعد التخمر يكفر مستحله لوجود الشدة والمرارة، ثم بعد التحلل لا يكفر مستحله لانعدام الشدة والمرارة، إلا أن يقول بتخصيصه وقد قامت الدلالة على فساد القول بتخصيص العلل الشرعية على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فيفسد به أيضا القول بتخصيص ما هو دليل صحة العلة، لان ذلك حجة شرعية ثابتة بطريق الرأي.
فإن قيل: مثل هذا يلزم القائلين بأن دليل صحة العلة الاثر، فإن الحكم يدور مع العلة المأثورة وجودا وعدما عند من لا يجوز تخصيص العلة وهو الصحيح.
قلنا: نعم ولكن لا نجعل الدوران دليل صحة العلة، وإنما نجعل كونه مؤثرا في الاصول دليل صحة العلة ولا يتحقق معنى دوران الحكم مع هذا الاثر في جميع الاصول، فأما دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما يكون اتفاقا.
فأما الذين قالوا من أصحاب الشافعي: بأن الاثر الذي هو دليل صحة
العلة أن يكون مخيلا، حجتهم أن هذا الاثر مما لا يحس بطريق الحس ولكنه يعقل فيكون طريق الوقوف عليه تحكيم القلب، حتى إذا تخايل في القلب به أثر القبول والصحة كان ذلك حجة للعمل به، بمنزلة التحري في باب القبلة عند انقطاع سائر الادلة، فإن تحكيم القلب فيه جائز ويجب
العمل بما يقع في قلب من ابتلي به من أنه جهة الكعبة، وعليه دل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد رضي الله عنه: ضع يدك على صدرك واستفت قلبك، فما حك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به فعرفنا أن العدالة تحصل بصفة الا خالة ثم العرض على الاصول بعد ذلك احتياط والعمل به قبله جائز، بمنزلة ما لو كان الشاهد معلوم العدالة عند القاضي فإن العمل بشهادته جائز له، والعرض على المزكين بعد ذلك نوع احتياط، فإن لم يعجل ورجع إلى المزكين فهو احتياط أخذ به لجواز أن يظهر له بالرجوع إليهم ما لم يكن معلوما له، قال: وهذا بخلاف شهادة الشاهد فإن بصفة الصلاحية هناك لا تثبت العدالة، لان الشاهد مبتلى بالامر والنهي، وهو أمين فيما اؤتمن من حقوق الشرع، ويتوهم منه أداء الامانة فيكون عدلا به والخيانة فلا يكون عدلا معه، وإذا لم يكن أداء الامانة منه معلوم القاضي لا يصير عدلا عنده ما لم يعرض حاله على المزكين.
فأما الوصف الذي هو علة بعدما علم صفة الصلاحية فيه تصير عدالته معلومة إذ ليس فيه توهم الخيانة، فلهذا كان العرض على الاصول هنا احتياطا، فإن سلم عما يناقضه ويعارضه بكونه مطردا في الاصول فحكم وجوب العمل به يزداد وكادة، وإن ورد عليه نقض فذلك النقض جرح، بمنزلة الشاهد الذي هو معلوم العدالة إذا ظهر فيه طعن من بعض المزكين، فإن ذلك يكون جرحا في عدالته إلا أن يتبين له أنه لم يكن عدلا، والمعارضة دفع بمنزلة شاهد آخر يشهد بخلاف ما شهد به العدل.
وأما الفريق الثاني فإنهم قالوا: كونه مخيلا أمر باطن لا يمكن إثباته
على الخصم، وما لم تثبت صفة العدالة بما يكون حجة على الخصم لا يمكن
إلزام الخصم به، وأثبتنا صفة العدالة فيه بما أثبتنا صفة الصلاحية وهو الملاءمة، فإن ذلك يكون بالعرض على العلل المنقولة عن السلف، حتى إذا علم الموافقة كان صالحا، وبعد صفة الصلاحية يحتمل أن لا يكون حجة، لان العلل الشرعية لا توجب الحكم بذواتها فلا بد من إثبات صفة العدالة فيه بالعرض على الاصول، حتى إذا كان مطردا سالما عن النقوض والمعارضات فحينئذ تثبت عدالته من قبل أن الاصول شهادة لله على أحكامه كما كان الرسول في حال حياته، فيكون العرض على الاصول وامتناع الاصول من رده بمنزلة العرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وسكوته عن الرد، وذلك دليل عدالته باعتبار أن السكوت بعد تحقق الحاجة إلى البيان لا يحل، فعرفنا أن بالعرض على الاصول تثبت العدالة، كما أن عدالة الشاهد تثبت بعرض حاله على المزكين.
والفرق الثاني الذي قالوا ليس بقوي، فإن بعد ثبوت صفة الصلاحية للشاهد إنما بقي احتمال الكذب في أدائه، وهنا بعد ثبوت صفة الصلاحية بقي الاحتمال في أصله أن الشرع جعله علة للحكم أم لا، فإنه إن ورد عليه نقض أو معارضة يتبين به أن الشرع ما جعله علة للحكم، لان المناقضة اللازمة لا تكون في الحجج الشرعية، قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وكذلك المعارضة اللازمة لا تكون في الحجج الشرعية فإذا كان هناك مع بقاء الاحتمال في الوصف لا يكون حجة للعمل به فهنا مع بقاء الاحتمال في الاصل لان لا يكون حجة كان أولى، وكما أن طريق رفع ذلك الاحتمال هناك العرض على المزكين والادنى فيه اثنان، فالطريق هنا العرض على الاصول وأدنى ذلك أصلان، إذ لا نهاية للاعلى، وفي الوقوف على ذلك حرج بين، وبهذا التقرير يتبين أن العرض على جميع الاصول ليس بشرط عنده، كما ذهب إليه بعض
شيوخنا وشيوخه، فإن من شرط ذلك لم يجد بدا من العمل بلا دليل،
لانه وإن استقصى في العرض فالخصم يقول وراء هذا أصل آخر (هو) معارض أو ناقض لما يدعيه، فلا يجد بدا من أن يقول لم يقم عندي دليل النقض والمعارضة، ومثل هذا لا يصلح حجة لالزام الخصم على ما نبينه في بابه، قالوا: والذي يحقق ما ذكرنا أن المعجزة التي أوجبت علم اليقين كان طريق ثبوتها السلامة عن النقوض والمعارضات، كما قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فبهذا يتبين أن طريق إثبات الحجة لما لا نحس هذا.
وأما علماؤنا إنهم يقولون: حاجتنا إلى إثبات دليل الحجة فيما لا يحس ولا يعاين، وطريق ذلك أثره الذي ظهر في موضع من المواضع، ألا ترى أن الطريق في معرفة عدالة الشاهد هذا، وهو أن ينظر إلى أثر دينه في منعه عن ارتكاب ما يعتقد فيه الحرمة، فإذا ظهر أثر ذلك في سائر المواضع يترجح جانب الصدق في شهادته بطريق الاستدلال بالاثر، وهو أن الظاهر أنه ينزجر عن شهادة الزور لاعتقاده الحرمة فيه.
وكذلك الدلالة على إثبات الصانع تكون بآثار صنعته بطريق الوصف والبيان على وجه مجمع عليه، كما نبينه في موضعه.
وكذلك في المحسوسات كالجرح ونحو ذلك، فإنه يستدل عليه بأثره حسا، والاستدلال بالمحسوس لغير المحسوس يكون بالاثر أيضا، فتبين أن ما به يصير الوصف حجة بعد الصلاحية بالملاءمة على ما قرره الخصم وهو ظهور أثره في الاصول، فأما الا خالة فهو عبارة عن مجرد الظن إذ الخيال والظن واحد، والظن لا يغني من الحق شيئا.
وأحسن العبارات فيه أن يجعل
بمنزلة الالهام وهو لا يصلح للالزام على الغير، على ما نبينه، ثم هذا شئ في الباطن لا يطلع عليه غير صاحبه ومثله لا يكون حجة على الغير، كالتحري الذي استشهد به، فإن ما يؤدي إليه تحري الواحد لا يكون حجة على أصحابه، حتى لا يلزمهم اتباعه في تلك الجهة، وكلامنا فيما يكون حجة
لالزام الغير العمل به، ثم كل خصم يتمكن من أن يقول يخايل في قلبي أثر القبول والصحة للوصف الذي دعاه، بل للحكم الذي هو المقصود، وصفة التعارض لا يجوز أن يكون لازما في الحجج الشرعية كصفة المناقضة.
وكذلك الاطراد لا يستقيم أن يجعل دليل كونه حجة، لانه عبارة عن عموم شهادة هذا الوصف في الاصول فيكون نظير كثرة أداء الشهادة من الشاهدين في الحوادث عند القاضي، أو تكرار الاداء منه في حادثة واحدة وذلك لا يكون موجبا عدالته.
قوله بأن الاصول مزكون كالرسول، قلنا: لا كذلك، بل كل أصل شاهد، فالاصول كجماعة الشهود أو عدد الرواة للخبر، ودليل صحة الخبر وكونه حجة إنما يطلب من متن الحديث، فالاثر للوصف بمنزلة دليل الصحة من متن الخبر، والاطراد في الاصول بمنزلة كثرة الرواة، فكيف يستقيم أن يجعل الاصول مزكين ولا معرفة لهم بهذا الوصف وحاله، وأنى تكون التزكية ممن لا خبرة له ولا معرفة بحال الشاهد ؟ وما قالوا: إن المعجزة بمثل هذا صارت حجة فهو غلط، وإنما صارت حجة بكونها خارجة عن حد مقدور البشر، فإن القرآن بهذه الصفة، ولكن الكفار كانوا يتعنتون فيقولون إنه من جنس كلام البشر، كما أخبر الله تعالى عنهم (قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) فطولبوا بالاتيان بمثله ليظهر به تعنتهم فإنهم
لو قدروا على ذلك ما صبروا على الامتناع عنه إلى القتال وفيه ذهاب نفوسهم وأموالهم.
فإن قيل: في اعتبار الاثر اعتبار ما لا يمكن الوقوف فيه على حد معلوم يعقل أو يظهر للخصوم.
قلنا: لا كذلك فإن الاثر فيما يحس معلوم حسا كأثر المشي على الارض، وأثر الجراحة على البدن، وأثر الاسهال في الدواء المسهل، وفيما يعقل معلوم بطريق اللغة نحو عدالة الشاهد، فإنه يعلم بأثر دينه في المنع كما بينا، وهذا الاثر الذي ادعيناه يظهر للخصم بالتأمل، فإنه عبارة عن أثر ظاهر في بعض المواضع سوى المتنازع فيه، وهو موافق
للعلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والسلف من الفقهاء، رضوان الله عليهم أجمعين.
فمن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة: إنها من الطوافين عليكم والطوافات لانها علة مؤثرة فيما يرجع إلى التخفيف، لانه عبارة عن عموم البلوى والضرورة في سؤره، وقد ظهر تأثير الضرورة في إسقاط حكم الحرمة أصلا بالنص، وهو قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) والاشارة إليه لدفع نجاسة سؤره أو لاثبات حكم التخفيف في سؤره يكون استدلالا له بعلة مؤثرة.
وكذلك قوله عليه السلام: إنها دم عرق انفجر فإنه استدلال بعلة مؤثرة في نقض الطهارة، وهو أن الدم في نفسه نجس، وبالانفجار يصل إلى موضع يجب تطهير ذلك الموضع منه، ووجوب التطهير لا يكون إلا بعد وجود ما يعدم الطهارة.
فإن قيل: هذا ليس بتعليل منه لانتقاض الطهارة بدم الاستحاضة بل لبيان أنه ليس بدم الحيض.
قلنا: قد قال أولا ليست بالحيضة، وهذا اللفظ كاف
لهذا المقصود فلا بد من أن يحمل قوله (ولكنها دم عرق انفجر) على فائدة جديدة وليس ذلك إلا بيان علة للحدث الموجب للطهارة.
وقال عليه السلام لعمر رضي الله عنه في القبلة: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك ؟ فهذا إشارة إلى علة مؤثرة، أي الفطر ضد الصوم، وإنما يتأدى الصوم بالكف عن اقتضاء الشهوتين، فكما أن اقتضاء شهوة البطن بما يصل إلى الحلق لا بما يصل إلى الفم حتى لا تكون المضمضة موجبة للفطر، فكذلك اقتضاء شهوة الفرج يكون بالايلاج أو الانزال لا بمجرد القبلة التي هي المقدمة.
وكذلك قوله للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين ؟ الحديث، هو إشارة إلى العلة المؤثرة وهو أن صاحب الحق يقبل من غير من عليه الحق إذا جاء بحقه فأداه على سبيل الاحسان والمساهلة مع من عليه الحق، والله هو المحسن المتفضل على عباده فهو أحق من أن يقبل منك.
وقال في حرمة الصدقة على بني هاشم: أرأيت لو تضمضت بماء أكنت شاربه ؟ ففيه إشارة إلى علة مؤثرة وهو
أن الصدقة من أوساخ الناس لكونها مطهرة من الذنوب فهي كالغسالة المستعملة، والامتناع من شرب ذلك يكون بطريق الاخذ بمعالي الامور، فكذلك حرمة الصدقة على بني هاشم يكون على وجه التعظيم والاكرام لهم ليكون لهم خصوصية بما هو من معالي الامور.
وكذلك الصحابة حين اختلفوا في الجد مع الاخوة اشتغلوا بالتعليل لاظهار صفة القرب بالوادي الذي تتشعب منه الانهار والشجرة التي ينبت منها الاغصان، وما ذلك إلا باعتبار المؤثر في العلم بتفاوت القرب بطريق محسوس، وابن عباس علل في ذلك بقوله: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الاب أبا.
فهو استدلال المؤثر من حيث اعتبار أحد الطرفين بالطرف الآخر في القرب.
وقال عمر لعبادة
بن الصامت حين قال: ما أرى النار تحل شيئا في الطلاء أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فتشربه، فهذا استدلال بمؤثر وهو التغيير بالطباع.
وعلل محمد في كتاب الطلاق فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها ثلاثا أن اليمين لا يبقى، لانه ذهب تطليقات ذلك الملك كله، وهذا تعليل بوصف مؤثر، فإن اليمين لا تنعقد إلا في الملك باعتبار تطليقات مملوكة أو مضافة إلى الملك، والاضافة إلى الملك لم توجد هنا، فعرفنا أنها انعقدت على التطليقات المملوكة، وقد أوقع كلها والكل من كل شئ لا يتصور فيه تعدد، فعرفنا أنه لم يبق شئ من الجزاء واليمين شرط وجزاء، فكما لا يتصور انعقادها بدون الجزاء لا يتصور بقاؤها إذا لم يبق شئ من الجزاء.
وقال أبو حنيفة رحمه الله فيمن اشترى قريبه مع غيره حتى عتق نصيبه منه لا يضمن لشريكه شيئا، لان شريكه رضي بالذي وقع به العتق بعينه، يعني ملك القريب الذي هو متمم لعلة العتق، وهذا تعليل بوصف مؤثر، فإن ضمان العتق إنما يجب بالافساد أو الاتلاف لملك الشريك فيكون واجبا بطريق الجبران له ورضاه بالسبب يغني عن الحاجة إلى الجبران، لان الحاجة إلى ذلك لدفع الضرر عنه وقد اندفع ذلك حكما حين رضي به كما لو أذن له نصا أن يعتقه.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن أودع صبيا مالا فاستهلكه
لا ضمان عليه، لانه سلطه على ما فعل، أي حين مكنه من المال، فقد سلطه على إتلافه حسا، والتسليط يخرج فعل المسلط من أن يكون جناية في حق المسلط، ثم بقوله: احفظ، جعل التسليط مقصورا على الحفظ بطريق العقد، وهذا في حق البالغ صحيح وفي حق الصبي لا يصح أصلا وفي حق العبد المحجور لا يصح في حالة الرق.
وعلل الشافعي في الزنا أنه لا يوجب حرمة المصاهرة، وقال: الزنا فعل رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه، فهذا استدلال في الفرق بوصف مؤثر، أي ثبوت
حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة، فيجوز أن يكون سبب الكرامة ما يحمد المرء عليه ولا يجوز أن يكون سببه ما يعاقب المرء عليه وهو الزنا الموجب للرجم.
وقال: النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال، لان النكاح ليس بمال.
وهذا تعليل بوصف مؤثر، يعني أن المال مبتذل وملك النكاح مصون عن الابتذال، وفي شهادة النساء مع الرجال ضرب شبهة أو هي حجة ضرورة فما يكون مبتذلا تجري المساهلة فيه وتكثر البلوى والحاجة إليه فيمكن إثباته بحجة فيها شبهة أو بما هو حجة ضرورة، فأما ما يكون مصونا عن الابتذال فإن البلوى لا تكثر فيه وهو عظيم الخطر أيضا فلا يثبت إلا بحجة أصلية خالية عن الشبهة، فعرفنا أن طريق تعليل السلف هو الاشارة إلى الوصف المؤثر، فعلى هذا النمط يكون أكثر ما عللنا به في الخلافيات.
منها أن علماءنا قالوا في أنه لا يشترط التكرار في المسح بالرأس لاكمال السنة إنه مسح فلا يسن تكراره (كالمسح بالخف والتيمم.
وقال الشافعي: هو ركن أصلي في الطهارة فيسن فيه التكرار) كالغسل في المغسولات، فكان المؤثر ما قلنا، لان في لفظ المسح ما يدل على التخفيف، فإن المسح يكون أيسر من الغسل لا محالة، وتأدى الفرض في هذا المحل بفعل المسح دليل التخفيف أيضا، وكون الاستيعاب فيه ليس بشرط بخلاف المغسولات تخفيف آخر، والاكتفاء بالمرة الواحدة لاقامة الفرض والسنة من باب التخفيف، ففي قولنا مسح إشارة إلى ما هو مؤثر فيه وليس في قوله ركن إشارة إلى ما ينفيه، ثم المقصود بالسنة
الاكمال، وفي الممسوح لما لم يكن الاستيعاب شرطا فبالمرة الواحدة مع الاستيعاب يحصل الاكمال، فعرفنا أنه يصير به مؤديا الفريضة والسنة، وفي المغسولات لما كان الاستيعاب شرطا لا يحصل بالمرة إلا إقامة الفرض فلا بد من التكرار
لاقامة السنة، وليس في قوله ركن إشارة إلى هذا الفرق، وفي قولنا مسح إشارة إليه، فكان المؤثر ما قلنا.
وقلنا في صوم الشهر بمطلق النية إنه يتأدى لانه صوم عين وهو يقول لا بد من نية الفرض لانه صوم فرض، فكان المؤثر ما قلنا، لان المقصود بالنية في الاصل التمييز ولا يراد بنية الجهة إلا التمييز بين تلك الجهة وغيرها، وإذا كان المشروع في هذا الزمان عينا ليس معه غيره، يصاب بمطلق الاسم فارتفعت الحاجة إلى الجهة للتمييز، وليس في صفة الفرضية ما ينفي هذا التعيين حتى يثبت به مساس الحاجة إلى نية الجهة للتمييز.
وقلنا في الضرورة إذا حج بنية النفل لا يقع حجة عن الفرض، لانها عبادة تتأدى بأركان معلومة بأسبابها كالصلاة، وهذا إشارة إلى وصف مؤثر وهو أن تتأدى هذه العبادة بمباشرة أركانها لا بوقتها، فصحة أداء هذه الاركان في الوقت فرضا لا ينفي صحة أدائها نفلا، وإذا بقي الاداء بصفة النفلية مشروعا من هذا الوجه فتعيينه جهة النفل بالنية صادق محله، فيجب اعتباره لا محالة بخلاف الصوم في الشهر.
وعللنا في الثيب الصغيرة أن الاب يزوجها لانها صغيرة ولا يزوج البكر البالغة إلا برضاها لانها بالغة، والخصم قال في الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها من غير رضاها لانها ثيب، وفي البكر البالغة يزوجها من غير رضاها لانها بكر فكان المؤثر ما قلنا، لان ثبوت ولاية الاستبداد بالعقد يكون على وجه النظر للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة ذلك بنفسه مع حاجته إلى مقصوده كالنفقة، والمؤثر في ذلك الصغر والبلوغ دون الثيابة والبكارة.
وكذلك في سائر المواضع إنما ظهر الاثر للصغر والبلوغ في الولاية لا للثيابة والبكارة،
يعني الولاية في المال والولاية على الذكر، فعرفنا أنا سلكنا طريق السلف،
في الاستدلال بالوصف (المؤثر).
فإن قيل: كيف يستقيم هذا والقياس لا يكون إلا بفرع وأصل، فإن المقايسة تقدير الشئ بالشئ، وبمجرد ذكر الوصف بدون الرد إلى الاصل لا يكون قياسا.
قلنا قد قال بعض مشايخنا: هذا النوع من التعليل عند ذكر الاصل يكون مقايسة وبدون ذكر الاصل يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي، بمنزلة ما قاله الخصم إن تعليل النص بعلة تتعدى إلى الفرع يكون مقايسة وبعلة لا تتعدى لا يكون مقايسة، لكن يكون بيان علة شرعية للحكم قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن نقول: هو قياس على كل حال، فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه، وربما لا يقع الاستغناء عنه فنذكره.
فمما يقع الاستغناء عن ذكره ما قلنا في إيداع الصبي لانه سلطه على ذلك فإنه بهذا الوصف يكون مقيسا على أصل واضح وهو أن من أباح لصبي طعاما فتناوله لم يضمن، لانه بالاباحة سلطه على تناوله، وتركنا ذكر هذا الاصل لوضوحه.
ومما يذكر فيه الاصل ما قال علماؤنا في طول الحرة إنه لا يمنع نكاح الامة، لان كل نكاح يصح من العبد بإذن المولى فهو صحيح من الحر كنكاح حرة، وهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن الرق ينصف الحل الذي يبتنى عليه عقد النكاح شرعا ولا يبدله بحل آخر، فيكون الرقيق في النصف الباقي بمنزلة الحر في الكل، لانه ذلك الحل بعينه ولكن في هذا المعنى بعض الغموض فتقع الحاجة إلى ذكر الاصل.
وكذلك عللنا في جواز نكاح الامة الكتابية للمسلم قلنا كل امرأة يجوز لمسلم نكاحها إذا كانت مسلمة يجوز له نكاحها إذا كانت كتابية كالحرة، وهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن تأثير الرق في تنصيف الحل، وما يبتنى على الحل الذي في جانب المرأة غير متعدد ليتحقق معنى التنصيف في عدد،
فإن المرأة لا تحل إلا لرجل واحد فيظهر حكم التنصيف في الاحوال، وهو
أن الامة من المحللات منفردة عن الحرة، ومن المحرمات مضمومة إلى الحرة فلا يتزوجها على حرة ويتزوجها إذا لم يكن تحته حرة، ثم النصف الباقي في جانب الامة هو الثابت في حق الحرة، فإذا كان بهذا الحل يتزوج الحرة مسلمة كانت أو كتابية عرفنا أنه يتزوج الامة مسلمة كانت أو كتابية، ولكن في هذا الكلام بعض الغموض فيذكر الاصل عند التعليل، فعرفنا أن جميع ما ذكرنا استدلال بالقياس في الحقيقة وأنه موافق لطريق السلف في تعليل الاحكام الشرعية.
فصل: الحكم حكم العلة التي نسميها قياسا أو علة ثابتة بالرأي تعدية حكم النص بها إلى فرع لا نص فيه عندنا.
وعلى قول الشافعي حكمها تعلق الحكم في المنصوص بها، فأما التعدية بها جائز وليس بواجب حتى يكون التعليل بدونها صحيحا.
وإنما يتبين هذا بفصلين سبق بيانهما: أحدهما تعليل الاصل بما لا يتعدى لمنع قياس غيره عليه، عندنا لا يكون صحيحا وعنده يصح.
والثاني التعدية بالتعليل إلى محل منصوص عليه لا يصح عندنا خلافا له.
ثم حجته في هذه المسألة اعتبار العلل الشرعية بالعلل العقلية كما أن الوجود هناك يتعلق بما هو علة له، فالوجوب في العلل الشرعية يتعلق بالعلة ويكون هو الحكم المطلوب بها دون التعدية، وإنما نعني بالوجوب وجوب العمل على وجه يبقى فيه احتمال الخطأ.
واعتبر العلة المستنبطة من النص بالعلة المنصوص عليها في الشرع، فكما أن الحكم هناك يتعلق بالعلة وتكون علة صحيحة بدون التعدية فكذلك هنا، ألا ترى أن الاسباب الموجبة
للحدود والكفارات جعلت سببا شرعا ليتعلق الحكم بها بالنص من غير تعدية إلى محل آخر، فكذلك العلل الشرعية يتعلق الحكم بها في المنصوص تعدى بها إلى محل آخر أو لم يتعد.
والجواب ما هو حجتنا.
أن نقول: ما ينازعنا فيه من العلة لا يكون حجة للحكم إلا بعد النص كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ: فإن لم تجده في الكتاب والسنة ؟
قال: اجتهد رأيي.
وما يكون عاملا بعد النص كان شرط عمله انعدام النص في المحل الذي يعمل فيه، فعرفنا أنه لا عمل له في محل منصوص، وإذا لم يجز أن يكون عاملا على وجه المعارضة بحكم النص بخلافه عرفنا أنه لا عمل له في موضع النص فلا يمكن أن يجعل حكمه تعلق حكم الشرع به في المنصوص، يوضحه أن بالاجماع هذه العلة لا يجوز أن يتغير بها حكم النص، ومعلوم أن التغيير دون الابطال، فإذا كان الحكم في المنصوص مضافا إلى النص قبل التعليل، فلو قلنا بالتعليل يصير مضافا إلى العلة كان إبطالا، ولا شك أنه يكون تغييرا، على معنى أن فيه إخراج سائر أوصاف النص من أن يكون الحكم مضافا إليها، وكما لا يجوز إخراج بعض المحال الذي تناوله النص من حكم النص بالتعليل لا يجوز إخراج بعض الاوصاف عن ذلك بالتعليل، يوضحه أن العلة ما يتغير بها حكم الحال، ومعلوم أن حكم النص لا يتغير بالعلة في نفسه، فعرفنا أنه يتغير بها الحال في محل آخر وهو المحل الذي تعدى إليه الحكم، فيثبت فيه بها بعد أن لم يكن ثابتا، وهذا لا يتحقق في علة لا توجب تعدية الحكم، فهذا تبين أن حكم العلة على الخصوص تعدية الحكم لا إيجاب الحكم بها ابتداء، بمنزلة الحوالة فإنها لما كانت مشتقة من التحويل كان حكمها الخاص تحول الدين الواجب بها من ذمة إلى
ذمة من غير أن تكون مؤثرة في إيجاب الدين بها ابتداء.
ومن فهم هذا سقط عنه مؤنة الحفظ في ثلاثة أرباع ما يستعمل الناس القياس فيه، لان جميع ما يتكلم الناس فيه على سبيل المقايسة أربعة أقسام: الموجب للحكم وصفته، وما هو شرط في العلة وصفته، والحكم الثابت في الشرع وصفته، والحكم المتفق على كونه مشروعا معلوما بصفته أهو مقصور على المحل الذي ورد فيه النص أم تعدى إلى غيره من المحال الذي يماثله بالتعليل.
وإنما يجوز استعمال القياس في القسم الرابع، فأما الاقسام الثلاثة فلا مدخل للقياس فيها في الاثبات ولا في النفي، لان الموجب ما جعله الشرع موجبا على ما بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها بل بجعل الشرع إياها موجبة، فلا مجال للرأي في معرفة ذلك وإنما طريق معرفته السماع ممن
ينزل عليه الوحي.
وصفة الشئ معتبر بأصله، وكما لا يكون موجبا بدون ركنه لا يكون موجبا بدون شرطه، ولا مدخل للرأي في معرفة شرطه ولا صفة شرطه، كما لا مدخل للرأي في أصله، وكذلك نصب الحكم ابتداء إلى الشرع، وكما ليس إلى العباد ولاية نصب الاسباب فليس إليهم ولاية نصب الاحكام، لانها مشروعة بطريق الابتلاء فأنى يهتدى بالرأي إليه، كيف يتحقق معنى الابتلاء فيما يستنبط بالرأي ابتداء، فعرفنا أن التعليل في هذه الاقسام لا يصادف محلها، والاسباب الشرعية لا تصح بدون المحل كالبيع المضاف إلى الحر والنكاح المضاف إلى محرمة، ولان حكم التعليل التعدية، ففي هذه المواضع الثلاثة لا تتحقق التعدية، فكان استعمال القياس في هذه المواضع الثلاثة بمنزلة الحوالة قبل وجوب الدين وذلك باطل لخلوه عن حكمه وهو التحويل.
وكما لا يجوز استعمال القياس لاثبات الحكم في هذه المواضع
لا يجوز للنفي، لان المنكر لذلك يدعي أنه غير مشروع وما ليس بمشروع كيف يمكن إثباته بدليل شرعي، وإن كان يدعي رفعه بعد الثبوت وهو نسخ وإثبات النسخ بالتعليل بالرأي لا يجوز، فعرفنا أن ما يصنعه بعض الناس من استعمال القياس في مثل هذه المواضع ليس بفقه وأنه يكون من قلة التأمل، يتبين ذلك عند النظر.
وأما بيان الموجب في مسائل.
منها (أن) الجنس بانفراده هل يحرم النسأ، فإن الكلام فيه بطريق القياس للاثبات أو للنفي باطل، وإنما طريق إثباته الرجوع إلى النص أو دلالته أو إشارته أو مقتضاه، لان الثابت بهذه الوجوه كالثابت بالنص والموجب للحكم لا يعرف إلا بالنص كالحكم الواجب، فإنه إذا وقع الاختلاف في الوتر هل هي بمنزلة الفريضة زيادة على الخمس كان الاشتغال بإثباته بطريق القياس خطأ، وإنما أثبت ذلك أبو حنيفة رحمه الله بالنص المروي فيه وهو قوله عليه السلام: إن الله تعالى زادكم صلاة، ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر فكذلك طريق
إثبات كون الجنس علة الرجوع إلى النص ودلالته، وهو أنه قد ثبت بالنص حرمة الفضل الخالي عن العوض إذا كان مشروطا في العقد، وباشتراط الاجل يتوهم فضل مال خال عن المقابلة باعتبار صفة الحلول في أحد الجانبين، ولم يسقط اعتباره بالنص لكونه حاصلا بصنع العباد، والشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما بني أمره على الاحتياط، فكما أن حقيقة الفضل تكون ربا فكذلك شبهة الفضل، وللجنسية أثر في إظهار ذلك، وكما أن القياس لا يكون طريقا للاثبات هنا لا يكون طريقا للنفي، لان من ينفي إنما يتمسك بالعدم الذي هو أصل، فعليه الاشتغال بإفساد دليل خصمه، لانه متى ثبت أن ما ادعاه
الخصم دليل صحيح لا يبقى له حق التمسك بعدم الدليل، فأما الاشتغال بالقياس ليثبت العدم به يكون ظاهر الفساد.
ونظيره الاختلاف في أن السفر هل يكون مسقطا شطر الصلاة فإنه لا مدخل للقياس هنا في الاثبات ولا في النفي، وإنما يعرف ذلك بالنص ودلالته وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ولا معنى للتصدق هنا سوى الاسقاط، ولا مرد لما أسقطه الله عن عباده بوجه.
وكذلك الخلاف في أن استتار القدم بالخف هل يكون مانعا من سراية الحدث إلى القدم لا مدخل للقياس فيه في النفي ولا في الاثبات، وإنما يثبت ذلك بالنص ودلالته وهو قوله عليه السلام: إني أدخلتهما وهما طاهرتان ففي هذا إشارة إلى أن الحدث ما سرى إلى القدمين لاستتارهما بالخف.
وكذلك الخلاف في أن مجرد الاسلام بدون الاحراز بالدار هل يوجب تقوم النفس والمال أم لا، وأن خبر الواحد هل يكون موجبا للعلم، وأن القياس هل يكون موجبا للعمل به ؟ هذا كله لا مدخل للتعليل بالرأي في إثباته ولا في نفيه.
وأما بيان صفته فنحو الاختلاف الواقع في النصاب أنه موجب للزكاة بصفة النماء أم بدون هذا الوصف موجب، وفي اليمين أنها موجبة للكفارة بصفة أنها مقصودة أم بصفة أنها معقودة، وفي القتل بغير حق أنه موجب
للكفارة بصفة أنه حرام أم اشتماله على الوصفين الحظر والاباحة من وجهين، وكفارة الفطر أنها واجبة بفعل موصوف بأنه جماع أو هو فطر بجناية متكاملة ؟ فإن هذا كله مما لا مدخل للرأي في إثبات الوصف المطلوب به ولا في نفيه.
وبيان الشرط فنحو اختلاف العلماء في اشتراط الشهود في النكاح للحل، واختلافهم في اشتراط التسمية في الذكاة للحل فإنه لا مدخل للرأي في معرفة
ما هو شرط في السبب شرعا لا في الاثبات ولا في النفي، كما لا مدخل له في أصل السبب بأن بالشرط يرتفع الحكم قبل وجوده، فإذا لم يكن للرأي مدخل فيما يثبته عرفنا أنه لا مدخل للرأي فيما يرفعه أو يعدمه.
وكذلك الخلاف في أن البلوغ عن عقل هل يكون شرطا لوجوب حقوق الله تعالى المالية نحو الزكوات والكفارات، ولايجاب ما هو عقوبة مالية نحو حرمان الميراث بالقتل، أو دفع الاختلاف في أن البلوغ عن عقل هل يكون شرطا لصحة الاداء فيما لا يحتمل النسخ والتبديل، فإن هذا لا مدخل للقياس فيه في الاثبات والنفي.
وكذلك في أن بلوغ الدعوة هل تكون شرطا لاهدار النفوس والاموال بسبب الكفر، فإن هذا مما لا يمكن معرفته بالقياس، والتعليل بالرأي فيه للاثبات أو النفي يكون ساقطا.
وكذلك الاختلاف في اشتراط الولي في النكاح، فأما في ثبوت الولاية للمرأة على نفسها يجوز استعمال القياس، لان المعنى الذي به تثبت الولاية للمرء على نفسه معقول وهو متفق عليه في الاصل وهو الرجل، فيستقيم تعدية الحكم به إلى المرأة.
فإن قيل: فقد اختلفنا في التقابض في المجلس أنه هل يشترط في بيع الطعام بالطعام ؟ وقد تكلمتم بالقياس، وإليه أشار محمد فقال: من قبل أنه حاضر ليس له أجل.
قلنا: لان هناك قد وجد أصل كان هذا الحكم، وهو بقاء العقد بعد الافتراق عن المجلس من غير قبض فيه ثابت بالاتفاق، وهو بيع الطعام وسائر الامتعة بالدراهم فأمكن تعليل ذلك الاصل لتعدية الحكم به إلى الفرع، والخصم وجد أصلا للحكم الذي ادعاه وهو فساد
العقد بعد الافتراق من غير قبض كما في الصرف استقام تعليله أيضا لتعدية الحكم به إلى الفرع، ومثله لا يوجد في اشتراط التسمية في الذكاة، فإن الخصم
لا يجد فيه أصلا يسقط فيه اشتراط التسمية لحل الذبيحة، فإن أصله الناسي، ونحن لا نقول هناك سقط شرط التسمية، ولكن نجعل الناسي كالمسمى حكما بدلالة النص، كما يجعل الناسي كالمباشر لركن الصوم وهو الامساك حكما بالنص، وهذا معلول عن القياس وتعليل مثله لتعدية الحكم لا يجوز.
وكذلك في النكاح فإنه لا يجد أصلا يكون فيه اتفاق على صحة النكاح وثبوت الحل به بغير شهود حتى لعلل ذلك الاصل فيتعدى الحكم فيه إلى هذا الفرع.
فإن قيل: لا كذلك، فإن النكاح عقد معاملة حتى يصح من الكافر والمسلم، وقد وجدنا أصلا في عقود المعاملات يسقط اشتراط الشهود لصحته شرعا وهو البيع وإن كان يترتب عليه حل الاستمتاع، فنعلل ذلك الاصل لتعدية الحكم به إلى الفرع.
قلنا: من حيث إن النكاح معاملة أمد لا يشترط فيه الشهود، فخصم هذا المعلل يقول بموجب علته، وإنما يدعي شرط الشهود فيه اعتبار أنه عقد مشروع للتناسل وأنه يرد على محل له خطر، وهو مصون عن الابتذال، فلاظهار خطره يختص شرط الشهود، ولا نجد أصلا في المشروعات بهذه الصفة لتعليل ذلك الاصل فيعدى الحكم به إلى الفرع.
وأما بيان صفته فنحو الاختلاف في صفة العدالة في شهود النكاح وفي صفة الذكورة، وفي صفة الموالاة والترتيب والنية في الوضوء، فإن الوضوء شرط الصلاة، فكما لا مدخل للرأي في إثبات أصل الشرط به فكذلك في إثبات الصفة فيما هو شرط.
وأما بيان الحكم فنحو الاختلاف في الركعة الواحدة، أهي صلاة مشروعة أم لا ؟ وفي القراءة المشروعة في الاخريين بالاتفاق، أهي فريضة
أم لا، وفي القراءة المفروضة في الاوليين، أتتعين الفاتحة ركنا أم لا ؟ فإنه لا مدخل للرأي في إثبات هذا الحكم، وفي المسح بالخف والمسح على الجرموق وعلى العمامة أهو جائز أم لا ؟ وأمثلة هذا في الكتب تكثر، فإن كل موضع يكون الكلام فيه في الحكم ابتداء أهو ثابت شرعا أم لا، لا مدخل للرأي في ذلك حتى يشتغل فيه بالتعليل للاثبات أو للنفي.
وأما بيان صفته فنحو الاختلاف في صفة صدقة الفطر والاضحية والوتر، والاختلاف في صفة الابانة بالطلاق عند القصد إليه من غير جعل، وفي صفة الملك الثابت بالنكاح وهو الذي يقابله البدل أهو مشترك بين الزوجين أم يختص الرجل به ؟ وفي صفة ملك النكاح أنه في حكم ملك المنفعة أو في حكم ملك العين، وفي صفة الطلاق المشروع أنه مباح بأصل الوضع أو مكروه، والاباحة صفة عارضة فيه للحاجة، وفي صفة البيع المشروع حال بقاء المتعاقدين في المجلس (أنه لازم بنفس العقد أو متراخ إلى قطع المجلس)، وفي صفة الملك الثابت بعقد الرهن أنه ملك اليد من جنس ما يثبت به حقيقة الاستيفاء أو ملك المطالبة بالبيع في الدين من جنس ما يثبت بالكفالة، وأمثلة هذه الفصول في الكتب أكثر من أن تحصى، ذكرنا من كل قسم طرفا لبيان الطريق للمتأمل فيه.
وأما بيان القسم الرابع: فنحو الاختلاف في المسح بالرأس أنه هل يسن تثليثه فإنه يوجد في الطهارة ما هو مسح ولا يكون التكرار فيه مسنونا فيمكن تعليل ذلك المتفق عليه لتعدية الحكم به إلى الفرع المختلف فيه، ويوجد في أعضاء الطهارة ما يكون التكرار فيه مسنونا بالاتفاق، فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام بعد
ذلك يقع في الترجيح.
وكذلك إذا وقع الاختلاف في اشتراط تعيين النية في
الصوم، فإن هناك أصلا متفقا عليه يتأدى فيه الصوم بمطلق النية، وهو النفل الذي هو عين مشروعا في وقته فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع، وهناك أصل في الصوم الذي هو فرض لا يتأدى إلا بتعيين النية، وهو صوم القضاء فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام في الترجيح بعد ذلك.
فإن قيل: فقد تكلمتم بالقياس في العذر بصوم يوم النحر وكون الصوم فيه مشروعا أم لا حكم لا مدخل للرأي فيه ثم اشتغلتم بالمقايسة فيه.
قلنا: لانا وجدنا أصلا متفقا عليه في كون الصوم مشروعا فيه وهو سائر الايام فأمكن تعدية الحكم بتعليله إلى الفرع، ثم يبقى وراء ذلك الكلام في أن النهي الذي جاء لمعنى في صفة هذا اليوم وهو أنه يوم عيد عمله يكون في إفساد المشروع مع بقائه في الاصل مشروعا أو في رفع المشروع وانتساخه، وهذا لا نثبته بالرأي وإنما نثبته بدليل النص، وهو الرجوع إلى موجب النهي أنه الانتهاء على وجه يبقى للمنتهي اختيار فيه كما قررنا.
وقد تبين بما ذكرنا أن المجيب متى اشتغل بالتعليل بالرأي فالذي يحق على السائل أن ينظر أولا أن المتنازع فيه هل هو محل له وأن ما نذكره من العلة هل يتعدى الحكم به إلى الفرع، فإن لم يكن بهذه الصفة لا يشتغل بالاعتراض على علته ولكن يتبين له بطريق الفقه أن هذا التعليل في غير موضعه، وأنه مما لا يصلح أن يكون حجة حتى يتحول المجيب إلى شئ آخر أو يبين بطريق الفقه أنه تعليل صحيح في محله موافق لطريق السلف في تعليلاتهم ليكون ما يجري بعد ذلك بينهما على طريق الفقه.
فصل: في بيان القياس والاستحسان
قال رضي الله عنه: اعلم بأن القسم الرابع الذي بيناه في الفصل المتقدم يشتمل على هذين الوجهين، وهو القياس والاستحسان عندنا، وقد طعن بعض الفقهاء في تصنيف له على عبارة علمائنا في الكتب: إلا أنا تركنا القياس واستحسنا، وقال: القائلون بالاستحسان يتركون العمل بالقياس الذي هو حجة شرعية
ويزعمون أنهم يستحسنون ذلك، وكيف يستحسن ترك الحجة والعمل بما ليس بحجة لاتباع هوى أو شهوة نفس ؟ فإن كانوا يريدون ترك القياس الذي هو حجة فالحجة الشرعية هو حق وماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن كانوا يريدون ترك القياس الباطل شرعا فالباطل مما لا يشتغل بذكره.
وقد ذكروا في كتبهم في بعض المواضع أنا نأخذ بالقياس، فإن كان المراد هذا فكيف يجوزون الاخذ بالباطل.
وذكر من هذا الجنس ما يكون دليل قلة الحياء وقلة الورع وكثرة التهور لقائله.
فنقول وبالله التوفيق: الاستحسان لغة: وجود الشئ حسنا، يقول الرجل: استحسنت كذا: أي اعتقدته حسنا على ضد الاستقباح، أو معناه: طلب الاحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال تعالى: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) وهو في لسان الفقهاء نوعان: العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولا إلى آرائنا نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى: (متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي.
وكذلك قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ولا يظن بأحد من الفقهاء أنه يخالف هذا النوع من الاستحسان.
والنوع الآخر هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل
إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الاصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، فإن العمل به هو الواجب، فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل التأمل على معنى أنه يمال بالحكم عن ذلك الظاهر لكونه مستحسنا لقوة دليله، وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد، فإن أهل النحو يقولون: هذا نصب على التفسير، وهذا نصب على المصدر، وهذا نصب على الظرف، وهذا نصب على التعجب،
وما وضعوا هذه العبارات إلا للتمييز بين الادوات الناصبة.
وأهل العروض يقولون: هذا من البحر الطويل، وهذا من البحر المتقارب، وهذا من البحر المديد، فكذلك استعمال علمائنا عبارة القياس والاستحسان للتمييز بين الدليلين المتعارضين، وتخصيص أحدهما بالاستحسان لكون العمل به مستحسنا، ولكونه مائلا عن سنن القياس الظاهر، فكان هذا الاسم مستعارا لوجود معنى الاسم فيه، بمنزلة الصلاة فإنها اسم للدعاء ثم أطلقت على العبادة المشتملة على الاركان من الافعال والاقوال لما فيها من الدعاء عادة.
ثم استحسان العمل بأقوى الدليلين لا يكون من اتباع الهوى وشهوة النفس في شئ.
وقد قال الشافعي في نظائر هذا: أستحب ذلك.
وأي فرق بين من يقول أستحسن كذا، وبين من يقول أستحبه ؟ بل الاستحسان أفصح اللغتين، وأقرب إلى موافقة عبارة الشرع في هذا المراد.
وظن بعض المتأخرين من أصحابنا أن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس في موضع الاستحسان، وشبه ذلك بالطرد مع المؤثر، فإن العمل بالمؤثر أولى وإن كان العمل بالطرد جائزا.
قال رضي الله عنه:
وهذا وهم عندي فإن اللفظ المذكور في الكتب في أكثر المسائل: إلا أنا تركنا هذا القياس، والمتروك لا يجوز العمل به، وتارة يقول إلا أني أستقبح ذلك، وما يجوز العمل به من الدليل شرعا فاستقباحه يكون كفرا، فعرفنا أن الصحيح ترك القياس أصلا في الموضع الذي نأخذ بالاستحسان، وبه يتبين أن العمل بالاستحسان لا يكون مع قيام المعارضة ولكن باعتبار سقوط الاضعف بالاقوى أصلا.
وقد قال في كتاب السرقة: إذا دخل جماعة البيت وجمعوا المتاع فحملوه على ظهر أحدهم فأخرجه وخرجوا معه: في القياس القطع على الحمال خاصة، وفي الاستحسان يقطعون جميعا.
وقال في كتاب الحدود: إذا اختلف شهود الزنا في والزاويتين في بيت واحد: في القياس لا يحد المشهود عليه، وفي الاستحسان يقام الحد.
ومعلوم أن الحد يسقط بالشبهة وأدنى درجات المعارض ايراث الشبهة، فكيف يستحسن إقامة الحد في موضع الشبهة.
وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله:
تصحح ردة الصبي استحسانا.
ومعلوم أن عند قيام دليل المعارضة يرجح الموجب للاسلام وإن كان هو أضعف كالمولود بين كافر ومسلمة، وكيف يستحسن الحكم بالردة مع بقاء دليل موجب الاسلام، فعرفنا أن القياس متروك أصلا في الموضع الذي يعمل فيه بالاستحسان، وإنما سميناهما تعارض الدليلين باعتبار أصل الوضع في كل واحد من النوعين، لا أن بينهما معارضة في موضع واحد.
والدليل على أن المراد هذا ما قال في كتاب الطلاق: إذا قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق فقالت: قد حضت فكذبها الزوج فإنها لا تصدق في القياس باعتبار الظاهر وهو أن الحيض شرط الطلاق كدخولها الدار وكلامها زيدا، وفي الاستحسان تطلق، لان الحيض شئ
في باطنها لا يقف عليه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه بمنزلة المحبة والبغض.
قال: وقد يدخل في هذا الاستحسان بعض القياس يعني به أن في سائر الاحكام المتعلقة بالحيض قبلنا قولها نحو حرمة الوطئ وانقضاء العدة، فاعتبار هذا الحكم بسائر الاحكام نوع قياس، ثم ترك القياس الاول أصلا لقوة دليل الاستحسان، وهو أنها مأمورة بالاخبار عما في رحمها منهية عن الكتمان، قال تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) ومن ضرورة النهي عن الكتمان كونها أمينة في الاظهار، وإليه أشار أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: من الامانة أن تؤتمن المرأة على ما في رحمها.
فصار ذلك القياس متروكا باعتراض هذا الدليل القوي الموجب للعمل به.
فالحاصل: أن ترك القياس يكون بالنص تارة، وبالاجماع أخرى، وبالضرورة أخرى.
فأما تركه بالنص فهو فيما أشار إليه أبو حنيفة رحمه الله في أكل الناسي للصوم: لولا قول الناس لقلت يقضي.
يعني به رواية الاثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو نص يجب العمل به بعد ثبوته واعتقاد البطلان في كل قياس يخالفه.
وهذا اللفظ نظير ما قال عمر رضي الله عنه في قصة الجنين: لقد كدنا أن نعمل برأينا فيما فيه أثر.
وكذلك القياس يأبى جواز السلم باعتبار أن المعقود عليه معدوم عند العقد، تركناه بالنص وهو الرخصة الثابتة بقوله عليه السلام: (ورخص في السلم) وأما ترك القياس بدليل الاجماع فنحو الاستصناع فيما فيه للناس تعامل، فإن القياس يأبى جوازه، تركنا القياس للاجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا (وهذا) لان القياس فيه
احتمال الخطأ والغلط، فبالنص أو الاجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه، فيكون واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه.
وأما الترك لاجل الضرورة فنحو الحكم بطهارة الآبار والحياض بعدما نجست، والحكم بطهارة الثوب النجس إذا غسل في الاجانات، فإن القياس يأبى جوازه، لان ما يرد عليه النجاسة يتنجس بملاقاته، تركناه للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس، فإن الحرج مدفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ فيه بالقياس فكان متروكا بالنص.
وكذلك جواز عقد الاجارة فإنه ثابت بخلاف القياس لحاجة الناس إلى ذلك، فإن العقد على المنافع بعد وجودها لا يتحقق لانها لا تبقى زمانين فلا بد من إقامة العين المنتفع بها مقام الاجارة في حكم جواز العقد لحاجة الناس إلى ذلك.
ثم كل واحد منهما نوعان في الحاصل: فأحد نوعي القياس ما ضعف أثره وهو ظاهر جلي، والنوع الآخر منه ما ظهر فساده واستتر وجه صحته وأثره.
وأحد نوعي الاستحسان ما قوي أثره وإن كان خفيا، والثاني ما ظهر أثره وخفي وجه الفساد فيه.
وإنما يكون الترجيح بقوة الاثر لا بالظهور ولا بالخفاء، لما بينا أن العلة الموجبة للعمل بها شرعا ما تكون مؤثرة، وضعيف الاثر يكون ساقطا في مقابلة قوي الاثر ظاهرا كان أو خفيا، بمنزلة الدنيا مع العقبى.
فالدنيا ظاهرة والعقبى باطنة، ثم ترجح العقبى حتى وجب الاشتغال بطلبها والاعراض عن طلب الدنيا لقوة الاثر من حيث البقاء
والخلود والصفاء، فكذلك القلب مع النفس والعقل مع البصر.
وبيان ما يسقط اعتباره من القياس لقوة الاثر الاستحسان الذي هو القياس المستحسن في سؤر سباع الطير، فالقياس فيه النجاسة اعتبارا بسؤر سباع الوحش بعلة
حرمة التناول، وفي الاستحسان لا يكون نجسا لان السباع غير محرم الانتفاع بها، فعرفنا أن عينها ليست بنجسة، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حرمة الاكل، لانها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها ولعابها يتجلب من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير، لانها تأخذ الماء بمنقارها ثم تبتلعه ومنقارها عظم جاف، والعظم لا يكون نجسا من الميت فكيف يكون نجسا من الحي.
ثم تأيد هذا بالعلة المنصوص عليها في الهرة، فإن معنى البلوى يتحقق في سؤر سباع الطير، لانها تنقض من الهواء ولا يمكن صون الاواني عنها خصوصا في الصحارى، وبهذا يتبين أن من ادعى أن القول بالاستحسان قول بتخصيص العلة فقد أخطأ، لان بما ذكرنا تبين أن المعنى الموجب لنجاسة سؤر سباع الوحش الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وقد انعدم ذلك في سباع الطير فانعدم الحكم لانعدام العلة وذلك لا يكون من تخصيص العلة في شئ، وعلى اعتبار الصورة يتراءى ذلك ولكن يتبين عند التأمل انعدام العلة أيضا، لان العلة وجوب التحرز عن الرطوبة النجسة التي يمكن التحرز عنها من غير حرج، وقد صار هذا معلوما بالتنصيص على هذا التعليل في الهرة ففي كل موضع ينعدم بعض أوصاف العلة كان انعدام الحكم لانعدام العلة فلا يكون تخصيصا وبيان الاستحسان الذي يظهر أثره ويخفى فساده مع القياس الذي يستتر أثره ويكون قويا في نفسه حتى يؤخذ فيه بالقياس ويترك الاستحسان فيما يقول في كتاب الصلاة: إذا قرأ المصلي سورة في آخرها سجدة فركع بها في القياس تجزيه، وفي الاستحسان لا تجزيه عن السجود، وبالقياس نأخذ، فوجه الاستحسان أن الركوع غير السجود وضعا، ألا ترى أن الركوع في الصلاة
لا ينوب عن سجود الصلاة فلا ينوب عن سجدة التلاوة بطريق الاولى، لان القرب بين ركوع الصلاة وسجودها أظهر من حيث إن كل واحد منهما موجب التحريمة، ولو تلا خارج الصلاة فركع لها لم يجز عن السجدة ففي الصلاة أولى، لان الركوع هنا مستحق لجهة أخرى وهناك لا، وفي القياس قال: الركوع والسجود يتشابهان، قال تعالى: (وخر راكعا) : أي ساجدا، ولكن هذا من حيث الظاهر مجاز محض، ووجه الاستحسان من حيث الظاهر اعتبار شبه صحيح ولكن قوة الاثر للقياس مستتر ووجه الفساد في الاستحسان خفي.
وبيان ذلك أنه ليس المقصود من السجدة عند التلاوة عين السجدة، ولهذا لا تكون السجدة الواحدة قربة مقصودة بنفسها حتى لا تلزم بالنذر إنما المقصود إظهار التواضع وإظهار المخالفة للذين امتنعوا من السجود استكبارا منهم، كما أخبر الله عنهم في مواضع السجدة.
قلنا: ومعنى التواضع يحصل بالركوع ولكن شرطه أن يكون بطريق هو عبادة وهذا يوجد في الصلاة، لان الركوع فيها عبادة كالسجود ولا يوجد خارج الصلاة، ولقوة الاثر من هذا الوجه أخذنا بالقياس وإن كان مستترا وسقط اعتبار الجانب الآخر في مقابلته.
وكذلك قال في البيوع: إذا وقع الاختلاف بين المسلم إليه ورب السلم في ذرعان المسلم فيه في القياس يتحالفان، وبالقياس نأخذ، وفي الاستحسان القول قول المسلم إليه.
ووجه الاستحسان أن المسلم فيه مبيع فالاختلاف في ذرعانه لا يكون اختلافا في أصله بل في صفته من حيث الطول والسعة، وذلك لا يوجب التحالف كالاختلاف في ذرعان الثوب المبيع بعينه.
ووجه القياس أنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم وذلك يوجب التحالف، ثم أثر القياس مستتر ولكنه قوي من حيث إن عند
السلم إنما يعقد بالاوصاف المذكورة لا بالاشارة إلى العين، فكان الموصوف بأنه خمس في سبع غير الموصوف بأنه أربع في ستة، فبهذا يتبين أن الاختلاف
هنا في أصل المستحق بالعقد فأخذنا بالقياس لهذا.
وقال في الرهن: إذا ادعى رجلان كل واحد منهما عينا في يد رجل أنه مرهون عنده بدين له عليه وأقاما البينة، ففي الاستحسان يقضي بأنه مرهون عندهما، بمنزلة ما لو رهن عينا من رجلين، وهو قياس البيع في ذلك، وفي القياس تبطل البينتان، لانه تعذر القضاء بالرهن لكل واحد منهما في جميعه فإن المحل يضيق عن ذلك، وفي نصفه لان الشيوع يمنع صحة الرهن، وأخذنا بالقياس لقوة أثره المستتر، وهو أن كل واحد منهما هنا إنما يثبت الحق لنفسه بتسمية على حدة، وكل واحد منهما غير راض بمزاحمة الآخر معه في ملك اليد المستفاد بعقد الرهن، بخلاف الرهن من رجلين فهناك العقد واحد فيمكن إثبات موجب العقد به متحدا في المحل وذلك لا يمكن هنا، وهذا النوع يعز وجوده في الكتب لا يوجد إلا قليلا، فأما النوع المتقدم فهو في الكتب أكثر من أن يحصى.
ثم فرق ما بين الاستحسان الذي يكون بالنص أو الاجماع، وبين ما يكون بالقياس الخفي المستحسن أن حكم هذا النوع يتعدى وحكم النوع الآخر لا يتعدى، لما بينا أن حكم القياس الشرعي التعدية، فهذا الخفي وإن اختص باسم الاستحسان لمعنى فهو لا يخرج من أن يكون قياسا شرعيا فيكون حكمه التعدية، والاول معدول به عن القياس بالنص وهو لا يحتمل التعدية كما بينا.
وبيانه فيما إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن والمبيع غير مقبوض، في القياس القول قول المشتري، لان البائع يدعي عليه زيادة في حقه وهو
الثمن، والمشتري منكر واليمين بالشرع في جانب المنكر، والمشتري لا يدعي على البائع شيئا في الظاهر إذ المبيع صار مملوكا له بالعقد، ولكن في الاستحسان يتخالفان، لان المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع إليه عند إحضار أقل الثمنين والبائع منكر لذلك، والبيع كما يوجب استحقاق الملك على البائع
يوجب استحقاق اليد عليه عند وصول الثمن إليه، ثم هذا الاستحسان لكونه قياسا خفيا يتعدى حكمه إلى الاجازة وإلى النكاح في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإلى ما لو وقع الاختلاف بين الورثة بعد موت المتبايعين، وإلى ما بعد هلاك السلعة إذا أخلف بدلا بأن قتل العبد المبيع قبل القبض ولو كان الاختلاف في الثمن بينهما بعد قبض المبيع، فإن حكم التخالف عند قيام السلعة فيه يثبت بالنص بخلاف القياس فلا يحتمل التعدية، حتى إذا كان بعد هلاك السلعة لا يجري التخالف سواء أخلف بدلا أو لم يخلف.
وفي الاجازة بعد استيفاء المعقود عليه لا يجري التخالف، وإن كان الاختلاف بين الورثة بعد قبض السلعة لا يجري التخالف.
وقد يكون القياس الذي في مقابلة الاستحسان الذي قلنا أصله مستحسن ثابت بالاثر نحو ما قال في الصلاة: وإذا نام في صلاته فاحتلم: في القياس يغتسل ويبني كما إذا سبقه الحدث، وذلك مستحسن بالاثر، وفي الاستحسان لا يبني.
وفي هذا النوع المأخوذ به هو الاستحسان على كل حال، لانه في الحقيقة رجوع إلى القياس الاصلي ببيان يظهر به أن هذا ليس في معنى المعدول به من القياس الاصلي بالاثر من كل وجه، فلو ثبت الحكم فيه كان بطريق التعدية، والمعدول به عن القياس بالاثر لا يحتمل التعدية، وذلك البيان أن الحدث الصغرى لا يحوجه إلى كشف العورة ولا إلى عمل كثير، وتكثر البلوى فيه من الصلاة،
بخلاف الحدث الكبرى، فإذا لم يكن في معناه من كل ما له كان إثبات الحكم فيه بطريق التعدية لا بالنص بعينه وذلك لا وجه له.
فتبين بجميع ما ذكرنا أن القول بالاستحسان لا يكون تخصيص العلة في شئ، ولكن في اختبار هذة العبارة اتباع الكتاب والسنة والعلماء من السلف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وكثيرا ما كان يستعمل ابن مسعود هذه العبارة، ومالك بن أنس في كتابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع.
وقال الشافعي رحمه الله: أستحسن في المتعة ثلاثين درهما.
فعرفنا أنه لا طعن في هذه العبارة، ومن حيث المعنى
هو قول بانعدام الحكم عند انعدام العلة، وأحد لا يخالف هذا، فإنا إذا جوزنا دخول الحمام بأجر بطريق الاستحسان فإنما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس لانعدام علة الفساد، وهو أن فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة بل لانها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم، والتسلم وهذا لا يوجد هنا وفي نظائره، فكان انعدام الحكم لانعدام العلة لا أن يكون بطريق تخصيص العلة.
فصل: في بيان فساد القول بجواز التخصيص في العلل الشرعية قال رضي الله عنه: زعم أهل الطرد أن الذي يقولون بالعلل المؤثرة ويجعلون التأثير مصححا للعلل الشرعية لا يجدون بدا من القول بتخصيص العلل الشرعية، وهو غلط عظيم كما نبينه.
وزعم بعض أصحابنا أن التخصيص في العلل الشرعية جائز وأنه غير مخالف لطريق السلف ولا لمذهب أهل السنة، وذلك خطأ عظيم من قائله، فإن مذهب من هو مرضي من سلفنا أنه لا يجوز التخصيص في العلل الشرعية، ومن جوز ذلك فهو مخالف لاهل السنة،
مائل إلى أقاويل المعتزلة في أصولهم.
وصورة التخصيص أن المعلل إذا أورد عليه فصل يكون الجواب فيه بخلاف ما يروم إثباته بعلته، يقول موجب علتي كذا إلا أنه ظهر مانع فصار مخصوصا باعتبار ذلك المانع، بمنزلة العام الذي يخص منه بعض ما يتناوله بالدليل الموجب للتخصيص.
ثم من جوز ذلك قال: التخصيص غير المناقضة لغة وشرعا وفقها وإجماعا.
أما اللغة فلان النقض إبطال فعل قد سبق بفعل نشأه كنقض البنيان.
والتخصيص بيان أن المخصوص لم يدخل في الجملة فكيف يكون نقضا ؟ ألا ترى أن ضد النقض البناء والتأليف، وضد الخصوص العموم.
ومن حيث السنة التخصيص جائز في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والتناقض لا يجوز فيهما بحال.
ومن حيث الاجماع فالقياس الشرعي يترك العمل به في بعض المواضع بالنص أو الاجماع أو الضرورة، وذلك يكون تخصيصا لا مناقضة، ولهذا بقي ذلك القياس موجبا للعمل في غير ذلك الموضع،
والقياس المنتقض فاسد لا يجوز العمل به في موضع.
ومن حيث المعقول إن المعلل متى ذكر وصفا صالحا وادعى أن الحكم متعلق بذلك الوصف فيورد عليه فصل يوجد فيه ذلك الوصف ويكون الحكم بخلافه، فإنه يحتمل أن يكون ذلك لفساد في أصل علته، ويحتمل أن يكون ذلك لمانع منع ثبوت الحكم، ألا ترى أن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب النامي، ثم يمتنع وجوب الزكاة بعد وجوده لمانع وهو انعدام حصول النماء بمضي الحول، ولم يكن ذلك دليل فساد السبب، والبيع بشرط الخيار يمنع ثبوت الملك به لمانع وهو الخيار المشروط لا لفساد أصل السبب وهو البيع.
فأما إذا قال هذا الموضع صار مخصوصا من علتي لمانع فقد ادعى شيئا محتملا فيكون مطالبا
بالحجة، فإن أبرز مانعا صالحا فقد أثبت ما ادعاه بالحجة فيكون ذلك مقبولا منه وإلا فقد سقط احتجاجه، لان المحتمل لا يكون حجة، وبه فارق المدعي التخصيص في النص، فإنه لا يطالب بإقامة الدليل على ما يدعي أنه صار مخصوصا مما استدل به من عموم الكتاب والسنة، لانه ليس فيما استدل به احتمال الفساد، فكان جهة التخصيص متعينا فيه بالاجماع، وهنا في علته احتمال الفساد، فما لم يتبين دليل الخصوص فيما ادعى أنه مخصوص من علة لا ينتفي عنه معنى الفساد، فلهذا لا يقبل منه ما لم يتبين المانع.
ثم جعل القائل الموانع خمسة أقسام: ما يمنع أصل العلة، وما يمنع تمام العلة، وما يمنع ابتداء الحكم، وما يمنع تمام الحكم، وما يمنع لزوم الحكم، وذلك يتبين كله حسا وحكما، فمن حيث الحس يتبين هذا كله في الرمي، فإن انقطاع الوتر أو انكسار فوق السهم يمنع أصل الفعل الذي هو رمي بعد تمام قصد الرامي إلى مباشرته، وإصابة السهم حائطا أو شجرة ترده عن سننه يمنع تمام العلة بالوصول إلى المرمى، ودفع المرمي إليه عن نفسه بترس يجعله أمامه يمنع ابتداء الحكم الذي يكون الرمي لاجله بعد تمام العلة بالوصول إلى المقصد وذلك الجرح والقتل، ومداواته الجراحة بعدما أصابه حتى اندمل وبرأ يمنع تمام الحكم، وإذا صار به صاحب فراش ثم تطاول حتى أمن الموت منه يمنع
لزوم الحكم، بمنزلة صاحب الفالج إذا تطاول ما به وامن الموت منه كان بمنزلة الصحيح في تصرفاته.
وفي الحكميات اضافة البيع الحر يمنع انعقاد اصل العلة، واضافة الى مال الغير يمنع انعقاد تمام العلة في حق المالك حتى يتعين جهة البطلان فيه بموته، واشتراط الخيار من المالك لنفسه في البيع يمنع ابتداء الحكم، وثبوت خيار الرؤية للمشترى يمنع الحكم حتى لا تتم
الصفقة معه، وثبوت خيار العيب يمنع لزوم الحكم حتى يتمكن من رده بعد تمام الصفقة بالنقض.
والحجة لعلمائنا في ابطال القول بتخصيص العلة الاستدلال بالكتاب، والمعقول، والبيان الذى لا يمكن انكاره.
اما الكتاب فقوله تعالى: (قل الذكرين حرم ام الانثيين، اما اشتملت عليه ارحام الانثيين نبئونى بعلم ان كنتم صادقين) ففيه مطالبة الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة على وجه لا مدفع لهم فصاروا محجوجين به.
وذلك الوجه انهم إذا بينوا احد هذه المعاني ان الحرمة لاجله انتقض عليهم باقرار هم بالحل في الموضع الاخر مع ذلك المعنى فيه، ولو كان التخصيص في علل الاحكام الشرعية جائزا ما كانوا محجوجين، فان احدا لا يعجز من ان يقول امتنع ثبوت حكم الحرمة في ذلك الموضع لمانع، وقد كانوا عقلاء يعتقدون الحل في الموضع الاخر لشبهة أو معنى تصورهم عندهم.
وقوله تعالى: (نبئونى بعلم) اشارة الى ان المصير الى تخصيص العلل الشرعية ليس من العلم في شئ فيكون جهلا.
واما المعقول فلان العلل الشرعية حكمها التعدية كما قررنا، وبدون التعدية لا تكون صحيحة اصلا، لانها خالية عن موجبها، وإذا جاز قيام المانع في بعض المواضع الذى يتعدى الحكم إليه بهذه العلة جاز قيامه في جميع المواضع فيؤدى الى القول بانها علة صحيحة من غير ان يتعدى الحكم بها الى شئ من الفروع، وقد اثبتنا فساد هذا القول بالدليل.
ثم ان كان تعدية الحكم بها الى فرع
دليل صحتها فانعدام تعدية الحكم بها الى فرع اخر توجد فيه تلك العلة دليل فسادها، ومع مساواة دليل الصحة والفساد لا تثبت الحجة الشرعية موجبة
للعمل يقرره ان المانع الذى يدعى في الموضع المخصوص لابد ان يكون ثابتا بمثل ما ثبتت به العلة الموجبة للحكم، لانه إذا كان دونه لا يصلح دافعا له ولا مانعا لحكمه، وإذا كان مثلا له فذلك المانع يمكن تعليله بعلة توجب تعدية حكم النفى الى سائر الفروع مثل الذى علله المعلل بما اشار إليه من الوصف لاثبات الحكم فيه فتتحقق المعارضة بينهما من هذه الوجه، واى مناقصة ابين من التعارض على وجه المضادة بصفة التساوى ثم قد بينا فيما سبق ان دليل الخصوص يشبه النسخ بصيغة والاستثناء بحكمه، فانه مستقل بنفسه كدليل النسخ ولا يكون ذلك الا مقارنا معنى كالاستثناء، وواحد من هذين الوجهين لا يتحقق في العلل، فان نسخ العلة بالعلة لا يجوز والخصم يجوز ان يكون المانع علة مثل العلة التى يدعى تخصيصها، وكيف يجوز النسخ والعلة فيها احتمال الفساد لكونها مستنبطة بالراى.
فإذا ظهر ما يمنع العمل بها اصلا تتعين جهة الفساد فيها، بخلاف النص فانه لا يحتمل جهة الفساد، فالنسخ يكون بيانا لمدة العمل به.
ولهذا نوع بيان اخر، فان بالخصوص يتبين انه معمول به في بعض المحال دون البعض، وذلك انما يجوز فيما يجوز القول فيه بالنسخ مع صحته حتى يقال انه معمول به في بعض الاوقات دون البعض، والاستثناء انما يكون في العبارات ليتبين به في بعض الاوقات دون البعض، والاستثناء وذلك لا يتحقق في المعاني الخالصة.
فيتبين بما ذكرنا ان القول بالتخصيص مستقيم في النصوص من حيث ان بدليل الخصوص لا يتمكن شبهة الفساد في النص بوجه، بل يتبين ان اسم النص لم يكن متناولا للموضع المخصوص، مع كون العام صحيحا موجبا للعمل قطعا قبل قيام دليل الخصوص، فمن تخصيص العلة لا يجد بدا من القول بتصويب المجتهدين أجمع، وعصمته الاجتهاد عن احتمال الخطأ والفساد كعصمة النص من ذلك،
وهذا تصريح بأن كل مجتهد مصيب لما هو الحق حقيقة وأن الاجتهاد يوجب علم اليقين، وفيه قول بوجوب الاصلح، وفيه من وجه آخر قول بالمنزلة بين المنزلتين، وبالخلود في النار لاصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة.
فهذا معنى قولنا: إن في القول بجواز تخصيص العلة ميلا إلى أصول المعتزلة من وجوه.
ولكنا نقول: انعدام الحكم لا يكون إلا بعد نقصان وصف أو زيادة وصف وهو الذي يسمونه مانعا مخصصا، وبهذه الزيادة والنقصان تتغير العلة لا محالة، فيصير ما هو علة الحكم منعدما حكما، وعدم الحكم عند انعدام العلة لا يكون من تخصيص العلة في شئ.
وبيان هذا أن الموجب للزكاة شرعا هو النصاب النامي الحولي، عرف بقوله عليه السلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) والمراد نفي الوجوب، والعلل الشرعية لا توجب الحكم بذواتها بل بجعل الشرع إياها موجبة على ما بينا أن الموجب هو الله تعالى، والاضافة إلى العلة لبيان أن الشرع جعلها موجبة تيسيرا علينا، فإذا كانت بهذا الوصف موجبة شرعا عرفنا أن عند انعدام هذا الوصف ينعدم الحكم لانعدام العلة الموجبة.
ولا يلزمنا جواز الاداء لان العلة الموجبة غير العلة المجوزة للاداء، وقد قررنا هذا فيما سبق أن الجزء الاول من الوقت مجوز أداء الصلاة فرضا وإن لم يكن موجبا للاداء عينا مع أن هذا الوصف مؤثر، فإن النماء الذي هو مقصود إنما يحصل بمضي المدة، ألا ترى أن الوجوب يتكرر بتكرر الحول لتجدد معنى النماء بمضي كل حول، وكذلك البيع بشرط الخيار، فإن الموجب للملك شرعا البيع المطلق ومع شرط الخيار لا يكون مطلقا بل بهذه الزيادة يصير البيع في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وقد بينا أن المتعلق بالشرط غير المطلق، ولصفة الاطلاق تأثير أيضا
فإن الموجب للملك بالنص التجارة عن تراض وتمام الرضا يكون عند إطلاق الايجاب لا مع شرط الخيار، فظهر أن العلة تنعدم بزيادة وصف أو نقصان
وصف، وهو الحاصل الذي يجب مراعاته، فإنهم يسمون هذا المعنى المغير مانعا مخصصا، فيقولون: انعدام الحكم مع بقاء العلة بوجود مانع وذلك تخصيص كالنص العام يلحقه خصوص فيبقى نصا فيما وراء موضع الخصوص.
ونحن نقول: تنعدم العلة حين ثبت المغير فينعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا في العلل مستقيم، بخلاف النصوص فإن بالنص الخاص لا ينعدم النص العام، وعلى هذا الطريق ما استحسنه علماؤنا من القياس في كتبهم، فإن الاستحسان قد يكون بالنص، وبوجود النص تنعدم العلة الثابتة بالرأي، لانه لا معتبر بالعلة أصلا في موضع النص ولا في معارضة حكم النص.
وكذلك الاستحسان إذا كان بسبب الاجماع، لان الاجماع كالنص من كتاب أو سنة في كونه موجبا العلم.
وكذلك ما يكون عن ضرورة فإن موضع الضرورة مجمع عليه أو منصوص عليه ولا يعتبر بالعلة في موضع النص فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة وكذلك إذا كان الاستحسان بقياس مستحسن ظهر قوة أثره، لما بينا أن الضعيف في معارضة القوي معدوم حكما.
وبيان ما ذكرنا في أن النائم إذا صب في حلقه ماء وهو صائم لم يفسد صومه على قول زفر، لانه معذور كالناسي أو أبلغ منه، وفسد صومه عندنا لفوات ركن الصوم، والعبادة لا تتأدى بدون ركنها فيلزم على هذا الناسي.
فمن يجوز تخصيص العلة يقول: انعدم الحكم هناك لوجود مانع وهو الاثر فكان مخصوصا من هذه العلة بهذا الطريق مع بقاء العلة.
ونحن نقول: انعدم الحكم في الناسي لانعدام العلة حكما، فإن النسيان لا صنع فيه لاحد من
العباد، وقد ثبت بالنص أن الله تعالى أطعمه وسقاه، وصار فعله في الاكل ساقط الاعتبار، وتفويت الركن إنما يكون بفعل الاكل، فإذا لم يبق فعله في الاكل شرعا كان ركن الصوم قائما حكما، وإنما لم يحصل الفطر هنا لانعدام العلة الموجبة للفطر، ثم النائم ليس في معناه، لان الفعل الذي يفوت به ركن الصوم مضاف إلى العباد هنا فيبقى معتبرا مفوتا ركن
الصوم، بخلاف إذا كان مضافا الى من له الحق.
وكذلك قلنا: إن المغصوب يصير مملوكا للغاصب عند تقرر الضمان عليه، لان بهذا السبب لما تقرر الملك في ضمان القيمة وهو حكم شرعى فيقرر الملك فيما يقابله فيلزم على هذا فصل المدبر من حيث انه يتقرر الملك في قيمته للمغصوب منه ولا يثبت الملك في المدبر للغاصب، فمن يرى تخصيص العلة يقول امتنع ثبوت الحكم في المدبر مع وجود العلة لمانع وهو انه غير محتمل للنقل من ملك الى ملك.
ونحن نقول: انعدمت العلة الموجبة للملك في المدبر فينعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا لان العلة تقرر الملك في قيمة هي بدل عن العين وقيمة المدبر ليس ببدل عن عينها، لان شرط كون القيمة بدلا عن العين ان تكون العين محتملا للتمليك وذلك لا يوجد في المدبر، لان المدبر جرى فيه عتق من وجه والعتق في المحل يمنع وجوب قيمة العين بسبب الغصب، ولكن الضمان واجب باعتبار الجناية التى تمكنت من الغاصب بتفويت يده، لان مع جريان العتق فيه من وجه قد بقيت اليد والمالية مستحقة للمالك، فان انعدام ذلك يعتمد ثبوت العتق في بقيت اليد كل وجه، فعرفنا انه انما انعدم الحكم لانعدام العلة بوجود ما يغيرها.
وكذلك إذا قلنا في الزنا انه ثبتت به حرمة المصاهرة، لان ثبوت الحرمة
في الاصل باعتبار الولد الذى يتخلق من الماءين فيصير بواسطة الولد امهاتها وبناتها في حقه كامهاته وبناته، وابناؤه وآباؤه في حقها كآبائها وابنائها.
ثم الوطء في محل الحرث سبب لحصول هذا الولد فيقام مقامه، ويلزم على هذا انه لا يتعدى الحرمة الى الاخوات والعمات والخالات من الجانبين، فمن يقول بتخصيص العلة يقول: امتنع ثبوت الحكم مع قيام العلة في هذه المواضع للنص أو الاجماع.
ونحن نقول، انما انعدم الحكم لانعدام العلة، لان في النص الموجب لحرمة المصاهرة ذكر الامهات والبنات والاباء والابناء خاصة، فامتداد الحرمة الى الاخوات والعمات والخالات يكون تغييرا
واثباتا لحرمة أخرى، لان المقصور غير الممتد، وانما يعلل المنصوص، ولا يجوز تبديل المنصوص بالتعليل، فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة لا لمانع مع قيام العلة.
وكذلك ان الزم ان الموطوءة لا تحرم على الواطئ بواسطة الولد والقرب بينهما امس، فالتخريج هكذا انه انما انعدم الحكم هناك لانعدام العلة باعتبار مورد النص كما قررنا.
وهذا اصل كبير، وفقه عظيم.
من ترك التعنت وتامل عن انصاف يخرج له جميع ما لم يذكر بما هو من نظائر ما ذكرنا عليه.
وعمدة هذا الفقه معرفته دليل الخصوص، فان النصين إذا كان احدهما عاما والاخر خاصا فالعام لا ينعدم بالخاص حقيقة ولا حكما، وليس في واحد من النصين توهم الفساد، فعرفنا ان الخاص كان مخصصا للموضع الذى تناوله من حكم العم مع بقاء العام حجة فيما وراء ذلك وان تمكن فيه نوع شبهة من حيث انه صار كالمستعار فيما هو حقيقة حكم العام.
فاما العلة وان كانت مؤثرة ففيها احتمال الفساد والخطاء وهى تحتمل الاعدام حكما،
فإذا جاء ما يغيرها جعلناها معدومة حكما في ذلك الموضع، ثم انعدم الحكم لانعدام العلة، ولا يكون فيها شئ من معنى التناقض، ولا يكون من التخصيص في شئ، والله اعلم.
باب وجوه الاحتجاج بما ليس بحجة مطلقا قال رضى الله عنه: فهذا الباب يشتمل على فصول.
فالذي نبدأ به الاحتجاج بلا دليل، فان العلماء اختلفوا فيه على أقاويل.
قال بعضهم: لا دليل حجة للنافى على خصمه ولا يكون حجة للمثبت.
وقال بعضهم: هي حجة دافعة لا موجبة.
والذى دل عليه مسائل الشافعي رحمه الله انها حجة دافعة لابقاء ما ثبت بدليله لا لاثبات ما لم يعلم ثبوته بدليله.
والذى دل عليه مسائل اصحابنا ان هذا في حق الله تعالى، فاما في حق
العباد لا تكون هي حجة لاحد الخصمين على الآخر في الدفع ولا في الايجاب لا في الابقاء ولا في الاثبات ابتداء.
فأما الفريق الاول احتجوا وقالوا: أقوى المناظرة ما يكون في إثبات التوحيد وفي أمور النبوة، فقد علمنا الله تعالى الاحتجاج بلا دليل على نفي الشرك بقوله: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجادل المشركين في إثبات نبوته، وكانوا ينفون ذلك وهو يثبت، ثم كانوا لا يطالبون على هذا النفي بشئ فوق قولهم لا دليل على نبوته، واشتغل بعد جحودهم بإثبات نبوته بالآيات المعجزة، والبراهين القاطعة، فعرفنا بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه إلى أن يثبت الخصم ما يدعي ثبوته بالدليل، وهذا لان النافي إنما لا يطالب بدليل لكونه متمسكا بالاصل وهو عدم الدليل الموجب أو المانع
والمحرم أو المبيح، ووجوب التمسك بالاصل إلى أن يظهر الدليل المغير له طريق في الشرع، ولهذا جعل الشرع البينة في جانب المدعي لا في جانب المنكر، لانه متمسك بالاصل وهو أنه لا حق للغير في ذمته ولا في يده وذلك حجة له على خصمه في الكف عن التعرض له ما لم يقم الدليل، وأيد ما ذكرنا قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) الآية، فقد علم نبيه عليه السلام الاحتجاج بعدم الدليل الموجب للحرمة على الذين كانوا يثبتون الحرمة في أشياء كالسائبة والوصيلة والحام والبحيرة، فثبت بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه.
وهذا الذي ذهبوا إليه غير موافق لشئ من العلل المنقولة عن السلف في نفي الحكم وإثباته وهو ينتهي إلى الجهل أيضا، فإنا نقول لهذا القائل: لا دليل على الاثبات عندك أو عند غيرك فإن خصمك يدعي قيام الدليل عنده، وكما أن دعواه الدليل عنده لا يكون حجة عليك حتى تبرزه فدعواك عليه أن لا دليل عندي لا يكون حجة عليه، وإن قلت لا دليل عندي فهذا إقرار منك بالجهل والتقصير في الطلب، فكيف يكون حجة على غيرك ! وإن انعدم منك التقصير في الطلب فأنت معذور إذا لم تقف على الدليل وعذرك لا يكون
حجة على الغير أصلا، ألا ترى أن في زمان النبي عليه السلام كان الناسخ ينزل فيبلغ ذلك بعض الناس دون البعض ومن لم يبلغه يكون معذورا في العمل بالمنسوخ ولا يكون ذلك حجة له على غيره.
فإن قيل: قولكم هذا غير موافق لتعليل السلف فاسد، وقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا خمس في العنبر لان الاثر لم يرد به.
وهذا احتجاج بلا دليل.
قلنا: هذا أن لو ذكر هذا اللفظ على سبيل الاحتجاج على من يوجب فيه
الخمس وليس كذلك، بل إنما ذكره على وجه بيان العذر لنفسه ثم علل فيه بعلة مؤثرة في موضع الاحتجاج على الغير على ما ذكر محمد رحمه الله، فإنه قال: لا خمس في اللؤلؤ والعنبر.
قلت: لم ؟ قال: لانه بمنزلة السمك.
قلت: وما بال السمك لا يجب فيه الخمس ؟ قال: لانه بمنزلة الماء.
وهو إشارة إلى مؤثر، فإن الاصل في الخمس الغنائم وإنما يوجب الخمس فيما يصاب مما كان أصله في يد العدو ووقع في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى الغنيمة، والمستخرج من البحار لم يكن في يد العدو قط، لان قهر الماء مانع قهرا آخر على ذلك الموضع، ثم القياس أن لا يجب الخمس في شئ وإنما أوجب الخمس في بعض الاموال بالاثر، فبين أن ما لم يرد فيه الاثر يؤخذ فيه بأصل القياس، وهذا لا يكون احتجاجا بلا دليل.
ثم نقول لهذا القائل: إنك بهذه المقالة تثبت شيئا لا محالة وهو صحة اعتقادك أن لا دليل يوجب إثبات الحكم في هذه الحادثة فعليك الدليل لاثبات ما تدعي صحته عندك، ولا دليل على خصمك لانه ينفي صحة اعتقادك هذا، ولا دليل على النافي بزعمك، ثم قولك لا دليل شئ تقوله عن علم أو لا عن علم ؟ فإن زعمت أنك تقوله عن علم فالعلم الذي يحدث للمرء لا يكون إلا بدليل، وإن زعمت أنك تقوله لا عن علم فقد نهيت عن ذلك، قال تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقال تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه)
الاية، فما يكون مذموما منهيا عنه نصا فكيف يصلح حجة على الغير ! وايد ما ذكرنا قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى، تلك امانيهم) الاية، فقد علم رسوله مطالبة النافي باقامة الدليل وذلك تنصيص على ان لا دليل لا يكون حجة والدليل عليه الخصومات،
فان انكار الخصم لا يكون حجة له على المدعى بوجه ما حتى انه بعد ما احضر مرة وجحد إذا طلب احضاره مرة اخرى احضره القاضى، وان طلب ان يكفله بنفسه أو بالعين الذى فيه الدعوى اجيره القاضى على ذلك، وإذا طلب يمينه حلفه على ذلك، فلو كان لا دليل حجة للنافى على خصمه لم يبق للمدعى عليه سبيل بعد انكاره وقوله لا حجة للمدعى.
فاما جعل الشرع القول قول المنكر فذلك باعتبار دليل من حيث الظاهر، وهو ان المدعى عين في يده واليد دليل الملك ظاهرا، أو دين في ذمته وذمته بريئة ظاهرا، ومع هذا قوله لا يكون حجة على خصمه وان حلف حتى لا يصير المدعى مقضيا عليه بشئ، ولكنه لا يتعرض له ما لم يات بحجة يثبت بها الحق عليه.
يحقق ما قلنا ان الاصل هو التفاوت بين الناس في العلم بالادلة الشرعية، واليه اشار الله تعالى في قوله: (وفوق كل ذى علم عليم) وهذا شبه المحسوس لمن يرجع الى احوال الناس، فقد يقف بعضهم على علم لا يقف عليه البعض، ومع هذا التفاوت لا يتمكن النافي من الاحتجاج بلا دليل الا بعد وقوفه على كل علم يبتنى عليه احكام الشرع، ومن ادعى هذه الدرجة لنفسه منا فهو متعنت لا يناظر، وكيف يتمكن احد من هذه الدعاوى مع قوله تعالى: (وما اوتيتم من العلم الا قليلا) وإذا علمنا يقينا ان المحتج بلا دليل لم يبلغ جميع انواع العلم عرفنا ان استدلاله بما لم يبلغه على الخصم باطل، ولهذا صح هذا النوع من الاحتجاج فيما نص الله تعالى عليه، لان الله تعالى عالم بالاشياء كلها لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا تخفى عليه خافية، فبإخباره ان لا برهان لمن يدعى الشرك حصل لنا علم اليقين بانه لا دليل على الشرك بوجه.
وكذلك قوله تعالى، (قل لا اجد فيما اوحى الى محرما) فقد صار معلوما يقينا انه لا دليل على حرمة ذلك، فكان
الاحتجاج صحيحا، ومثله لا يتصور فيما يحتج به النافي على خصمه.
ولا نقول بان نفى الكفار نبوة رسول الله وقولهم لا دليل على نبوته كان حجة لهم عليه بوجه، ولكن كان ذلك اظهارا منهم لجهلهم، وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يزيل ذلك الجهل عنهم باظهار المعجزات الدالة على نبوته.
فاما اهل المقالة الثابتة فانهم قالوا المنتفى معدوم والمعدوم ليس بشئ وانما يحتاج الى الدليل لاثبات المدلول عليه، ومعلوم ان العدم لا يكون متعلقا بدليل ولا بعدم الدليل، ولكن عدم الدليل يدل عليه كما يدل الحدث على المحدث، ثم الدليل قد يكون قائما على الاثبات عند البعض دون البعض، يقول النافي لا دليل على الاثبات محتمل يجوز ان يكون كما قال وهو انه ليس فيه دليل مشروع عند احد، ويجوز ان يكون عليه دليل عند غيره ولم يبلغه، ودعوى المثبت دليل الاثبات محتمل ايصا يجوز ان يكون صدقا بوجود الدليل عنده، ويجوز ان يكون كذبا أو غلطا فاستوى الجانبان من هذا الوجه، كما ان دعوى المثبت الدليل لا يكون حجة على خصمه ما لم يبرز الدليل لكونه محتملا والمحتمل لا فقول النافي لا دليل لا يكون حجة على خصمه لكونه محتملا ولكنه دافع لدعوى المثبت عنه بطريق المساواة في الاحتمال.
فقلنا ان قوله: لا دليل، حجة دافعة لا موجبة.
والشافعي يحتج بهذا الكلام ايضا لانه يقول: إذا كان قوله لا دليل مستندا الى دليل لا يخالف ما يقوله يكون دلك الدليل حجة على الخصم لا بمجرد قوله لا دليل.
وبيان هذا ان ما يكون محتملا للبقاء من الاحكام والصحة في العلل والجواهر فانه إذا ثبت وجوه بالدليل يكون باقيا ما لم يعترض ما يزيله، الا ترى ان الملك بالشراء متى ثبت، أو الحل بالنكاح متى ثبت،
أو الحرمة بالتطليقات الثلاث متى ثبت يكون باقيا، الا يعترض عليه
ما يزيله فما يمضي من الازمنة بعد صحة الدليل المثبت للحكم يكون الحكم فيه باقيا بذلك لدليل على احتمال أن يطرأ ما يزيله، وقبل ظهور طريان ما يزيله يكون الحكم ثابتا بذلك الدليل، بمنزلة النص العام فإنه موجب للحكم في كل ما يتناوله على احتمال قيام دليل الخصوص، فما لم يقم دليل الخصوص كان الحكم ثابتا بالعام وكان الاحتجاج به على الخصم صحيحا، فكذلك قول القائل فيما هو منتف لا دليل على إثباته، أو فيما هو ثابت بدليله لا دليل على نفيه يكون احتجاجا بذلك الدليل وذلك الدليل حجة على خصمه، فأما ما لا يستند إلى دليل فلا يبقى فيه إلا الاحتجاج بقوله لا دليل فذلك يكون حجة كما قلتم.
وعلى هذا الاصل قال: الصلح على الانكار باطل، لان نفي المنكر دعوى المدعي يستند إلى دليل وهو المعلوم من براءة ذمته في الاصل أو اليد التي هي دليل لملك له في عين المدعي، فيكون ذلك حجة له على خصمه في إبقاء ما ثبت عليه، وبعد ما ظهرت براءة ذمته في حق المدعي بهذا الدليل يكون أخذه المال رشوة على الكف عن الدعوى ولا يكون ذلك اعتياضا عن حقه فيكون باطلا، بخلاف ما إذا شهد بحرية عبد إنسان ثم اشتراه بعد ذلك فإن الشراء يكون صحيحا ويلزمه الثمن للبائع، لان نفي البائع حريته ودعواه بقاء الملك له مستند إلى دليل وهو الدليل المثبت للملك له في العبد، فيكون ذلك حجة له على خصمه في إبقاء ملكه، وباعتباره هو إنما يأخذ العوض على ملك له، وباعتباره لا يثبت الاتفاق بينهما على فساد ذلك السبب، فبهذا تعين فيه وجه الصحة ووجب الثمن على المشتري ثم يعتق عليه بعدما دخل في ملكه باعتبار زعمه.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: الدليل المثبت للحكم لا يكون موجبا بقاء الحكم بوجه من الوجوه ولكن بقاؤه بعد الوجود لاستغناء البقاء عن دليل لا لوجود الدليل المنفي.
فعرفنا أنه ليس للدليل الذي استند إليه الحكم عمل في البقاء أصلا، وأن دعوى البقاء فيما عرف ثبوته بدليله محتمل كدعوى
الاثبات فيما لا يعلم ثبوته بدليله، فكما أن هناك يستوي المثبت والنافي في أن قول كل واحد منهما لا يكون حجة على خصمه بغير دليل فكذلك هنا، وله فارق العام فإنه موجب للحكم في كل ما تناوله قطعا على احتمال قيام دليل الخصوص، فما لم يظهر دليل الخصوص كان الحكم ثابتا بنص موجب له، وهنا الدليل المثبت للحكم غير متعرض للازمنة أصلا فلا يكون ثبوته في الازمنة بعد قيام الدليل بدليل مثبت له، ولهذا لا يكون قيام دليل النفي من دليل الخصوص في شئ بل يكون نسخا، كما بيناه في باب النسخ، يوضحه أنه لما لم يكن ذلك الدليل عاملا الآن في شئ صار قول المتمسك به لا دليل على ارتفاعه كلاما محتملا، كما أن قول خصمه قام الدليل على ارتفاعه كلام محتمل فتتحقق المعارضة بينهما على وجه لا يكون زعم أحدهما حجة على الآخر ما لم يرجح قوله بدليل.
وعلى هذا الاصل قلنا في الصلح على الانكار إنه جائز، لان الدليل المثبت لبراءة ذمة المنكر أو للملك له فيما في يده غير متعرض للبقاء أصلا فكان دعوى المدعي أن المدعي حقي وملكي خبرا محتملا، وإنكار المدعى عليه لذلك خبر محتمل أيضا فكما لا يكون خبر المدعي حجة على المدعى عليه في إلزام التسليم إليه لكونه محتملا، فكذلك خبر المدعي عليه لا يكون حجة على المدعي في فساد الاعتياض عنه بطريق الصلح، ولهذا لو صالحه أجنبي على مال جاز بالاتفاق، ولو ثبت براءة ذمته في حق المدعي بدليل كما ذكره
الخصم لم يجز صلحه مع الاجنبي، كما لو أقر أنه مبطل في دعواه ثم صالح مع أجنبي.
والدليل عليه فصل الشهادة بعتق العبد على مولاه فإن الشاهد إذا اشتراه صح الشراء ولزمه الثمن لهذا المعنى، وهو أن ما أخبر به الشاهد لكونه محتملا لم يصر حجة على مولى العبد حتى جاز له الاعتياض عنه بالبيع من غيره، فيجوز له الاعتياض عنه بالبيع من الشاهد وإن كان زعمه معتبرا في حقه حتى إنه يعتق كما اشتراه لا من جهته حتى لا يكون ولاؤه له، وما كان ذلك إلا بالطريق الذي قلنا، فإن الدليل الموجب للملك للمولى لا يكون دليل بقاء ملكه بل بقاء الملك بعد ثبوته لاستغنائه عن الدليل المنفي.
وعلى هذا الاصل قلنا: مجهول الحال يكون حرا باعتبار الظاهر، ولكن لو جنى عليه جناية
فزعم الجاني أنه رقيق لا يلزمه أرش الجناية على الاحرار حتى تقوم البينة على حريته، لان ثبوت الحرية للحال ليس بدليل موجب لذلك بل باعتبار أصل الحرية لاولاد آدم وذلك لا يجوب البقاء فكان عدواه الحرية لنفسه فئ الحال محتملا ودعوى الغير الرق عليه محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق عليه محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق فيه لغيره ويجعل القول قوله في الحرية، وبالمحتمل لا يثبت دعوى استحقاق أرش الاحرار بسبب الجناية عليه غيره حتى يقيم البينة على حريته، لان قبل إقامة البينة ليس معه إلا الاحتجاج بلا دليل وذلك دافع عنه ولا يكون حجة له على غيره.
وعلى هذا لو قذف إنسانا ثم زعم أنه عبد وقال المقذوب بل هو حر، فإنه لايقام حد الاحرار عليه حتى تقوم البينة للمقذوف على حريته.
وكذلك لو قطع يد إنسان ثم زعم أنه عبد وأنه لاقصاص عليه.
وكذلك لو شهد في حادثة ثم زعم المشهود عليه أنه عبد فإن شهادته لا تكون حجة حتى تقوم البينة على حريته.
والشافعي رحمه الله يخالفنا في جميع ذلك للاصل الذى بينا له.
وعلى هذا لو اشترى شقصا من دار فطلب الشفيع الشفعة وقال
المشترى ما في يدك مما تدعى به الشفعة ليس بملك لك بل هي ملكى فإنه يكون القول قول مدعى الشفعة في دفع دعوى المشترى عما في يده، ويكون القول قول المشترى في إنكاره حق الشفعة له، حتى إن لشفيع ما لم يقم البينة على أن العين الذى في يده ملكه لا يستحق الشفعة عندنا، لان خبر كل واحد منهما محتمل فلا يكون حجة على خصمه في استحقاق ما في يده.
وعند الشافعي ملك الشفيع فيما في يده ثابت باعتبار أن قوله مستند إلى دليل ثبت فيستحق به الشفعة.
ونظير ما قاله علماؤنا قول المولى لعبده: إن لم أدخل اليوم الدار فأنت حر، ثم قال المولى بعد مضى اليوم قد دخلت وقال العبد لم تدخل، فإن القول قول المولى حتى لا يعتق العبد، ومعلوم أن قول العبد مستند إلى دليل من حيث الظاهر وهو أن الاصل عدم الدخول ولكن لما كان قوله في الحال محتملا قول المولى كذلك لم يثبت استحقاقه على المولى بما هو محتمل.
وكذلك المفقود فإنه لا يرث أحدا من أقاربه إذا مات قبل أن يظهر حاله
ومعلوم أن بقاءه حيا مستند إلى دليل وهو ما علم من حياته، ولكن لما لم يكن ذلك دليلا للبقاء اعتبر في الحال الاحتمال، فقيل لا يرثه أحد لاحتمال بقائه حيا، ولا يرث أحدا لاحتمال أنه ميت.
فإن قيل: عندي إذا استند قوله إلى دليل إنما يقبل قوله على خصمه في إبقاء ما هو مقصود له: في مسألة العتق لا مقصود للعبد في نفى دخول المولى الدار وإنما مقصوده في العتق ودعواه العتق ليس بمستند إلى دليل مثبت له.
وكذلك عدوى من يدعى حياة المفقود بعد ما مات قريب له ليس بمقصود للمدعى حتى يعتبر فيه الاستناد إلى دليله،
فأما دعوى المنكر براءة ذمته أو كون ما في يده ملكا له مقصود له وهو يستند إلى دليل كما بينا.
وكذلك دعوى مجهول الحال الحرية لنفسه مقصود له.
ودعوى الشفيع الملك لنفسه فيما في يده مقصود له، فإذا كان هذا مستندا إلى دليله وهو مقصود له كان حجة له على خصمه.
قلنا: لا فرق، فإن دعوى المنكر فساد الصلح غير مقصود له ولكن يترتب عليه ما هو المقصود له وهو سقوط المطالبة عنه بتسليم ما التزمه بالصلح، كما أن دعوى العبد أن المولى لم يدخل الدار غير مقصود له ولكن يترتب عليه ما هو مقصود له وهو عتقه باعتبار وجود الشراط.
ثم هناك لكون ما أخبر به محتملا لم يجعل حجة على خصمه، ولا يعتبر استناده إلى دليل باعتبار الاصل، فكذلك في مسألة الصلح فصل ومن الاحتجاج بلا دليل الاستدلال باستصحاب الحال، وذلك نحو ما يقول بعض أحصابنا في حكم الزكاة في مال الصبى إن الاصل عدم الوجوب فيستصحبه حتى يقوم دليل الوجوب، وفى الاستئناف أن وجوب الحقتين في مائة وعشرين ثابت بالنص والاجماع فيجب استصحابه حتى يقوم الدليل المغير، وهذا النوع من التعليل باطل، فإن ثبوت العدم وإن كان بدليل معدم فذلك لا يوجب
بقاء العدم، كما أن الدليل الموجد للشئ لا يكون دليل بقائه موجودا فكذلك الدليل المثبت للحكم لا يكون دليل بقائه ثابتا، ألا ترى أن عدم الشراء لا يمنع وجود الشراء في المستقبل، والشراء الموجب للملك لا يمنع انعدام الملك بدليله في المستقبل، ولكن البقاء بعد الوجود لاستغنائه عن الدليل، لا لان الدليل المثبت له موجب لبقائه، كما أن ثبوت الحياة بسببه لا يكون
دليل بقاء الحياة، يوضحه أن بعد ثبوت حكم هو نفي إيجاده يستدعي دليلا، فمن ادعى وجوده احتاج إلى إثباته على خصمه بدليل.
وكذلك من ادعى بقاءه منفيا فهو محتاج إلى إثباته بدليله على الخصم، إذ الدليل الاول غير موجب لذلك فليس أحدهما بالاحتجاج على صاحبه لعدم قيام الدليل بأولى من الآخر، وما كان البقاء فيما يحتمل البقاء بعد الوجود إلا نظير الوجود في الاعراض التي لا تبقى وقتين، فإن وجود شئ منه بدليل لا يكون دليل وجود مثله في الوقت الثاني.
وبيان هذا في البعير الزائد على المائة والعشرين فإن عند الخصم ينتهي به عفو الحقتين فيتم به نصاب ثلاث بنات لبون.
وعندنا هو ابتداء العفو لنصاب آخر، وليس في إيجاب الحقتين في مائة وعشرين ما يدل على واحد من الامرين، فكان الاحتجاج به لايجاب الحقتين بعد هذه الزيادة عند كمال الحول يكون احتجاجا بلا دليل.
ثم استصحاب الحال ينقسم أربعة أقسام: أحدها استصحاب حكم الحال مع العلم يقينا بانعدام الدليل المغير، وذلك بطريق الخبر عمن ينزل عليه الوحي أو بطريق الحس فيما يعرف به، وهذا صحيح قد علمنا الاستدلال به في قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) الآية، وهذا لانه لما علم يقينا بانعدام الدليل المغير وقد كان الحكم ثابتا بدليله وبقاؤه يستغني عن الدليل فقد علم بقاؤه ضرورة.
والثاني: استصحاب حكم الحال بعد دليل مغير ثابت بطريق النظر
والاجتهاد بقدر الوسع، وهذا يصلح لابلاء العذر وللدفع ولا يصلح للاحتجاج به على غيره، لان المتأمل وإن بالغ في النظر فالخصم يقول قام الدليل عندي بخلافه، وبالتأمل والاجتهاد لا يبلغ المرء درجة يعلم بها يقينا أنه لم يخف
عليه شئ من الادلة، بل يبقى له احتمال اشتباه بعض الادلة عليه، وما كان في نفسه محتملا عنده لا يمكنه أن يحتج به على غيره.
والثالث: استصحاب حكم الحال قبل التأمل والاجتهاد في طلب الدليل المغير وهذا جهل، لان قبل الطلب لا يحصل له شئ من العلم بانتفاء الدليل المغير ظاهرا ولا باطنا، ولكنه يجهل ذلك بتقصير منه في الطلب، وجهله لا يكون حجة على غيره ولا عذرا في حقه أيضا إذا كان متمكنا من الطلب إلا أن لا يكون متمكنا منه.
وعلى هذا قلنا: إذا أسلم الذمي في دار الاسلام ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى عليه زمان فعليه قضاء ما ترك، بخلاف الحربي إذا أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان.
وعلى هذا قلنا: من لم يجتهد بعد الاشتباه في أمر القبلة حتى صلى إلى جهة فإنه لا تجزيه صلاته ما لم يعلم أنه أصاب، بخلاف ما إذا اجتهد وصلى إلى جهة فإنه تجزيه صلاته وإن تبين أنه أخطأ.
والنوع الرابع: استصحاب الحال (لاثبات الحكم ابتداء، وهذا خطأ محض وهو ضلال محض ممن يتعمده لان استصحاب الحال) كاسمه، وهو التمسك بالحكم الذي كان ثابتا إلى أن يقوم الدليل المزيل، وفي إثبات الحكم ابتداء لا يوجد هذا المعنى، ولا عمل لاستصحاب الحال فيه صورة ولا معنى، وقد بينا في مسألة المفقود أن الحياة المعلومة باستصحاب الحال يكون حجة في إبقاء ملكه في ماله على ما كان، ولا يكون حجة في إثبات الملك له ابتداء في مال قريبه إذا مات.
وبعض أصحاب الشافعي يجعلونه حجة في ذلك، لا باعتبار أنهم يجوزون إثبات الحكم ابتداء باستصحاب الحال، بل باعتبار أنه يبقى للوارث
الملك الذي كان للمورث، فإن الوراثة خلافة، وقد بينا أن عنده استصحاب
الحال فيما يرجع إلى الابقاء حجة على الغير.
ولكنا نقول: هذا البقاء في حق المورث، فأما في حق الوارث فصفة المالكية تثبت له ابتداء واستصحاب الحال لا يكون حجة فيه بوجه.
وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ادعى عينا في يد إنسان أنه له ميراث من أبيه وأقام الشاهدين فشهدا أن هذا كان لابيه لم تقبل هذه الشهادة.
وفي قول أبي يوسف الآخر تقبل، لان الوراثة خلافة فإنما يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث، ولهذا يرد بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه المورث، وما ثبت فهو باق لاستغناء البقاء عن دليل.
وهما يقولان في حق الوارث: هذا في معنى ابتداء التملك، لان صفة المالكية تثبت له في هذا المال بعد أن لم يكن مالكا، وإنما يكون البقاء في حق المورث أن لو حضر بنفسه يدعي أن العين ملكه فلا جرم إذا شهد الشاهدان أنه كان له كانت شهادة مقبولة كما إذا شهدا أنه له، فأما إذا كان المدعي هو الوارث وصفة المالكية للوارث تثبت ابتداء بعد موت المورث فهذه الشهادة لا تكون حجة للقضاء بالملك له، لان طريق القضاء بها استصحاب الحال وذلك غير صحيح.
فصل ومن هذه الجملة الاستدلال بتعارض الاشباه، وذلك نحو احتجاج زفر رحمه الله في أنه لا يجب غسل المرافق في الوضوء، لان من الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فمع الشك لا تثبت فرضية الغسل فيما هو غاية بالنص، لان هذا في الحقيقة احتجاج بلا دليل لاثبات حكم، فإن الشك الذي يدعيه أمر حادث فلا يثبت حدوثه إلا بدليل.
فإن قال: دليله تعارض الاشباه.
قلنا: وتعارض الاشباه أيضا حادث فلا يثبت إلا بالدليل.
فإن قال: الدليل عليه ما أعده من الغايات مما يدخل بالاجماع وما لا يدخل بالاجماع.
قلنا: وهل تعلم أن هذا المتنازع فيه
من أحد النوعين بدليل ؟ فإن قال أعلم ذلك.
قلنا: فإذن عليك أن لا تشك فيه بل
تلحقه بما هو من نوعه بدليله.
وإن قال: لا أعلم ذلك.
قلنا: قد اعترفت بالجهل، فإن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه وذلك لا يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل.
فصل ومن هذه الجملة الاحتجاج بالاطراد على صحة العلة إما وجودا أو وجودا وعدما، فإنه احتجاج بلا دليل في الحقيقة، ومن حيث الظاهر هو احتجاج بكثرة أداء الشهادة، وقد بينا أن كثرة أداء الشهادة وتكرارها من الشاهد لا يكون دليل صحة شهادته.
ثم الاطراد عبارة عن سلامة الوصف عن النقوض والعوارض، والناظر وإن بالغ في الاجتهاد بالعرض على الاصول المعلومة عنده فالخصم لا يعجز من أن يقول عندي أصل آخر هو مناقض لهذا الوصف أو معارض، فجهلك به لا يكون حجة لك علي، فتبين من هذا الوجه أنه احتجاج بلا دليل، ولكنه فوق ما تقدم في الاحتجاج به من حيث الظاهر، لان من حيث الظاهر الوصف صالح، ويحتمل أن يكون حجة للحكم إذا ظهر أثره عند التأمل، ولكن لكونه في الحقيقة استدلالا على صحته بعدم النقوض والعوارض لم يصلح أن يكون حجة لاثبات الحكم.
فإن قيل: أليس أن النصوص بعد ثبوتها يجب العمل بها، واحتمال ورود الناسخ لا يمكن شبهة في الاحتجاج بها قبل أن يظهر الناسخ فكذلك
ما تقدم ؟ قلنا: أما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا احتمال للنسخ في كل نص كان حكمه ثابتا عند وفاته، فأما في حال حياته فهكذا نقول: إن الاحتجاج به لاثبات الحكم ابتداء صحيح، فأما لابقاء الحكم أو لنفي الناسخ لا يكون صحيحا، لان احتمال بقاء الحكم واحتمال قيام دليل النسخ فيه كان بصفة واحدة، وقد قررنا هذا في باب النسخ.
ثم الطرديات الفاسدة أنواع.
منها ما لا يشكل فساده على أحد.
ومنها ما يكون (بزيادة وصف في الاصل به يقع الفرق.
ومنها ما يكون) بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا.
ومنها ما يكون استدلالا بالنفي والعدم.
وبيان النوع الاول: فيما علل به بعض أصحاب الشافعي لكون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة لانها عبادة ذات أركان لها تحليل وتحريم، فكان من أركان ما له عدد السبع كالحج في حق الطواف، وربما يقولون: الثلاث أحد عددي مدة المسح فلا يتأدى به فرض القراءة في الصلاة كالواحد، وما دون الثلاث قاصر عن السبع فلا يتأدى به فرض القراءة كما دون الآية.
ونحو ما يحكى عن بعضهم في أن الرجعة لا تحصل بالفعل، لان الوطئ فعل ينطلق مرة ويتعلق أخرى فلا تثبت به الرجعة كالقتل.
ونحو ما يحكى عن بعض أصحابنا في الوضوء بغير النية أن هذا حكم متعلق بأعضاء الطهارة فلا تشترط النية في إقامته كالقطع في السرقة والقصاص.
هذا النوع مما لا يخفى فساده على أحد، ولم ينقل من هذا الجنس شئ عن السلف إنما أحدثه بعض الجهال ممن كان بعيدا من طريق الفقهاء، فأما علل السلف ما كانت تخلو عن الملاءمة أو التأثير، ولهذا كان الواحد منهم يتأمل مدة فلا يقف في حادثة إلا على قياس أو قياسين، والواحد من المتأخرين ربما
يتمكن في مجلس واحد من أن يذكر في حادثة خمسين علة من هذا النحو أو أكثر، ولا مشابهة بين غسل الاعضاء في الطهارة وبين القطع في السرقة، ولا بين مدة المسح والقراءة في الصلاة، ولا بين الطواف بالبيت وقراءة الفاتحة، فعرفنا أن هذا النوع مما لا يخفى فساده.
وأما ما يكون بزيادة وصف فنحو تعليل بعض أصحاب الشافعي في مس الذكر إنه حدث، لانه مس الفرج فينتقض الوضوء به كما لو مسه عند البول، فإن هذا القياس لا يستقيم إلا بزيادة وصف في الاصل وبذلك
الوصف يثبت الفرق بين الفرع والاصل ويثبت الحكم به في الاصل.
وكذلك قولهم في إعتاق المكاتب عن الكفارة إنه تكفير بتحرير المكاتب فلا يجوز، كما لو أدى بعض بدل الكتابة ثم أعتقه، لان استقامة هذا القياس بزيادة وصف في الاصل به يقع الفرق، وهو أن المستوفى من البدل يكون عوضا، والتكفير لا يجوز بالاعتاق بعوض.
ونحو ما علل بعضهم في شراء الاب بنية الكفارة إنه تكفير بتحرير أبيه فلا يجوز، كما لو كان حلف بعتقه إن ملكه، فإن استقامة هذا التعليل بزيادة وصف به يقع الفرق من حيث إن المحلوف بعتقه إذا عتق عند وجود الشرط لا يصير مكفرا به وإن نواه عند ذلك أبا كان أو أجنبيا.
والنوع الثالث: نحو ما يعلل به بعض أصحاب الشافعي في أن الاخ لا يعتق على أخيه إذا ملكه.
قال: عتق الاخ تتأدى به الكفارة فلا يثبت بمجرد الملك كعتق ابن العم.
وهذا تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا، فإن عندنا عتق القريب وإن كان مستحقا عند وجود الملك تتأدى به الكفارة حتى قلنا: إذا اشترى أباه بنية الكفارة يجوز، خلافا
للشافعي رحمه الله.
ونحو ما علل به بعضهم في الكتاب الحالة أنها لا تمنع جواز التكفير بتحريره فتكون فاسدة كالكتابة على القيمة، فإن هذا تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا، لان التكفير بإعتاق المكاتب كتابة صحيحة جائزة عندنا، وربما يكون هذا الاختلاف في الاصل نحو ما يعلل به بعض.
أصحاب الشافعي في الافطار بالاكل والشرب إنه إفطار بالمطعوم، فلا يوجب الكفارة كما لو كان في يوم أبصر الهلال وحده ورد الامام شهادته.
وأما النوع الرابع: فنحو تعليل الشافعي في النكاح إنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال لانه ليس بمال، وفي الاخ لا يعتق على أخيه لانه ليس
بينهما بعضية، وفي المبتوتة إنه لا يلحقها الطلاق لانه ليس بينهما نكاح، وفي إسلام المروي بالمروي إنه يجوز لانه لم يجمع البدلين الطعم والثمنية، وهذا فاسد لانه استدلال بعدم وصف والعدم لا يصلح أن يكون موجبا حكما، وقد بينا أن العدم الثابت بدليل لا يكون بقاؤه ثابتا بدليل فكيف يستدل به لاثبات حكم آخر.
فإن قيل: مثل هذا التعليل كثير في كتبكم.
قال محمد رحمه الله: ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف لانه ليس بمال، والزوائد لا تضمن بالغصب لانه لم يغصب الولد.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: العقار لا يضمن بالغصب لانه لم ينقله ولم يحوله.
وقال فيما لا يجب فيه الخمس: لانه لم يوجف عليه المسلمون.
وقال في تناول الحصاة: لا تجب الكفارة لانه ليس بمطعوم.
وقال في الجد: لا يؤدي صدقة الفطر عن النافلة لانه ليس عليه ذلك.
فهذا استدلال بعدم وصف أو حكم.
قلنا: أولا هذا عندنا غير مذكور على وجه المقايسة بل على وجه الاستدلال
فيما كان سببه واحدا معينا بالاجماع نحو الغصب، فإن ضمان الغصب سببه واحد عين وهو الغصب، فالاستدلال بانتفاء الغصب على انتفاء الضمان يكون استدلالا بالاجماع.
وكذلك وجوب ضمان المال بسبب يستدعي المماثلة بالنص وله سبب واحد عين وهو إتلاف المال، فيستقيم الاستدلال بانتفاء المالية في المحل على انتفاء هذا النوع من الضمان، وكذلك إذا كان دليل الحكم معلوما في الشرع بالاجماع نحو الخمس فإنه واجب في الغنيمة لا غير وطريق الاغتنام الايجاف عليه بالخيل والركاب، فالاستدلال به لنفي الخمس يكون استدلالا صحيحا، وقد بينا أنه إبلاء العذر في بعض المواضع لا الاحتجاج به على الخصم.
فأما تعليل النكاح بأنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال يكون تعليلا بعدم الوصف وعدم الوصف لا يعدم الحكم لجواز أن يكون الحكم ثابتا باعتبار وصف آخر، لانه وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما يثبت مع الشبهات والاصل المتفق عليه الحدود والقصاص، وبهذا الوصف لا يصير النكاح بمنزلة الحدود والقصاص حتى يثبت مع الشبهات بخلاف الحدود والقصاص، فعرفنا أن بعدم هذا الوصف لا ينعدم وصف آخر يصلح التعليل به لاثباته بشهادة
النساء مع الرجال.
وكذلك ما علل به من أخوات هذا الفصل فهو يخرج على هذا الحرف إذا تأملت.
فصل ومن هذا النوع الاحتجاج بأن الاوصاف محصورة عند القائسين، فإذا قامت الدلالة على فساد سائر الاوصاف إلا وصفا واحدا تثبت به صحة ذلك الوصف ويكون حجة.
هذا طريق بعض أصحاب الطرد.
وقد جوز الجصاص رحمه الله تصحيح الوصف للعلة بهذا الطريق.
قال الشيخ رحمه الله: وقد كان
بعض أصدقائي عظيم الجد في تصحيح هذا الكلام، بعلة أن الاوصاف لما كانت محصورة وجميعها ليست بعلة للحكم بل العلة وصف منها، فإذا قام الدليل على فساد سائر الاوصاف سوى واحد منها ثبت صحة ذلك الوصف بدليل الاجماع كأصل الحكم، فإن العلماء إذا اختلفوا في حكم حادثة على أقاويل، فإذا ثبت بالدليل فساد سائر الاقاويل إلا واحدا ثبت صحة ذلك القول، وذلك نحو اختلاف العلماء في جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه، فإنا إذا أفسدنا قول من يقول بالرجوع إلى قول القائف، وقول من يقول بالقرعة، وقول من يقول بالتوقف إنه لا يثبت النسب من واحد منهما يثبت به صحة قول من يقول بأنه يثبت النسب منهما جميعا.
وإذا قال لنسائه الاربعة: إحداكن طالق ثلاثا ووطئ ثلاثا منهن حتى يكون ذلك دليلا على انتفاء المحرمة عنهن تعين بها الرابعة محرمة، فكان تقرب هذا من الادلة العقلية.
قال الشيخ: وعندي أن هذا غلط لا نجوز القول به، وهو مع ذلك نوع من الاحتجاج بالدليل.
أما بيان الغلط فيه وهو أن ما يجعله هذا القائل دليل صحة علته هو الدليل على فساده، لانه لا يمكنه سلوك هذا الطريق إلا بعد قوله بالمساواة بين الاوصاف في أن كل وصف منها صالح أن يكون علة للحكم، وبعد ثبوت هذه المساواة فالدليل الذي يدل على فساد بعضها هو الدليل على فساد ما بقي منها، لانه متى علم المساواة بين شيئين في الحكم ثم ظهر لاحدهما حكم بالدليل فذلك الدليل يوجب مثل
ذلك الحكم في الآخر، كمن يقول لغيره: اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول أعط زيدا درهما، يكون ذلك تنصيصا على أنه يعطي عمرا أيضا درهما، فعرفنا أنه لا وجه للتحرز عن هذا الفساد إلا ببيان تفاوت بين هذا الوصف وبين سائر الاوصاف في كونه علة للحكم، وذلك التفاوت لا يتبين إلا ببيان التأثير
أو الملاءمة فيضطر إلى بيانه شاء أو أبى، ثم وإن قام الدليل على فساد سائر الاوصاف على وجه لا عمل لذلك الدليل في إفساد هذا الوصف الواحد، فنحن نتيقن أن ذلك الدليل كما لا يوجب فساد هذا الوصف لا يوجب صحته، فلا يبقى على تصحيح هذا الوصف دليلا سوى أنه لم يقم الدليل على فساده، ولو جاز إثبات الوصف موجبا للحكم بهذا الطريق لجاز إثبات الحكم بدون هذا الوصف بهذا الطريق، وهو أن يقول حكم الحادثة كذا لانه لم يقم الدليل على فساد هذا الحكم، وما قاله من الاستدلال بالحكم فهو وهم، لان بإفساد مذهب الخصم لا يثبت صحة مذهب المدعي للحكم بوجه من الوجوه، وكيف يثبت ذلك والمبطل دافع والمدعي للحكم مثبت وحجة الدفع غير حجة الاثبات.
ثم الدليل على أن بقيام دليل الفساد في سائر الاوصاف لا تثبت صحة الوصف الذي ادعاه المعلل في الشرعيات أن من أحكام الشرع ما هو غير معلول أصلا بل الحكم فيه ثابت بالنص، فبقيام الدليل على فساد سائر الاوصاف لا ينعدم احتمال قيام الدليل على فساد هذا الوصف حقيقة ولا حكما من هذا الوجه، لجواز أن يكون هذا النص غير معلول أصلا، وبه فارق العقليات، ثم احتمال الصحة والفساد في هذا الوصف بالاجماع كان مانعا من جعله حجة لاثبات الحكم قبل قيام الدليل على فساد سائر الاوصاف، فكذلك بعده لان احتمال تعينه قائم.
باب: وجوه الاعتراض على العلل قال رضي الله عنه: العلل نوعان: طردية ومؤثرة.
والاعتراض على كل نوع من وجهين: فاسد وصحيح.
فالاعتراضات الفاسدة على العلل المؤثرة أربعة: المناقضة، وفساد الوضع، ووجود الحكم مع عدم العلة، والمفارقة بين
الاصل والفرع.
والصحيحة أربعة: الممانعة، ثم القلب المبطل، ثم العكس
الكاسر، ثم المعارضة بعلة أخرى.
فأما المناقضة فإنها لا ترد على العلل المؤثرة، لان التأثير لا يتبين إلا بدليل الكتاب أو السنة أو الاجماع.
وهذه الادلة لا تتناقض، فإن أحكام الشرع عليها تدور ولا تناقض في أحكام الشرع، وقد بينا أنه لا توجد العلة بدون الحكم على الوجه الذي ظهر أثرها في الحكم، بل لا بد أن ينعدم الحكم لتغير وصف بنقصان أو زيادة، وبه تتبدل العلة فتنعدم العلة المؤثرة التي أثبت المعلل الحكم بها، وانعدام الحكم عند انعدام العلة لا يكون دليل انتقاض العلة.
وهو نظير الشاهد فإنه مع استجماع شرائط الاداء إذا ترك لفظة الشهادة أو زاد عليها فقال فيما أعلم فإنه لا يجوز العمل بشهادته، وكان ذلك باعتبار انعدام العلة الموجبة للعمل بشهادته معنى.
وبيان هذا أنا إذا عللنا في تكرار المسح بالرأس أنه مسح مشروع في الطهارة فلا يستن تثليثه كالمسح بالخف لا يدخل الاستنجاء بالاحجار نقضا، لان المسح هناك غير مشروع في الطهارة إنما المشروع إزالة النجاسة العينية حتى لو تصور خروج الحدث من غير أن يتنجس شئ مما هو طاهر لم يجب المسح أصلا، وإزالة النجاسة غير المسح وهو لا يحصل بالمرة إلا نادرا، فعرفنا أن انعدام الحكم لانعدام العلة.
وأما فساد الوضع فهو اعتراض فاسد على العلة المؤثرة، لانه دعوى لا يمكن تصحيحها، فإن تأثير العلة إنما يثبت بدليل موجب للحكم كما بينا، ومعلوم أنه لا يجوز دعوى فساد الوضع في الكتاب والسنة والاجماع.
وأما وجود الحكم مع عدم العلة فإن الحكم يجوز أن يكون ثابتا بعلة أخرى، لان ثبوته بعلة لا ينافي كونه ثابتا بعلة أخرى، ألا ترى أن الحكم يجوز أن يثبت بشهادة الشاهدين، ويجوز أن يثبت بشهادة أربعة
حتى إذا رجع اثنان قبل القضاء يبقى القضاء واجبا بشهادة الباقيين.
وكذلك يجوز أن يكون الاصل معلولا بعلتين يتعدى الحكم بإحداهما إلى فروع
وبالاخرى إلى فروع أخر فلا يكون انعدام العلة مع بقاء الحكم في موضع ثابتا بالعلة الاخرى دليل فساد العلة.
فأما المفارقة فمن الناس من ظن أنها مفاقهة، ولعمري المفارقة مفاقهة ولكن في غير هذا الموضع، فأما على وجه الاعتراض على العلل المؤثرة تكون مجادلة لا فائدة فيها في موضع النزاع.
وبيان هذا من وجوه ثلاثة: أحدها أن شرط صحة القياس لتعدية الحكم إلى الفروع تعليل الاصل ببعض أوصافه لا بجميع أوصافه، وقد بينا أنه متى كان التعليل بجميع أوصاف الاصل لا يكون مقايسة، فبيان المفارقة بين الاصل والفرع بذكر وصف آخر لا يوجد ذلك في الفرع ويرجع إلى بيان صحة المقايسة، فأما أن يكون ذلك اعتراضا على العلة فلا.
ثم ذكر وصف آخر في الاصل يكون ابتداء دعوى والسائل جاهل مسترشد في موقف المنكر إلى أن تتبين له الحجة لا في موضع الدعوى، وإن اشتغل بإثبات دعواه فذلك لا يكون سعيا في إثبات الحكم المقصود وإنما يكون سعيا في إثبات الحكم في الاصل وهو مفروغ عنه، ولا يتصل ما يثبته بالفرع إلا من حيث إنه ينعدم ذلك المعنى في الفرع وبالعدم لا يثبت الاتصال، وقد بينا أن العدم لا يصلح أن يكون موجبا شيئا، فكان هذا منه اشتغالا بما لا فائدة فيه.
والثالث ما بينا أن الحكم في الاصل يجوز أن يكون معلولا بعلتين ثم يتعدى الحكم إلى بعض الفروع بإحدى العلتين دون الاخرى، فبان انعدام في الفرع الوصف الذي يروم به السائل الفرق، وإن سلم له أنه علة لاثبات
الحكم في الاصل فذلك لا يمنع المجيب من أن يعدي حكم الاصل إلى الفرع بالوصف الذي يدعيه أنه علة للحكم، وما لا يكون قدحا في كلام المجيب فاشتغال السائل به يكون اشتغالا بما لا يفيد، وإنما المفاقهة في الممانعة حتى يبين المجيب تأثير علته، فالفقه حكمة باطنة، وما يكون مؤثرا في إثبات الحكم شرعا فهو الحكمة الباطنة، والمطالبة به تكون مفاقهة،
فأما الاعراض عنه والاشتغال بالفرق يكون قبولا لما فيه احتمال أن لا يكون حجة لاثبات الحكم، واشتغالا بإثبات الحكم بما ليس بحجة أصلا في موضع النزاع وهو عدم العلة، فتبين أن هذا ليس من المفاقهة في شئ، والله أعلم.
فصل: الممانعة قال رضي الله عنه: اعلم بأن الممانعة أصل الاعتراض على العلة المؤثرة من حيث إن الخصم المجيب يدعي أن حكم الحادثة ما أجاب به، فإذا لم يسلم له ذلك يذكر وصفا يدعي أنه علة موجبة للحكم في الاصل المجمع عليه وأن هذا الفرع نظير ذلك الاصل، فيتعدى ذلك الحكم بهذا الوصف إلى الفرع، وفي هذا الحكم دعويان فهو أظهر في الدعوى من الاول، أي حكم الحادثة، وإن كانت المناظرة لا تتحقق إلا بمنع دعوى السابق عرفنا أنها لا تتحقق إلا بمنع هذه الدعاوى أيضا فيكون هو محتاجا إلى إثبات دعاويه بالحجة، والسائل منكر فليس عليه سوى المطالبة لاقامة الحجة بمنزلة المنكر في باب الدعاوى والخصومات، وإليه أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث قال للمدعي: (ألك بينة) وبالممانعة يتبين العوار، ويظهر المدعي من المنكر، والملزم من الدافع بعدما ثبت شرعا أن حجة أحدهما
غير حجة الآخر.
ثم الممانعة على أربعة أوجه: ممانعة في نفس العلة، وممانعة في الوصف الذي يذكر المعلل أنه علة، وممانعة في شرط صحة العلة أنه موجود في ذلك الوصف، وممانعة في المعنى الذي به صار ذلك الوصف علة للحكم.
أما الممانعة في نفس العلة فكما بينا أن كثيرا من العلل إذا تأملت فيها تكون احتجاجا بلا دليل، وذلك لا يكون حجة على الخصم لاثبات
الحكم.
وبيان هذا فيما علل به الشافعي رحمه الله في النكاح أنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال كالحدود والقصاص.
وهذا النوع لا يصلح حجة لايجاب الحكم عندنا على ما بينا، فترك الممانعة فيه تكون قبولا من الخصم ما لا يكون حجة أصلا وذلك دليل الجهل، فكانت الممانعة في هذا الموضع دليل المفاقهة.
وأما ممانعة الوصف الذي هو العلة فبيانه فيما علل به أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن الايداع من الصبي تسليط على الاستهلاك، فإن مثل هذا الوصف لا بد أن يكون ممنوعا عند الخصم، لان بعد ثبوته لا يبقى للمنازعة في الحكم معنى.
ونحو ما علل به أبو حنيفة فيمن اشترى قريبه مع غيره أن الاجنبي رضي بالذي وقع العتق به بعينه ونحو ما علل به علماؤنا في صوم يوم النحر أنه مشروع لانه منهي عنه، والنهي يدل على تحقق المشروع ليتحقق الانتهاء عنه كما هو موجب النهي، فإن عند الخصم مطلق النهي بمنزلة النسخ حتى ينعدم به المشروع أصلا.
فلا بد من هذه الممانعة لمن يريد الكلام في المسألة على سبيل المفاقهة.
وأما الممانعة في الشرط الذي لا بد منه ليصير الوصف علة، بيانه فيما
ذكرنا أن من الاوصاف ما يكون مغيرا حكم الاصل ومن شرط صحة العلة أن لا يكون مغيرا حكم النص، وذلك نحو تعليل الاشياء الاربعة بالطعم فإنه يغير حكم النص، لان الحكم في نصوص الربا حرمة الفضل على القدر وثبوت الحرمة إلى غاية وهو المساواة، والتعليل بالطعم يثبت في المنصوص حرمة فضل لا على القدر، وحرمة مطلقة لا إلى غاية المساواة، يعني في الحفنة من الحنطة، وفيما لا يدخل تحت القدر من المطعومات التي هي فرع في هذا الحكم، فلا بد من هذه الممانعة، لان الحكم لا يثبت بوجود ركن الشئ مع انعدام شرطه.
وأما الممانعة في المعنى الذي يكون به الوصف علة موجبة للحكم شرعا فهو المطالبة ببيان التأثير، لما بينا أن العلة به تصير موجبة للحكم شرعا وهي الحكمة الباطنة التي يعبر عنها بالفقه.
والحاصل أن في الدعوى والانكار يعتبر المعنى دون الصورة، فقد يكون المرء مدعيا صورة وهو منكر معنى، ألا ترى أن المودع إذا ادعى رد الوديعة يكون منكرا للضمان معنى، ولهذا كان القول قوله مع اليمين، وإنما جعل الشرع اليمين في جانب المنكر.
والبكر إذا قالت: بلغني النكاح فرددت، وقال الزوج بل سكتت، فالقول قولها عندنا، وهي في الصورة تدعي الرد ولكنها تنكر ثبوت ملك النكاح عليها في المعنى، فكانت منكرة لا مدعية.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: إذا اختلف المتبايعان في الثمن بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري مع يمينه، وهو في الصورة يدعي بيعا بأقل الثمنين ولكنه في المعنى منكر للزيادة التي يدعيها البائع، فعرفنا أنه إنما يعتبر المعنى في الدعوى والانكار
دون الصورة.
إذا ثبت هذا فنقول: هذه الوجوه من الممانعة تكون إنكارا من السائل فلا حاجة به إلى إثبات إنكاره بالحجة، واشتغاله بذلك يكون اشتغالا بما لا يفيد، وقوله إن الحكم في الاصل ما تعلق بهذا الوصف فقط بل به وبقرينة أخرى يكون إنكارا صحيحا من حيث المعنى وإن كان دعوى من حيث الصورة، لان الحكم المتعلق بعلة ذات وصفين لا يثبت بوجود أحد الوصفين.
وذلك نحو ما يعلل به الشافعي رحمه الله في اليمين المعقودة على أمر في المستقبل لانها يمين بالله مقصودة فيتعدى الحكم بهذا الوصف إلى الغموس.
فإنا نقول: الحكم في الاصل ثبت بهذا الوصف مع قرينة وهو توهم البر فيها فيكون هذا منعا لما ادعاه الخصم والخصم هو المحتاج إلى إثبات دعواه بالحجة.
فأما قول السائل: ليس المعنى في الاصل ما قلت وإنما المعنى فيه كذا، هو إنكار صورة ولكنه من حيث المعنى دعوى وهو دعوى غير مفيد في موضع النزاع، لانه لا يمكنه أن يقول في موضع النزاع لتقرير ذلك المعنى سوى أن هذا المعنى معدوم في موضع النزاع، وعدم العلة لا يوجب عدم الحكم وإن كان هذا يصلح للترجيح به من وجه، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
فصل: القلب والعكس قال رضي الله عنه: تفسير القلب لغة: جعل أعلى الشئ أسفله وأسفله أعلاه.
من قول القائل: قلبت الاناء إذا نكسه، أو هو: جعل بطن الشئ ظهرا والظهر بطنا.
من قول القائل: قلبت الجراب إذا جعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وقلبت الامر إذا جعله ظهرا لبطن.
وقلب العلة على هذين الوجهين.
وهو نوعان: أحدهما جعل المعلول علة والعلة معلولا،
وهذا مبطل للعلة، لان العلة هي الموجبة شرعا والمعلول هو الحكم الواجب به فيكون فرعا وتبعا للعلة، وإذا جعل التبع أصلا والاصل تبعا كان ذلك دليل بطلان العلة.
وبيانه فيما قال الشافعي في الذمي إنه يجب عليه الرجم لانه من جنس من يجلد بكره مائة فيرجم ثيبه كالمسلم.
فيقلب عليه فنقول: في الاصل إنما يجلد بكره لانه يرجم ثيبه فيكون ذلك قلبا مبطلا لعلته باعتبار أن ما جعل فرعا صار أصلا وما جعله أصلا صار تبعا.
وكذلك قوله: القراءة ركن يتكرر فرضا في الاوليين فيتكرر أيضا فرضا في الاخريين كالركوع.
وهذا النوع من القلب إنما يتأتى عند التعليل بحكم لحكم، فأما إذا كان التعليل بوصف لا يرد عليه هذا القلب، إذ الوصف لا يكون حكما شرعيا يثبت بحكم آخر.
وطريق المخلص عن هذا القلب أن لا يذكر هذا على سبيل التعليل بل على سبيل الاستدلال بأحد الحكمين على الآخر، فإن الاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في الحوادث، روينا ذلك عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم، ولكن شرط هذا الاستدلال أن يثبت أنهما نظيران متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه، هذا على ذاك في حال وذاك على هذا في حال، بمنزلة التوأم فإنه يثبت حرية الاصل لاحدهما أيهما كان بثبوته للآخر، ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته للآخر، وذلك نحو ما يقوله علماؤنا رحمهم الله.
وبيانه فيما قال علماؤنا: إن الصوم عبادة تلزم بالنذر فتلزم بالشروع كالحج، فلا يستقيم قلبهم علينا، لان الحج إنما يلزم بالنذر لانه يلزم بالشروع،
لانا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى،
على وجه يكون المعنى فيها لازما، والرجوع عنها بعد الاداء حرام، وإبطالها بعد الصحة جناية، فبعد ثبوت المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذاك تارة وذاك على هذا تارة.
وكذلك قولنا في الثيب الصغيرة من يكون موليا عليه في ماله تصرفا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا كالبكر، وفي البكر البالغة من لا يكون موليا عليه في ماله تصرفا لا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا كالرجل، يكون استدلالا صحيحا بأحد الحكمين على الآخر، إذ المساواة قد تثبت بين التصرفين من حيث إن ثبوت الولاية في كل واحد منهما باعتبار حاجة المولى عليه وعجزه عن التصرف بنفسه، فلا يستقيم قلبهم إذا ذكرنا هذا على وجه الاستدلال، لان جواز الاستدلال بكل واحد منهما على الآخر يدل على قوة المشابهة والمساواة وهو المقصود بالاستدلال، بخلاف ما علل به الشافعي، فإنه لا مساواة بين الجلد والرجم، أما من حيث الذات فالرجم عقوبة غليظة تأتي على النفس والجلد لا، ومن حيث الشرط الرجم يستدعي من الشرائط ما لا يستدعي عليه الجلد كالثيوبة.
وكذلك لا مساواة بين ركن القراءة وبين الركوع، فإن الركوع فعل هو أصل في الركعة، والقراءة ذكر هو زائد، حتى إن العاجز عن الاذكار القادر على الافعال يؤدي الصلاة، والعاجز عن الافعال القادر على الاذكار لا يؤديها، ويسقط ركن القراءة بالاقتداء عندنا وعند خوف فوت الركعة بالاتفاق، ولا يسقط ركن الركوع.
وكذلك لا مساواة بين الشفع الثاني والشفع الاول في القراءة، فإنه يسقط في الشفع الثاني شطر ما كان مشروعا في الشفع الاول وهو قراءة السورة، والوصف المشروع فيه في الشفع الاول وهو الجهر بالقراءة، ومع انعدام المساواة لا يمكن الاستدلال بأحدهما على الآخر، والقلب يبطل التعليل على وجه المقايسة.
والنوع الثاني من القلب: هو جعل الظاهر باطنا بأن يجعل الوصف الذي
علل به الخصم شاهدا عليه لصاحبه في إثبات ذلك الحكم بعد أن كان شاهدا له، وهذه معارضة فيها مناقضة، لان المطلوب هو الحكم، فالوصف الذي يشهد بإثباته من وجه وينفيه من وجه آخر يكون متناقضا في نفسه، بمنزلة الشاهد الذي يشهد لاحد الخصمين على الآخر في حادثة، ثم للخصم الآخر عليه في عين تلك الحادثة فإنه يتناقض كلامه، بخلاف المعارضة بعلة أخرى فإنه لا يكون فيها معنى التناقض، بل للاشتباه يتعذر العمل إلى أن يتبين الرجحان لاحدهما على الآخر، فأما ما يشهد لك على خصمك وبخصمك عليك في حادثة واحدة في وقت واحد بأنه يتحقق فيه التعارض مع التناقض.
وبيان ذلك فيما علل به الشافعي في صوم رمضان بمطلق النية إنه صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كصوم القضاء.
فإنما نقلب عليه فنقول: إنه صوم فرض فبعد ما تعين مرة لا يشترط لادائه تعيين بنية أخرى كصوم القضاء.
وعلل في سنة التكرار في المسح بالرأس فإنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه واليدين.
فإنا نقلب عليه فنقول: ركن في الوضوء فبعد إكماله بالزيادة على المفروض في محل الفريضة لا يسن تثليثه كالمغسولات، وإقامة الفرض هنا يحصل بمسح الربع وبالاستيعاب يحصل الاكمال بالزيادة على الفريضة في محل الفريضة، كما في المغسولات بالغسل ثلاثا يحصل الاكمال بالزيادة على القدر المفروض وهو الاستيعاب في محل المفروض.
فإن قيل: هذا القلب إنما يتأدى بزيادة وصف، وبهذه الزيادة يتبدل الوصف ويصير شيئا آخر فيكون هذا معارضة لا قلبا.
قلنا: نعم في هذا زيادة وصف ولكنها تفسير للحكم على وجه التقرير له لا على وجه التغيير، فإنا نبين
بهذه الزيادة أن صوم رمضان لما تعين مشروعا في الزمان وغيره ليس بمشروع كان قياسه من القضاء ما بعد التعيين بالشروع فيه، والاستيعاب في المسح بالرأس لما لم يكن ركنا كان قياسه من المغسولات بعد حصول الاستيعاب ما إذا حصل الاكمال في المغسولات بالزيادة بعد الاستيعاب، فيكون تقريرا لذلك الوصف بهذا التفسير لا تغييرا.
وتفسير العكس لغة وهو: رد الشئ على سننه وراءه، مأخود من عكس المرآة، فإن نورها يرد نور بصر الناظر فيما وراءه على سننه حتى يرى وجهه كأن له في المرآة وجها وعينا يبصر به.
وكذلك عكس الماء نور الشمس، فإنه يرد نورها حتى يقع على جدار بمقابلة الماء كأن في الماء شمسا.
ثم العكس في العلة على وجهين: أحدهما رد الحكم على سننه بما يكون قلبا لعلته حتى يثبت به ضد ما كان ثابتا بأصله، نحو قولنا في الشروع في صوم النفل إن ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع كالحج، وعكسه إن ما لا يلتزم بالنذر لا يلتزم بالشروع كالوضوء، فيكون العكس على هذا المعنى ضد الطرد، وهذا لا يكون قادحا في العلة أصلا بل يصلح مرجحا لهذا النوع من العلة على العلة التي تطرد ولا تنعكس على ما نبينه في بابه.
والنوع الآخر ما يكون عكسا يوجب الحكم لا على سنن حكم الاصل، بل على مخالفة حكم الاصل، وذلك نحو ما يعلل به الشافعي في أن الصوم عبادة لا يمضي في فاسدها فلا تصير لازمة بالشروع فيها كالوضوء، وعكسه الحج فهذا التعليل له، نظير التعليل الاول لنا، ونحن إذا قلنا بأن ما يلتزم بالنذر من العادة يلتزم بالشروع كالحج فهو يقول ينبغي أن يستوي حكم الشروع فيه بنية النفل وحكم الشروع فيه على ظن أنه عليه كالحج، فيكون في هذا العكس نوع
كسر للعلة حيث تمكن الخصم به من إثبات حكم هو مخالف للحكم الاول ولكنه ليس بقوي، فإن الحكم الذي تعلقه مجمل غير مفسر وما علقنا به من الحكم مفسر فالمفسر أولى من المجمل، ثم هو تعلق به حكم التسوية والحكم المقصود شئ آخر يختلف فيه الفرع والاصل على سبيل التضاد، فإن في الاصل يستويان حتى يجب القضاء فيهما، وفي الفرع عنده يستويان حتى يسقط القضاء فيهما، وإنما يستقيم هذا التعليل إذا كان المقصود عين التسوية، ولانه في هذا
العكس ينص على حكم آخر سوى ما ذكرناه في التعليل، فلا يكون إبطالا بطريق النظر وإنما يكون العكس دفعا لما فيه من الابطال والمناقضة، فإذا عرى عن ذلك لم يكن دفعا، ولانه علل بحكم مجمل لا يتصل بالمتنازع فيه إلا بكلام هو ابتداء وليس للسائل دلك، فظهر أن العكس سؤال ضعيف.
فصل في المعارضة وقد بينا تفسير المعارشة فيما مضى، وهذا الفصل لبيان إقسامها، وتمييز الفاسد من الصحيح منها.
فنقول: المعارضة نوعان: نوع في علة الاصل: ونوع في حكم الفرع.
فالذي في حكم الفرع على خمسة أوجه: معارضة بالتنصيص على خلاف حكم العلة في ذلك المحل بعينه، ومعارضة بتغيير هو تفسير لذلك الحكم على وجه التقرير له: ومعارضة بتغيير فيه إخلال بموضع الخلاف: ومعارضة فيها نفى ما لم يثبته المعلل أو إثبات ما لم ينفه المعلل ولكنه يتصل بموضع التعليل، ومعارضة بإثبات حكم في غير المحل الذى أثبت المعلل الحكم فيه بعلته والذى في علة الاصل أنواع ثلاثة: معارضة بذكر علة في الاصل لا تتعدى إلى فرع: ومعارضة بذكر علة تتعدى إلى فرع الحكم فيه متفق
عليه، ومعارضة بعلة تتعدى إل يفرع الحكم فيه مختلف فيه.
وبيان الوجه الاول من الاوجه الخمسة في تكرار المسح بالرأس، فإن الخصم يقول: ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالمغسول، ونحن نعارضه بقولنا: مسح في الطهارة فلا يسن تثليثه كالمسح بالخف، فهذه معارضة صحيحة لما فيها من التنصيص على خلاف حكم علته في ذلك المحل بعينه، وبيان الوجه الثاني في هذا الموضع أيضا، فإنا نقول: ركن في الوضوء فبعد صفة الاكمال بالزيادة على القدر المفروض في الفريضة لا يسن تثليثه كما في المغسولات.
فهقه معارضة بتغيير هو تفسير للحكم في تقريره.
وهذان وجهان في المعارضة المحوجة إلى الترجيح، لان عند صحة المعارضة يصار إلى الترجيح.
وبيان الوجه الثالث: فيما يعلل به في غير الاب والجد هل تثبت لهم ولاية التزويج على الصغيرة ؟ فنقول إنها صغيرة فتثبت علهيا ولاية التزويج كالتى لها أب، وهم يعارضون ويقولون: هذه صغيرة فلا تثبت عليها ولاية التزويج للاخ كالتى لها أب، فتكون هذه معارضة بتغيير فيه إخلال بموضع النزاع، لان موضع النزاع ثبوت ولاية التزويج على اليتيمة لاتعيين الولى الزوج لها، وهو في معارضته علل لنفى الولاية بشخص بعينه، ولكنه يقول: إن موضع النزاع إثبات الولاية للاقارب سوى الاب والجد على الصغيرة وأقربهم الاخ، فنحن بهذه المعارضة ننفي ولاية الاخ عنها، ثم ولاية من وراء الاخ منتفية عنها بالاخ، فمن هذا الوجه يظهر معنى الصحة في هذه العمارضة وإن لم يكن قويا.
وبيان الوجه الرابع فيما ذكرنا في النوع الثاني من العكس، وذلك فيما
يعلل به في مسألة الكافر يشترى عبدا مسلما إنه مال يملك الكافر بيعه فيملك شراءه كالعبد الكافر، فيقولون: وجب أن يستوى حكم شرائه ابتداء وحكم استدامة الملك فيه كالعبد الكافر الكافر.
فنقول: في هذه المعارضة إثبات ما لم ينفه بالتعليل وهو التسوية بين أصل الشراء وبين استدامة الملك به فلا تكون متصلة بموضع النزاع إلا بعد البناء بإثبات التسوية بين الاستدامة وابتداء الشراء، وليس للسائل هذا البناء، فلم تكن هذه المعارضة صحيحة بطريق النظر وإن كان يظهر فيها معنى الصحة عند إثبات التسوية بينهما.
وبيان الوجه الخامس فيما يقوله أبو حنيفة رضى الله عنه في المرأة إذا نعى إليها زوجها فاعتدت وتزوجت بروج آخر وولدت منه أولادا ثم جاء الزوج الاول حيا، فإن نسب الاولاد يثبت من الاول لاونه صاحب فراش صحيح عليها وثبوت النسب باعتبار الفراش.
وهما يعارضان بأن الثاني صاحب فراش حاصر ومع صفة الفساد يثبت النسب من صاحب الفراش
كما لو تزوج امرأة بغير شهود ودخل بها، فهذه معارضة بإثبات حكم في غير المحل الذي وقع التعليل، إذ الفاسد غير الصحيح والكلام في أن النسب بعدما صار مستحقا بثبوته لشخص هل هو يجوز أن يثبت لغيره باعتبار فراشه، فإن الاول بفراشه السابق يصير مستحقا نسب أولادها ما بقي فراشها، فيقع الكلام بعد هذا في الترجيح، أن أصل الفراش للثاني باعتبار كونه حاضرا وكونه صاحب الماء هل يترجح على الفراش الصحيح الذي للغائب حتى ينتسخ به حكم الاستحقاق الثابت بفراشه أم لا ؟ وأبو حنيفة يقول: هذا لا يكون صالحا للترجيح، لان الشئ لا ينسخه إلا ما هو
مثله أو فوقه، والفاسد من الفراش مع هذه القرائن لا يكون مثلا للصحيح فلا ينسخ به حكم الاستحقاق الثابت بالصحيح، وبعدما صار النسب مستحقا لزيد لا يمكن إثباته لعمرو بوجه ما، والنكاح بغير شهود ليس من هذا المحل في شئ، فعرفنا أنه معارضة في غير محل الحكم.
فأما وجوه المعارضة في علة الاصل فهي فاسدة كلها لما بينا أن ذكر علة أخرى في الاصل لا يبقى تعليله بما ذكره المعلل، لجواز أن يكون في الاصل وصفان فيتعدى الحكم بأحد الوصفين إلى الفروع دون الآخر، ثم إن كان الوصف الذي يذكره المعارض لا يتعدى إلى فرع فهو فاسد، لما بينا أن حكم التعليل التعدية فما لا يفيد حكمه أصلا يكون فاسدا من التعليل، فإن كان يتعدى إلى فرع فلا اتصال له بموضع النزاع إلا من حيث إنه تنعدم تلك العلة في هذا الموضع، وقد بينا أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم، فعرفنا أنه لا اتصال لتلك العلة بموضع النزاع في النفي ولا في الاثبات، وكذلك إن كانت تتعدى إلى فرع مختلف فيه فالمتعدية إلى فرع مجمع عليه تكون أقوى من المتعدية إلى فرع مختلف فيه، ولما تبين فساد تلك تبين فساد هذا بطريق الاولى.
ومن الناس من يزعم أن هذه معارضة حسنة فيها معنى الممانعة، لان بالاجماع علة الحكم أحد الوصفين لا كلاهما فإذا ظهرت صحة علة السائل بظهور حكمها وهو التعدية يتبين فساد العلة الاخرى.
بيانه: أنا نقول في تعليل الحنطة إنه باع مكيلا بمكيل من جنسه متفاضلا، ثم تعدى الحكم بها إلى الحص وغيره.
والخصم يعارض فيقول: باع مطعوما بمطعوم من جنسه متفاضلا لتعدي الحكم به إلى المطعومات التي هي غير مقدرة كالتفاح
ونحوها، وقد ثبت باتفاق الخصمين أن علة الحكم أحدهما فإذا ثبت صحة ما ادعاه أحدهما علة انتفى الآخر بالاجماع، فكانت في هذه المعارضة ممانعة من هذا الوجه.
ولكنا نقول: لا تنافي بين العلتين ذاتا لجواز أن يعلق الحكم بكل واحد منهما، فمن أنكر صحة ما ادعاه خصمه من العلة لا يفسد ذلك بمجرد تصحيح علته بل بذكر معنى مفسد في علة خصمه، كما أنه لا يثبت وجه صحة علته بإفساد علة خصمه بل بمعنى هو دليل الصحة في علته، فعرفنا أن هذه المعارضة فاسدة أيضا.
ثم السبيل في كل كلام يذكره أهل الطرد على سبيل المفارقة إذا كان فقيها أن يذكره على وجه الممانعة فيكون ذلك فقها صحيحا من السائل على حد الانكار لا بد من قبوله منه.
وبيان ذلك أن الخصم يقول في عتق الرهن إن هذا تصرف من الراهن مبطل لحق المرتهن عن المرهون، فلا ينفذ بغير رضاه كالبيع، والفرق لنا بين هذا وبين البيع أن ذاك يحتمل الفسخ بعد وقوعه، فيمكن القول بانعقاده على وجه يتمكن المرتهن من فسخه، والعتق لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه، وهو بهذا التعليل يلغي أصل العتق ولا نسلم له هذا الحكم في الاصل، ثم من شرط صحة العلة أن لا يكون مغيرا حكم الاصل، فإن كان هو بالتعليل يغير حكم الاصل فيجعل الحكم فيه الالغاء دون الانعقاد على وجه التوقف منعناه من التعليل لانه ينعدم به شرط صحة التعليل، وإن أثبت به حكم الاصل وهو امتناع اللزوم بعد الانعقاد في محله لمراعاة حق المرتهن فهذا لا تصور له فيما لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه، وكذلك إن رده على إعتاق المريض فإن ذلك عندنا ليس يلغو،
فإن كان يعلل لالغاء العتق من الراهن فهذا تعليل يتغير به حكم الاصل وذلك غير صحيح عندنا فنمنعه بهذا الطريق، وعلى الوجه الذى هو حكم الاصل وهو
تأخير تنفيذ الوصية عن قضاء الدين لا يمكنه إثباته بهذا التعليل في الفرع فكانت الممانعة صحيحة بهذا الطريق، وكذلك تعليل الخصم في قتل العمد بأنه قتل آدمى مضمون فيكون موجبا للمال كالخطأ، فإن الفرق بين الفرع والاصل لاهل الطرف أن في الخطأ لا يمكن إيجاب مثل التلفف من جنسه وهنا المثل من جنسه واجب، والاولى أن يقول في الاصل المال إنما يجب حلفا عما هو الاصل لفوات الاصل، وهو بهذا التعليل يوجب المال في الفرع أصلا فيكون في هذا التعليل يعرض بحكم الاصل بالتغيير، وشرط صحة التعليل أن لا يكوم متعرضا لحكم الاصل، فنمنعه من التعليل بهذا الطريق حتى يكون كلاما من السائلا على حد الانكار صحيحا.
فصل في وجوه دفع المناقضة قد ذكرنا أن المناقضة لا ترد على العلل الؤثرة، لان دليل الصحة فيها بالتأثير الثابت بالاجماع، والنقض لايرد على الاجماع وإنما يرد النقض على العلل الطردية، لان دليل صحتها الاطراد وبالمناقضة ينعدم الاطراد، ثم تقع الحاجة إلى معرفة وجه دفع النقض صورة أو سؤالا معتبرا عن العلل.
والحاصل فيه أن المجيب متى وفق بين ما ذكر من العلة وبين ما يورد نقضا عليها بتوفيق بين فإنه يندفع النقض عنه، وإذا لم يمكنه التوفيق بينهما يلزمه سؤال النقض، بمنزلة التناقض الذى يقع في مجلس القاضى من الدعوى والشهادة وبين شهادة الشهود، فإن ذلك ينتفى بتوفيق صحيح بين ثم وجوه الدفع أربعة، دفع بمعنى الوصف الذى جعله علة بما هو ثابت بصيغته ظاهرا، ودفع بمعنى الوصف الذى هو ثابت بدلالته وهى التى صارت بها حجة وهو التأصير الذى قلنا، ودفع بالحكم الذى هو المقصود، ودفع بالفرض المطلوب بالتعليل.
فبيان الوجه الاول في تكرار المسح فإنا نقول: مسح فلا يسن تثليثه كالمسح بالخف، فيورد عليه الاستنجاء بالاحجار نقضا، فندفعه بمعنى الوصف الثابت بصيغته ظاهرا، وهو قولنا: مسح، فإن في الاستنجاء بالاحجار لا معتبر بالمسح بل المعتبر إزالة النجاسة حتى لو تصور خروج الحدث من غير أن يتلوث شئ منه من ظاهر البدن لا يجب المسح، والدليل عليه أن الاستطابة بالماء بعد إزالة عين النجاسة بالحجر فيه أفضل، ومعلوم أن في العضو الممسوح لا يكون الغسل بعد المسح أفضل، وكذلك إذا قلنا في الخارج من غير السبيلين إنه حدث لانه خارج نجس يورد عليه ما إذا لم يسل عن رأس الجرح: ودفع هذا النقض بمعنى الوصف ظاهرا وهو قولنا: خارج، فما لم يسل فهو طاهر لتقشير الجلد عنه وليس بخارج إنما الخارج ما يفارق مكانه وتحت كل موضع من الجلد بلة وفى كل عرق دم، فإذا تقشر الجلد عن موضع ظهر ما تحته فلا يكون خارجا كمن يكون في البيت إذا رفع البنيان الذى كان هو مستترا به يكون ظاهرا ولا يكون خارجا، وإنما يسمى خارجا من البيت إذا فارق مكانه، ولهذا لا يجب تطهير ذلك الموضع، لانه ما لم يصر خارجا من مكانه لا يعطى له حكم النجاسة.
وبيان الوجه الثاني في هذين الفصلين أيضا، فإن تأثير قولنا مسح أنه طهارة حكمية غير معقولة المعنى وهى مبنية على التخفيف، إلا ترى أنه لا تأثير للمسح في إثبات صفة الطهارة بعد تنجس المحل حقيقة، وأنه يتأدى ببعض المحل للتخفيف، فلا يرد عليه الاستنجاء، لان المطلوب هناك إزالة عين النجاسة ولهذا لا تنم باستعمال الحجر في بعض المحل دون العبض، فباعتبار الاستيعاب فيه والقصد إلى تطهير المحل بإزالة حقيقة النجاسة عنه يشبه
الاستنجاء الغسل في الاعضاء المغسولة دون المسح له وكذلك قولنا الخارج النجس كان حجة بالتأثير لها وهو وجوب التطهير في ذلك الموضع، فإن بالاجماع غسل ذلك الموضع للتطهير واجب ووجوب التطهير في البدن باعتبار ما يكون منه لا يحتمل التجزى، فيندفع ما إذا لم تسل النجاسة لانه لم يجب
هناك تطهير ذلك الموضع بالغسل.
فعرفنا أنه انعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا يكون مرجحا للعلة فكيف يكون نقضا ؟ ! وسنقرر هذا في بيان ترجيح العلة التي تنعكس على العلة التي لا تنعكس.
وبيان الوجه الثالث فيما يعلل به في النذر بصوم يوم النحر أنه يوم فيصح إضافة النذر إليه كسائر الايام، فيورد عليه يوم الحيض نقضا، ووجه الدفع بالحكم الذي هو المقصود بالتعليل وهو صحة إضافة النذر بالصوم إليه وذلك اليوم يصح إضافة النذر بالصوم إليه، فإنها لو قالت: لله علي أن أصوم غدا، يصح نذرها وإن حاضت من الغد، وإنما فسد نذرها بالاضافة إلى الحيض لا إلى اليوم.
وكذلك يعلل في التكفير بالمكاتب، فنقول: عقد الكتابة يحتمل الفسخ فلا تخرج الرقبة من جواز التكفير بعتقها كالبيع والاجارة، فيورد عليه نقضا ما إذا أدى بعض بدل الكتابة، وطريق الدفع بالحكم وهو أن هذا العقد لا يخرج الرقبة من أن تكون محلا للتكفير بها، وهنا العقد لا يخرج الرقبة من ذلك، ولكن معنى المعاوضة هو الذي يمنع صحة التكفير بذلك التحرير، وبعض أهل النظر يعبرون عن هذا النوع من الدفع بأن التعليل للجملة فلا يرد عليه الافراد نقضا، وفقهه ما ذكرنا.
وبيان الوجه الرابع من الدفع فيما عللنا به الخارج من غير السبيلين، فإنه خارج نجس فيكون حدثا كالخارج من السبيلين، فيورد عليه دم الاستحاضة
مع بقاء الوقت نقضا.
وللدفع فيه وجهان: أحدهما أن ذلك حدث عندنا ولكن يتأخر حكمه إلى ما بعد خروج الوقت ولهذا تلزمها الطهارة بعد خروج الوقت وإن لم يكن خروج الوقت حدثا، والحكم تارة يتصل بالسبب وتارة يتأخر عنه، فهذا الدفع من جملة الوجه الثالث ببيان أنه حدث بالجملة والثاني أن المقصود بهذا التعليل التسوية بين الفرع والاصل وقد سوينا، فإن الخارج المعتاد من السبيل إذا كان دائما يكون حدثا موجبا للطهارة بعد خروج الوقت لا في الوقت، فكذلك الذي هو غير المعتاد والذي هو خارج من غير سبيل.
وكذا إذا عللنا في أن السنة في التأمين الاخفاء بقولنا إنه ذكر لا يدخل عليه الاذان ولا التكبيرات التي يجهر بها الامام، لان الغرض التسوية بين التأمين
وبين سائر الاذكار في أن الاصل هو الاخفاء وذلك ثابت، إلا إن جهر الامام بالتكبيرات لا لانها ذكر بل لاعلام من خلفه بالانتقال من ركن إلى ركن، والجهر بالاذان والاقامة كذلك أيضا، ولهذا لا يجهر المقتدي بالتكبيرات ولا يجهر المنفرد بالتكبيرات ولا بالاذان والاقامة، فيدفع النقض ببيان الغرض المطلوب بالتعليل وهو التسوية بين هذا الذكر وبين سائر أذكار الصلاة.
وبعض أهل النظر يعبرون عن هذا فيقولون: مقصودنا بهذا التعليل التسوية بين الفرع والاصل وقد سوينا بينهما في موضع النقض كما سوينا في موضع التعليل، فيتبين به وجه التوفيق بطريق يندفع به التناقض، والله أعلم.
باب الترجيح قال رضي الله عنه: الكلام في هذا الباب في فصول: أحدها في معنى الترجيح لغة وشريعة، والثاني في بيان ما يقع به الترجيح، والثالث في بيان المخلص من تعارض يقع في الترجيح، والرابع في بيان ما هو فاسد من
وجوه الترجيح.
فأما الاول فنقول: تفسير الترجيح لغة إظهار فضل في أحد جانبي المعادلة وصفا لا أصلا، فيكون عبارة عن مماثلة يتحقق بها التعارض، ثم يظهر في أحد الجانبين زيادة على وجه لا تقوم تلك الزيادة بنفسها فيما تحصل به المعارضة أو تثبت به المماثلة بين الشيئين، ومنه الرجحان في الوزن فإنه عبارة عن زيادة بعد ثبوت المعادلة بين كفتي الميزان وتلك الزيادة على وجه لا تقوم منها المماثلة ابتداء ولا يدخل تحت الوزن منفردا عن المزيد عليه مقصودا بنفسه في العادة نحو الحبة في العشرة، وهذا لان ضد الترجيح التطفيف، وإنما يكون التطفيف بنقصان يظهر في الوزن أو الكيل بعد وجود المعارضة بالطريق الذي تثبت به المماثلة على وجه لا تنعدم به المعارضة، فكذلك الرجحان يكون بزيادة وصف على وجه لا تقوم به المماثلة ولا ينعدم بظهوره أصل المعارضة، ولهذا لا تسمى زيادة درهم على العشرة في أحد
الحانبين رجحانا، لان المماثلة تقوم به أصلا، وتسمى زيادة الحبة ونحوها رجحانا لان المماثلة لا تقوم بها عادة.
وكذل في لا شريعة هو عبارة عن زيادة تكون وصفا لا أصلا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للوازن: " زن وأرجح فإنا معشر الانبياء هكذا زن " ولهذاد لا يثبت حكم الهبة في مقدار الرجحان، لانه زيادة تقوم وصفا لا مقصودا بسببه، بخلاف زيادة الدرهم على العشرة، فإنه يثبت فيه حكم الهبة حتى لو لم يكن متميزا كان الحكم فيه كالحكم في هبة المشاع لانه مما تقوم به المماثلة فإنه يكون مقصودا بالوزن فلا بد من أن يجعل مقصودا في التمليك بسببه وليس ذلك إلا الهبة، فإن قضاء العشرة يكون بمثلها عشرة، فيتبين أن بالرجحان لا ينعدم أصل المماثلة
لانه زيادة وصف بمنزلة زيادة وصف الجودة - وما يكون مقصودا بالوزن تنعدم به المماثلة ولا يكون ذلك من الجرحان في شئ وعلى هذا قلنا في العلل في الاحكام: إن ما يصلح علة للحكم ابتداء لا يصلح للترجيح به وإنما يكون الترجيح بمالا يصلح علة موجبة للحكم.
وبيان ذلك في الشهادات، فإن أحد المدعيين لو أقام شاهدين وأقام الاخر أربعة من الشهود لم يترجح الذى شهد له أربعة لان زيادة الشهادين في حقه علة تامة للحكم فلا يصلح مرجحا للحجة في جانبه، وكذلك زيادة شاهد واحد لاحد المدعيين، لانه من جنس ما تقوم به الحجة إصلا فلا يقع الترجيح به إصلا وإنما يقع الترجيح بما يقوى ركن الحجة أو يقوى معنى الصدق في الشهادگة وذلك فى أن تتعارض شهادة المستور مع شهادة العدل بأن أقام أحد المدعيين مستورين والاخر عدلين، فإنه يترجح الذى شهد به العدلان بظهور ما يؤكد معنى الصدق في شهادة شهوده.
وكذلك في النسب أو النكاح لو ترجح حجة أحد الخصمين باتصال القضاء بها، لان ذلك مما يؤكد ركن الحجة، فإن بقضاء القاضى يتم معنى الحجة في الشهادة ويتعين جانب الصدق - وعل يهذا قلنا في العلتين إذا تعارضتا لاتترجح إحداهما بانضمام علة إخرى إليها، وإنما تترجح بقوة الاثر فيها، فبه يتأكد ما هو الركن في صحة العلة.
وكذلك الخبران إذا تعارضا لا يترجح أحدهما على الاخر بل بما به يتأكد معنى الحجة
فيه وهو الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يرجح المشهور بكثرة رواته على الشاذ لظهور زيادة القوة فيه من حيث الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترجح بفقه الراوى وحسن ضبطه وإتقانه، لانه يتقوى به معنى الاتصال برسول الله على الوجه الذى وصل إلينا بالنقل.
وكذلك
الايتان إذا وقعت المعارضة بينهما لاتترجح إحداهما بآية أخرى بل تترجح بقوة في معنى الحجة وهو أنه نص مفسر والاخر مؤول وكذلك لا يترجح أحد الخبرين بالقياس.
فعرفنا أن ما يقع به الترجيح هو مالا يصلح علة للحكم ابتداء، بل ما يكون مقويا لما به صارت العلة موجبة للحكم.
وعلى هذا قلنا لو أن رجلا جرح رجلا جراحة وجرحه آخر عشر جراحات فمات من ذلك فإن الدية عليهما نصفان.
لان كل جراحة علة تامة ولا يترجح أحدهما بزيادة عدد في العلة في جانبه حته يصير القتل مضافا إليه دون صاحبه بل يصير مضافا إلى فعلهما على وجوه التساوى.
ولو قطع أحدهما يده ثم جز الاخر رقبته فالقاتل هو الذى جز رقبته دون الاخر لزيادة قوة فيما هو علة القتل من فعله وهو أنه لا يتوهم بقاؤه حيا بعد فعله بخلاف فعل الاخر.
وعلى هذا الاصل رجحنا سبب استحقاق الشفعة للشريك في نفس المبيع على السبب في حق الشريك في حقوق المبيع، ثم رجحنا الشريك في حقوق المبيع على الجار لزيادة وكادة في الاتصال الذى ثبت بالجوار، فإن اتصال الملكين في حق الشريك في نفس المبيع في كل جزء في حق الشريك في حقوق المبيع الاتصال فيما هو بيع من المبيع، وفى حق الجار لا اتصال من حيث الاختلاط فيما هو مقصود ولا فيما هو تبع وإنما الاتصال من حيث المجاورة بين الملكين مع تميز أحدهما من الاخر، ثم من كان جواره من ثلاث جوانب لا يترجح عل يمن كان جواره من جانب واحد لان الموجود في جانبه زيادة العلة من حيث العدد فلا يثبت به الترجيح.
وعلى هذا قلنا: صاحب القليل يساوى صاحب الكثير في استحقاق الشقص المبيع بالشفعة، لان الشركة بكل جزء علة تامة لاستحقاق جميع الشقص المبيع بالشفعة، فإنما وجد في جانب صاحب الكثير كثرة العلة وبه لا يقع الترجيح.
وهكذا يقول الشافعي في اعتبار أصل الترجيح، فإنه لا يجرح
صاحب الكثير هنا حتى يكون لصاحب القليل حق المزاحمة معه في الاخذ بالشفعة، إلا أنه يجعل الشفعة من جملة مرافق الملك فتكون مقسومة بين الشفعاء على قدر الملك، كالولد والربح والثمار من الاشجار المشتركة، أو يجعل هذا بمنزلة ملك المبيع فيجعله مقسوما على مقدار ما يلتزم كل واحد من المشترين من بدله وهو الثمن، حتى إذا باع عبدا بثلاثة آلاف درهم من رجلين على أن يكون على أحدهما ألف درهم وعلى الآخر بعينه ألفا درهم فإن الملك بينهما في المبيع يكون أثلاثا على قدر الملك.
وهذا غلط منه لانه جعل الحكم مقسوما على قدر العلة، أو بنى العلة على الحكم، وذلك غير مستقيم.
وعلى هذا اتفقت الصحابة في امرأة ماتت عن ابني عم أحدهما زوجها، فإن للزوج النصف والباقي بنيهما العصوبة ولا يترجح الزوج بسبب الزوجية لان ذلك علة أخرى لاستحقاق الميراث سوى ما يستحق به العصوبة، فلا تترجح علته بعلة أخرى ولكن يعتبر كل واحد من السببين في حق من اجتمع في حقه السببان بمنزلة ما لو وجد كل واحد منهما في شخص آخر.
وكذلك قال أكثر الصحابة في ابني عم أحدهما أخ لام إنه لا يترجح بالاخوة لام على الآخر ولكن له السدس بالفرضية، والباقي بينهما نصفان بالعصوبة.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يترجح ابن العم الذي هو أخ لام لان الكل قرابة فتقوى إحدى الجهتين بالجهة الاخرى بمنزلة أخوين أحدهما لاب وأم والآخر لاب.
وأخذنا بقول أكثر الصحابة، لان العصوبة المستحقة بكونه ابن عم مخالف للمستحق بالاخوة، ولهذا يكون استحقاق ابن العم العصوبة بعد استحقاق الاخ بدرجات، والترجيح بقرابة الام في استحقاق العصوبة إنما يكون عند اتحاد جهة العصوبة والاستواء في المنزلة، كما في حق الاخوان فحينئذ يقع الترجيح بقرابة الام لانه لا يستحق بها العصوبة ابتداء فيجوز
أن تتقوى بها علة العصوبة في جانب الاخ لاب وأم، إذ الترجيح يكون بعد المعارضة والمساواة، فأما قرابة الاخوة فهي ليست من جنس قرابة ابن العم حتى تتقوى بها العصوبة الثابتة لابن العم الذي هو أخ لام بل يكون هذا السبب بمنزلة الزوجية فتعتبر حال اجتماعهما في شخص واحد بحال انفراد كل واحد من السببين في شخص آخر.
وكثير من المسائل تخرج على ما تركنا من الاصل في هذا الفصل إذا تأملت.
فصل وما ينتهى إليه ما يقع به الترجيح في الحاصل أربعة: أحدها قوة الاثر، والثاني قوة الثبات على الحكم المشهود به، والثالث كثرة الاصول، والرابع عدم الحكم عند عدم العلة.
أما الوجه الاول فلان المعنى الذي به صار الوصف حجة الاثر، فمهما كان الاثر أقوى كان الاحتجاج به أولى لصفة الوكادة فيما به صار حجة.
فذلك نحو دليل الاستحسان مع القياس، ونحو الاخبار إذا تعارضت، فإن الخبر لما كان حجة لمعنى الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يزيد معنى الاتصال وكادة من الاشتهار، وفقه الراوي وحسن ضبطه واتقانه كان الاحتجاج به أولى.
فإن قيل: أليس أن الشهادات متى تعارضت لم يترجح بعضها بقوة عدالة بعض الشاهد، وهي إنما صارت حجة باعتبار العدالة ثم بعد ظهور عادلة الفريقين لا يقع الترجيح بزيادة معنى العدالة ؟ قلنا: العدالة ليست بذي أنواع متفاوتة حتى يظهر لبعضها قوة عند المقابلة بالبعض، وهي عبارة عن التقوى والانزجار عن ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه، وذلك مما لا يمكن الوقوف فيه على حد أن يرجح البعض بزيادة قوة عند الرجوع إلى حده، بخلاف تأثير
العلة فإن قوة الاثر عند المقابلة تظهر على وجه لا يمكن إنكاره.
وبيان هذا في مسائل.
منها أن الشافعي علل في طول الحرة أنه يمنع نكاح الامة لان في هذا العقد إرقاق جزء منه مع استغنائه عنه، فلا يجوز كما لو كان تحته حرة، وهذا الوصف بين الاثر، فإن الارقاق نظير القتل من وجه، ألا نرى أن الامام في الاسارى يتخير بين القتل والاسترقاق ؟ فكما يحرم عليه قتل ولده شرعا يحرم عليه إرقاقه مع استغنائه عنه.
وقلنا: هذا النكاح يجوز لعبد المسلم، فإن المولى إذا دفع إليه مالا وأذن له في أن ينكح به ما شاء من حرة أو أمة جاز له أن ينكح الامة، فلما كان طول الحرة لا يمنع نكاح الامة للعبد المسلم لا يمنع للحر لوجود الحرة في الدنيا.
وتأثير ما قلنا أن تأثير الرق
في تنصيف الحل الذى يترتب عليه عقد النكاح وحقيقة التنصيف في أن يكون حكم العبد في النصف الباقي له وحكم الحر في جميع ذلك سواء فما يكون شرطا في حق الحر يكون شرطا في حق العبد كالشهود وخلو المرأة عن العدة، وما لا يكون شرطا في حق العبد لا يكون شرطا في حق الحر كالخطبة وتسمية المهر لا يكون في حق العبد.
ثم تظهر قوة التأثير لما قلنا في الرجوع إلى الاصول، فإن الرق من أوصاف النقصان والحرية من أوصاف الكمال، وهذا لاحل كرامة يختص به البشر فكيف يجوز القول بأنه يتسع الحل بسبب الرق حتى يحل للعبد ما لا يحل للحر.
وبزداد قوة بالنظر في أحوال البشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل أمته بزيادة اتساع في حله حتى جاز له نكاح تسع نسوة أو إلى ما لا يتناهى على حسب ما اختفوا فيه.
فتبين بهذا تحقيق معنى الكرامة في زيادة الحل وظهر أنه لا يجوم القول بزيادة حل العبد على حل الحر.
ويظهر ضعف أثر علته في الرجوع إلى الاصول، فإن
إرقاق الماء دون التضييع لا محالة، ويحل له أن يضيعماءه بالعزل عن الحرة بإذنها فلان يجوز تعريض ما به الرق بنكاح الامة كان أولى.
ويزداد ضعفا بالرجوع إلى أحوال البشر، فان من ملك نفسه على وجه يأمن أن يقع في الحرام يجوز له نكاح الامة ولا يحل له قتل ولده إذا أمن جانبه بحال من الاحوال.
وعلى هذا قلنا: للحر أن يتزوج أمة على أمة، لان ذلك جائز للعبد فيجوز للحر من الوجه الذى قررنا، ولا يجوز للعبد أن ينكح أمة على حرة كما لا يجوز ذلك للحر، لان العبد في النصف الباقي له مثل الحر في الحكم.
وعلل في حرمة نكاح الامة الكتابية على المسلم بأنها أمة كافرة فلا يجوز نكاحها للمسلم كالمجوسة.
وهذا بين الاثر من وجهين: أحدهما أن الرق مؤثر في حرمة النكاح حتى لا يجوز نكاح الامة على الحرة.
والكفر كذلك، فإذا اجتمع الوصفان في شخص تغلظ معنى الحرمة فيها فيلتحق بالكفر المتغلظ بعدم الكتاب في المنع من النكاح.
والثانى أن جواز نكاح الامة بطريق الضرورة عند غشية العنت وهذه الضرورة ترتفع بحل الامة المسلمة فلا حاجة إلى حل الامة الكتابية للمسلم النكاح، وقلنا نحن: اليهودية
والنصرانية دين يجوز للمسلم نكاح الحرة من أهلها فيجوز نكاح الحرة من أهلها فيجوز نكاح الامة كدين الاسلام.
وتأثيره فيما بينا أن الرق يؤثر في التنصيف من الجانبين فيما يبتنى على الحل.
إلا أن ما يكون متعددا فالتنصيف يظهر في العدد كالطلاق والعمدة والقسم، والنكاح الذى يبتنى على الحل في جانب الرجل متعدد، فالتنصيف يظهر في العدد، وفى جانب المرأة غير متعدد فإنها لا تحل لرجلين بحال، ولكن من حيث الاحوال متعدد حال تقدم نكاحها على نكاح الحرة وحال التأخر وحال المقارنة، فيظهر التنصيف باعتبار الاحوال، وفى الحال الواحد يجتمع معنى الحل
ومعنى الحرمة فيترجح معنى الحرمة بمنزلة الطلاق والعدة فإن طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان، وفى الحقيقة هما حالتان: حالة الانفراد عن الحرة بالسبق وحالة الانضمام إلى الحرة بالمقارنة أو التأخر، فتكون محللة في إحدى الحالتين دون الاخرى ثم تظهر قوة هذا الاثر بالتأمل في الاصول، فإن الحل تارة يثبت بالنكاح وتارة بملك اليمين، ووجدنا أن الامة الكتابية كالامة المسلمة في الحل يملك اليمين فكذلك في الحل بانكاح، ولسنا نسلسم أنه يتغلظ كفر الكتابية برقها في حكم النكاح، فإنه لو كان كذلك لم يحل ببملك اليمين كالمجوسية.
ثم النقصان أو الخبث الثابت بكل واحد منهما من وجه سوى الوجه الاخر، و - نما يظهر التغليظ عند إمكان إثبات الاتحاد بينهما ومع اختلاف الجهة لا يتأتى ذلم، وقد بينا أن انضمام علة إلى علة ل يوجب قوة في الحكم ولا نسلم أن إباحة نكاح الامة بطريق الضرورة لما بينا أن الرقيق في النصف الباقي مساو للحر، فكما أن نكاح الحرة يكون أصلا مشروعا لا بطريق الضرورة فكذلك نكاح الامة في النصف الباقي لها، ونعتبرها بالعبد بل إولى لان معنى عدم الضرورة في حق الامة أضهر منه في حق العبد فإنها تستمع بمولاها بملك اليمين.
والعبد لا طريق له سوى ؟ ؟ ؟ ؟ ثم لم بجعل بقاء ما بقى في حق العبد بعد التنصيف بالرق ثابتا بطريق الضرورة
ففي حق الامة أولى.
وعلل الشافعي رحمه الله فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الاسلام أو في دار الحرب، فإن كان قبل الدخول يتعجل الفرقة، وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء العدة، فإن الحادث اختلاف الدين بين الزوجين فيوجب الفرقة عند عدم العدة كالردة، وسوى بينهما في الجواب فقال: إذا ارتد أحدهما قبل الدخول تتعجل الفرقة في الحال، وبعد الدخول يتوقف
على انقضاء ثلاث حيض.
وبيان أثر هذا الوصف في ابتداء النكاح، فإن مع اختلاف الدين عند إسلام المرأة وكفر الزوج لا ينعقد النكاح ابتداء، كما أن عند ردة أحدهما لا ينعقد النكاح ابتداء، فكذلك في حالة البقاء تستوي ردة أحدهما وإسلام أحدهما إذا كان على وجه يمنع ابتداء النكاح، وفي الردة إنما يثبت هذا الحكم للاختلاف في الدين لا لمنافاة الردة النكاح فإنهما لو ارتدا معا - نعوذ بالله - لا تقع الفرقة بينهما، وإنما انعدم الاختلاف في الدين هنا، فأما الردة فمتحققة، ومع تحقق المنافي لا يتصور بقاء النكاح كالمحرمية بالرضاع والمصاهرة.
وقلنا نحن: الاسلام سبب لعصمة الملك، فلا يجوز أن يستحق به زوال الملك بحال، وكفر الذي أصر منهما على الكفر كان موجودا وصح معه النكاح ابتداء وبقاء، فلا يجوز أن يكون سببا للفرقة أيضا.
ولا يقال هذا الكفر إنما لم يكن سببا للفرقة في حال كفر الآخر لا بعد إسلامه، كما لا يكون سببا للمنع من ابتداء النكاح في حال كفر الآخر لا بعد إسلامه، لان اعتبار البقاء بالابتداء في أصول الشرع ضعيف جدا، فإن قيام العدة وعدم الشهود يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع البقاء والاستغناء عن نكاح الامة بنكاح الحرة يمنع نكاحها ابتداء ولا يمنع البقاء، إذا تزوج الحرة بعد الامة، فإن ظهر أن واحدا من هذين السببين لا يصلح سببا لاستحقاق الفرقة ولا بد من دفع ضرر الظلم المتعلق عنها، لان ما هو المقصود بالنكاح وهو الاستمتاع فائت شرعا، جعلنا السبب تفريق القاضي بعد عرض الاسلام على الذي يأبى منهما، وهو قوي الاثر بالرجوع إلى الاصول، فإن التفريق باللعان وبسبب الجب والعنة وبسبب الايلاء يكون ثابتا باعتبار هذا المعنى محالا به على من كان فوات الامساك بالمعروف من جهته،
فهنا أيضا يحال به على من كان فوات الامساك بالمعروف بالاصرار على الكفر من جهته، ولا يثبت إلا بقضاء القاضي.
فأما الردة فهي غير موضوعة للفرقة بدليل صحتها حيث لا نكاح وبه فارق الطلاق، وإذا لم يكن موضوعا للفرقة عرفنا أن حصول الفرقة بها لكونها منافية للنكاح حكما وذلك وصف مؤثر، فإن النكاح يبتنى على الحل الذي هو كرامة، وبعد الردة لا يبقى الحل، لان الردة سبب لاسقاط ما هو كرامة، ولازالة الولاية والمالكية الثابتة بطريق الكرامة، فجعلها منافية للنكاح حكما يكون قوي الاثر من هذا الوجه، ومع وجود المنافي لا يبقى النكاح سواء دخل بها أو لم يدخل.
فأما إذا ارتدا معا فحكم بقاء النكاح بينهما معلوم بإجماع الصحابة بخلاف القياس، وقد بينا أن المعدول به عن القياس بالنص أو بالاجماع لا يشتغل فيه بالتعليل ولا بإثبات الحكم فيه بعلة، وقد بينا فساد اعتبار حالة البقاء بحالة الابتداء، فلا يجوز أن يجعل امتناع صحة النكاح بينهما ابتداء بعد الردة علة للمنع من بقاء النكاح، وهذا لان البقاء لا يستدعي دليلا مبقيا، وإنما يستدعي الفائدة في الابقاء، وبعد ردتهما نعوذ بالله يتوهم منهما الرجوع إلى الاسلام وبه تظهر فائدة البقاء.
فأما الثبوت ابتداء يستدعي الحل في المحل وذلك منعدم بعد الردة، وعند ردة أحدهما لا يظهر في الابقاء فائدة مع ما هما عليه من الاختلاف.
وعلى هذا علل الشافعي رحمه الله في عدد الطلاق فإنه معتبر بحال الزوج لانه هو المالك للطلاق وعدد الملك معتبر بحال المالك كعدد النكاح، وهذا بين الاثر، لان المالكية عبارة عن القدرة والتمكن من التصرف، فإذا كان الزوج هو المتمكن من التصرف في الطلاق بالايقاع عرفنا أنه هو المالك له، وإنما يتم الملك باعتبار كمال حال المالك بالحرية كما أن ملك التصرف بالاعتاق وغيره إنما يتم بكمال حال المالك بالحرية.
وقلنا نحن: الطلاق تصرف بملك بالنكاح فيتقدر بقدر ملك النكاح وذلك يختلف باختلاف حال المرأة في الرق والحرية، لان الملك إنما يثبت في المحل
باعتبار صفة الحل، والحل الذي يبتنى عليه النكاح في حق الامة على النصف منه في حق الحرة فبقدر ذلك يثبت الملك، ثم بقدر الملك يتمكن المالك من الابطال، كما أن بقدر ملك اليمين يتمكن من إبطاله بالعتق، حتى إنه إذا كان له عبد واحد يملك إعتاقا واحدا، فإن كان له عبدان يملك عتقين.
ثم ظهر قوة الاثر لما قلنا بالرجوع إلى الاصل وهو أن ما يبتنى على ملك النكاح ويختص به فإنه يختلف باختلاف حالها، وذلك نحو القسم في حال قيام النكاح والعدة وحق المراجعة باعتبارها بعد الطلاق، فعرفنا أنه يتقدر ما يبتنى على ملك النكاح بقدر الملك الثابت بحسب ما يسع المحل له.
وعلى هذا علل في تكرار المسح بأنه ركن في الوضوء فيسن فيه التكرار كالغسل.
وقلنا نحن: إنه مسح فلا يسن فيه التكرار كالمسح بالخف، ثم كان تأثير المسح في إسقاط التكرار أقوى من تأثير الركنية في سنة التكرار فيه، فإن التكرار مشروع في المضمضة والاستنشاق وليسا بركن، وتأثير المسح في التخفيف فإن الاكتفاء بالمسح فيه مع إمكان الغسل ما كان إلا للتخفيف، وعند الرجوع إلى الاصول يظهر معنى التخفيف بترك التكرار بعد الاكمال مع ما فيه من دفع الضرر الذي يلحقه بإفساد عمامته بكثرة ما يصيب رأسه من البلة.
وعلى هذا علل في اشتراط تعيين النية في الصوم بأنه صوم فرض، وهو بين الاثر، فإن اشتراط النية لمعنى التقرب وصفة الفرضية قربة كالاصل.
وقلنا نحن: صوم عين، وتأثيره أن اشتراط النية، في العبادة في الاصل للتمييز بين أنواعها بتعين نوع منها، وهذا متعين شرعا فلا معنى لاشتراط
النية للتعيين، ومعنى القربة يتم بوجود أصل النية، فباعتبار قوة الاثر من هذا الوجه يظهر الترجيح.
وما يخرج على هذا من المسائل لا يحصى وفيما ذكرنا كفاية لمن يحسن التأمل في نظائرها.
وأما الوجه الثاني وهو الترجيح بقوة ثبات الحكم المشهود به فلان أصل ذلك إنما يكون عن نص أو إجماع، وما يكون ثبوته بالنص أو الاجماع يكون ثابتا متأكدا، فما يظهر فيه زيادة القوة في الثبات عند العرض على الاصول يكون راجحا باعتبار ما به صار حجة.
وبيان ذلك في مسألة
مسح الرأس أيضا، فإن الوصف الذي عللنا به له زيادة قوة الثبات على الحكم المشهود به، ألا ترى أن سائر أنواع المسح كالتيمم والمسح على الخف والمسح على الجورب عند من يجيزه والمسح على الجبائر يظهر الخفة فيها بترك اعتبار التكرار، وليس للوصف الذي علل به قوة الثبات بهذه الصفة، فإن في الصلاة أركانا كالقيام والقراءة والركوع والسجود، ثم تمامها يكون بالاكمال لا بالتكرار، فعرفنا أن الركنية ليس بوصف قوي ثابت في إثبات سنة التكرار به، وكذلك في الصوم، فإن صفة العينية قوي ثابت في إسقاط اشتراط نية التعيين فيه حتى يتعدى إلى سائر العبادات، كالزكاة إذا تصدق بالنصاب على الفقير وهو لا ينوي الزكاة، والحج إذا أطلق النية ولم يعين حجة الاسلام، والايمان بالله تعالى.
ويتعدى إلى غير العبادات نحو رد الودائع والغصوب ورد المبيع على البائع لفساد البيع.
وصفة الفرضية ليس بقوي ثابت في اشتراط نية التعيين بعدما صار متعينا في الصوم لا في غير الصوم.
وكذلك ما علل به علماؤنا في أن المنافع لا تضمن بالاتلاف لان ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص، وباعتبار ما هو المقصود وهو الجبران،
وبين العين والمنفعة تفاوت في المالية من الوجه الذي ذكرنا، فلا يجوز أن يوجب على المتلف فوق ما أتلف في صفة المالية، كما لا يوجب الجيد بإتلاف الردئ.
وقال الشافعي رحمه الله: المنافع تضمن بالعقد الجائز والفاسد بالدراهم فتضمن بالاتلاف كالاعيان، ثم تأثيره تحقق الحاجة إلى التحرر عن إهدار حق المتلف عليه، فإنه نظير تحقق الحاجة إلى ملك المنفعة بالعوض بالعقد.
ثم هو يزعم أن علته أقوى في ثبات الحكم المشهود به عليه من وجهين: أحدهما أنه إذا لم يكن بد من الاضرار بأحدهما فمراعاة جانب المظلوم وإلحاق الخسران بالظالم بإيجاب الزيادة عليه أولى من إهدار حق المظلوم.
والثاني أن في إيجاب الضمان إهدار حق الظالم فيما هو وصف محض وهو صفة البقاء، وفي الاصل هما شيئان وهو كونهما منتفعا به، غير أن في طرف الظالم فضل صفة وهو البقاء، فبهدر صيانة الاصل (هدر) حق المظلوم.
وإذا قلنا: لا يجب الضمان كان فيه إهدار حق المتلف عليه في أصل المالية، ولا شك أن الوصف دون الاصل.
ونحن نقول: قوة ثبات الحكم فيما اعتبرناه، لان في إيجاب الزيادة معنى الجور، ولا يجوز نسبة ذلك إلى الشرع بغير واسطة من العباد بحال من الاحوال، وإذا لم نوجب الضمان فإنما لا نوجب لعجزنا عن إيجاب المثل في موضع ثبت اشتراط المماثلة فيه بالنص، وبه فارق ضمان العقد، فإنه غير مبني على المماثلة بأصل الوضع، وكيف يكون مبنيا على ذلك والمبتغي به الربح والامتناع من الاقدام عند تحقق العجز أصل مشروع لنا ؟ والثاني أن في إيجاب الزيادة إهدار حق المتلف في هذه الزيادة في الدنيا والآخرة.
وإذا قلنا: لا يجب الضمان لا يهدر حق المتلف عليه أصلا بل يتأخر إلى الآخرة وضرر التأخير دون ضرر الاهدار.
ولا يدخل على هذا
إتلاف ما لا مثل له من جنسه، لان الواجب هو مثل المتلف في المالية شرعا إلا أنه آل الامر إلى الاستيفاء وذلك يبتنى على الوسع.
قلنا يتقدر بقدر الوسع ويسقط اعتبار أدنى تفاوت في القيمة، لانه لا يستطاع التحرز عن ذلك ولكن لا يتحقق في هذا معنى نسبة الجور إلى الشرع، فالواجب شرعا هو المثل لا غير، وما اعتبر من ترجيح جانب المظلوم فهو ضعيف جدا، لان الظالم لا يظلم ولكن ينتصف منه مع قيام حقه في ملكه، فلو لم نوجب الضمان لسقط حق المظلوم لا بفعل مضاف إلينا، وعند ايجاب الضمان يسقط حق الظالم في الوصف بمعنى مضاف الينا وهو أنا نلزمه أداء ذلك بطريق الحكم به عليه، ومراعاة الوصف في الوجوب كمراعاة الاصل، ألا ترى أن في القصاص الذي يبتنى على المساواة التفاوت في الوصف كالصحيحة مع الشلاء يمنع جريان القصاص، ولا ينظر إلى ترجيح جانب المظلوم وإلى ترجيح جانب الاصل على الوصف، فعرفنا أن قوة الثبات فيما قلنا.
وعلى هذا قلنا: إن ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف في الشهادة على الطلاق قبل الدخول، وملك القصاص لا يضمن بالاتلاف في الشهادة على العفو، وقد بينا فيما سبق أن وجوب الدية عند إتلاف النفس أو الاطراف على وجه لا يمكن إيجاب المثل فيه حكم ثابت بالنص بخلاف القياس وهو لصيانة المحل عن
الاهدار لا للماثلة على وجه الخبران، لان النفوس بأطرافها مصونة عن الابتذال وعن الاهدار.
وأما الوجه الثالث: وهو الترجيح بكثرة الاصول فلان كثرة الاصول في المعنى الذي صار الوصف به حجة بمنزلة الاشتهار في المعنى الذي صار الخبر به حجة، وهذا يظهر إذا تأملت فيما ذكرنا من المسائل وغيرها،
وما من نوع من هذه الانواع الثلاثة إذا قررته في مسألة إلا وتبين به إمكان تقرير النوعين الآخرين فيه أيضا.
وأما الوجه الرابع: وهو الترجيح بعدم الحكم عند عدم العلة فهو أضعف وجوه الترجيح، لما بينا أن العدم (لا يوجب شيئا، وأن العدم لا يكون متعلقا بعلة، ولكن انعدام الحكم عند انعدام العلة) يصلح أن يكون دليلا على وكادة اتصال الحكم بالعلة، فمن هذا الوجه يصلح للترجيح.
وبيانه في المسح بالرأس أيضا، فإن التعليل بأنه ركن لا يكون في القوة كالتعليل بأنه مسح، لان حكم ثبوت التكرار لا ينعدم بانعدام الركنية كما في المضمضة والاستنشاق، وحكم سقوط التكرار ينعدم بانعدام وصف المسح كما في اغتسال الجنب والحائض، فإنه يسن فيه صفة التكرار لانه ليس بمسح.
وكذلك في كل ما يعقل تطهيرا صفة التكرار فيه يكون مسنونا، وفيما لا يعقل تطهيرا لا يسن فيه صفة التكرار، وقولنا مسح ينبئ عن ذلك.
وكذلك قلنا في الاخ إذا ملك أخته إن بينهما قرابة محرمة للنكاح، وينعدم حكم العتق بالملك عند انعدام هذا المعنى كما في بني الاعمام، وهو إذا قال شخصان يجوز لاحدهما أن يضع زكاة ماله في صاحبه فلا يعتق أحدهما على صاحبه إذا ملكه لانعدام هذا الحكم عند انعدام هذا المعنى، فإن المسلم لا يجوز له أن يضع زكاة ماله في الكافر، وذلك لا يدل على أنه يعتق أحدهما على صاحبه إذا ملكه.
وكذلك قلنا في بيع الطعام بالطعام إنه لا يشترط قبضه في المجلس لانه عين بعين، وينعدم هذا الحكم عند انعدام
هذا الوصف، فإنه في باب الصرف يشترط القبض من الجانبين، لان الاصل فيه النقود وهي لا تتعين في العقود فكان دينا بدين، وفي السلم يشترط
القبض في رأس المال، لان المسلم فيه دين ورأس المال في الغالب نقد فيكون دينا بدين، فعرفنا أنه ينعدم الحكم عند انعدام العلة.
وهو يعلل فيقول: مالان لو قوبل كل واحد منهما بجنسه يحرم التفاضل بينهما فيشترط التقابض في بيع أحدهما بالآخر كالذهب والفضة.
ثم الحكم لا ينعدم عند انعدام هذا المعنى في السلم، فإنه يشترط قبض رأس المال في المجلس، وإن جمع العقد هناك بدلين لا يحرم التفاضل إذا قوبل كل واحد منهما بجنسه.
فهذا بيان الفصل الرابع.
فصل وأما المخلص من التعارض في دليل الترجيح فطريق بيانه أن نقول: إن كل محدث موجود بصورته ومعناه الذي هو حقيقة له، ثم تقوم به أحوال تحدث عليه، فإذا قام دليل الترجيح لمعنى في ذات أحد المتعارضين وعارضه دليل الترجيح لمعنى في حال الآخر على مخالفة الاول فإنه يرجح المعنى الذي هو في الذات على المعنى الذي هو في الحال لوجهين: أحدهما أن الذات أسبق وجودا من الحال، فبعدما وقع الترجيح لمعنى فيه لا يتغير بما حدث من معنى في حال الآخر بعد ذلك، بمنزلة ما لو اتصل الحكم باجتهاد فتأيد به ثم لم ينسخ بما يحدث من اجتهاد آخر بعد ذلك، وإذا اتصل الحكم بشهادة المستورين بالنسب أو النكاح لرجل لم يتغير بعد ذلك بشهادة عدلين لآخر.
والثاني أن الاحوال التي تحدث على الذات تقوم به فكان الذات بمنزلة الاصل وما يقوم به من الحال بمنزلة التبع، والاصل لا يتغير بالتبع على أي وجه كان.
وبيان هذا فيما اتفقوا عليه أن ابن الاخ لاب وأم يكون مقدما في العصوبة على العم، لان المرجح فيه معنى في ذات
القرابة وهو الاخوة التي هي مقدمة على العمومة، وفي العم المرجح هو زيادة القرب باعتبار الحال.
وكذلك العمة لام مع الخالة لاب وأم إذا اجتمعتا فللعمة الثلثان، باعتبار أن المرجح في حقها هو معنى في ذات القرابة وهو الادلاء بالاب، وفي الاخرى معنى في حالها وهو اتصالها من الجانبين بأم الميت.
ولو كانا أخوين أحدهما لاب وأم والآخر لاب فإنه يقدم في العصوبة الذي لاب وأم، لانهما استويا في ذات القرابة فيصار إلى الترجيح باعتبار الحال وهو زيادة الاتصال لاحدهما.
ولو كان ابن الاخ لاب معه ابن ابن أخ لاب وأم فإن الاخ لاب يقدم في العصوبة، باعتبار الحال لما استويا في ذات القرابة وهو الاخوة.
وربما خفي على الشافعي هذا الحد في بعض المسائل فهو معذور لكونه خفيا، ومن أصاب مركز الدليل فهو مأجور مشكور.
وبيانه في مسائل الغصب فإن علماءنا أثبتوا الترجيح باعتبار الصناعة والخياطة والطبخ والشي، وقالوا فيمن غصب ساحة وأدخلها في بنائه ينقطع حق المغصوب منه عن الساحة، لان الصنعة التي أحدثها الغاصب فيها قائمة من كل وجه غير مضاف إلى صاحب العين، وعين الساحة قائم من وجه مستهلك من وجه، لانه صار مضافا إلى الحادث بعمل الغاصب وهو البناء، فرجحنا ما هو قائم من كل وجه باعتبار معنى في الذات، وأسقطنا اعتبار معنى قوة الحال في الجانب الآخر وهو أنه أصل، وفي الساحة إذا بنى عليها لما استويا في أن كل واحد منهما قائم من كل وجه، فرجحنا باعتبار الحال حق صاحب الساحة على حق صاحب البناء (لان قوام البناء) للحال بالساحة وقوام الساحة ليس بالبناء.
وكذلك الثوب إذا قطعه وخاطه، واللحم إذا طبخه أو شواه، لان الوصف الحادث بعمل الغاصب قائم من كل وجه، وما هو حق المغصوب منه قائم من وجه مستهلك
من وجه باعتبار العمل المضاف إلى الغاصب، فيترجح ما هو قائم من كل وجه.
وكذلك قلنا صوم رمضان يتأدى بالنية الموجودة في أكثر النهار لان الامساك
في جميع النهار ركن واحد، وشرط كونه صوما شرعيا النية ليحصل بها الاخلاص، فإذا ترجح جانب الوجود باقتران النية بأكثر هذا الركن قلنا يحصل به امتثال الامر.
ف الشافعي يقول: يؤخذ في العبادات بالاحتياط، فإذا انعدمت النية في جزء من هذا الركن يترجح جانب العدم على جانب الوجود لاجل الاحتياط في أداء الفريضة، فكان ما اعتبره معنى في الحال وهو أنه فرض يؤخذ فيه بالاحتياط، وما اعتبرناه معنى في الذات، والمرجح في الذات أولى بالاعتبار من المرجح في الحال.
وقال أبو حنيفة: إذا كان لرجل مائتا درهم وخمس من الابل السائمة فسبق حول السائمة فأدى عنها شاة ثم باعها بمائتي درهم فإنه لا يضم ثمنها إلى ما عنده ولكن ينعقد على الثمن حول جديد، فلو استفاد مائتي درهم بهبة أو ميراث فإنه يضمها إلى أقرب المالين في الحول، وإن كان المستفاد ربح أحد المالين أو زيادة متولدة من عين أحد المالين يضم ذلك إلى الاصل، وإن كان أبعد في الحول لان المرجح هنا معنى في الذات وهو كونه نماء أحد المالين فيسقط بمقابلته اعتبار الحال في المال الآخر وهو القرب في الحول، وفي الاول لما استوى الجانبان فيما يرجع إلى الذات صرنا إلى الترجيح باعتبار الحال.
والمسائل على هذا الاصل يكثر تعدادها، والله أعلم.
فصل وأما الفاسد من الترجيح فأنواع أربعة: أحدها ما بينا من ترجيح قياس بقياس آخر، لان كل واحد منهما علة شرعية لثبوت الحكم بها فلا تكون إحداهما مرجحة للاخرى بمنزلة زيادة العدد في الشهود.
وكذلك ترجيح أحد
القياسين بالخبر فاسد، لان القياس متروك بالخبر فلا يكون حجة في مقابلته والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة كما بينا.
وكذلك ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب فاسد، لان الخبر لا يكون حجة في معارضة النص.
والنوع الثاني الترجيح بكثرة الاشباه فإنه فاسد عندنا.
وبيانه فيما يقوله الخصم: إن الاخ يشبه الاب من وجه وهو المحرمية ويشبه ابن العم من وجوه نحو جريان القصاص من الطرفين، وقبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه،
وجواز وضع الزكاة لكل واحد منهما في صاحبه، وحل حليلة كل واحد منهما لصاحبه وغير ذلك من الاحكام.
قالوا: فيرجح باعتبار كثرة الاشباه، وهو فاسد عندنا لان الاصول شواهد، وقد بينا أن الترجيح بزيادة عدد الشهود في الخصومات فاسد، وفي الاحكام الترجيح بكثرة العلل فاسد، فكذلك الترجيح بكثرة الاشباه.
والنوع الثالث الترجيح بعموم العلة، وذلك نحو ما يقوله الخصم: إن تعليل حكم الربا في الاشياء الاربعة بالطعم أولى لانه يعم القليل والكثير، والتعليل بالقدر يخص الكثير وما يكون أعم فهو أولى.
وعندنا هذا فاسد، لان إثبات الحكم بالعلة فرع لاثبات الحكم بالنص، وعندنا الترجيح في النصوص لا يقع بالعموم والخصوص، وعنده الخاص يقضي على العام، كيف يقول في العلل إن ما يكون أعم فهو مرجح على ما يكون أخص، ثم معنى العموم والخصوص يبتنى على الصيغة، وذلك إنما يكون في النصوص، فأما العلل فالمعتبر فيها التأثير أو الاحالة على حسب ما اختلفا فيه، ولا مدخل للعموم والخصوص في ذلك.
والنوع الرابع الترجيح بقلة الاوصاف، وذلك نحو ما يقوله الخصم في أن ما جعلته علة في باب الربا وصف واحد وهو الطعم، فأما الجنسية عندي شرط
وأنتم تجعلون علة الربا ذات وصفين، فتترجح علتي باعتبار قلة الاوصاف.
وهذا فاسد عندنا لما بينا أن ثبوت الحكم بالعلة فرع لثبوته بالنص، والنص الذي فيه بعض الايجاز والاختصار لا يترجح على ما فيه بعض الاشباع في البيان فكذلك العلة بل أولى، لان ثبوت الحكم هناك بصيغة النص الذي يتحقق فيه الاختصار والاشباع، وهنا باعتبار المعنى المؤثر ولا يتحقق فيه الايجاز والاشباع.
باب: وجوه الاعتراض على العلل الطردية التي يجوز الاحتجاج بها هذه الوجوه أربعة: القول بموجب العلة، ثم الممانعة، ثم بيان فساد الوضع، ثم النقض.
فنقدم بيان القول بموجب العلة لان المصير إلى المنازعة عند تعذر إمكان الموافقة، وأما مع إمكان الموافقة وتحصيل المقصود به فلا معنى للمصير إلى المنازعة.
ثم تفسير القول بموجب العلة هو التزام ما رام المعلل التزامه بتعليله.
وبيان ذلك فيما علل به الشافعي رحمه الله في تكرار المسح بالرأس أنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل في المغسول، لانا نقول بموجب هذا.
فنقول: يسن تثليثه وتربيعه أيضا، لان المفروض هو المسح بربع الرأس عندنا، وعنده أدنى ما يتناوله الاسم، ثم استيعاب جميع الرأس بالمسح سنة، وبالاستيعاب يحصل التثليث والتربيع ولكن في محل غير المحل الذي قام فيه الفرض، لانه لا فرق بين أن يكون تثليث الفعل في محل أو محال، فإن من دخل ثلاث أدور يقول دخلت ثلاث دخلات، كما أن من دخل دارا واحدة ثلاث مرات يقول دخلت ثلاث دخلات، فإن غير الحكم فقال وجب أن يسن تكراره.
قلنا: الآن هذا في الاصل ممنوع، فإن المسنون في
الغسل ليس هو التكرار مقصودا عندنا بل الاكمال، وذلك بالزيادة على الفريضة إلا أن هناك الاستيعاب فرض، فالزيادة بعد ذلك الاكمال لا يكون إلا بالتكرار، فكان وقوع التكرار فيه اتفاقا لا أن يكون مقصودا، وهنا الاستيعاب ليس بفرض فيحصل الاكمال فيه بالاستيعاب لوجود الزيادة على القدر المفروض، والاكمال يحصل به في الاركان نحو القراءة في الصلاة، فالاكمال يكون فيه بالاطالة لا بالتكرار، وكذلك الاكمال في الركوع والسجود، ولان الاكمال فيما يعقل فيه المعنى وهو التطهير بتسييل الماء على العضو إنما يكون بالتكرار كما في غسل النجاسة العينية عن البدن أو الثوب يكون الاكمال فيه بالتكرار إلى طمأنينة القلب، فأما في المسح الذي لا يعقل فيه معنى التطهير لا يكون
للتكرار فيه تأثير في الاكمال، بل الاكمال فيه يكون بالاستيعاب الذي فيه زيادة على القدر المفروض، وعند ذلك يضطر المعلل إلى الرجوع إلى طلب التأثير بوصف الركنية ووصف المسح الذي تدور عليه المسألة، ثم يظهر تأثير المسح في التخفيف، وتحقيق معنى الاكمال فيه بالاستيعاب كما في المسح بالخف، ويتبين أنه لا أثر للركنية في اشتراط التكرار، فإن التكرار مسنون في المضمضة والاستنشاق مع انعدام الركنية، ويتبين أن ما يكون ركنا وما يكون سنة وما يكون أصلا وما يكون رخصة في معنى الاكمال بالزيادة على القدر المفروض سواء، ثم في المسح الذي هو رخصة لما لم يكن الاستيعاب ركنا كالمسح بالخف كان الاكمال فيه بالاستيعاب لا بالتكرار، وكذلك في المسح الذي هو أصل، وفيما يكون مسنونا لما كان إقامة أصل السنة فيه بالاستيعاب كان الاكمال فيه بالتكرار كالمضمضة، وكذلك فيما هو ركن إذا كان إقامة الفرض لا تحصل إلا بالاستيعاب كان الاكمال فيه بالتكرار، فيظهر فقه المسألة من هذا الوجه.
ومن ذلك ما علل به الشافعي في صوم التطوع إنه باشر فعل قربة لا يمضي في فاسدها فلا يلزمه القضاء بالافساد، لانا نقول بموجب هذه العلة، فإن عندنا القضاء لا يجب بالافساد وإنما يجب بما وجب به الاداء وهو الشروع، فإن غير العبارة وقال وجب أن لا يلزم بالشروع كالوضوء.
قلنا: الشروع في العبادة باعتبار كونها مما لا يمضي في فاسدها لا يكون ملزما عندنا بل باعتبار كونها مما تلتزم بالنذر، وعدم اللزوم باعتبار الوصف الذي قاله لا يمنع اللزوم باعتبار الوصف الذي قلنا، ولا بد من إضافة الحكم إلى الوصف الذي هو ركن تعليله، فإن لم يجب باعتبار وصف لا يدل على أنه لا يجب باعتبار وصف آخر، وعند ذلك يضطر إلى إقامة الدليل على أن الشروع غير ملزم وأنه ليس نظير النذر في كونه ملزما، فتبين فقه المسألة.
ومن ذلك قولهم إسلام المروي في المروي جائز لانه أسلم مذروعا في مذروع فيجوز كإسلام الهروي بالمروي، لانا نقول بموجبه، فإن كونه مذروعا في مذروع لا يفسد العقد عندنا ولكن هذا الوصف لا يمنع فساد العقد باعتبار
معنى آخر هو مفسد، ألا ترى أنه يفسد بذكر شرط فاسد فيه وبترك قبض رأس المال في المجلس مع أنه أسلم مذروعا في مذروع.
فإذا جاز أن يفسد هذا العقد مع وجود هذا الوصف باعتبار معنى آخر بالاتفاق فلماذا لا يجوز أن يفسد باعتبار الجنسية، فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة والاشتغال بأن الجنسية لا تصلح علة لفساد هذا العقد بها إن أمكنه ذلك.
ومن ذلك تعليلهم في الطلاق الرجعي إنها مطلقة فتكون محرمة الوطئ كالمبانة، لانا نقول بموجبه، فإنا لا نجعلها محللة الوطئ لكونها مطلقة بل لكونها منكوحة، وبالاتفاق مع كونها مطلقة إذا كانت منكوحة تكون محللة
الوطئ كما بعد المراجعة، فإن الطلاق الواقع بالرجعة لا يرتفع ولا تخرج من أن تكون مطلقة، فيضطر حينئذ إلى الرجوع إلى فقه المسألة، وهو أن وقوع الطلاق هل يمكن خللا في النكاح أو هل يكون محرما للوطئ مع قيام ملك النكاح، وعلى هذا يدور فقه المسألة.
ومن ذلك ما قالوا في المختلعة لا يلحقها الطلاق لانها ليست بمنكوحة، فإن عندنا باعتبار هذا الوصف لا يكون محلا لوقوع الطلاق عليها عند الايقاع، ولكن هذا لا يبقى وصفا آخر فيها يكون به محلا لوقوع الطلاق عليها، وهو ملك اليد الباقي له عليها ببقاء العدة، فيضطر بهذا إلى الرجوع إلى فقه المسألة.
ومن ذلك تعليلهم في إعتاق الرقبة الكافرة عن كفارة الظهار فإنه تحرير في تكفير فلا يتأدى بالرقبة الكافرة كما في كفارة القتل، لانا نقول بموجب هذا، فإن عندنا لا يتأدى الواجب من الكفارة بهذا الوصف الذي قال بل بوجود الامتثال منه للامر، كما يتأدى بصوم شهرين متتابعين، وبإطعام ستين مسكينا عند العجز عن الصوم، فيضطر عند ذلك إلى الرجوع إلى فقه المسألة، وهو أن الامتثال لا يحصل هنا بتحرير الرقبة الكافرة كما لا يحصل في كفارة القتل، لان المطلق محمول على المقيد.
ومن ذلك قولهم في الاخ إنه لا يعتق على أخيه إذا ملكه لانه ليس
بينهما جزئية، فإنا نقول بموجبه، فباعتبار انعدام الجزئية بينهما لا يثبت العتق عندنا، ولكن انعدام الجزئية لا ينفي وجود وصف آخر به تتم علة العتق وهو القرابة المحرمة للنكاح، فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة، وهو أن القرابة المحرمة للنكاح هل تصلح متممة لعلة العتق مع الملك بدون الولاد أم لا.
وأكثر ما يذكر من العلل الطردية يأتي عليها هذا النوع من
الاعتراض، وهو طريق حسن لالجاء أصحاب الطرد إلى الشروع في فقه المسألة.
فصل: في الممانعة قال رضي الله عنه: الممانعة على هذا الطريق على أربعة أوجه: إحداها في الوصف، والثانية في صلاحية الوصف للحكم، والثالثة في الحكم، والرابعة في إضافة الحكم إلى الوصف، وهذا لان شرط صحة العلة عند أصحاب الطرد كون الوصف صالحا للحكم ظاهرا وتعليق الحكم به وجودا وعدما.
أما بيان النوع الاول فيما علل به الشافعي في الكفارة على من أفطر بالاكل والشرب قال: هذه عقوبة تتعلق بالجماع فلا تتعلق بغير الجماع كالرجم.
لانا لا نسلم أن الكفارة تتعلق بالجماع وإنما تتعلق بالافطار على وجه يكون جناية متكاملة، وعند هذا المنع يضطر إلى بيان حرف المسألة، وهو أن السبب الموجب للكفارة الفطر على وجه تتكامل به الجناية أو الجماع المعدم للصوم، وإذا ثبت أن السبب هو الفطر بهذه الصفة ظهر تقرر السبب عند الاكل والشرب وعند الجماع بصفة واحدة.
وبيان النوع الثاني في تكرار المسح بالرأس فإن الخصم إذا علل فقال: هذه طهارة مسح فيسن فيها التثليث كالاستنجاء بالاحجار.
قلنا: لا نسلم هذا الوصف في الاصل، فإن الاستنجاء إزالة النجاسة العينية، فأما أن يكون طهارة بالمسح فلا، ولهذا لو لم يتلوث شئ من ظاهر بدنه لا يكون عليه الاستنجاء، ولهذا كان الغسل بالماء أفضل.
ثم المسح الذي يدل على التخفيف لا يكون صالحا لتعليق حكم التثليث به، وبدون الصلاحية لا يصلح
التعليل، فيضطر عند هذا المنع إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو إثبات التسوية بين الممسوح والمغسول بوصف صالح لتعلق حكم التكرار به، أو التفرقة
بينهما بوصف المسح والغسل، فإن أحدهما يدل على الاستيعاب والآخر يدل على التخفيف بعين المسح.
وكذلك تعليلهم في بيع تفاحة بتفاحتين إنه باع مطعوما بمطعوم من جنسه مجازفة، فلا يجوز كبيع صبرة بصبرة من حنطة.
لانا نقول: يعني بهذا المجازفة ذاتا أم قدرا ؟ فلا يجد بدا من أن يقول ذاتا، فنقول: حينئذ يعني المجازفة في الذات صورة أم عيارا، فلا يجد بدا من أن يقول عيارا، لان المجازفة من حيث الصورة في الذات لا تمنع جواز البيع بالاتفاق، فإن بيع قفيز حنطة بقفيز حنطة جائز مع وجود المجازفة في الذات صورة، فربما يكون أحدهما أكثر في عدد الحبات من الآخر.
وإذا ادعى المجازفة عيارا قلنا: هذا الوصف إنما يستقيم فيما يكون داخلا تحت المعيار والتفاح وما أشبهه لا يدخل تحت المعيار، فلا يكون هذا الوصف صالحا لهذا الحكم، ولان المساواة كيلا شرط جواز العقد في الاموال الربوية بالاجماع، ومن ضرورته أن يكون ضده وهو الفضل في المعيار مفسدا للعقد، والفضل في المعيار لا يتحقق فيما لا يدخل تحت المعيار، كما أن المساواة في المعيار الذي هو شرط الجواز عنده لا يتحقق فيما لا يدخل تحت المعيار، فيضطر عند هذا إلى بيان الحرف الذي تدور عليه المسألة، وهو أن حرمة العقد في هذه الاموال عند المقابلة بجنسها أصل، والجواز يتعلق بشرطين: المساواة في المعيار، واليد باليد.
وعندنا جواز العقد فيها أصل كما في سائر الاموال، والفساد باعتبار فضل هو حرام وهو الفضل في المعيار، وذلك لا يتحقق إلا فيما تتحقق فيه المساواة في المعيار، إذ الفضل يكون بعد تلك المساواة، ولا تتحقق هذه المساواة فيما لا يدخل تحت المعيار أصلا.
ومن ذلك تعليلهم في الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها لانها ثيب يرجى
مشورتها، فلا ينفذ العقد عليها بدون رأيها كالنائمة والمغمى عليها.
لانا نقول: ما تعنون بقولكم بدون رأيها ؟ رأي قائم في الحال أم رأي سيحدث أم أيهما كان ؟ فإن قالوا أيهما كان فهو باطل من الكلام، لان الثيب المجنونة تزوج في الحال، ورأيها غير مأنوس عنها لتوهم الافاقة، فلا نجد بدا من أن نقول المراد رأي قائم لها، وهذا ممنوع في الفرع، فإنه ليس لها رأي قائم في الحال في المنع ولا في الاطلاق، فإن من لم يجوز تزويجها لم يفصل في ذلك بين أن يكون العقد برأيها (وبدون رأيها) ومن جوز العقد فكذلك لم يفصل، فعرفنا أنه ليس لها رأي قائم، وما سيحدث من علة أو مانع لا يجوز أن يكون مؤثرا في الحكم قبل حدوثه، ومن جوز حدوثه في المنع لا في الاثبات، إذ الحكم لا يسبق علته، فيضطر عند بيان المنع بهذه الصفة إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن رأي الولي هل يقوم مقام رأيها لانعدام اعتبار رأيها في الحال شرعا فيما يرجع إلى النظر لها كما في المال والبكر والغلام، أم لا يقوم رأيه مقام رأيها لما في ذلك من تفويت الرأي عليها إذا صارت من أهل الرأي بالبلوغ ؟ وبمثل هذا الحد يتبين عوار من شرع في الكلام بناء على حسن الظن قبل أن يتميز له الصواب من الخطأ بطريق الفقه.
وبيان الممانعة في الحكم كثيرة.
منها تعليلهم في تكرار المسح بأنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه، لانا لا نسلم هذا الحكم في الاصل، فالمسنون هناك عندنا ليس التكرار، بل الاكمال بالزيادة على قدر المفروض في محله من جنسه كما في أركان الصلاة، فإن إكمال ركن القراءة بالزيادة على القدر المفروض في محله من جنسه وهو تلاوة القرآن.
وكذلك
الركوع والسجود إلا أن في الغسل لما كان الاستيعاب فرضا لا يتحقق فيه الاكمال بهذه الصفة إلا بالتكرار، فكان التكرار مسنونا لغيره وهو تحصيل صفة الاكمال به لا لعينه، وفي الممسوح الاستيعاب ليس بركن فيقع الاستغناء عن التكرار في إقامة سنة الكمال، بل بالزيادة على القدر
المفروض باستيعاب جميع الرأس بالمسح مرة واحدة يحصل الاكمال، وما كان مشروعا لغيره فإنما يشرع باعتباره في موضع تتحقق الحاجة إليه، فأما إذا كان ما شرع لاجله يحصل بدونه لا يفيد اعتباره، ألا ترى أنه لو كرر المسح في ربع الرأس أو أدنى ما يتناوله الاسم لا يحصل به كمال السنة ما لم يستوعب جميع الرأس بالمسح، فبهذا يتبين أن الاكمال هنا بالاستيعاب وأنه هو الاصل، فيجب المصير إليه إلا في موضع يتحقق العجز عنه بأن يكون الاستيعاب ركنا، كما في المغسولات، فحينئذ يصار إلى الاكمال بالتكرار، ولا يلزمنا المسح بالاذنين فإنه مسنون لاكمال المسح بالرأس، وإن لم يكن في محل المفروض حتى لا يتأدى مسح الرأس بمسح الاذنين بحال، لان ذلك المسح لاكمال السنة في المسح بالرأس، ولهذا لا يأخذ لاذنيه ماء جديدا عندنا، ولكن يمسح مقدمهما ومؤخرهما مع الرأس، والمسح فيهما أفضل من الغسل إلا أن كون الاذنين من الرأس لما كان ثابتا بالسنة دون نص الكتاب يثبت اتحاد المحل فيما يرجع إلى إكمال السنة به ولا تثبت المحلية فيما يتأدى به الفرض الثابت بالنص، فقلنا لا ينوب مسح الاذنين عن المسح بالرأس لهذا.
ومن ذلك تعليلهم في صوم رمضان بمطلق النية أنه صوم فرض فلا يتأدى بدون التعيين بالنية كصوم القضاء.
فإنا نقول: ما تعنون لهذا الحكم ؟
التعين بالنية بعد التعين أو قبل التعين أم في الوجهين جميعا ؟ فلا يجدون بدا من أن يقولوا قبل التعين، لان بعد التعين التعيين غير معتبر، وهو ليس بشرط في تأدي صوم القضاء، وإذا قالوا قبل التعين قلنا: هذا ممنوع في الفرع، فإن التعين حاصل هنا بأصل الشرع إذ المشروع في هذا الزمان صوم الفرض خاصة، فغيره ليس بمشروع، فلا نجد بدا حينئذ من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن نية التعيين هل يسقط اشتراطه بكون المشروع متعينا في ذلك الزمان أم لا يسقط اعتباره ؟.
ومن ذلك تعليلهم في بيع المطعوم الذي لا يدخل تحت المعيار بجنسه أنه باع مطعوما بمطعوم من جنسه لا تعرف المساواة بينهما في المعيار فيكون حراما كبيع صبرة حنطة بصبرة حنطة.
فإنا نقول: إيش تعنون بهذا الحكم ؟ أهو حرمة مطلقة أم حرمة إلى غاية التساوي ؟ فإن قالوا: بنا غنية عن بيان هذا.
قلنا: لا كذلك، فالحرمة الثابتة إلى غاية غير الحرمة المطلقة، والحكم الذي يقع التعليل له لا بد أن يكون معلوما.
فإن قال: أعني الحرمة المطلقة، منعنا هذا الحكم في الاصل، لان الحرمة هناك ثابتة إلى غاية وهي المساواة في القدر، وإن عنى الحرمة إلى غاية فقد تعذر إثبات هذه الحرمة بالتعليل في الفرع، لان إثبات الحرمة إلى غاية إنما يتحقق في مال تتصور فيه تلك الغاية، وما لا يدخل تحت المعيار لا يتصور فيه الغاية وهي المساواة في المعيار، فكيف يتحقق إثبات الحرمة فيه إلى غاية ؟ وعند هذا المنع يضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة كما أشرنا إليه.
ومن ذلك تعليلهم في السلم في الحيوان أنه مال يثبت دينا في الذمة مهرا فيثبت دينا في الذمة سلما كالثياب.
فإنا نقول: ما معنى قولكم يثبت دينا
في الذمة ؟ أتريدون به معلوم الوصف أم معلوم المالية والقيمة ؟ فإن قال: أعني معلوم الوصف، منعنا ذلك في الاصل وهو المهر، فقد قامت الدلالة لنا على أنه لا يشترط فيما يثبت في الذمة مهرا أن يكون معلوم الوصف.
فإن قال: نعني معلوم المالية والقيمة، منعنا ذلك في الفرع، فإن الحيوان بعد ذكر الاوصاف يتفاوت في المالية تفاوتا فاحشا.
وإن قالوا: لا حاجة بنا إلى هذا التعيين، قلنا لا كذلك، فاعتبار أحد الدينين بالآخر لا يصح ما لم يثبت أنهما نظيران ولا طريق لثبوت ذلك إلا الايجاد في الطريق الذي يثبت به كل واحد من الدينين في الذمة، وعند ذلك يضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن إعلام المسلم فيه على وجه لا يبقى فيه تفاوت فاحش فيما هو المقصود، وهو المالية على وجه يلتحق بذوات الامثال في صفة المالية هل يكون شرطا لجواز عقد السلم أم لا ؟
ومن ذلك تعليلهم في اشتراط التقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام أن العقد جمع بدلين يجري فيهما ربا الفضل فيشترط التقابض كالاثمان، فإنا نقول: إيش المراد بقولكم فيشترط فيهما تقابض ؟ أهو التقابض لازالة صفة الدينية أو لاثبات زيادة معنى الصيانة، وأحدهما يخالف الآخر فلا بد من بيان هذا.
فإن قالوا: لمعنى الصيانة، منعنا هذا الحكم في الاثمان، فاشتراط التقابض هناك عندنا لازالة صفة الدينية، فإن النقود لا تتعين في العقود ما لم تقبض، والدين بالدين حرام شرعا.
وإن قالوا: لازالة صفة الدينية، لا يتمكنون من إثبات هذا الحكم في الفرع، فالطعام يتعين في العقد بالتعيين من غير قبض فلا يجدون بدا من الرجوع إلى حرف المسألة، وهو بيان أن اشتراط القبض في الصرف ليس لازالة صفة الدينية بل للصيانة عن معنى
الربا، بمنزلة المساواة في القدر.
ومن ذلك قولهم في من اشترى أباه ناويا عن كفارة يمينه إنه عتق الاب فلا تتأدى به الكفارة كما لو ورثه، لانا نقول: إن عنيتم أنه لا تتأدى الكفارة بالعتق فنحن نقول في الفرع لا تتأدى الكفارة بالعتق، بل الكفارة تتأدى بفعل منسوب إلى المكفر والعتق وصف في المحل ثابت شرعا، وإن عنيتم الاعتاق فهذا غير موجود في الاصل، لانه لا صنع للوارث في الارث حتى يصير به معتقا، وعند هذا لا بد من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن شراء القريب هل هو إعتاق بطريق أنه متمم علة العتق ؟ أم ليس بإعتاق وإنما يحصل العتق به حكما للملك ؟ ومن ذلك قولهم في أن الكفارة لا تتأدى بطعام الاباحة إنه نوع تكفير يتأدى بالتمليك (فلا يتأدى بدون التمليك) كالكسوة، لانا نقول: لا تتأدى بدون التمليك مع امتثال الامر (أم بدون امتثال الامر.
فإن قال: بي غنية عن بيان هذا، قلنا: لا كذلك، لان التكفير مأمور به شرعا فلا يتأدى
المأمور به إلا بما فيه امتثال الامر.
فإن قال: مع امتثال الامر، منعنا هذا الحكم في الاصل وهو إعارة الثوب من المسكين.
وإن قال: بدون امتثال الامر) قلنا: هذا مسلم، ولكنا نمنع انعدام امتثال الامر في الفرع، والمأمور به هو الاطعام، وحقيقته التمكين من الطعام، فيضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن حقيقة معنى الاطعام أهو التمكين بالتغدية والتعشية أم التمليك ؟ ومنه قولهم في القطع والضمان إنهما يجتمعان لانه أخذ مال الغير بغير إذن مالكه فيكون موجبا للضمان كالاخذ غصبا.
فإنا نقول: ما معنى
هذا الحكم ؟ أهو أن يكون موجبا للضمان مع وجود ما ينافيه، أم عند عدم ما ينافيه ؟ فإن قال: مع وجود ما ينافيه، منعنا ذلك في الاصل، فإن غصب الباغي مال العادل لا يكون موجبا للضمان، وإن كان آخذا بغير حق وبغير إذن المالك.
وإن قال: عند عدم ما ينافيه، قلنا: بموجبه ولكن لا نسلم انعدام ما ينافي الضمان هنا، فإن قطع اليد بسبب السرقة مناف للضمان عندنا أو مسقط له كالابراء، فلا يجد بدا من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن استيفاء القطع هل يكون منافيا للضمان أم لا ؟ وأما بيان إضافة الحكم إلى الوصف فهو على ما ذكرنا في القول بموجب العلة، فإن إضافة الحكم إلى العلل الطردية ليس بدليل موجب إضافة الحكم إلى ذلك الوصف، بل لكونه موجودا عند وجوده ومعدوما عند عدمه، وقد بينا أن العدم لا يصلح لاضافة الحكم إليه، وكذلك كل تعليل يكون بنفي وصف أو حكم، فإنا نمنع صلاحية ذلك الوصف لاضافة الحكم إليه، نحو تعليلهم في الاخ أنه لا يعتق على أخيه إذا ملكه لانه ليس بينهما بعضية كابن العم، فإنا نمنع في ابن العم أن يكون انتفاء العتق عند دخوله في ملكه لهذا الوصف، إذ العدم لا يجوز أن يكون موجبا شيئا.
وكذلك قولهم في النكاح إنه لا يثبت بشهادة الرجال والنساء لانه ليس بمال كالحدود.
فإنا نمنع إضافة هذا الحكم في الحدود إلى هذا الوصف، لانه كون الحد ليس بمال لا يصلح علة لامتناع ثبوته بشهادة النساء مع الرجال.
وتعليلهم في الاحصار بالمرض أنه لا يفارقه ما حل به بالاحلال، كالذي ضل الطريق الممانعة في الاصل على هذا الوجه.
وتعليلهم في المبتوتة أنها لا تستوجب النفقة ولا يلحقها الطلاق لانها ليست بمنكوحة كالمطلقة
قبل الدخول، فإنا نمنع إضافة هذا الحكم في الاصل إلى هذا الوصف، إذ العدم لا يصلح أن يكون موجبا شيئا.
وعلى هذا فخرج ما شئت من المسائل.
فصل: في بيان فساد الوضع قال رضي الله عنه: اعلم بأن فساد الوضع في العلل بمنزلة فساد الاداء في الشهادة وأنه مقدم على النقض، لان الاطراد إنما يطلب بعد صحة العلة، كما أن الشاهد إنما يشتغل بتعديله بعد صحة أداء الشهادة منه، فأما مع فساد في الاداء لا يصار إلى التعليل لكونه غير مفيد.
ثم تأثير فساد الوضع أكثر من تأثير النقض، لان بعد ظهور فساد الوضع لا وجه سوى الانتقال إلى علة أخرى، فأما النقض فهو جحد مجلس يمكن الاحتراز عنه في مجلس آخر.
وبيانه فيما قال الشافعي في إسلام أحد الزوجين إن الحادث بينهما اختلاف الدين، فالفرقة به لا تتوقف على قضاء القاضي كالفرقة بردة أحد الزوجين.
لانا نقول: هذا الاختلاف إنما حصل بإسلام من أسلم منهما، فأما باعتبار بقاء من بقي على الكفر الحال حال الموافقة فقد كان بينهما الموافقة وهذا على دينه، فعرفنا أن الاختلاف الحادث بإسلام المسلم منهما هو سبب لعصمة الملك وزيادة معنى الصيانة فيه، فالتعليل به لاستحقاق الفرقة يكون فاسدا وضعا في الفرع وإن كان صحيحا في الاصل، من حيث إن الاختلاف هناك حادث بالردة وهي سبب لزوال الملك والعصمة.
وكذلك قولهم في المسح بالرأس إنه ركن في الطهارة فيسن تثليثه كغسل الوجه فاسد وضعا، لانه يرد المسح المبني
على التخفيف إلى الغسل المبني على المبالغة ليثبت في المسح زيادة غلظ فوق ما في الغسل، فإن في الغسل الاكمال بالتثليث في محل الفرض خاصة، وبهذا
التعليل يجعل التثليث في الممسوح مشروعا للاكمال في موضع الفرض وغير موضع الفرض، فإن الفرض يتأدى بالربع وهو يجعل التثليث مسنونا بالاستيعاب.
ومن ذلك قولهم في الضرورة إذا حج بنية النفل يقع عن الفرض لان فرض هذه العبادة يتأدى بمطلق النية، فيتأدى بنية النفل أيضا كالزكاة، فإن التصدق بالنصاب على الفقير بمطلق النية لما كان يتأدى به الزكاة فنية النفل كان كذلك.
ولكنا نقول: هذا فاسد وضعا، لانه بهذا الطريق يرد المفسر إلى المجمل، ويحمل المقيد على المطلق، وإنما المجمل يرد إلى المفسر ليصير به معلوم المراد، والمطلق يحمل على المقيد عنده في حادثتين أو في حكمين، وعندنا في حادثة واحدة في حكم واحد، حتى رددنا مطلق القراءة في صوم ثلاثة أيام في اليمين إلى المقيد بالتتابع في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، وأحد لا يقول المقيد يحمل على المطلق، وهو نظير مطلق النقد ينصرف إلى نقد البلد المعروف لدلالة العرف، فأما المقيد بنقد آخر فإنه لا يحمل على المطلق لينصرف إلى نقد البلد.
ومن ذلك قولهم في علة الربا إن صفة الطعم معنى يتعلق به البقاء، يعنون أن بقاء النفس يكون بالطعم فيكون ذلك علة موجبة لزيادة شرطين في العقد على المطعوم عند مقابلة الجنسية.
ونحن نقول: هذا فاسد وضعا، لان البيع في الاصل ما شرع إلا للحاجة ولهذا اختص بالمال الذي بذله لحوائج الناس، وصفة الطعم تكون عبارة عن أعظم أسباب الحاجة إلى ذلك المال، لان ما يتعلق به البقاء يحتاج إليه كل واحد، وذلك إنما يصلح علة لصحة العقد وتوسعة الامر فيه لا للحرمة، لان تأثير الحاجة في
الاباحة بمنزلة إباحة الميتة عند الضرورة، ولهذا حل لكل واحد من الغانمين تناول مقدار الحاجة من الطعام والعلف الذي يكون في الغنيمة في دار الحرب قبل القسمة بخلاف سائر الاموال، فكانت العلة فاسدة وضعا مع أنه لا تأثير لها في إثبات المماثلة بين العوضين الذي هو شرط جواز العقد بالنص.
ومن ذلك قولهم في طول الحرة إن الحر لا يجوز له أن يرق ماءه مع غنيته عنه، كما لو كان تحته حرة، فإن تأثير الحرية في أصل الشرع في استحقاق زيادة النعمة والكرامة وفي إثبات صفة الكمال في الملك، ولهذا حل للحر أربع نسوة بالنكاح ولم يحل للعبد إلا اثنتان، فالتعليل لاثبات الحجر عن العقد بصفة الحرية فيما لا يثبت الحجر عنه بسبب الرق يكون فاسدا في الوضع مخالفا لاصول الشرع.
ومن ذلك قولهم فيمن جن في وقت صلاة كامل أو في يوم واحد في الصوم إنه لا يلزمه القضاء، لان الخطاب عنه ساقط أصلا ووجوب القضاء يبتنى على وجوب الاداء، بمنزلة ما لو جن أكثر من يوم وليلة في الصلاة، أو استوعب الجنون الشهر كله في الصوم.
ونحن نقول: هذا فاسد وضعا، لان الحادث بالجنون عجز عن فهم الخطاب والائتمار بالامر ولا أثر للجنون في إخراجه من أن يكون أهلا للعبادة، لان ذلك يبتنى على كونه أهلا لثوابها، والاهلية لثواب العبادة بكونه مؤمنا والجنون لا يبطل إيمانه، ولهذا يرث المجنون قريبه المسلم، ولا يفرق بين المجنونة وزوجها المسلم.
والدليل عليه أنه لا يبطل إحرامه بسبب الجنون، فدل أنه لا يبطل به إيمانه فكذلك لا يبطل صومه، حتى لو جن بعد الشروع في الصوم بقي صائما، ولا وجه لانكار هذا، فإن بعد صحة الشروع في الصوم لا يشترط قيام
الاهلية للبقاء فيها سوى الكف عن اقتضاء الشهوات، والجنون لا ينفي تحقق هذا الفعل، وإذا بقي صائما حتى تأدى منه عرفنا أنه تأدى فرضا كما شرع
فيه، ولا يتحقق ذلك إلا مع تقرر سبب الوجوب في حقه.
والدليل عليه بقاء حجة الاسلام فرضا له بعد الجنون، وبقاء ما أدى من الصلاة في حالة الافاقة فرضا في حقه، فبهذا التحقيق يتبين أن سبب الوجوب متحقق مع الجنون، والخطاب بالاداء ساقط عنه لعجزه عن فهم الخطاب، وذلك لا ينفي صحة الاداء فرضا، بمنزلة من لم يبلغه الخطاب، فإنه تتأدى منه العبادة بصفة الفرضية كمن أسلم في دار الحرب ولم تبلغه فرضية الخطاب لا يكون مخاطبا بها ومع ذلك إذا أداها كانت فرضا له.
وكذلك النائم والمغمى عليه، فإن الخطاب بالاداء ساقط عنهما قبل الانتباه والافاقة ثم كان السبب متقررا في حقهما، فكان التعليل بسقوط فعل الاداء عنه لعجزه عن فهم الخطاب على نفي سبب الوجوب في حقه أصلا، فيكون فاسدا وضعا مخالفا للنص والاجماع، ولان الخطاب بالاداء يشترط لثبوت التمكن من الائتمار وذلك لا يكون بدون العقل والتمييز، فسقوطه لانعدام شرطه لا يجوز أن يكون دليلا على نفي تقرر السبب، وثبوت الوجوب الذي هو حكم السبب على وجه لا صنع للعبد فيه بل هو أمر شرعي يختص بمحل صالح له وهو الذمة، فإذا ثبت تقرر السبب ثبت صحة الاداء، ووجوب القضاء عند عدم الاداء بشرط أن لا يلحقه الحرج في القضاء، فإن الحرج عذر مسقط بالنص، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فعند تطاول الجنون حقيقة أو حكما بتكرار الفوائت من الصلوات وباستيعاب الجنون الشهر كله أسقطنا القضاء
لدفع الحرج وهو عذر مسقط.
ومعنى الحرج فيه أنه تتضاعف عليه العبادة المشروعة في وقتها، ولا يشتبه معنى الحرج في الاداء عند تضاعف الواجب، ولهذا أسقطنا بعذر الحيض قضاء الصلوات لانها تبتلى بالحيض في كل شهر عادة، والصلاة يلزمها في اليوم والليلة خمس مرات، فلو أوجبنا القضاء تضاعف الواجب في زمان الطهر، ولا يسقط بالحيض قضاء الصوم، لان فرضية
الصوم في السنة في شهر واحد وأكثر الحيض في ذلك الشهر عشرة، فإيجاب قضاء عشرة أيام في أحد عشر شهرا لا يكون فيه كثير حرج، ولا يؤدي إلى تضاعف الواجب في وقته.
وكذلك إذا لزمها صوم شهرين في كفارة القتل فأفطرت بعذر الحيض لم يلزمها الاستقبال، بخلاف ما إذا لزمها صوم عشرة أيام متتابعة بالنذر فأفطرت بعذر الحيض في خلالها يلزمها الاستقبال، لانها قلما تجد شهرين خاليين عن الحيض عادة، ففي التحرز عن الفطر بعذر الحيض في شهرين معنى الحرج ولا يتحقق ذلك في عشرة أيام، ولهذا أسقطنا قضاء العبادات عن الصبي بعد البلوغ، لان الصبي لا يكون إلا متطاولا عادة فيتحقق معنى الحرج في إيجاب القضاء.
ولم يسقط القضاء عن النائم لانه لا يكون متطاولا عادة فلا يلحقه الحرج في إيجاب القضاء بعد الانتباه، وألحقنا الاغماء بالجنون في حكم الصلاة، لان ذلك يوجد عادة في مقدار ما يتكرر به الفائت من الصلاة، وألحقناه بالنوم في حكم الصوم لانه لا يتطاول عادة بقدر ما يثبت به حكم تطاول الجنون في حكم الصوم وهو أن يستوعب الشهر كله.
ومن ذلك قولهم في النقود إنها تتعين في عقود المعاوضات لانها تتعين في التبرعات كالهبة والصدقة فتتعين في المعاوضات بمنزلة الحنطة وسائر السلع، لانا
نقول: هذا التعليل فاسد وضعا، فإن التبرعات مشروعة في الاصل للايثار بالعين لا لايجاب شئ منها في الذمة، والمعاوضات لايجاب البدل بها في الذمة ابتداء، ألا ترى أن البيع في العرف الظاهر إنما يكون بثمن يجب في الذمة ابتداء، والنكاح يكون بصداق يجب في الذمة ابتداء، فكان اعتبار ما هو مشروع للالزام في الذمة ابتداء إنما هو مشروع لنقل الملك واليد في العين من شخص إلى شخص في حكم التعيين فاسدا وضعا، ألا ترى أن البيع لما كان لنقل الملك واليد في عين المعقود عليه لم يجز أن يكون موجبا المبيع في الذمة ابتداء لا رخصة بسبب الحاجة إليه في السلم، وذلك حكم ثابت بخلاف القياس،
ففيما يكون البيع موجبا له في الذمة ابتداء وهو الثمن لا يجوز أن يجعل موجبه نقل الملك واليد فيه من شخص إلى شخص بالتعيين، وقد عرفنا أنه لا يستحق النقد بالعقد الذي هو معاوضة إلا ثمنا، ومع التعيين لا يمكن إثبات موجبه، فظهر أن هذا التعيين لم يصادف محله وأنه بمنزلة هبة المال دينا في ذمته من إنسان فإنه لا يكون صحيحا، لان موجب الهبة نقل الملك واليد في العين، فلا يجوز أن يجعل موجبه الايجاب في الذمة ابتداء بالشك، وما كان تعيين النقد في عقد المعاوضة إلا نظير الايجاب في الذمة ابتداء بعقد الهبة، فكما أن ذلك ينافي صحة العقد لان موجبه نقل الملك في العين واليد، فبدون موجبه لا يكون صحيحا، فهنا لو تعين بطل العقد، لانه ينعدم ما هو موجب هذا العقد في الثمن وهو الالزام في الذمة ابتداء، وفي الحنطة كذلك، فإنه متى كان ثمنا كان واجبا في الذمة ابتداء، فأما بعد التعيين يصير مبيعا فيكون موجب العقد فيه تحويل ملك العين واليد من شخص إلى شخص، والسلع لا تكون إلا مبيعة، ولهذا لا يجوز ترك التعيين فيها في غير موضع الرخصة
وهو السلم الذي هو ثابت بخلاف القياس، لانه لو صح ذلك كان ثابتا بالعقد في الذمة ابتداء وهو خلاف موجب العقد فيها.
ومن ذلك قولهم في المشتري إذا أفلس في الثمن قبل النقد إنه يثبت للبائع حق نقض البيع واسترداد سلعته، لان الثمن أحد العوضين في البيع، فالعجز عن تسليمه بحكم العقد يثبت للمتملك حق فسخ العقد دفعا للضرر عن نفسه، كالعوض الآخر وهو المبيع إذا كان عينا فعجز البائع عن تسليمه بالاباق أو كان دينا كالسلم، فعجز البائع عن تسليمه بانقطاعه عن أيدي الناس.
لانا نقول: هذا التعليل فاسد وضعا، فإن موجب البيع في المبيع استحقاق ملك العين واليد، ولهذا لا نجوز بيع العين قبل وجود الملك واليد للبائع في المبيع، لانه لا يتحقق منه اكتساب سبب استحقاق ذلك لغيره إذا لم يكن مستحقا له، وكذلك في المبيع الدين يشترط قدرته على التسليم باكتسابه حكما بكونه موجودا في العالم وباشتراط الاجل الذي هو مؤثر
في قدرته على التسليم باكتسابه في المدة أو إدراك غلاته، فإنه موجب بالعقد في الثمن التزامه في الذمة ابتداء، والشرط فيه ذمة صالحة للالتزام فيها، ولهذا لا يشترط قيام ملك المشتري في الثمن وقدرته على تسليمه عند العقد حقيقة وحكما.
فتبين بهذا أن بسبب العجز عن تسليم المعقود عليه يتمكن خلل فيما هو موجب العقد فيه (وهو) مستحق به، وبسبب العجز عن تسليم الثمن لا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد فيه وهو التزام (الثمن) في الذمة، وأي فساد أبين من فساد قول من يقول إذا ثبت حق الفسخ عند تمكن الخلل في موجب العقد ينبغي أن يثبت حق الفسخ بدون تمكن الخلل في موجب العقد.
والدليل على ما قلنا جواز إسقاط حق قبض الثمن بالابراء أصلا وعدم
جواز ذلك في المبيع المعين قبل القبض، حتى إنه إذا وهبه من البائع وقبله كان فسخا للبيع بينهما.
ولا يدخل على ما ذكرنا الكتابة، فإن عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة بعد محل الاجل تمكن المولى من الفسخ، والبدل هناك معقود به يثبت في الذمة ابتداء ولا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد فيه بسبب العجز عن تسليمه، لان موجب العقد لزوم بدل الكتابة على أن يصير ملكا للمولى بعد حل الاجل بالاداء، فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا، ولهذا لا تجب الزكاة في بدل الكتابة ولا تصح الكفالة به.
فعرفنا أن الملك هناك لا يسبق الاداء، فإذا عجز عن الاداء فقد تمكن الخلل في الملك الذي هو موجب العقد فيه، فأما هنا موجب العقد ملك الثمن دينا في الذمة ابتداء وذلك قد تم بنفس العقد، وبسبب الافلاس لا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد، ولهذا لو مات مفلسا لا يتمكن البائع من فسخ العقد أيضا، وإن لم تبق صلاحية المحل وهو الذمة بعد موته مفلسا، لان بنفس العقد قد تم موجب العقد فيه، فما كان فواته بعد ذلك إلا بمنزلة هلاك المبيع بعد القبض، وذلك لا يوجب انفساخ العقد ولا يثبت للمشتري به حق الفسخ فهذا مثله.
وهذه المسائل فقههم فيها بطريق إحالة العلة أظهر وأنور للقلوب، وقد بينا فساد الوضع
في عللهم فيها ليتبين لك أن أكثر ما يعللون به في المسائل بهذا الطريق فاسد إذا تأملت فيه، وأن أعدل الطرق في تصحيح العلة ما كان عليه السلف من اعتبار التأثير.
فصل: المناقضة قد بينا تفسير النقض وحده فيما مضى، وهذا الفصل لبيان الدفع بالمناقضة يلجئ أصحاب الطرد إلى الاحتجاج بالتأثير.
وبيانه فيما علل به الشافعي رحمه الله في اشتراط النية في الوضوء أن التيمم والوضوء طهارتان كيف يفترقان، لان عند إطلاق إنكار التفرقة بينهما ينتقض بكل وجه يفترقان فيه من اشتراط أصل الفعل في التيمم دون الوضوء، ومن اشتراط الاعضاء الاربعة في الوضوء دون التيمم، ومن صفة كل واحد منهما، وغير ذلك مما يفترقان فيه.
فإن قال: عنيت إثبات التسوية بينهما في اشتراط النية خاصة بهذا الوصف، قلنا: هو باطل بغسل النجاسة عن الثوب أو البدن فإنه طهارة ثم لا يشترط فيه النية، فيضطر عند ذلك إلى الرجوع إلى التأثير، وهو أن كل واحد منهما طهارة حكمية غير معقولة المعنى بل ثابتة شرعا بطريق التعبد، إذ ليس على الاعضاء شئ يزول بهذه الطهارة والعبادة لا تتأدى بدون النية، بخلاف غسل النجاسة فإنه معقول بما فيه من إزالة عين النجاسة عن الثوب أو البدن.
ونحن نقول: الماء بطبعه مطهر كما أنه بطبعه مزيل فإنه خلق لذلك، قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره يعمل في التطهير من غير النية، كالنار لما كانت محرقة بطبعها تعمل في الاحراق بغير النية، ثم الحدث لا يختص بالاعضاء بل يثبت حكمه في جميع البدن كالجنابة والحيض والنفاس، لانه لو اختص بموضع كان أولى المواضع به مخرج الحدث ولا يثبت لزوم التطهير في ذلك الموضع، فعرفنا أنه ثابت في جميع البدن إلا أن الشرع أقام غسل الاعضاء التي هي ظاهرة، وهي بمنزلة الامهات في تطهيرها بالماء، مقام جميع البدن تيسيرا على العباد، لان إقامة الغسل فيها تيسير على وجه
لا يتيسر في سائر أجزاء البدن، وسبب الحدث تعم به البلوى ويعتاد تكراره في كل وقت، وبقي حكم تطهير جميع البدن بالغسل في الجنابة والحيض والنفاس
على أصل القياس، فظهر أن ما لا يعقل فيه المعنى بل هو ثابت شرعا إقامة المحال المخصوصة مقام جميع البدن لا فعل هو استعمال الماء في حصول الطهارة به، وكلامنا في اشتراط النية في الفعل الذي يحصل به الطهارة دون المحل، وفي هذه الطهارة من الحدث والجنابة بمنزلة غسل النجاسة.
وكذلك المسح بالرأس فإنه قائم مقام فعل الغسل الذي هو تطهير في ذلك العضو بمعنى التيسير، بخلاف التيمم فإنه في الاصل تلويث وتغبير وهو ضد التطهير، ولهذا لا يرتفع به الحدث، فعرفنا أنه جعل طهارة لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة فإنما يكون طهارة بشرط إرادة الصلاة، وهذا الشرط لا يتحقق إلا بالنية، وما يقول إن في الوضوء والاغتسال معنى العبادة فشرط العبادة النية فهو مسلم عندنا، ومتى لم توجد النية لا يكون وضوءه عبادة، ولكن الطهارة التي هي شرط صحة أداء الصلاة ما يكون مزيلا للحدث لا ما يكون عبادة، واستعمال الماء في محل الطهارة بدون النية مزيل للحدث، فبهذا التقرير تبين أن الوضوء نوعان: نوع هو عبادة وهو لا يحصل بدون النية، ونوع هو مزيل للحدث وهو حاصل بغير النية بمنزلة الغسل الذي هو مزيل للنجاسة وهو مثبت شرط جواز الصلاة.
ومن ذلك قولهم: الطلاق ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال كالحدود.
فإن مطلق هذه العبارة تنتقض بالبكارة والرضاع فلا بد من الرجوع إلى التأثير وهو أن شهادة النساء مع الرجال ليس بحجة أصلية، ولكنها حجة ضرورة يجوز العمل بها شرعا فيما تكثر به البلوى والمعاملة فيه بين الناس في كل وقت، وذلك الاموال وما يتبع الاموال، ففيما لا يكثر فيه البلوى لا تجعل فيه شهادة النساء
حجة، والنكاح والطلاق والوكالة وما أشبه ذلك لا يوجد فيها من عموم البلوى
مثل ما يكون في الاموال.
ونحن نقول: إنها حجة أصلية بمنزلة شهادة الرجال، ولكن فيها ضرب شبهة باعتبار نقصان عقل النساء لتوهم الضلال والنسيان لكثرة غفلتهن، ولهذا ضمت إحدى المرأتين إلى الاخرى ليكونا كرجل واحد في الشهادة، فإنما لا يثبت بهذه الشهادة ما يندرئ بالشبهات كالحدود، فأما النكاح يثبت مع الشبهات، ألا ترى أنه أسرع ثبوتا من المال حتى يصح من الهازل والمكره والمخطئ عندنا، وكذلك الطلاق والوكالة فإنها تثبت مع الجهالة فتحتمل التعليق بالشرط، فكانت أقرب إلى الثبوت مع الشبهة من الاموال بخلاف الحدود.
ومن ذلك قولهم: الغصب عدوان محض فلا يكون سببا للملك في العين كالقتل، لان هذا ينتقض باستيلاد الاب جارية ابنه واستيلاد أحد الشريكين الجارية المشتركة، فإنه عدوان من حيث إنه حرام ثم كان سببا للملك، فيضطر المعلل عند إيراد هذا النقض إلى الرجوع إلى التأثير، وهو أن الفعل إنما يتمخض عدوانا إذا خلا عن نوع شبهة، واستيلاد أحد الشريكين لم يخل عن ذلك، فإنه باعتبار جانب ملكه يتمكن شبهة في هذا الفعل، وكذلك ما للاب من الحق في مال ولده يمكن شبهة.
فنقول عند ذلك: الغصب الذي هو عدوان محض لا يكون سببا لملك العين عندنا ولكن ثبوت الملك في بدل العين وهو حكم مشروع غير موصوف بأنه عدوان هو الذي ثبت به الملك في العين شرطا له على ما قررنا.
ومن ذلك قوله في المنافع: إن المتلف مال فيكون مضمونا على المتلف ضمانا يستوفى كالعين، لان ظاهر هذا ينتقض بما إذا كان المتلف معسرا لا يجد شيئا.
فإن قال هناك الضمان واجب عندي ولكن يتأخر الاستيفاء لعجز من عليه عن المثل الذي يؤدي به الضمان.
قلنا: هكذا نقول في الفرع، فإن
عندنا يتأخر استيفاء الضمان إلى الآخرة للعجز عن المثل الذي يوفي به هذا
الضمان، فإن ضمان العدوان يتقدر بالمثل بالنص وليس للمنفعة مثل في صفة المالية يمكن استيفاؤها في الدنيا، وعند ذلك يتبين فقه المسألة أن المانع من إلزام الضمان عندنا انعدام المماثلة لظهور التفاوت بين المنافع والاعيان في صفة المالية، وقد تقدم بيان ذلك، فيقرر بما ذكرنا أن الاعتماد على الاطراد من غير طلب التأثير ضعيف في باب الاحتجاج، وأنه بمنزلة الاحتجاج بلا دليل على ما أوضحنا فيه السبيل.
فصل: في بيان الانتقال قال رضي الله عنه: الانتقال على أربعة أوجه: انتقال من علة إلى علة أخرى لاثبات الاولى بها، وانتقال من حكم إلى حكم لاثباته بالعلة الاولى، وانتقال من حكم إلى حكم (آخر) لاثباته بعلة أخرى.
وهذه الاوجه الثلاثة مستقيمة على طريق النظر لا تعد من الانقطاع.
أما الاول فلان المعلل إنما التزم إثبات الحكم بما ذكره من العلة ويمكنه من ذلك بإثبات العلة، فما دام سعيه فيما يرجع إلى إثبات تلك العلة يكون ذلك وفاء منه بما التزم لا أن يكون إعراضا عن ذلك واشتغالا بشئ آخر.
وبيان هذا فيما إذا عللنا في نفي الضمان عن الصبي المستهلك للوديعة بأنه استهلاك عن تسليط صحيح ثم نشتغل بإثبات هذه العلة، فإنه يكون هذا انتقالا من علة إلى أخرى لاثبات العلة الاولى بها، ولا يشك أحد في أن ذلك مستقيم على طريق النظر، وعلى هذا إذا اشتغل بإثبات الاصل الذي يتفرع منه موضع الخلاف حتى يرتفع الخلاف بإثبات الاصل فإن ذلك حسن صحيح، نحو ما إذا وقع الاختلاف في الجهر بالتسمية، فإذا قال المعلل: هذا يبتنى على أصل وهو أن التسمية ليست
بآية من الفاتحة ثم يشتغل بإثبات ذلك الاصل حتى يثبت الفرع بثبوت الاصل يكون مستقيما.
وكذلك إذا علل بقياس فقال خصمه: القياس عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بقول صحابي، فيقول خصمه: قول الواحد
من الصحابة عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بخبر الواحد، فيقول خصمه: خبر الواحد عندي ليس بحجة، فيحتج بكتاب على أن خبر الواحد حجة، فإنه يكون طريقا مستقيما، ويكون هذا كله سعيا في إثبات ما رام إثباته في الابتداء.
وأما الثاني فلان الانتقال من حكم إلى حكم إنما يكون عند موافقة الخصم في الحكم الاول، وما كان مقصود المعلل إلا طلب الموافقة في ذلك الحكم، فإذا وافقه خصمه فيه فقد تم مقصوده، ثم الانتقال بعده إلى حكم آخر ليثبته بالعلة الاولى يدل على قوة تلك العلة في إجرائها في المعلولات وعلى حذاقة المعلل في إثبات الحكم بالعلة، وذلك نحو ما إذا عللنا في تحرير المكاتب عن كفارة اليمين، لان الكتابة عقد معاوضة يحتمل الفسخ فلا تخرج الرقبة من أن تكون محلا للصرف إلى الكفارة كالبيع، فإذا قال الخصم: عندي عقد الكتابة لا يخرج الرقبة من الصلاحية لذلك، ولكن نقصان الرق هو الذي يخرج الرقبة من ذلك فنقول: بهذه العلة يجب أن لا يتمكن نقصان في الرق لان ما يمكن نقصانا في الرق لا يكون فيه احتمال الفسخ، فهذا إثبات الحكم الثاني بالعلة الاولى أيضا وهو نهاية في الحذاقة.
وكذلك إن تعذر إثبات الحكم الثاني بالعلة الاولى فأراد إثباته بالعلة بعلة أخرى، لانه ما ضمن بتعليله إثبات جميع الاحكام بالعلة الاولى وإنما ضمن إثبات الحكم الذي زعم أن خصمه ينازعه فيه، فإذا أظهر الخصم الموافقة فيه واحتاج إلى إثبات حكم آخر يكون له أن يثبت ذلك بعلة
أخرى ولا يكون هذا انقطاعا منه.
فأما الوجه الرابع وهو الانتقال من علة إلى علة أخرى لاثبات الحكم الاول، فمن أهل النظر من صحح ذلك أيضا ولم يجعله انقطاعا، استدلالا بقصة الخليل عليه السلام حين حاج اللعين بقوله تعالى: (ربي الذي يحيي ويميت) فلما قال اللعين: (أنا أحيي وأميت) حاجه بقوله تعالى: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) وكان ذلك (منه)
انتقالا من حجة إلى حجة لاثبات شئ واحد، وقد ذكر الله تعالى ذلك عنه على وجه المدح له به، فعرفنا أنه مستقيم.
وكذلك المدعي إذا أقام شاهدين فعورض بجرح فيهما كان له أن يقيم شاهدين آخرين لاثبات حقه.
والمذهب الصحيح عند عامة الفقهاء أن هذا النوع من الانقطاع، لانه رام إثبات الحكم بالعلة الاولى، فانتقاله عنها إلى علة أخرى قبل أن يثبت الحكم بالعلة الاولى لا يكون إلا لعجز عن إثباته بالعلة الاولى، وهذا انقطاع على ما نبينه في فصله.
ثم مجالس النظر للابانة، فلو جوزنا الانتقال فيها من علة إلى علة أدى ذلك إلى أن يتطاول المجلس ولا يحصل ما هو المقصود وهو الابانة، وكان هذا نظير نقض يتوجه على العلة، فإنه لا يشتغل بالاحتراز عنه، ولكن إذا تعذر دفعه بما ذكره المعلل في الابتداء يظهر به انقطاعه في ذلك المجلس فهذا مثله.
فأما قصة الخليل عليه الصلاة والسلام فهو ما انتقل قبل ظهور الحجة الاولى له، ولكن الاولى كانت حجة ظاهرة لم يطعن خصمه فيها إنما ادعى دعوى مبتدأة بقوله: (أنا أحيي وأميت) وكل ما صنعه معلوم الفساد عند المتأملين إلا أنه كان في القوم من يتبع الظاهر ولا يتأمل في حقيقة المعنى فخاف الخليل عليه الصلاة والسلام الاشتباه
على أمثالهم فضم إلى الحجة الاولى حجة ظاهرة لا يكاد يقع فيها الاشتباه فبهت الذي كفر.
وهذا مستحسن في طريق النظر لا يشك فيه، فإن المعلل إذا أثبت علته يقول: والذي يوضح ما ذكرت.
فيأتي بكلام آخر هو أوضح من الاول في إثبات ما رام إثباته، وهذا لان حجج الشرع أنوار فضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج، وذلك لا يكون دليلا على ضعف أحدهما أو بطلان أثره فكذلك ضم حجة إلى حجة، وإنما جعلنا هذا انقطاعا في موضع يكون الانتقال للعجز عن إثبات الحكم بالعلة الاولى.
ثم كل هذه التصرفات للمجيب لا للسائل، فإن المجيب بان والسائل هادم مانع، والحاجة إلى هذه الانتقالات للباني المثبت لا للمانع الدافع.
فصل: بيان الانقطاع ووجوه الانقطاع أربعة: أحدها - وهو أظهرها - السكوت على ما أخبر الله به عن اللعين عند إظهار الخليل صلى الله عليه وسلم حجته بقوله: (فبهت الذي كفر) .
والثاني: جحد ما يعلم ضرورة بطريق المشاهدة، لان سعي المعلل ليجعل الغائب كالشاهد، والعلم بالمشاهدات يثبت ضرورة، فإذا اشتغل الخصم بجحد مثله علم أنه ما حمله على ذلك إلا عجزه عن دفع علة المعلل، فكان انقطاعا.
والثالث: المنع بعد التسليم، فإنه يعلم أنه لا شئ يحمله على المنع بعد التسليم إلا عجزه عن الدفع لما استدل به خصمه.
ولا يقال يحتمل أن يكون تسليمه عن سهو أو غفلة، لان عند ذلك يبين وجه الدفع بطريق التسليم ثم يبنى عليه استدراك ما سها فيه، فأما أن يرجع عن التسليم إلى المنع من غير بيان الدفع بطريق التسليم فذلك لا يكون إلا للعجز.
والرابع: عجز المعلل عن تصحيح العلة التي قصد إثبات الحكم بها حتى انتقل منها إلى علة أخرى لاثبات الحكم، فإن ذلك انقطاع، لان حكم الانقطاع مقتضب من لفظه، وهو قصور المرء عن بلوغ مغزاه، وعجزه عن إظهار مراده ومبتغاه.
وهذا العجز نظير العجز ابتداء عن إقامة الحجة على الحكم الذي ادعاه، والله أعلم.
باب: أقسام الاحكام وأسبابها وعللها وشروطها وعلاماتها اعلم أن جملة ما ثبت بالحجج الشرعية الموجبة للعلم بما تقدم ذكرها قسمان: الاحكام المشروعة وما يتعلق بها المشروعات.
فنبدأ ببيان قسم الاحكام فنقول: هذه الاحكام أربعة: حقوق الله خالصا، وحقوق العباد خالصا أيضا، وما يشتمل على الحقين وحق الله فيه أغلب، وما يشتمل عليهما وحق العباد فيه أغلب.
فأما حقوق الله خالصة فهي أنواع ثمانية: عبادات محضة، وعقوبات محضة، وعقوبة قاصرة، ودائرة بين العبادة والعقوبة، وعبادة فيها معنى المئونة، ومئونة فيها معنى العبادة، ومئونة فيها معنى العقوبة، وما يكون قائما بنفسه وهي على ثلاثة أوجه: ما يكون منه أصلا، وما يكون زائدا على الاصل، وما يكون ملحقا به.
فأما العبادات المحضة فرأسها الايمان بالله تعالى، والاصل فيه التصديق بالقلب، فإنه لا يسقط بعذر ما من إكراه أو غيره، وتبديله بغيره يوجب الكفر على كل حال، والاقرار باللسان ركن فيه مع التصديق بالقلب في أحكام الدنيا والآخرة جميعا، وقد يصير الاقرار أصلا في أحكام الدنيا بمنزلة
التصديق، حتى إذا أكره على الاسلام فأسلم باللسان فهو مسلم في أحكام الدنيا لوجود ركن الاقرار، وقيام السيف على رأسه دليل على أنه غير مصدق بالقلب، ولهذا لا يحكم بالردة إذا أكره المرء عليها، لان التكلم باللسان هناك دليل محض على ما في الضمير من غير أن يجعل أصلا بنفسه، والاقرار باللسان وإن كان دليلا على التصديق فعند الاكراه يجعل أصلا بنفسه يثبت به الايمان في أحكام الدنيا بمنزلة التصديق، ويستوي إن أكره الحربي على ذلك أو الذمي عندنا لهذا المعنى.
وعند الشافعي متى كان الاكراه بحق بأن كان المكره حربيا لا أمان له كذلك الجواب، ومتى كان بغير حق بأن أكره الذمي عليه فإنه لا يصير مسلما به.
ثم الصلاة بعد الايمان من أقوى الاركان، فإنها عماد الدين ما خلت عنها شريعة المرسلين.
وهي تشمل الخدمة بظاهر البدن وباطنه، ولكنها صارت قربة بواسطة البيت الذي عظمه الله وأمرنا بتعظيمه لاضافته إلى نفسه فقال: (أن طهرا بيتي للطائفين) الآية، حتى لا تتأدى هذه القربة إلا باستقبال القبلة في حالة الامكان، وفي ذلك من معنى التعظيم ما أشار الله تعالى إليه في قوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ليعلم به أن المطلوب
وجه الله، ووجه الله لا جهة له، فجعل الشرع استقبال جهة الكعبة قائما مقام ما هو المطلوب لاداء هذه القربة.
وأصل الايمان فيه تقرب إلى الله تعالى بلا واسطة، وفي الصلاة تقرب بواسطة البيت فكانت من شرائع الايمان لا من نفس الايمان.
ثم الزكاة التي تؤدي بأحد نوعي النعمة وهو المال، فالنعم الدنيوية نعمتان: نعمة البدن، ونعمة المال، والعبادات مشروعة لاظهار شكر النعمة بها في الدنيا ونيل الثواب في الآخرة، فكما أن شكر نعمة البدن
بعبادة تؤدي بجميع البدن وهي الصلاة، فشكر نعمة المال بعبادة مؤداة بجنس تلك النعمة، وإنما صار الاداء قربة بواسطة المصروف إليه وهو المحتاج، على معنى أن المؤدي يجعل ذلك المال خالصا لله تعالى في ضمن صرفه إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى، لهذا كان دون الصلاة بدرجة، فإنها قربة بواسطة البيت الذي ليس من أهل الاستحقاق بذاته، وهذا قربة بواسطة الفقير الذي هو من أهل أن يكون مستحقا بنفسه لحاجته.
ثم الصوم الذي هو من جنس المشروع شكرا لنعمة البدن، ولكنه دون الصلاة من حيث إنه لا يشتمل على أعمال متفرقة على أعضاء البدن، بل يتأدى بركن واحد وهو الكف عن اقتضاء الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، فإنما صارت قربة بواسطة النفس المحتاجة إلى نيل اللذات والشهوات، فهي أمارة بالسوء كما وصفها الله تعالى به، ففي قهرها بالكف عن اقتضاء شهواتها لابتغاء مرضاة الله تعالى معنى القربة، وبالتأمل في هذه الوسيلة يتبين أنه دون ما سبق.
ثم الحج الذي هو زيارة البيت المعظم، وعبادة بطريق الهجرة يشتمل على أركان تختص بأوقات وأمكنة، وفيها معنى القربة باعتبار معنى التعظيم لتلك الاوقات والامكنة.
فأما العمرة فإنها سنة قوية باعتبار أن أركانها من جنس أركان الحج، وما بينا من الوسيلة لا يوجب عددا من القربة ولهذا لا تتكرر فرضية
الحج في العمر، فعرفنا أن العمرة زيارة، وهي سنة قوية فعلها رسول الله عليه السلام وأمر بها.
والجهاد قربة باعتبار إعلاء كلمة الله وإعزاز الدين، ولما فيه من توهين
المشركين ودفع شرهم عن المسلمين، ولهذا سماه رسول الله عليه السلام سنام الدين.
وكان أصله فرضا لان إعزاز الدين فرض ولكنه فرض كفاية، لان المقصود وهو كسر شوكة المشركين ودفع شرهم وفتنتهم يحصل ببعض المسلمين فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
والاعتكاف قربة زائدة لما فيها من تعظيم المكان المعظم بالمقام فيه وهو المسجد، ولما في شرطها من منع النفس عن اقتضاء الشهوات، يعني الصوم.
والمقصود بها تكثير الصلاة إما حقيقة أو حكما بانتظار الصلاة في مكانها على صفة الاستعداد لها بالطهارة.
وأما صدقة الفطر فهي عبادة فيها معنى المئونة، ولهذا لا تتأدى بدون نية العبادة بحال، ولا تجب إلا على المالك لما يؤدي به حقيقة بمنزلة الزكاة، ولكن لا يشترط لوجوبها صفة كمال الملك والولاية حتى تجب على الصبي في ماله بخلاف الزكاة، وتجب على الغير بسبب الغير، فعرفنا أن فيها معنى المئونة كالنفقة.
وأما العشر فهو مئونة فيه معنى العبادة.
والخراج مئونة فيه معنى العقوبة من حيث إن وجوب كل واحد منهما باعتبار حفظ الاراضي وإنزالها، إلا أن في الخراج معنى الذل على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى آلة الزراعة في دار قوم فقال: ما دخل هذا في دار قوم إلا ذلوا وكأن ذلك لما في الاشتغال بالزراعة من الاعراض عن الجهاد، وإنما يلتزم الخراج من يشتغل بعمل الزراعة، ولهذا لا يبتدأ المسلم بالخراج في أرضه ويبقى عليه الخراج بعد إسلامه، لانه يتردد بين المئونة والعقوبة فلا يمكن إيجابه على المسلم ابتداء لمعنى المئونة لمعارضة معنى العقوبة إياه، ولا يمكن إسقاطه
بعد الوجوب إذا أسلم باعتبار معنى العقوبة لمعارضة معنى المئونة إياه.
وأما العشر
ففيه معنى العبادة على معنى أنه مصروف إلى الفقير كالزكاة، وقد بينا أن بواسطة هذا المصروف يثبت فيه معنى القربة وإن كان وجوبه باعتبار مئونة الارض، ولهذا يجب في الاراضي النامية من غير اشتراط المالك لها نحو الاراضي الموقوفة وأرض المكاتب، ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا تحولت الارض العشرية إلى ملك الذمي تصير خراجية، لان فيها معنى العبادة والكافر ليس من أهل العبادة أصلا، وكل واحد منهما واجب بطريق المئونة فعند تعذر أحدهما يتعين الآخر، والخراج يبقى وظيفة الارض بعد انتقال الملك فيها إلى المسلم، لان المسلم من أهل أن توجب عليه المئونة التي فيها معنى العقوبة، فإنه بعد الاسلام أهل لالزام العقوبة عند تقرر سببها منه، والكافر ليس بأهل العبادة أصلا، فالاهلية للعبادة تبتنى على الاهلية لثوابها.
وقال أبو يوسف رحمه الله: يتضاعف العشر على الكافر اعتبارا بالصدقات المضاعفة في حق بني تغلب.
وأبى هذا أبو حنيفة رحمه الله، لان التضعيف حكم ثابت بخلاف القياس بإجماع الصحابة في قوم بأعيانهم، وغيرهم من الكفار ليسوا بمنزلتهم، فأولئك لا تؤخذ منهم الجزية، وغيرهم من الكفار تؤخذ منهم الجزية.
ومحمد رحمه الله يقول: تبقى عشرية كما كانت، لان البقاء باعتبار معنى المئونة كالخراج في حق المسلم.
ثم عنه روايتان في مصرف هذا العشر: في إحداهما يصرف إلى المقاتلة كالخراج لاعتبار معنى المئونة الخالصة (وفي الاخرى تكون مصروفة إلى الفقراء والمساكين، لانها لما بقيت باعتبار معنى المئونة تبقى) على ما كانت مصروفة إلى من كانت مصروفة إليه قبل هذا كالخراج في حق المسلم.
وأما الحق القائم بنفسه فنحو خمس الغنائم والمعادن والركاز، فإنه لا يكون واجبا ابتداء على أحد، ولكن باعتبار الاصل الغنيمة كلها لله تعالى، كما قال تعالى: (قل الانفال لله) وهذا لانها أصيبت لاعلاء كلمة الله تعالى، إلا أن
الله تعالى جعل أربعة أخماسها للغانمين على سبيل المنة عليهم، فبقي الخمس له كما
كان في الاصل مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه.
وكذلك خمس المعادن فإن الموجود ما كان لاحد فيه حق، فجعل الشرع أربعة أخماسه للواجد وبقي الخمس لله مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه، ولهذا جاز وضع خمس الغنيمة فيمن هو من جملة الغانمين عند حاجتهم، وفي آبائهم وأولادهم، وجاز وضع خمس المعدن في الواجد عند الحاجة، فعرفنا أنه ليس بواجب عليه بل هو حق الله تعالى قائم كما كان، ولهذا جاز صرفه إلى بني هاشم، لان باعتبار هذا المعنى لا يتمكن فيه معنى الاوساخ بخلاف الصدقات، وأمر الله بصرف البعض منه إلى ذوي القربى، وكان ذلك عندنا باعتبار النصرة المخصوصة التي تحققت منهم بالانضمام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال ما هجره الناس، ودخول الشعب معه لمؤانسته والقيام بنصرته، فإن ذلك كان فعلا من جنس القربة، فيجوز أن يتعلق به استحقاق ما هو صلة ومنة من الله تعالى كاستحقاق أربعة الاخماس، فأما القرابة خلقة لا تستحق بذاتها مال الله تعالى، ثم صيانة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استحقاق عوض مالي بمقابلتها أولى من إثبات الاستحقاق بسبب القرابة.
ولا يجوز جعل القرابة قرينة للنصرة أو النصرة قرينة للقرابة، لما بينا أن الترجيح إنما يكون بما لا يصلح علة بانفرادها للاستحقاق دون ما يصلح لذلك.
وعلى هذا الاصل استحقاق المصاب من الغنيمة وتمامه يكون بالاحراز بالدار بعد الاخذ.
والمسائل على هذا الاصل يكثر تعدادها إذا تأملت، وذلك معلوم فيما أملينا من فروع الفقه.
فأما العقوبات المحضة فهي الحدود التي شرعت زواجر عن ارتكاب أسبابها
المحظورة حقا لله تعالى خالصا، نحو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر.
أما العقوبة القاصرة فنحو حرمان الميراث بسبب مباشرة القتل المحظور، فإنها عقوبة ولكنها قاصرة حتى تثبت في حق الخاطئ والنائم إذا انقلب
على مورثه، ولا تثبت في حق الصبي والمجنون عندنا أصلا، لانها عقوبة والاهلية للعقوبة لا تسبق الخطاب، بخلاف الخاطئ إذا كان بالغا عاقلا، فالبالغ العاقل مخاطب ولكنه بسبب الخطأ يعذر مع نوع تقصير منه في التحرز، والصبي لا يوصف بالتقصير الكامل والناقص فلا يثبت في حقه ما يكون عقوبة قاصرة كانت أو كاملة، ولهذا لا تثبت في حق القائد والسائق والشاهد إذا رجع عن شهادته، وحافر البئر وواضع الحجر، لانه جزاء على مباشرة القتل المحظور، والموجود من هؤلاء تسبب لا مباشرة.
وعند الشافعي هذا ضمان يتعلق بهذا الفعل بمنزلة الدية، فيثبت في حق المسبب والمباشر جميعا وفي حق الصبي والبالغ، وهذا غلط بين، لان الضمان ما يجب جبرانا لحق المتلف عليه ويسقط باعتبار رضاه أو عفو من يقوم مقامه، وحرمان الميراث ليس من ذلك في شئ.
فأما الدائر بين العبادة والعقوبة كالكفارات، لانها ما وجبت إلا جزاء على أسباب توجد من العباد، فسميت كفارة باعتبار أنها ستارة للذنب، فمن هذا الوجه عقوبة فإن العقوبة هي التي تجب جزاء على ارتكاب المحظور الذي يستحق المأثم به، وهي عبادة من حيث إنها تجب بطريق الفتوى ويؤمر من عليه بالاداء بنفسه من غير أن تقام عليه كرها، والشرع ما فوض إقامة شئ من العقوبات إلى المرء على نفسه، وتتأدى بما هو محض العبادة.
فعرفنا أنها دائرة بين العبادة والعقوبة، وأن سببها دائر بين الحظر والاباحة كاليمين المعقودة على أمر في المستقبل والقتل بصفة الخطأ، ولهذا لم نجعل الغموس
والعمد المحض سببا لوجوب الكفارة.
وعند الشافعي رحمه الله هذه الكفارات وجوبها بطريق الضمان، وقد بينا أن هذا غلط، ووجوب الضمان في الاصل بطريق الجبران وذلك لا يتحقق فيما يخلص لله تعالى، لان الله تعالى يتعالى عن أن يلحقه خسران حتى تتحقق الحاجة إلى الجبران، وكان معنى العبادة في هذه الكفارات مرجحا على معنى العقوبة كما أشرنا إليه، وتكفير الاثم به باعتبار أنه طاعة وحسن في نفسه، قال تعالى: (إن الحسنات
يذهبن السيئات) ولهذا أوجبنا الكفارة على المخطئ والمكره والبار في اليمين والحنث جميعا بأن حلف لا يكلم هذا الكافر فيسلم ثم يكلمه، ولهذا لم نوجب شيئا من هذه الكفارات على الكافر.
فأما كفارة الفطر في رمضان فمعنى العقوبة فيها مرجح على معنى العبادة حتى إن وجوبها يستدعي جناية متكاملة، عرفنا ذلك بخبر الاعرابي حيث قال هلكت وأهلكت.
وقال عليه السلام: من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر فاتفق العلماء على أنه يسقط بعذر الخطأ والاشتباه، فلما ظهر رجحان معنى العقوبة فيها من هذا الوجه جعلنا وجوبها بطريق العقوبة، فقلنا إنها تندرئ بالشبهات حتى لا تجب على من أفطر بعد ما أبصر هلال رمضان وحده للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: صومكم يوم تصومون أو بصورة قضاء القاضي يكون (اليوم) من شعبان، ولم يوجب على المفطر في يوم إذا اعترض مرض أو حيض في ذلك اليوم لتمكن الشبهة، ولم يوجب على من أفطر وهو مسافر وإن كان الاداء مستحقا عليه في ذلك الوقت بعينه بكونه مقيما في أول النهار، ولم يوجب على من نوى قبل انتصاف النهار ثم أفطر للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وقلنا بالتداخل
في الكفارات والاكتفاء بكفارة واحدة إذا أفطر في أيام من رمضان، لان التداخل من باب الاسقاط بطريق الشبهة، وأثبتنا معنى العبادة في الاستيفاء لانها سميت كفارة، فإنه يجوز أن يكون الوجوب بطريق العقوبة، والاستيفاء بطريق الطهرة كالحدود بعد التوبة، ولا يجوز أن يكون الوجوب بطريق العبادة والاستيفاء بطريق العقوبة بحال.
وما يجتمع فيه الحقان وحق الله فيه أغلب فنحو حد القذف عندنا.
فأما حد قطاع الطريق فهو خالص لله تعالى بمنزلة العقوبات المحضة، ولهذا لا نوجب على المستأمن إذا ارتكب سيئة في دارنا بمنزلة حد الزنا والسرقة بخلاف حد القذف.
وأما ما يجتمع فيه الحقان وحق العباد أغلب فنحو القصاص، فإن فيها حق الله تعالى، ولهذا يسقط بالشبهات، وهي جزاء الفعل في الاصل، وأجزية الافعال تجب لحق الله تعالى، ولكن لما كان وجوبها بطريق المماثلة عرفنا أن معنى حق العبد راجح فيها، وأن وجوبها للجيران بحسب الامكان كما وقعت الاشارة إليه في قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) ولهذا جرى فيه الارث والعفو والاعتياض بطريق الصلح بالمال كما في حقوق العباد.
وأما ما يكون محض حق العباد فهو أكثر من أن يحصى نحو ضمان الدية وبدل المتلف والمغصوب وما أشبه ذلك.
وهذه الحقوق كلها تشتمل على أصل وخلف.
فالاصل فيما ثبت به الايمان التصديق والاقرار، ثم قد يكون الاقرار مستندا في حق المكره على أنه قائم مقام التصديق، ثم التصديق والاقرار من الابوين يثبت الايمان في حق الولد الصغير على أنه خلف عن التصديق والاقرار في حقه، ثم تبعية الدار في حق الذي سبى صغيرا وأخرج إلى دار الاسلام وحده حلف عن تبعية الابوين
في ثبوت حكم الايمان له، ثم تبعية السابي إذا قسم أو بيع من مسلم في دار الحرب خلف عن تبعية الدار في ثبوت حكم الايمان له حتى إذا مات يصلى عليه.
وكذلك في شرائط الصلاة، فإن من شرائطها الطهارة، والاصل فيه الوضوء أو الاغتسال، ثم التيمم يكون خلفا عن الاصل في حصول الطهارة التي هي شرط الصلاة به كما قال تعالى: (ولكن يريد ليطهركم) وهو خلف مطلق في قول علمائنا رحمهم الله.
وعند الشافعي رحمه الله هو خلف ضروري، ولهذا لم يعتبر التيمم قبل دخول الوقت في حق أداء الفريضة، ولم يجوز أداء الفريضتين بتيمم واحد لانه خلف ضروري فيشترط فيه تحقق الضرورة بالحاجة إلى إسقاط الفرض عن ذمته، وباعتبار كل فريضة تتجدد ضرورة أخرى، ولم يجوز التيمم للمريض الذي لا يخاف الهلاك على نفسه لان تحقق الضرورة عند خوف الهلاك على نفسه، وجوز التحري في إناءين أحدهما طاهر
والآخر نجس لان الضرورة لا تتحقق مع وجود الماء الطاهر عنده ومع رجاء الوصول إليه بالتحري فلا تكون فرضية التيمم وشرط طلب الماء لان الضرورة قبل الطلب لا تتحقق.
وعندنا هو بدل مطلق في حال العجز عن الاصل فثبت الحكم به على الوجه الذي يثبت بالاصل ما بقي عجزه.
ثم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما التراب خلف عن الماء.
وعند محمد رحمه الله التيمم خلف عن الوضوء.
وتظهر المسألة في المتيمم: عند محمد لا يؤم المتوضئين لان التيمم خلف فكان المتيمم صاحب الخلف، وليس لصاحب الاصل القوي أن يبني صلاته على صلاة صاحب الخلف، كما لا يبني المصلي بركوع وسجود صلاته على صلاة المومي.
وعندهما التراب كان خلفا عن الماء في حصول الطهارة به ثم بعد حصول الطهارة كان شرط الصلاة موجودا في حق كل واحد منهما
بكماله بمنزلة الماسح يؤم الغاسلين لهذا المعنى، وقد يكون التيمم خلفا ضرورة في حال وجود الماء وهو أن يخاف فوات صلاة الجنازة أن لو اشتغل بالوضوء أو يخاف فوات صلاة العيد أن لو اشتغل بالوضوء.
ثم الخلافة هنا عند محمد بين التيمم والوضوء بطريق الضرورة حتى لو صلى عليها بالتيمم ثم جئ بجنازة أخرى يلزمه تيمم آخر وإن لم يجد بين الجنازتين من الوقت ما يمكنه أن يتوضأ فيه.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله التراب خلف عن الماء فيجوز له أن يصلي على الجنائز ما لم يدرك من الوقت مقدار ما يمكنه أن يتوضأ فيه على وجه لا تفوته الصلاة على جنازة.
وهذا الذي بينا يتأتى في كل حق مما سبق ذكره إلا أن ببيان ذلك يطول الكتاب، والحاجة إلى معرفة الاصل هنا وهو أن الخلف يجب بما به يجب الاصل، وشرط كونه خلفا أن ينعقد السبب موجبا للاصل بمصادفته محله، ثم بالعجز عنه يتحول الحكم إلى الخلف، وإذا لم ينعقد السبب موجبا للاصل باعتبار أنه لم يصادف محله لا يكون موجبا للخلف حتى إن الخارج من البدن إذا لم يكن موجبا للوضوء كالدمع والبزاق والعرق لا يكون موجبا للتيمم، والطلاق قبل الدخول لما لم يكن موجبا لما هو الاصل وهو الاعتداد بالاقراء لا يكون موجبا لما هو خلف عنه وهو الاعتداد بالاشهر، واليمين الصادقة لما لم تكن موجبة للتكفير بالمال لا تكون موجبة لما هو
خلف عنه وهو التكفير بالصوم، واليمين الغموس عندنا لما لم تنعقد موجبة للاصل وهو البر باعتبار أنها أضيفت إلى محل ليس فيه تصور البر لا تنعقد موجبة لما هو خلف عنه وهو الكفارة، واليمين على مس السماء ونحوه لما انعقدت موجبة للبر لمصادفتها محلها كانت موجبة لما هو خلف عن البر وهو الكفارة، وقد تقدم بيان هذا فيمن أسلم في آخر الوقت بعدما بقي منه مقدار
ما لا يمكنه أن يصلي فيه، فإن الجزء الآخر من الوقت لما صلح أن يكون موجبا لاداء الصلاة صلح موجبا لما هو خلف عنه وهو القضاء.
وعلى هذا الاصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا جاء المشهود بقتله حيا أو رجع الشهود والولي جميعا بعد استيفاء القصاص فاختار ولي القتيل تضمين الشهود فإنهم يرجعون على الولي بما يضمنون، لان السبب وهو الضمان الذي لزمهم بطريق العدوان موجب للملك في المضمون، والمضمون وهو الدم مما يحتمل أن يكون مملوكا في الجملة، ألا ترى أن نفس من عليه القصاص في حكم القصاص كالمملوك لمن له القصاص، فإذا انعقد السبب موجبا للاصل لمصادفة محله ينعقد موجبا للخلف وهو الدية عند العجز عن إثبات ما هو الاصل وهو القصاص، بمنزلة من غصب مدبرا فغصبه منه آخر وأبق من يده، ثم ضمن المولى الغاصب الاول فإنه يرجع على الغاصب الثاني بالضمان وإن لم يملك المدبر، ولكن لما انعقد السبب موجبا للاصل بمصادفته محله يثبت الخلف قائما مقامه.
وكذلك شهود الكتابة ببدل مؤجل إذا رجعوا فضمنهم المولى قيمة المكاتب كان لهم أن يرجعوا على المكاتب ببدل الكتابة، لان السبب قد تقرر موجبا للاصل وهو الملك في المضمون لمصادفته محله فثبت (به الخلف)، وهو الرجوع ببدل الكتابة لوجود العجز عما هو الاصل، وهو ملك الرقبة باعتبار قيام الكتابة.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول قد وجد من الشهود التعدي بإتلاف النفس حكما ومن الولي التعدي بإتلاف النفس حقيقة والمساواة ثابتة بين الحكمي والحقيقي في حكم الضمان، ثم إذا اختار تضمين المتلف حقيقة
وهو الولي لم يرجع على الشهود بشئ، لانه ضمن بجنايته من حيث الاتلاف فكذلك إذا اختار تضمين الشهود قلنا لا يرجعون على الولي، لانهم ضمنوا
بجنايتهم، بخلاف ما إذا شهدوا بالقتل الخطأ وأخذ الولي الدية، لان وجوب الضمان هناك باعتبار تملك المال على من ألزمه القاضي الدية، فإذا ضمن الولي كان هو المتملك والمملوك سالم له، وإذا ضمن الشهود كانوا هم الذين تملكوا والمملوك في يد المولى أو قد صرفه إلى حاجته فيرجعون عليه بما ملكوه لهذا المعنى.
قولهما إن السبب هنا انعقد موجبا للاصل، ممنوع، لان الدم لا يملك بالضمان بحال، وفي القصاص الذي قالا الولي لا يملك نفس من عليه القصاص وإنما يستوفيه بطريق الاباحة، ولهذا لم يكن له حق الاستيفاء في الحرم، ولا يتحول حقه إلى البدل إذا قتل من عليه القصاص ظلما وإذا لم يكن محلا للملك عرفنا أن السبب ما انعقد موجبا للاصل، ولو كان الدم بمحل أن يملك لم يكن إيجاب الضمان للشهود على الولي أيضا، لانه صار متلفا عليهم ملك الدم، وإتلاف ملك الدم لا يوجب الضمان سواء أتلفه حقيقة أو حكما، ألا ترى أن من قتل من عليه القصاص فإنه لا يضمن لمن له القصاص شيئا.
وكذلك شهود العفو إذا رجعوا أو المكره على العفو لا يضمن أحد منهم شيئا، وإن أتلف ملك الدم الثابت لمن له القصاص، وبه فارق المدبر والمكاتب، لان هناك ما هو الاصل وهو ملك الرقبة في الموضع الذي يكون ثابتا يكون موجبا ضمان خلفه عند الاتلاف، فكذلك إذا انعقد السبب موجبا للاصل ثم لم يعمل لعارض وهو التدبير والكتابة قلنا يكون موجبا لما هو خلفه وهو القيمة وبدل الكتابة فيرجع بهما.
فصل: في بيان الكلام في القسم الثاني وهو السبب أما الكلام في القسم الثاني فنقول: تفسير السبب لغة: الطريق إلى الشئ
قال تعالى: (وآتيناه من كل شئ سببا فأتبع سببا) أي طريقا.
وقيل هو بمعنى الباب، قال تعالى: (لعلي أبلغ الاسباب أسباب السموات) : أي أبوابها، ومنه قول زهير: ولو نال أسباب السماء بسلم أي أبوابها.
وقيل هو بمعنى الحبل، قال تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء) الآية يعني بحبل من سقف البيت، فالكل يرجع إلى معنى (واحد) وهو طريق الوصول إلى الشئ.
وفي الاحكام السبب: عبارة عما يكون طريقا للوصول إلى الحكم المطلوب من غير أن يكون الوصول به ولكنه طريق الوصول إليه، بمنزلة طريق الوصول إلى مكة، فإن الوصول إليها يكون بمشي الماشي وفي ذلك الطريق لا بالطريق، ولكن يتوصل إليها من ذلك الطريق عند قصد الوصول إليها.
وكذلك الحبل، فإنه طريق للوصول إلى قعر البئر أو إلى الماء الذي في البئر ولكن لا بالحبل بل بنزول النازل أو استقاء النازح بالحبل.
وأما تفسير العلة فهي: المغيرة بحلولها حكم الحال، ومنه سمي المرض علة لان بحلولها بالشخص يتغير حاله، ومنه يسمى الجرح علة لان بحلوله بالمجروح يتغير حكم الحال.
وقيل العلة: حادث يظهر أثره فيما حل به لا عن اختبار منه، ولهذا سمي الجرح علة، ولا يسمى الجارح علة، لانه يفعل عن اختيار، ولانه غير حال بالمجروح.
وفي أحكام الشرع العلة معنى في النصوص وهو تغير حكم الحال بحلوله بالمحل يوقف عليه بالاستنباط، فإن قوله عليه السلام: الحنطة بالحنطة مثلا بمثل غير حال بالحنطة ولكن في الحنطة وصف هو حال بها وهو كونه مكيلا مؤثرا في المماثلة ويتغير حكم الحال بحلوله فيكون علة لحكم الربا فيه، حتى إنه لما لم يحل
القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لا يتغير حكم العقد فيه بل يبقى بعد هذا النص على ما كان عليه قبله.
وكذلك البيع علة للملك شرعا، والنكاح علة للحل شرعا، والقتل العمد علة لوجوب القصاص شرعا، باعتبار أن الشرع جعلها موجبة لهذه الاحكام، وقد بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها وأنه لا موجب إلا الله إلا أن ذلك الايجاب غيب في حقنا فجعل الشرع الاسباب التي يمكننا الوقوف عليها علة لوجوب الحكم في حقنا للتيسير علينا، فأما في حق الشرع فهذه العلل لا تكون موجبة شيئا، وهو نظير الاماتة، فإن المميت والمحيي هو الله تعالى حقيقة ثم جعله مضافا إلى القاتل بعلة القتل فيما ينبني عليه من الاحكام.
وكذلك أجزية الاعمال، فإن المعطي للجزاء هو الله تعالى بفضله ثم جعل ذلك مضافا إلى عمل العامل بقوله تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون) فهذا هو المذهب المرضي التوسط بين الطريقين، لا كما ذهب إليه الجبرية من إلغاء العمل أصلا، ولا كما ذهب إليه القدرية من الاضافة إلى العمل حقيقة وجعل (العامل) مستبدا بعمله.
ثم هذه العلل الشرعية تسمى نظرا، وتسمى قياسا، وتسمى دليلا أيضا على معنى أنه يوقف به على معرفة الحكم، والدليل على الشئ ما يوقف به على معرفته كالدخان دليل على النار، والبناء دليل على الباني، ولكن ما يكون علة يجوز أن يسمى دليلا، وما يكون دليلا محضا لا يجوز أن يسمى علة، ألا ترى أن حدوث الاعراض دليل على حدوث الاجسام ولا يجوز أن يقال إنها علة لحدوث الاجسام، والمصنوعات دليل على الصانع ولا يجوز أن يقال إنها علة للصانع تعالى، فعرفنا أن الدليل قط لا يكون علة، وقد تكون العلة دليلا.
وأما الشرط فمعناه لغة: العلامة اللازمة، ومنه يقال أشراط الساعة:
أي علاماتها اللازمة لكون الساعة آتية لا محالة، ومنه الشرطي لانه نصب نفسه على زي وهيئة لا يفارقه ذلك في أغلب أحواله فكأنه لازم له، ومنه شرط الحجام لانه يحصل بفعله في موضع المحاجم علامة لازمة، ومنه الشروط في الوثائق لانها تكون لازمة، فعرفنا أن الشرط في اللغة: العلامة اللازمة، ومنه سمى أهل اللغة حرف إن حرف الشرط، من قول القائل لغيره: إن أكرمتني أكرمتك، فإن قوله أكرمتك بصيغة الفعل الماضي، ولكن بقوله إن أكرمتني يصير إكرام المخاطب علامة لازمة لاكرام المخاطب إياه، فكان شرطا من هذا الوجه.
وفي أحكام الشرع (الشرط) اسم لما يضاف الحكم إليه وجودا عنده لا وجوبا به، فإن قول القائل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق، يجعل دخول الدار شرطا حتى لا يقع الطلاق بهذا اللفظ إلا عند الدخول، ويصير الطلاق عند وجود الدخول مضافا إلى الدخول موجودا عنده لا واجبا به، بل الوقوع بقوله أنت طالق عند الدخول، ومن حيث إنه لا أثر للدخول في الطلاق من حيث الثبوت به ولا من حيث الوصول إليه لم يكن الدخول سببا ولا علة، ومن حيث إنه مضاف إليه وجودا عنده كان الدخول شرطا فيه، ولهذا لا نوجب الضمان على شهود الشرط بحال، وإنما نوجب الضمان على شهود التعليق بعد وجود الشرط إذا رجعوا.
وقد يقام الشرط مقام السبب في حكم الضمان عند تعذر إضافة الاتلاف إلى السبب نحو حافر البئر على الطريق يكون ضامنا لما يسقط فيه، وهو صاحب الشرط من حيث إنه أزال بفعله المسكة عن الارض وهو محل يستقر فيه الثقيل، والمحال في حكم الشروط ولكن لما
تعذر إضافة الاتلاف إلى ما هو السبب حقيقة وهو ثقل الماشي ومشبه جعل مضافا إلى الشرط في حكم الضمان، حتى لو دفع الواقع في البئر إنسان فإن الضمان يكون على الدافع دون الحافر، لان السبب هنا صالح لاضافة الاتلاف إليه.
وسنقرر هذا في فصل الشرط، إن شاء الله تعالى.
أما العلامة لغة فهي: المعرف بمنزلة الميل والمنارة، والميل علامة الطريق لانه معرف له، والمنارة علامة الجامع لانها معرفة له، ومنه سمي المميز بين الارضين من المسناة منار الارض، قال عليه السلام: لعن الله من غير منار الارض: أي العلامة التي تعرف بها لتمييز بين الارضين.
وكذلك في أحكام الشرع: العلامة ما يكون معرفا للحكم الثابت بعلته من غير أن يكون الحكم مضافا إلى العلامة وجوبا لها لا وجودا عندها، على ما نبينه في فصل على حدة إن شاء الله تعالى.
فصل: في بيان تقسيم السبب قال رضي الله عنه: اعلم بأن أسباب الاحكام الشرعية أنواع أربعة: سبب صورة لا معنى وهو يسمى سببا مجازا، وسبب صورة ومعنى وهو يسمى سببا محضا، وسبب فيه شبهة العلة، وسبب هو بمعنى العلة.
وقد بينا أن السبب: ما هو طريق الوصول إلى الشئ.
فأما الذي يسمى السبب مجازا فنحو اليمين بالله تعالى: يسمى سببا للكفارة مجازا باعتبار الصورة، وهو ليس بسبب معنى، فإن أدنى حد السبب أن يكون طريقا للوصول إلى المقصود، والكفارة باليمين إنما تجب بعد الحنث، وهي مانعة من الحنث موجبة لضده وهو البر، فعرفنا أنه ليس بسبب للكفارة معنى قبل الحنث ولكن يسمى سببا مجازا، لانه طريق الوصول إلى وجوب
الكفارة بعد زوال المانع وهو البر وكذلك النذر المعلق بالشرط الذي لا يريد كونه، سبب لوجوب المنذور صورة لا معنى، لانه يقصد به منع ما يجب المنذور عند وجوده وهو إيجاد الشرط، وإنما يكون سببا بعد زوال المانع حقيقة.
وكذلك الطلاق والعتاق المعلق بالشرط، فإن التعليق سبب صورة لا معنى، لانه بالتعليق يمنع نفسه مما يقع الطلاق والعتاق عند وجوده.
وعلى هذا قلنا: التعليق بالملك صحيح وإن لم يكن الملك موجودا في الحال، لان المعلق ليس بطلاق ولا هو سبب الطلاق حقيقة ولكن يصير سببا عند وجود الشرط، وهذا لان الطلاق والعتاق لا يكون بدون المحل والتعليق يمنع الوصول إلى المحل.
وكذلك النذر، فإنه التزام في الذمة والتعليق يمنع وصول المنذور إلى الذمة، والتصرف بدون المحل لا يكون سببا كبيع الحر، إلا أن هناك ينعقد تصرف آخر وهو اليمين، لانه عقد مشروع لمقصود وفي ذلك المقصود التصرف صادف محله وهو ذمة الحالف، بخلاف بيع الحر فإنه لا ينعقد أصلا، وعلى هذا لا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث بالمال ولا بالصوم، لانها ليست بسبب للكفارة معنى، والاداء قبل تحقق السبب لا يجوز، بخلاف تعجيل الكفارة بعد الجرح قبل زهوق الروح في الآدمي والصيد، لانه سبب محض من حيث إنه طريق مفض إلى القتل عند زهوق الروح بالسراية، يوضحه أن اليمين لا تبقى بعد الحنث لانها مشروعة لمقصود وهو البر، وذلك يفوت بالحنث أصلا، والعقد لا يبقى بعد فوات مقصوده.
ولما كانت الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث الذي يرتفع به اليمين عرفنا أن اليمين ليست بسبب لها معنى إذ العقد لا يكون سببا للحكم الذي يثبت (بعد فسخه.
وكذلك اليمين بالطلاق، فإن الطلاق إنما يكون واقعا بما يبقى بعد وجود الشرط وهو قوله
أنت طالق، والنذر إنما يثبت) باعتبار ما يبقى بعد وجود الشرط وهو قوله على صوم أو صلاة، فعرفنا أن الموجود قبل وجود الشرط لا يكون سببا معنى، بخلاف كفارة القتل فإنه جزاء الفعل والفعل بالسراية يتقرر ولا يرتفع، فكان قبل السراية سببا وملك النصاب قبل كمال الحول هكذا، لانه يتقرر عنده ما لاجله كان النصاب سببا وهو معنى النمو، إلا أن مع هذا التعليق بالشرط لكونه سببا، مجازا أثبتنا فيه معنى السببية بوجه، بخلاف ما يقوله زفر رحمه الله إنه لا يثبت فيه حكم السببية بوجه.
وبيان هذا في تنجيز الثلاث بعد
صحة التعليق فإنه مبطل للتعليق عندنا، لان التعليق يمين وموجبه البر فإذا كان هذا السبب مضمونا (بالبر) كان له شبهة السببية في الحكم الذي يجب به بعد فوات البر على وجه الخلف عنه، كالغصب، فإنه موجب ضمان الرد في العين ثم له شبهة السببية في حكم ضمان القيمة الذي ثبت خلفا عن رد العين عند فوات العين، فكما يشترط قيام الملك وصفة الحل في المحل لبقاء ما هو سبب للحكم حقيقة فكذلك يشترط لبقاء ما فيه شبهة السببية للحكم، وتنجيز الثلاث يفوت ذلك كله.
وزفر يقول: ليس في التعليق شبهة السببية للحكم وهو الطلاق والعتاق وإنما هو تصرف آخر وهو اليمين محلها الذمة واشتراط الملك في المحل عند انعقاده ليترجح جانب الوجود على جانب العدم حتى يصح إيجاب اليمين به، وهذا غير معتبر في حال البقاء، ألا ترى أن بعد التطليقات الثلاث لو علق الطلاق ابتداء بالنكاح كان صحيحا، وصفة الحل الذي به يصير المحل محلا للطلاق معدوم أصلا.
ولكنا نقول: الملك سبب هو في معنى العلة، فإن النكاح علة لملك الطلاق، فالتطليق بمنزلة سبب هو في معنى العلة، على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فأما الاضافة إلى وقت لا تعدم السببية معنى
كما يعدمه التعليق بالشرط، ولهذا قلنا في قوله تعالى: (فعدة من أيام أخرى) : إنه لا يخرج شهود الشهر من أن يكون سببا حقيقة في حق جواز الاداء.
وقوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) يخرج المتمتع من أن يكون سببا لصوم السبعة قبل الرجوع من منى حتى لو أداه لا يجوز، لانه لما تعلق بشرط الرجوع فقبل وجود الشرط لا يتم سببه معنى، وهناك إضافة الصوم إلى وقت فقبل وجود الوقت يتم السبب فيه معنى حتى يجوز الاداء.
وأما السبب المحض وهو: ما يكون طريقا للوصول إلى الحكم ولكن
لا يضاف الحكم إليه وجوبا به ولا وجودا عنده بل تتخلل بين السبب والحكم العلة التي يضاف الحكم إليها وتلك العلة غير مضافة إلى السبب، وذلك نحو حل قيد العبد، فإنه طريق لوصول العبد إلى الاباق الذي هو متو مالية المولى فيه، ولكن يتخلل بينه وبين الاباق الذي تتوى به المالية قصد وذهاب من العبد وهو غير مضاف إلى السبب السابق، فيبقى حل القيد سببا محضا.
وعلى هذا قلنا: لو فتح باب الاصطبل فندت الدابة أو باب القفص فطار الطير لم يجب الضمان عليه، لان العلة قوة الدابة في نفسها على الذهاب وقوة الطير على الطيران، وهو غير مضاف إلى السبب الاول.
وكذلك لو دل إنسانا على مال الغير فأتلفه أو على نفسه فقتله أو على قافلة حتى قطع الطريق عليهم لم يكن ضامنا شيئا، لان الدلالة سبب محض من حيث إنه طريق الوصول إلى المقصود، ويتخلل بينه وبين حصول المقصود ما هو علة وهو غير مضاف إلى السبب الاول، وذلك الفعل الذي يباشره المدلول.
وعلى هذا قلنا: لو قال لرجل هذه المرأة حرة فتزوجها، فذهب وتزوجها واستولدها ثم ظهر أنها كانت أمة فإنه لا يرجع بضمان قيمة الاولاد
على المخبر، بخلاف ما إذا زوجها منه على أنها حرة، لان إخباره سبب للوصول إلى المقصود، ولكن تخلل بينه وبين المقصود وهو الاستيلاد ما هو علة فهو غير مضاف إلى السبب الاول، وذلك عقد النكاح الذي باشرته المرأة على نفسها.
وعلى هذا قلنا: الموهوب له الجارية إذا استولدها ثم استحقت لم يرجع بقيمة الاولاد على الواهب، والمستعير إذا أتلف العين باستعماله ثم ظهر الاستحقاق لم يرجع بالقيمة على المعير، لان الهبة والاعارة سبب ولكن تخلل بينه وبين حصول الاولاد ما هو علة وهو الاستيلاد والاستعمال المفضي إلى التلف، وذلك غير مضاف إلى السبب الاول، بخلاف المشتري إذا استولدها ثم ظهر الاستحقاق فإنه يرجع بقيمة الاولاد، لان بمباشرة عقد الضمان قد التزم له صفة السلامة عن العيب، ولا عيب فوق الاستحقاق، وبمباشرة عقد التبرع لا يصير ملتزما سلامة المعقود عليه عن العيب، ولهذا لا يرجع بالعقد في الوجهين لانه لزمه بدلا عما استوفاه ولا رجوع
له بسبب العيب فيما استوفاه لنفسه، وإن كان البائع ضمن له صفة السلامة عن العيب.
وزعم بعض أصحابنا أن رجوع المغرور باعتبار الكفالة وذلك باشتراط البدل، فإن البائع يصير كأنه قال ضمنت لك سلامة الاولاد على أنه إن لم يسلم لك فأنا ضامن لك ما يلزمك بسببه.
وهذا الضمان لا يثبت في عقد التبرع وإنما يثبت في حق الضمان باشتراط البدل إلا أن الاول أصح.
وقد قال في كتاب العارية: العبد المأذون إذا آجر دابة فتلفت باستعمال المستأجر ثم ظهر الاستحقاق رجع المستأجر بما ضمن من قيمتها على العبد في الحال، والعبد لا يؤاخذ بضمان الكفالة ما لم يعتق، وهو مؤاخذ بالضمان الذي يكون سببه العيب بعدما التزم صفة السلامة عن العيب بعقد الضمان.
ولا يدخل
على ما قلنا دلالة المحرم على قتل الصيد، فإنها توجب عليه ضمان الجزاء وهي سبب محض لا يتخلل بينها وبين المقصود ما هو العلة وهو القتل من المدلول، وهذا لان وجوب الضمان عليه بجنايته بإزالة الامن عن الصيد، فإن أمنه في البعد عن أيدي الناس وأعينهم، وقد التزم بعقد الاحرام الامن للصيد عنه، فإذا صار بالدلالة جانيا من حيث إزالته الامن كان ضامنا لذلك، إلا أن قبل القتل لا يجب عليه الضمان لبقاء التردد، فقد يتوارى الصيد على وجه لا يقدر المدلول عليه فيعود آمنا كما كان، فبالقتل تستقر جنايته بإزالة الامن.
فهو نظير الجراحة التي يتوهم فيها الاندمال بالبرء على وجه لا يبقى لها أثر، فإنه يستأني فيها مع كون الجرح جناية، ولكن لبقاء التردد يستأني حتى يتقرر حكمها في حق الضمان، بخلاف الدلالة على مال الغير، فإن حفظ الاموال بالايدي لا بالبعد عن الايدي والاعين، فالدال لا يصير جانيا بإزالة الحفظ بدلالته، وهذا بخلاف المودع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة فإنه يصير ضامنا، لانه جان بترك ما التزمه من الحفظ بعقده وهو ترك التضييع وبالدلالة يصير مضيعا، فهو نظير المحرم يدل على قتل الصيد حتى يصير ضامنا لتركه ما التزمه بالعقد وهو أمن الصيد عنه.
وعلى هذا قلنا: من أخرج ظبية من الحرم فولدت فهو ضامن للولد لانها بالحرم آمنة، وثبوت يده عليها يفوت معنى الصيدية، فيثبت به معنى إزالة الامن في حق الولد،
بخلاف الغاصب فإنه لا يكون ضامنا للزوائد لان الاموال محفوظة بالايدي، فإنما يجب الضمان هنا بالغصب الذي هو موجب قصر يد المالك عن ماله، وذلك غير موجود في الزيادة مباشرة ولا تسبيبا، ولا ينكر كونه متعديا في إمساك الولد، ولهذا نجعله آثما ونوجب عليه رده.
ولكنا نقول: هو ليس بغاصب
للولد تسبيبا ولا مباشرة، وبتعد آخر سوى الغصب لا يوجب ضمان الغصب، واليد الثابتة على الام عند انفصال الولد عنها حكم الغصب لا نفس الغصب، فعرفنا أنه لم يثبت الغصب في الولد بطريق السراية ولا قصدا بطريق المباشرة ولا بطريق التسبب بغصب الام، لان قصر يد المالك تكون بإزالة يده عما كان في يده، أو بإزالة تمكنه من أخذ ما لم يكن في يده، وذلك غير موجود في الولد أصلا قبل أن يطالبه بالرد.
ومن السبب المحض أن يدفع سكينا إلى صبي فيجأ الصبي به نفسه، فإنه لا يجب على الدافع ضمان وإن كان فعله بعلة طريق الوصول، ولكن قد تخلل بينه وبين المقصود ما هو علة وهو غير مضاف إلى السبب الاول، وذلك قتل الصبي به نفسه، بخلاف ما إذا سقط من يده على رجله فعقره، لان السقوط من يده مضاف إلى السبب الاول وهو مناولته إياه، فكان هذا سببا في معنى العلة، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
وكذلك لو أخذ صبيا حرا من يد وليه فمات في يده بمرض لم يضمن الآخذ شيئا، بخلاف ما إذا قربه إلى مسبعة حتى افترسه سبع، فإن السبب هنا بمعنى العلة باعتبار الاضافة إليه، فإنه يقال لولا تقريبه إياه من هذه المسبعة ما افترسه السبع، ولا يقال لولا أخذه من يد وليه لم يمت من مرضه.
ولو قتل الصبي في يد الآخذ رجلا فضمن عاقلته الدية لم يرجعوا به على عاقلة الآخذ، لانه تخلل بين السبب ووجوب الضمان عليهم ما هو علة وهو غير مضاف إلى ذلك التسبيب.
وعلى هذا لو قال لصبي: ارق هذه الشجرة فانفضها لي، فسقط كان ضامنا، بخلاف ما لو قال: كل ثمرتها أو فانفضها لنفسك، لان كلامه تسبيب قد تخلل بينه وبين السقوط ما هو علة وهو صعود الصبي الشجرة لمنفعة نفسه، وفي الاول لما كان صعوده لمنفعة الآمر صار بسببه في معنى العلة بطريق
==================د6.=================ج6..... ==================
ج66666666666666.
الكتاب : أصول السرخسي
المؤلف : ابى بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى
الاضافة إليه.
وكذلك لو حمل صبيا على الدابة فسقط ميتا كان الحامل ضامنا لديته، ولو سيرها الصبي فسقط منها فمات لم يضمن الذي حمله عليها شيئا.
ليعلم أن السائل على هذا الاصل أكثر من أن تحصى.
ومما هو في معنى السبب المحض ما هو أحد شطري علة الحكم، نحو إيجاب البيع وأحد وصفي علة الربا، فإنه سبب محض على معنى أنه طريق الوصول إلى المقصود عند غيره، وذلك الغير ليس بمضاف إليه، فيكون سببا محضا.
فإن قيل: قد جعلتم حد السبب ما يتخلل بينه وبين المقصود ما هو علة للحكم، وهنا الذي يتخلل هو الوصف الآخر وهو ليس بعلة للحكم بانفراده، فكيف يستقيم قولكم إن أحد الوصفين سبب محض ؟ قلنا: هو مستقيم من حيث إن الحكم متى تعلق بعلة ذات وصفين فإنه يضاف إلى آخر الوصفين على معنى أن تمام العلة به حصل، ولهذا قلنا: إن الموجب للعتق القرابة القريبة مع الملك ثم يضاف العتق إلى آخر الوصفين وجودا، حتى إذا كان العبد مشتركا بين اثنين ادعى أحدهما نسبه كان ضامنا لشريكه، وإذا اشترى نصف قريبه من أحد الشريكين كان ضامنا لشريكه.
وكذلك النسب مع الموت موجب للارث فيضاف إلى آخر الوصفين ثبوتا، حتى إن شهود النسب بعد الوفاة إذا رجعوا ضمنوا، بخلاف شهود النسب في حالة الحياة، فإذا ثبت أن إضافة الحكم إلى آخر الوصفين وهو يتخلل بين الوصف الاول وبين الحكم، عرفنا أن الوصف الاول في معنى السبب المحض.
وهذا أصل مستمر في الشروط والعلل جميعا، حتى قلنا: إذا قال لامرأته إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق، فأبانها ودخلت إحدى الدارين في غير ملكه ثم تزوجها
فدخلت الاخرى في ملكه تطلق، لان الحكم يكون مضافا إلى تمام الشرط وجودا عنده، وذلك حصل بدخول الدار الاخرى، فيشترط قيام الملك عنده لا عند دخول الاولى.
ومن الاسباب السفينة إذا كانت تحتمل مائة من وقد جعل فيها ذلك القدر فوضع إنسان آخر فيها منا فغرقت كان ضامنا
للجميع، لان تمام علة الغرق حصل بفعله.
وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما في المثلث: إن السكر منه حرام، ثم السكر الذي هو حرام القدح الاخير، لان تمام علة الاسكار عندها فيكون مضافا إليها خاصة.
ومحمد رحمه الله ترك هذا الاصل في هذه المسألة احتياطا لاثبات الحرمة، فإنها تثبت باعتبار الصورة تارة وباعتبار المعنى أخرى.
وأما السبب الذي هو في معنى العلة فنحو قود الدابة وسوقها فإنه طريق الوصول إلى الاتلاف غير موضوع له ليكون علة، وهو في معنى العلة من حيث إن الاتلاف مضاف إليه، يقال: أتلفه بقود الدابة أو سوقها.
وكذلك إذا أشرع جناحا في الطريق أو وضع حجرا أو ترك هدم الحائط المائل بعد التقدم إليه فيه، فهذا كله سبب في معنى العلة.
وكذلك إذا أدخل دابته زرع إنسان حتى أكلت الدابة الزرع، فهذا سبب في معنى العلة للاتلاف، ولهذا كان موجبا عليه ضمان المتلف، ولا يكون شئ من هذا موجبا لحرمان الميراث ولا الكفارة، فإن ذلك جزاء مباشرة الفعل.
وكذلك قطع حبل القنديل المعلق وشق الزق وفيه مائع: سبب هو في معنى العلة.
وكذلك شهادة الشهود بالقصاص يكون سببا للقتل من غير مباشرة، لان قضاء القاضي بعد الشهادة يكون عن اختيار.
وكذلك استيفاء الولي والشهادة غير موضوعة للقتل في الاصل، ولهذا لا يوجب الكفارة ولا يثبت حرمان
الميراث في حق الشهود، ولا يوجب عليهم القصاص.
والشافعي رحمه الله لا ينكر هذا ولكن يقول هو تسبيب قوي من حيث إنه قصد به شخصا بعينه فيصلح أن يكون موجبا للقود عليه، لان فيه معنى العلة من حيث إن قضاء القاضي من موجبات الشهادة، والقتل مضاف إلى ذلك.
إلا أنا نقول: القاضي إنما يقضي عن اختيار منه وليس في وسع الشاهد ما يظهره القاضي بقضائه أو يوجبه، فبقيت شهادة الشهود تسبيبا في الحقيقة، ولا مماثلة بين التسبيب والمباشرة، ووجوب القصاص يعتمد المباشرة.
وعلى هذا قال في السير: إذا قال للغزاة: أدلكم على حصن في دار الحرب تجدون فيه الغنائم، فإن ذهب معهم حتى دلهم عليه كان شريكهم في المصاب، لان فعله تسبيب
فيه معنى العلة، وإن وصف لهم الطريق حتى وصلوا إليه بوصفه ولم يذهب معهم لم يكن شريكهم في المصاب، لان ما صنعه تسبيب محض وليس فيه من معنى العلة شئ.
وأما السبب الذي له شبهة العلة كحفر البئر في الطريق، فإنه سبب للقتل من حيث إيجاد شرط الوقوع وهو زوال المسكة وليس بعلة في الحقيقة، فالعلة ثقل الماشي في نفسه، والسبب المطلق مشيه في ذلك الموضع، فأما الحفر فهو إيجاد شرط الوقوع ولكن له شبهة العلة من حيث إن الحكم يضاف إليه وجودا عنده لا ثبوتا به، ولهذا لم يكن موجبا الكفارة ولا حرمان الميراث، فإن ذلك جزاء الفعل وفعله تم من غير اتصال بالمقتول، وإنما اتصل بالمقتول عند الوقوع بسبب آخر وهو مشيه، إلا أنه يجب ضمان الدية عليه، لان ذلك بدل المتلف لا جزاء الفعل وقد حصل التلف مضافا إلى حفره وجودا عنده، فإذا كان ذلك تعديا منه وجب الضمان عليه بمقابلة المتلف حتى لو اعترض على فعله ما يمكن
إضافة الحكم إليه، نحو دفع دافع إياه في البئر، فإنه يكون الضمان على الدافع دون الحافر.
وعلى هذا قلنا: إذا تزوج كبيرة ورضيعة فأرضعت الكبيرة الرضيعة، فإن الزوج يغرم نصف صادق الصغيرة ثم يرجع به على الكبيرة إن تعمدت الفساد، وإن لم تتعمد ذلك لم يرجع عليها بشئ، لان ثبوت الحرمة بالارضاع وذلك موجود من الصبية، إلا أن إلقام الثدي إياها سبب من الكبيرة له شبهة العلة من حيث إن الحكم يضاف إليه وجودا عنده.
وهذا الضمان ليس بضمان إتلاف ملك النكاح، فإنه لا يضمن بالاتلاف عندنا، ولكن ضمان تقرير نصف صداق على الزوج، فإذا صار ذلك مضافا إلى فعلها وجودا عنده كان لفعلها شبهة العلة، وقد كانت متعدية في ذلك حين تعمدت الفساد، فيلزمها ضمان العدوان، والله أعلم.
فصل: في تقسيم العلة قال رضي الله عنه: أنواع العلة ستة: علة اسما ومعنى وحكما وهو حقيقة العلة، وعلة اسما لا معنى ولا حكما وهو يسمى علة مجازا، وعلة
اسما ومعنى لا حكما، وعلة تشبه السبب، وعلة معنى وحكما لا اسما، وعلة اسما وحكما لا معنى.
فالاول: نحو البيع للملك، والنكاح للحل، والاعتاق لزوال الرق وإثبات الحرية، وإيقاع الطلاق للوقوع، فإن هذا كله علة اسما من حيث إنه موضوع لهذا الموجب، فإن هذا الموجب مضاف إليه لا بواسطة، وهو علة معنى من حيث إنه مشروع لاجل هذا الموجب، وهو علة حكما من حيث إن هذا الحكم يثبت به ولا يجوز أن يتراخى عنه.
واختلف مشايخنا في أن مثل هذه العلة المطلقة هل يجوز أن تكون موجودة والحكم متأخر عنه ؟ فمنهم من
جوز ذلك وقال: الذي لا يجوز كون العلة خالية عن الحكم، فأما يجوز أن لا يتصل الحكم بها ولكن يتأخر لمانع.
والاصح عندنا أنه لا يجوز تأخر الحكم عن هذه العلة ولكن الحكم يتصل ثبوته بوجود هذه العلة بعد صحتها لا محالة، وهو عندنا بمنزلة الاستطاعة مع الفعل لا يجوز القول بأنها تسبق الفعل.
وأما العلة اسما لا معنى ولا حكما: فبيانها فيما ذكرنا من تعليق الطلاق والعتاق بالشرط واليمين قبل الحنث، فإنها علة اسما لا معنى ولا حكما، لان العلة معنى وحكما ما يكون ثبوت الحكم عند تقرره لا عند ارتفاعه، وبعد الحنث لا تبقى اليمين بل ترتفع، وكذلك بعد وجود الشرط في اليمين بالطلاق والعتاق لا يبقى اليمين.
وأما العلة اسما ومعنى لا حكما: فنحو البيع الموقوف، فإنه علة للملك اسما من حيث إنه بيع حقيقة موضوع لهذا الموجب، ومعنى من حيث إنه منعقد شرعا بين المتعاقدين لافادة هذا الحكم، فإن انعقاده وتمامه معنى بما هو من خالص حقها، وليس فيه تعدي الضرر إلى الغير، وهو ليس بعلة حكما لما في ثبوت الملك به من الاضرار بالمالك في خروج العين عن ملكه من غير رضاه، ولهذا إذا وجد الاجازة منه يستند الحكم إلى وقت العقد حتى يملكه المشتري بزوائده، فيتبين به أن العلة موجودة اسما ومعنى.
وكذلك إذا صرح بشرط الخيار للبائع فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، لان خيار الشرط داخل على الحكم لا على أصل البيع، وكان القياس أن لا يجوز اشتراط الخيار في البيع لمعنى الغرر إلا أنا لو أدخلنا الشرط على أصل السبب دخل على الحكم ضرورة، ولو أدخلناه على الحكم خاصة لم يكن داخلا
على أصل السبب، فكان معنى الغرر والجهالة في هذا أقل، وإذا ظهر أن الشرط دخل على الحكم خاصة عرفنا أن البيع بهذا الشرط علة اسما ومعنى لموجبه لا حكما، ولهذا لو سقط الخيار يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يملك البيع بالزيادة المتصلة والمنفصلة، إلا أن أصل الملك لما صار متعلقا بالشرط لم يكن موجودا قبل الشرط أصلا، فالعتق الموجود في هذه الحالة من المشتري لا يتوقف على أن ينفذ ثبوت الملك له إذا سقط الخيار، وفي الاول إنما يثبت في الملك صفة التوقف لا التعليق بالشرط وتوقف الشئ لا يعدم أصله، فثبت إعتاقه بصفة التوقف أيضا على أن ينفذ بنفوذ الملك له بالاجارة.
ومن هذا النوع الاجارة، فإنها علة للملك اسما ومعنى لا حكما، لانها تتناول المعدوم حقيقة، والمعدوم لا يكون محلا للملك، ولهذا لم يثبت الملك في الاجر لانعدام العلة حكما، ويملك بشرط التعجيل لوجود العلة اسما ومعنى، إلا أن هناك وجود العلة اسما ومعنى من حيث إن المنتفع به جعل كالمنفعة التي هي المقصودة بالعقد، فأما العقد في حق الحكم حقيقة وهو ملك المنفعة صار مضافا إلى حالة الوجود فيقتضي الملك في الاجر على حال استيفاء المنفعة لهذا، ولا يثبت مستندا إلى وقت العقد، لان إقامة العين مقام المنفعة في حكم صحة الايجاب دون الحكم، وعلى هذا الطلاق الرجعي، فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، لان حكم زوال الملك به متعلق بشرط انقضاء العدة قبل الرجعة، وهو في حكم حرمة المحل ركن من أركان العلة، فعرفنا أنه
ليس بعلة حكما، ولهذا لم يثبت زوال ملك الحل به ولا حرمة الوطئ أصلا.
وأما العلة التي تشبه السبب فصورتها أن يكون ما يضاف إليه الحكم أصله
موجودا وصفته منتظرا متأخرا في وجوده خطر.
فمن حيث وجود الاصل كان علة لان الصفة تابعة للاصل وبانعدام الوصف لا ينعدم الاصل، ومن حيث إن كونه موجبا للحكم باعتبار الصفة وهو منتظر متأخر فالاصل قبل وجود الوصف كان طريقا للوصول إليه فكان سببا.
وبيان ذلك في النصاب للزكاة فإنه سبب لوجوب الزكاة بصفة النماء، وحصول هذا النماء منتظر لا يكون إلا بعد مدة قدر الشرع تلك المدة بالحول، وبما ذكره لم ينتصب الحول شرطا، فإنه قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وحتى كلمة غاية لا كلمة شرط، وبانعدام صفة النماء للحال لا ينعدم أصل المال الذي يضاف إليه هذا الحكم شرعا، فجعلناه علة تشبه السبب حتى يجوز التعجيل بعد كمال النصاب، ولا يكون المؤدى زكاة للمال لانعدام صفة العلة، بخلاف المسافر إذا صام في شهر رمضان، والمقيم إذا صلى في أول الوقت، فالمؤدى يكون فرضا لوجود العلة، مطلقة بصفتها، ثم إذا تم الحول حتى وجب الزكاة جاز المؤدى عن الزكاة باعتبار أن الاداء وجد بعد وجود العلة، ولو كان محض سبب لم يكن المؤدى قبل وجود العلة محسوبا من الزكاة كالمؤدى قبل كمال النصاب.
فبهذا يتبين أن حولان الحول ليس بتأجيل فيه، لان التأجيل مهلة لمن عليه الحق بعد كمال العلة فإذا أسقط المهلة بالتعجيل كان في الحال مؤديا للواجب وهنا لا يكون في الحال مؤديا للواجب، وإذا تم الحول ونصابه غير كامل كان المؤدى تطوعا، فعرفنا أن النصاب قبل وجود صفة النماء يمضي المدة يكون علة في معنى السبب، حتى يثبت حكم الاداء بحسب هذه العلة، ولا يثبت الوجوب أصلا بل يكون المؤدى موقوف الصحة على أن يكون عن الواجب إذا تم ما هو صفة العلة باستناد حكم الوجوب إليه، وعلى أن يكون تطوعا إذا لم يتم ذلك الوصف.
ولا يدخل على هذا إذا كانت الابل علوفة، فعجل عنها الزكاة ثم جعلها سائمة، لان هناك أصل العلة لم يوجد
وهو المال النامي، فإن الغناء مطلقا لا يحصل شرعا إلا بالمال النامي، وبما لا يحصل الغناء من المال لا تكون العلة موجودة بمنزلة ما دون النصاب.
وعلى هذا مرض الموت، فإنه علة للحجر عن التبرعات فيما هو حق الوارث بعد الموت بصفة إيصال الموت به وهذا منتظر، فكان الموجود في الحال علة تشبه السبب، فإذا تم باتصال الموت به استند حكمه إلى أول المرض حتى يبطل تبرعه بما زاد على الثلث، وإذا برأ من مرضه كان تبرعه نافذا لان العلة لم تتم بصفتها.
وكذلك الجرح علة لوجوب الكفارة في الصيد والآدمي بصفة السراية وهي صفة منتظرة، فكان الموجود قبل السراية علة تشبه السبب حتى يجوز أداء الكفارة بالمال والصوم جميعا، وإذا اتصل به الموت كان المؤدى جائزا عن الواجب، وهذا كله لان الوصف لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالموصوف، فلا يمكن جعل الموصوف أحد وصفي العلة ليكون سببا لا علة كما بينا في فصل السبب، ولا يمكن جعل الوصف علة معنى وحكما بمنزلة آخر الوصفين وجودا من علة هي ذات وصفين، فلهذا جعلناها علة تشبه السبب.
ومن هذا النوع علة العلة، وذلك أن تكون العلة موجبة للحكم بواسطة تلك العلة من موجبات العلة الاولى فتكون بمنزلة علة توجب الحكم بوصف وذلك الوصف قائم بالعلة، فكما أن الحكم هناك يكون مضافا إلى العلة دون الصفة فهنا يكون أيضا مضافا إلى العلة دون الواسطة، وذلك نحو الرمي، فإنه يوجب تحرك السهم ومضيه في الهواء ونفوذه في المقصود حتى يبتنى عليه علة القتل، ولكن هذه الواسطات من موجبات الرمي، فكان الرمي علة تامة لمباشرة القتل حتى يجب القصاص على الرامي، ولهذا قلنا في شراء القريب إنه إعتاق تتأدى به الكفارة إذا نواه، لان الشراء موجب للملك والملك في القريب
موجب للعتق، فيصير الحكم مضافا إلى السبب الاول لكون الواسطة من موجباته، بخلاف ما إذا اشترى المحلوف بعتقه بنية الكفارة، لان الواسطة وهي الشرط يضاف إليه العتق وجودا عنده، لا وجوبا به، والعتق عند وجوده
مضاف إلى ما وجد من التعليق بما هو باق بعد وجود الشرط، وهو قوله أنت حر، ولم تقترن به نية الكفارة.
وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في المزكين لشهود الزنا: إذا رجعوا ضمنوا لان التزكية في معنى علة العلة فإن الموجب للحكم بالرجم شهادة الشهود، والشهادة لا تكون موجبة بدون التزكية، فمن هذا الوجه يصير الحكم مضافا إلى التزكية، ومن حيث إن التزكية صفة للشهادة بقي الحكم مضافا إلى الشهادة أيضا، فأي الفريقين رجع كان ضامنا.
ومما هو نظير العلة التي تشبه السبب ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في رجل قال: آخر عبد أشتريه فهو حر، فاشترى عبدا ثم عبدا ثم مات، فإنه يعتق الثاني من حين اشتراه.
وكذلك لو قال: آخر امرأة أتزوجها فهي طالق، لان الثاني موصوف بصفة الآخرية باعتبار معنى منتظر، وهو أن لا يشتري بعده غيره حتى يموت، ولا يتزوج بعدها غيرها فلم يكن الحكم ثابتا في الحال لمعنى الانتظار في هذا الوصف، فإذا زال الانتظار وتقرر الوصف كان الحكم ثابتا من حين وجدت العلة لا من حين زوال الانتظار، كما هو حكم العلة التي تشبه السبب.
وقد جعل بعض مشايخنا الايجاب المضاف إلى وقت من هذا القسم.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه من القسم الثالث فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، ولهذا لو نذر أن يتصدق بدرهم غدا فتصدق به اليوم جاز عن المنذور للحال، ولو كان هذا من نظير القسم الرابع لتأخر حكم جوازه عن المنذور إلى مجئ ذلك الوقت كما بينا في تعجيل الزكاة.
وكذلك قال أبو يوسف رحمه الله في النذر
بالصوم والصلاة إذا أضافه إلى وقت في المستقبل: يجوز تعجيله قبل ذلك الوقت لوجود العلة اسما ومعنى، وإن تأخر حكم وجوب الاداء إلى مجئ ذلك الوقت بمنزلة الصوم في حق المسافر.
وقال محمد رحمه الله: لا يجوز اعتبارا لما يوجبه على نفسه في وقت بعينه بما أوجب الله عليه في وقت بعينه حتى لا ينفك ذلك الوقت عن وجوب الاداء أو وجود الاداء فيه، وإذا جاز التعجيل خلا الوقت المضاف عن ذلك أصلا.
فأما العلة التي هي معنى حكما لا اسما، فهو آخر الوصفين من علة تشتمل
على وصفين مؤثرين في العتق، نحو ما بينا في القرابة المحرمة للنكاح مع الملك، فإنهما وصفان مؤثران في العتق، ثم آخرهما وجودا يكون علة معنى وحكما، والمراد بالمعنى كونه مؤثرا فيه، وبالحكم أنه يثبت الحكم عنده، وهذا لان الوصف الثاني مع الاول استويا في الوجوب بهما وترجح الثاني بالوجود عنده فكان علة معنى وحكما لا اسما، فإن الحكم مضاف إلى الوصفين جميعا، فمن حيث الاسم الوصف الثاني شطر العلة.
وعلى هذا قلنا: أحد وصفي علة الربا يحرم النسأ بانفراده لان كل واحد من الوصفين علة معنى وحكما إذا تأخر وجوده عن الوصف الآخر، وحرمة النسأ مبني على الاحتياط وهو أسرع ثبوتا من حرمة الفضل لقوله عليه السلام: إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد فجعل ثابتا بوجود أحد الوصفين.
ولا يدخل على هذا حكم الشهادة، فإن شهادة الشاهد الثاني بعد الاول لا تجعل علة للاستحقاق معنى وحكما وإن كان استحقاق الحكم عنده يكون، لان هناك الاستحقاق لا يثبت بالشهادة بل بقضاء القاضي، وقضاء القاضي يكون بشهادة الشاهدين جميعا فلا يتصور فيه كون أحدهما سابقا والآخر متمما لعلة الاستحقاق.
فأما العلة اسما وحكما لا معنى، فهو السفر والمرض في ثبوت الرخص بهما فإنها في الشريعة مضافة إلى السفر والمرض، فعرفنا أن كل واحد منهما علة اسما، وكذلك من حيث الحكم، فحكم جواز الترخص بالفطر ونحوه يثبت عند وجود السفر والمرض، فأما المعنى المؤثر في هذه الرخصة فهو المشقة التي تلحقه بالصوم دون السفر والمرض، لما بينا أن المعنى ما يكون مؤثرا في الحكم وذلك المشقة، وإليه أشار الله تعالى في قوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) إلا أن المشقة باطن تتفاوت أحوال الناس فيه ولا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السفر بصفة مخصوصة مقام تلك المشقة لكونه دالا عليها غالبا، وكذلك أقام المرض بوصف مخصوص مقام تلك المشقة، فعرفنا أنه علة اسما وحكما لا معنى، ولهذا لو أصبح مقيما صائما ثم سافر فأفطر لم تلزمه الكفارة لوجود علة الاسقاط اسما، وإن انعدم
معنى وحكما حتى لا يكون الفطر مباحا له في هذا اليوم أصلا.
وعلى هذا قلنا: النوم في كونه حدثا علة اسما وحكما لا معنى، إذ المعنى الذي هو مؤثر في الحدث خروج نجس من البدن أو من أحد السبيلين على حسب ما اختلف العلماء فيه وذلك غير موجود في النوم إلا أن النوم بصفة مخصوصة وهو أن يكون مضطجعا أو متكئا لكونه دليل استرخاء المفاصل يقوم مقام خروج شئ من البدن تيسيرا.
وعلى هذا حكم النسب فإن ملك النكاح علة لثبوت النسب اسما وحكما لا معنى، لان المعنى الذي هو مؤثر في النسب كون الولد مخلوقا من مائه ولكنه باطن، فقام النكاح الذي هو ظاهر مقامه تيسيرا.
وكذلك المس عن شهوة والنكاح في حكم حرمة المصاهرة، فإنه يكون اسما وحكما لا معنى.
وكذلك الاستبراء، فإن استحداث ملك الوطئ بملك اليمين علة لوجوب الاستبراء اسما وحكما لا معنى،
لان المؤثر في إيجاب الاستبراء اشتغال الرحم بماء الغير لمقصود صيانة مائه عن الخلط بماء آخر، وذلك باطن فقام السبب الظاهر الدال عليه وهو استحداث ملك الوطئ بملك اليمين مقام ذلك المعنى في وجوب الاستبراء به.
ولم يقم ملك النكاح مقام ذلك المعنى لان زوال ملك النكاح بعد وجود السبب الموجب لشغل الرحم يعقب عدة بها يحصل المقصود وهو براءة الرحم فلا حاجة إلى إيجاب الاستبراء عند حدوث ملك، وأما زوال ملك اليمين بعد الوطئ لا يعقب وجوب ما هو دليل براءة الرحم، فتقع الحاجة إلى إيجاب الاستبراء عند حدوث ملك الحل بملك اليمين لمقصود براءة الرحم.
وأمثلة هذا النوع أكثر من أن تحصى.
وهذا في الحاصل نوعان: أحدهما إقامة الداعي مقام المدعو كالمس والنكاح الداعي (إلى) ما يثبت به معنى البعضية.
والثاني إقامة الدليل مقام المدلول كاسترخاء المفاصل بالنوم، فإنه دليل خروج شئ من البدن، والتقاء الختانين في كونه موجبا للاغتسال، لانه دليل خروج المني عن شهوة، والمباشرة الفاحشة في كونه حدثا عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمة الله عليهما، لانه دليل خروج شئ منه حين انتشرت الآلة بالمباشرة.
وعلى
هذا قلنا: إذا قال لامرأته: إن كنت تحبيني أو تبغضيني فأنت كذا، فإن إخبارها به في المجلس يكون دليل وجود ما جعله شرطا، فجعل قائما مقام المدلول.
وفيه ثلاثة أوجه من الفقه: أحدها الضرورة والعجز عن الوقوف على ما هو الحقيقة كما في المحبة والبغض، وبه تعدى الحكم إلى قوله إن حضت فأنت كذا، فقالت حضت فإنه يقام خبرها به مقام حقيقة الشرط في وقوع الطلاق.
والثاني الاحتياط في باب الحرمات والعبادات.
والثالث دفع الحرج عن الناس فيما تتحقق فيه الحاجة لهم، ولهذا جعل الشرع في باب الاجارة
ملك العين المنتفع به مقام ملك المعقود عليه وهو المنفعة في جواز العقد، وأقام سبب وجود المنفعة وهو كون العين منتفعا بها مقام حقيقة وجودها، لانها بعد الوجود لا تبقى وقتين فلا يمكن إبراد العقد عليها وتسليمها، فلدفع الحرج فيما للناس حاجة إليه أقام الشرع غير المقصود بالعقد مقام المقصود فيما ينبني عليه عقد المعاوضة، وهو وجود المعقود عليه وكونه مملوكا للعاقد.
فهذه حدود يتم بمعرفتها فقه الرجل، ولكن في ضبط حدودها بعض الحرج لما فيها من الدقة، فلا يطلبها فقيه بكسل، ولا يقفن عن طلبها بفشل، والله الهادي لمن جاهد في سبيله.
فصل: في بيان تقسيم الشرط وهي ستة أقسام: شرط محض، وشرط في حكم العلة، وشرط فيه شبهة العلة، وشرط في معنى السبب، وشرط اسما لا حكما، وشرط بمعنى العلامة الخالصة.
فأما الشرط المحض فهو ما يتوقف وجود العلة على وجوده ويمتنع وجود العلة حقيقة بعد وجودها صورة، حتى يوجد ذلك الشرط فتصير موجودة عندها حقيقة، على ما بينا في الفرق بين الشرط والعلة أن الحكم مضاف إلى الشرط وجودا عنده لا وجوبا به، وذلك نحو كلمات الشرط كلها كقوله لعبده إن دخلت الدار فأنت حر أو إذا دخلت أو متى دخلت أو كلما دخلت، فإن التحرير الذي هو علة يتوقف وجوده على وجود الشرط حقيقة بعد
ما وجد صورته بكلماته من المولى، وعند وجود الشرط يوجد التحرير حقيقة فيثبت به حكم العتق.
وعلى هذا حكم العبادات والمعاملات، فإنها تعلقت بأسباب جعلها الشرع سببا للوجوب كما بينا، ثم وجود العلة حقيقة يتأخر إلى وجود
ما هو شرط فيه وهو العلم به أو ما يقوم مقام العلم به، حتى إن النص النازل قبل علم المخاطب به جعل في حقه كأنه غير نازل، ولهذا قلنا: من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان ثم علم بذلك فإنه لا يلزمه قضاء شئ باعتبار السبب في الماضي، وإذا أسلم في دار الاسلام يلزمه القضاء لا لان العلم ليس بشرط ولكن لان شيوع الخطاب في دار الاسلام وتيسير الوصول إليه بأدنى طلب يقوم مقام وجود العلم به، فتصير العلة موجودة حقيقة بوجود الشرط حكما، وعلى هذا تؤدى العبادات بأداء أركانها نحو الصلاة، فإن أركانها القيام والقراءة والركوع والسجود، ثم لا يوجد الاداء بها إلا بعد وجود الشرط وهو النية والطهارة.
وكذلك المعاملات، فإن ركن النكاح وهو الايجاب والقبول لا يوجد به انعقاد العقد إلا عند وجود الشرط وهو الشهود، ثم هذا النوع من الشرط إنما يعرف بصيغته أو بدلالته، فمتى وجد صيغة كلمة الشرط لم ينفك عن معنى الشرط.
والذي قاله بعض المتأخرين من مشايخنا في قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) إنه مذكور على سبيل العادة، وإنه لا فائدة فيه سوى أن الحاجة إلى الكتابة أمس في هذه الحالة، قال رضي الله عنه: هذا ليس بقوي عندي، لان تحت هذا الكلام أنه ليس في ذكر هذا الشرط فائدة معنى الشرط، وكلام الله تعالى منزه عن هذا، بل فيه فائدة الشرط.
وبيانه أن الامر للايجاب تارة وللندب أخرى، والمراد الندب هنا بدليل ما بعده وهو قوله: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) فإنه للندب دون الايجاب، وعقد الكتابة وإن كان مباحا قبل أن يعلم فيه خيرا فإنما يصير مندوبا إليه إذا علم أن فيه خيرا، فظهر فائدة الشرط من هذا الوجه.
وكذلك قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا) فإنه غير مذكور على وفاق العادة
عندنا بل لبيان الندب، فإن نكاح الامة مع طول الحرة وإن كان مباحا
له إلا أنه غير مندوب إليه وإنما يندب إليه بشرط عدم طول الحرة.
وكذلك قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) غير مذكور على وفاق العادة بل هو بمعنى الشرط حقيقة، لان المراد هو القصر في أحوال الصلاة كالاداء راكبا بالايماء والايجاز في القراءة وتخفيف الركوع والسجود، وذلك إنما يوجد عند وجود هذا الشرط وهو الخوف، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) وقال تعالى: (فإن اطمأننتم فأقيموا الصلاة) فأما قوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) فهو غير مذكور بصيغة الشرط فيه، وقوله تعالى: (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) وحكم الجواز لا يثبت إلا عند وجود هذا الشرط.
وبيان دلالة الشرط فيما قال علماؤنا: إذا قال لنسوة: المرأة التي أتزوجها منكن طالق، أو قال لاربع نسوة له: المرأة التي تدخل الدار منكن طالق، فإنه يتوقف وجود العلة حقيقة على وجود التزوج والدخول لوجود دلالة الشرط فيه، وهو أنه مذكور على سبيل الوصف للنكرة، بخلاف ما لو قال: هذه المرأة التي أتزوجها أو هذه المرأة التي تدخل الدار، فإنه مذكور على سبيل الوصف للعين فلا يكون شرطا ولا يتوقف وجود العلة على وجوده، ولو أتى بصيغة الشرط في الوجهين يوقف وجود العلة على وجوده بأن قال: إن تزوجت امرأة منكن أو هذه المرأة إن تزوجتها.
وأما الشرط الذي هو حكم العلة فنحو شق الزق حتى يسيل ما فيه
من الدهن، وقطع حبل القنديل حتى يسقط فينكسر، فإن الشق في الصورة مباشرة إتلاف جزء من الزق، وفي حق الدهن هو إيجاد شرط السيلان، ولكن جعل هذا الشرط في حكم العلة حتى يجعل كأنه باشر إراقة الدهن، لان المائع لا يكون محفوظا إلا بوعاء، فإزالة ما به تماسكه يكون مباشرة تفويت ما كان محفوظا به، وكذلك القنديل على ما هو مصنوع له
عادة لا يكون محفوظا إلا بحبل يعلقه به، فكان قطع ذلك الحبل مباشرة تفويت ما كان محفوظا به فيكون إلقاء وكسرا.
وعلى هذا جرح الانسان إذا اتصل به السراية يكون مباشرة القتل حتى يجب القصاص به إذا كان عمدا، لان الحياة لا يمكن إزهاقه حقيقة بالاخذ والاخراج ولكنه محفوظ في البدن بسلامة البنية، فنقض البنية بالجرح والقطع يكون تفويتا لما كان به محفوظا، فيجعل ذلك مباشرة علة القتل حكما، بخلاف الطلاق والعتاق فإنه محفوظ عند المالك بامتناعه عن التكلم بكلمة الايقاع، فبعد ما تكلم بكلمة الايقاع كان التعليق بالشرط للمنع من الوقوع، ومن أن يكون ذلك التكلم علة حقيقة، وإذا صار عند وجود الشرط علة حقيقة كان الحكم مضافا إلى العلة ثبوتا به، وإلى الشرط وجودا عنده، فلم يكن الشرط هناك في حكم العلة، حتى كان وجوب الضمان عند الرجوع على شهود التعليق دون شهود الشرط، ولا ضمان على شهود الشرط إذا رجعوا دون شهود التعليق.
وعلى هذا قال أبو حنيفة فيمن قيد عبده ثم قال: إن كان في قيدك عشرة أرطال حديد فأنت حر وإن حل هذا القيد فأنت حر، فشهد الشاهدان أن في القيد عشرة أرطال حديد فأعتقه القاضي ثم حل القيد، فإذا فيه خمسة أرطال، فإن الشهود يضمنون قيمة العبد، لان قضاء القاضي عنده بشهادة الزور ينفذ
ظاهرا وباطنا، فكان العتق ثابتا بقضاء القاضي بعد شهادتهما قبل أن يحل القيد، وهما في الصورة شاهدا الشرط، ولكنهما مثبتان علة العتق بشهادتهما، لانهما شهدا أن المولى علق عتقه بشرط موجود، والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا، فكأنهما شهدا بتنجيز العتق، فضمنا لاثباتهما شرطا هو علة في الحكم.
وأما الشرط الذي يشبه العلة، فهو أن يعارضه ما لا يصلح أن يكون علة للحكم بانفراده، ومتى عارضه ما يصلح علة بانفراده فذلك الشرط لا يشبه العلة لمعنى وهو أن الاصل في إضافة الحكم إليه (العلة)
وعلل الشرع فيما يرجع إلى ثبوت الحكم بها كأنها شروط على معنى أنها أمارات غير موجبة للحكم بذواتها، بل بجعل الشرع إياها كذلك، والشرط من وجه يشبهها على معنى أن الحكم يصير مضافا إلى الشرط وجودا عنده، فأمكن جعله خلفا عن العلة في الحكم، فقلنا: متى عارض الشرط ما لا يصلح أن يكون علة في الحكم صار موجودا بعد وجود الشرط، فلا بد من أن يجعل الشرط خلفا عن العلة في إثبات الحكم به، ومتى أمكن جعل المعارض علة بانفراده فلا حاجة إلى إثبات هذه الخلافة، فلم يجعل للشرط شبه العلة.
وبيانه فيما قلنا: إن حفر البئر في الطريق إيجاد شرط الوقوع بإزالة المسكة عن ذلك الموضع إلا أن ما عارضه من العلة وهو ثقل الماشي لا يصلح بانفراده علة الاتلاف بطريق العدوان، وما هو سببه وهو مشيه، لا يصلح علة لذلك فإنه مباح مطلقا، فكان الشرط بمنزلة العلة في إضافة الحكم إليه حتى يجب الضمان على الحافر، ولكن لا يصير مباشرا للاتلاف حتى تلزمه الكفارة ولا يحرم عن الميراث، فكان لهذا الشرط شبه العلة
لا أن يكون على حكما.
وقلنا في شهود التعليق وشهود الشرط: إذا رجعوا فالضمان على شهود التعليق خاصة، لانهم نقلوا قول المولى أنت حر، وهذا بانفراده علة تامة لاضافة حكم العتق إليه فلم يكن للشرط هناك شبه العلة، فلهذا لا يضمن شهود الشرط شيئا سواء رجع الفريقان أو رجع شهود الشرط خاصة.
وكذلك إذا رجع شهود التخيير وشهود الاختيار، فإن الضمان على شهود الاختيار خاصة، لان التخيير سبب وما عارضه وهو الاختيار علة تامة للحكم، فكان الحكم مضافا إليه دون السبب، فلم يضمن شهود السبب شيئا كما لا يضمن شهود الشرط.
وعلى هذا قلنا: إذا اختلف حافر البئر مع ولي الواقع فيها وقال الحافر أوقع فيها نفسه، وقال الولي لا بل وقع فيها، فالقول قول الحافر استحسانا، لان الحفر شرط جعل خلفا عن العلة لضرورة كون العلة غير صالحة، فالحافر يتمسك بما هو الاصل وهو صلاحية
العلة للحكم وينكر سبب الخلافة، وذلك حكم ضروري فكان القول قوله، بخلاف الجارح إذا ادعى أن المجروح مات بسبب آخر، وقال الولي: مات من تلك الجارحة، فإن القول قول الولي، لان الجارح صاحب علة لا صاحب شرط كما بينا، والاصل في العلة الصلاحية للحكم، فكان الولي هو المتمسك بالاصل هنا.
وعلى هذا قلنا: إذا غصب من آخر حنطة فزرعها فإن الزرع يكون مملوكا للغاصب، لان ما هو العلة لحصول الخارج وهو قوة الارض والهواء والماء مسخر بتقدير الله تعالى لا اختيار له، فلا يصلح لاضافة الحكم إليه، والالقاء الذي هو شرط جامع بين هذه الاشياء يجعل كالعلة خلفا عنها في الحكم، فبهذا الطريق يصير الزرع كسب الغاصب مضافا إلى عمله فيكون مملوكا له، وإذا سقط الحب في الارض من غير صنع أحد بأن هبت به
الريح فقد تعذر جعل هذا الشرط خلفا عن العلة، فجعل المحل الذي هو في حكم الشرط كالعلة خلفا حتى يكون الخارج لصاحب الحنطة لكونها محلا لما حصل وهو الخارج.
وأما الشرط الذي هو في معنى السبب فهو أن يعترض عليه فعل من مختار ويكون سابقا عليه، وذلك نحو ما إذا حل قيد عبد فأبق لم يضمن عند أصحابنا جميعا، وحل القيد إزالة المانع للعبد من الذهاب فكان شرطا، فقد اعترض عليه فعل من مختار وهو الذهاب من العبد الذي هو علة تلف المالية فيه، فما هو الشرط كان سابقا عليه، وما هو العلة غير مضاف إلى السابق من الشرط، فتبين به أنه بمنزلة السبب المحض، لان سبب الشئ يتقدمه، وشرطه يكون متأخرا عن صورته وجودا، وإذا كان بمعنى السبب كان تلف المالية مضافا إلى ما اعترض عليه من العلة دون ما سبق من السبب.
وعلى هذا لو أرسل دابة في الطريق فجالت يمنة أو يسرة عن سنن الطريق ثم سارت فأصابت شيئا فلا ضمان
على المرسل، لان الارسال هناك سبب محض وقد اعترض عليه فعل من مختار وهو غير منسوب إلى السبب الاول حين لم تذهب على سنن إرساله حتى يكون سابقا بذلك الارسال، فكان الاول المتقدم شرطا بمعنى السبب، ثم في الوجهين يضاف الهلاك إلى ما اعترض من الفعل دون ما سبق، وفعل الدابة لا يوجب الضمان على مالكها.
وعلى هذا قلنا في الدابة المنفلتة: إذا أتلفت زرع إنسان ليلا أو نهارا لم يضمن صاحبها شيئا، لانه لم يوجد منه علة ولا سبب ولا شرط يصير به الاتلاف مضافا إليه.
وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: إذا فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الاسطبل فندت الدابة في فور ذلك، فإن الفاتح للباب لم يضمن شيئا، لان فعله شرط لانه إزالة المانع
من الانطلاق وذلك شرط الانطلاق، ثم اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إليه، فكان الاول شرطا في معنى السبب فلا يصير الهلاك مضافا إليه، وقد اعترض عليه ما هو العلة، بخلاف حفر البئر إذا وقع فيه الماشي، فإن ما اعترض هناك من مشيه لا يصلح أن يكون علة الاتلاف حين لم يكن عالما بعمق ذلك المكان، حتى لو أوقع نفسه في البئر لم يضمن الحافر شيئا، لان ما اعترض علة صالحة للحكم وهو فعل حصل من مختار على وجه القصد إليه، ولهذا لو مشى على قنطرة واهية موضوعة بغير حق وهو عالم به فانخسفت به لم يضمن الواضع شيئا، وكذلك إذا مشى في موضع من الطريق قد صب فيه الماء وهو عالم به فزلقت رجله.
ولكن محمدا رضي الله عنه يقول فعل الدابة هدر شرعا وهو غير صالح لاضافة الحكم إليه فيكون مضافا إلى الشرط السابق الذي هو في معنى السبب، بخلاف فعل العبد من الاباق فإنه صالح شرعا لاضافة الحكم إليه.
والجواب لهما أن فعل الدابة لا يصلح لايجاب حكم به، ولكن يصلح لقطع الحكم، ألا ترى أن في الدابة التي أرسلها صاحبها في الطريق إذا جالت يمنة أو يسرة اعتبر فعلها في قطع حكم إرسال صاحبها.
وكذلك الصيد إذا خرج من الحرم يعتبر فعله في
قطع الحكم وهو الحرمة الثابتة له بسبب الحرم.
وإذا صال على إنسان فكذلك الجواب.
وبظاهر هذا الكلام يقول الشافعي في الجمل إذا صال على إنسان فقتله إنه لا يضمن شيئا، لان فعل الجمل صالح لقطع الحكم الثابت به وهو العصمة والتقوم الثابت فيه لحق المالك.
ولكنا نقول: فعل الدابة غير صالح لايجاب الشئ على مالكها، وفي إسقاط حقه في تضمين المتلف إيجاب حكم عليه وهو الكف عن الاعتداء على من اعتدى عليه بإتلاف ماله ومثله لا يوجد في صيد الحرم.
وعلى هذا قلنا: لو أرسل كلبا على صيد مملوك لانسان فقتله الكلب أو أشلاه على بعير
إنسان فقتله أو على ثوب إنسان فخرقه، لم يضمن شيئا، لان ما وجد منه من الاشلاء سبب قد اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إلى ذلك السبب، فإن بمجرد الاشلاء لا يكون سابقا له، بخلاف ما إذا أرسل كلبه المعلم على صيد فذبحه فإنه يجعل كأنه ذبحه بنفسه في حكم الحل، لان الاصطياد نوع كسب ينفي عنه معنى الحرج ويبني الحكم فيه على قدر الامكان، فأما في ضمان العدوان يجب الاخذ بمحض القياس، لان مع الشك في السبب الموجب للضمان لا يجب الضمان بحال.
وعلى هذا قلنا: لو أوقد نارا في ملكه فهبت الريح بها إلى أرض جاره حتى أحرقت كدسه لم يضمن، ولو ألقى شيئا من الهوام على الطريق فانقلبت من مكان إلى مكان آخر ثم لدغت إنسانا لم يضمن الملقي شيئا.
فما كان من هذا الجنس فتخريجه على الاصل الذي قلنا.
وأما الشرط اسما لا حكما وهو المجاز في هذا الباب فنحو الشرط السابق وجودا فيما علق بالشرطين، نحو أن يقول لعبده إن دخلت هاتين الدارين فأنت حر، فإن دخوله في الدار الاولى شرط اسما لا حكما، لان الحكم غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عنده، ولهذا لم يعتبر علماؤنا قيام الملك عند وجود الشرط الاول خلافا لزفر رضي الله عنه، وهذا لان الملك في المحل شرط
لنزول الجزاء أو لصحة الايجاب، والحكم غير مضاف إلى الشرط وجوبا به فإنه لا تأثير للشرط في ذلك، ولا وجودا عنده فإنه لا يترك الطلاق في المحل ما لم يتم الشرط، فلو اعتبرنا الملك عند وجوده إنما يعتبر لبقاء اليمين ومحل اليمين الذمة، فكانت باقية ببقاء محلها من غير أن يشترط فيه الملك في المحل.
وأما الشرط الذي هو علامة فنحو الاحصان لايجاب الرجم، فإنه علامة
يعرف بظهوره كون الزنا موجبا للرجم، وهو في نفسه ليس بعلة ولا سبب ولا شرط محض في إيجاب الرجم.
وحد الشرط: ما يمتنع ثبوت العلة حقيقة بعد وجودها صورة إلى وجوده، كما في تعليق الطلاق بدخول الدار، والزنا موجب للعقوبة بنفسه ولا يمتنع ثبوت الحكم به إلى وجود الاحصان، كيف ولو وجد الاحصان بعد الزنا لا يثبت بوجوده حكم الرجم ؟ فعرفنا أنه غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عند وجوده، ولكنه يعرف بظهوره أن الزنا حين وجد كان موجبا للرجم فكان علامة، ولهذا لا يوجب الضمان على شهود الاحصان إذا رجعوا، بخلاف ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في المزكين لشهود الزنا إذا رجعوا بعد الرجم، فإن التزكية بمنزلة علة العلة (كما بينا) ولهذا يثبت الاحصان بعد الزنا بشهادة رجل وامرأتين عندنا خلافا لزفر، لانه لما كان معرفا ولم يكن الرجم مضافا إليه وجوبا ولا وجودا كانت هذه الحالة كغيرها من الاحوال في حكم الشهادة، فكما ثبت النكاح بشهادة رجل وامرأتين في غير هذه الحالة فكذلك في هذه الحالة.
فإن قيل: أنا أثبت النكاح بهذه الشهادة ولكن لا يثبت التمكن للامام من إقامة الرجم، لانه كما لا مدخل لشهادة النساء في إيجاب الرجم فلا مدخل لشهادتهن في إثبات التمكن من إقامة الرجم، بمنزلة ما لو كان الزاني عبدا مسلما لنصراني فشهد عليه نصرانيان أن مولاه كان أعتقه قبل الزنا، فإنه تثبت الحرية بهذه الشهادة ولا يثبت تمكن الامام من إقامة الرجم عليه، لانه كما لا مدخل لشهادة الكفار في إيجاب الرجم على المسلم فلا مدخل لشهادتهم
في إثبات التمكن من إقامة الرجم على المسلم.
قلنا: هذا ليس بصحيح، لان شهادة النساء دخلها الخصوص في المشهود به لا في المشهود عليه، والمشهود به
ليس يمس الرجم أصلا، وشهادة الكفار دخلها الخصوص في المشهود عليه لا في المشهود به فإن شهادتهم حجة في الحد على الكفار ولكنها ليست بحجة على المسلم، والاقامة عند الشهادة تكون على المسلم وهو حادث فلا تجعل شهادتهم فيه حجة، وهذا لان في الموضعين جميعا في الشهادة معنى تكثير محل الجناية من حيث الجناية على نعمة الحرية في أحد الموضعين وعلى نعمة إصابة الحلال بطريقه في الموضع الآخر وهو الاحصان.
ثم في تكثير محل الجناية يتضرر الجاني والجاني مسلم، وشهادة الكفار فيما يتضرر به المسلم لا تكون حجة أصلا، فأما شهادة النساء فيما يتضرر به الرجل تكون حجة، وإنما لا تكون حجة فيما تضاف إليه العقوبة وجوبا به أو جودا عنده، وذلك لا يوجد في هذه الشهادة أصلا.
وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا علق طلاقا أو عتاقا بولادة امرأة ولم يقر بأنها حبلى ثم شهدت القابلة على ولادتها، يثبت بها وقوع الطلاق والعتاق، لان هذا شرط بمنزلة العلامة من حيث إن الطلاق إنما يصير مضافا إلى نفس الولادة وجودا عندها، وأما ظهور الولادة فمعرف لا يضاف إليه الطلاق وجوبا به ولا وجودا عنده، والولادة تظهر بشهادة النساء في غير هذه الحالة حتى يثبت النسب بشهادة القابلة وحدها، فكذلك في هذه الحالة كما في مسألة الاحصان.
ولكن أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الولادة شرط محض من حيث إنه يمنع ثبوت علة الطلاق والعتاق حقيقة إلى وجوده ثم لا يكون الطلاق والعتاق من أحكام الولادة، وشهادة القابلة حجة ضرورية في الولادة لانه لا يطلع عليها الرجال، فإنما تكون حجة فيما هو من أحكام الولادة أو مما لا تنفك الولادة عنه خاصة، فأما في الطلاق والعتاق هذا الشرط كغيره من الشرائط.
وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد في المعتدة إذا جاءت بولد فشهدت القابلة على الولادة: يثبت النسب بشهادتها
وإن لم يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا إقرار من الزوج بالحبل، لان الولادة لثبوت النسب شرط بمنزلة العلامة، فإن بها يظهر ويعرف ما كان موجودا في الرحم قبل الولادة، وكان ثابت النسب من حين وجد، فلم يكن النسب مضافا إلى الولادة وجوبا بها ولا وجودا عندها، والولادة في غير هذه الحالة تثبت بشهادة القابلة وحدها، يعني إذا كان هناك فراش قائم أو حبل ظاهر أو إقرار من الزوج بالحبل، فكذلك في هذه الحالة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الولادة بمنزلة المعرف كما قالا ولكن في حق من يعرف الباطن، فأما في حقنا فالنسب مضاف إلى الولادة، لانا نبني الحكم على الظاهر ولا نعرف الباطن، فما كان باطنا يجعل في حقنا كالمعدوم إلى أن يظهر بالولادة، بمنزلة الخطاب النازل في حق من لم يعلم به، فإنه يجعل كالمعدوم ما لم يعلم به، وإذا صار النسب مضافا إلى الولادة من هذا الوجه لا تثبت الولادة في حقه إلا بما هو حجة لاثبات النسب، بخلاف ما إذا كان الفراش قائما، فالفراش المعلوم هناك مثبت للنسب قبل الولادة فكانت الولادة علامة معرفة، وكذلك إذا كان الحبل ظاهرا أو أقر الزوج بالحبل فقد كان السبب هناك ثابتا بظهور ما يثبته لنا قبل الولادة.
وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه: استهلال المولود في حكم الارث لا يثبت بشهادة القابلة وحدها، لان حياة الولد كان غيبا عنا وإنما يظهر عند استهلاله فيصير مضافا إليه في حقنا، والارث يبتنى عليه، فلا يثبت بشهادة القابلة كما لا يثبت حق الرد بالغيب بشهادة النساء في جارية اشتراها بشرط البكارة إذا شهدت أنها ثيب قبل القبض ولا بعده ولكن يستحلف البائع، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الاستهلال (معرف، فإن حياة الولد لا تكون مضافا إليه
وجوبا به ولا وجودا عنده، ونفس الاستهلال) في غير حالة التوريث يثبت بشهادة القابلة حتى يصلى على المولود، فكذلك في حالة التوريث.
فصل: في بيان تقسيم العلامة العلامة أنواع أربعة: علامة هي دلالة الوجود فيما كان موجودا قبله.
ومنه علم الثوب، ومنه علم العسكر، وهذا حد العلامة المحضة.
وعلامة هي بمعنى الشرط، وذلك الاحصان في حكم الرجم كما بينا.
وعلامة هي علة فقد بينا أن العلل الشرعية بمنزلة العلامات للاحكام، فإنها غير موجبة بذواتها شيئا بل بجعل الشرع إياها موجبة وعلامة تسمية ومجازا وهي علل الحقائق المعتبرة بذواتها على ما نبينها في موضعها.
وقد جعل الشافعي عجز القاذف عن إقامة أربعة من الشهداء علامة لبطلان شهادة القاذف لا شرطا حتى قال القذف مبطل شهادته قبل ظهور عجزه عن إقامة الشهود، ثم ظهور العجز يعرف لنا هذا الحكم فكان علامة، بخلاف الجلد فإنه فعل يقام على القاذف فكان العجز فيه شرطا، لان إقامة الحد يصير مضافا إليه وجودا عنده، فأما سقوط شهادته أمر حكمي فيثبت بنفس القذف لانه كبيرة، لما فيه من إشاعة الفاحشة وهتك ستر العفة على المسلم، فالاصل في الناس هو العفة عن الزنا، والتمسك بالاصل واجب حتى يتبين خلافه، وباعتبار هذا الاصل كان القذف كبيرة، فيكون بمنزلة سائر الكبائر في ثبوت سمة الفسق وسقوط الشهادة بنفسها.
ولكنا نقول: العجز عن إقامة أربعة من الشهداء شرط لاقامة الجلد ولابطال شهادة القاذف، والحكم المعلق بالشرط لا يكون ثابتا قبل وجود الشرط، وهذا لان كل واحد منهما فعل خوطب الامام بإقامته على القاذف وأحدهما معطوف على الآخر، كما قال تعالى: (فاجلدوهم
ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) ثم هذا العجز الذي هو شرط يثبت بما ثبت به العجز عن دفع سائر الحجج في إلزام الحكم بها، وذلك بأن يمهله على قدر ما يرى إلى آخر المجلس أو إلى المجلس الثاني، والذي قال القذف كبيرة قلنا: هذه الصفة للقذف غير ثابت بنفسه مستحقا شرعا بدليل أنه يتمكن من إثباته بالبينة وهو في نفسه خبر متميل بين الصدق
والكذب، وقد يتعين فيه معنى الحسبة إذا كان الزاني مصرا غير تائب، وللقاذف شهود يشهدون عليه بالزنا ليقام عليه الحد، وكيف يكون نفس القذف كبيرة وقد تتم به الحجة موجبا للرجم، فإن الشهود على الزنا قذفة في الحقيقة، ثم كانت شهادتهم حجة لايجاب الرجم، فعرفنا أن ما ادعاه الخصم من المعنى الذي يجعل به نفس القذف مسقطا للشهادة بحث لا يمكن تحقيقة، وبعدما ظهر عجزه عن إقامة الشهود إنما تسقط شهادته بسبب ظهور عجزه وهو من حيث الظاهر حتى إن بعد إقامة الحد عليه وبطلان شهادته لو أقام أربعة من الشهداء على زنا المقذوف فإن الشهادة تكون مقبولة حتى يقام الحد على المشهود عليه، ويصير القاذف مقبول الشهادة إن لم يتقادم العهد، وإن تقادم العهد يصير مقبول الشهادة أيضا وإن كان لا يقام الحد على المشهود عليه.
أورد ذلك في المنتقى رواية عن أبي يوسف أو محمد، هذا قول أحدهما، وفي قول الآخر لا تقبل الشهادة بعد إقامة الحد عليه، لان إقامة الحد على القاذف حكم يكذب الشهود في شهادتهم على المقذوف بالزنا، وكل شهادة جرى الحكم بتعين جهة الكذب فيها لا تكون مقبولة أصلا، كالفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعادها بعد التوبة، والله المجزي لمن اتقى وأحسن.
باب: أهلية الآدمي لوجوب الحقوق له وعليه وفي الامانة التي حملها الانسان قال رضي الله عنه: فهذه الاهلية نوعان: أهلية الوجوب، وأهلية الاداء فأما أهلية الوجوب وإن كان يدخل في فروعها تقسيم فأصلها واحد، وهو الصلاحية لحكم الوجوب، فمن كان فيه هذه الصلاحية كان أهلا للوجوب عليه، ومن لا فلا.
وأهلية الاداء نوعان: كامل، وقاصر.
فالكامل: ما يلحق به العهدة والتبعية.
والقاصر: ما لا يلحق به ذلك.
فنبدأ ببيان أهلية الوجوب.
فنقول: أصل هذه الاهلية لا يكون إلا بعد ذمة صالحة لكونها محلا للوجوب، فإن المحل هو الذمة، ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحال، ولهذا اختص به الآدمي دون سائر الحيوانات التي ليست لها ذمة صالحة.
ثم الذمة في اللغة هو: العهد، قال تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) وقال عليه السلام: وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم ومنه يقال أهل الذمة للمعاهدين، والمراد بهذا العهد ما أشار الله تعالى في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) والجنين ما دام مجننا في البطن ليست له ذمة صالحة، لكونه في حكم جزء من الام ولكنه منفرد بالحياة معد ليكون نفسا له ذمة، فباعتبار هذا الوجه يكون أهلا لوجوب الحق له من عتق أو إرث أو نسب أو وصية، ولاعتبار الوجه الاول لا يكون أهلا لوجوب الحق عليه، فأما بعدما يولد فله ذمة صالحة، ولهذا لو انقلب على مال إنسان فأتلفه كان ضامنا له، ويلزمه مهر امرأته بعقد الولي عليه، وهذه حقوق تثبت شرعا.
ثم بعد هذا زعم بعض مشايخنا أن باعتبار صلاحية الذمة يثبت وجوب حقوق الله
تعالى في حقه من حين يولد.
وإنما يسقط ما يسقط بعد ذلك بعذر الضمان لدفع الحرج.
قال: لان الوجوب بأسباب هي الوجوب شرعا وقد تقدم بيانها، وتلك الاسباب متقررة في حقه والمحل صالح للوجوب فيه فيثبت الوجوب باعتبار السبب والمحل، وهذا لان الوجوب خبر ليس للعبد فيه اختيار حتى يعتبر فيه عقله وتمييزه، بل هو ثابت عند وجود السبب علينا شرعا شئنا أو أبينا، قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) والمراد بالعنق الذمة، وإنما يعتبر تمييزه أو تمكنه من الاداء في وجوب الاداء، وذلك حكم وراء أصل الوجوب، ألا ترى أن النائم والمغمى عليه يثبت حكم وجوب الصلاة في حقهما بوجود النسب مع عدم التمييز والتمكن من الاداء للحال ثم يتأخر وجوب الاداء إلى الانتباه والافاقة، وهذا
لان الله تعالى لما خلق الانسان لحمل أمانته أكرمه بالعقل والذمة ليكون بها أهلا لوجوب حقوق الله تعالى عليه، ثم أثبت له العصمة والحرية والمالكية ليبقى فيتمكن من أداء ما حمل من الامانة، ثم هذه الحرية والعصمة والمالكية ثابتة للمرء من حين يولد، المميز وغير المميز فيه سواء، فكذلك الذمة الصالحة لوجوب الحقوق فيها ثابتا له من حين يولد يستوي فيه المميز وغير المميز، ثم كما يثبت الوجوب بوجود السبب شرعا في محله تثبت الحرمة، يعني الحرمة بالنسب والرضاع والمصاهرة، وتلك الحرمة تثبت في حق المميز وغير المميز لوجود السبب بعد صلاحية المحل وإن كان ذلك حكما شرعيا، فكذلك الوجوب، ثم وجوب الاداء بعد هذا يكون بالامر الثابت بالخطاب، وذلك لا يكون إلا بعد اعتدال الحال والعلم به، وقد بينا أن المطالبة بأداء الواجب غير أصل الوجوب، وهو تأويل الحديث المروي (رفع القلم عن ثلاث) فالمراد بالقلم الحساب، وذلك ينبني على وجوب الاداء (دون أصل الوجوب كما في الدين المؤجل إنما تكون
المحاسبة بعد وجوب الاداء) بمضي الاجل، وأصل الوجوب ثابت لوجود سببه.
وزعم بعض مشايخنا أن الوجوب لا يثبت إلا بعد اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل، لان الموجب هو الله تعالى لما خاطب به عباده من الامر والنهي، وحكم هذا الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به علما معتبرا في الالزام شرعا وذلك إنما يكون بعد اعتدال الحال.
ومن جعل السبب موجبا فقد أخلى صيغة الامر عن حكمه، لان حكم الامر المطلق الوجوب واللزوم، وإذا كان الوجوب ثابتا بالسبب قبل ثبوت الخطاب في حقه لم يبق للامر حكم، فيؤدي هذا إلى القول بأنه لا فائدة في أوامر الله تعالى ونواهيه، وأي قول أقبح من هذا ! ولانه لا يفهم من الوجوب شئ سوى وجوب الاداء وذلك لا يكون إلا بعد اعتدال الحال وهو حكم الامر بالاتفاق، فعرفنا أن الوجوب كذلك، فكانت الاسباب بمنزلة العلامات في حقنا لنعرف بظهورها الوجوب بحكم
الامر، وقد بينا أن الحكم غير مضاف إلى العلامة وجوبا ولا وجودا.
والدليل عليه أن الوجوب لفائدة راجعة إلى العباد، فإن الله يتعالى عن أن تلحقه المنافع والمضار، أي يوصف بالحاجة إلى إيجاب حق على عبده لنفسه، والفائدة للعباد ما يكون لهم به من الجزاء، وذلك لا يكون إلا بالاداء الذي يكون عن اختيار من العبد، فإثبات الوجوب بدون أهلية وجوب الاداء وبدون تصور الاداء يكون إثبات حكم شرعي هو خال من الفائدة والقول به لا يجوز.
قال رضي الله عنه: وكلا الطريقين عندي غير مرضي، لما في الطريق الاول من مجاوزة الحد في الغلو، وفي الطريق الثاني من مجاوزة الحد في التقصير، فإن القول بأنه لا عبرة للاسباب التي جعلها الشرع سببا لوجوب حقوقه على سبيل الابتلاء للعباد ولتعظيم بعض الاوقات أو الامكنة وتفضيلها على بعض
نوع تقصير، والقول بأن الوجوب ثابت بنفس السبب من غير اعتبار ما هو حكم الوجوب نوع غلو، ولكن الطريق الصحيح أن يقول بأن بعد وجوب السبب والمحل لا يثبت الوجوب إلا بوجود الصلاحية لما هو حكم الوجوب، لان الوجوب غير مراد ذمة لعينه بل لحكمه، فكما لا يثبت الوجوب إذا وجد السبب بدون نفس المحل فكذلك لا يثبت إذا وجد السبب والمحل بدون حكم، وهذا لان بدون الحكم لا يكون مفيدا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن فائدة الحكم في الدنيا تحقيق معنى الابتلاء، وفي الآخرة الجزاء وذلك باعتبار الحكم، ونعني بهذا الحكم وجوب الاداء ووجود الاداء عند مباشرة العبد عن اختيار حتى يظهر به المطيع من العاصي، فيتحقق الابتلاء المذكور في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وكذلك المجازاة في الآخرة ينبني على هذا كما قال تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون) وهذا لان الوجوب خبر لا اختيار فيه للعبد كما قالوا، وإنما ينال العبد الجزاء على ما له فيه اختيار، فتبين أن
الوجوب بدون حكمه غير مفيد، فلا يجوز القول بثبوته شرعا، ولهذا قلنا: إن قتل الاب ابنه لا يكون موجبا للقصاص، والسبب هو العمد المحض موجود والمحل موجود، ولكن لانعدام فائدة الوجوب وهو التمكن من الاستيفاء فإن الولد لا يكون متمكنا من أن يقصد قتل أبيه شرعا بحال.
قلنا: لا يثبت الوجوب أصلا، وهذا أعدل الطرق، ففيه اعتبار السبب في ثبوت الوجوب به إذا كان موجبا حكمه وقد جعله الشرع كذلك، وفيه اعتبار الامر لاثبات ما هو حكم الوجوب به وهو لزوم الاداء أو إسقاط الواجب به عن نفسه.
ومن تأمل صيغة الاوامر ظهر له أن موجبها ما قلنا، فإنه قال: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) والاقامة والايتاء هو إسقاط الواجب بالاداء.
وكذلك قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وقوله تعالى: (وأتموا الحج) فإن مباشرة فعل الصوم وإتمام الحج يكون إسقاط الواجب والامر لالزام ذلك.
ثم على هذا الطريق يتبين التقسيم في الحقوق، فنقول: أما حقوق العباد فما يكون فيه غرما أو عوضا كالثمن في البيع فالوجوب ثابت في حق الصبي الذي لا يعقل لوجود سببه وثبوت حكمه وهو وجوب الاداء بوليه الذي هو نائب عنه، لان المقصود المال هنا دون الفعل، فإن المراد به رفع الخسران بما يكون جبرانا له أو حصول الربح وذلك بالمال يكون، وأداء وليه كأدائه في حصول هذا المقصود به.
وما كان منه صلة له شبه المؤونة كنفقة الزوجات والاقارب فوجوبه ثابت في حقه عند وجود سببه، لان في حق نفقة الزوجات معنى العوضية، وفي نفقة الاقارب معنى مؤونة اليسار، والمقصود إزالة حاجة المنفق عليه بوصول كفايته إليه وذلك بالمال يكون، وأداء الولي فيه كأدائه، فعرفنا أن الوجوب فيه غير خال عن الحكمة
وما يكون صلة له شبه الجزاء لا يثبت وجوبه في حقه أصلا، وذلك كتحمل العقل فإنه صلة ولكنها شبه الجزاء على ترك حفظ السفيه والاخذ على يد الظالم، ولهذا يختص برجال العشيرة الذين هم من أهل هذا الحفظ دون النساء فلا يثبت ذلك في حق الصبي أصلا.
وكذلك ما يكون جزاء بطريق العقوبة كالقتل لاجل الردة بطريق الغرامة كالعقل لا يثبت وجوبه في حقه أصلا لانعدام ما هو حكم الوجوب في حقه.
فأما في حقوق الله تعالى فنقول: وجوب الايمان بالله تعالى في حق الصبي الذي لا يعقل لا يمكن القول به لانعدام الاهلية لحكم الوجوب وذلك الاداء وجوبا أو وجودا في حقه، فما كان القول
بالوجوب هنا إلا نظير القول بالوجوب باعتبار السبب بدون المحل كما في حق البهائم وذلك لا يجوز القول به.
وكذلك العبادات المحضة، البدني والمالي في ذلك سواء، لان حكم الوجوب لا يثبت في حقه بحال فلا يثبت الوجوب، وبيانه أن الوجوب أفعال يتحقق في مباشرتها معنى الابتلاء وتعظيم حق الله تعالى، ولا تصور لذلك من الصبي الذي لا يعقل بنفسه، ولا يحصل ذلك بأداء وليه، لان ثبوت الولاية عليه يكون جبرا بغير اختياره وبمثله لا يصير هو متقربا حقيقة ولا حكما، فلو جعلنا أداء الوالي كأدائه فيما هو مالي كان يتبين به أن المقصود هو المال لا الفعل، وذلك مما لا يجوز القول به، فلهذا لا يثبت في حقه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، يقرره أنه لو كان الوجوب ثابتا ثم سقوط الحكم لدفع الحرج بعذر الصبي لكان ينبغي أن يقال: إذا أنفق الاداء منه كان مؤديا للواجب كصوم الشهر في حق المريض والمسافر والجمعة في حق المسافر، إنه إذا أدى كان موديا للواجب وبالاتفاق لا يكون هو مؤديا للواجب، وإن تصور منه ما هو ركن هذه العبارات، فعرفنا أن الوجوب غير ثابت أصلا.
وكذلك قال محمد رضي الله عنه في صدقة الفطر لرجحان معنى العبادة والقربة فيها.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: فيها معنى المؤونة فيثبت الوجوب
كخبر الفاسق الواحد.
ولفظ الكتاب مشتبه فإنه قال حتى يخبره رجلان أو رجل عدل فقيل: معناه: رجلان أو رجل عدل لان صيغة هذا النعت للفرد والجماعة واحد، ألا ترى أنه يقال: شاهدا عدل.
ومن اعتمد القول الاول قال اشتراط زيادة العدد للتوكيد هنا بمنزلة اشتراط العدد في إخبار العدول في الشهادات فإنها للتوكيد، واستدل عليه بما قال في الاستحسان: لو أخبر أحد المخبرين بطهارة الماء والآخر
بنجاسته وأحدهما عدل والآخر غير عدل فإنه يعتمد خبر العدل منهما.
ولو كان في أحد الجانبين مخبران وفي الجانب الآخر واحد واستووا في صفة العدالة فإنه يأخذ بقول الاثنين.
وكذلك في الجرح والتعديل كما يرجح خبر العدل على خبر غير العدل يترجح خبر المثنى من العدول على خبر الواحد، فعرفنا أن في زيادة العدد معنى التوكيد.
والذي أسلم في دار الحرب إذا لم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان لم يلزمه القضاء، فإن أخبره بذلك فاسق فقد قال مشايخنا هو على الخلاف أيضا: عند أبي حنيفة لا يعتبر هذا الخبر في إيجاب القضاء عليه، وعندهما يعتبر.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه يعتبر الخبر هنا في إيجاب القضاء عندهم جميعا لان هذا المخبر نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور من جهته بالتبليغ كما قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب فهو بمنزلة رسول المالك إلى عبده، ثم هو غير متكلف في هذا الخبر ولكنه مسقط عن نفسه ما لزمه من الامر بالمعروف فلهذا يعتبر خبره.
فصل: في أقسام الرواة الذين يكون خبرهم حجة قال رضي الله عنه: اعلم بأن الرواة قسمان: معروف، ومجهول.
فالمعروف نوعان: من كان معروفا بالفقه والرأي في الاجتهاد، ومن كان معروفا بالعدالة وحسن الضبط والحفظ ولكنه قليل الفقه.
فالنوع الاول كالخلفاء الراشدين والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبي موسى الاشعري وعائشة وغيرهم من المشهورين بالفقه من الصحابة رضي الله عنهم، وخبرهم حجة موجبة
للعلم الذي هو غالب الرأي، ويبتني عليه وجوب العمل، سواء كان الخبر موافقا للقياس أو مخالفا له، فإن كان موافقا للقياس تأيد به، وإن كان مخالفا للقياس يترك القياس ويعمل بالخبر.
وكان مالك بن أنس يقول يقدم القياس على خبر الواحد في العمل به،
لان القياس حجة بإجماع السلف من الصحابة، ودليل الكتاب والسنة والاجماع أقوى من خبر الواحد فكذلك ما يكون ثابتا بالاجماع.
ولكنا نقول: ترك القياس بالخبر الواحد في العمل به أمر مشهور في الصحابة ومن بعدهم من السلف لا يمكن إنكاره حتى يسمون ذلك معدولا به عن القياس، وعليه دل حديث عمر رضي الله عنه، فإن حمل ابن مالك رضي الله عنه حين روي له حديث الغرة في الجنين قال: كدنا أن نقضي فيه برأينا فيما فيه قضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به.
وفي رواية: لولا ما رويت لرؤينا خلاف ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهى عن كراء المزارع فتركناه لاجل قوله، ولان قول الرسول صلى الله عليه وسلم موجب للعلم باعتبار أصله وإنما الشبهة في النقل عنه.
فأما الوصف الذي به القياس فالشبهة والاحتمال في أصله لانا لا نعلم يقينا أن ثبوت الحكم المنصوص باعتبار هذا الوصف من بين سائر الاوصاف، وما يكون الشبهة في أصله دون ما تكون الشبهة في طريقه بعد التيقن بأصله، يوضحه أن الشبهة هنا باعتبار توهم الغلط والنسيان في الراوي وذلك عارض، وهناك باعتبار التردد بين هذا الوصف وسائر الاوصاف وهو أصل، ثم الوصف الذي هو معنى من المنصوص كالخبر والرأي، والنظر فيه كالسماع، والقياس كالعمل به، ولا شك أن الوصف ساكت عن البيان والخبر بيان في نفسه فيكون الخبر أقوى من الوصف في الابانة، والسماع أقوى من الرأي في الاصابة، ولا يجوز ترك القوي بالضعيف.
فأما المعروف بالعدالة والضبط والحفظ كأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما وغيرهما ممن اشتهر بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسماع منه مدة
في حقه وإن عقل ما لم يعتدل حاله بالبلوغ، فإن باعتبار عقله يصحح الاداء منه
وصحة الاداء تستدعي كون الحكم مشروعا ولا تستدعي كونه واجب الاداء، فعرفنا بهذا أن حكم الوجوب وهو وجوب الاداء معدوم في حقه (وقد بينا أن الوجوب لا يثبت باعتبار السبب والمحل بدون حكم الوجوب) إلا أنه إذا أدى يكون المؤدي فرضا، لان بوجود الاداء صار ما هو حكم الوجوب موجودا بمقتضى الاداء (وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام الحكم فإذا صار موجودا بمقتضى الاداء) كان المؤدى فرضا، بمنزلة العبد فإن وجوب الجمعة في حقه غير ثابت، حتى إنه إن أذن له المولى أو حضر الجامع مع المولى كان به أن لا يؤدي، ولكن إذا أدى كان المؤدى فرضا، لان ما هو حكم الوجوب صار موجودا بمقتضى الاداء، وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام حكمه.
وكذلك المسافر إذا أدى الجمعة كان مؤديا للغرض مع أن وجوب الجمعة لم يكن ثابتا في حقه قبل الاداء بالطريق الذي ذكرنا، والله أعلم.
فصل: في بيان أهلية الاداء قال رضي الله عنه: هذه الاهلية نوعان: قاصرة وكاملة فالقاصرة باعتبار قوة البدن، وذلك ما يكون للصبي المميز قبل أن يبلغ، أو المعتوه بعد البلوغ فإنه بمنزلة الصبي من حيث إن له أصل العقل وقوة العمل بالبدن وليس له صفة الكمال في ذلك حقيقة ولا حكما.
والكاملة تبتنى على قدرتين: قدرة فهم الخطاب وذلك يكون بالعقل، وقدرة العمل به وذلك بالبدن.
ثم يبتنى على الاهلية القاصرة صحة الاداء، وعلى الكاملة وجوب الاداء وتوجه الخطاب به، لان الله تعالى قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقبل التمييز والتمكن من الاداء لا وجه لاثبات التكليف بالاداء، لانه تكليف ما لا يطاق وقد نفى الله تعالى ذلك بهذه الآية، ولا تصور للاداء على الوجه المشروع وهو
أن يكون على قصد التقرب إلى الله تعالى، وبعد وجود أصل العقل والتمكن من الاداء قبل كماله في إلزام الاداء حرج، قال الله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) وقال تعالى (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) وفي إلزام خطاب الاداء قبل إكمال العقل من معنى الاضرار والحرج ما لا يخفى.
ثم أصل العقل يعرف بالعيان، وذلك نحو أن يختار المرء في أمر دنياه وأخراه ما يكون أنفع لديه ويعرف به مستوى عاقبة الامر فيما يأتيه ويذره، ونقصانه يعرف بالتجربة والامتحان، وبعد الترقي عن درجة النقصان ظاهرا تتفاوت أحوال البشر في صفة الكمال فيه على وجه يتعذر الوقوف عليه، فأقام الشرع اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل مقام كمال العقل حقيقة في بناء إلزام الخطاب عليه تيسيرا عل العباد، ثم صار صفة الكمال الذي يتوهم وجوده قبل هذا الحد ساقط الاعتبار، وبقاء توهم النقصان بعد هذا الحد كذلك، على ما بينا أن السبب الظاهر متى قام مقام المعنى الباطن للتيسير دار الحكم معه وجودا وعدما وأيد هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم : (رفم القلم عن ثلاث) والمراد بالقلم الحساب، والحساب إنما يكون بعد لزوم الاداء، فدل أن ذلك لا يثبت إلا بالاهلية الكاملة، وهو اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل.
وعلى هذا قلنا: ما يكون من حقوق الله تعالى فهو صحيح الاداء عند وجود الاهلية القاصرة.
وذلك أنواع: فمنها ما يكون صفة الحسن متعينا فيه على وجه لا يحتمل غيره، وصفة كونه مشروعا متعين فيه على وجه لا يحتمل أن لا يكون مشروعا بحال، وذلك نحو الايمان بالله تعالى، فإنه صحيح من الصبي العاقل في أحكام الدنيا والآخرة جميعا لوجود حقيقته بعد وجود الاهلية للاداء، فإن حقيقته يكون بالتصديق بالقلب والاقرار باللسان، ومن رجع إلى نفسه علم أنه في مثل هذه الحالة
كان يعتقد وحدانية الله تعالى بقلبه، والاقرار منه مسموع لا يشك فيه ولا في كونه صادقا فيما يقر به، والحكم بوجود الشئ يبتنى على وجود حقيقته،
قال فيمن وطئ جارية امرأته: فإن طاوعته فهي له وعليه مثلها، وإن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها فإن القياس الصحيح يرد هذا الحديث ويتبين أنه كالمخالف للكتاب والسنة المشهورة والاجماع.
ثم هذا النوع من القصور لا يتوهم في الراوي إذا كان فقيها لان ذلك لا يخفى عليه لقوة فقهه، فالظاهر أنه إنما روى الحديث بالمعنى عن بصيرة فإنه علم سماعه (من رسول الله كذلك مخالفا للقياس ولا تهمة في روايته فكأنما سمعنا ذلك) من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزمنا ترك كل قياس بمقابلته، ولهذا قلت رواية الكبار من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ألا ترى إلى ما روي عن عمرو بن ميمون قال صحبت ابن مسعود سنين فما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة، فإنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذه البهر والفرق وجعلت فرائصه ترتعد فقال نحو هذا أو قريبا منه أو كلاما هذا معناه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا.
فبهذا يتبين أن الوقوف على ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من معاني كلامه كان عظيما عندهم فلهذا قلت رواية الفقهاء منهم، فإذا صحت الرواية عنهم فهو متقدم على القياس.
ومع هذا كله فالكبار من أصحابنا يعظمون رواية هذا النوع منهم ويعتمدون قولهم، فإن محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أخذ بقول أنس بن مالك رضي الله عنه في مقدار الحيض وغيره، وكان درجة أبي هريرة فوق درجته، فعرفنا بهذا أنهم ما تركوا العمل بروايتهم إلا عند الضرورة لانسداد باب الرأي من الوجه الذي قررنا.
فأما المجهول فإنما نعني بهذا اللفظ من لم يشتهر بطول الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما عرف بما روي من حديث أو حديثين، نحو وابصة بن معبد،
وسلمة بن المحبق، ومعقل بن سنان الاشجعي رضي الله عنهم وغيرهم.
ورواية هذا النوع على خمسة أوجه: أحدها أن يشتهر لقبول الفقهاء روايته والرواية عنه، والثاني أن يسكتوا عن الطعن فيه بعدما يشتهر، والثالث أن يختلفوا في الطعن في روايته، والرابع أن يطعنوا في روايته من غير خلاف بينهم في ذلك، والخامس أن لا تظهر روايته ولا الطعن فيه فيما بينهم.
أما من قبل السلف منه روايته وجوزوا النقل عنه
فهو بمنزلة المشهورين في الرواية، لانهم ما كانوا متهمين بالتقصير في أمر الدين، وما كانوا يقبلون الحديث حتى يصح عندهم أنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وحسن ضبطه، أو لانه موافق لما عندهم مما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعض المشهورين يروى عنه.
وكذلك إن سكتوا عن الرد بعد ما اشتهر روايته عندهم، لان السكوت بعد تحقق الحاجة لا يحل إلا على وجه الرضا بالمسموع، فكان سكوتهم عن الرد دليل التقرير، بمنزلة ما لو قبلوه وردوا عنه.
وكذلك ما اختلفوا في قبوله وروايته عنه عندنا، لانه حين قبله بعض الفقهاء المشهورين منهم فكأنما روى ذلك بنفسه.
وبيان هذا في حديث معقل بن سنان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لبروع بنت واشق الاشجعية بمهر مثلها حين مات عنها زوجها ولم يسم لها صداقا فإن ابن مسعود رضي الله عنه قبل روايته وسر به لما وافق قضاءه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي رضي الله عنه رده فقال: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه حسبها الميراث لا مهر لها.
فلما اختلفوا فيه في الصدر الاول أخذنا بروايته، لان الفقهاء من القرن الثاني كعلقمة ومسروق والحسن ونافع بن جبير قبلوا روايته فصار معدلا بقبول الفقهاء روايته.
وكذلك أبو الجراح صاحب راية الاشجعيين صدقه في هذه الرواية.
وكأن عليا رضي الله عنه إنما لم يقبل روايته لانه كان مخالفا للقياس عنده، وابن مسعود
رضي الله عنه قبل روايته لانه كان موافقا للقياس عنده.
فتبين بهذا أن رواية مثل هذا فيما يوافق القياس يكون مقبولا ثم العمل يكون بالرواية.
وأما إذا ردوا عليه روايته ولم يختلفوا في ذلك فإنه لا يجوز العمل بروايته، لانهم كانوا لا يتهمون برد الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بترك العمل به وترجيح الرأي بخلافه عليه، فاتفاقهم على الرد دليل على أنهم كذبوه في هذه الرواية وعلموا أن ذلك وهم منه.
ولو قال الراوي أوهمت لم يعمل بروايته، فإذا ظهر دليل ذلك ممن هو فوقه أولى.
وبيان هذا في حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر رضي الله عنه قال: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت.
قال عيسى
يسترق والاسترقاق عقوبة على وجه الجزاء على الكفر، فإن الكفار حين أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم على ذلك فجعلهم عبيد عبيده، وفي الاسترقاق إتلاف حكمي بطريق الجزاء لم يثبت استحقاقه، فكيف لا يثبت استحقاق الاتلاف الحقيقي إذا صحت ردته شرعا ؟ قلنا: أما الضرب إذا أساء الادب فهو تأديب للرياضة في المستقبل وليس بجزاء على الفعل الماضي منه بطريق العقوبة، بمنزلة ضرب الدواب للتأديب، وقد ورد الشرع به فقال: (تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار) وأما الاسترقاق فليس بطريق الجزاء ولكن ما كان مباحا غير معصوم وهو محل التملك كالصيود، وذراري أهل الحرب بهذه الصفة.
فإن قيل: فقد قلتم العصمة للآدمي أصل ثم زوال هذه العصمة الثابتة كرامة تكون بطريق الجزاء قلنا: لا كذلك ولكن زوال هذه العصمة كزوال صفة الصحة التي هي نعمة بالمرض، وصفة الحياة بالموت وصفة الغنى بملك المال بالفقر بهلاك المال، وأحد لا يقول إن ذلك جزاء بطريق العقوبة.
فأما ما يتردد من حقوق الله تعالى ويحتمل أن لا يكون مشروعا في بعض الاوقات
أو لا يكون حسنا في بعض الاوقات فإنه يثبت حكم صحة الاداء فيه قبل البلوغ باعتبار الاهلية القاصرة، ولا يثبت وجوب الاداء المالي والبدني فيه سواء كالصلاة والصوم والزكاة والحج عندنا، فإن في وجوب الاداء قبل اعتدال الحال إلزام العهدة وفي صحة الاداء فيما كان منه بدنيا محض المنفعة، لانه يعتاد أداءها فلا يشق ذلك عليه بعد البلوغ، ولهذا صح منه التنفل بجنس هذه العبادات بعد أداء ما هو مشروع بصفة الفرضية في حق البالغين، وما كان منه ماليا ففي صحة الاداء منه إضرار به في العاجل باعتبار نقصان ملكه فيبتنى ذلك على الاهلية الكاملة، ثم ليس من ضرورة صحة أداء البدني اللزوم، فإن من شرع في صوم أو صلاة على ظن أنها عليه ثم تبين أنها ليست عليه يصح منه الاتمام مع انعدام صفة اللزوم حتى إذا فسد لا يجب القضاء، وفي الحج إذا شرع بالظن ثم تبين أنه ليس عليه تنعدم صفة اللزوم حتى إذا أحصر فتحلل لم يلزمه القضاء ويصح الاتمام منه بعد انتفاء صفة اللزوم.
والخصم
يفرق بين المالي والبدني في هذا النوع باعتبار أن المالي يقبل النيابة في الاداء فيتوجه الخطاب بالاداء في حقه على أن ينوب الولي عنه في الاداء، والبدني لا يحتمل هذه النيابة، فلو توجه عليه الخطاب به لحقه العهدة بسببه فربما يعجز عن الاداء لصغره، ثم يتضاعف عليه وجوب الاداء بعد البلوغ فيلحقه الحرج، فلدفع الحرج قلنا لا يثبت في حقه خطاب الاداء فيما هو بدني، وهذا لا معنى له، لان الواجب في الموضعين الفعل، فالاقامة والايتاء كل واحد منهما فعل، وقد بينا أن هذا الفعل لازم بطريق القربة وذلك لا يتحقق بأداء الولي، إذ الولاية ثابتة عليه شرعا بغير اختياره، وبمثل هذه الولاية لا تتأدى العبادة.
ثم هو لا يلزمه الخطاب بالايمان كما هو مذهبنا، ولو كان المعنى فيه الحرج الذي يلحقه بتضاعف الاداء بعد البلوغ لكان الخطاب بالايمان يثبت في حقه لانه بدني، ولا يتضاعف وجوب الاداء
عليه بعد البلوغ لتوجه الخطاب في حالة الصغر، بل ينبني عليه صحة الاداء فرضا على مذهبه، وقد جوز مثل هذا في العبادات البدنية لتوفير المنفعة عليه حتى قال: إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره فإن المؤدى يجوز عن الفرض، لان سقوط الخطاب لمعنى النظر، ومعنى النظر هنا في توجه الخطاب عليه في أول الوقت حتى لا تلزمه الاعادة.
وكذلك قال: إذا أحرم بالحج ثم بلغ قبل الوقوف فإن حجه يكون عن الفرض، لان معنى النظر هنا في إلزام الخطاب إياه سابقا على الاحرام، فكان ينبغي أن يقول مثل هذا في الايمان.
ونحن أثبتنا هذا في الصلاة والاحرام، لان توجه الخطاب لما كان لا يثبت إلا بعد البلوغ مقصورا عليه فالمؤدي قبله إذا كان بحيث يتردد بين الفرض والنفل لا يمكن أن يجعل فرضا بحال، أرأيت لو صلى رجل بعد زوال الشمس أربع ركعات قبل نزول فرضية الظهر ثم نزلت فرضية الظهر قبل مضي الوقت أكان ذلك جائزا عن فرضه ؟ هذا شئ لا يقول به أحد.
وعلى هذا قلنا: إحرامه صحيح باعتبار الاهلية القاصرة ولكن لا تلزمه الكفارات بارتكاب المحظورات،
الكذب محظور عقله فنستدل بانزجاره عن سائر ما نعتقده محظورا على انزجاره عن الكذب الذي نعتقده محظورا، أو لما كان منزجرا عن الكذب في أمور الدنيا فذلك دليل انزجاره عن الكذب في أمور الدين وأحكام الشرع بالطريق الاولى، فأما إذا لم يكن عدلا في تعاطيه فاعتبار جانب تعاطيه يرجح معنى الكذب في خبره، لانه لما لم يبال من ارتكاب سائر المحظورات مع اعتقاده حرمته فالظاهر أنه لا يبالي من الكذب مع اعتقاده حرمته، واعتبار جانب اعتقاده يدل على الصدق في خبره فتقع المعارضة ويجب التوقف، وإذا كان ترجيح جانب الصدق باعتبار عدالته وبه يصير الخبر
حجة للعمل شرعا، فعرفنا أن العدالة في الراوي شرط لكون خبره حجة.
فأما اشتراط الاسلام: لانتفاء تهمة الكذب لا باعتبار نقصان حال المخبر بل باعتبار زيادة شئ فيه يدل على كذبه في خبره، وذلك لان الكلام في الاخبار التي يثبت بها أحكام الشرع، وهم يعادوننا في أصل الدين بغير حق على وجه هو نهاية في العداوة فيحملهم ذلك على السعي في هدم أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه، وإليه أشار الله تعالى في قوله: (لا يألونكم خبالا) : أي لا يقصرون في الافساد عليكم، وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان، فإنهم كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته من كتابه بعدما أخذ عليهم الميثاق بإظهار ذلك فلا يؤمنون من أن يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية، بل هذا هو الظاهر، فلاجل هذا شرطنا الاسلام في الراوي لكون خبره حجة، ولهذا لم نجوز شهادتهم على المسلمين، لان العداوة ربما تحملهم على القصد للاضرار بالمسلمين بشهادة الزور، كما لا تقبل شهادة ذي الضغن لظهور عداوته بسبب الباطن، وقبلنا شهادة بعضهم على بعض لانعدام هذا المعنى الباعث على الكذب فيما بينهم.
وبهذا تبين أن رد خبره ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في خبره، بمنزلة شهادة الاب للولد فإنها لا تكون مقبولة لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته وهو شفقة الابوة وميله إلى ولده طبعا.
وأما بيان حد هذه الشروط وتفسيرها فنقول: العقل نور في الصدر به يبصر
القلب عند النظر في الحجج بمنزلة السراج، فإنه نور تبصر العين به عند النظر فترى ما يدرك بالحواس لا أن السراج يوجب رؤية ذلك ولكنه يدل العين عند النظر عليه، فكذلك نور الصدر الذي هو العقل يدل القلب على معرفة ما هو غائب عن الحواس من غير أن يكون موجبا لذلك، بل القلب يدرك (بالعقل) ذلك بتوفيق الله تعالى،
وهو في الحاصل عبارة عن الاختيار الذي يبتنى عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة، ولهذا لا يعتبر من البهائم لخلوه عن هذا المعنى، والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الانسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة، وهذا لان العقل لا يكون موجودا في الآدمي باعتبار أصله ولكنه خلق من خلق الله تعالى يحدث شيئا فشيئا، ثم يتعذر الوقوف على وجود كل جزء منه بحسب ما يمضي من الزمان على الصبي إلى أن يبلغ صفة الكمال، فجعل الشرع الحد لمعرفة كمال العقل هو البلوغ تيسيرا للامر علينا، لان اعتدال الحال عند ذلك يكون عادة والله تعالى هو العالم حقيقة بما يحدثه من ذلك في كل أحد من عباده من نقصان أو كمال، ولكن لا طريق لنا إلى الوقوف على حد ذلك، فقام السبب الظاهر في حقنا مقام المطلوب حقيقة تيسيرا، وهو البلوغ مع انعدام الآفة، ثم يسقط اعتبار ما يوجد من العقل للصبي قبل هذا الحد شرعا لدفع الضرر عنه لا للاضرار به، فإن الصبا سبب للنظر له، ولهذا لم يعتبر فيما يتردد بين المنفعة والمضرة ويعتبر فيما يتمخض منفعة له.
ثم خبره في أحكام الشرع لا يكون حجة للالزام دفعا لضرر العهدة عنه كما لا يجعل وليا في تصرفاته في أمور الدنيا دفعا لضرر العهدة عنه، ولهذا صح سماعه وتحمله للشهادة قبل البلوغ إذا كان مميزا، فقد كان في الصحابة من سمع في حالة الصغر وروي بعد البلوغ وكانت روايته مقبولة، لانه ليس في ذلك من معنى ضرر لزوم العهدة شئ، وإنما يكون ذلك في الاداء، فيشترط لصحة أدائه على وجه يكون حجة كونه عاقلا مطلقا، ولا يحصل ذلك إلا
استحق الرضخ، لان ذلك محض منفعة يثبت بالاهلية القاصرة كالاحتطاب
والاحتشاش، وينبغي أن يكون هذا على أصل الخصم أيضا، فإنه يقول: كل منفعة من هذا الجنس يصلح له بوليه فإنه لا يكون أهلا لتحصيل ذلك لنفسه بنفسه، وما لا يحصل له بوليه يكون هو أهلا لتحصيله ذلك لنفسه.
وفي قبول الهبة والصدقة له قولان: في أحدهما لا يصح ذلك منه بنفسه ويصح من الولي ذلك في حقه، وفي القول الآخر على عكس هذا.
ثم استحقاق الرضخ بسبب القتال محض منفعة لا يمكن تحصيله له من قبل الولي بمباشرته سببه فينبغي أن يجعل هو أهلا لتحصيله لنفسه بمباشرته سببه.
فأما ما هو ضرر محض فنحو إبطال الملك في الطلاق والعتاق، ونقل الملك بالهبة والصدقة، فإنه محض ضرر في العاجل لا يشوبه منفعة، ولهذا ينبني صحته شرعا على الاهلية الكاملة فلا يثبت بالاهلية القاصرة حتى لا يملكه الصبي بنفسه ولا بواسطة الولي إذا باشر ذلك في حقه.
وزعم بعض مشايخنا أن هذا الحكم غير مشروع في حق الصبي أصلا حتى إن امرأته لا تكون محلا للطلاق.
قال رضي الله عنه: وهذا عندي وهم، فإن الطلاق يملك بملك النكاح إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك وإنما الضرر في الايقاع، حتى إذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا، وبهذا يتبين فساد قول من يقول: إنا لو أثبتنا ملك الطلاق في حقه كان خاليا عن حكمه وهو ولاية الايقاع، والسبب الخالي عن حكمه غير معتبر شرعا كبيع الحر وطلاق البهيمة، فإن الحكم ثابت في حقه عند الحاجة حتى إذا أسلمت امرأته وعرض عليه الاسلام فأبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، وإذا ارتد وقعت الفرقة بينه وبين امرأته وكان طلاقا في قول محمد، وإذا وجدته امرأته مجبوبا فخاصمت في ذلك فرق بينهما.
ولم يبين في الجامع أن هذه الفرقة
تكون بطلاق أم لا.
وقال بعض مشايخنا إنها تكون بطلاق اكتفاء
بالاهلية القاصرة عند تحقق الحاجة إلى دفع الضرر عنها.
وقال بعضهم: هذه تكون بغير طلاق، لان الصبي المميز والرضيع الذي لا يعقل في هذا الحكم سواء، وينعدم في حق الرضيع الاهلية القاصرة والكاملة جميعا.
وإذا كاتب الاب أو الوصي نصيب الصغير من عبد مشترك بينه وبين غيره واستوفى بدل الكتابة صار الصبي معتقا بنصيبه حتى يضمن قيمة نصيب شريكه إن كان موسرا، وهذا الضمان لا يجب إلا بالاعتاق فيكفي بالاهلية القاصرة في جعله معتقا للحاجة إلى دفع الضرر عن الشريك، فعرفنا أن الحكم ثابت في حقه عند الحاجة، فأما بدون الحاجة لا يجعل ثابتا، لان الاكتفاء بالاهلية القاصرة لتوفير المنفعة على الصبي وهذا المعنى لا يتحقق فيما هو ضرر محض.
فأما ما يتردد بين المنفعة والضرر فنحو المعاوضات كالبيع والشراء والنكاح، وهذا ثابت في حق الصبي عند مباشرة الولي أو عند المباشرة بإذن الولي، لان معنى توفير المنفعة فيه متوهم، وكذلك معنى الضرر ولا يندفع معنى الضرر إلا بالرأي الكامل وذلك يحصل عند مباشرة الولي أو عند مباشرة الصبي بعد استطلاع رأي الولي، فإذا اندفع توهم الضرر التحق بما تتمخض فيه المنفعة فيكون للصبي فيه عبارة صحيحة بالاهلية القاصرة، وهذا لان بهذه الاهلية اعتبرت عبارته في تصحيح التصرف شرعا في حق الغير فلان يعتبر في حق نفسه كان أولى.
والمعنى فيه ما بينا أن في تصحيح عبارته نوع منفعة لا تحصل له تلك المنفعة بمباشرة الولي، ثم فيه فتح طريق يحصل المقصود عليه من وجهين: أحدهما بمباشرته بنفسه، والآخر بمباشرة الولي فيكون ذلك أنفع منه إذا كان الطريق واحدا، وقد بينا أن بالاهلية القاصرة يثبت ما فيه توفير
المنفعة عليه.
ثم على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لما صار الرأي القاصر في حقه مجبورا بانضمام رأي الولي إليه التحقق بالبالغ حتى نفذ تصرفه بالغبن الفاحش مع الاجانب كما ينفذ من البالغ، ولما اندفع معنى توهم الضرر برأي الولي جعل بمنزلة ما لو اندفع ذلك برأيه الكامل بعد البلوغ فينفذ تصرفه بالغبن الفاحش
والمقصود ما في باطن الكتاب لا عين الكتاب فلا يتم ضبطه إلا بمعرفة ذلك، ولهذا استحب المتقدمون من السلف تقليل الرواية، ومن كان أكرمهم وأدوم صحبة وهو الصديق رضي الله عنه كان أقلم رواية، حتى روي عنه أنه قال: إذا سئلتم عن شئ فلا ترووا ولكن ردوا الناس إلى كتاب الله تعالى.
وقال عمر رضي الله عنه: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.
ولما قيل ل زيد بن أرقم ألا تروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: قد كبرنا ونسينا والرواية عن رسول الله شديد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات ! فقد جمع أهل الحديث في هذا الباب آثارا كثيرة ولاجلها قلت رواية أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال بعض الطاعنين إنه كان لا يعرف الحديث.
ولم يكن على ما ظن، بل كان أعلم أهل عصره بالحديث، ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلت روايته.
وبيان هذا أن الانسان قد ينتهي إلى مجلس وقد مضى صدر من الكلام فيخفى على المتكلم حاله لتوقفه على ما مضى من كلامه مما يكون بعده بناء عليه، فقلما يتم ضبط هذا السامع لمعنى ما يسمع بعدما فاته أول الكلام، ولا يجد في تأمل ذلك أيضا، لانه لا يرى نفسه أهلا بأن يؤخذ الدين عنه، ثم يكون من قضاء الله تعالى أن يصير صدرا يرجع إليه في معرفة أحكام الدين، فإذا لم يتم ضبطه في الابتداء لم ينبغ له أن يجازف في الرواية، وإنما ينبغي أن يشتغل بما وجد منه الجهد التام في ضبطه فيستدل بكثرة
الرواية ممكن كان حاله في الابتداء بهذه الصفة على قلة المبالاة، ولهذا ذم السلف الصالح كثرة الرواية، وهذا معنى معتبر في الروايات والشهادات جميعا، ألا ترى أن من اشتهر في الناس بخصلة دالة على قلة المبالات من قضاء الحاجة بمرأى العين من الناس أو الاكل في الاسواق يتوقف في شهادته.
فهذا بيان تفسير الضبط.
وأما العدالة: فهي الاستقامة.
يقال: فلان عادل إذا كان مستقيم السيرة في الانصاف والحكم بالحق.
وطريق عادل، سمى به الجادة، وضده الجور.
ومنه يقال: طريق جائر إذا كان من البنيات.
ثم العدالة نوعان: ظاهرة.
وباطنة.
فالظاهرة
تثبت بالدين والعقل على معنى أن من أصابها فهو عدل ظاهرا، لانهما يحملانه على الاستقامة ويدعوانه إلى ذلك.
والباطنة لا تعرف إلا بالنظر في معاملات المرء، ولا يمكن الوقوف على نهاية ذلك لتفاوت بين الناس فيهما، ولكن كل من كان ممتنعا من ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه فهو على طريق الاستقامة في حدود الدين.
وعلى هذه العدالة نبني حكم رواية الخبر في كونه حجة، لان ما تثبت به العدالة الظاهرة يعارضه هوى النفس الشهوة الذي تصده عن الثبات على طريق الاستقامة، فإن الهوى أصل فيه سابق على إصابة العقل، ولا يزايله بعدما رزق العقل، وبعدما اجتمعا فيه يكون عدلا من وجه دون وجه، فيكون حاله كحال الصبي العاقل والمعتوه الذي يعقل من جملة العقلاء، وقد بينا أن المطلق يقتضي الكامل، فعرفنا أن العدل مطلقا من يترجح أمر دينه على هواه، ويكون ممتنعا بقوة الدين عما يعتقد الحرمة فيه من الشهوات، ولهذا قال في كتاب الشهادات: إن من ارتكب كبيرة فإنه لا يكون عدلا في الشهادة، وفيما دون الكبيرة من المعاصي إن أصر على ارتكاب شئ لم يكن مقبول الشهادة.
وكان ينبغي أن لا يكون مقبول الشهادة أصر أو لم يصر، لانه فاسق بخروجه عن الحد المحدود له شرعا،
والفاسق لا يكون عدلا في الشهادة، إلا أن في القول بهذا سد الباب أصلا فغير المعصوم لا يتحقق منه التحرر عن الزلات أجمع، لان لله تعالى على العباد في كل لحظة أمرا ونهيا يتعذر عليهم القيام بحقهما، ولكن التحرر عن الاصرار بالندم والرجوع عنه غير متعذر، والحرج مدفوع، وليس في التحرز عن ارتكاب الكبائر الموجبة للحد معنى الحرج، فلهذا بنينا حكم العدالة على التحرز المتأتي عما يعتقد الحركة فيه، ولهذا قلنا صاحب الهوى إذا كان ممتنعا عما يعتقد الحرمة فيه فهو مقبول الشهادة وإن كان فاسقا في اعتقاده ضالا، لانه بسبب الغلو في طلب الحجة والتعمق في اتباعه أخطأ الطريق فضل عن سواء السبيل، وشدة اتباع الحجة لا تمكن تهمة الكذب في شهادته وإن أخطأ الطريق، وكذلك الكافر من أهل الشهادة إذا كان عدلا في تعاطيه بأن كان منزجرا عما يعتقد الحرمة فيه، إلا أنه غير مقبول الشهادة على المسلمين
الفصول على شئ معلوم، فإنه يعتبر عبارته في الاختيار بين الابوين لالزام الحكم به، ولا يعتبر عبارته في الحكم بإسلامه إذا سمع منه الاقرار به، ولا شك أن المنفعة في هذا أظهر في الدنيا والآخرة، وتعتبر عبارته في الوصية والتدبير ولا تعتبر في صحة البيع والشراء، ومعنى المنفعة فيه أظهر منه في الوصية، وإنما له حرف واحد يطرده في جميع هذه الفصول، وهو أن كل منفعة يمكن تحصليها له بمباشرة وليه لا تعتبر عبارته في ذلك، وما لا يمكن تحصيله به بمباشرة وليه تعتبر عبارته فيه، فالمنفعة المقصودة من البيع والشراء يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، والمنفعة المطلوبة بالوصية لا يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، وكذلك المنفعة التي له باختيار أحد الابوين لا يمكن تحصيلها له بمباشرة الولي فتعتبر عبارته في ذلك، والمنفعة المطلوبة بالاسلام يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، فإنه يصير مسلما بإسلام أحد الابوين تبعا وإن كان عاقلا فلا تعتبر عبارته في ذلك.
وقرر الشافعي رحمه الله هذا من طريق الفقه فقال: كونه موليا عليه سمة العجز، وكونه وليا دليل القدرة وبينهما مغايرة على سبيل المضادة فلا يجوز اجتماعهما.
قال الشافعي: ولهذا لا أصحح ردته بنفسه، لان حكم الردة في حقه لما كان يثبت بطريق التبعية للابوين يسقط اعتبار مباشرته لذلك بنفسه.
ثم قرر الشافعي رحمه الله هذا فقال: إذا أسلم أحد أبويه يحكم بإسلامه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه، فإذا كان لا يعتبر اعتقاده في استدامة ما كان ثابتا في حقه فلان لا يعتبر اعتقاده في إثبات ما لم يكن ثابتا كان أولى.
ولكنا نقول: هذا شئ نطرده من غير أن نتبين صحته بدليل شرعي، فإنه لا منافاة بين تحصيل منفعة له بواسطة الولي في حالة وبين تحصيل تلك المنفعة له بمباشرته بنفسه في حالة أخرى، ألا ترى أنه يصير مسلما بإسلام أبيه تارة وبإسلام أمه أخرى، وإنما تتحقق هذه (المنافاة) في حالة واحدة، ونحن إذا جعلناه مسلما بإسلام نفسه لا نجعله تبعا في تلك الحالة، وفي الحال الذي يكون تبعا لابويه لا يكون مسلما بإسلام نفسه، وما هذا إلا نظير العبد يكون تبعا لمولاه في السفر والاقامة في حالة واحدة،
ويكون أصلا بنفسه في حالة.
وهو إذا خلى المولى بينه وبين ذلك، وهذا لما في تصحيح عبارته من تحصيل منفعة مقصودة له لا يحصل ذلك بمباشرة الولي بما في توسيع الطرق عليه من المنفعة التي لا تحصل إذا كان جهة الاصابة واحدا عينا، وإذا أسلم أحد أبويه فإنما نجعله مسلما تبعا، لانه في نفسه غير معتقد شيئا ولا واصف لشئ سوى ذلك، حتى لو علم أنه معتقد للكفر بأن وصف ذلك نجعله مرتدا ونجعل حكمه كحكم من أسلم بنفسه ثم ارتد (نعود بالله تعالى) بعد ذلك.
فهذا تمام البيان فيما ينبني على الاهلية القاصرة والكاملة، والله أعلم بالحقيقة والصواب.
هذا شئ نطرده من غير أن نتبين صحته بدليل شرعي، فإنه لا منافاة بين تحصيل منفعة له بواسطة الولي في حالة وبين تحصيل تلك المنفعة له بمباشرته بنفسه في حالة أخرى، ألا ترى أنه يصير مسلما بإسلام أبيه تارة وبإسلام أمه أخرى، وإنما تتحقق هذه (المنافاة) في حالة واحدة، ونحن إذا جعلناه مسلما بإسلام نفسه لا نجعله تبعا في تلك الحالة، وفي الحال الذي يكون تبعا لابويه لا يكون مسلما بإسلام نفسه، وما هذا إلا نظير العبد يكون تبعا لمولاه في السفر والاقامة في حالة واحدة،
ويكون أصلا بنفسه في حالة.
وهو إذا خلى المولى بينه وبين ذلك، وهذا لما في تصحيح عبارته من تحصيل منفعة مقصودة له لا يحصل ذلك بمباشرة الولي بما في توسيع الطرق عليه من المنفعة التي لا تحصل إذا كان جهة الاصابة واحدا عينا، وإذا أسلم أحد أبويه فإنما نجعله مسلما تبعا، لانه في نفسه غير معتقد شيئا ولا واصف لشئ سوى ذلك، حتى لو علم أنه معتقد للكفر بأن وصف ذلك نجعله مرتدا ونجعل حكمه كحكم من أسلم بنفسه ثم ارتد (نعود بالله تعالى) بعد ذلك.
فهذا تمام البيان فيما ينبني على الاهلية القاصرة والكاملة، والله أعلم بالحقيقة والصواب.
وفي نهاية نسخة المكتبة الاحمدية: تم الكتاب ونجز وهذا آخره، ووافق الفراغ من كتابته يوم الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الاول، سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، على يد العبد الفقير إلى ربه، المعترف بذنبه، الراجي عفو ربه: عمر بن أحمد بن محمد الجرهمي الحنفي عفا الله تعالى عنهم أجمعين تكرما، بالمدرسة المقدمية الجولينية الحنفية، بدمشق المحروسة، رحم الله واقفها ونور ضريحه، الحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلامه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق